الكتاب: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة المؤلف: أحمد زكي صفوت الناشر: المكتبة العلمية بيروت-لبنان عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة أحمد زكي صفوت الكتاب: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة المؤلف: أحمد زكي صفوت الناشر: المكتبة العلمية بيروت-لبنان عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... تصدير: الطبعة الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك اللهم على ما أوليتني من نعمك السابغة، وآلائك الضافية، وأصلي وأسلم على رسولك المجتبى، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم. وبعد: فلا مراء أن خطب العرب في عصور ازدهار اللغة مرآة يتجلى فيها ما حباهم الله من ذلاقة اللسان، وعذوبة البيان، ومعرض يتمثل فيه نتاج قرائحهم، وثمرات ألبابهم، في كثير من مناحي القول، وإنها لتعد -بعد القرآن الكريم والحديث الشريف- مثالًا ساميًا للبلاغة العربية، ونموذجًا قويمًا يجتذيه المتأدب في تقويم قلمه المعوج، وشحذ لسانه الكليل، وهي فوق ذلك معين فياض يستقي منه مؤرخ الأدب العربي ما يعن له من آراء، ومادة عزيرة يستنبط منها ما يقفه عليه البحث من فكر. وقد نظرت فوجدت تلك الخطب مبعثرة منثورة في كتب الأدب والتاريخ، لا يؤلف بينها نظام، ولا يضم أشتاتها كتاب، فإذا ما شئت أن تتعرف صورة الخطابة في عصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 من العصور، أو تترجم لخطيب من خطباء العربية، ألقيت الطريق أمامك وعرة شائكة، وأنفقت مديدًا في التنقيب عن خطبه في بطون الأسفار؛ بله ما يعترضك من مشاق في تحرير ألفاظها، وتحقيق عباراتها، لما نالها من عبث النساخ والطباع، من التصحيف والتحريف الذي ينبهم معه معناها، ويستغلق به تفهمها. كل أولئك حدا بي أن أعبد السبيل لشداة الأدب العربي إلى ذلك التراث النفيس، الذي يتوقون إلى الارتواء من مناهله العذبة؛ فلا يكادون يسيغونها، ويصبون إلى اجتناء ثماره الشهية؛ فتحول دونها الأشواك، وفيهم من درس اللغات الإفرنجية، وتزود من أفكار الغربيين وآرائهم بقسط وفير؛ ولكنه تعوزه جزالة اللفظ، ورصانة الأسلوب. استخرت الله؛ فجمعت كل ما أثر عن العرب في عصور العربية الزاهرة، من خطب ووصايا من مظانها -على قدر ما هداني إليه اطلاعي- وضمت إليها ما دار في مجالس الملوك والخلفاء والرؤساء، من حوار ومجاوبة، أو جدال ومناظرة، مما يدخل في باب الخطب، وينتظم في سلكها، وأودعتها ذلك السفر كي يكون لها ديوانًا جامعًا، ومرجعًا عامًّا، يسهل مراجعتها فيه، وسميته: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة. وبوبته أربعة أبواب في ثلاث أجزاء: الجزء الأول: ويحوي الباب الأول في خطب الجاهلية، والباب الثاني في خطب صدر الإسلام. الجزء الثاني: ويحوي الباب الثالث: في خطب العصر الأموي. الجزء الثالث: ويحوي الباب الرابع: في خطب العصر العباسي الأول، وذيل الجمهرة، في خطب متفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وإذا كان الشريف الرضي رحمه الله قد أفرد خطب الإمام علي كرم الله وجهه بمؤلف خاص، وهو: "نهج البلاغة" والإمام أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور، قد جمع في مؤلفه: "بلاغات النساء" طائفة قيمة من كلام بليغات النساء، وطرائف أقوالهن. رأيت أن نقلي ما ورد في هذين السفرين الجليلين بحذافيره، ليس على الحقيقة إلا ضمهما إلى كتابي، وتضخيمة بهما؛ ولذلك اجتزأت بإيراد جمله صالحة مماجاء فيهما؛ مما استدعاه المقام. ولم أقتصر على إيراد الخطبة بإحدى الروايات الواردة فيها؛ بل عنيت بالتوفيق بين الروايات المختلفة، وإتمام بعضها من بعض، لما في ذلك من زيادة الفائدة للقارئ؛ فإذا ما رأيت الخطبة مروية بصورتين يتبين فيهما الاختلاف، أوردت الصورتين جميعًا. وقد ضبطت ألفاظها ضبطًا وافيًا، وعقبت كل خطبة بذكر مصادرها التي نقلتها عنها، كما ذيلتها بشرح يفسر غريب ألفاظها، ويحل مستغلق كلماتها، وأوردت فيه كل ما تمس إليه الحاجة في فهمها، من نبذ تاريخية توضح المقامات التي ألقيت فيها، إلى ما هناك. ولست أستطيع أن أصور للقارئ مقدار ما عانيت من المتاعب في رد كثير من الألفاظ إلى أصولها الصحيحة، بعد تقليبها على كل وجه ممكن، حتى تخلص من شوائب التشويه الشائن. الفاشي في كتب الأدب والتاريخ. وإني أقدم كتابي هذا إلى أبناء العربية الشريفة، وفاء بما لها في عنقي من حق واجب، وصنيعة مشكورة، والله أسال أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به النفع المرجو منه، وأن يمدني بروح منه، ويظلني بظلال الصحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 والعافية، حتى أصدر ما اعتزمت إصداره بعد تمام هذا الكتاب إن شاء الله، وهو كتاب: "جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة". كي تكمل حلقة النثر العربي في تلك العصور، إنه المستعان، عليه توكلت وإليه أنيب، أحمد زكي صفوت حرر بالقاهرة في ربيع الآخر سنة 1352هـ. يوليو سنة 1933م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فهرس: مآخذ الخطب في هذا الجزء: الأمالي لأبي علي القالي: الجزء الأول - الثاني - ذيل الأمالي الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني: "الرابع - السابع - الثامن - الحادي عشر - الرابع عشر - الخامس عشر صبح الأعشى لأبي العباس القلقشندي: الجزء الأول - الثاني نهاية الأرب لشهاب الدين النويري: "الثالث - الخامس - السابع عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري: المجلد الثاني الكامل لأبي العباس المبرد: الجزء الأول - الثاني العقد الفريد لابن عبد ربه: الجزء الأول - الثاني - الثالث زهر الآداب لأبي إسحق الحصري: الجزء الأول البيان والتبيين للجاحظ: الجزء الأول - الثاني - الثالث نهج البلاغة للشريف الرضي: الجزء الأول شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: المجلد الأول - الثاني - الثالث - الرابع أمالي السيد المرتضى: الجزء الأول - الثاني مجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني: الحزء الأول - الثاني جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري: الحزء الأول - الثاني خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي: الجزء الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر بن جرير الطبري: الجزء الثاني - الثالث - الرابع - الخامس - السادس تاريخ الكامل لابن الأثير: الجزي الأول - الثاني - الثالث مروج الذهب للمسعودي: الجزء الأول - الثاني الإمامة والسياسة لابن قتيبة: الجزي الأول المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء: الجزء الأول معجم البلدان لياقوت الحموى: الجزء الثامن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام: الأول - الثاني السيرة الحلبية لابن برهان الدين الحلبي: الجزء الأول إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني: بلاغات النساء لان أبي طاهر طيفور: سرح العيون، شرح رسالة ابن زيدون: لابن نباتة المصري: أنباء نجباه الأبناء لابن ظفر المكلي: المحاسن والأضداد للجاحظ: الشعر والشعراء لابن قتيبة: شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون: بلوغ الأرب للسيد محمود شكري: الجزء الأول - الثالث الألوسي: مفتاح الأفكار للشيخ أحمد مفتاح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الباب الأول: الخطب والوصايا في العصر الجاهلي إصلاح مرثد الخير بين سبيع بن الحارث، وبين ميثم بن مثوب مدخل ... الباب الأول: الخطب والوصايا في العصر الجاهلي. الخطب: إصلاح مرثد الخير: بين سبيع بن الحارث، وبين ميثم بن مثوب. كان مرثد الخير بن ينكف قيلًا، وكان حدبًا على عشيرته؛ محبًا لصلاحهم، وكان سبيع بن الحرث1. وميثم بن مثوب بن ذي رعين تنازعا الشرف، حتى تشاحنا، وخيف أن يقع بين حييهما شر، فيتفانى جذماهما2؛ فبعث إليها مرثد؛ فأحضرهما ليصلح بينهما، فقال لهما:   1 أخو علس، وعلس هو ذو جدن. 2 الجذم: الأصل وكذا الجذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 1- مقال مرثد الخير : إن التخبط1 وامتطاء الهجاج2، واستحقاب3 اللجاج، سيقفكما على شفا هوة، في توردها4 بوار الأصيلة5، وانقطاع الوسيلة؛ فتلافيا أمركما قبل انتكاث6 العهد، وانحلال العقد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة7، وأنتما في فسحة رافهة8، وقدم واطدة9، والمودة مثرية10، والبقيا معرضة11؛ فقد عرفتم أنباء من كان قبلكم من العرب: ممن عصى النصيح، وخالف الرشيد، وأصغى إلى التقاطع، ورأيتم ما آلت إليه عواقب سوء سعيهم، وكيف كان صيور12 أمورهم؛ فتلافوا القرحة13 قبل تفاقم الثاي14 واستفحال15 الداء، وإعواز الدواء؛ فإنه إذا سفكت الدماء، استحكمت الشحناء، وإذا استحكمت الشحناء، تقضبت16 عرى الإبقاء، وشمل17 البلاء.   1 التخبط: ركوب الرجل رأسه في الشر خاصة، أو السير على غير هدى. 2 ركب فلان هجاج "غير مصروف"، ووهاج مبنيًّا على الكسر: أي ركب رأسه. 3 الاستحقاق: استفعال من الحقيبة أو من الحقاب؛ فأما الحقيبة، فما يجعل الرجل فيه متاعه من خرج أو غيره، والحقاب: بريم تشد به المرأة وسطها "والبريم خيط فيه لونان"، وهذا مثل: إما أن يكون أراد أنه احتزم باللجاج أو جعله في وعائه. 4 التود: الإشراف على الماء وغيره، دخله أو لم يدخل. 5 الأصل. 6 انتقاض: "والأنكاث جمع نكث، وهو ما نقض من الحبال ليعاد ثانية". 7 القرابة. 8 ناعمة من الرفاهية. 9 ثابتة. 10 متصلة. 11 ممكنة أمكنت من عرضها، أي من جنبها وناحيتها، يقال قد أعرض لك الظى فارمه، أي أمكنك من عرضه. 12 عاقبة. 13 الجرح. 14 السعي والمثاى: الإفساد والجراح والقتل ونحوه. 15 اشتداده، وهو أن يصير مثل الفحل. 16 تقطعت. 17 من بابي فرح ونصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 مقال سبيع بن الحارث ... 1- مقال سبيع بن الحرث. فقال سبيع: أيها الملك! إن عداوة بني العلات1 لا تبريها الأساة2، ولا تشفيها الرقاة، ولا تستقل3 بها الكفاء، والحسد الكامن، هو الداء الباطن، وقد علم بنو أبينا هؤلاء، أنا لهم ردء4 إذا رهبوا، وغيث إذا أجدبوا، وعضد إذا حاربوا، ومفزع إذا نكبوا، وأنا وإياهم كما قال الأول: إذا ما علوا قالوا أبونا وأمنا ... وليس لهم عالين أم ولا أب   1 العلة: الضرة، وبنو العلات بنو أمهات شتى من رجل واحد، "والأخياف: من أمهم واحدة والآباء شتى". 2 جمع آس، وهو الطبيب. 3 تنهض بها وتحملها. 4 عون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 3- مقال ميثم بن مثوب : فقال ميثم: أيها الملك! إن من نفس على ابن أبيه الزعامة، وجد به1 في المقامة2، واستكثر له قليل الكرامة، كان قرفًا3 بالملامة، ومؤنبًا على ترك الاستقامة، وإنا والله نعتد لهم بيدٍ إلا وقد نالهم منا كفاؤها، ولا نذكر لهم حسنة إلا وقد تطلع منا إليهم جزاؤها، ولا يتفيأ لهم علينا ظل نعمةٍ؛ إلا وقد قوبلوا بشرواها4، ونحن بنو فحلٍ مقرم5، لم يقعد بنا الأمهات ولا بهم، ولم تنزعنا أعراق السوء ولا إياهم؛ فعلام مط6 الخدود، وخزر العيون7   1 عابه. 2 المجلس. 3 خليقًا. 4 مثلها. 5 القرم: السيد، وأقرمه: جعله قرمًا. 6 مد. 7 الخزر أن ينظر الرجل إلى أحد عرضيه. يقال إنه ليتخازرلي: إذا نظر إليه بمؤخر عينه ولم يستقبله بنظرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والجخيف1 والتصعر، والبأو والتكبر؟ ألكثرة عدد، أم لفضل جلدٍ، أم لطول معتقد2؟ وإنا وإيهاهم لكما قال الأول: لاه ابن عمك، لا أفضلت في حسب ... عني، ولا أنت دياني فتخزوني3 ومقاطع الأمور ثلاثة: حرب مبيرة4، أو سلم قريرة، أو مداجاة وغفيرة5".   1 التكبر، وكذا البأو. 2 اعتقد ضيعة ومالًا: اقتناهما. 3 لاه: أراد لله؛ فخذف اللام الخافضة اكتفاء بالتي تليها، والديان القائم بالأمر، وتخزوني: تسوسني. 4 مهلكة. 5 مساترة وغفران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 4- مقال مرثد الخير: فقال الملك: لا تنشطوا1 عقل الشوارد، ولا تلقحوا العون القواعد2، ولا تؤرثوا3 نيران الأحقاد؛ ففيها المتلفة المستأصلة، والجائحة4 والأليلة5، وعفوا بالحلم، أبلاد6 الكم، وأنيبوا إلى السبيل الأرشد، والمنهج الأقصد؛ فإن الحرب تقبل بزبرج7 الغرور، وتدبر بالويل والثبور، ثم قال الملك: ألا هل أتى الأقوام بذلي نصيحة ... حبوت بها منى سبيعًا وميثمًا وقلت اعلما أن التدابير غادرت ... عواقبه للذل والقل جرهما فلا تقدحا زند العقوق وأبقيا ... على العزة القعساء8 أن تتهدما ولا تجنيا حربًا تجر عليكما ... عواقبها يومًا من الشر أشأما   1 نشط العقد: عقدها، وأنشطها حلها، والعقل ككتب جمع عقال وهو الحبل. 2 هو مثل، وأصله في الإبل، يقال: لقحت الناقة إذا حملت، وألقحها الفحل، ثم ضرب ذلك مثلًا للحرب إذا ابتدأت، والعون جمع عوان، وهي الثيب. يقال للحرب عوان إذا كان قد قوتل فيها مرة بعد مرة 3 تذكوا. 4 الاستئصال. 5 الثكل. 6 الأبلاد: الآثار، جمع بلد "كالندوب جمع ندب". 7 السحاب الذي تشفره الريح والزينة. 8 الثابتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فإن جناة الحرب للحين عرضة ... تفوقهم منها الذعاف المقشما1 حذار؛ فلا تستنبثوها؛ فإنها ... تغادر الأنف الأشم مكشما2 فقالا: لا، أيها الملك. بل نقبل نصحك، ونطيع أمرك، ونطفئ النائرة3، ونحل الضغائن، ونثوب إلى السلم.   1 تفوقهم: تسقيهم الفواق بالضم "وهو مابين الحلبتين" والذعاف: السم، أو سم ساعة "وسم ذعاف" والمقشم: المخلوط. 2 هو مثل: أي لا تخرجوا نبيثتها، وهو ما يخرج من البئر إذا حفرت: يريد لا تثيروا الحرب، ومكثما: مقطوعًا. 3 العداوة والشحناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 1- طريف بن العاصي والحارث بن ذبيان يتفاخران عند بعض مقاول حمير: اجتمع طريف بن العاصى الدوسى، والحارث بن ذبيان -وهو أحد المعمرين- عند بعض مقاول1 حمير، فتفاخرا. فقال الملك للحارث: يا حارث! ألا تخبرني بالسبب الذي أخرجكم عن قومكم حتى لحقتم بالنمر بن عثمان؟ فقال: أخبرك أيها الملك. خرج هجينان2 منا يرعيان غنمًا لهما؛ فتشاولا3 بسيفيهما؛ فأصاب صاحبهم عقب صاحبنا، فعاث4 فيه السيف، فنزف5، فمات، فسألونا أخذ دية صاحبنا دية الهجين، وهي نصف دية الصريح6، فأبى قومي، وكان لنا رباء7 عليهم؛ فأبينا إلا دية الصريح، وأبوا إلا دية الهجين؛ فكان اسم هجيننا ذهين بن زبراء، واسم صاحبهم عنقش بن مهيرة، وهي سوداء أيضًا8، فتفاقم الأمر بين الحيين، فقال رجل منا:   1 جمع مقول، والمقول والقيل هو الذي دون الملك الأعظم. 2 الهجين: عربي ولد من أمة، أو من أبوه خير من أمه "والمقرف: الذي أمه عربية، وأبوه ليس بعربي". 3 تضاربا. 4 أفسد. 5 نزف الرجل إذا سال دمه حتى يضعف. 6 الصريح: الخالص النسب. 7 زيادة. 8 كذا في الأصل، ولم يتقدم لكم الحكم على شيء بالسواد؛ فلعل الأصل: "ذهين بن زبراء وهي سوداء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 حلومكم يا قوم لا تعزبنها1 ... ولا تقطعوا أرحامكم بالتدابر وأدوا إلى الأقوام عقل ابن عمهم ... ولا ترهقوهم سبئة في العشائر2 فإن ابن زيراء الذي فاد لم يكن ... بدون خليف أو أسيد بن جابر3 فإن لم تعاطوا الحق؛ فالسيف بيننا ... وبينكم، والسيف أجور جائر فتظافروا4 علينا حسدًا، فأجمع ذوو الحجى منا أن نلحق بأمنع بطن من الأزد؛ فلحقنا بالنمر بن عثمان، فوالله مافت5 في أعضادنا، فأبنا عنهم، ولقد أثارنا6 صاحبنا وهم راغمون. فوئب طريف بن العاصى من مجلسه، فجلس بإزاء الحرث، ثم قال: تالله ما سمعت كاليوم قولًا أبعد من صواب، ولا أقرب من خطل7، ولا أجلب لقدع8 من قول هذا، والله أيها الملك ما قتلوا بهجينهم بذجًا9، ولا رقوا به درجًا، ولا أنطوا10 به عقلًا، ولا أجتفئوا11 به خشلًا12، ولقد أخرجهم الخوف عن أصلهم، وأجلاهم عن محلهم، حتى استلانوا خشونة الإزعاج، ولجئوا إلى أضيق الولاج13: قلا وذلا. فقال الحارث: أتسمع يا طريف، إني والله ما إخالك كافًا غرب14 لسانك، ولا منهنهًا15 شرة نزوانك، حتى أسطو بك سطوة تكف طماحك، وترد   1 لا تبعدنها - وأعزب: بعد وأبعد. 2 العقل: الدية، يقال: عقلت فلانًا إذا غرمت دينه، وعلقت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته. وأرهقته عسرًا: كلفته ذلك. 3 فاد يفود: مات "وفاد يفيد: تبختر". 4 تظاهروا. 5 أوهن وأضعف. 6 اثأرت: أدركت منه ثأرى "وأصله اثتأر". 7 خطأ. 8 الكلام القبيح، أفذع له إذا أسمعه كلامًا قبيحًا. 9 البذج: الخروف، فارسي معرب. 10 لغة في أعطوا. 11 صرعوا. 12 الخشل: شجرة المقل "الدوم" وهذه أمثال كلها، يريد أنهم لم ينالوا ثأره. 13 الولاج الباب، وجمعه الولج، وهي أيضًا النواحي والأزقة. 14 غرب الشيء: حده. 15 نهنهه عن الأمر فتنهنه: كفه وزجره فكف، والشرة: الحدة، والنزوان: الوثوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 جماحك، وتكبت تترعك1، وتقمع تسرعك. فقال طريف: مهلًا يا حارث، لا تعرض لطحمة2 استناني، وذرب3 سناني، وغرب شبابي، وميسم4 سبابي، فتكون كالأظل5 الموطوء، والعجب الموجوء6. فقال الحارث: إياي تخاطب مثل هذا القول؟ فو الله وطئتك لأسختك7، ولو وهصتك8 لأوهطتك9، ولو نفحتك10 لأفدتك. فقال طريف متمثلًا: وإن كلام المرء في غير كهه ... لكالنبل تهوى ليس فيها نصالها أما والأصنام المحجوبة، والأنصاب11 المنصوبة، لئن لم تربع على ظلمك12، وتقف عند قدرك، لأدعن حزنك سهلًا، وغمرك ضحلًا13، وصفاك14 وحلًا. فقال الحارث: أما والله لو رمت ذلك لمرغت بالحضيض15، وأغصصت بالجريض16، وضاقت عليك الرحاب، وتقطعت بك الأسباب، ولألفيت لقى17   1 التسرع إلى الشر. 2 طحمة السيل دفعته، واستن الفرس قص وعدا لمرحه ونشاطه شوطًا أو شوطين، والاستنان: النشاط، استن الفرس: جرى في نشاطه على سننه في جهة واحدة. 3 الذرب: الحدة، وكذا الغرب. 4 المكواة. 5 الأظل: أسفل خف البعير. 6 العجب: أصل الذنب والموجوء: المدقوق "من وجأ التيس: دق عروق خصييه بين حجرين ولم يخرجهما شبيهًا بالخصاء". 7 أساخه: جعله يسيخ "أو يسوخ في الأرض" أي يغوص. 8 كسرتك. 9 صرعتك صرعة لا تقوم منها. 10 نفحه بسيفه: تناوله. 11 الأنصاب: حجارة كانت حوله الكعبة تنصب فيهل عليه ويذبح لغير الله تعالى، وقيل الأنصاب حجارة نصبت وعبدت من دون الله جمع نصب، وقيل النصب جمع نصاب. 12 ربع يربع: كف، وظلع ظلمًا غمز في مشيه، وأربع على ظلعك أي إنك ضعيف فانته عما لا تطيقه وكف. 13 الغمر: الماء الكثير، والضحل: الماء القليل "وكذا الضحضاح". 14 الصفا: جمع صفاة وهي الحجر الصلد الضخم أو الصفا بمعنى الصفو. 15 أسفل الجبل. 16 الحريض. الغصة من الحرض، وهو الريق يغص به يقال جرض بريقه يجرض ابتلعه بالجهد على هم وحزن، وفي المثل: حال الجريض دون القريض، يضرب للأمر يقدر عليه أخيرًا حين لاينفع. قاله جوشن الكلابي حين منعه أبوه من الشعر فرض حزنًا حتى أشرف على الهلاك، فرق له وقال انطق بما أحببت؛ فقال ذلك. 17 اللقى: الملقى المطروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 تهاداه الرواس1. بالسهب الطامس2. فقال طريف: دون ما ناجتك به نفسك مقارعة أبطال، وحياض أهوال، وحفزة3 إعجال، يمنع معه تطامن الإمهال. فقال الملك: إيهًا4 عنكما! فما رأيت كاليوم مقال رجلين لم يقصبا5، ولم يثلبا6،ولم يلصوا7، ولم يقفوا8. "الأمالي 1: 73".   1 الرواس: الرياح التي ترمس أي تدفن. 2 المستوى من الأرض، والطامس: الدارس "كالطاسم". 3 الحفز: الدفع. 4 إيها: كلمة زجر بمعنى حسبك "وإيه: أمر. كلمة استزادة واستنطاق". 5 لم يشتما. قصبه إذا وقع فيه وأصله القطع. 6 ثلبه: عابه. 7 لصاه: قذفه. 8 قفاه: قذفه بأمر عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وفود العرب يعزون سلامة ذا فائش بابن له مات مدخل ... وفود العرب: يعزون سلامة ذا فائش بابن له مات: نشأ لسلامة ذي فائش ابن كأكمل أبناء المقاول، وكان مسرورًا به يرشحه لموضعه؛ فركب ذات يوم فرسًا صعبًا؛ فكبا به فوقصه1؛ فجزع عليه أبوه جزعًا شديدًا، وامتنع من الطعام واحتجب عن الناس، واجتمعت وفود العرب ببابه ليعزوه؛ فلامه نصحاؤه في إفراط جزعه؛ فخرج إلى الناس فقام خطباؤهم يؤسونه2، وكان في القوم الملبب ابن عوف، وجعادة بن أفلح فقام الملبب فقال:   1 وقص عنقه: كسرها. 2 أساه تأسيه: عزاء، وأصله: أن يقول له لك أسوة بفلان وفلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 1- خطبة الملبب بن عوف . أيها الملك، إن الدنيا تجود التسلب، وتعطى لتأخذن وتجمع لتشتت، وتحلى لتمر، وتزرع الأحزان في القلوب، بما تفجأ به من استرداد الموهوب، وكل مصيبة تخطأتك جلل1، ما لم تدن الأجل، وتقطع الأمل، وإن حادث ألم بك؛ فاستبد2 بأقلك، وصفح عن أكثرك، لمن أجل النعم عليك، وقد تناهت إليك أنباء من رزئ فصبر، وأصيب فاغتفر؛ إذ كان شوًى3 فيما يرتقب ويحذر؛ فاستشعر اليأس مما فات، إذ كان ارتجاعه ممتنعًا، ومرامه مستصعبًا؛ فلشيء ما ضربت الأسى، وفزع أولو الألباب إلى حسن العزاء.   1 الجلل: العظيم والحقير وهو هنا بالمعنى الثاني. 2 البدة بالضم: النصيب: النصيب، واستبد به: جعله نصيبه. 3 الشوى: الهين اليسير ورذال المال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 7- خطبة جعادة بن أفلح : وقام جعادة فقال: "أيها الملك، لا تشعر قلبك الجزع على ما فات؛ فيغفل دهنك عن الاستعداد لما يأتي، وناضل عوارض الحزن بالأنفة عن مضاهاة1 أفعال أهل وهي2 العقول؛ فإن العزاء لحزماء الرجال، والجزع لربات الحجال3، ولو كان الجزع يرد فائتًا، أو يحيي تالفًا، لكان فعلًا دنيئًا، فكيف وهو مجانب لأخلاق ذوي الألباب، فارغب بنفسك أيها الملك عما يتهافت4 فيه الأرذلون، وصن قدرك عما يركبه المخسوسون، وكن على ثقة أن طمعك فيما استبدت به الأيام، صلة كأحلام النيام". "الأمالي 2: 101".   1 مشاكلة. 2 ضعف. 3 والحجال جمع حجلة "بفتحتين"، وهي القبة وموضع يزين بالثياب والستور للعروس. 4 التهافت: التتابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 8- تساؤل عامر بن الظرب وحممة بن رافع: عند أحد ملوك حمير: اجتمع عامر بن الظرب العدواني، وحممة بن رافع الدوسي عند ملك من ملوك حمير؛ فقال: تساءلًا حتى أسمع ما تقولان. قال عامر لحممة: أين تحب أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرثية1 العديم، وذي الخلة2 الكريم، والمعسر الغريم، والمستضعف الهضيم. قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصوال، والعيي القوال. قال: فمن أحق الناس بالمنع؟ قال: الحريص الكاند3، والمستميد4 الحاسد، والملحف الواجد. قال: فمن أجدر الناس بالصنيعة؟ قال: من إذا أعطى شكر، وإذا   1 الرثية: وجع المفاصل واليدين والرجلين "الروماتزم". 2 الخلة الخاجة. 3 الكاند: الذي يكفر النعمة، والكنود الكفور: "إن الإنسان لربه لكنود". 4 المستميد والمستمير: المستعطى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 منع عذر، وإذا موطل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق سمح، قال: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع1، ظاهره جشع2، وباطنه طبع3. قال: فمن أحلم الناس؟ قال: من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظفر. قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من أخذ رقاب الأمور بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب دبر أذنيه4، قال: فمن أخرق الناس؟ قال: من ركب الخطار5، واعتسف6 العثار، وأسرع في البدار، قبل الاقتدار. قال: فمن أجود الناس؟ قال: من بذل المجهود، ولم يأس على المعهود. قال: فمن أبلغ الناس؟ قال: فمن جلى المعنى المزيز7، باللفظ الوجيز، وطبق8 المفصل. قبل التحزيز. قال: فمن أنعم الناس عيشًا؟ قال: من تحلى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف إلى ما لا يخاف. قال: فمن أشقى الناس؟. قال: من حسد على النعم، وتسخط على القسم، واستشعر الندم، على فوت مالم يحتم. قال: من أغنى الناس؟ قال: من استشعر اليأس، وأبدى التجمل للناس، واستكثر قليل النعم، ولم يسخط على القسم. قال: فمن أحكم الناس؟ قال: من صمت فادكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر. قال: من أجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغمًا، والتجاوز مغرمًا" "الأمالي 2:280".   1 تقبض. تكنع جلده إذا تقبض أي ممسك بخيل. 2 الجشع: أسوأ الحرص. 3 الدنس. 4 جعلت الشيء دبر أذني: إذا لم ألتفت إليه. 5 جمع خطر، وهو الإشراف على الهلاك. 6 الاعتساف: ركوب الطريق على غير هداية وركوب الأمر على غير معرفة. 7 الصعب. 8 التطبيق: أن يصيب السيف المفاصل فيفصلها لا يجاوزها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 9- خطبة عامر بن الظرب العدواني وقد خطبت ابنته. خطب صعصة بن معاوية إلى عامر بن الظرب العداوني ابنته عمرة فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 "يا صعصعة إنك جئت تشتري مني كبدي، وأرحم ولدي عندي، منعتك، أو بعتك، النكاح خير من الأيمة1، والحسيب كفء الحسيب والزوج الصالح أب بعد أب، وقد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، أفر من السر إلى العلانية، أنصح ابنا، وأودع ضعيفًا قويًّا، ثم أقبل على قومه فقال: "يا معشر عدوان: أخرجت من بين أظهركم كريمتكم، على غير رغبة عنكم، ولكن من خط له شيء جاءه، رب زارع لنفسه حاصد سواء، ولولا قسم الحظوظ على قدر الجدود، ما أدرك الآخر من الأول شيئًا يعيش به؛ ولكن الذي أرسل الحيا2، أنبت المرعى، ثم قسمه أكلًا3 لكل فم بقلة، ومن الماء جرعة، إنكم ترون ولا تعلمون، لن يرى ما أصف لكم إلا كل ذي قلب واع4، ولك شيء راعٍ، ولك رزق ساع، إما أكيس وإما أحمق، وما رأيت شيئًا إلا سمعت حسه، ووجدت مسه، وما رأيت موضعًا إلا مصنوعًا، وما رأيت جائيًا إلى داعيًا، ولا غانمًا إلا خائبًا، ولا نعمة إلا ومعها بؤس، ولو كان يميت الناس الداء؛ لأحياهم الدواء؛ فهل لكم في العلم العليم؟ قيل ما هو؟ قد قلت فأصبت، وأخبرت فصدقت، فقال: أمورًا شتى، وشيئًا شيًّا، حتى يرجع الميت حيًا، ويعود لا شيء شيًا؛ ولذلك خلقت الأرض والسموات، فتولوا عنه راجعين، فقال: ويلمها5 نصيحة لو كان من يقبلها". "مجمع الأمثال 1: 211، البيان والتبيين 2: 37، والعقد الفريد 3: 223".   1 الأيامى: الذي لا أزواج لهم من الرجال والنساء الواحد مهنما أيم كجيد، سواء كان تزوج من قبل أم لم يتزوج، وامرأة أيم بكرًا كانت أو ثيبًا، وقد آمنت تئيم أيمًا وأيمة وأيومًا، وفي الحديث: "أنه كان يتعوذ من الأيمة". 2 الحيا: المطر. 3 الأكل: ما يؤكل والرزق. 4 حافظ. 5 يقال للمستجاد ويلمه. أي ويل لأمه، لأب لك يريدون لا أب لك فركبوه وجعلوه كالشيء الواحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 10- حديث بعض مقاول حمير مع ابنيه : وما دار بينه وبينهما من المساءلة حين كبرت سنه: كان لرجل من مقاول حمير ابنان، يقال لأحدهما عمرو، وللآخر ربيعة، وكانا قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 برعا في الأدب والعلم؛ فلما بلغ الشيخ أقصى عمره، وأشقى1 على الفناء، دعاهما ليبلو2 عقولهما، ويعرف مبلغ علمهما؛ فلما حضرا: قال لعمرو -وكان الأكبر- أخبرني عن أحب الرجال إليك، وأكرمهم عليك. قال: "السيد الجواد، والقليل الأنداد، والماجد الأجداد، الراسي الأوتاد، الرفيع العماد، العظيم الرماد، الكثير الحساد، الباسل الذواد3، الصادر الوراد" قال: ما تقول ياربيعة؟ قال: ما أحسن ما وصف! وغيره أحب إلي منه، قال: ومن يكون بعد ذا؟ قال: "السيد الكريم، المانع للحريم، المفضال الحليم، القمقام4 الزعيم، الذي إن هم فعل، وإن سئل بذل". قال: أخبرني يا عمرو بأبغض الرجال إليك؟ قال: البرم5 اللئيم، المستخذي6 للخصيم، المبطان7 النهيم، العي البكيم، الذي إن سئل منع، وإن هدد خضع، وإن طلب جشع8. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إلي منه. قال: ومن هو؟ قال: النئوم الكذوب، الفاحش الغضوب، والرغيب عند الطعام، الجبان عند الصدام. قال: أخبرني يا عمرو: أي النساء أحب إليك؟ قال: الهركولة9 اللفاء10، الممكورة11 الجيداء، التي يشفي السقيم كلامها، ويبري الوصب12 إلمامها، التي إن أحسنت إليها شكرت، وإن أسأت إليها صبرت، وإن استعتبتها13 أعتبت، الفاترة الطرف، الطفلة14 الكف، العميمة الردف. قال: ما تقول ياربيعة؟ قال: نعت فأحسن! وغيرها أحب إلي منها. قال: ومن هي؟ قال: "الفتانة العينين،   1 أشفى عليه: أشرف. 2 ليختبر. 3 من ذاد عنه: إذا دفع. 4 السيد "ويضم". 5 البرم: من لا يدخل مع القوم في الميسر. 6 الخاضع المستكين، والخصيم: المخاصم. 7 من همه بطنه، أو الرغيب لا ينتهي من الأكل. 8 الجشع: أسوأ الحرص. 9 المرتجة الأرداف. 10 الملتفة الجسم. 11 المطوية الخلق من النساء والمستديرة الساقين، والجيداء: من الجيد بالتحريك، وهو طول الرقبة، أو دقتها مع طول. 12 المريض. 13 استعتبه: طلب إليه العتبى "الرضا" وأعتبه أعطاه العتبى. 14 الناعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الأسيلة1 الخدين، الكاعب2 الثديين، الرداح3 الوركين، الشاكرة للقليل، المساعدة للحليل4، الرخيمة5 الكلام، الجماء6 العظام، الكريمة الأخوال والأعمام، العذبة اللثام7. قال: فأي النساء إليك أبغض يا عمرو؟ قال: القتاته8 الكذوب، الظاهرة العيوب، الطوافة الهبوب9، العابسة القطوب، السبابة الوثوب، التي إن ائتمنها زوجها خانته، وإن لان لها أهانته، وإن أرضاها أغضبته، وإن أطاعها عصته، قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس والله المرأة ذكر! وغيرها أبغض إلي منها. قال: وأيتهن التي هي أبغض إليك من هذه؟ قال: السليطة10 اللسان، والمؤذية للجيران، والناطقة بالبهتان، التي وجهها عابس، وزوجها من خيرها آيس، التي إن عاتبها زوجها وترته11، وإن ناطقها انتهرته. قال ربيعة: وغيرها أبغض إلي منها. قال: ومن هي؟ قال: التي شقي صاحبها، وخزي خاطبها، وافتضح أقاربها. قال: ومن صاحبها؟ قال: مثلها في خصالها كلها، لا تصلح إلا له، ولا يصلح إلا لها. قال: فصفه لي. قال: الكفور غير الشكور، اللئيم الفجور، العبوس الكالح12، الحرون الجامح، الراضي بالهوان، المختال المنان، الضعيف الجنان، الجعد13 البنان، الفثول غير الملول غير الوصول، الذي لا يرع14 عن المحارم، ولا يرتدع عن المظالم. قال: أخبرني يا عمرو: أي الخيل أحب إليك عند الشدائد، إذا التقى الأقران للتجالد؟ قال: الجواد الأنيق، الحصان العتيق، الكفيت15 العريق، الشديد الوثيق، الذي يفوت إذا هرب، ويلحق إذا طلب. قال: نعم الفرس والله نعت! قال: فما تقول   1 الأسيل من الخدود: الطويل المسترسل. 2 كعب الثدي: نهد. 3 الثقيلة العجيزة الضخمة الوركين. 4 الزوج. 5 اللينة الكلام. 6 التي ليس لعظامها حجم. 7 المراد موضوع اللثام؛ فهو على حذف مضاف. 8 النمامة. 9 الكثيرة الانتباه، والهبوب: الريح المثيرة للغبار. 10 الطويلة. 11 أحفظته وأغضبته. 12 كلج: تكشر في عبوس. 13 كناية عن البخل. 14 ورع: كورث كف. 15 السريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 يا ربيعة؟ قال: غيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الحصان الجواد، السلس القياد، الشهم الفؤاد، الصبور إذا سرى، السابق إذا جرى. قال: فأي الخيل أبغض إليك يا عمرو؟ قال: الجموح الطموح، النكول1 الأنوح2، الصئول3، الضعيف، الملول العنيف، الذي إن جاريته سبقته، وإن طلبته أدركته. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟ قال: البطيء الثقيل، الحرون الكليل، الذي إن ضربته قمص، وإن دنوت منه شمس4، يدركه الطالب، ويفوته الهارب، ويقطع بالصاحب. قال ربيعة: وغيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الجموح الخبوط5، الركوض الخروط6، الشموس الضروط7، القطوف8 في الصعود والهبوط، الذي لا يسلم الصاحب، ولا ينجو من الطالب. قال: أخبرني يا عمرو أي العيش ألذ؟ قال: عيش في كرامة، ونعيم وسلامة، واغتباق9 مدامة. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم العيش والله وصف! وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: عيش في أمن ونعيم، وعز وغنى عميم، في ظل نجاح، وسلامة مساء وصباح، وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: غنى دائم وعيش سالم وظل ناعم. قال: فما أحب السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الصقيل الحسام، الباتر المجذام10، الماضي السطام11 المرهف12 الصمصام13، الذي إن هززته لم يكب14، وإذا ضربت به لم ينب15. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم السيف نعت! وغيره أحب   1 النكول: الذي ينكل عن قرنه. 2 الكثير الزحير. 3 كثير الصئيل: وصيئل الفرس: صهيله. 4 شمس الفرس، منع ظهره: فهو شامس وشموس. 5 الكثير الخبط: وهو السير على غير هدى. 6 الخروط: الدابة الجموح تجتذب وسنها من يد ممسكها ثم تمضي. 7 الكثير الضراط. 8 قطفت الدابة: صاق مشيها فهي قطوف. 9 اغتبق: شرب الغبوق، وهو ما يشرب بالعشي، والمدامة: الخمر كالمدام. 10 من الجذم: وهو القطع. 11 الحد. 12 رهف السيف، وأرهفه: رقفه. 13 السيف لا ينثني كالصمصامة. 14 لم يعثر. 15 لم يكل عن الضريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 إلي. قال: وما هو؟ قال: الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع، الذي إن هززته هتك1، وإذا ضربت به بتك2. قال: فما أبغض السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الفطار3 الكهام4، الذي إن ضرب به لم يقطع، وإن ذبح به لم ينخع5. قال: فما تقول ياربيعة؟ قال: بئس السيف والله ذكر! وغيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الطبع6 الددان7، والمعضد8 المهان. قال: فأخبرني يا عمرو: أي الرماح أحب إليك عند المراس، إذا اعتكر الباس، واشتجر الدعاس9؟ قال: أحبها إلي المارن10 المثقف، المقوم المخطف11، الذي إذا هززته لم ينعطف وإذا طعنت به لم ينقصف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: "نعم الرمح نعت! وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الذابل12 العسال، المقوم النسال، الماضى إذا هززته، النافذ إذا همزته. قال: فأخبرني يا عمرو عن أبغض الرماح إليك. قال: الأعصل13 عند الطعان، المثلم السنان، الذي إذا هززته انعطف، وإذا طعنت به انقصف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس الرمح ذكر! وغيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الضعيف المهز14؛ اليابس الكز15 الذي إذا أكرهته انحطم، وإذا طعنت به انقصم قال: انصرفا، الآن طاب لي الموت". "الأمالي 2: 152".   1 مزق. 2 قطع. 3 الذي لا يقطع، وهو مع ذلك حديث الطبع. 4 سيف كهام: كليل. 5 لم يبلغ النخاع. 6 من الطبع: أي الصدأ. 7 الذي لا يقطع. 8 القصير الذي يمتهن في قطع الشجر غيرها. 9 الطعان: دعسه إذا طعنه. 10 المارن: ما لان من الرمح، والمثقف: المسوى بالثقاف، وهو ما تسوى به الرماح؟ 11 الخطف بضم فسكون: الضمر، وإخطاف الحشى: انطواؤه، ومنه فرس مخطف الحشى: أي ضامر، ورجل مخطف كذلك، ورمح مخطف أي دقيق. 12 قنا ذابل: أي دقيق لاصق بالليط "بكسر اللام، والليطة: قشر القناة"، والعسال: الشديد الاضطراب إذا هززته ومنه العسلان بالتحرك، وهو عدو فيه اضطراب، والنسلان قريب منه. 13 الملتوي: المعوج. 14 مهزه كمنعه: دفعه. 15 الكزازة: اليبس والانقباض كز فهو كز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 11- إحدى ملكات اليمن وخاطبوها . وذكروا أن ملكة كانت بسبأ1؛ فأتاها قوم يخطبونها؛ فقالت: ليصف كل رجل منكم نفسه، وليصدق وليوجز، لأتقدم إن تقدم، أو أدع إن تركت، على علم؛ فتلكم رجل منهم يقال له مدرك؛ فقال: "إن أبي كان في العز الباذخ2، والحسب الشامخ، وأنا شرس الخليفة، وغير رعديد3 عند الحقيقة" قالت: لاعتاب على الجندل فأرسلتها مثلًا4، ثم تكلم آخر منهم ويقال له ضبيس بن شرس؛ فقال: "أنا في مال أثيث5، وخلق غير خبيث، وحسب غير عثيث6، أخذو النعل بالنعل، وأجزى القرض7 بالقرض" فقالت: لا يسرك غائبًا من لا يسرك شاهدًا، فأرسلتها مثلًا. ثم تكلم آخر منهم، يقال له شماس بن عباس فقال: "أنا شماس بن عباس، معروف بالندى والباس، حسن الخلق في سجية، والعدل في قضية، مالي غير محظور على القل والكثر، وبابي غير محجوب على العسر اليسر، قالت: الخير متبع والشر محذور؛ فأرسلتها مثلًا. ثم قالت: اسمع يا مدرك، وأنت يا ضبيس، لن يستقيم معكما معاشرة لعشير حتى يكون فيكما لين عريكة8، وأما أنت يا شماس؛ فقد حللت مني محل الأهزع9 من الكنانة، والواسطة10من القلادة، لدماثة11 خلقك، وكرم طباعك، ثم اسع بجد أودع، فأرسلتها مثلًا، وتزوجت شماسًا. "مجمع الأمثال 2: 118".   1 سبأ: بلدة باليمن. 2 العالي. 3 الرعديد: الجبان. 4 قال الميداني: "يضرب في الأمر إذا وقع لا مرد له، قاله أبو عمرو". 5 كثير: عظيم. 6 لم أجد في كتب اللغة وصفًا من مادة عث على فعيل؛ وإنما الذي فيها "رجل عث بفتح العين أي ضئيل الجسم" وسياق الفواصل يرجح أن الوصف الذي هنا فعيل، وأرى أن معناه مشين معيب من عثت العثة الصوف إذا أكلته فهو عثيت بمعنى معثوث. 7 القرض: القطع. 8 العريكة: الطبيعة، ورجل العريكة: أي سلس الخلق. 9 الأهزع آخر سهم في الكنانة رديئًا كان أو جيدًا أو هو أفضل سهامها؛ لأنه يدخر لشدة أو هو أردؤها، والمراد هنا الثاني. 10 واسطة العقد: الجوهرة الفاخرة التي تجعل وسطه. 11 الدماثة: السهولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 12- رواد مذحج يصفون ما ارتادوا من المراعي : عن أشياخ بني الحارث بن كعب قالوا: "أجدبت بلاد مذحج فأرسلوا روادًا1، من كل بطن رجلًا؛ فبعثت بنو زبيد رائدًا، وبعثت النخع رائدًا، وبعثت جعفي رائدًا؛ فلما رجع الرواد قيل لرائد بني زبيد: ما وراءك؟ قال: رأيت أرضًا موشمة2 البقاع، ناتحة النقاع3، مستحلسة الغيطان4 ضاحكة القريان5 واعد6 وأحر بوقائها، راضية أرضها عن سمائها". وقيل لرائد جعفي: ما وراءك؟ قال: رأيت أرضًا جمعت السماء7 أقطارها، فأمرعت أصبارها8، وديثت أوعارها9، فبطنانها غمقة10 وظهرانها غدقة11، ورياضها مستوسفة12، ورقاقها رائخ13، وواطئها سائخ14، وماشيها15 مسرور، ومصرمها16 محسور". وقيل للنخعي مارواءك؟ فقال: "مداحي17 سيل، وزهاء18 ليل،   1 الرواد: جمع رائد، وهو المرسل في طلب الكلأ. 2 أوشمت الأرض: إذا بدا فيها شيء من النبات "وأوشمت السماء: إذا بدا فيها برق". 3 النقاع: جمع نقع "كشمس" وهو الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء، وناتحة: أي راشحة، من النتح وهو خروج العرق من الجلد. 4 الغوط، والغيط، والغاط، والغائط: المطمئن الواسع من الأرض وجمعه غوط "بالضم" وأغواط وغيطان، وغياط، واستحلس النبت: إذا غطى الأرض أو كاد يغطيها. 5 القريان: مجاري الماء من الربو إلى الرياض جمع قرى كغنى. 6 أي تعد تمام نباتها وخيرها، وأحر: أخلق. 7 السماء هنا: المطر، يريد أن المطر جاد بها. فطال النبت؛ فصار المطر كأنه قد دمع أكنافه. 8 مرع الوادي مثلث الراء سرعة وأسرع: أعشب وأخصب فهو مريع وممرع، وأصبارها: نواحيها جمع صبر بالكسر والضم. 9 ديئت: لينت. 10 البطنان: جمع بطن، وهو الغامض من الأرض أي المطمئن منها، وغمقة: ندية. 11 الظهران: جمع ظهر، وهو ما ارتقع يسيرًا، وغدقة: كثيرة البلل والماء. 12 منتظمة. 13 الرقاق: الأرض اللينة من غير رمل، ورائخ: مفرط اللين، يقال: ربخت العجين إذا كثرت ماءه، وراخ العجين يريخ. 14 أي تسوخ رجلاه في الأرض من لينها، وتسوخ وتثوخ واحد. 15 الماشي: صاحب الماشية، مشى الرجل وأمشى: كثرت ماشيته. 16 المصرم: الفقير المقل. 17 مداحى: جمع مدحى اسم مكان من دحا الأرض يدحوها ويدحاها دحوًا: أي بسطها. 18 الزهاء: الشخص؛ وإنما نباتها زهاء ليل لشدة خضرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وغيل1 يواصى غيلًا، قد ارتوت أجرازها2، ودمث عزازها3، والتبد أقوازها4، فرائدها أنق5 وراعيها سنق6 فال قضض ولا رمض7، عازبها8 لا يفزع، وواردها لا ينكع9، فاختاروا مراد10 النخعي". "الأمال 1: 183".   1 الغيل: الماء الجاري على وجه الأرض، ويواصى: يواصل. 2 الأجراز: جمع جرز "بضمتين" وهي التي لم يصبها المطر، أو التي قد أكل نباتها، أو التي لا تنبت. 3 دمث: لين "وروى دمث كفرح" ودمث: لان، والعزاز: الأرض الصلبة. 4 الأقواز جمع قوز "كشمس": وهو المستدير من الرمل. 5 أي معجب بالمرعى. 6 من سنق كفرح أي بشم واتخم، وراعيها: الذي يرعاها. 7 القضض: الحصى الصغار، يريد أن النبات قد غطى الأرض فلا ترى هنالك قضضًا، والرمض: أن يحمى الحصى والحجارة من شدة الحر، يقول: ليس هناك رمض؛ لأن النبات قد غطى الأرض. 8 العازب: الذي يعزب بإبله أي يبعد بها في المرعى. 9 أي لا يمنع. 10 أي مرعى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 13- ما دار من الحديث بين المنذر بن النعمان الأكبر وبين عامر بن جوين الطائي . وفد عامر بن جوين الطائي على المنذر بن النعمان الأكبر، جد النعمان بن المنذر؛ وذلك بعد انقضاء ملك كندة، ورجوع الملك إلى لخم، وكان عامر قد أجار امرأ القيس ابن حجر، أيام كان مقيمًا بالجبلين1، وقال كلمته التي يقول فيها: هنالك لا أعطي مليكًا ظلامةً ... ولا سوقة حتى يثوب ابن مندله2   1 الجبلان: سلمى وأجأ "كجيل" شرق المدينة، وهما لطيئ، قال رجل من بني سلامان جاور في طيئ: ألفت مساكن الجبلين إني رأيت الغوث يألفها الغريب ... والغوث قبيلة من طيئ 2 قال صاحب اللسان: "ابن مندلة رجل من سادات العرب، قال عمرو بن جوين فيما زعم السيرافي، أو امرؤ القيس فيما حكى الفراء: وآليت لا أعطى مليكًا مقادتى ... ولا سوقة حتى يثوب ابن مندله وقال الميداني في شرح المثل "لا غزو إلا التعقيب" - جـ2: ص131: "يقال عقب الرجل: وهو أن يغزو مرة ثم يثنى من سنته، وأول من قال ذلك حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار "أبو امرئ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وكان المنذر ضغنًا عليه؛ فلما دخل عليه قال له: يا عام، لساء مثوًى أثويته ربك وثويك1؛ حين حاولت إصباء طلته2 ومخالفته إلى عشيره، أما والله لو كنت كريمًا لأثويته مكرمًا موفرًا، ولجانبته مسلمًا؛ فقال له: أبيت اللعن3 لقد علمت   = القيس" وذلك؛ لأن الحارث بن مندلة ملك الشام، وكان من ملوك سليح من ملوك الضجاعم "سليح كجريح قبيلة باليمن، والضجاعم كانوا ملوكًا بالشام" وهو الذي ذكره مالك بن جوين الطائي في شعره فقال: هنالك لا أعطي رئيسًا مقادة ... ولا ملكًا حتى يثوب ابن مندله وكان قد أغار على أرض نجد، وهي أرض حجر بن الحارث هذا، وذلك على عهد بهرام جور، وكان بها أهل حجر فوجد القوم خلوفًا، "الخلوف بالضم: الذين ذهبوا من الحي، ومن حضر منهم أيضًا" ووجد حجرًا قد غزا أهل نجران؛ فاستاق ابن مندلة مال حجر، وأخذ امرأته هند الهنود "وهي هند بنت ظالم بن وهب بن الحرث بن معاوية" ووقع بها فأعجبها، وكان آكل المرار شيخًا كبيرًا، وابن مندلة شابًّا جميلًا؛ فقالت له: النجاء النجاء، فإن وراءك طالبًا حثيثًا، وجمعًا كثيرًا، ورأيًا صلبًا، وحزمًا وكيدًا، فخرج ابن مندلة مغذا إلى الشام "أي مسرعًا"؛ فلما رجع حجر وجد ماله قد استيق، ووجد هند قد أخذت فقال: من أغار عليكم؟ قالوا ابن مندلة، قال: مذكم؟ قالوا: ثماني ليال؛ فقال حجر: لا غزو إلا التعقيب، فأرسلها مثلًا يعني غزوه الأول والثاني. ثم جد في طلب ابن مندلة، حتى دفع إلى واد دون منزل ابن مندلة فكمن فيه، وبعث سدوس بن شبيان؛ فقال له: اذهب متنكرًا إلى القوم حتى تعلم لنا علمهم؛ فانطلق حتى انتهى إلى ابن مندلة، ثم رجع إلى حجر فحدثه بحديث امرأته مع ابن مندلة، فضرب حجر بيده على المرار "والمرار كغراب: شجرة مرة إذا أكلت منها الإبل تقلصت مشافرها" فأكل منها من الغضب، سمته العرب آكل المرار، "وقيل: آكل المرار هو أبوه الحارث"، ثم خرج حتى أغار على ابن مندلة فقتله ثم قتل هندًا وأنشأ يقول: إن من يأمن النساء بشيء ... بعد هند لجاهل مغرور كل أنثى وإن تبينت منها ... آية الحب، حبها خيتعور "والخيتعور: كل شيء لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كالسراب، وكالذي ينزل من الهواء في شدة الحر كمسج العنكبوت". وذكر أبو الفرج الأصبهاني هذه القصة في الأغاني "15: 82" ولكنه روى أن الذي أغار على حجر هو زياد بن الهبولة قال: "ثم إن زياد بن الهبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم بن حماطة بن سعد بن سليح القضاعي أغار عليه وهو ملك في ربيعة بن نزار، وكان قد غزا بربيعة البحرين؛ فبلغ زيادًا غزاته فأقبل حتى أغار في مملكة حجر فأخذ مال كثيرًا وسبى امرآة حجر ... إلى آخر القصة". 1 ثوى المكان وبه: نزل، وأثواه،: أضافه، والمثوى: المنزل، والثوى: كغنى البيت المهيأ له، والضيف وهو المراد هنا. 2 الطلة العجوز، وصبا الرجل مال إلى الجهل والفتور وأصبته المرأة والمراد حاولت رد عزاء السالف إليه. 3 أبيت اللعن: تحية جاهلية أي أبيت أن تأتي ما تعلن به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أبناء أدد1 إني لأعزها جارًا، وأكرمها جوارًا وأمنعها دارًا، ولقد أقام وافرًا، وزال شاكرًا؛ فقال له المنذر: "يا عام، وإنك لتخال هضيبات أجأ ذات الوبار2، وأفنيات سلمى ذات الأغفار3، وما نعاتك من المجر4 الجرار، ذي العدد الكثار5 والحصن والمهار6 والرماح الحرار7، وكل ما مضى الغرار8، بيد كل مسعر كريم النجار9؟ قال عامر: أبيت اللعن، إن بين تلك الهضيبات والرعان10 والشعاب والمصدان11 لفتيانًا أبطالًا، وكهولًا أزوالًا12، يضربون القوانس13 ويستنزلون الفوارس، بالرماح المداعس14 لم يتبعوا الرعاء15، ولم ترشحهم16 الإماء؛ فقال الملك: يا عام لو قد تجاوبت الخيل في تلك الشعاب صهيلًا؛ كانت الأصوات قعقعة17 وصليلًا، وفغر الموت18، وأعجز الفوت، فتقارشت الرماح19 وحمي السلاح، لتساقى قومك كأسًا لا صحو بعدها؛ فقال مهلًا أبيت اللعن، إن شرابنا وبيل،   1 هو أدد بن زيد بن يشجب "بضم الجيم" بن عريب "بفتح العين" بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وبنو أدد: هم مذحج وطيئ والأشعر. 2 الوبار: شجرة حامضة شائكة. 3 الغفر بالتحريك: صغار الكلأ. 4 المجر: الجيش العظيم. 5 الكثير. 6 الحصن: جمع حصان، وهو الفرس الذكر، والمهار: جمع مهر، وهو ولد الفرس. 7 الحرار والأحرار: جمع حر، وهو خيار كل شيء. 8 الغرار: حد الرمح والسهم والسيف. 9 يقال هو مسعر حرب: أي موقد نارها كأنه آلة لسعر الحرب أي إيقادها، والنجار: الأصل. 10 الرعان: جمع رعن "كشمس" وهو أنف يتقدم الجبل، والجبل الطويل ويجمع أيضًا على رعون. 11 الشعب: بالفتح الجبل، وبالكسر: الطريق في الجبل، ومسيل الماء في بطن أرض، أو ما انفرج بين الجبلين، المصد "كشمس وكتف" والمصاد "كسحاب" الهضبة العالية وجمعه أمصدة ومصدان. 12 أزوال: جمع زوال، وهو الشجاع. 13 القوانس: جمع قونس كجعفر، والقونس والقونوس: أعلى بيضة الحديد. 14 المداعس: جمع مدعس، وهو الرمح الذي لا ينثني. 15 الرعاء: بالضم والكسر، الرعاة: جمع راع. 16 الترشيح: التربية. 17القعقعة: حكاية صوت السلاح، وتحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت. 18 فغر الموت فاه: أي فتحه. 19 تقارشت الرماح: تداخلت في الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وحدّنا أليل1، ومعجمنا صليب2، ولقاءنا صهيب؛ فقال له: يا عام إنه لقليل بقاء الصخرة الصراء3 على وقع الملاطيس4؛ فقال: أبيت اللعن، إن صفاتنا عبر المراديس5؛ فقال: لأوقظن قومك من سنة الغفلة. ثم لأعقبنهم بعدها رفدة لا يهب راقدها، ولا يستيقظ هاجدها6؛ فقال له عامر: إن البغي أباد عمرا7، وصرع حجرًا8، وكانا أعز منك سلطانًا، وأعظم شأنًا، وإن لقيتنا لم تلق أنكاسًا   1 حاد، وألّلَه تأليلًا حدّده. 2 عجم العود كنصر: إذا عضه ليعرف صلابته من خوره، والمعجم اسم مكان منه وصليب، وهو كناية عن شدتهم ومنعتهم. 3 صخرة صراء: صماء. 4 الملطس: كمنبر، والملطاس: المعول الغليظ لكسر الحجارة. 5 الصفاة: الحجر الصلد الضخم، ويقال ناقة عبر أسفار "بتثليث العين" أي قوية على السفر تشق مامرت به، تقطع الأسفار عليها، وكذا الرجل الجريء على الأسفار الماضي فيها القوي عليها، والمردس والمرداس: شيء صلب عريض تدك به الأرض، ورجسها دكها وردس الحجر بالحجر "كنصر وضرب" كسره، ومعنى العبارة إن صفتنا تحتمل دك المراديس فلا تتحطم تحتها، كناية عن صلابتهم وشدتهم. 6 الهجود: النوم. 7 هو عمرو بن المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، وكان يلقب مضرط الحجارة نشدة ملكه، وقوة سياسته "وهو عمرو بن هند" وأمه هند بنت الحارث بن عمرو عمة امرئ القيس بن حجر بن الحارث، وكان سبب قتله أنه قال يومًا لجلسائه: هل تعلمون أن أحدًا من العرب يأنف أن تخدم أمه أمي؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي؛ فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل، وزوجها كلثوم بن عتاب، وابنها عمرو؛ فسكت مضرط الحجارة على ما في نفسه وبعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويسأله أن تزور أمه أمه؛ فقدم عمرو بن كلثوم في فرسان من بني تغلب، ومعه أمه ليلى؛ فنزل على شاطئ الفرات، وبلغ عمرو بن هند قومه، أمر فضربت خيامه بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته، فصنع لهم طعامًا، ثم دعا الناس إليه فقرب إليهم الطعام على باب السرادق، وجلس وهو وعمرو بن كلثوم وخواص أصحابه في السرادق، ولأمه هند قبة في جانب السرادق، وليلى أم عمرو بن كلثوم معها في القبة "وقد قال مضرط الحجارة لأمه إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف فنحي خدمك عنك؛ فإذا دنا الطرف فاستخدمى ليلى ومريها فتناولك الشيء بعد الشيء؛ ففلعت هند ما أمرها به ابنها؛ فلما استدعى الطرف، قالت هند لليلى: ناوليني ذلك الطبق. قالت لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فألحت عليها، وقالت ليلى: واذلاه يا آل تغلب فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه والقوم يشربون، فعرف عمرو بن هند الشر في وجهه وثار ابن كلثوم إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق وليس هناك سيف غيره فأخذه، ثم ضرب به رأس مضرط الحجارة فقتله، وخرج فنادى يا آل تغلب فانتهبوا ماله وخيله، وسبوا النساء، وساروا فلحقوا بالحيرة "تاريخ الكامل لابن الأثير 1: 197". 8 هو حجر بن الحارث "أبو امرئ القيس" وقد تقدم خبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ولا أغساسًا1، فهبش وضائعك وصنائعك2، وهلم إذا بدا لك؛ فنحن الألى قسطوا3 على الأملاك قبلك، ثم أتى راحلته فركبها، وأنشأ يقول: تعلم "أبيت اللعن" أن قناتنا ... تزيد على غمز الثقاف تصعبا4 أتوعدنا بالحرب؟ أمك هابل ... رويدًا برقًا، لا أبا لك، خلبا5 إذا خطرت دوني جديلة بالقنا ... وجامت رجال الغوث دوني تحدبا6 أبيت التي تهوى، وأعطيتك التي ... تسوق إليك الموت أخرج أكهبا7 فإن شئت أن تزدار فأت تعترف ... رجالا يذيلون الحديد المعقربا8 وإنك لو أبصرتهم في مجالهم ... رأيت لهم جمعًا كثيفًأ وكوكبا9 وذكرك العيش الخري جلادهم ... وملهى بأكتاف الدير ومشربا10 فأغض على غيظ ولا ترم التي ... تحكم فيلك الزاعبي المحربا11 "ذيل الأمالي ص 179".   1 الأنكاس: جمع نكس بالكسر وهو الضعيف، والأغساس: جمع غس بالضم وهو الضعيف أيضًا. 2 هبش: جمع، والوضائع: جمع وضعية، أثقال القوم وما يأخذه السلطان من الخراج والعشور. والصنائع: جمع صنيعة: يقال هو صنيعة فلان، وصنيعه إذا اصطنعه وأدبه وخرجه ورباه، والمعنى: فتجهز للحرب، وأجمع الأموال اللازمة لذلك واحشد رجالك المدربين على القتنال. 3 أي جاروا. 4 الثقاف: ما تسوى به الرماح. 5 هبلته أمه "كفرح" فقدته، والبرق الخلب: المطمع المخلف. 6 خطر الرجل بسيفه ورمحه: رفعة مرة ووضعه أخرى، وجديلة والغوث من طيئ، وتحدب به تعلق، وتحدب عليه تعطف. 7 الخرج كسبب: لونان من بياض وسواد خرج كفرح فهو أخرج، وظليم أخرج: هو الذي لون سواده أكثر من بياضه كلون الرماد، والكهبة: الدهمة "السواد" أو غبرة مشربة سوادًا، كهب كفرح وكرم فهو أكهب وكاهب. 8 ازداده: زاره "افتعل من الزيارة" واعترف الشيء عرفه، وأذال ثوبه: إذا أطلق ذيله قال كثير: على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... جاد المسدى سردها فأذالها والحديد: الدروع، وشيء معقرب: أي معوج معطوف، يريد أنها دروع مزرودة "الزرد والسرد بالفتح: تداخل حلق الدرع بعضها في بعض" والمعنى تجد أبطالًا قد لبسوا الدروع السابغة المزرودة، وهناك معنى آخر وهو: يقال أذال فرسه إذا أهانه، والحديد: أي الفرس الحديد السير أي السريع، والمعقرب الشديد الخلق المجتمعه. وحمار معقرب الخلق أي ملزز مجتمع شديد؛ فالمعنى: تجد أبطالًا يجهدون في ميدان القتال أفراسهم كرًّا وصولًا على الأعداء. 9 الكوكبة: الجماعة. 10 السدير والخورنق: قصران بناهما النعمان الأكبر بالحيرة. 11 الرمح الزاعبي: هو الذي إذا هز كأن كعوبه يجري بعضها في بعض للنيه، والمحرب: المحدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 14- قيس بن رفاعة والحارث بن أبي شمر الغساني . كان قيس بن رفاعة يفد سنة إلى النعمان اللخمي بالعراق، وسنة إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني بالشام1؛ فقال له يومًا وهو عنده: يابن رفاعة، بلغني أنك تفضل النعمان2 علي؟ قال: "كيف أفضله عليك أبيت اللعن؟ فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولأمك أشرف من أبيه، ولأبوك أشرف من جميع قومه، ولشمالك أجود من يمينه، ولحرمانك أنقع من نداه، ولقليك أكثر من كثيره، ولثمادك3 أغزر من غديره، ولكرسيك أرفع من سريره، ولجدولك أغمر من بحوره، وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حقبه4، ولزندك أورى من زنده، ولجندك أعز من جنده، وإنك لمن غسان أرباب الملوك، وإنه لمن لخم الكثير النوك5. فكيف أفضله عليك6؟ ". "الأمالي 1: 261 ومروج الذهب 1: 298".   1 كان المناذرة ملوك الحيرة من لخم، والغساسنة: ملوك الشأم من الأزد؛ فكلاهما من أصل يمني، وكان بينهما أحقاد وأضغان وحروب. 2 النعمان بن المنذر. 3 الثماد: الماء القليل لا مادة له. 4 الحقب بالضم وبضمتين: ثمانون سنة أو أكثر، والدهر، والسنة أيضًا. 5 النوك بالضم والفتح: الحمق. 6 وذكر المسعودي أن هذا الحديث كان بين حسان بن ثابت الأنصاري، وبين الحارث بن أبي شمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 15- قيس بن خفاف البرجمي وحاتم طيئ : أتى أبو جبيل قيس بن خفاف البرجمي حاتم طيئ، في دماء حملها عن قومه، فأسلموه1 فيها، وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني، وكان شريفًا شاعرًا؛ فلما قدم عليه قال: "إنه وقعت بين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأملي،   1 خذلوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فقدمت مالي، وكنت أملي، فإن تحملها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك. ثم أنشأ يقول: حملت دماء للبراجم جمة ... فجئتك لما أسلمتني البراجم1 وقالوا "سفاهًا" لم حملت دماءنا ... فقلت لهم يكفي الحمالة حاتم2 متى آته فيها يقل لي مرحبًا ... وأهلًا وسهلًا أخطأتك الأشائم3 فيحملها عني، وإن شئت زادني ... زياد من حنت إليه المكارم يعيش الندى ما عاش حاتم طيئ ... فإن مات قامت للسخاء مآتم ينادين مات الجود معك فلا نرى ... مجيبًا له ما حام في الجو حائم وقال رجال أنهب العام ماله ... فقلت لهم إني بذلك عالم4 ولكنه يعطي من أموال طيئ ... إذا جلف المال الحقوق اللوازم5 فيعطي التي فيها الغنى وكأنه ... لتصغيره تلك العطية جارم6 بذلك أوصاه عدي وحشرج ... وسعد وعبد الله تلك القماقم7 فقال له حاتم: إن كنت لأحب أن يأتيني مثلك من قومك، هذا مرباعي8 من الغارة على بني تميم؛ فخذوه وافرًا، فإن وفى بالحمالة، وإلا أكملتها لك، وهو مائتا بعير سوى بنيها وفصالها، مع أني لا أحب أن تويس قومك بأموالهم، فضحك أبو جبيل وقال: لكم ما أخذتم منا، ولنا ما أخذنا منكم، وأي بعير دفعته إلي، ليس ذنبه في يد صاحبه، فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير، فأخذها وانصرف راجعًا إلى قومه؛ فقال حاتم في ذلك:   1 البراجم من تميم. 2 السفاه: السفه. والحمالة: الدية يحملها قوم عن قوم. 3 الأشائم: ضد الأيامن. 4 أنهب المال: جعله نهبا يغار عليه. 5 أي جرفه وانتقصه. 6 جرم الرجل "بفتحتين": أذنب كأجرم. 7 جمع قمقام: وهو السيد. 8 المراباع: ربع الغنيمة، وكان يختص به قائد الغارة وفارسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أتاني البرجمي أبو جبيل ... لهم في حمالته طويل فقلت له خذ المرباع رهوًا ... فإني لست أرضى بالقليل1 على حال، ولا عودت نفسي ... على علاتها عال البخيل فخذها إنها مائتا بعير ... سوى الناب الرذية والفصيل2 فلا من عليك بها؛ فإني ... رأيت المن يزري بالجزيل فآب البرجمي وما عليه ... من اعباء الحمالة من فتيل يجر الذيل ينفض مذرويه ... خفيف الظهر من حمل ثقيل3 "ذيل الأمالى 22، والأغاني 7: 145".   1 يقال: آتيك به رهوًا أي آتيك به عفوًا سهلًا لا احتباس فيه. 2 الناقة المسنة، والرذية: مؤنث الرذي، وهو الضعيف من كل شيء ومن أثقله المرض. 3 المذروان. أطراف الألية بلا واحد أو هو المذري، ومن الرأس ناحيتاه، ويقال جاء ينفض مذرويه. أي باغيًا متهددًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 16- مقال قبيصة بن نعيم لامرئ القيس بن حجر : قدم علي امرئ القيس بن حجر الكندي بعد مقتل أبيه رجال من قبائل بني أسد وفيهم قبيصة بن نقيم يسألونه العقو عن دم أبيه1؛ فخرج عليهم في قباء وخفة وعمامة سوداء -وكان العرب لا تعتم بالسواد في الترات- فلما نظرو إليه قاموا له، وبدر إليه قبيصة فقال: "إنك في المحل والقدر، والمعرفة بتصرف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتنتقل به أحواله؛ بحيث لا تحتاج إلى تذكير من واعظ، ولا تبصير من مجرب، ولك من سودد منصبك، وشرف أعراقك2، وكرم أصلك في العرب، محتد3 يحتمل ما حمل عليه   1 وكانت بنو أسد "وهم من المضرية" خاضعة لموك كندة، وآخر ملك عليهم هو حجر أبو امرئ القيس، وقد ثاروا عليه وقتلواه؛ لأنه كان قد عسف في حكمه لهم، واشتط عليهم في الإتاوة التي يؤدونها إليه. 2 الأعراق: جمع عرق وهو أصل كل شيء. 3 المحتد: الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 من إقالة العثرة، ورجوع عن الهفوة، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك؛ فوجدت عندك من فضيلة الرأي، وبصيرة الفهم، وكرم الصفح، ما يطول رغباتها، ويستغرق طلباتها، وقد كان الذي كان من الخطب الجليل، الذي عمت رزيته نزارًا واليمن، ولم تخصص بذلك كندة دوننا، للشرف البارع كان لحجر، التاج والعمة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد وطيب الشيم، ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله؛ ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه. فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا؛ فقدناه إليك بنسعة1، تذهب مع شفرات حسامك بباق قصرته2، فنقول: رجل امتحن بهالك عزيز؛ فلم يستل سخيمته3 إلا تمكينه من الانتقام. أو فداء بما يروح4 على بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة؛ فكان ذلك فداء رجعت به القضب5 إلى أجفانها، لم يرددها تسليط الإحن6 على البرآء. وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوامل؛ فتسدل الأزر، وتعقد الخمر فوق الرايات". فبكى امرؤ القيس ساعة، ثم رفع رأسه فقال:   1 النسع: سير عريض به الرحال، والقطعة منه نسعة. 2 القصرة: أصل العنق. 3 السخيمة: الحقد. 4 يرجع، وأراح الإبل: ردها إلى المراح بالضم أي المأوى، والنعم الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، وهو المراد هنا. 5 السيوف. 6 الإحن: جمع إحنة، وهي الحقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 17- رد امرئ القيس عليه : "لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم، وأنى لن أعتاض به جملًا ولا ناقة فأكتسب به سبة الأبد، وفت العضد1، وأما النظرة2؛ فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك، تحمل في القلوب حنقًا، وفوق الأسنة علقًا3": إذا جالت الحرب في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا أتقيمون أم تنصروفون؟ " قالوا: "بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار، بمكروه وأذية، وحرب وبلية" ثم نهضوا عنه وقبيصة يتمثل: لعلك أن تستوخم الورد إن غدت ... كتائبنا في مأزق الحرب تمطر4 فقال امرؤ القيس: "لا والله، ولكن أستعذبه، فرويدًا، ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا بي أولى؛ إذ كنت نازلًا بربعي5 ولكنك قلت فأوجبت" فقال قبيصة: "ما توقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب6" فقال امرؤ القيس: "هو ذاك". "صبح الأعشى 2: 216 والأغاني 8: 72 والمثل السائر 101".   1 فته: كسره، وهو كناية عن الضعف والوهن. 2 الإمهال. 3 أي دمًا. 4 تستوخمه: أي تجده وخيمًا. 5 الربع: المنزل. 6 أعتبه: أرضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 18- خطبة هانئ بن قبيصة الشيباني : قال هانئ بن قبيصة الشيباني يحرض قومه يوم ذي قارٍ1. "يا معشر بكر، هالك معذور؛ خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر2 النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر، قاتلوا فما للمنايا بد". "الأمالي 1: 92".   1 كان من أعظم أيام العرب وأبلغها في توهين أمر الأعاجم، وهو لبني شيبان، وكان أبرويز أغزاهم جيشًا؛ فظفر بنو شيبان، وهو أول يوم انتصر فيه العرب من العجم. 2 جمع ثغرة بالضم: وهي نقرة النحر بين الترقوتين "والثغرة بالفتح: كل عورة منفتحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 19- خطبة عمرو بن كلثوم . "أما بعد: فإنه لا يخبر عن فضل المرء أصدق من تركه تزكية نفسه، ولايعبر عنه في تزكية أصحابه أصدق من اعتماده إياهم على حرمته". "البيان والتبين 2: 69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 20- أكثم بن صيفي يعزّي عمرو بن هند عن أخيه: وعزى أكتم بن صيفي عمرو بن هند ملك العرب عن أخيه فقال له: "إن أهل هذه الدار سفر لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وراتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن عنك ويدعك، واعلم أن الدنيا ثلاثة أيام، فأمس عظة وشاهد عدل، فجعك بنفسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وأبقى لك وعليك حكمته، واليوم غيمة، وصديق أتاك ولم تأته، طالت عليك غيبته، وستسرع عنك رحلته، وغد لا ندري من أهله، وسيأتيك إن وجدك؛ فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر، وقد مضت لنا أصول نحن فروعها؛ فما بقاء الفروع بعد أصولها، واعلم أن أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله". "العقد الفريد 2: 35، نهاية الأرب 5: 164". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 21- خطبة قس بن ساعدة الإيادي : خطب قس بن ساعدة الإيادي بسوق عكاظ؛ فقال: "أيها الناس: اسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج1، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر2، وبخار تزخر3، وجبال مرساة، وأرض مدحاة4، وأنهار مجراة. إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسمًا لا إثم فيه: إن لله دينًا هو أرضى له، وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرًا. ويروى أن قسا أنشأ بعد ذلك يقول: في الذاهبين الأوليـ ... ـن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر   1 مظلم. 2 تضيء وتتلألأ. 3 تمتلئ وترتفع. 4 مدحوة: أي مبسوطة، وإنما قال مدحاة لمراعاة السجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكاير والأصاغر لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر1 أيقنت أني لا محا ... له حيث صار القوم صائر "صبح الأعشى 1: 212، وإعجاز القرآن 124، البيان والتبيين 1: 168، الأغاني 14: 40 العقد الفريد 2: 156، ومجمع الأمثال للميداني 1: 74".   1 مقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 22- قس بن ساعدة عند قيصر : وكان قس بن ساعدة يفد على قيصر ويزوره؛ فقال له قيصر يومًا: ما أفضل العقل؟ قال: معرفة المرء بنفسه، قال: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه، قال: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه، قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحقوق. "الأمالي 2: 93". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 23- خطبة المأمون الحارثي : قعد المأمون الحارثي في نادي قومه؛ فنظر إلى السماء والنجوم، ثم أفكر طويلًا، ثم قال: "أرعوني أسماعكم، وأصغوا إلي قلوبكم؛ يبلغ الوعظ منكم حيث أريد، طمح1 بالأهواء الأشر، وران2 على القلوب الكدر، وطخطخ3 الجهل النظر، إن فيما ترى لمعتبرًا لمن اعتبر، أرض موضوعة، وسماء مرفوعة، وشمس تطلع وتغرب ونجوم تسري فتعزب، وقمر تطلعه النحور، وتمحقه أدبار الشهور، وعاجز مثر، وحول مكد4، وشاب مختضر، ويفن5 قد غبر، وراحلون لا يئوبون، وموقوفون   1 ارتفع وعلا وذهب. 2 غلب. 3 أظلم. 4 رجل حول: شديد الاحتيال، وأكدى: لم ينجح، وأصله من أكدى إذا حفر فصادف الكدية "بضم الكاف" وهي الصفاة العظيمة الشديدة. 5 الذي يموت حدثًا، وهو مأخوذ من الخضرة كأنه حصد أخضر، واليفن: الشيخ الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 لا يفرطون1 ومطر يرسل بقدر؛ فيحيي البشر، ويورق الشجر، ويطلع الثمر، وينبت الزهر، وماء يتفجر، من الصخر الأير2؛ فيصجع المدر، عن أفنان الخضر، فيحيي الأنام، ويشبع السوام، وينمي الأنعام، إن في ذلك لأوضح الدلائل على المدير المقدر، الباري المصور. يأيها العقول النافرة، والقلوب النائرة3، أنى تؤفكون، وعن أي سبيل تعمهون، وفي أي حيرة تهيمون، وإلى أي غاية توفضون4، لو كشفت الأغطية عن القلوب، وتجلت الغشاوة عن العيون، لصرح الشك عن اليقين، وأفاق من نشوة الجهالة من استولت عليه الضلاضة". "الأمالى 1: 276".   1 يقدمون. 2 الصلب. 3 النائرة النافرة، نارت نورًا بفتح النون، ونوارًا بفتحها وكسرها: نفرت. 4 تسرعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 24- بين مهلهل بن ربيعة ومرة بن ذهل بن شيبان : لما قتل جساس1 بن مرة بن ذهل الشيباني كليب2 بن ربيعة التغلبي، تشمر أخوه مهلهل3 واستعد لحرب بكر، وجمع إليه قومه؛ فأرسل رجالًا منهم   1 وسبب ذلك أن البسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس كان لها جار من جرم يقال له سعد بن شميس، وكانت له ناقة لها سراب، وكان كليب قد حمى أرضًا من أرض العالية، في أنف الربيع؛ فلم يكن يرعاه أحد إلا إبل جساس لمصاهرة بينهما -وكانت جليلة بنت مرة أخت جساس تحت كليب- فخرجت سراب في إبل جساس ترعى في حمى كليب، ونظر إليها كليب فأنكرها فرماها بسهم فأصاب ضرعها؛ فولت حتى بركت بفناء صاحبها وضرعها يشخب دما ولنا؛ فلما نظر إليها صرخ بالذل؛ فخرجت البسوس فضربت يدها على رأسها، ونادت واذلاه وسمعها جساس فسكتها، وقال لها: ليقتلن غدا فحل أعظم من ناقة جارك، ولم يزل يتوقع غرة كليب حتى أمكنته منه الفرصة فقتله، ونشبت من أجل ذلك الحرب "حرب البسوس" بين بكر وتغلب ابني وائل أربعين سنة "وبنو شيبان بطن من بكر". 2 اسمه وائل بن ربيعة بن حارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، وإنما لقب كليبًا؛ لأنه كان سار أخذ معه جرو كلب؛ فإذا مر بروضة أو موضع يعجبه، ضربه ثم ألقاه في ذلك المكان وهو يصيح ويعوي، فلا يسمع عواه أحد إلا تجنبه ولم يقربه، وكان يقال كليب وائل ثم اختصروا فقالوا كليب فغلب عليه. 3 اسمه عدي بن ربيعة، وإنما قيل له المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر: أي أرقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 إلى بني شيبان، فأتوا مرة بن ذهل بن شبيان "أبا جساس" وهو في نادي قومه" فقالوا له: "إنكم أتيتم عظيمًا بقتلكم كليبًا بناب1 من الإبل؛ فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الإعذار إليكم، ونحن نعرض عليكم خلالًا أربعًا، لكم فيها مخرج، ولنا فيها مقنع؛ فقال مرة: وما هي؟ قالوا: تحيي لنا كليبًا، أو تدفع إلينا جساسًأ قاتله فنقتله به، أو همامًا2 فإنه كفء له، أو تمكننا من نفسك؛ فإن فيك وفاء من دمه، فقال:" أما إحيائي كليبًا؛ فهذا ما لا يكون، وأما جساس؛ فإنه غلام طعن طعنة على عجل، ثم ركب فرسه؛ فلا أدري أي البلاد احتوى عليه، وأما همام فإنه أبو عشر، وأخو عشرة، وعم عشرة، كلهم فرسان قومهم؛ فلن يسلموه لي، فأدفعه إليكم يقتل بجريرة3 غيره. وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غدًا؛ فأكون أول قتيل بينهما؟ فما أتعجل الموت؛ ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداهما فهؤلاء بني الباقون، فعلقوا في عنق أيهم شئتم نسعة؛ فانطلقوا به إلى رحالكم، فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فألف ناقة سود الحدق، حمر الوبر، أقيم لكم بها كفيلًا من بني وائل؛ فغضب القوم وقالوا: لقد أسأت، تبذل لنا ولدك، وتسومنا اللبن من دم كليب؟ " ونشبت الحرب بينهم. "العقد الفريد3: 78، والكامل لابن الأثير1: 190، والأغاني4: 141".   1 الناقة المسنة. 2 هو همام بن مرة أخو جساس، وكان نديمًا لمهلهل. 3 الجريرة: الجريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 25- منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين : لما أسن أبو براء: عامر بن مالك بن جعفر بن ملاعب الأسنة، تنازع في الرياسة عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر، وعلقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فقال علقمة: كانت لجدي الأحوص؛ وإنما صارت لعمك بسببه، وقد قعد عمك عنها، وأنا استرجعتها؛ فأنا أولى بها منك، فشرى1 الشر بينهما، وسار إلى المنافرة. فقال علقمة: إن شئت نافرتك؛ فقال عامر قد شئت. والله إني لأكرم منك حسبًا2، وأثبت منك نسبًا، وأطول منك قصبًا3. فقال علقمة: والله لأنا خير منك ليلًا ونهارًا؛ فقال عامر: والله لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهم منك، أنا أنحر منك للقاح4، وخير منك في الصباح، وأطعم منك في السنة الشياح5. فقال علقمة: أنا خير منك أثرًا، وأحد منك بصرًا، وأعز منك نفرًا، وأشرف منك ذكرًا؛ فقال عامر: ليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد، وبصري ناقص، وبصرك صحيح؛ ولكني أنافرك، إني أسمى منك سمة6، وأطول منك قمة، وأحسن منك لمة7، وأجعد منك جمة8، وأسرع منك رحمة، وأبعد منك همة؛ فقال: علقمة: أنت رجل جسيم؛ فقال عامر. آباؤك أعمامي، ولم أكن لأنافرك بهم لكني أنافرك، أنا خير منك عقبًا، وأطعم منك جدبًا. فقال علقمة: قد علمت أن لك عقبًا، وقد أطعمت طيبًا، ولكن أنافرك، إني خير منك، وأولى بالخيرات منك. فخرجت أم عامر -وكانت تسمع كلامهما- فقالت: يا عامر نافره، أيكما أولى الخيرات. قال عامر: إني والله لأركب منك في الحماة، وأقتل منك للكماة.10،   1 استطار. 2 الحسب: ما تعده من مفاخر آبائك، أو الشرف الثابت في الآباء، أو الكرم، أو الشرف في الفعل أو الفعال الصالح. 3 القصب عظام اليدين والرجلين ونحوهما، كناية عن طول قامته. 4 الإبل: واحدتها لقوح. 5 الشياح: القحط. 6 السمة: القرابة، ويروى أنا أنشر منك أمة، أي أكثر قومًا. 7 اللمة: الشعر المجارز شحمة الأذن. 8 مجتمع شعر الرأس. 9 نحيف من القضف، وهو النحافة. 10 جمع كمي، وهو الشجاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وخير منك لمولى والمولاة: فقال له علقمة: والله إني لبر، وإنك لفاجر، وإني لولود، وإنك لعاقر1، وإني لعف، وإنك لعاهر، وإني لوفي، وإنك لغادر؛ ففيم تفاخرني يا عامر؟ فقال عامر: والله إني لأنزل منك للقفرة2، وأنحر منك للبكرة3 وأطعم منك للهبرة4، وأطعن منك للثغرة؛ فقال علقمة: والله إنك لكليل البصر، نكد النظر، وثاب على جاراتك بالسحر. فقال بنو خالد بن جعفر -وكانوا يدًا مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر- لن تطيق عامرًا؛ ولكن قل له أنافرك وأقر بنا إلى الخيرات؛ فقال له علقمة هذا القول، فقال عامر: عير5 وتيس، وتيس وعنز. فذهبت مثلًا. نعم، على مائة من الإبل إلى مائة من الإبل يعطاها الحكم، أينا نفر عليه صاحبه أخرجها؛ ففعلوا ذلك، ووضعوا بها رهنًا من أبنائهم على يدي رجل يقال له خزيمة بن عمرو بن الوحيد؛ فسمي "الضمين". وخرج علقمة ومن معه من بني خالد، وخرج عامر فيمن معه من بني مالك، وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية؛ فلم يقل بينهما شيئًا، وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما، وقال: أنتما كركبتي البعير الأدرم6، قالا: فأينا اليمين؟ قال كلا كما يمين، وأبى أن يقضي بينهما؛ فانطلقا إلى أبي جهل بن هشام فأبى أن يحكم بينهما -وقد كانت العرب تحاكم إلى قريش- فأتيا عيينة بن حصن بن حذيفة،   1 رجل عاقر: لم يولد ولد. 2 القفر: القفر. الخلاء من الأرض. 3 البكرة: الفتية من الإبل. 4 الهبرة: قطعة مجتمعة من اللحم. هبره قطعه قطعًا كبارًا، وهبر له من اللحم هبرة قطع قطعة. 5 العير: الحمار وغلب على الوحشي، وهو أقوى من التيس، أي مثلي وإياك كالعير والتيس، أو على الأقل كالتيس والعنز؛ إذ التيس أقوى على النطاح من العنز، وفي المثل: "كان عنزًا فاستتيس" أي صار تيسًا. يضرب الذليل الضعيف يصير عزيزًا قويًّا. 6 درم العظم: واراه اللحم حتى يبن له حجم، وامرأة درماء لا تستبين كهوبها ومرافقها، وكل ما غطاه الشحم واللحم وخفي حجمه فقد درم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فأبى أن يقول بينهما شيئًا؛ فأتيا غيلان بن سلمة الثقفي؛ فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري، فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان الفزاري؛ فانطلقا حتى نزلا به، وقد ساقا الإبل معهما حتى أشتت وأربعت، لا يأتيان أحدًا إلا هاب أن يقضي بينهما؛ فقال هرم: لعمري لأحكمن بينكما ثم لأفضلن؛ فأعطياني موثقًا أطمئن إليه أن ترضيا بما أقول، وتسلما لما قضيت بينكما، وأمرهما بالإنصراف، ووعدهما ذلك اليوم من قابل، فانصرفا، حتى إذا بلغ الأجل خرجا إليه، وأقام القوم عنده أيامًا. فأرسل هرم إلى عامر فأتاه سرًا لا يعلم به علقمة؛ فقال يا عامر: قد كنت أرى لك رأيًا، وأن فيك خيرًا. وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك، أتنافر رجلًا لا تفخر أنت وقومك إلا بآبائه! فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: نشدتك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة، فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدًا. هذه ناصيتي فاجزرها واحتكم في مالي؛ فإن كنت لابد فاعلًا، فسو بيني وبينه، قال: انصرف فسوف أرى رأيي. فخرج عامر وهو لا يشك أنه ينفره1 عليه، ثم أرسل إلى علقمة سرًا لا يعلم به عامر، فأتاه، وقال له مثل ما قال لعامر، فرد عليه علقمة بما رد به عامر، وانصرف وهو لايشك أنه سيفضل عليه عامرًا. ثم إن هرمًا أرسل إلى بنيه وبني أبيه: إني قائل غدًا بين هذين الرجلين مقالة؛ فإذا فعلت فليطرد بعضكم عشر جزائر، فينحرها عن علقمة، ويطرد بعضكم عشر جزائر، ينحرها عن عامر، وفرقوا بين الناس لا تكون لهم جماعة، وأصبح هرم فجلس مجلسه، وأقبل الناس، وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا، فقام هرم فقال: يا بني جعفر، قد تحاكمتما عندي، وأنتما كركبتي   1 أنفره عليه ونفره عليه: قضى له عليه بالغلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أشراف العرب بين يدي كسرى مدخل ... أشراف العرب بين يدي كسرى: قال كسرى1 للنعمان بن المنذر يومًا، هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة؟ قال نعم، قال فبأي شيء؟ قال من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتصل بذلك بكمال الرابع؛ فالبيت من قبيلته فيه، وينسب إليه، قال فاطلب ذلك، فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر، وآل حاجب بن زرارة، وآل ذي الجدين، وآل الأشعث بن قيس بن كندة؛ فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم، وأقعد لهم الحكام والعدول، وقال: ليتكلم كل منكم بما آثر قومه وليصدق؛ فكان حذيفة بن بدر الفزاري أول متكلم، وكان ألسن القوم؛ فقال:   1 هو كسرى أنوشروان، حكم من سنة 531 إلى 578 ميلادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 مقالة حذيفة بن بدر الفزاري ... 26- مقالة حذيفة بن بدر الفرزاري: "قد علمت العرب أن فينا الشرف الأقدم، والأعز الأعظم، ومأثرة1 للصنيع الأكرم؛ فقال من حوله: ولم ذاك أخا فزازة؟ فقال: ألسنا الدعائم التي لا ترام، والعز الذي لا يضام، قيل صدقت، ثم قام شاعرهم فقال: فزارة بيت العز، والعز فيهم ... فزارة قيس، حسب قيس نضالها لها العزة القعساء والحسب الذي ... بناه لقيس في القديم رجالها   1 المأثر بالفتح والضم: المكرمة المتوارثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فهيهات قد أعيا القرون التي مضت ... مآثر قيس مجدها وفعالها وهل أحد إن هز يومًا بكفه ... إلى الشمس في مجرى النجوم ينالها فإن يصلحوا يصلح لذاك جميعها ... وإن يفسدوا يفسد من الناس حالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 مقال الأشعث الكندري ... 27- مقال الأشعث الكندي: ثم قام الأشعث الكندي -وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته من النعمان بن المنذر- فقال: قد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر، وزحفها الأكبر، وإنا لغياث الكربات، ومعدن المكرمات، قالوا: ولم يا أخا كندة؟ قال: لأنا ورثنا ملك كندة، فاستظللنا بأفيائه1 وتقلدنا منكبه الأعظم، وتوسطنا بحبوحه الأكرم، ثم قام شاعرهم فقال: إذا قست أبيات الرجال ببيتنا ... وجدت لنا فضلًا على من يفاخر فمن قال كلا أو أتانا بخطة ... ينافرنا فيها فنحن نخاطر تعالوا قفوا كي يعلم الناس أينا ... له الفضل فيما أورثته الأكابر   1 جمع فيء: وهو ما كان شمسًا فينسخه الظل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 28- مقال بسطام الشيباني : ثم قام بسطام الشيباني؛ فقال قد علمت العرب أنا بناة بيتها الذي لا يزول، ومغرس عزها الذي لايحول، قالوا يا أخا شيبان؟ قال: لأنا أدركهم للثار، وأضربهم للملك الجبار، وأقومهم للحكم، وألدهم للخصم، ثم قام شاعرهم، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لعمري بسطام أحق بفضلها ... وأول بيت العز عز القبائل فسائل -أبيت اللعن- عن عز قومها ... إذا جد يوم الفخر كل مناقل1 ألسنا أعز الناس قومًا ونصرة ... وأضربهم للكبش بين القبائل2 وقائع غر كلها ربعية ... تذل لها عزًا رقاب المحافل إذا ذكرت لم ينكر الناس فضلها ... وعاذ بها من شرها كل وائل3 وإنا ملوك الناس في كل بلدة ... إذا نزلت بالناس إحدى الزلازل   1 أبيت اللعن: تحية في الجاهلية، أي أبيت أن تأتي أمرًا تلعن عليه. والمناقلة في المنطق: أن تحدث آخر ويحدثك. 2 الكبش: سيد القوم وقائدهم 3 لاجئ، من وأل إليه يئل وألًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 29- مقال حاجب بن زرارة : ثم قام حاجب بن زرارة التميمي؛ فقال: قد علمت معد أنا فرع1 دعامتها، وقادة زحفها، قالوا: ولم ذاك يا أخا بني تميم؟ قال: لأنا أكثر الناس عديدًا، وأنجهم طرًا وليدًا، وأنا أعطاهم للجزيل، وأحملهم للثقيل، ثم قام شاعرهم، فقال: لقد علمت أبناء خندف أننا ... لنا العز قدمًا في الخطوب الأوائل2 وأنا كرام أهل مجد وثروة ... وعز قديم ليس بالمتضائل فكم فيهم من سيد وابن سيد ... أغر تجيب ذي فعال ونائل3 فسائل "أبيت اللعن" عنا فإننا ... دعائم هذا الناس عند الجلائل4   1 فرع كل شيء: أعلاه. 2 خندف: هي أم مدركة، وطابخة وقمعة أبناء الياس بن مضر بن تزار بن معد بن عدنان. 3 الفعال: اسم الفعل الحسن، والكرم. 4 أي الأمور الجلائل جمع جليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 30- مقال قيس بن عاصم السعدي : ثم قام قيس بن عاصم السعدي؛ فقال: لقد علم هؤلاء أنا أرفعهم في المكرمات دعائم، وأثبتهم في النائبات مقادم، قالوا: ولم ذاك يا أخا بني سعد؟ قال: لأنا أدركهم للنار، وأمنعهم للجار. وأنا لا ننكل1 إذا حملنا، ولا نرام إذا حللنا، ثم قام شاعرهم فقال: لقد علمت قيس وحندف أننا ... وجل تميم والجميع الذي ترى2 بأنا عماد في الأمور وأننا ... لنا الشرف الضخم المركب في الندى وأنا ليوث الناس في كل مأزق ... إذا جز بالبيض الجماجم والطلا3 فمن ذا ليوم الفخر يعدل عاصمًا ... وقيسًا إذا مرت ألوف إلى العلا فهيهات قد أعيا الجميع فعالهم ... وقاموا بيوم الفخر مسعاة من سعى فقال كسرى حينئذ: ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه، وأسنى حباءهم، وأعظم صلاتهم، وكرم مآبهم. "صبح الأعشى 1: 377 والأغاني 17: 105".   1 لا ننكص ولا نجبن. 2 قيس بن عيلان بن مضر. 3 الطلا: جمع طلية، وهي العنق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وفود العرب على كسرى مدخل ... وفود العرب على كسرى: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين؛ فذكروا من ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب، وفضلهم على جميع الأمم، لا يستثنى فارس ولا غيرها، فقال كسرى -وأخذته عزة الملك- يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حالة من يقدم علي من وفود الأمم؛ فوجدت للروم حظًا في اجتماع ألفتها، وعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها، وأن لها دينًا يبين حلالها وحرامها، ويرد سفيهها، يقيم جاهلها، ورأيت الهند نحوًا من ذلك في حكمتها وطبها، مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعتها، وطيب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها، وكذلك الصين في اجتماعها، وكثرة صناعات أيديها، وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب، وصناعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها، والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف1 والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضم قواصيهم، وتدبر أمرهم، ولم أر للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة، ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها، وصغر همتها محلتهم2 التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها؛ فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل، التي يعافها كثيرة من السباع، لثقلها، وسوء طعمها، وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفًا عدها مكرمة،   1 الريف: أرض فيها زرع وخصب، والسعة في المأكل والمشرب. 2 حل المكان وبه يحل بالكسر والضم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدى اجتماعها، وشد مملكتها، ومنعها من عدوها؛ فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها مع ذلك آثارًا ولبوسًا1، وقرى وحصونًا، وأمورًا تشبه بعض أمور الناس -يعني اليمن- ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس، قال النعمان: أصلح الله الملك. حق2 لأمة الملك منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها؛ إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك، في غير رد عليه، ولا تكذيب له؛ فإن أمنني من غضبه نطقت به، قال كسرى: قل فأنت آمن.   1 الدروع. 2 حق لك أن تفعل كذا وحققت أن تفعله بمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 31- خطبة النعمان بن المنذر : قال النعمان: أما أمتك أيها الملك؛ فليست تنازع في الفضل، لموضعها الذي هي به: من عقولها وأحلامها، وبسطه محلها، وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى بماذا؟ قال النعمان: بعزها، ومنعتها، وحسن وجوهها، وبأسها، وسخائها، وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها، وأنفتها، ووفائها. فأما عزها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجنتهم السيوف، وعدتهم الصبر، إذ غيرها من الأمم إنما عزها من الحجارة والطين وجزائر البحور. وأما حسن وجوها وألوانها، فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم: من الهند المنحرفة، والصين المنحفة، والترك المشوهة، والروم المقشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وأما أنسابها وأحسابها؛ فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرًا من أولها، حتى إن أحدهم ليسأل وراء أبيه دنيا1؛ فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبًا فأبًا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤها؛ فإن أدناهم رجلًا، الذي تكون عنده البكرة والناب2، عليها بالغه3 في حموله4 وشبعه وريه، فيطرقه الطارق، الذي يكتفي بالفلذة5، ويحتري بالشبة؛ فيعقرها له، ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر. وأما حكمة ألسنتهم؛ فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم، وحسنه ووزنه وقوافيه، ومع معرفتهم الأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات، ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع6. ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد فقر. وأما دينها وشريعتها؛ فإنهم متمسكون به، حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرًا حرمًا، وبلدًا محرمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره، وإدراك رغمه7 منه؛ فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله بأذى.   1 هو ابن عمي دنيا بضم الدال وكسرها مع التنوين، وبكسرها بلا تنوين: أي لحمًا. 2 الناقة المسنة. 3 البلاغ: الكفاية. 4 الحمولة والأحمال جمع حمل. 5 القطعة من الشيء. 6 الجزع ويكسر: الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض، تشبه به العيون. 7 الذل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وأما وفاؤها، فإن أحدهم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماءة، فهي ولث1 وعقدة، لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه، فلا يغلق2 رهنه، ولا تخفر3 ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلًا استجار به وعسى أن يكون نائيا عن داره. فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته، لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث، من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيها الملك يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار، وغيرة من الأزواج. وأما قولك إن أفضل طعامهم لحوم الإبل _على ما وصفت منها_ فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا لها، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم، مع أنها أكثر البهائم شحومًا، وأطيبها لحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة4، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضًا، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفًا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد، يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمتهم، وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطث5 بالعسف.   1 عهد. 2 غلق الرهن: استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتك في الوقت المشروط. 3 خفر به وأخفره: نقض عهده وغدره. 4 شرا. 5 الوطث: الضرب الشديد بالرجل على الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأما اليمن التي وصفها الملك؛ فإنما أتى جد الملك إليها الذي1 أتاه، عند غلبة الحبش له، على ملك متسق، وأمر مجتمع؛ فأتاه مسلوبًا طريدًا مستصرخًا، ولولا ما وتر به من يليه من العرب؛ لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان، ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار". فعجب كسرى لما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك، ثم كساه من كسوته، وسرحه إلى موضعه من الحيرة. فلما قدم النعمان الحيرة، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين2 أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد، وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المرى؛ فلما قدموا عليه في الخورنق، قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم، وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات، تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولًا، كبعض طماطمته3، في تأديتهم الخراج إليه4، كما يفعل بملوك الأمم الذي حوله؛ فاقتص عليهم مقالات كسرى، وما رد عليه؛ فقالوا: أيها الملك، وفقك الله! ما أحسن ما رردت! وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت. قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم، وما تخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزكم، والرأى أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط، وتنطلقوا إلى كسرى؛ فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم   1 هو سيف بن ذي يزن. 2 تقبيح واستهجان، والهجنة من الكلام: ما يعيبه. 3 رجل طمطم "بكسر الطامين" وطمطماني "بضمهما": في لسانه عجمه. 4 كان الفرس يعفون عرب الحيرة من دفع الأتاوة مقابل أن يقوموا بحمايتهم من كل غارة من نواحيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بما حضره؛ ليعلم أن العرب على غير ما ظن، أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه؛ فإنه ملك عظيم السلطان، كثير الأعوان، متزن، معجب بنفسه، ولا تتخزلوا1 له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك، تظهر به وثاقة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظيم أخطاركم، وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها؛ فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم، علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه، فلا يكونن ذلك منكم، فيجد في آدابكم مطعنًا؛ فإنه ملك مترف، وقادر مسلط. ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائف حلل الملوك، كل رجل منهم حلة وعممه عمامة، وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية2 وفرس نجيبة، وكتب معهم كتابًا: "أما بعد: فإن الملك ألقى إلي أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم، مما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما يليها بفضل قوتها، تبلغها وشيء من الأمور، التي تعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة، وقد أوفدت إليها الملك رهطًا من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم؛ فليسمع الملك، وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم، وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم". فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن؛ فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه، وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسًا منهم؛ فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مرازبته3 ووجوه أهل مملكته، فحضروا وجلسوا على كراسي، عن يمينه   1 الانخزال: مشية في تثاقل. 2 النجيب: البعير والفرس إذا كانا كريمين عتيقين، والمهرية: نسبة إلى مهرة بن حيدان، حي تنسب إليه الإبل النجيبة. 3 جمع ززبان، بفتح الميم وضم الزاي، هو الرئيس من الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وشماله، ثم دعا على الولاء1 والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه، وأقام الترجمان2 ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.   1 التتابع والتوالي، مصدر والي. 2 ترجمان: بفتح التاء وضم الجيم وبضمهما وبفتحهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 22- خطبة أكثم بن صيفي : فقام أكثم بن صيفي فقال: "إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة1، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطي، آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر، حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء، شر البلاد بلاد لا أمير بها، شر الملوك من خافه البريء، المرء يعجز2 لا محالة3، أفضل الأولاد البررة، خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة، أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته، يكفيك من الزاد ما بلغك المحل، حسبك من شر سماعه، الصمت حكم4 وقليل فاعله، البلاغة الإيجاز، من شدد نفر، ومن تراخى تألف". فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك5 يا أكثم ما أحكمك وأوثق كلامك! لولا وضعك كلامك في غير موضعه. قال أكثم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد. قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى. قال أكثم: رب قول أنفذ من صول.   1 أي أصله اللجاجة، وهي تماحك الخصمين وتماديهما. 2 من بابي ضرب وسمع. 3 المحالة: الحيلة. 4 الحكم: الحكمة "وآتيناه الحكم صبيا". 5 ويح: كلمة رحمة، "وويل: كلمة عذاب"، وقيل هما بمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 33- خطبة حاجب بن زرارة : ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال: " ورى1 زندك، وعلت يدك، وهيب سلطانك، إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت2 مرتها، ومنعت درتها3، وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لا ينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب4 غضاضة5، والعسل حلاوة، والماء الزلال6 سلاسة7، نحت وفودها إليك، وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنها ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة، إن نوب لك حامدين خيرًا؛ فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذم دونها". قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها، قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها، قال كسرى: وذلك.   1 ورى الزند بفتح الراء وكسرها وريا ورية فهو وار وورى: خرجت ناره. وأوريته ووريته واستوريته، والزند: العود الذي يقدح به النار جمعه زناد وأزند وأزناد. 2 استحصد الحبل: استحكم، والمرة: طاقة الحبل، والقوة: العقل. كناية عن قوتهم. 3 الدرة: اللبن كالدر. 4 عصارة: شجر مر. 5 هي احتمال المكروه. والذلة والمنقصة. 6 ماء زلال: سريع المر في الحلق بارد عذب صاف سهل سلس. 7 سهولة. السلس: السهل اللين المنقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 34- خطبة الحارث بن عباد : ثم قام الحارث بن عباد البكري؛ فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها، وعلو سنائها، من طال رشاؤه1، كثر متحه2، ومن ذهب ماله، قل منحه. تناقل الأقاويل يعرف اللب، وهذا   1 الرشاء: الحبل. 2 المتح: نزع الماء من البئر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 مقام سيوجف1 بما ينطق به الركب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب، ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة، إن استنجدتنا فغير ربض2، وإن استطرقتنا3 فغير جهض4، وإن طلبتنا فغير غمض5، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحنا طوال، وأعمارنا قصار". قال كسرى: أنفس عزيزة وأمة ضعيفة، قال الحارث: أيها الملك وأنى يكون لضعيف عزة أو لصغير مرة! قال كسرى: لو قصر عمرك، لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغررًا بنفسه على الموت؛ فهي منية استقبلها، وجنان استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدمًا6، وأحبسها وهي تصرف بها، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوص خضخاضها7، حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكًا لفرساني إلى بحبوحة كبشها8، فأستمطرها دمًا، وأترك حماتها جزر9 السباع وكل نسر   1 وجف الفرس والبعير عدا، وأوجفته: أعديته، يقال: أو جف فأعجف "فما أو جفتم عليه من خيل ولا ركاب" أي ما أعملتم. 2 يقال: رجل ربض عن الحاجات لا ينهض فيها، وهو هنا جمع ربوض بالفتح من ربضت الشاة كبركت الناقة: أي لا نتقاعس عن نصرتك ولانحجم. 3 استطرق فحلًا: طلبه منه ليضرب في إله، هذا هو الأصل، والمراد استعنت بنا. 4 أجهضت الناقة والمرآة ولدها: أسقطته ناقص الخلق، والسقط: جهيض، وجمعه جهض، أي أن فحلنا إذا ضرب النياق "نكحها" لم تأت بجهض بل تنتج، والمراد أنه إن استنجد بهم أثمر ذلك الاستنجاد ولم يخب. 5 من الغمض، وهو النوم، يقال ما غمضت، ولا أغمضت، ولا اغتمضت؛ فالوصف من الأول غامض، وللمبالغة غموض، والجمع غمض أي فلا تنام عن نصرتك. 6 القدم: المضي أمام أمام، وهو يمشي القدم: إذا مضى في الحرب. والقدم: المقدام الشجاع. وفي الحديث "طوبى لعبد مغبر قدم في سبيل الله". 7 الخضخاض: نفط أسود رقيق تهنأ به الإبل الجرب "ولعله خضاخضها" بضم الخاء، والخضاخض: المكان الكثير الماء. 8 سيد القوم وقائدهم. 9 أي قطعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قشعم1. ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدًا أحشد، ولا شهودًا أوفد.   1 مسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 35- خطبة عمرو بن الشريد : ثم قام عمرو بن الشريد السلمي؛ فقال: "أيها الملك، نعم بالك، ودام في السرور حالك، إن عاقبة الكلام متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير ثقلة، وفي قليل بلغه، وفي الملوك سورة1 العز، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وحمل فيه من حمل، لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخط، ولم تتعرض لرفدك2 إن في أموالنا منتقدًا3، وعلى عزنا معتمدًا، إن أورينا4 نارًا أثقبنا، وإن أود5 دهر بنا اعتدلنا؛ إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك كافحون، حتى يحمد الصدر6 ويستطاب الخبر". قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك، قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديًا، وبأيسر إفراطي مخبرًا، ولم يلم من غربت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ. قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به. اجلس.   1 سورة المجد: أثره وعلامته، وسورة السلطان: سطوته "والسورة المنزلة" بالضم. 2 الرفد: العطاء. 3 انتقد الدراهم قبضها. 4 أو قدنا. 5 اعوج. 6 الرجوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 36- خطبة خالد بن جعفر الكلابي : ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: "أحضر الله الملك إسعادًا، وأرشده إرشادًا، إن لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعي المنطق أشد من عي السكوت، وعثار القول أنكأ1 من عبار الوعث2. وما فرصة المنطق عندنا إلا بما تهوى، وغصة المنطق بما لا تهوى غير مستساغة3، وتركي ما أعلم من نفسي، ويعلم من سمعي أنني مطيق، أحب إلي من تكلفي ما أتخوف وبتخوف مني، وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان، أنفسنا بالطاعة لك باخعة4، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة". قال له كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.   1 نكأ العدو ونكاه نكاية: قتل وجرح، وأنكأ: أي أشد نكاية وقهرًا. 2 الوعث: المكان السهل الدهس تغيب فيه الأقدام والطريق العسر. 3 أساغ الغصة ابتلعها، وساغ الشراب: سهل مدخله في الحلق. 4 خاضعة ومقرة، بخع بالحق أقر به وخضع له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 37- خطبة علقمة بن علاثة العامري : ثم قام علقمة بن علاثة العامري فقال: "نهجت1 لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد، إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج2 وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه، إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قربتنا؛ فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو قست كل رجل منهم، وعلمت منهم ما علمنا، لوجدت له في آبائه   1 وضحت. 2 مداخل، جمع مولج. كمجلس، ولج يلج ولوجًا ولجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 دنيا، أندادًا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد1 موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ2 معروف، يحمي حماه، ويروي نداماه3، ويذود أعداه، لا تخمد4 ناره، ولا يحترز منه جاره أيها الملك: من يبل العرب يعرف فضلهم؛ فاصطنع5 العرب؛ فإنها الجبال الرواسي عزًّا، والبحور الزواخر طميًّا6، والنجوم الزواهر شرفًا، والحصى عددًا، فإن تعرف لهم فضلهم بعزوك، وإن تستصرخهم7 لا يخذلوك". قال كسرى: وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه -حسبك أبلغت وأحسنت.   1 السؤدد بفتح الدال والسؤدد بضمها والسود والسيادة. 2 الظاهر أثره. 3 ندامى. جمع ندمان، وهو النديم، وجمع النديم ندماء، ونادمه: جالسه على الشراب "ندمان بمعنى منادم مصروف؛ لأن مؤنثه ندمانة، أما ندمان بمعنى نادم فلا يصرف؛ لأن مؤنثه ندمى: كل فعلان فهو أنثاه فعلى غير وصف النديم بالندمان 4 خمد: كنصر وسمع. 5 اختر واصطف. 6 طمي الماء يطمي طميًا علا، والنبت طال والبحر امتلأ، وهمته علت. 7 تستنجد بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 38- خطبة قيس بن مسعود الشيباني : ثم قام قيس بن مسعود الشيباني؛ فقال: "أطاب الله بك المراشد! وجنبك المصائب! ووفاك مكروه الشصائب1! ما أحقنا -إذ أتيناك- بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدًا في قلبك! لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعمل أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم، أنا في المنطق غير محجمين، وفي الناس غير مقصرين إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين".   1 جمع شصيبة، وهي الشدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قال: كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين "وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد1" قال قيس: أيها الملك ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر أخفر بذمته. قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة، قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما أخفر من ذمتي أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك، وانتهك من حرمتك، قال كسرى: ذلك؛ لأن من ائتمن الخانة2، واستنجد الأثمة، ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء، كيف رأيت حاجب بن زرارة، لم يحكم قواه، فيبرم، ويعهد فيوفي، ويعد فينجز، قال وما أحقه بذلك، وما رأيته إلا لي، قال كسرى: القوم بزل3 فأفضلها أشدها.   1 أي سواد العراق. 2 الخانة والخونة: جمع خائن. 3 البازل: الجمل في السنة التاسعة، والرجل الكامل في تجربته جمع بزل وبزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 39- خطبة عامر بن الطفيل العامري : ثم قام عامر بن الطفيل العامري فقال: "كثر فنون المنطق، ولبس القول أعمى من حندس1 الظلماء؛ وإنما الفخر في الفعال، والعجز في النجدة، والسودد مطاوعة القدرة2، وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالحرى3 إن أدالت4 الأيام، وثابت الأحلام أن تحدث لنا أمورًا لها أعلام5. قال كسرى: وما تلك الأعلام، قال مجتمع6 الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر، قال كسرى: متى تكاهنت يابن الطفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح   1 الليل المظلم والظلمة. 2 أي أن يأتي المرء ما يقدر عليه، فإن ذلك يبلغه السودد. 3 خليق وجدير. 4 نصرتنا. 5 أي مشهورة. 6 اجتماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 طاعن، قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء ما أنت صانع؟ قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عيث1، ولكن مطاوعة العبث.   1 الإفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 خطبة عمرو بن معد يكرب الزبيدي ... 40- خطبة عمرو بن معد يكرب الزيبدى: ثم قام عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فقال: "إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه؛ فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجعة1 الارتياد، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ2 طاعتنا بلفظك، واكتظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا، وإنا أناس يوقس3 صفاتنا قراع مناقير4 من أراد لنا قضمًا5، ولكن منعنا حمانا من كل رام لنا هضمًا".   1 النجعة: طلب الكلأ في موضعه. 2 اجتذب. 3 الوقس: انتشار الجرب في البدن، والتوقيس: الإجراب، أي لم يخدش صفاتنا ويؤثر فيها. 4 جمع منقار، وهو حديد كالفأس ينقر بها. 5 أصله الأكل بأطراف الأسنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 41- خطبة الحارث بن ظالم المري : ثم قام الحرث بن ظالم المري؛ فقال: "إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، ومن خطل الرأي خفة الملك المسلط؛ فإن أعلمناك أن مواجعتنا لك عن الائتلاف، وانقيادنا لك عن تصف، فما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق؛ ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأتِ من قبلك ميل أو زلل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم، قال إن في أسماء آبائك لدليلًا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالقدر، وأقرب من الوزر. قال الحارث: إن في الحق مغضبة. والسرو التغافل1، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة؛ فلتشبه أفعالك مجلسك، قال كسرى: هذا فتى القوم ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفتن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم؛ فتنطلقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة؛ فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم، لم أجز لكم كبيرًا مما تكلمتم به، وإني لأكره أن أجبه وفودي، أو أحنق صدورهم، والذي أحب من إصلاح مدبركم، وتألف شواذكم، والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم، وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل؛ فانصرفوا إلى ملككم، فأحسنوا موازرته، والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم؛ فإن في ذلك صلاح العامة. "العقد الفريد 1: 101".   1 السرو: المروءة في شرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 42- مخالس بن مزاحم وقاصر بن سلمة عند النعمان بن المنذر : كان مخالس بن مزاحم الكلبي، وقاصر بن سلمة الجذامي بباب النعمان بن المنذر، وكان بينهما عداوة؛ فأتى قاصرًا إلى ابن فرتنى وهو عمرو بن هند أخو النعمان بن المنذر، وقال: إن مخالسًا هحاك، وأنشده في ذلك أبياتًا؛ فلما سمع عمرو ذلك آتى النعمان؛ فشكا مخالسًا وأنشده الأبيات؛ فأرسل النعمان إلى مخالس؛ فلما دخل عليه قال: "لا أم لك! أتهجوا امرأ هو ميتًا خير منك حيًّا، وهو سقيمًا خير منك صحيحًا. وهو غائبًا خير منك شاهدًا؟ فبحرمة ماء المزن1، وحق أبي قابوس2، لئن لاح لي أن ذلك كان منك؛ لأنزعن غلصمتك من قفاك، ولا طعمنك لحمك". قال مخالس: "أبيت اللعن! كلا، والذي رفع ذروتك بأعمادها، وأمات حسادك بأكمادها، ما بلغت غير أقاويل الوشاة، ونمائم العصاة، وما هجوت أحدًا، ولا أهجو امرأً ذكرت أبدًا، إني أعوذ بجدك الكريم، وعز بيتك القديم، أن ينالني منك عقاب، أو يفاجئني منك عذاب، قبل الفحص والبيان، عن أساطير أهل البهتان". فدعا النعمان قاصرًا فسأله، فقال قاصر: "أبيت اللعن! وحقك لقد هجاه وما أروانيها سواء" فقال مخالس: "لا يأخذن أيها الملك منك قول امرئ آفك3، ولا توردني سبيل المهالك. واستدلل على كذبه بقوله: إني أرويته مع ما تعرف من عداوته"؛ فعرف النعمان صدقه فأخرجهما. فلما خرجا، قال مخالسًا لقاصر: "شقي جدك، وسفل خدك، وبطل كيدك، ولا حل للقوم جرمك، وطاش عني سهمك، ولأنت أضيق حجرًا من نفاز4، وأقل قوى من الحامل على الكراز5" فأرسلها مثلًا. "مجمع الأمثال 1: 140".   1 المزن: السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، جمع مزنة. 2 يعني نفسه وأبو قابوس كنيته. 3 كذاب. 4 الحجر: العقل، والنقاز: كرمان، وشداد: طائر أو صغار العصافير ومن قول حسان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير 5 الكراز: الكبش يحمل خرج الراعي، أي أقل قوى من الراعي يحمل زاده على الكبش، وهو مثل يضرب لمن يرمى باللؤم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 43- ضمرة بن ضمرة عند النعمان بن المنذر : قيل إن رجلًا من بني تميم يقال له ضمرة بن ضمرة، كان يغير على مسالح1 النعمان بن المنذر، حتى إذا عيل صبر النعمان، كتب إليه أن ادخل في طاعتي، ولك مائة من الإبل؛ فقبلها وأتاه؛ فلما نظر إليه ازدراه -وكان ضمرة دميمًا- فقال: تسمع بالمعيدي لا أن تراه2. فقال ضمرة: مهلًا أيها الملك. إن الرجال لا يكالون بالصيعان3. وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. إن قاتل بجنان. وإن نطق نطق ببيان. قال: صدقت لله درك هل لك علم بالأمور والولوج فيها؟ قال: والله إني لأبرم منها المسحول4. وأنقض منها المفتول. وأحيلها حتى تحول، ثم أنظر إلى مايئول. وليس للأمور بصاحب. من لا ينظر في العواقب. قال: صدقت، لله درك! فأخبرني: ما العجز الظاهر، والفقر الحاضر، والداء العياء5، والسوءة السوءاء؟ قال ضمرة: "أما العجز الظاهر؛ فالشاب القليل الحيلة. اللزوم للحليلة. الذي يحوم حولها. ويسمع قولها؛ فإن غضبت ترضاها. وإن رضيت تفداها. وأما الفقر الحاضر؛ فالمرء لا تشبع نفسه. وإن كان من ذهب خلسه6. وأما الداء العياء: فجار السوء، إن كان فوقك قهرك، وإن كان دونك همزك7. وإن أعطيته كفرك، وإن منعته شتمك؛ فإن كان ذلك جارك، فأخل له دارك، وعجل منه فرارك، وإلا فأقم بذل   1 مسالح جمع مسلحة بالفتح وهي الثغر. 2 وفي رواية "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وهو مثل يضرب لمن خبره خير من مرآه، والمعيار تصغير المعدي نسبة إلى معد وهو حي، خففت الدال استثقالًا للتشديد مع ياء التصغير، وقيل منسوب إلى معيد وهو اسم قبيلة. 3 الصيعان جمع صاع وهو مكيال يكال به، ومعياره الذي لا يختلف أربع حفنات يكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما. وحرر بعض المحققين أن الصاع المصري قد حان وثلث. 4 سحل الثوب: لم يبرم غزله. 5 داء عياه: لا يبرأ منه. 6 الحلس كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله. 7 الهمز: الغمز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وصغار، وكن ككلب هرار1، وأما السوءة السوءاء: فالحليلة الصخابة2، الخفيفة الوثابة، السليطة3 السبابة، التي تعجب من غير عجب، وتغضب من غير غضب، الظاهر عيبها، والمخوف غيبها؛ فزوجها لا يصلح له حال، ولا ينعم له بال، وإن كان غنيًّا لا ينفعه غناه، وإن كان فقيرًا أبدت له قلاه4، فأراح الله منها بعلها، ولا متع الله بها أهلها". فأعجب النعمان حسن كلامه، وحضور جوابه؛ فأحسن جائزته. واحتبسه قبله. "جمهرة الأمثال 1: 186".   1 هرير الكلب: صوته، وهو دون النباح. 2 أي كثير والجلبة من الصخب بالتحريك. 3 الطويلة اللسان من السلاطة كفصاحة. 4 القلى: البغض والكراهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 44- لبيد بن ربيعة يصف بقلة : وفد على النعمان بن المنذر عامر بن مالك مُلَاعب الأسِنّة في رهط من بني جعفر بن كلاب، فيهم لبيد بن ربيعة، فطعن فيهم الربيع بن زياد العبسي، وذكر معايبهم -وكان نديمًا للنعمان، وكانت بنو جعفر لهم أعداء- فلم يزل بالنعمان حتى صده عنهم؛ فدخلوا عليه يومًا، فرأوا منه جفاء -وقد كان يكرمهم ويقربهم- فخرجوا غضابًا، ولبيد متخلف في رحالهم، يحفظ متاعهم، ويغدو بإبلهم كل صباح يرعاها -وكان أحدثهم سنًّا- فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع؛ فسألهم عنه فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعًا، ولا سرحت لكم بعيرًا، أو تخبروني فيم أنتم؟ وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك، وصد عنا وجهه، فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه، فأزجره عنكم بقول ممض مؤلم، لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدًا؟ قالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم. قالوا: فإنا نبلوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قال: وما ذاك؟ قالوا: تشم هذه البقلة -وقدامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الأوراق، لاصقة بالأرض، تدعى التربة- فقال: "هذه التربة التي لا تذكي1 نارًا، ولا تؤهل2 دارًا، ولا تسر جارًا، عودها ضئيل، وفرعها كليل3، وخيرها قليل، أقبح البقول مرعى، وأقصرها فرعًا، وأشدها قلعًا، فتعسًا لها وجدعًا4، وبلدها شاسع5، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع6؛ فالقوا بي أخا بني عبس، أرده عنكم بتعس7 ونكس، وأتركه من أمره في لبس". فلما أصبحوا غدوا به معهم إلى النعمان؛ فذكروا حاجتهم، فاعترض الربيع، فرجز به ليبد رجزًا ما لبث معه النعمان أن تقزز منه، وأمره بالانصراف إلى أهله "مجمع الأمثال 2: 33 وجمهرة الأمثال 2: 116، والأغاني 14: 91، أبناء نجباء الأبناء ص 171، وأمالي السيد المرتضى 1: 135".   1 تذكي: تشعل. 2 أي ولا تؤدم أهل دار من الإهالة "ككتابة" وهي كل ما يؤتدم به، ويقال ثريدة مأهولة: أي فيها إهالة. 3 ضعيف. 4 قطعًا. 5 بعيد. 6 أي سائل. 7 التعس: الهلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 45- كلمات هند بنت الخس الإيادية : أتى رجل هند بنت الخس الإيادية يستشيرها في امرأة يتزوجها؛ فقالت: "انظر رمكاء1 جسيمة، أو بيضاء وسيمة، في بيت جد، أو بيت حد، أو بيت عز" قال: ما تركت من النساء شيئًا، قالت: "بلى، شر النساء تركت: السويداء الممراض2، والحميراء المحياض3 الكثيرة المظاظ4". وقيل لها: أي النساء أسوأ؟ قالت: "التي تعقد بالفناء، وتملأ الإناء، وتمذق5   1 الرمكاه: السمراء، والرمكة كحمرة لون الرماد. 2 الممراض: المسقام. 3 الكثيرة الحيض. 4 المظاظ: المنازعة والمشارة. 5 تمزج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ما في السقا" قيل: فأي النساء أفضل؟ قالت: "التي إذا مشت أغيرت1، وإذا نطقت صرصرت2، متوركة جارية3، في بطنها جارية، يتبعها جارية4". قيل: فأي الغلمان أفضل؟ قالت: "الأسوق الأعنق5، الذي إن شب كأنه أحمق" قيل: فأي الغلمان أفسل6؟ قالت: "الأويقص7 القصير العضد، العظيم الحاوية8، الأغيبر الغشاء، الذي يطيع أمه، ويعصي عمه". "الأمالي 2: 260". وقيل لها: أي الرجال أحب إليك؟ قالت: السهل النجيب، السمح الحسيب، الندب9 الأريب، السيد المهيب، قيل لها: فهل بقي أحد من الرجال أفضل من هذا؟ قالت: نعم الأهيف الهفهاف10، الأنف العياف، المفيد المتلاف، الذي يخيف ولا يخاف، قيل لها: فأي الرجال أبغض إليك؟ قالت: الأوره11 النئوم، الوكل السئوم، الضعيف الحيزوم، اللئيم الملوم، قيل لها: فهل بقي أحد شر من هذا؟ قالت: نعم، الأحمق النزاع، الضائع المضلع، الذي لايهاب ولا يطاع، قالوا: فأي النساء أحب إليك؟ قالت: البيضاء العطرة، كأنها ليلة قمرة12 قيل: فأي النساء   1 أثارت الغبار في مشيتها 2 أحدت صوبها. 3 أي حاملة لها على وركها. 4 أي هي مئناث. 5 الأسوق: الطويل الساق، والأعنق: الطويل العنق. 6 أفعل من فسل: ككرم وعلم وعني فسالة فهو فسل، أي رذل لا مروءة له. 7 الأويقص: تصغير أوقص، وهو الذي يدنو رأسه من صدره. 8 ما تحوي من الأمعاء أي استدار. 9 الندب: الخفيف في الحاجة الظريف النجيب، والأريب: العاق. 10 الأهيف وصف من الهيف بالتحريك، وهو رقة الخاصرة، والقميص الهفهاف، أي الرقيق الشفاف. 11 الأوره: الأحمق من وره كفرح. 12 ليلة قمرة وقراء ومقمرة: فيها القمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أبغض إليك؟ قالت: العنقص1 القصيرة، التي إن استنطقتها سكتت، وإن سكت عنها نطقت". "ذيل الأمالي ص 120". وقال لها أبوها يومًا: أي المال خير؟ قالت: "النخل، الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل2" قال: وأي شيء؟ قالت: "الضأن: قرية لا وباء بها. تنتجها رخالًا3، وتحلبها علالًا4، وتجز لها جفالًا5، ولا أرى مثلها مالًا" قال: فالإبل مالك توخرينها؟ قالت: "هي أذكار الرجال، وإرقاء الدماء، ومهور النساء" قال: فأي الرجال خير؟ قالت: خير الرجال المرهقون كما خير تلاع البلاد أوطؤها6 قال: أيهم؟ قالت: "الذي يسأل ولا يسأل، ويضيف ولا يضاف، ويصلح ولا يصلح". قال: فأي الرجال شر؟ قالت:"الثصيط النطيط7 الذي معه سويط8، الذي يقول أدركوني من عبد بني فلان، فإني قاتله أو هو قاتلي". قالت: فأي النساء خير؟ قالت: "التي في بطنها غلام، تحمل على وركها غلامًا، يمشي وراءها غلام" قال: فأي الجمال خير؟ قالت: "السبحل الربحل9، الراحلة الفحل". قال:   1 العنقص: المرآة البذيئة القليلة الحياء، والقليلة الجسم الكثيرة الحركة. 2 المحل: الشدة والجدب وانقطاع المطر. 3 الرخال جمع رخل كمحل وكتف، وهو الأنثى من أولاد الضأن. 4 يقال عاللت الناقة، وهو أول تحلب أول النهار ووسطه وآخره، والاسم علال ككتاب. 5 الجفال: الكثير من الصوف. 6 المرهق: من يغشاه الناس والأضياف. 7 الثطيط: الذي لا لحية له، والنطيط: الهذريان "بكسر الهاء والراء" وهو الكثير الكلام يأتي بالخطأ والصواب عن غير معرفة. 8 تصغير سوط. 9 السبحل والربحل: البعير الضخم الكثير اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أرأيتك الجذع1، قالت: لا يضرب، ولايدع، قال: أرأيتك الثني2 قالت: يضرب، وضرابه وفي3، قال: أرأيتك السدس4، قالت: ذاك العرس5. "ذيل الأمالي ص 108". وقيل لها: أي الخيل أحب إليك؟ قالت: "ذو الميعة الصنيع6، السليط التليع7، الأيد الضليع8 الملهب9 السريع" فقيل لها: أي الغيوث أحب إليك؟ قالت: "ذو الهيدب المنبعق10، الأضخم المؤتلق11 الصخب المنبثق12" وقيل لها: ما مائة من المعز؟ قالت: موبل يشف الفقر من ورائه، مال الضعيف، وحرفة العاجز" قيل: فما مائة من الضأن؟ قالت "قرية لاحمى بها" قيل: فما مائة الإبل؟ قالت: "بخ 13، جمال ومال، ومنى الرجال". قيل: فما مائة من الخيل؟ قالت:   1 أرأيتك: كلمة تقولها العرب بمعنى أخبرني: البعير إذا كان في السنة الخامسة. 2 البعير إذا كان في السادسة وألقى ثنيته. 3 قال أبو علي: الصواب أني أي بطيء. 4 السدس: البعير إذا كان في الثامنة. 5 العرس: الأسد. 6 ماع الفرس يميع: جرى، وصنعة الفرس: حسن القيام عليه، صنعت فرسي صنعًا وصنعة "بفتح الصاد فيهما" والصنيع ذلك الفرس. 7 السليط: الشديد، والحديد من كل شيء، والتليع: الطويل العنق من التلع بفتحتين وهو طول العنق. 8 الأيد ككيس: القوي، من آد يئيد أيدًا أي قوي واشتد، والضليع وصف من ضلع كفصح ضلاعة، وهي القوة وشدة الأضلاع. 9 هو الذي يجتهد في عدوه حتى يثير الغبار، من ألهب. 10 الهيدب: السحاب المتدلي، والمنبعق: المنبعج بالمطر. 11 الضخم: كشمس وسبب وأحمد وغراب: العظيم من كل شيء، وائتلق البرق وتألق: لمع. 12 الصخب: وصف من الصخب كسبب وهو شدة الصوت، والمنبثق: المتفجر. 13 بخ كقد: أي عظم الأمر وفخم، تقال وحدها وتكرر، بخٍ بخْ الأول منون مكسور، والثاني مسكن، ويقال في الإفراد: بخ ساكنة الخاء، وبخ مكسورة، وبخ منونة مضمومة، ويقال بخ بخ مسكنين، وبخ بخ منونين مكسورين، وبخ بخ مكسورين مشددين منونين كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 "طغى من كانت له ولا يوجد" قيل: فما مائة من الحمر؟ قالت: عازبة1 الليل، وخزي المجلس، لا لبن فيحلب، ولا صوف فيجز، إن ربط عيرها2 أدلى، وإن ترك ولى، وقيل لها: من أعظم الناس في عينك؟ قالت: "من كانت لي إليه حاجة". "سرح العيون ص184". وقالت: "أخبث الذئاب ذئب الغضا3، وأخبث الأفاعي أفعى الجدب، وأسرع ظباء الحلب4، وأشد الرجال الأعجف5، وأجمل النساء الفخمة الأسيلة6، وأقبح النساء الجهمة القفرة7، وآكل الدواب الرغوث8، وأطيب اللحم عوذه9، وأغلظ المواطئ الحصى على الصفا، وشر المال مالًا يزكى10 ولا يذكي11، وخير المال سكة مأبورة12، أو مهرة مأمورة13". "مجمع الأمثال 1: 174".   1 يقال جمل عازب: أي لا يروح على الحي من العزوب: وهو الغيبة والذهاب، وقولها: خزى المجلس، أي بما تحدثه من النهيق المزعج والإدلاء. 2 العير: الحمار "وغلب على الوحشي"، وأدلى: أي أخرج قضيبه ليبول أو يضرب. 3 الغضا: شجر له جمر يبق طويلًا. 4 الحلب: نبت، قال حمزة: "العرب تسمى ضروبًا من البهائم بضروب من المراعي تنسبها إليها؛ فيقولون: ظبي الحلب، وتيس الربلة "والربل محركة نبات شديد الخضرة"، وشيطان الحماطة "والحماطة كسحابة: شجر شبيه بالتين، أحب شجر إلى الحيات".. إلخ وذلك كله على قدر طباع الأمكنة والأغذية العاملة في طباع الحيوان. 5 من العجف بالتحريك وهو ذهاب السمن. 6 الطويلة المسترسلة. 7 الجهمة: مؤنث الجهم وهو الوجه الغليظ المجتمع السمج، والفقرة: القليلة الفقر بالتحريك: أي الشعر. 8 الرغوث: كل مرضعة كالمرغث. 9 ما عاذ بالعظم من اللحم. 10 زكى كرضى نما وزاد كزكا يزكو. 11 ذكى تذكية: سمن وبدن "بضم الدال". 12 السكة: السطر من النخل، والمأبورة: المصلحة، من أبرت النخل آبره إذا لقحته وأصلحته. 13 مأمورة: أي كثيرة الولد، من آمرها الله أي كثرها، وكان ينبغي أن يقال مؤمرة، ولكنه أتبع مأبورة -اقرآ كتاب بلاغات النساء ص57 فصلًا طويلًا في كلام هند بنت الخس وأختها جمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 46- خطبة كعب بن لؤي : وخطب كعب بن لؤي "وهو الجد السابع للنبي صلى الله عليه وسلم" فقال: "اسمعوا وعوا، وتعلموا تعلموا، وتفهموا تفهموا، ليل ساج1، ونهار صاج2، والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين، كل ذلك إلى بلاء، فصلوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم؛ فهل رأيتم من هلك رجع، أو ميتًا نشر، الدار أمامكم، والظن خلاف ما تقولون، زينوا حرمكم وعظموا، وتمسكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم، ثم قال: نهار وليل واختلاف حوادث ... سواء علينا حلوها ومريرها يئوبان بالأحداث حتى تأوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها3 صروف وأنباء تقلب أهلها ... لها عقد ما يستحيل مريرها على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارًا صدوقًا خبيرها ثم قال: يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا4 "صبح الأعشى 1: 112".   1 الساجي: الساكن والدائم 2 لعله ضاج من ضج القوم صاحوا وأجلبوا. 3 التأوب الرجوع. 4 فحوى الكلام وفحواؤه معناه ومذهبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 47- خطبة هاشم بن عبد مناف : يحث قريشًا على إكرام زوار بيت الله الحرام. كأن هاشم بن عبد مناف يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الححة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها، فيخطب قريشًا، فيقول: "يا معشر قريش، أنتم سادة العرب، أحسنها وجوهًا، وأعظمها أحلامًا، وأوسطها1 أنسابًا، وأقربها أرحامًا. يا معشر قريش، أنتم جيران بيت الله، أكرمكم بولايته، وخضكم بجواره، دون بني إسماعيل، وحفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره؛ فأكرموا ضيفه، وزوار بيته؛ فإنهم يأتونكم شعثًا2 غبرًا من كل بلد، فورب هذه البنية3، لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه، ألا وإني مخرج من طيب مالي وحلاله، ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فواضعه؛ فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك، وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله، لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبًا، لم يؤخذ ظلمًا، ولم يقطع فيه رحم، ولم يغتصب". "شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3. 458".   1 خيرهم: الوسط من كل شيء أعدله "قال أوسطهم ... {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ". 2 جمع أشعث: وهو ملبد الشعر مغبر. 3 الكعبة: والبنية بكسر الباء وضمها وسكون النون ما بنيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 48- خطبة هاشم بن عبد مناف في قريش وخزاعة : تنافرت قريش وخزاعة1 إلى هاشم بن عبد مناف، فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة؛ فقال في خطبته: "أيها الناس، نحن آل إبراهيم، وذرية إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة2 وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكل في كل حلف3 يجب عليه نصرته، وإجابة دعوته، إلا ما دعا إلى عقوق عشيرته، وقطع رحم، يا بني قصي: أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلا بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أحكمه4 اللجاج أخرجه إلى البغي. أيها الناس: الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام دول، والدهر غير5، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم   1 خزاعة: حي في الأزد، سموا بذلك؛ لأنهم تخزعوا عن قومهم "أي تخلفوا عنهم وانقطعوا" إقبالهم من اليمين. وذلك أنه لما تفرقت الأزد من اليمين في البلاد نزل بنو مازن على ماء بين زبيد وزمع، وأقبل بنو عمرو بن عامر فانخزعوا عن قومهم فنزلوا مكة. 2 النضر: الجد الثاني عشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقصي الجد الرابع. 3 الحلف: في العهد بين القوم والصداقة، والصديق يحلف لصاحبه أن لا يغدر به، وقوله "لكل في كل" أي لكل في صاحبه صديق يجب عليه نصرته. 4 أغضبه. 5 أي ذو غير، وغير الدهر: أحداثه المغيرة، جمع غيرة بالكسر، أو مفرد وجمعه أغيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشرف، وتهدم المجد، وإن نهنهة1 الجاهل أهون من جريرته2، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به". فقالت قريش: "رضينا بك أبا نضلة" وهي كنيته. "بلوغ الأرب 1: 322".   1 نهنهة عن الأمر: كفه وزجره. 2 في الأصل "حزيرته" وفي كتب اللغة: "حزره المال، وحزيرته: خياره" ولا معنى لها هنا، وأرى أنها مصحفة عن "جريرته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 49- خطبة عبد المطلب بن هاشم : يهنئ سيف بن ذي يزن باسترداد ملكه من الحبشة. لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه، ومنهم وفد قريش، وفيهم عبد المطلب بن هاشم؛ فاستأذنه في الكلام فأذن له، فقال: "إن الله تعالى -أيها الملك- أحلك محلًّا رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا1 شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أرومته2، وعزت جرثومته3، وثبت أصله، وبسق4 فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، فأنت -أبيت اللعن- رأس العرب وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها5 الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت   1 عليًا، من بذخ بذخًا كفرح. 2 أرومة: بالصم والفتح أي أصل. 3 أصله أيضًا. 4 علا وطال. 5 الملجأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه، نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته، وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجك بكشف الكرب الذي فجحنا1، فنحن وفد التهنئة، لا وفد المرزئة2". "العقد الفريد 1:107، وأبناء نجباء الأبناء ص 11".   1 أثقلنا. 2 رزأه ماله: كجعل وعلم أصاب شيئًا رزءًا، كارتزأه ماله، ورزاه رزءًا ومرزئة أصاب منه خيرًا: أي لسنا وافدين للعطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 50- خطبة أبي طالب : في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة خطب أبو طالب حين زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة فقال: "الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وجعل لنا بلدًا حرامًا، وبيتًا محجوجًا، وجعلنا الحاكم على الناس، ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه: برًا وفضلًا، وكرمًا وعقلًا، ومجدًا ونبلًا1، وإن كان في المال قل2؛ فإنما المال ظل زائل، وعارية3 مسترجمة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي". "صبح الأعشى1" 213، وإعجاز القرآن 126، وتهذيب الكامل 1: 4، والسيرة الحلبية 1: 133".   1 ذكاء ونجابة. 2 قلة. 3 ما يستعار، مشددة وقد تخفف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 خطبة الكهان الكاهن الخزاعي ينفر هاشم بن عبد مناف ... خطب الكهان: 51- الكاهن الخزاعي ينفر هاشم بن عبد مناف على أمية بن عبد شمس: ولي هاشم بعد أبيه عبد مناف، ما كان إليه من السقاية والرفادة1، فحسده أمية بن عبد شمس بن عبد مناف على رياسته وإطعامه، وكان ذا مال؛ فتكلف أن يصنع صنيع هاشم؛ فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش؛ فغضب ونال من هاشم، ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره؛ فلم تدعه قريش حتى نافره على خمسين ناقة سود الحدق ينحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين؛ فرضي بذلك أمية، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي -وهو جد عمرو بن الحمق، ومنزله بعسفان2، وكان مع أمية همهمة بن عبد العزى الفهري، وكانت ابنته عند أمية؛ فقال الكاهن: "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم3 مسافر، من منجد وغائر4، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أو منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر".   1 السقاية: هي إسقاء الحجيج الماء العذب، والرفادة: خرج كانت تخرجه قريش في كل موسم من أموالها، فتدفعه إليه؛ فيصنع به طعامًا للحاج يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد. 2 عسقان: موضع على مرحلتين من مكة. 3 العلم: ما نصب في الطريق يهتدي به. 4 أنجد: أتى نجدًا، وغار وأغار: أتى غورًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فقضى لهاشم بالغلبة، وأخذ هاشم الإبل؛ فنحرها وأطعمها، وغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين؛ فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية. "تاريخ الكامل لابن الأثير 2: 6، والسيرة الحلبية 1: 4، وتاريخ الطبري 2: 180". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 52- عوف بن ربيعة الأسدي يتكهن بمقتل حجر بن الحارث : كان حجر بن الحارث "أبو امرئ القيس" ملك بني أسد، وكان له عليهم إتاوة1 كل سنة لما يحتاج إليه؛ فبقي كذلك دهرًا، ثم بعث إليهم من يجبي ذلك منهم، وحجر يومئذ بتهامة؛ فطردوا رسله وضربوهم؛ فبلغ ذلك حجرًا، فسار إليهم، فأخذ سرواتهم2 وخيارهم، وجعل يقلتهم بالعصا "فسموا عبيد العصا" وأباح الأموال وصيرهم إلى تهامة، وحبس جماعة من أشرفهم منهم عبيد بن الأبرص الشاعر؛ فقال شعرًا يستعطفه فيه، ومنه قوله أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامه فرق لهم وعفا عنهم، وردهم إلى بلادهم؛ فلما صاروا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم وهو عوف بن ربيعة بن عامر الأسدي؛ فقال لهم: يا عبادي، قالوا: لبيك ربنا؛ فقال: "من الملك الصلهب3، الغلاب غير المغلب4، في الإبل كأنها الربرب5، لا يقلق رأسه الصخب، هذا دمه ينثعب6، وهو غدًا أول من يستلب" قالوا: ومن هو؟ ربنا. قال: "لولا تجيش7 نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر ضاحية8".   1 خراج. 2 سروات جمع سراة بالفتح: وهي اسم جمع سرى كغنى من سرو سروا وهو المروءة في شرف. 3 حجر صلب: شديد صلب، والصلهب أيضا: الشديد من الإبل، والرجل الطويل، وفي الشعر والشعراء والأغاني "الأصهب" ومن معانيه الأسد. 4 المغلب: المغلوب مرارًا "وهو أيضًا المحكوم له بالغلبة. ضد". 5 الربرب: القطيع من بقر الوحوش. 6 يتفجر. 7 جاشت النفس وتجيشت: ارتفعت من حزن أو فزع. 8 علانية، يقال فعله ضاحية: أي علانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فركبوا كل صعب وذلول، حتى بلغوا عسكر حجر، فهجموا عليه في قبته فقتلوه. "تاريخ الكامل لابن الأثير 1: 183، والشعر والشعراء، ص 31، والأغاني 8: 63". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 كاهن بن الحارث بن كعب يحذرهم غزو بني تميم ... 53- كاهن بني الحارث بن كعب يحذرهم غزو بنى تميم: كان بنو تميم قد أغاروا على لطيمة1 لكسرى، فيها مسك وعنبر وجوهر كثير؛ فأوقع كسرى بهم، وقتل المقاتلة، وبقيت أموالهم وذراريهم في مساكنهم لا مانع لها وبلغ ذلك بني الحارث بن كعب من مذحج؛ فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا اغتنوا بني تميم؛ فاجتمعت بنو الحارث وأحلافها من زيد وحزم بن ريان في عسكر عظيم، وساروا يريدون بني تميم؛ فحذرهم كاهن كان مع الحارث واسمه سلمة بن المغفل، وقال: "إنكم تسيرون أعقابًا2، وتغزون أحبابًا3، سعدًا وربابًا، وتردون مياهًا جبابًا4، فتلقون عليها ضرابًا، وتكون غنيمتكم ترابًا5، فأطيعوا أمري ولا تغزوا تميمًا" ولكنهم خالفوه وقاتلوا بني تميم، فهزموا هزيمة نكراء. "تاريخ الكامل لابن الأثير 1: 227، والأغاني 15: 70".   1 اللطيمة: العير تحمل الطيب وبز التجار. 2 أي يسير بعضكم بعض، فريقًا في إثر فريق. وقد ذكر ابن الأثير أنهم كانوا نحو ثمانية آلاف، ولا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه ومن جيش كسرى بذي قار ومن يوم جبلة. وروى أبو الفرج الأصبهاني أنه اجتمع من مذحج ولفها اثنا عشر ألفًا. 3 هذه الفاصلة والفاصلتان قبلها، وردت في الأصل محرفة هكذا: "إنكم تسيرون أعيانًا، وتغزون أحيانًا، سعدًا وريانًا". 4 الجباب والأجياب جمع جب: وهو البئر الكثيرة الماء البعيدة القمر. 5 أورد صاحب الأغاني من هذه الفقر الست، الفقرة الأولى والرابعة والسادسة، وعزاها إلى المأمور الحارثي وهو كاهن أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 54- أحد كهان اليمن يفصل في أمر هند بنت عتبة : كان الفاكه بن المغيرة المخزومي أحد فتيان قريش، وكان قد تزوج هند بنت عتبة، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا إذن؛ فقال1 يومًا في ذلك البيت، وهند معه، ثم خرج عنها وتركها نائمة؛ فجاء بعض من كان يغشى البيت؛ فلما وجد المرأة نائمة ولى عنها، فاستقبله الفاكه بن المغيرة، فدخل على هند وأنبها، وقال: من هذا الخارج من عندك؟ قالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني، وما رأيت أحدًا قط، قال: الحقي بأبيك، وخاض الناس في أمرهم؛ فقال لها أبوها: يابنية العار2 وإن كان كذبًا، بثيني شأنك، فإن كان الرجل صادقًا دسست عليه من يقتله، فيقطع عنك العار، وإن كان كاذبًا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، قالت: والله يا أبت إنه لكاذب، فخرج عتبة فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبين ما قلت، وإلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، قال: ذلك لك، فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش، ونسوة من بني مخزم، وخرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف؛ فلما شارفوا بلاد الكاهن تغير وجه هند، وكسف بالها، فقال لها أبوها: أي بنية، ألا كان هذا قبل أن يشتهر في الناس خروجنا؟ قالت: يا أبت والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنكم تأتون بشرًا يخطئ ويصيب، ولعله أن يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب؛ فقال لها أبوها: صدقت، ولكني سأخبره لك، فصفر بفرسه؛ فلما أدلى عمد إلى حبة بر، فأدخلها في إحليله، ثم أوكى3 عليها وسار، فلما نزلوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم، فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر، وقد خبأنا لك خبيئة، فما هي؟ قال: برة في   1 قال قيلًا وقائلة وقيلولة ومقيلًا: نام في القائلة وهي نصف النهار. 2 أي اتق العار. 3 الوكاء ككتاب: حبل يشد به رأس القربة، ووكاها وأوكاها وأوكى عليها شد فمها بالوكاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 كمرةٍ1، قال: أريد أبين من هذا، قال: "حبة بر، في إحليل مهر" قال: صدقت؛ فانظر في أمر هؤلاء النسوة؛ فجعل يمسح رأس كل واحدة منهن، ويقول: قومي لشأنك، حتى إذا بلغ هند مسح يده على رأسها وقال: "انهضي غير رقحاء2 ولا زانية، وستلدين ملكًا يسمى معاوية". فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها؛ فنثرت يده من يدها، وقالت: إليك عني، ولله لأحرصن أن يكون ذلك الولد من غيرك، فتزوجها أبو سفيان، فولدت له معاوية. "العقد الفريد 3: 224 وصبح الأعشى 1: 398، وشرح ابن أبي الحديد م1 ص111".   1 الكمرة: رأس الذكر. 2 الرقحاء: البغي التي تكتسب بالفجور، من الرقاحة كفصاحة وهو الكسب والتجارة، هذا ما ورد في ابن أبي الحديد، وفي غيره "رسحاء" والرسحاء: القبيحة، والرسحاء أيضًا: القليلة لحم العجز والفخذين والأول أنسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 55- خمسة نفر من طيئ يمتحنون سواد بن قارب الدوسي : خرج خمسة نفر من طيئ من ذوي الحجا والرأي، منهم برج من مسهر، وهو أحد المعمرين. وأنيق بن حارثة بن لأم، وعبد الله بن سعد بن الحشرج أبو حاتم طيئ، وعارف الشاعر، ومرة بن عبد رضى، يريدون سواد بن قارب الدوسي، ليمتحنوا علمه؛ فلما قربوا من السراة، قالوا: ليخبأ كل رجل منا خبيئًا، ولايخبره به صاحبه، ليسأله عنه؛ فإن أصاب عرفنا علمه، وإن أخطأ ارتحلنا عنه، فخبأ كل رجل منهم خبيئًا، ثم صاروا إليه، فأهدوا له إبلًا وطرفًا من طرف الحيرة، فضرب عليهم قبه، وتحر لهم؛ فلما مضت ثلاث دعا بهم، فدخلوا عليه. فتكلم برج -وكان أسنهم- فقال: "جادك السحاب، وأمرع لك الجناب1   1 أمرع: أخصب، والجناب: ما حول الدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وضفت عليك النعم الرغاب1، نحن أولو الآكال2، والحدائق والأغيال3، والنعم الجفال4، ونحن أسهار الأملاك، وفرسان العراك -يوري عنهم أنهم من بكر بن وائل-". فقال سواد: "والسماء والأرض، والغمر والبرض5، والقرض والفرض6، إنكم لأهل الهضاب الشم، والنخيل العم7، والصخور الصم، من أجأ العيطاء، وسلمى ذات الرقبة السطعاء8". قالوا: إنا كذلك، وقد خبأ لك كل رجل منا خبئًا؛ فتخبرنا باسمه وخبيئه؛ فقال لبرج: أقسم بالضياء والحلك9، والنجوم والفلك، والشروق والدلك10، لقد خبأت برثن فرخ11، في إعليط مرخ12، تحت آسرة الشرخ13" قال: ما أخطأت شيئًا؛ فمن أنا؟ قال: أنت برج بن مسهر، عصرة الممعر14، وثمال المحجر15".   1 الضافي: السابغ الكثير، ويقال: خير فلان ضاف على قومه: أي سابغ عليهم، والرغاب: الواسعة الكثيرة جمع رغيبة. 2 الآكل: جمع أكل "كقفل وعنق" الرزق والحظ من الدنيا. 3 الأغيال جمع غيل كشمس: وهو الماء الجاري على وجه الأرض. 4 الجفال: الكثيرة. 5 الغمر: الماء الكثير، ويقال: رجل غمر الخلق إذا كان واسع الخلق سخيًّا، والبرض: الماء القليل، ويقال فلان يتبرض حقه. أي يأخذه قليلًا قليلًا. 6 القرض: ما تعطيه لتقضاه، والفرض: ما فرضته على نفسك فوهبته أوجدت به لغير ثواب. 7 الشم: الطوال، وكذا العم. 8 أجأ وسلمى: جبلا طيئ، والعيطاء: الطويلة، وكذا السطعاء. 9 الحلك: شدة السواد. 10 دلكت الشمس دلوكًا: غربت أو اصفرت، والدلك وقت الدلوك. 11 البرثن: ظفر كل ما لا يصيد من السباع والطير مثل الحمام والضب والفأرة فإذا كان مما يصيد، قيل لظفره مخلب. 12 المرخ: شجر تقدح منه النار، والإعليط: وعاء ثمر المرخ، والعرب تشبه به آذان الخيل. 13 الآسرة والإسار: القد الذي يشد به خشب الرحل، وشرخًا الرحل جانباه. 14 الممعر: الذي ذهب ماله، والعصرة: الملجأ والمنجاة. 15 الثمال: الغياث الذي يقوم بأمر قومه، والمحجر: الملجأ "بصبغة اسم المفعول" المضيق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ثم قام أنيف بن حارثة؛ فقال: ما خبيئي وما اسمى؟ فقال: "والسحاب والتراب، والأصباب والأحداب1 والنعم والكتاب2، لقد خبأت قطامة فسيط3، وقذة مريط4، في مدرة من مدى مطيط5" قال: ما أخطأت شيئًا؛ فمن أنا؟ قال: أنت أنيف، قاري الضيف، ومعمل السيف، وخالط الشتاء بالصيف". ثم قام عبد الله بن سعد. فقال: ما خبيئي وما اسمى؟ فقال سواد: "أقسم بالسوام العازب6، والوقير الكارب7: والمجد الراكب، والمشيح الحارب8، لقد خبأت نفاثة فنن9، في قطيع قد مرن10، أو أديم قد جرن". قال: ما أخطأت حرفًا فمن أنا؟ قال: أنت ابن سعد النوال، عطاؤك سجال11، وشرك عضال، وعمدك طوال، وبيتك لا ينال". ثم قام عارف؛ فقال: ما خبيئي وما اسمي؟ قال سواد: "أقسم بنفنف اللوح12   1 الأصباب: جمع صبب كسبب: وهو ما انخفض من الأرض، والأحداب: جمع حدب كسبب أيضًا: وهو ما علا. 2 الكثيرة. 3 القطامة: ما قطمته بفيك، والقطم بأطراف الأسنان، والفسيط: قلامة الظفر. 4 القذة، الريشة، والمريط من السهام: الذي قد تمرط ريشه أي نتف. 5 المدرة: قطعة طين يابسة، والمدى: جدول صغير يسيل فيه ما هريق من ماء البئر، والمطيطة: الماء الخاثر في أسفل الحوض. 6 السوام: المال الراعي من الإبل، والعازب: البعيد. 7 الوقير: القطيع من الغنم، والكارب: القريب. 8 المشيح: الجاد، في لغة هذيل، وفي غيرها الحاذر، والحارب: السالب حربه حربًا كطلبه طلبًا: سلبه ماله. 9 النفاثة: ما تنفثه من فيك، والفنن: واحد أفنان الأشجار وهي أغصانها. 10 القطيع: ما يقطع من الشجر: ومرن وجرن: لان. 11 أي متداول بين الناس، لكل فريق منه نصيب. 12 النفنف واللوح واحد، وهما الهواء؛ وإنما أضاف لما اختلف اللفظان؛ فكأنه أضاف الشيء إلى غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والماء المسفوح1، والفضاء المندوح2، لقد خبأت زمعة طلًا أعفر3، في زعنفة4 أديمٍ أحمر، تحت حلس نضو أدبر5" قال: ما أخطأت شيئًا؛ فمن أنا؟ قال: "أنت عارف ذو اللسان العضب، والقلب الندب6 والمضاء الغرب7، مناع السرب8 ومبيح النهب". ثم قام مرة بن عبد رضًى؛ فقال: ما خبيئي وما اسمي؟ فقال سواد: "أقسم بالأرض والسماء، والبروج والأنواء9، والظلمة والضياء، لقد خبأت دمة10، في رمة11، تحت مشيط لمة12". قال: ما أخطأت شيئًا؛ فمن أنا؟ قال: أنت مرة، السريع الكرة، البطيء الفرة، الشديد المرة13". قالوا: فأخبرنا بما رأينا في طريقنا إليك؛ فقال: "والناظر من حيث لا يرى والسامع قبل أن يناجى، والعالم بما لا يدري، لقد عنت لكم عقاب عجزاء14، في شغانيب15 دوحة جرداء، تحمل جدلًا16، فتماريتم17 إما يدًا وإما رجلًا"؛ فقالوا. كذلك، ثم مه؟ قال: "سنح لكم قبل طلوع الشرق 18، سيد أمق19،   1 المصبوب. 2 الواسع. 3 الطلا: ولد الظبي ساعة يولد، والصغير من كل شيء، والأعفر من الظباء ما يعلو بياضه حمرة، والزمعة: الشعرات المتدليات في رجل الأرنب. 4 زعانف الأديم: أطرافه مثل اليدين والرجلين، ومالًا خير فيه جمع زعنفة بكسر الزاي والنون، ومنه قيل لرذال الناس الزعانف. 5 الحلس للبعير كالبرذعة للحافر، والنضو: المهزول من الإبل وغيرها، والأدبر: الذي أصابه البر "بالتحريك" وهو قرحة الدابة. 6 الذكي. 7 الحد. 8 السرب بالفتح: الماشية كلها، وبالكسر القطيع من الطباء والنساء وغيرها. 9 الأنواء: جمع نوء "كسهم" النجم: مال للغروب. 10 الدمة: القملة. 11 الرمة: العظام البالية. 12 اللمة: الشعر المجاوز شحمة الأذن، والمشيط: الممشوط. 13 المرة: القوة. 14 العجزاء: التي ابيض ذنبها، "وفي غير هذا الموضع: التي كبرت عجيزتها". 15 الشغانيب جمع شغنوب كعصفور وهو الغصن الناعم الرطب، والدوحة: الشجرة العظيمة. 16 الجدل: العضو وجمعه جدول. 17 تجادلتم. 18 الشرق: الشمس، والعرب تقول لا أفعل ذلك ما طلع شرق، وشرقت الشمس: طلعت، وأشرقت: أضاءت. 19 السيد: الذئب والأمق: الطويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 على ماء طرق1" قالوا: ثم ماذا؟ قال: "ثم تيس أفرق2، سند في أبرق3؛ فرماه الغلام الأزرق، فأصاب بين الوابلة4 والمرفق". قالوا: صدقت، وأنت أعلم من تحمل الأرض، ثم ارتحلوا عنه. "الأمالي 2: 292".   1 الطرق: الماء الذي بولت فيه الإبل، يقال: ماء طرق ومطروق. 2 الأفرق من الشاه: البعيد ما بين خصييه. 3 سند في الجليل: صعد، والأبرق والبرقاء والبرقة كفرصة: غلظ من الأرض فيه حجارة ورمل، وجبل أبرق: إذا كان فيه لونان. 4 الوايلة: رأس العضد الذي يلي المنكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 حديث مصاد بن مذعور القيني ... 56- حديث مصادر بن مذعور القيني: كان مصاد بن مذعور القيني رئيسًا، قد أخذ مرباع1 قومه دهرًا، وكان ذا مال، فند ذود2 من أذواد له، فخرج في بغائها3، قال: فإني لفي طلبها، إذ هبطت واديًا شجيرًا4 كثيف الظلال، وقد تفسخت أينًا5، فأنخت راحلتي في ظل شجرة، وحططت رحلي، ورسغت6 بعيري، واضطجعت في بردي؛ فإذا أربع جوار، كأنهن اللآلي، يرعين بهما لهن؛ فلما خالطت عيني السنة، أقبلن حتى جلسن قريبًا مني، وفي كف كل واحدة منهن حصيات تقلبهن، فخطت إحداهن ثم طرقت7، فقالت: "قلن يا بنات عراف، في صاحب الجمل النياف8، والبرد الكثاف9، والجرم10 الخفاف11"، ثم طرقت الثانية، فقالت:   1 المرباع: ربع الغنيمة، وكان يختص به الرئيس في الجاهلية. 2 زد: شرد، والذود: ثلاثة أبعرة إلى العشرة، أو خمسة عشر، أو عشرون، أو ثلاثون. 3 طلبها. 4 كثير الشجر. 5 تعبًا وكلالًا. 6 شددت رسغه. 7 الطرق: ضرب الكاهن بالحصى. 8 جعل نياف ككتاب وشداد: طويل في ارتفاع. 9 الكثيف. 10 الجسد. 11 الخفيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 "مضل أذواد علاكد1، كوم صلاخد2، منهن ثلاث مقاحد3، وأربع جدائد4، شسف صمارد5"، ثم طرقت الثالثة فقالت: "رعين الفرع6، ثم هبطن الكرع7، بين العقدات والجرع8"؛ فقالت الرابعة: "ليهبط الغائط الأفيح9، ثم ليظهر في الملا الصحصح10، بين سدير وأملح11؛ فهناك الذود رتاع بمنعوج الأجرع" قال: فقمت إلى جملي فشدده عليه رحله وركبت، ووالله ما سألتهن من هن ولا ممن هن؟ فلما أدبرت، قالت إحداهن: "أبرح 12 فتًى إن جد في طلب؛ فماله غيرهن نشب13، وسيثوب عن كثب14؛ ففزع قلبي والله قولها؛ فقلت: وكيف هذا، وقد خلفت بوادي عرجًا عكاسًا15؟ فركبت السمت16 الذي وصف لي، حتى انتهيت إلى المواضع؛ فإذا ذودي روائع، فضربت أعجازهن،   1 أضل دابته: فقدها، والعلاكد: الصلاب الشداد جمع علكد كجعفر وزبرج وقنفذ. 2 بعير أكوم، وناقة كوماء: عظيمة السنام والجمع كوم، والصلاخد: العظام الشداد، واحدهما صلاخد بالضم. 3 المقاحد جمع مقحاد، وهي الغليظة السنام "والقحدة كرقبة: السنام أو أصله". 4 الجدائد جمع جدود كصبور: وهي التي انقطع لبنها. 5 شسف جمع شاسف: وهو اليابس ضمرًا وهزالًا، والصمارد جمع صمرد كزبرج: القليلة اللبن. 6 الفرع جمع فرعة وهي أعلى الجبل. 7 الكرع: ماء السماء ينزل فيستنقع، وسمي كرعًا لأن الماشية تكرع فيه. 8 العقدات جمع عقدة: وهي ما تعقد من الرمل، والجزع جمع جرعة بالسكون ويحرك: الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها، أو الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل أو الدعص لا ينبت، أو الكثيب جانب منه رمل وجانب حجارة كالأجرع والجرعاء. 9 الغائط: المطمئن من الأرض، والأفيح: الواسع. 10 الملا: الفضاء، والصحصح والصحصاح والصحصحان: ما استوى من الأرض. 11 سدير وأملح: موضعان. 12 أشد. 13 المال الأصيل من الناطق والصامت. 14 يثوب: يرجع، والكثب: القرب. 15 العرج: نحو خمسائة من الإبل، والعكامس والغكابس: الكثير. 16 الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 حتى أشرفت على الوادي الذي فيه إبلي؛ فإذا الرعاء تدعو بالويل؛ فقلت ما شأنكم؟ قالوا: أغارت بهراء على إبلك، فأسحفتها1؛ فأمسيت والله مالي مال غير الذود، فرمى الله في نواصيهن بالرغس2، وإني اليوم لأكثر بني القين مالًا". "الأمالي 1: 143".   1 استأصلتها. 2 الرغس: البركة والنماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 57- حديث خنافر بن التوءم الحميري مع رئية شصار: كان خنافر بن التوءم الحميري كاهنًا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيًا؛ فلما وفدت وفود اليمن على النبي صلى الله عليه وسلم وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله، ولحق بالشحر؛ فحالف جودان بن يحيى الفرضمي، وكان سيدًا منيعًا، ونزل بواد من أودية الشحر مخصبًا كثير الشجر من الأيك والعرين1 قال خنافر: وكان رئي2 في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني؛ فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة، وساءني ذلك؛ فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائمًا؛ إذ هوى هوي العقاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسمع أقل، قلت: قل أسمع؛ فقال: "عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، قلت: أجل؛ فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول3، انتُسخت النِّحل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير4 موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست5 بأرض الشأم نفرًا من آل العذام6، حكامًا على الحكام، يذبرون7 ذارونق من الكلام، ليس   1 الأيك: الشجر الملتف الكثير، والغيضة تنبت السدر والأراك، أو الجماعة من كل الشجر، والعرين: جماعة الشجر. 2 الرئي: ما يتراءى للإنسان من الجن فيحب. 3 الحلول: التحول. 4 السجير: الصديق، والشجير: الغريب، وقيل يقال السجير والشجير للصديق. 5 أبصرت. 6 العذام: قبيلة من الجن، كذا قيل. 7 ذبرت الكتاب: قرأته "وذبرته أيضًا: كتبته كزبرته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف" فأصغيت فزجرت؛ فعاودت فظلفت1، فقلت: بم تهينمون2، وإلام تعتزون3؟ قالوا: "خطاب كبَّار4، جاء من عند الملك الجبار؛ فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنج من أوار5 النار"؛ فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: "فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مصر، من أهل المدر، ابتعث فظهر؛ فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآى الكبر" قلت: ومن هذا المبعوث من مضر؟ قال: "أحمد خير البشر؛ فإن آمنت أعطيت الشبر6، وإن خالفت أصليت سقر؛ فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق"، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الأحرين7 والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: "الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل8؛ فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم امَّلس9 عني، فبت مذعورًا أراعي الصباح، فلما برق لي النور، امتطيت راحلتي، وآذنت10 أعبدي، واحتملت بأهلي، حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها، بحولها وسقابها11، وأقبلت أريد صنعاء؛ فأصبت بها معاذ بن جبل أميرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام، وعلمني سورًا من القرآن، فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة". "الأمالي 1:133".   1 منعت. 2 الهينمة: الصوت الخفي. 3 تنتسبون. 4 كبير. 5 الأوار: حر النار. 6 الشبر بالسكون: الخير وحرك للسجع. 7 الحرة "بالفتح" أرض ذات حجارة نخرة سود وتجمع على حرات وحرار وحرين وأحرين. 8 النعل: المكان الغليظ من الحرة. 9 أفلت. 10 أعلمت. 1 الحول جمع حائل وهي الأنثى من أولاد الإبل، والسقاب جمع سقب كشمس وهو الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 58- شافع بن كليب الصدفي يتكهن بظهور النبي صلى الله عليه وسلم : قدم على تبع الآخر ملك اليمن، قبل خروجه لقتال المدينة1، شافع بن كليب الصدفي2، وكان كاهنًا؛ فقال له تبع: هل تجد لقوم ملكًا يوازي ملكي؟ قال: لا، إلا ملك غسان، قال: فهل تجد ملكًا يزيد عليه؟ قال: "أجده لبارٍّ مبرور، ورائد3 بالقهور4، ووصف في الزبور، فضلت   1 قال ابن إسحق: "كان تبع الآخر حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها، وخلف بين أظهرهم ابنًا له؛ فقلت غيلة، فقدمها وهو مجمع على تخريبها واستئصال أهلها؛ فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك وخرجوا لقتاله، فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلون بالنهار ويقرونه بالليل؛ فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكرام؛ فبينا هو على ذلك داءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة عالمان راسخان في العلم؛ فقالا له: قد سمعنا ما تريد أن تفعل، وإنك إن أبيت إلا ذلك، حيل بينك وبينه، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة؛ فقال: ولم ذلك؟ قالا: إنها مهاجر "بفتح الجيم" نبي يخرج من هذا الحرم من قريش تكون داره وقراره؛ فانتهى عما كان يريد، وأعجبه ما سمع منهما، واتبعها على دينهما، وكان هو وقومه أصحاب أوثان، وخرج متوجهًا إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه، ثم أطبقوا على دينه؛ فمن هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن "سيرة ابن هشام 1: 11، والكامل لابن الأثير 1: 146". 2 الصدفي نسبة إلى صدف ككتف: بطن من كندة. 3 الرائد في الأصل: المرسل في طلب الكلأ من الرواد وهو الطلب، يعني به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رائدًا لأمته يرتاد لها الخير قال عليه الصلاة والسلام في أول خطبة خطبها بكمة حين دعا قومه: "إن الرائد لا يكذب أهله". 4 جاء في معجم البلدن: "القهر "كشمس" أسافل الحجاز مما يلي نجدًا من قبل الطائف. وأنشد لخداش بن زهير: دعوا جانبي، إني سأنزل جانبًا ... لكم واسعًا بين اليمامة والقهر وأقول: هذا الوصف ينطبق على مكة فهي واقعة جنوبي الحجاز ... إلخ؛ فالمعنى: أجد ملكًا يزيد على ملكك لرائد يظهر بتلك البقاع" أما كلمة القهور فلم أجدها في معجم، ولعل الكاهن جمع "القهر" على قهور؛ لإقامة الفاصلة، أو هو على حد قوله امرئ القيس: يزيد الغلام الخف عن صهواته ... كما زلت الصفواء المتنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أمته في السفور1، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قصي". فنظر تبع في الزبور؛ فإذا هو يجد صفة النبي صلى الله عليه وسلم. "تاريخ الكامل لابن الأثير 1: 164".   1 السفر "كحمل" الكتاب الكبير، أو جزء من أجزاء التوارة، وفي كتب اللغة أنها تجمع على أسفار، ولعله جمعها على سفور للمحافظة على السجع أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 59- سطيح الذئبي 1 يعبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي: ورأى ربيعة بن نصر اللخمي ملك اليمن -وقد ملك بعد تبع الآخر- رؤيا هالته؛ فلم يدع كاهنًا، ولا ساحرًا، ولا عائفًا، ولا منجمًا من أهل مملكته إلا جمعه إليه؛ فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت2 بها، فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها؛ فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها؛ فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا؛ فليبعث إلى سطيح وشق؛ فإنه ليس أحد أعلم منهما فيها، يخبرانه بما سأل عنه، فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال له: إني قد رأيت رؤيا   1 اسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان، وكان يقال له الذئبي نسبة إلى ذئب بن عدي، وكان من المعمرين قيل عاش ثلثمائة سنة وقيل سبعمائة، وزعموا أنه لم يكن له رأس ولا عنق، وأن وجهه كان في صدره، وأنه كان جسدًا ملق لا جوارح له، وكان لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب؛ فإنه ينتفخ فيجلس، وكان له سرير، وإذا أريد استخباره ليخبر عن المغيبات يحرك كما يحرك سفاء اللبن فينتفخ ويمتلئ ويعلوه النفس؛ فيسأل فيخبر عما يسأل عنه، "كذا" وأن كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بأعالى الشأم لما حضرتها الوفاة طلبت سطيحًا وشقًا "وسيأتي ذكره" وتفلت في فهما، وذكرت أن سطيحًا يخلفها في كهانتها، ثم ماتت في يومها ذلك. 2 فظع بالأمر كفرح فظاعة: إذا هاله وغلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها؛ فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها. قال: أفعل "رأيت حممة1، خرجت من ظلمة2؛ فوقعت بأرض تهمة3، فأكلت منها كل ذات جمجمة4"؛ فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئًا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ فقال: "أحلف بما بين الحرتين5 من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش؛ فليملكن ما بين أبين6 إلى جرش7" فقال له الملك: وأبيك يا سطيح. إن هذا لنا لغائظ موجع؛ فمتى هو كائن، أفي زماني هذا أم بعده؟ قال: "لا؛ بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين" قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: "لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون بها أجميعن، ويخرجون منها هاربين" قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: " يليه إرم8 ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن" قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: "بل ينقطع" قال: ومن يقطعه؟ قال: "نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي" قال: وممن هذا النبي؟ قال: "رجل من ولد غالب بن فهر، بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر" قال: وهل للدهر من آخر؟ قال:   1 الحممة وتجمع على حمم: الفحمة والرماد وكل ما احترق من النار، وتطلق الحممة على الجمر مجازًا باعتبار ما يتول إليه وهو المراد هنا. 2 الظلمة: الظلام، وسترى في تعبير الرؤيا أنها إشارة إلى الأحباش السود. 3 التهمة بالتحريك: الأرض المنصوبة إلى البحر، كالتهم محركة أيضًا كأنهما مصدران من تهامة؛ لأن التهائم منصوبة إلى البحر ويقال أيضًا: أرض تهمة كفرحة أي شديدة الحر، من التهم بالتحريك وهو شدة الحر وفي ابن الأثير "بهمة" بالباء يقال: أرض بهمة كفرحة أي كثيرة البهمي، والبهمي بالضم اسم نبت، والضبط الأول عندي أرجح. 4 أي كل نفس 5 الحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة. 6 مخلاف باليمن منه مدينة عدن. 7 مخلاف باليمن من جهة مكة. 8 الإرم كعنب وكتف: العلم "بالتحريك" أو خاص بعاد، والعلم سيد القوم، أي يتولاه سيد نبي ذي يزن، وهو سيف بن ذي يزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 "نعم. يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون". قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: "والشفق، والغسق1، والفلق2 إذا انشق، إن ما أنبأتك به لحق".   1 الشفق: الحمرة في الأفق إلى قريب العتمة، والغسق: ظلمة أول الليل. 2 الفلق: الصبح أو ما انفلق من عموده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 60 شق أنمار 1 يعبر رؤيا ربيعة بن نصر أيضًا: ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان، قال: "نعم، رأيت حممة، خرجت من ظلمة؛ فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة"؛ فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: "أحلف بما يبن الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان؛ فليغلبن على كل طفلة2 البنان. وليملكن ما بين أبين إلى نجران3" فقال له الملك: وأبيك يا شق، إن هذا لنا لغائط موجع؛ فمتى هو كائن، أفي زماني أم بعده؟ قال: "لا، بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان" قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: "غلام بدني ولا مدن4، يخرج عليهم من بيت ذي يزن5" قال أفيدون سلطانه أم ينقطع؟ قال: "بل ينقطع برسول   1 هو شق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن أقزل بن قيس بن عبقر بن أنمار بن نزار، وزعموا أنه كان شق إنسان "أي نصفه" له يد وحدة ورجل واحدة وعين واحدة. 2 مؤنث طفل: وهو الرخص الناعم من شيء. 3 مخلاف شمالي اليمن. 4 الدني: مسهل عن دنيء، والمدني: المقصر عما ينبغي له أن يفعله، وفي ابن الأثير "مزن" بالزاى والمزن: المتهم، من أزنته بكذا أي اتهمته به. 5 وخبر ذلك أن زرعة بن كعب الملقب بذي نواس أحد ملوك التباعية باليمن "وكان قد تهود وتعصب لليهودية وحمل عليها قبائل اليمن" اضطهد نصارى نجران؛ لأن يهوديًّا بنجران عدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلمًا؛ فتوسل إلى ذي نواس باليهودية، واسنتصره عليهم؛ فحمي له ولدينه وغزاهم، ويقال إن رجلًا من أهل نجران أفلت من القتل، وسار إلى قيصر الروم يستنجده على ذي نواس؛ فبعث قيصر إلى نجاشي الحبشة يأمره بنصرة النصارى؛ فجهز جيشًا إلى اليمن، فركبوا البحر إليها، ولقيهم ذو نواس فيمن معه فدارت الدائرة عليه، وملكت الحبشة اليمن، ولما طال البلاء من الحبشة على أهلها خرج سيف بن ذي يزن الحميري وقدم على قيصر يوستنيان يستنجده على الحبشة فأبى، وقال: الحبشة على دين النصارى؛ فرجع إلى كسرى أنوشروان واستعانه، فأمده بجيش ممن كانوا في سجونه، فقاتلوا الأحباش وهزموهم؛ فرجع إلى كسرى عرش آبائه على فريضة يؤديها كل عام للفرس حتى قتل؛ فأرسل كسرى عاملًا على اليمن واستمرت عماله إلى أن كان آخرهم بإذان فأسلم، وصارت اليمن إلى الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل". قال: وما يوم الفصل؟ قال: "يوم تجزء فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه بين الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات" قال: أحق ما نقول؟ قال: "إي ورب السماء والأرض، وما يينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض1". فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا؛ فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس، يقال له سابور فأسكنهم الحيرة؛ فمن بقية والده النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. "تاريخ الطبري: 99 وسيرة ابن هشام 1: 8، والكامل لابن الأثير 1: 146". 61- وفود عبد المسيح بن بقيلة على سطيح. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لما كان ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم، ارتج إيوان كسرى، فسقطت منه أربع عشرة شرفة، فعظم ذلك أهل ممكلته، فما كان أوشك أن كتب إليه   1 أي شك أو باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 61- وفود عبد المسيح بن بقيلة على سطيح : عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لما كان ليلة ولد النبي صلى الله عليه وسلم، ارتج إيوان كسرى؛ فسقطت منه أربع عشر شرفة؛ فعظم ذلك أهل ممكلته، فما كان أوشك أن كتب إليه   1 أي شك أو باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة1 غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السماوة يخبره أن وادي السماوة2 انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية، وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة؛ فلما تواترت الكتب أبرز سريره وظهر لأهل مملكته فأخبرهم الخير، فقال الموبذان3: أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني، قال له: وما رأيت؟ قال: رأيت إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا، قال: رأيت عظيمًا فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء؛ ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلًا من علمائهم؛ فإنهم أصحاب علم بالحدثان، فبعث إليه عبد المسيح بن بقيلة الغساني؛ فلما قدم عليه أخبره كسرى الخبر، فقال له: أيها الملك، والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن جهزني إلى خال لي بالشام يقال له سطيح. قال: جهزوه؛ فلما قدم إلى سطيح وجده قد احتضر، فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يرد عليه، فقال عبد المسيح: أصم أم يسمع غطريف اليمن ... يا فاصل الخطة أعيت من ومن4 أتاك شيخ الحي من آل سنن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن5 وسول فيل العجم يهوي للوثن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن6   1 هكذا في العقد الفريد، وفي السيرة الحلبية "وورد عليه كتاب من صاحب إيليا "بالشام" يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة" وفي معجم البلدان: "ساوة مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط، بينها وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخًا، وفي حديث سطيح في أعلام النبوة: "وخمدت نار فارس وغارت بحيرة ساوة ... إلخ" ومنه يستفاد أنها في فارس. 2 موضع بين الكوفة والشام. 3 الموبذان والموبذ: فقيه الفرس وحاكم المجوس. 4 الغطريف: السيد الشريف. 5 الفضفاض: الواسع. 6 القيل: الملك، أو هو دون الملك الأعلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فرفع إليه رأسه وقال: "عبد المسيح، على جمل مشيح1، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح2، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود الديوان، ورؤيا الموبذان، رأى إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد، يا عبد المسيح: إذا كثرت التلاوة3، وظهر صاحب الهراوة4، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس؛ فليست بابل للفرس مقامًا، ولا الشام لسطيح شامًا، يملك منهم ملوك وملكات5، عدد سقوط الشرفات، وكل ما هو آت آت" ثم قال: إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوارًا دهارير6 منهم بنو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور فربما أصبحوا يومًا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير7 حثوا المطي وجدوا في رحالهم ... فما يقوم لهم سرج ولا كور8 والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور9 والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور   1 جاد سريع. 2 أي القبر، والمراد الموت. 3 أي تلاوة القرآن. 4 الهراوة: العصا الضخمة، وصاحبها هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يمسك العصا كثيرًا عند مشيته. 5 قال صاحب السيرة الحلبية: "لم أقف على أنه ملك منهم من النساء إلا واحدة وهي بوران، ملكت سنة ثم هلكت". 6 أفرطهم: تركهم وزال عنهم، قال تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62] أي متروكون فيها، ودهر دهارير: أي شديد "كليلة ليلاء ويوم أيوم". 7 المهاصير، جمع مهصار أو مهصير وهو الأسد من الهصر وهو الكسر والجذب والإمالة. 8 الكور: الرحل بأداته. 9 أولاد العلات: أولاد أمهات شتى من رجل واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ثم أتى كسرى فأخبره بما قاله سطيح فغمه ذلك، ثم تعزَّى، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا يدور الزمان، فهلكوا كلهم في أربعين سنة، وكان آخر من هلك منهم في أول خلافة عثمان رضي الله عنه. "تاريخ الطبري 2: 132 والعقد الفريد 1: 108، والسيرة الحلبية 1: 70، والمختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 1: 110". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 62- شق وسطيح ينبئان بأصل ثقيف : عن ابن الكلبي قال: "كان قسي -وهو ثقيف1- مقيمًا باليمن؛ فضاق عليه موضعه ونبا2 به، فأتى الطائف، وهو يومئذ منازل فهم وعدوان بني عمرو بن قيس بن عيلان؛ فانتهى إلى الظرف العدواني؛ فوجده نائمًا تحت شجرة فأيقظه، وقال: من أنت؟ قال: أنا الظرب، قال: علي ألية3 إن لم أقتلك، أو تحلف لي لتزوجني ابنتك؛ ففعل، وانصرف الظرب وقسي معه، فلقيه ابنه عامر بن الظرب، فقال: من هذا معك يا أبت؟ فقص قصته، قال عامر: لله أبوه! لقد ثقف4 أمره، فسمي يومئذ   1 هو أبو القبيلة المشهورة، وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، وقد اختلف النسابون في نسب ثقيف؛ فقال قوم: إنهم من هوازن، وهو القول الذي يزعمه الثقفيون، وعليه جمهور الناس، ويزعم آخرون أن ثقيفًا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وأن النخع أخوه لأبيه وأمه، ثم افترقا؛ فصار أحدهما في عداد هوازن والآخر في عداد مذحج، وقال قوم آخرون إن ثقيفًا من بقايا ثمود من العرب القديمة التي بادت وانقرضت، قال الحجاج على المنبر: يزعمون أنا من بقايا ثمود؛ فقد كذبهم الله بقوله: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 51] وقال مرة أخرى: ولئن كنا من بقايا ثمود لما نجا مع صالح إلا خيارهم _اقرأ كلمة عن نسب ثقيف في شرح ابن أبي الحديد م 2 ص 392، والعقد الفريد 3: 8، والأغاني 4: 74، ومروج الذهب 2: 68، وتاريخ الطبري 7: 233. 2 نبا به منزله: لم يوافقه. 3 الألية: اليمين. 4 ثقف ككرم وفرح: صار حاذفًا خفيفًا فطنًا. وثقف الشيء كفرح: ظفر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ثقيفًا، وعير الظرب بتزويجه قسيًّا، وقيل زوجت عبدًا؛ فسار إلى الكهان يسألهم، فانتهى إلى شق بن مصعب البجلي، وكان أقربهم منه؛ فلما انتهى إليه قال: إنا قد جئناك في أمر فما هو؟ قال: "جئتم في قَسِيٍّ، وقَسِيٌّ عبد إياد، أبق1 ليلة الواد، في وج2 ذات الأنداد، فوالى سعدًا ليغاد، ثم لوى بغير معاد" يعني سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، ثم توجه إلى سطيح الذئبي حي من غسان، ويقال إنهم حي من قضاعة نزول في غسان. فقالوا: إنا جئناك في أمر فما هو؟ قال: "جئتم في قسي، وقسي من ولد ثمود القديم، ولدته أمه بصحراء تريم3؛ فالتقطه إياد وهو عديم، فاستبعده وهو مليم4". فرجع الظرب وهو لا يدري ما يصنع في أمره. وقد وكد عليه في الحلف والتزويج، وكانوا على كفرهم يوفون بالقول؛ فلهذا يقول من قال إن ثقيفًا من ثمود؛ لأن إيادًا من ثمود". "الأغاني 4: 75".   1 هرب. 2 وج: اسم واد بالطائف. 3 رام يريم ريمًا: تباعد. 4 ألام فهو مليم: أتى ما يلام عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تنافر عبد المطلب بن هاشم والثقفيين إلى عزى سلمة الكاهن ... 63- تنافر عبد المطلب بن هاشم والتقفيين إلى عزى سلمة الكاهن: كان لعبد المطلب بن هاشم مال بالطائف يقال له: ذو الهرم1؛ فغلبه عليه خندف بن الحارث الثقفي، فنافرهم عبد المطلب إلى عزى سلمة الكاهن -أو إلى نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب2- فخرج عبد المطلب مع ابنه الحارث، وليس له يومئذ غيره، وخرج الثقفيون مع صاحبهم، وحرب بن أمية معهم على عبد المطلب؛ فنفد ماء عبد المطلب فطلب إليهم أن يسقوه؛ فأبوا، فبلغ العطش منه كل مبلغ، وأشرف   1 ضبطه في القاموس المحيط بفتح فسكون، والصحيح أنه بالتحريك كما يدل على ذلك الأسجاع الآتية. 2 وعبارة معجم ياقوت: "فنافرهم عبد المطلب إلى الكاهن القضاعي وهو سلمة بن أبي حية فخرجوا إليه إلى الشأم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 على الهلاك؛ فبيننا عبد المطلب يثير بعيره ليركب؛ إذ فجر الله له عينًا من تحت جرانه؛ فحمد الله وعلم أن ذلك منه، فشرب وشرب أصحابه ريهم وتزودوا منه حاجتهم، ونفد ماء الثقفيين، فطلبوا إلى عبد المطلب أن يسقيهم فأنعم عليهم، فقال له ابنه الحارث لأنحنين على سيفي حتى يخرج من ظهري، فقال عبد المطلب: لأسقينهم فلا تفعل ذلك بنفسك فسقاهم، ثم انطلقوا، حتى أتوا الكاهن، وقد حيثوا له رأس جرادة، في خرزة مزادة1، وجعلوه في قلادة كلب لهم يقال له سوار؛ فلما أتوا الكاهن إذا هم ببقرتين تسوقان بينهما بخرجًا2 كلتاهما تزعم أنه ولدها، ولدتا في ليلة واحدة؛ فأكل النمر أحد البخرجين. فهما ترأمان3 الباقي؛ فلما وقفتا بين يديه، قال الكاهن: هل تدرون ما تريد هاتان البقرتان؟ قالوا: لا. قال الكاهن: "ذهب به ذو جسد أربد4، وشدق مُرَمِّع5، وناب معلق6، ما للصغرى في ولد الكبرى حق" فقضى به للكبرى، ثم قال: ما حاجتكم؟ قالوا: قد خبأنا لك خبئًا؛ فأنبئنا عنه، ثم تخبرك بحاجتنا، قال: "خبأتم لي شيئًا طار فسطع، فتصوب فوقع، في الأرض منه بقع؛ فقالوا: لاده، أي بينه. قال: "هو شيء طار، فاستطار، ذو ذنب جرار، وساق كالمنشار، ورأس كالمسمار" فقالوا: لاده قال: "إن لاده فلاده7، هو   1 المزادة: الراوية، والخرز: السير يخرز به. 2 البخرج: ولد البقر. 3 رثمت ولدها: عطفت عليه ولزمته. 4 من الربدة "كصفرة": لون إلى الغبرة. 5 رمع كنع رمعانا "بالتحريك" وترمع: تحرك واضطرب، وقوله مرمع: اسم فاعل من رمع المضعف، يشير إلى أنه مفترس كاسر. 6 من أعلق الصائد إذا علق الصيد في حبالته أي نشب. 7 روى ابن الأعرابي إلاده فلاده ساكن الهاء. ويروى إلاده فلاده مكسور الهاء منونة، قال ياقوت في معجمه: "يقول إن لم يكن قولي بيانًا فلا بيان" وقال الزمخشري في المستصفى: "إن لاده فلاده بفتح الدال وبكسر، وهي كلمة فارسية معناها الضرب قد استعملها العرب في كلامها. وأصله أن الموتور كان يلقى واتره فلا يتعرض له فيقال له ذاك، والمعنى إنك إن لم تضربه الآن فلا تضربه أبدًا، والتقدير إن لا يكن ده فلا يكون ده: أي إن لا يوجد ضرب الساعة؛ فلا يوجد أبدًا، ثم اتسعوا فيه فضربوه مثلًا في كل شيء لا يقدم عليه الرجل، وقد حان حينه ووجب إحداثه من قضاء دين قد حل أو حاجة طلبت، أو ما أشبه ذاك من الأمور التي لا يسوغ تأخيرها". وقال المنذري: "قالوا معناه إلا هذه فلا هذه، يعني أنه الأصل إلاذه فلاذه فلاذه بالذال المعجمة، فعربت بالدال غير المعجمة كما قالوا يهوذا ثم عرب فقيل يهودا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 رأس جرادة، في خرز مزادة، في عنق سوار ذي القلادة"، قالوا: صدقت، فأخبرنا فيم اختصنا إليك؟ قال: "أحكم بالضياء والظلم، والبيت والحرم، أن المال ذا الرهم، للقرشى ذي الكرم" فقضى بينهم، ورجعوا إلى منازلهم على حكمة. "مجمع الأمثال 1: 30 ومعجم البلدان 8: 460". وروى الجاحظ لعزى سلمة أنه قال: "والأرض والسماء، والعقاب والصقعاء1، واقعة ببقعاء2، لقد نفر المجد بني العشراء3، للمجد والسناء4". "البيان والتبيين 1: 159".   1 الصقعة بالضم: بياض في وسط رءوس الطير وغيرها، وهو أصقع، وهي صقعاء "والصقعاء أيضًا الشمس". 2 البقعاء: اسم ماء. 3 العشراء: قوم من فزارة، ونفره عليه: قضى له عليه بالغلبة. 4 السناء: الرفعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 64- منافرة عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية : 1 تنافر عبد المطلب بن هشام وحرب بن أمية إلى النجاشي ملك الحبشة، فأبى أن ينفر بينهما، فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح، فقال لحرب:   1 وسبب ذلك أن عبد المطلب كان له جار يهودي يقال له أذينة، يتجر وله مال كثير؛ فغاظ ذلك حرب بن أمية، وكان نديم عبد المطلب، فأغرى به فتيان من قريش ليقتلوه، ويأخذوا ماله، فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار، وصخر بن عمرو بن كعب التيمي، جد أبي بكر رضي الله عنه، فلم يعرف عبد المطلب قاتله، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا هما قد استجارا بحرب بن أمية؛ فأتى حربًا ولامه وطلبهما منه فأخفاهما؛ فتغالظا في القول، حتى تنافرا إلى النجاشي فلم يدخل بينهما؛ فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب فنفر عبد المطلب عليه، فترك عبد المطلب منادمة حرب، ونادم عبد الله بن جدعان التيمي، وأخذ من حرب مائة ناقة، فدفعها إلى ابن عم اليهود، وارتجع ماله إلا شيئًا هلك، فغرمه من ماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 "يا أبا عمرو: أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم هامةً، وأوسم منك وسامة1، وأقل منك ملامة، وأكثر منك ولدًا، وأجزل صفدًا2، وأطول منك مذودًا3، وإني لأقول هذا وإنك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب، جلد المريرة4، جليل العشيرة، ولكنك نافرت منفَّرا". فغضب حرب وقال: إن من انتكاس5 الزمان أن جعلت حكمًا. "تاريخ الكامل لابن الأثير 2:6، وتاريخ الطبري 2: 181".   1 الوسامة: الحسن والجمال. 2 الصفد: العطاء. 3 المذود: اللسان. 4 المريرة: الحبل الشديد الفتل، والعزيمة. 5 أي انقلاب الزمان من انتكس أي وقع على رأسه، وفي الطبري: انتكاث بالثاء من انتكاث الحبل وهو انتقاضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 65- ما أمر به عبد المطلب بن هاشم في منامه من حفر زمزم : ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، وشرف في قومه، وعظم شأنه، ثم إنه حفر زمزم، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، التي أسقاه الله منها، وكانت جرهم قد دفنتها1، وكان سبب حفره إياها أنه قال: "بينا أنا نائم بالحج إذا أتاني آت فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟ فذهب وتركني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ فذهب وتركني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي،   1 وذلك أن جرهم لما استخفت بأمر البيت الحرام، وارتكبوا الأمور العظام، قام فيهم رئيسهم مضاض بن عمرو خطيبًا ووعظهم فلم يرعووا؛ فلما رأى ذلك منهم عمد إلى غزالين من ذهب كانا في الكعبة وما وجد فيها من الأموال أي السيوف والدروع التي كانت تهدى إليها، ودفنها في بئر زمزم، وكانت قد نضب ماؤها فحفرها مضاض بالليل وأعمق الحفر ودفن فيها ذلك وطم البئر، وما زالت مطمومة إلى زمن عبد المطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فنمت فيه؛ فجاءني فقال: احفر المضنونة. قلت: وما المضنونة؟ فذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لا تذم2، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام جافل لم يقسم3، ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثًا وعقد محكم، ليس كبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم4، عند نقرة الغراب الأعصم5، عند قربة النمل". فلما بين له شأنها، ودله على موضعها، وعرف أنه قد صدق. غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره، فحفر بين أساف ونائلة، في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها، وقد رأى الغراب ينقر هناك؛ فلما بدا له الطوي6 كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته. "تاريخ الكامل لابن الأثير 2:5، والسيرة الحلبية 1: 31، وسيرة ابن هشام 1: 90".   1 طيبة، وبرة، والمضنونة: أسماء لزمزم. 2 نزفت البئر: نزحت كنزفت بالضم، وبئر ذمة بالفتح وذميم وذميمة: قليلة الماء؛ لأنها تذم. 3 جفل النعام: أسرع وذهب في الأرض، ولم يقسم: لم يفرق. 4 أي في محنهما، والفرث: السرجين في الكرش، وذلك بين إساف ونائلة، "وإساف ككتاب وسحاب: صنم وضعه عمرو بن لحي على الصفا، ونائلة على المروة تجاه الكعبة". وكانت قريش تذبح عندهما ذبائحها التي تتقرب بها. 5 الأعصم: قيل أحمر المنقار والرجلين، وقيل أبيض البطن، وقيل أبيض الجناحين، وقيل أبيض إحدى الرجلين. 6 الطوى: البئر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 خطب الكواهن : 66- الشعثاء الكاهنة تصف سبعة إخوة : كانت عثمة بنت مطرود البجلية ذات عقل ورأي مستمع في قومها، وكانت لها أخت يقال لها خود، وكانت ذات جمال وميسم1 وعقل؛ فخطب سبعة إخوة غلمة من بطن الأزد خودًا إلى أبيها، فأتوه وعليهم الحلل اليمانية، وتحتهم النجائب الفره2؛ فقالوا: نحن بنو مالك بن غفيلة ذي النحيين، فقال لهم: انزلوا على الماء، فنزلوا ليلتهم، ثم أصبحوا غادين في الحلل والهيئة، ومعهم ربيبة3 لهم يقال لها الشعثاء: كاهنة، فمروا بوصيدها4 يتعرضون لها، وكلهم وسيم جميل، وخرج أبوها، فجلسوا إليه، فرحب بهم، فقالوا: بلغنا أن لك بنتًا، ونحن كما ترى شباب، وكلنا يمنع الجانب، ويمنح الراغب، فقال أبوها: كلكم خيار، فأقيموا نرى رأينا، ثم دخل على ابنته، فقال: ما ترين، فقد أتاك هؤلاء القوم؟ فقالت: "أنكحني على قدري، ولا تشطط في مهري، فإن تخطئني أحلامهم، لا تخطئني أجسامهم، لعلي أصيب ولدًا، وأكثر عددًا" فخرج أبوها، فقال: أخبروني عن أفضلكم. قالت ربيبتهم الشعثاء الكاهنة: "اسمع أخبرك عنهم: هم إخوة، وكلهم أسوة5.   1 الميسم والوسامة: أثر الحسن. 2 النجائب جمع نجيب: وهو البعير والفرس إذا كانا كريمين عتيقين، والفره: "كقفل وركع وكتب" جمع فاره، وهو من الدواب الجيد السير النشيط الخفيف. 3 الربيبة: الحاضنة. 4 الوصيد: الفناء "بالكسر" والعتبة. 5 الأسوة: القدوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أما الكبير فمالِك، جريء فاتك، يتعب السنابك1، ويستصغر المهالك. وأما الذي يليه فالغمر، ببحر غمر2، يقصر دونه الفخر، نهد3 صقر. وأما الذي يليه فعلقمة، صليب المعجمة4، منيع المشتمة5، قليل الجمجمة6. وأما الذي يليه فعاصم، سيد ناعم7، جلد صارم، أبي حازم، جيشه غانم، وجاره سالم، وأما الذي يليه فثواب، سريع الجواب، عتيد الصواب8، كريم النصاب9، كليث الغاب. وأما الذي يليه فمدرك، بذول لما يملك، عزوب10 عما يترك، يفني ويهلك. وأما الذي يليه فجندل، لقرنه مجدل11، مقل12 لما يحمل، يعطي ويبذل، وعن عدوه لا ينكل13". فشاورت أختها فيهم، فقالت أختها عثمة: "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل؟ 14" اسمعى مني كلمة، إن شر الغريبة يعلن، وخيرها يدفن، انكحي في قومك ولا تغررك الأجسام، فلم تقبل منها، وبعثت إلى أبيها: أنكحني مدركًا، فأنكحها أبوها على مائة ناقة ورعاتها، وحملها مدرك؛ فلم تلبث عنده إلى قليلا، حتى صبحهم فوارس من بني مالك بن كنانة، فاقتتلوا ساعة، ثم إن زوجها وإخوته وبني عامر انكشفوا، فسبوها فيمن سبوا؛ فبينما هي تسير بكت، فقالوا: ما يبكيك، أعلى فراق زوجك؟ قالت: قبحه الله، قالوا: لقد كان جميلًا! قالت: قبح الله جمالًا   1 السنابك جمع سنبك كقنفذ: وهو طرف الحاقر، أي أنه يجهد الخيل في حومة الوغى. 2 القمر: معظم البحر، والكريم: الواسع الخلق. 3 النهد: الأسد، والكريم. 4 من عجم العود إذا عضه ليعرف صلابته من خوره. 5 المشتمة: مصدر شتم، والمعنى: أنه في حرز من أن يشتم ويسب عرضه، لحسن فعله وكرم خلقه 6 الجمجمة: إخفاء الشيء في الصدر. 7 نعم كسمع ونصر وضرب فهو ناعم: أي ذو تنعم وترفه. 8 العتيد: الحاضر المهيأ. 9 النصاب: الأصل. 10 بعيد. 11 جدله: صرعه على الجدالة "كسحابة" وهي الأرض. 12 نكل عنه كضرب ونصر وعلم: نكص وجبن. 14 الدخل: ما يبطن في الشيء، وهو مثل يضرب للرجل له منظر ولا مخبر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لا نفع معه؛ إنما أبكي على عصياني أختي، وقولها: "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل" وأخبرتهم كيف خطبوها، فقال لها رجل منهم يكنى أبا نواس شاب أسود أفوه1 مضطرب الخلق: أترضين بي، على أن أمنعك من ذئاب العرب؟ فقالت لأصحابه: أكذلك هو؟ قالوا: نعم، إنه مع ما ترين ليمنع الحليلة2، وتتقيه القبيلة، قالت: هذا أجمل جمال، وأكمل كمال، قد رضيت به، فزوجوها منه. "مجمع الأمثال للميداني 1: 91".   1 الأفوه: وصف من الفوه بالتحريك، وهو سمة الفم. 2 الزوجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 67- طريفة الخير تتكهن بسيل العرم وخراب سد مأرب : قال عبد الملك بن عبد الله بن بدرون في شرح قصيدة الوزير عبد المجيد بن عبدون، التي قالها في رثاء دولة بني الأفطس بالأندلس: كان أوَّل من خرج من اليمن في أول تمزيقهم، عمرو بن عامر مزيقياء1، زمان سبب خروجه، أنه كانت له زوجة كاهنة، يقال لها "طريفة الخير"، وكانت رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت، ثم صعقت، فأحرقت كل ما وقعت عليه؛ ففزعت طريفة لذلك فزعًا شديدًا، وأتت الملك عمرًا، وهي تقول: "ما رأيت اليوم، أزال عني النوم، رأيت غيمًا رعد وبرق2 طويلًا، ثم صعق، فما وقع على شيء إلا احترق"؛ فلما رأى ما داخلها من الفزع سكنها، ثم إن عمرًا دخل حديقة له، ومعه جاريتان من جواريه؛ فبلغ ذلك طريفة، فخرجت إليه وخرج معها وصيف3، لها اسمه سنان؛ فلما برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجيد منتصبات على   1 لقب بذلك؛ لأنه كان يلبس كل يوم حلتين، ويمزقهما بالعشي، يكره العود فيهما، ويأنف أن يلبسها غيره. 2 رعدت السماء وبرقت "كنصر"، وأرعدت السماء وأبرقت، وأنكر الأصمعي الرباعي فيهما. 3 الوصيف: الخادم والخادمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أرجلهن، واضعات أيديهن على أعينهن -وهي دواب تشبه اليرابيع1- فقعدت إلى الأرض واضعة يديها على عينيها، وقالت لوصيفها: إذا ذهبت هذه المناجيد فأخبرني؛ فلما ذهبت أعلمها، فانطلقت مسرعة؛ فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو، وثبت من الماء سلحفاة. فوقعت في الطريق على ظهرها، وجعلت تروم الانقلاب فلا تستطيع، وتستعين بذنبها، فتحثو التراب على بطنها من جنباته، وتقذف بالبول قذفًا، فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض، فلما عادت السلحفاة إلى الماء، مضت إلى أن دخلت على عمرو وذلك حين انتصف النهار في ساعة شديدة الحر، فإذا الشجر يتكفأ من غير ريح، فلما رآها عمرو استحيا منها، وأمر الجاريتين بالتنحي، ثم قال لها يا طريفة: فكهنت وقالت: "والنور والظلماء، والأرض والسماء، إن الشجر لهالك، وليعودن الماء كما كان في الزمان السالك". قال عمرو: ومن خبرك بهذا؟ قالت: "أخبرتني المناجد، بسنين شدائد، يقطع فيها الولد الوالد" قال: ما تقولين.؟ قالت: "أقول قول الندمان لهفًا، لقد رأيت سلحفًا2، تجرف التراب جرفًا، وتقذف بالبول قذفًا، فدخلت الحديقة، فإذا الشجر من غير ريح يتكفَّا" قال عمرو: وماترين؟ قالت: "داهية دهياء، من أمور جسيمة، ومصائب عظيمة" قال: وما هو؟ ويلك! قالت: "أجل، إن فيه الويل، وما لك فيه من قيل3، وإن الويل فيما يجيء به السيل" فألقى عمرو نفسه عن فراشه، وقال: ما هذا يا طريفة؟ قالت: "هو خطب جليل، وحزن طويل، وخلف قليل" قال: وما علامة ما تذكرين؟ قالت "اذهب إلى السد؛ فإذا رأيت جردًا يكثر بيديه في السد الحفر، ويقلب برجليه من أجل الصخر، فاعلم أن غمر الغمر4   1 اليربوع: دويبة نحو الفأرة لكن ذنبه وأذناه أطول منها، ورجلاه أطول من يديه عكس الزرافة. 2 يقال: سلحفاة وسلحفاء وسلحفا، ويقال أيضًا سحلفا ساكنة اللام مفتوحة الحاء. 3 قال قيلًا: نام في القائلة، وهي نصف النهار، والمراد هنا الإقامة والمكث. 4 الغمر: الماء الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وأن قد وقع الأمر"، قال: وما هذا الذي تذكرين؟ قالت: "وعد من الله نزل" وباطل بطل، ونكال بنا نكل؛ فبغيرك يا عمرو فليكن النكل1، فانطلق عمرو فإذا الجوذ يقلب برجليه صخرة ما يقبلها خمسون رجلًا، "كذا" فرجع إلى طريفة فأخبرها الخبر وهو يقول: أبصرت أمرًا عادني منه ألَمْ ... وهاج لي من هوله برح السقم2 من جرذ كفحل خنزير الأجم ... أو كبش صرم من أفاريق الغنم3 يسحب صخرًا من جلاميد العرم ... له مخاليب وأنياب قضم4 ما فاته سحلًا من الصخر قصم5 فقالت طريفة: وإن من علامات ما ذكرت لك أن تجلس فتأمر بزجاجة فتوضع بين يديك؛ فإن الريح تملؤها من تراب البطحاء6، من سهلة7 الوادي ورمله، وقد علمت أن الجنان مظللة لا يدخلها شمس ولا ريح، فأمر عمرو بزجاجة فوضعها بين يديه ولم يمكث إلا قليلًا حتى امتلأت من تراب البطحاء، فأخبر عمرو طريفة بذلك وقال لها: متى يكون هلك السد؟ قالت له: فيما بينك وبين سبع سنين. قال: ففي أيها يكون؟ قالت: "لا يعلم بذلك إلا الله، ولو علمه أحد لعلمته، ولا تأتي علي ليلة فيما بيني وبين سبع السنين إلا ظننت الهلاك في غدها، أو في مسائها، ثم رأى عمرو في نومه سيل العرم، وقيل له: آية ذلك أن ترى الحصباء في سعف النخل؛ فنظر إليها، فوجد الحصباء فيها قد   1 الثكل كسبب وقفل: الموت والهلاك. 2 البرح: الشدة. 3 الأجم جمع أجمة: وهي الشجر الكثير الملتف، والصرم: الجماعة والفرقة تجمع على فرق، وجمع الجمع أفراق، وجمع جمع الجمع أفاريق، والجلاميد جمع جلمود كعصفور: الصخر. 4 العرم: السد يعترض به الوادي "ومن معانيه أيضًا المطر الشديد، والجرذ، وواد جاء السيل من قبله". 5 سحله كمنع: فشره ونحته، وقصمه: كسره. 6 البطحاء والأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى. 7 السهلة بالكسر: تراب كالرمل يجيء به الماء، وأرض سهلة كفرحة: كثيرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ظهرت؛ فعلم أن ذلك واقع، وأن بلادهم ستخرب، فكتم ذلك وأخفاء، وأجمع على بيع كل شيء له بأرض مأرب1 وأن يخرج منها هو وولده2، فخرج ثم أرسل الله تعالى على السد3 السيل فهدمه. "شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص98".   1 مأرب: مدينة باليمن، وكان في الزمان الأول قاعدة التبابعة، وهي مدينة بلقيس، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل، وتسمى سبأ باسم بانيها سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان. 2 وقد خشي أن يستنكر الناس عليه ذلك؛ فأمر أحد أولاده إذا دعاه لما يدعوه إليه أن يتأبى عليه، وأن يفعل ذلك به في الملأ من الناس، وإذا لطمه، يرفع هو يده ويلطمه، ثم صنع طعامًا وبعث إلى أهل مأرب أن عمرًا صنع يوم مجد وذكر، فأحضروا طعامه؛ فلما جلس الناس للطعام جلس عنده ابنه الذي أمره بما أمر، فجعل يأمره بأمور فيتأبى عليه وينهاه فلا ينتهي، فرفع عمرو يده فلطمه على وجهه فلطمه ابنه، وكان اسمه ملكًا، فصاح عمرو واذلاه يوم فخر عمرو يهيجه صبي ويضرب وجهه وحلف ليقتلته، فلم يزالوا بعمرو يرغبون إليه حتى تركه، فقال والله لا أقيم بموضع صنع بي فيه هذا: ولأبيعن أموالي حتى لا يرث منها بعدي شيئًا، فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غضب عمرو واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى فابتاع الناس منه كل أمواله التي بأرض مأرب، وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العرم؛ فقام الناس من الأزد فباعوا أموالهم؛ فلما أكثروا البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا أيديهم عن الشراء، ولما اجتمعت إلى عمرو أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم، ولما خرج عمرو من اليمن خرج لخروجه منها بشر كثير؛ فنزلوا أرض عك فحاربتهم عك. فارتحلوا عنها، ثم اصطلحوا وبقوا بها حتى مات عمرو بن عامر، وتفرقوا على البلاد؛ فمنهم من صار إلى الشام، وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر، ومنهم من صار إلى يثرب، وهم أبناء قبيلة الأوس والخزرج، وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وصارت أزد الشراة إلى أرض الشراة، وأزد عمان إلى عمان، وصار ملك ابن فهم إلى العراق، ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيئ فنزلت جبل طيئ أجأ وسلمى، ونزلت ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر تهامة، وسموا خزاعة لانخزاعهم وتمزقوا في البلاد كل ممزق. 3 كان السد فيما يذكر قد بناه لقمان الأكبر بن عاد، وكان رصفه لحجارة السد بالرصاص والحديد ويقال إن الذي بناه كان من ملوك حمير، وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من الشحر وأودية اليمن، فردموا ردما بين جبلين وحبسوا الماء وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث، فأخصبوا وكثرت أموالهم؛ فلما كذبوا رسولهم أرسل الله عليهم سيل العرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وقال أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني: وسارت القبائل من أهل مأرب حين خافوا سيل العرم، وعليهم مزيقياء، ومعهم طريفة الكاهنة، فقالت لهم: "لا تؤموا مكة حتى أقول، وما علمني ما أقول إلا الحكيم المحكم، رب جميع الأمم، من عرب وعجم" قالوا لها: ما شأنك يا طريفة؟ قالت: خذوا البعير الشدقم1، فخضبوه بالدم، تكن لكم أرض جرهم2، جيران بيته المحرم". "الأغاني 13: 105". وروى الميداني في مجمع الأمثال قال: "ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو ين عامر الذي يقال له مزيقيا بن ماء السماء، وكانت قد رأت في كهانتها3 أن سد مأرب سيخرب، وأنه سيأتي سبل العرم، فيخرب الجنتين4، فباع عمرو بن عامر أمواله، وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة، فأقاموا بمكة وما حولها، فاصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى، فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون، وهو مفرق بيننا. قالوا: فما تأمرين؟ قالت:   1 الواسع الشدق. 2 وكانوا يسكنون مكة؛ فأرسل إليهم عمرو أن أفسحوا لنا في بلادكم حق نقيم قدر ما نستريح ونرسل روادًا إلى الشأم وإلى الشرق؛ فحيثما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، فأبت ذلك جرهم إباء شديدًا، وقالوا: لا والله ما نحب أن ينزلوا فيضيقوا علينا مرابعنا ومواردنا، وكانت الحرب بين الفريقين، وانهزمت جرهم فلم يفلت منهم إلا الشريد. 3 كهن كهانة بالفتح فهو كاهن، وحرفته الكهانة بالكسر. 4 قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 "من كان منكم ذا هم بعيد، وجمل شديد، ومزاد1 جديد؛ فليلحق بقصر عمان المشيد2؛ فكانت أزد عمان، ثم قالت: من كان منكم ذا جلد وقسر3، وصبر على أزمات الدهر؛ فعليه بالأراك4 من بطن مر5، فكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل، والمطعمات في المحل6؛ فليلحق بيثرب ذات النخل، فكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر الخمير، والملك والتأمير، ويلبس الديباج والحرير، فليحلق ببصرى وغوير، "وهما من أرض الشام"، فكان الذي سكنوها من آل جفنة من غسان، ثم قالت: من كان منكم. يد الثياب الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق، فليلحق بأرض العراق، فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، ومن كان بالحيرة وآل محرق7". "مجمع الأمثال: 1: 186".   1 المزاد والمزايد جمع مزادة: وهي الراوية. 2 المشيد: المرفوع، قال مسلم بن الوليد في رثاه يزيد بن مزيد: أما هدت لمصرعه نزار؟ بلى، وتقوض المجد المشيد. 3 قسره على الأمر: قهره. 4 الأراك: القطعة من الأرض، وموضع بعرفات، وجيل بهذيل. 5 مر بن أد بن طابخة. 6 المحل: الشدة والجدب. 7 هو عمرو بن هند؛ لأنه حرق مائة من بني تميم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 68- حديث زبراء الكاهنة مع بني رئام من قضاعة : كان ثلاثة أبطن من قضاعة مجتورين1 بين الشحر وحضرموت: بنو ناعب، وبنو داهن، وبنو رئام وكانت بنو رئام أقلهم عددًا، وأشجعهم لقاء وكانت لبني رئام عجوز تسمى خويلة، وكانت لها أمة من مولدات العرب تسمى زبراء وكان يدخل على خويلة أربعون رجلًا، كلهم لها محرم، بنو إخوة وبنو أخوات، وكانت خويلة عقيمًا، وكان بنو ناعب، وبنو داهن متظاهرين على بني رئام؛ فاجتمع بنو رئام ذات يوم في عرس لهم، وهم سبعون رجلًا، كلهم شجاع بئيس2، فطعموا وأقبلوا على شرابهم، وكانت   1 متجاورين. 2 البئيس: الشجاع، من بؤس ككرم بأسًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 زبراء كاهنةً؛ فقالت لخويلة: انطلق بنا إلى قومك أنذرهم، فأقبلت خويلة تتوكأ على زبراء، فلما أبصرها القوم، قاموا إجلالًا لها. فقالت: "يا ثمر الأكباد، وأنداد1 الأولاد، وشجا2 الحساد، هذه زبراء، تخبركم عن أنباء، قبل انحسار الظلماء، بالمؤيد3 الشنعاء، فاسمعوا ما تقول". قالوا: وما تقولين يا زبراء؟ قالت: "واللوح4 الخافق، والليل الغاسق5، والصباح الشارق، والنجم الطارق6، والمزن الوادق7، إن شجر الوادي ليأدو ختلًا8، ويخرق أنيابًا عصلًا9، وإن صخر الطود لينذر ثكلًا10، لا تجدون عنه معلًا11". فوافقت قومًا أشارى12 سكارى، فقالوا: "ريح خجوج13، بعيدة ما بين الفروج، أتت زبراء بالأبلق النتوج14". فقالت زبراء: "مهلًا يا بني الأعزة، والله إني لأشم ذفر15 الرجال تحت الحديد"   1 أنداد: جمع ند بالكسر، وهو المثل والنظير. 2 الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه. 3 المؤيد: الداهية والأمر العظيم. 4 اللوح بالضم والفتح "والضم أعلى": الهواء بين السماء والأرض. 5 غسق الليل كجلس: اشتدت ظلمته. 6 الطارق: في الأصل، كل من أتى ليلًا، ثم استعمل النجوم لطلوعها ليلًا. 7 المزن: السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، والوادق من ودق المطر كوعد: قطر. 8 أدوت له آدو أدوا إذا ختلته وخدعته "ودأيت له، ودألت له أيضًا" والختل: الخدع. 9 حرق أنيابه: إذا حك بعضها ببعض، والعرب تقول عند الغضب بغضبه الرجل على صاحبه: "هو يحرق على الأرم" والأرم كسكر: الأضراس، والعصل: المعوجة جمع أعصل. 10 الطود: الجيل، والثكل، الفقد. 11 المعل: المنجى. 12 الأشر محركة: المرح. 13 الخجوج: السريع المر. 14 الأبلق: وصف من البلق محركة، وهو ارتفاع البياض في قوائم القرس إلى الفخذين، والأبلق لا يكون نتوجًا، والعرب تضرب هذا مثلًا للشيء الذي لا ينال، تقول "طلب الأبلق العقوق؛ فلما فاته أراد بيض الأتوق" والعقوق كصبور: الحامل، والأفوق كصبور أيضًا، الذكر من الرخم ولا بيض له، هذا قول بعض اللغويين؛ فالمعنى أنه طلب ما لا يمكن، فلما لم يجد طلب أيضًا ما لا يكون ولا يوجد، وعامتهم يقولون: الأنوق الرخمة وهي تبيض في مكان لا يوصل فيه إلى بيضها إلا بعد عناء؛ فالمعنى أنه طلب ما لا يقدر عليه، فلما لم ينله طلب ما يجوز أن يناله. 15 الذفر: حدة الريح، يكون في النتن والطيب "والدفر لا يكون إلا في النتن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فقال لها فتى منهم يقال له هذيل بن منقذ: "يا خذاق1، والله ما تشمين إلا ذفر إبطيك" فانصرفت عنهم وارتاب قوم من ذوي أسنانهم؛ فانصرف منهم أربعون رجلًا، وبقي ثلاثون، فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو داهن وبنو ناعب؛ فقتلوهم أجمعين، وأقبلت خويلة مع الصباح، فوقفت على مصارعهم، ثم عمدت إلى خناصرهم؛ فقطعتها وانتظمت منها قلادة، وألقتها في عنقها، وخرجت حتى لحقت بمرضاوى بن سعوة المهري. وهو ابن أختها فأناخت بفنائه، فاستعدته على بني داهن وبني ناعب، فخرج في منسر2 من قومه، فطرقهم فأوجع فيهم. "الأمالي 1: 126".   1 خذاق: كناية عما يخرج من الإنسان، يقال: خذق ومزق وزرق. 2 المنسر من الخيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين، أو من الأربعين إلى الخسمين، أو إلى الستين أو المائة إل المائتين، وقطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 69- كاهنة ذي الخلصة تتكهن بما في بطن رقية بنت جشم : زعموا أن رقية بنت جشم بن معاوية ولدت نميرًا وهلالًا وسواءة، ثم اعتاطت1فأتت كاهنة بذي الخلصة2 فأرتها بطنها، وقالت: إني قد ولدت ثم اعتطت؛ فنظرت إليها ومست بطنها، وقالت: "رب قبائل فرق، ومجالس حلق، وظعن3حزق4 في بطنك زق5".   1 اعتاطت المرأة: لم تحمل سنين من غير عقر. 2 ذو الخلصة محركة وبضمتين: بيت كان يدعى الكعبة اليمانية لخثعم، كان فيه صنم اسمه الخلصة. 3 الظعن والظعائن جمع ظعينة: وهي الهودج سواء كان فيه امرأة أم لا، والمرأة ما دامت في الهودج، ويقال، الظعينة في الأصل وصف للمرأة في هودجها، ثم سميت بهذا الاسم وإن كانت في بيتها؛ لأنها تصير مظعونة "أي يظعن بها زوجها؛ فهي فعيلة بمعنى مفعولة". 4 الحزق والحزقة "بكسر الهاء" والحازق والحزيق والحزيقة والحزاقة "بالفتح" الجماعة، والجمع حزائق وحزيق وحزق "بضمتين". 5 أي وضع واصل الزق: رمى الطائر بذرقه، والمعنى: رب جنين منه قبائل متفرقة، ويتناسل منه ذكران يتحلقون في المجالس والأندية وجماعات من النسوة قد أودع بطنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فلما مخضت1 بربيعة بن عامر2، قالت إني أعرف ضرطى بهلال، "أي هو غلام، كما أن هلالًا كان غلامًا". "مجمع الأمثال 1: 321".   1 مخضت كسبع ومنع وعنى: أخذها الطلق. 2 هو ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ومن نسله بنو كلاب بن ربيعة بن عامر وبنو جعفر بن كلاب بن ربيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 70- رأى سلمى الهمدانية في حريم المرادي: أغار رجل من "مراد" يقال له "حريم" على إبل عمرو بن براقة الهمداني وخيل له؛ فذهب بها؛ فأتى عمرو سلمى الهمدانية، وكانت بنت سيدهم، وعن رأيها كانوا يصدرون، فأخبرها أن حريمًا المرادي أغار على إبله وخيله، فقالت: "والخفو والوميض1، والشفق كالإحريض2، والقلة والحضيض3، إن حريمًا لمنبع الحيز4، سيد مزيز5 ذو معقل حريز، غير أني أرى الحمة6 ستظفر منه بعثرة، بطيئة الجبرة، فأغر ولا تنكع7" فأغار عمرو، فاستاق كل شيء له، فأتى حريم بعد ذلك يطلب إلى عمرو أن يرد عليه بعض ما أخذ منه، فامتنع ورجع حريم. "الأمالي 2: 123".   1 الخفو: اللمعان الضعيف، والوميض: أشد من الخفو. 2 الأحريض: العصفر. 3 القلة: أعلى الرأس والجبل وكل شيء، والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل. 4 الناحية. 5 مزيز: فاضل، من قولهم هذا أمز من هذا أي أفضل منه. 6 الحمة: القدر "محركة"، وقيل هي واحد الحمام "بالكسر". 7 نكعه عن الأمر "كمنع" رده ودفعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 تنافر الجعفاء بنت علقمة وصواحباتها إلى الكاهنة السعدية ... 71- تنافر العجفاء بنت علقمة وصواحباتها إلى الكاهنة السعدية: روي أن العجفاء بنت علقمة السعدي، وثلاث نسوة من قومها، خرجن فاتعدن بروضة يتحدثن فيها، فوافين بها ليلًا في قمر زاهر، وليلة طلقة ساكنة، وروضة معشبة خصبة؛ فلما جلسن قلن: ما رأينا كالليلة ليلة، ولا كهذه الروضة روضة أطيب ريحًا ولا أنضر، ثم أفضن في الحديث؛ فقلن: أي النساء أفضل؟ قالت إحداهن: الخروج1 الودود الولود. قالت الأخرى: خيرهن ذات الغناء2، وطيب الثناء، وشدة الحياء. قالت الثالثة: خيرهن السموع الجموع، النفوع غير المنوع. قالت الرابعة: خيرهن الجامعة لأهلها، الوادعة الرافعة، لا الواضعة. قلن: فأي الرجال أفضل؟ قالت إحداهن: خيرهم الحظ3 الرضي، غير الحظل4 البطي. قالت الثانية: خيرهن السيد الكريم، ذو الحسب العميم، والمجد القديم. قالت الثالثة: خيرهن السخي، الوفي الرضي، الذي لا يغير5 الحرة، ولا يتخذ الضرة. قالت الرابعة: وأبيكن، إن في أبي لنعتكن، كرم الأخلاق، والصدق عند التلاق، والفلج6 عند السباق، ويحمد أهل الرفاق. قالت العجفاء عند ذلك: كل فتاة بأبيها معجبة. وفي بعض الروايات أن إحداهن قالت: إن أبي يكرم الجار، ويعظم الخطار7، وينحر العشار8، بعد الحوار9، ويحمل الأمور الكبار، ويأنف من الصغار؛ فقالت   1 الحرود والخريد والخريدة: الحيية الطويلة السكوت الخافضة الصوت المتسترة. 2 الكفاية والمنفعة. 3 الحظي: ذو الحظوة والمكانة عند روحه، والحظية كذلك. 4 رجل حظل ككتف وشداد وصبور: مقتر يحاسب أهله بما ينفق عليهم، وفي مجمع الأمثال "غير الحظال، ولا التبال" والتبال بالتشديد من التبل "بفتح فسكون" وهو الحقد. 5 أغار امرأته: تزوج عليها. 6 الفوز والظفر. 7 الخطار جمع خطر كسبب وهو السبق يتراهن عليه. 8 العشار جمع عشراء كنفساء وهي من النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية. 9 الحوار بالضم وقد يكسر: ولد الناقة ساعة تضعه أو إلى أن يفصل عن أمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الثانية: إن أبي عظيم الخطر، منيع الوزر1، عزيز النفر، يحمد منه الورد والصدر؛ فقالت الثالثة: إن أبي صدوق اللسان، حديد الجنان، رذوم2 الجفان، كثير الأعوان، يروي السنان، عند الطعان، قالت الرابعة: إن أبي كريم النزال، منيف المقال، كثير النوال، قليل السؤال، كريم الفعال. ثم تنافرت إلى كاهنة معهن في الحي؛ فقلن لها: اسمعي ما قلنا، واحكمي بيننا واعدلي، ثم أعدن عليها قولهن؛ فقالت لهن: "كل واحدة منكن ماردة3، بأبيها واجدة4، على الإحسان جاهدة، لصواحباتها حاسدة؛ ولكن اسمعن قولي: خير النساء المبقية على بعلها، الصابرة على الضراء مخافة أن ترجع إل أهلها مطلقة؛ فهي تؤثر حظ زوجها على حظ نفسها؛ فتلك الكريمة الكاملة، وخير الرجال الجواد البطل، القليل الفشل، إذا سأله الرجل، ألفاه قليل العلل، كثير النفل5، ثم قالت: كل واحدة منكن بأبيها معجبة. "مجمع الأمثال 2: 54 وجمهرة الأمثال 2:133".   1 الوزر: الملجأ. 2 الرذوم: القصعة الممتلئة تتصبب جوانبها. 3 أي قد بلغت الغاية. 4 وجد به "بالكسر" أحبه. 5 النفل: الهبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 72- عفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبد كلال : روي أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة؛ فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنئونه؛ فرفع الحجاب عن الوافدين، وأوسعهم عطاء، واشتد سروره بهم؛ فبينما هو كذلك إذ نام يومًا فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وهالته في حال منامه؛ فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئًا، وثبت ارتياعه في نفسه بها؛ فانقلب سروره حزنًا، واحتجب عن الوفود حتى أساءوا به الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن، ثم يقول له: أخبرني عما أريد أن أسألك عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنًا عليه إلا كان إليه منه ذلك؛ فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت؛ فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك، إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه؛ لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطف وأظرف من أتباع الكهان؛ فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهان، فلم يجد عند واحدة منهن علمًا مما أراد علمه، ولما يئس من طلبته سلا عنها، ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد، فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه؛ فرفعت له أبيات من ذرا1 جبل، وكان قد لفحه الهجير؛ فعدل إلى الأبيات، وقصد بيتًا منها كان منفردًا عنها؛ فبرزت إليه منه عجوز؛ فقالت له: انزل بالرحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة2، والعلبة المترعة3، فنزل عن جواده، ودخل البيت؛ فلما احتجت عن الشمس، وحفقت عليه الأرواح4، نام فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير؛ فجلس يمسح عينه؛ فإذا هو بين يديه فتاة لم ير مثلها قوامًا ولا جمالًا؛ فقالت: "أبيت اللعن أيها الملك الهمام! هل لك في الطعام؟ " فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرفته، وتصام عن كلمتها؛ فقالت له: "لا حذر، فداك البشر، فجدك الأكبر، وحظنا بك الأوفر". ثم قربت إليه ثريدًا وقد يدًا وحيسًا5، وقامت تذب عنه، حتى انتهى أكله، ثم سقته لبنًا صريفًا وضريبًا6؛ فشرب ما شاء، وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة؛ فملأت عينيه حسنًا، وقلبه هوى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عفيراء، فقال لها: يا عفيراء، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: "مرثد العظيم الشأن، حاش الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان"، فقال يا عفيراء:   1 أي في كنفه وستره. 2 الجفنة: القصعة، والمدعدعة: التي ملئت بقوة ثم حركت حتى تراص ما فيها، ثم ملئت بعد ذلك. 3 العلبة: قدح ضخم من جلود الإبل أو من خشب يحلب فيها، والمترعة: المملوءة. 4 الأرواح، وللرياح جمع ريح. 5 القديد: اللحم المقددة، أو ما قطع منه طولًا، ولا حيس: تمر يخلط بسمن وأقط، فيعجن شديدًا ثم يندر منه نواه "والأقط شيء يتخذ من المخيض الغنمي". 6 الصريف: اللبن ساعة حلب، والضريب: اللبن يحلب من عدة لقاح في إناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: "أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث1 أحلام". قالت الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: "رأيت أعاصير2 زابع بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس3 صادع: هلموا إلى الشارع4، فروي جارع5، وغرق كارع6" فقال الملك: أجل، هذه رؤياي؛ فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: "الأعاصير الزوابع، ملوك تبابع7، والنهر علم واسع، والداعي نبي شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدو منازع". فقال الملك: يا عفيراء، أسلم هذا النبي أم حرب؟ فقالت: "أقسم برافع السماء ومنزل الماء من القماء8، إنه لمطل الدماء9، ومنطق العقائل نطق الإماء10". فقال الملك: إلام يدعو يا عفيراء؟ قالت: "إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام: وتعطيل أزلام11، واجتناب آثام" فقال الملك:   1 أضغاث أحلام: رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها. 2 الأعاصير جمع إعصار وهو الربح التي تهب من الأرض كالعمود نحو السماء، أو التي فيها العصار بالكسر وهو الغبار الشديد. 3 الجرس: الصوت. 4 المشارع جمع مشرعة وهي مورد الشاربة. 5 جارع: فاعل من جرع الماء كسمع ومنع إذا بلعه. 6 كارع فاعل من كرع في الماء كسمع ومنع تناوله بغية من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء. 7 التبايع جمع تبع كسكر: ملوك اليمن. 8 العماء: السحاب الكثيف. 9 انظر قوله عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع "وإن دماء الجاهلية موضوعة". 10 العقائل: كرائم النساء جمع عقيلة، والنطق جمع نطاق ككتاب النطاق والمنطقة: ما تشد به المرأة وسطها للمهنة، ونطقها تنطيقًا: ألبسها النطاق فتنطقت وانتطقت ومنطق النساء أي يسبيهن فيشددن النطق على أوساطهن للخدمة كالإماء. 11 الأزلام جمع زلم كسبب قداح كان العرب يستقسمون بها في الجاهلية "أي يطلبون معرفة ما قسم لهم" وذلك أنهم كانوا إذا قصدوا فعلًا من تجارة أو سفر أجالوا ثلاثة قداح "للقداح جمع قداح بالكسر وهو السهم قبل أن يراش" وكانت عند أصنامهم، أحدها مكتوب عليه: أمرني ربي، والثاني: نهاني ربي، والثالث: غفل؛ فإن خرج الأول مضوا في الأمر، أو الثاني أحجموا عنه، أو الثالث أجالوها ثانية حتى يخرج أحد الأولين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يا غفيراء، إذا ذبح قومه فمن أعضاده1؟ قالت: أعضاده غطاريف2 يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث3 بهم الحزون وإلى نصره يعتزون". فأطرق الملك يؤامر4 نفسه في خطبتها، فقالت: "أبيت اللعن أيها الملك! إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور5". فنهض الملك وجال في صهوة6 جواده، وانطلق، فبعث إليها بمائة ناقة كوماء7. "بلوغ الأرب 3: 296".   1 الأعضاد: الأنصار جمع عضد، والذبح معروف، والمراد هنا إذا قطعوه وتركوا نصرته. 2 الغطاريف جمع غطريف وهو السيد الشريف. 3 يسهل، والحزون جمع حزن كشمس وهو ما غلط من الأرض. 4 يشاور. 5 الثبور: الهلاك. 6 الصهوة: مقعد الفارس من ظهر فرسه. 7 الكوماء: الناقة العظيمة السنام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الوصايا : 73- وصية أوس بن حارثة لابنه مالك : عاش الأوس بن حارثة دهرًا، وليس له ولد إلا مالك، وكان لأخيه الخزرج خمسة: عمرو، وعوف، وجشم، والحرث، وكعب؛ فلما حضره الموت، قال له قومه: قد كنا نأمرك بالتزويج في شبابك؛ فلم تزوج حتى حضرك الموت، فقال الأوس: "لم يهلك هالك، ترك مثل مالك، وإن كان الخزرج ذا عدد، وليس لمالك ولد؛ فلعل الذي استخرج العذق1 من الجريمة2، والنار من الوثيمة3، أن يجعل لمالك نسلا، ورجالًا بسلًا4، يا مالك، المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد، واعلم أن القبر خير من الفقر، وشر شارب المشنق5، وأقبح طاعم المقتف6، ودهاب البصر خير من كثير من النظر، ومن كرم الكريم، الدفاع عن الحريم، ومن قل ذل، ومن أمر7 فل، وخير الغنى القناعة، وشر الفقر الضراعة، والدهر يومان، فيوم   1 العذق: النخلة بحملها والعذق "بكسر العين" القنو منها. 2 النواة. 3 الوثيمة: الحجارة، وثمه: كسره ودقه. ووثم الفرس الأرض: رجمها بحوافره. ومن أيمان العرب لا والذي أخرج العذق من الجريمة. والنار من الوثيمة، وقولهم: لا والذي شقهن خمسًا من واحدة يعنون الأصابع، وقولهم: لا والذي أخرج قائبة من توب يعنون فرخًا من بيضة. لا والذي وجهي زمم بيته "بالتحريك" أي قصده وحذاءه. 4 شجعانًا: جمع باسل. 5 المستقصي، اشتف ما في الإناء شربه كله. واشتف إذا شرب الشفافة "بالضم"، وهي البقية تبق في الإناء. 6 الآخذ بعجلة، ومنه سمي القفاف وهو من يسرق الدراهم بين أصابعه. 7 أمر كفرح أمرا وأمرة: كثروتم فهو أمر وآمر الله وأمره كنصره كثره: "وإذا أردنا أن يهلك قرية أمرنا مترفيها". أي كثرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 لك ويوم عليك؛ فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر؛ فكلاهما سينحسر1، فإنما تعز2 من ترى ويعزك من لا ترى، ولو كان الموت يشترى، لسلم منه أهل الدنيا؛ ولكن الناس فيه مستوون، الشريف الأبلج، واللئيم المعلهج3، والموت المفيت؛ خير من أن يقال لك هبيت4، وكيف بالسلامة، لمن ليست له إقامة، وشر من المصيبة سوء الخلف، وكل مجموع إلى تلف، حياك إلهك. "الأمالي 1: 102، وشرح ابن أبي الحديد 4:154".   1 ينكشف. 2 تغلب. عزه يعزه كنصره عزا، وعزيعز كضرب عزا وعزة صار عزيزا. 3 المتناهي في الدناءة واللؤم. 4 الأحمق الضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 74- وصية ذي الإصبع العدواني لابنه أسيد لما احتضر1 ذو الإصبع دعا ابنه أسيدًا؛ فقال له: يا بني إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإن موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني، ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم، يكرمك كبارهم، ويكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك، وارحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ2؛ فإن لك أجلًا لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئًا، فبذلك يتم سؤددك. "الأغاني 3: 6".   1 حضره الموت. 2 أي في وقت الصريخ وهو نداء المستغيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 75- وصية عمرو بن كلثوم لبنيه: أوصى عمرو بن كلثوم التَّغْلَبي؛ فقال: يا بني إني بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي وأجدادي، ولا بد من أمر مقتبل، وأن ينزل بي ما نزل بالآباء والأجداد، والأمهات والأولاد، فاحفظوا عني ما أوصيكم به: إني والله ما عيرت رجلًا قط أمرًا إلا عير بي مثله، إن حقًّا فحقًّا، وإن باطلًا فباطلًا، ومن سب سب، فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم، وصلوا أرحامكم، تعمر داركم، وأكرموا جاركم يحسن ثناؤكم، وزوجوا بنات العم بني العم؛ فإن تعديتم بهن إلى الغرباء، فلا تألوا بهن الأكفاء، وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال؛ فإنه أغض للبصر، وأعف للذكر، ومتى كانت المعاينة واللقاء؛ ففي ذلك داء من الأدواء ولا خير فيمن لا يغار لغيره. كما يغار لنفسه، وقل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته، وامنعوا القريب من ظلم الغريب، فإنك تذل على قريبك، ولا يحل بك ذل غريبك وإذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم للقاء، فرب رجل خير من ألف، وود خير من خلف، وإذا حدثم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا، فإن مع الإكثار يكون الإهذار1، وموت عاجل خير من ضنى آجل، وما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان، وربما شجاني من لم يكن أمره عناني، وما عجبت من أحدوثه إلا رأيت بعده أعجوبة، واعلموا أن أشجع القوم العطوف، وخير الموت تحت ظلال السيوف، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب2، ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكؤه3 خير من دره، وعقوقه خير من بره، ولا تبرحوا في حبكم، فإنه من برح في حب، آل   1 أهذر: هذى. 2 لم يرض. 3 بكأت الناقة بكئًا قل لبنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ذلك إلى قبيح بغض، وكم قد زارني إنسان وزرته، فانقلب الدهر بنا فبرته1، واعلموا أن الحكيم سليم، وأن السيف كليم، إني لم أمت ولكن هرمت، ودخلتني ذلة فسكت، وضعف قلبي فأهترت2، سلمكم ربكم وحياكم". "شرح ابن أبي الحديد 4: 155 والأغاني 9: 178".   1 باره: جر به. 2 الهتر بالضم: ذهاب العقل من كبر أو مرض أو حزن وقد أهتر فهو مهبر بفتح التاء شاذ، وقيل أهتر بالبناء للمجهول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 76- وصية الحارث بن كعب لبنيه : وأوصى الحارث بن كعب بنيه فقال: "يا بني قد أتت علي مائة وستون سنة، ما صافحت يميني غادر، ولا قنعت لنفس بخلة1 فاجر، ولا صبوت بابنة عم ولا كنة2، ولا بحت لصديق بسر، ولا طرحت عن مؤمسة قناعًا، ولا بقي على دين عيسى بن مريم -وروي: على دين شعيب- من العرب غيري وغير تميم بن مرة، وأسد بن خزيمة؛ فموتوا على شريعتي، واحفظوا وصيتي، وإلهمك فاتقوا، يكفكم ما أهمكم، ويصلح لكم حالكم، وإياكم ومعصيته، فيحل بكم الدمار، ويوحش منكم الديار. كونوا جميعًا ولا تفرقوا، فتكونو شيعًا، وبزوا قبل3 أن تبزوا، فموت في عز خير من حياة في ذل وعجز، وكل ما هو كائن كائن، وكل جمع إلى تباين، والدهر ضربان، ضرب بلاء، وضرب رخاء، واليوم يومان، يوم حرة، ويوم عبرة، والناس رجلان، رجل لك، ورجل عليك، زوجوا النساء الأكفاء، وإلا فانتظروا بهن القضاء، وليكن أطيب طيبهن   1 الخلة: الصداقة المختصة الخلل فيها تكون في عفاف وفي دعارة "والخلة أيضًا الصديق للذكر والأنثى والواحدة والجميع". 2 الكنة: امرأة الابن أو الأخ جمعه كنائن. 3 بزه: سلبه، وفي المثل: من عزيز، أي من غلب سلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الماء، وإياكم والورهاء1؛ فإنها أدوأ الداء، وإن ولدها إلى أفن2 يكون، لا راحة لقاطع القرابة، وإذا اختلفت القوم أمكنوا عدوهم، وآفة العدو اختلاف الكلمة، والتفضل بالحسنة، يقى السيئة، والمكافأة بالسيئة دخول فيها، وعمل السوء يزيل النعماء، وقطعية الرحم تورث الهم، وانتهاك الحرمة، يزيل النعمة، وعقوق الوالدين يعقب النكد، ويخرب البلد، ويمحق العدو، والإسراف في النصيحة، هو الفضيحة، والحقد يمنع الرفد، ولزوم الخطيئة، يعقب البلية، وسوء الرعة3، يقطع أسباب المنفعة، والضغائن تدعوا إلى التباين، يا بني، إني قد أكلت مع أقوام وشربت؛ فذهبوا وغبرت، وكأني قد لحقت، ثم قال: أكلت شبابي فأفنيته ... وأبليت بعد دهور دهورا ثلاثة أهلين صاحبتهم ... فبادوا وأصبحت شيخًا كبيرًا قليل الطعام، عسير القيام ... قد ترك الدهر خطوى قصيرا أبيت أراعي نجوم السماء ... أقلت أمري بطونًا ظهورا "شرح ابن أبي الحديد 4: 154".   1 الحمقاء: من وره كفرح: حمق فهو أوره. 2 ضعف الرأي والعقل. 3 الرعة: الطريقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 77- وصية عامر بن الطرب العدواني لقومه : وكان عامر بن الظرب العدواني سيد قومه؛ فلما كبر وخشي عليه قومه أن يموت، اجتمعوا إليه وقالوا: إنك سيدنا وقائلنا وشريفنا؛ فاجعل لنا شريفًا وسيدًا وقائلًا بعدك، فقال: "يا معشر عدوان: كلفتموني بغيًا، إن كنتم شرفتموني فإني أريتكم ذلك من نفسي؛ فأنى لكم مثلي؟ افهموا ما أقول لكم، إنه من جمع بين الحق والباطل لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 يجتمعا له، وكان الباطل أولى به، وإن الحق لم يزل ينفر من الباطل، ولم يزل الباطل ينفر من الحق. يا معشر عدوان: لا تشمتوا بالذلة، ولا تفرحوا بالعزة، فبكل عيش يعيش الفقير مع الغني، ومن ير يومًا ير به1، وأعدوا لكل امرئ جوابه، إن مع السفاهة الندامة، والعقوبة نكال وفيها ذمامة2، ولليد العليا3، العاقبة، والقود4 راحة، لا لك ولا عليك، وإذا شئت وجدت مثلك، إن عليك كما أن لك، وللكثرة الرعب، وللصبر الغلبة، ومن طلب شيئًا وجده، وإن لم يجده يوشك أن يقع قريبًا منه". "مجمع الأمثال 2: 183".   1 أي من رأى يومًا عدوه رأى مثله على نفسه. 2 الذمامة بالفتح ويكسر، والذمة: العهد، والكفالة: والحق، والحرمة. 3 اليد العليا المعطية، والسفلى: السائلة، وفي الحديث: "اليد العليا خير من اليد السفلى"، وهو حث على الصدقة. 4 القود: القصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 78- وصية دويد بن زيد لبنيه : لما حضرت دويد1 بن زيد الوفاة قال لبنيه: "أوصيكم بالناس شرًّا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوهم عثرة2، قصروا الأعنة، وطولوا الأسنة، واطعنوا شزرًا3، واضربوا هبرًا4، وإذا أردتم المحاجزة،   1 هو دويد بن زيد بن نهد الحميري، وكان من المعمرين. قيل عاش أربعمائة وستًا وخمسين سنة، "قالوا: ولا يعد العرب معمرًا إلا من عاش مائة وعشرين سنة فصاعدا". 2 أقال الله عثرته: رفعه من سقوطه. 3 الطعن في الجوانب يمينًا وشمالًا. 4 هبر اللحم: قطعه قطعًا كبارًا، والهبرة "بالفتح" القطعة المجتمعة منه وضرب هبر وهبير هابر: أي يقطع اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فقبل المناجزة، والمرء يعجز لا المحالة، بالجد لا بالكد، والتجلد ولا التبلد، والمنية ولا الدنية، ولا تأسوا على فائت وإن عز فقده، ولا تحنوا إلى ظاعن وإن ألف قربه، ولا تطمعوا فتطبعوا1، ولا تهنوا فتخرعوا2. ولا يكونن لكم المثل السوء "إن الموصين بنو سهوان3" إذا مت فأرحبوا4 خط مضجعي، ولا تضنوا على برحب5 الأرض، وما ذلك بمؤد إلى روحا6، ولكن حاجة نفس خامرها الإشفاق". قال أبو بكر بن دريد في حديث آخر إنه قال: اليوم يبنى لدويد بيته ... يا رب نهب صالح حويته ورب قرن بطل أرديته ... ورب غيل حسن لويته7 ومعصم مخضب ثنيته ... لو كان للدهر بلى أبليته8 أو كان قرني واحدًا كفيته "أمالي السيد المرتضى 1:171".   1 الطبع محركة: الدنس. 2 الوهن الضعف، والخراعة: "كنباهة" اللين والرخاوة خرع: ككرم، وخرع كفرح ضعف وانكسر؛ فهو خرع، وخريع. 3 قال الميداني في مجمع الأمثال"1:6": "هذا مثل تخبط في تفسيره كثير من الناس، قال بعضهم: إنما يحتاج إلى الوصية من يسهو ويغف؛ فأما أنت فغير محتاج إليها؛ لأنك لا تسهو، وقال بعضهم يريد بقوله بنو سهوان جميع الناس؛ لأن كلهم يسهو، والأصوب في معناه أن يقال: إن الذين يوصون بالشيء يستولى عليهم السهو حتى كأنه موكل بهم، يضرب لمن يسهو عن طلب شيء أمر به، والسهوان، السهو، ويجوز أن يكون صفة أي بنو رجل سهوان، وهو آدم عليه السلام حين عهد إليه فسها ونسي، يقال رجل سهوان وساه، أي إن الذي يوصون لا بد أن يسهوا؛ لأنهم بنو آدم عليه السلام". 4 أرحبه: وسعه. 5 الرحب: بالضم مصدر، وبالفتح وصف. 6 أي راحة، أو هو بالضم أي وما ذاك بمرجع إلى روحي. 7 الغيل: الساعد الريان الممتلئ. 8 المعصم: موضع السوار أو اليد، وهو المراد هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 79- وصية زهير بن جناب الكلبي : وأوصى زهير بن جناب الكلبي1 بنيه فقال: "يا بني: قد كبرت سني، وبلغت حرسًا2 من دهري، فأحكمتني التجارب، والأمور تجربة واختبار، فاحفظوا عني ما أقول وعوه، إياكم والخور عند المصائب، والتواكل عند النوائب؛ فإن ذلك راعية للفهم، وشماتة للعدو، وسوء ظن بالرب، وإياكم أن تكونو بالأحداث مغترين، ولها آمنين، ومنها ساخرين؛ فإنه ما سخر قوم قط إلا ابتلوا، ولكن توقعوها؛ فإنما الإنسان في الدنيا غرض3 تعاوره الرماة، فمقصر دونه، ومجاوز لموضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد أنه مصيبه". "أمالي السيد المرتضى 1: 173".   1 هو زهير بن جناب بن هبل الكلبي، قيل عاش مائتين وعشرين سنة، وقيل مائتين وخمسين، وقيل أربعمائة وخمسين، وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه. 2 الحرس من الدهر: الطويل، وحرس: كسمع عاش زمانًا طويلًا. 3 الغرض: الهدف، وتعاوره "تتعاوره" أي تتداوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 80- وصية النعمان بن ثواب العبدي لبنيه . كان للنعمان بن ثواب العبدي بنون ثلاثة: سعد وسعيد وساعدة، وكان أبوهم ذا شرف وحكمة، وكان يوصي بنيه، ويحملهم على أدبه، أما ابنه سعد فكان شجاعًا بطلاً من شياطين العرب، لا يقام لسبيله، ولم تفته طلبته قط، ولم يفر عن قرن، وأما سعيد فكان يشبه أباه في شرفه وسودده، وأما ساعدة فكان صاحب شراب وندامى وإخوان، فلما رأى الشيخ حال بنيه دعا سعدا، وكان صاحب حرب، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 "يا بني إن الصارم ينبو، والجواد يكبو، والأثر يعفو1، فإذا شهدت حربًا، فرأيت نارها تستعر، وبطلها يخطر، وبحرها يزخر، وضعيفها ينصر، وجبانها يجسر، فأقلل المكث والانتظار، فإن الفرار غير عار، إذا لم تكن طالب ثار، فإنما ينصرون هم2، وإياك أن تكون صيد رماحها، ونطيح نطاحها". وقال لابنه سعيد، وكان جوادًا: "يا بني لا يبخل الجواد، فابذل الطارف والتلاد3، وأقلل التلاح4، تذكر عند السماح، وابل5 إخوانك، فإن وفيهم قليل، واصنع المعروف عند محتمله". وقال لابنه ساعدة، وكان صاحب شراب: "با بني إن كثرة الشراب، تفسد القلب، وتقلل الكسب وتجد اللعب6، فأبصر نديمك، واحتم حريمك، وأعن غريمك7 واعلم أن الطمأ القامح8، خير من الري الفاضح، وعليك بالقصد فإن فيه بلاغًا". "مجمع الأمثال 1: 48".   1 عفا الأثر: درس وامحى. 2 أي طلاب الثار. 3 الطارف والطريف: المال المستحدث، والتالد، والتليد، والتلاد، والمتلد: المال القديم الأصل الذي ولد عندك. 4 التلاحي: التنازع، ولاحاه ملاحاة ولحاء نازعه. 5 اختبر. 6 أي تجعله جدا، والجد "بالكسر" ضد الهزل. 7 الغريم: المدين "وهو الدائن أيضًا". 8 معناه العطش الشاق خير من ري يفضح صاحبه، وقح البعير قوحًا: رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشر فهو قامح، وقح البعير: اشتد حتى فتر شديدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 81- وصية قيس بن زهير لبني النمر بن قاسط .: جاور قيس بن زهير العبسي1 بعد يوم الهباءة النمر بن قاسط، وتزوج منهم، وأقام فيهم حتى ولد له؛ فلما أراد الرحيل عنهم قال:   1 هو صاحب حرب داحس والغبراء، وكان من قصته أنه تراهن هو وحذيفة بن سيد بني ذيبان على فريسهما داحس "فرس قيس" والغبراء "فرس حذيفة" -وقيل إنهما تراهنا على داحس والغبراء فرسي قيس، والخطار والحنفاء فرسي حذيفة- وتواضعا الرهان على مائة بعير، ثم قادوهما إلى رأس= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 "يا معشر النمر: إن لكم علي حقًا، وأنا أريد أن أوصيكم، وآمركم بخصال، وأنهاكم عن خصال، عليكم بالأناة؛ فإن بها تدرك الحاجة، وتنال القرضة، وتسويد من لا تعاون بتسويده، وعليكم بالوفاء؛ فإن به يعيش الناس وبإعطاء من تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع من يريدون منعه قبل الإلحاح، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس المنازل عن بيوت اليتامى، وخلط الضيف بالعيال. وأنهاكم عن الغدر؛ فإنه عار الدهر، وعن الرهان، فإني به ثكلت مالكًا أخي وعن الغي، فإنه قتل زهيرًا أبي1، وعن الإعطاء في الفضول، فتعجزا عن الحقوق، وعن السرف في الدماء، فإن يوم الهباءة3 ألزمني العار، ومنع الحرم إلا من الأكفاء،   = الميدان، وفي طرف الغاية شعاب كثيرة، فأكمن حمل بن بدر في تلك الشعاب فتيانًا على طريق الفرسين، وأمرهم إن جاء داحس سابقًا أن يردوا وجهه عن الغاية؛ فأرسلوهما فأحضرا، فلما شارف داحس الغاية ودنا من الفتية، وثبوا في وجهه فردوه عنها، وعلم قيس بذلك، وبعث حذيفة بن بدر ابنه مالكًا إلى قيس يطلب منه حق السبق؛ فقال قيس: كلا لأمطلنك به؛ فتناول ابن حذيفة من عرض قيس وشتمه وأغلظ له، وكان إلى جنب قيس رمح فطعنه به فدق صلبه، واجتمع الحيان وأدوا دية المقتول، وأخذها حذيفة دفعًا للشر، ثم إن قومه ندموه فعاد الشر بينهم، وقامت الفتن بين الحيين، وعدا حذيفة على مالك بن زهير أخي قيس فقتله، وكان الربيع بن زياد عمهما معتزل الحرب؛ فلما سمع بمقتل ابن أخيه مالك شق ذلك عليه وقاتل بني ذبيان، ثم توالت أيام الحروب بينهم، وكان أعظمها يوم الهباءة حتى أصلح بينهم الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريان، وحملا ديات القتلى ثلاثة آلاف بعير. 1 وسبب مقتل زهير بن جذيمة العبسي أبي قيس، أن هوازن بن منصور كانت تؤتي الإتاوة زهير بن جذيمة -ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد- فأتت عجوز من هوازن إلى زهير بسمن في نحي "النحي كحمل الزق، أو ما كان للسمن خاصة" فاعتذرت إليه، وشكت السنين اللواتي تتابعن على الناس "فذاقه فلم يرض طعمه، فدعها أي دفعها بقوس في يده فسقطت فبدت عورتها؛ فغضبت من ذلك هوازن وحقدته إلى مكان في صدورها من الغيط، وكانت يومئذ قد كثرت بنو عامر بن صعصمة فثاروا إليه فقاتلوه حتى قتلوه. 3 وكان حذيفة بن بدر وأخوه نزلا مع أصحابهما في حفر الهباءة، فأتبعهم قيس ومن معه حتى أدركهم فيه، وقد أرسلوا خيولهم ونزعوا سلاحهم "وكان حذيفة قد أخذ غلامين من بني عبس؛ فقتلهما وهما يسغيثان يا أبتاه حتى ماتا" فشد قيس والربيع ومن معهما عليهم، وهم ينادون لبيكم لبيكم، يعني أنهم يجيبون نداء الصبية لما قتلوا ينادون يا أبتاه، فناشدوهم الله والرحم، فلم يقبلوا منهم، وقتلوا حذيفة وحملا أخاه، ومثلوا بحذيفة فقطعوا مذاكيره وجعلوها في فيه وجعلوا لسانه في استه، وأسرف قيس في النكاية والقتل، وكانت فزارة تسمى هذه الوقعة البوار، ولكن فيما ندم بعد ذلك ورثى حمل بن بدر، وهو أول من رثى مقتوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فإن لم تصيبوا لهن الأكفاء. فإن خير مناكحهن القبور، "أو خير منازلها"، واعلموا أني كنت ظالمًا مظلومًا، ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكًا أخي، وظلمتهم بأن قتلت من لاذنب له". "العقد الفريد 3: 224، وآمال السيد المرتضى 1: 149، وسرح العيون ص 90". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 83- وصية حصن بن حذيفة لبنيه : وأوصى حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري بني بدر فقال: "اسمعوا مني ما أوصيكم به: لا يتكل آخركم على أولكم؛ فإنما يدرك الآخر ما أدركه الأول، وأنكحوا الكفء الغريب؛ فإنه عز حادث، وإذا حضركم أمران، فخذوا بخيرهما صدرًا1، فإن كل مورد مغروف، وأصحبوا قومكم بأجمل أخلاقكم، ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه، فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع، وإذا حادثتم فاربعوا2، ثم قولوا الصدق؛ فإنه لا خير في الكذب، وصونوا الخيل فإنها حصون الرجال، وأطيلوا الرماح فإنها قرون الخيل، وأعزوا الكبير بالكبر؛ فإني بذلك كنت أغلب الناس، ولا تغزوا إلا بالعيون3، ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح4، وأعطوا على حسب المال، وأعجلوا الضيف بالقرى5، فإن خيره أعجله، واتقوا فضيحات البغي، وفلتات المزاح، ولا تجيروا على الملوك، فإن أيديهم أطول من أيديكم". "أمالي السيد المرتضى 2: 168".   1 الصدر: الرجوع. 2 ربع: كمنع انتظر وتحبس، وربع الحبل: فتله من أربع طاقات، والمعنى إذا حادثتم فتأنوا وتمهلوا، أو فأحكموا القول. 3 العيون: جمع عين، وهي خيار كل شيء. 4 الصباح الغارة: أي ولا تسرحوا مقاتلتكم حتى تأمنوا الغارة. 5 قرى الضيف يقريه قرى: أحسن إليه، والقرى أيضًا ما قرى به الضيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 83- وصية لأكثم بن صيفي : كتب النعمان بن خميصة الباروقي إلى أكثم بن صيفي: "مثل لنا مثالًا نأخذ به1". فقال: "لقد حلبت الدهر أشطره2 فعرفت حلوه ومره. عين عرفت فذرفت3، إن أمامي ما لا أسامي4. رب سامع بخبر لم يسمع بعذري. كل زمان لمن فيه. في كل يوم ما يكره. كل ذي نصرة سيخذل. تباروا فإن البر ينمي5 عليه العدد وكفوا ألسننتكم فإن مقتل الرجل بين فكيه. إن قول الحق لم يدع لي صديقًا. الصدق منجاة لا ينفع مع الجزع التبقي. ولا ينفع مما هو واقع التوقي، ستساق إلى ما أنت لاق. في طلب المعالي يكون العناء. الاقتصاد في السعي أبقى للجمام6 من لم يأس7 على ما فاته ودع بدنه، ومن قنع بما هو فيه قرت عينه. التقدم قبل التندم8. أصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح عند ذنبه. لم يهلك من مالك ما وعظك، ويل لعالم أمر من جاهله. يتشابه الأمر إذا أقبل؛ فإذا أدبر عرفه الكيس والأحمق. الوحشة ذهاب الأعلام9. البطر عند الرخاء حمق. والعجز عند البلاء أفن10. لا تغضبوا   1 هكذا روى أبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال: وذكر الميداني أن أكتم وصى بها بنيه حين جمعهم، والرواية الأولى أطول بكثير من الثانية، وقد جمعت بين الروايتين. 2 للناقة شطران: قادمان وآخران؛ فكل خلفين من أخلافها شطر "والخلف بالكسر لها كالضرع للبقرة" وأشطره بدل من الدهر، والمعنى أنه اختبر الدهر خيره وشره فعرف ما فيه، وهو مثل يضرب فيمن جر الدهر. 3 ذرفت عينه كضرب: سال دمعها، وذرفت للعين دمعها أسالته، وهو مثل يضرب لمن رأى الأمر فعرف حقيقته. 4 ساماه: باراه في السمو. 5 يزيد، وفي مجمع الأمثال " يبقى". 6 أي أبقى للقوة، من جم الفرس جمامًا "بالفتح" ترك الضراب فتجمع ماؤه، وجم الماء يجم بضم الجيم وكسرها جمومًا كثر واجتمع، والبئر تراجع ماؤها، والجمام بالفتح أيضًا: الراحة. 7 يحزن. 8 أي ففكر في التقدم قبل أن تندم. 9 الأعلام جمع علم: وهو سيد القوم. 10 الأفن: ضعف الرأى والعقل، وفي الأصل أمن وهو تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 من اليسير؛ فربما جنى لكثير. لا تجيبوا فيما لم تسألوا عنه. ولا تضحكوا مما لا يضحك منه. حيلة من لا حيلة له الصبر. كونوا جميعًا فإن الجمع غالب، تثبتوا. ولا تسارعوا فإن أحزم الفريقين الركين. رب عجلة تهب ريثًا. ادرعوا الليل واتخذوه جملًا. فإن الليل أخفى للويل. ولا جماعة لمن اختلف. تناءوا في الديار ولا تباغضوا؛ فإنه من يجتمع يتقعقع1 عمده. ألزموا النساء المهابة2 نعم لهو الغرة3 المعزل. إن تعش تر ما لم تره. قد أقر صامت. المكثار كحاطب4 ليل. من أكثر أسقط5. لا تجعلوا سرا إلى أمة. لا تفرقوا في القبائل؛ فإن الغريب بكل مكان مظلم، عاقدوا الثروة6. وإياكم والوشائظ7 فإن مع القلة الذلة: لو سئلت العارية قالت أبغي لأهلي ذلًّا. الرسول مبلغ غير ملوم. من فسدت بطانته غص بالماء. أساء سمعًا فأساء إجابة8. الدال على الخير كفاعله. إن المسألة من أضعف المسكنة. قد تجوع الحرة   1 تقعقع: اضطرب وتحرك. وفي الأصل عنده بدل عمده وهو تحريف، وهذا مثل. معناه لا بد من الافتراق بعد الاجتماع، أو معناه إذا اجتمع القوم وتقاربوا وقع بينهم الشر فتفرقوا، أو من غبط بكثرة العدد واتساق الأمر فهو بمعرض الزوال والانتشار. 2 أي أن بهبنكم ويوقرنكم، وفي الأصل "المهانة" وهو تصحيف. 3 الشريفة. 4 الحاطب: الذي يجمع الحطب، وهو حاطب ليل: أي مخلط في كلامه. 5 أسقط كلمة، وأسقط في كلمة أي أخطأ. 6 عاقدوا: حالفوا، والثروة: كثرة العدد من الناس. 7 يقال هم وشيظة في قومهم أي حشو فيهم. 8 جابة بمعنى إجابة، اسم وضع موضع المصدر، ومثلها الطاعة والطاقة والغارة والعارة. قال المفضل: أول من قال ذلك سهيل بن عمرو، وكان تزوج صفية بنت أبي جهل بن أبي هشام؛ فولدت له أنس بن سهيل، فخرج معه ذات يوم، فوقف بحزورة مكة "والحزورة كقسورة: الرابية الصغيرة" فأقبل الأخنس بن شريق الثقفي، فقال: من هذا؟ قال سهيل: ابني، قال الأخنس: حياك الله يا فتى! قال: لا، والله ما أمي في البيت، انطلقت إلى أم حنظلة تطحن دقيقًا، فقال أبوه: أساء سمعًا فأساء إجابة فأرسلها مثلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ولا تأكل بثدييها1. لم يجر سالك القصد، ولم يعم قاصد الحق، من شدد نفر، ومن تراخى تألف. الشرف التغافل. أوفى القول أو جزه. أصوب الأمور ترك الفضول التغرير مفتاح البؤس. التواني والعجز ينتجان الهلكة. لكل شيء ضراوة2. أحوج الناس إلى الغنى من لا يصلحه إلا الغنى، وهم الملوك. حب المدح رأس الضياع. رضا الناس غاية لا تبلغ. لا تركه سخط من رضاه الجور معالجة العفاف مشقة فتعوذ بالصبر. اقصر لسانك على الخير وأآخر الغضب؛ فإن القدرة ممن ورائك، من قدر أزمع، أمر أعمال المقتدرين الانتقام، جاز بالحسنة ولا تكافئ بالسيئة، أغنى الناس عن الحقد من عظم عن المجازاة. من حسد من دونه قل عذره، من جعل لحسن الظن نصيبًا روح عن قلبه، عي الصمت أحمد من عي المنطق، الناس رجلان محترس ومحترس منه كثير النصح يهجم على كثير الظنة3، ومن ألح في المسألة أبرم4، خير السخاء   1 أي لا تعيش بسبب ثديها وبما يغلان عليها من أجرة الإرضاع، يضرب في صيانة الرجل نفسه عن خسيس المكاسب، وذكروا أن أول من قاله الحارث بن سليل الأسدى، وكان شيخًا كبيرًا وكان حليفًا لعلقمة بن خصفة الطائي، فزاره فنظر إلى ابنته الزباء، وكانت من أجمل أهل دهرها فأعجب بها، فقال له: أتيتك خاطبًا، وقد ينكح الخاطب، ويدرك الطالب، ويمنح الراغب؛ فقال له علقمة: أنت كفء كريم يقبل منك الصفو، ويؤخذ منك العفو، فأقم ننظر في أمرك، ثم انكفأ إلى أمها فقال إن الحارث بن سليل سيد قومه حسبًا ومنصبًا وبيتًا، وقد خطب إلينا الزباء، فلا ينصرف إلا بحاجته فقالت امرأته لابنتها: أي الرجال أحب إليك؟ الكهل الجحجاح "أي السيد"، الواصل المناح، أم الفتى الوضاح؟ قالت، لا بل الفتى الوضاح، قالت: إن الفتى يغيرك، وإن الشيخ يميرك، وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل، كالحديث السن، الكثير المن، قالت: يا أمتاه، إن الفتاة تحت الفتى كحب الرعاء أنيق الكلا، قالت: أي بنية، إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب، قالت: إن الشيخ يبلي شبابي، ويدنس ثيابي، ويشمت بي أترابي، فلم تزل أمها بها حتى غلبتها على رأيها، فتزوجها الحارث على مائة وخمسين من الإبل وخادم وألف درهم، فابتنى بها ثم رحل بها إلى قومه؛ فبينا هو ذات يوم جالس بفناء قومه وهي إلى جانبه إذ أقبل إليه شباب من بني أسد يعتلجون، "أي يتصارعون ويتقاتلون" فتنفست الصعداء ثم أرخت عينيها بالبكاء، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: مالي وللشيوخ، الناهضين كالفروخ، فقال لها: ثكلتك أمك تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، الحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك. 2 يقال: ضرى الكلب بالصيد "كفرح" ضراوة أي تعود، وكلب ضار، وأضراه صاحبه عوده وأضراه به: أغراء، وضراه أيضًا تضرية. 3 التهمة. 4 أبرمه: أضجره وأمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ما وافق الحاجة، الصمت يكسب المحبة، لن يغلب الكذب شيئًا إلا غلب عليه الصدق، القلب قد يتهم وإن صدق اللسان، الانقباض عن الناس مكتبة للعداوة، وتقريبهم مكسبة لقرين السوء؛ فكن من الناس بين القرب والبعد. فإن خير الأمور أوساطها، فسولة1 الوزراء أضر من بغض الأعداء، خير القرناء المرأة الصالحة، وعند الخوف حسن العمل، من لم يكن له من نفسه زاجر؛ لم يكن له من غيره واعظ، وتمكن منه عدوه على أسوأ عمله، لن يهلك امرؤ حتى يمل2 الناس عتيد فعله ويشتد على قومه، ويعجب بما ظهر من مروءته، ويغتر بقومه، والأمر يأتيه من فوقه، ليس للمختال في حسن الثناء نصيب، لا نماء مع العدم، إنه من أتى المكروه إلى أحد بدأ بنفسه. العي أن تتكلم فوق ما تسد به حاجتك، لا ينبغي لعاقل أن يثق بإخاء من تضطره إلى إخائه حاجة، أقل الناس راحة الحقود، من تعمد الذنب لا تحل رحمته دون عقوبته؛ فإن الأدب رفق، والرفق يمن". "جمهرة الأمثال 1:320، ومجمع الأمثال 2: 145".   1 فسل فسولة فهو فسل: أي رذل لا مروءة له، والوزراء: جمع وزير وهو النصير والظهير. 2 في الأصل "يملك" ورأى صوابه يمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 84- وصية أكثم بن صيفي لطيئ : وقال أكثم بن صيفي في وصية كتب بها إلى طيئ: "أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، وإياكم ونكاح الحمقاء؛ فإن نكاحها غرر1، وولدها ضياع. وعليكم بالخيل فأكرموها؛ فإنها حصون العرب، ولا تضعوا رقاب الإبل في غير حقها. فإن فيها الكريمة2، ورقوء الدم3، وبألبانها يتحف   1 الغرر: الخطر، غرر بنفسه تغريًا: عرضها للهلكة والاسم الغرر. 2 يريد مهرها. 3 رقأ الدم: جف وسكن، والرقوء كصبور ما يوضع على الدم ليرقئه، والمعنى أنها تعطي في الديات فتحقن بها الدماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الكبير1، ويغذي الصغير، ولو أن الإبل كلفت الطحن لطحنت. ولن يهلك امرؤ عرف قدره. والعدم2 عدم العقل، لا عدم المال، ولرجل خير من ألف رجل. ومن عتب على الدهر طالت معتبته. ومن رضي بالقسم3 طابت معيشته. وآفة الرأي الهوى. والعادة أملك4. والحاجة مع المحبة خير من الغض مع الغنى. والدنيا دول؛ فما كان لك أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك. والحسد داء ليس له دواء. والشماتة تعقب، ومن ير يومًا ير به. قبل الرماء تملأ الكنائن5. الندامة مع السفاهة. دعامة العقل الحلم. خير الأمور مقبة الصبر. بقاء المودة عدل6 التعاهد. من يزر غبًا يزدد حبًّا، التغرير مفتاح البؤس. من التواني والعجز نتجت7 الهلكة. لكل شيء ضراوة. فضر لسانك بالخير عي الصمت أحسن من عي المنطق. الحزم حفظ ما كلفت وترك ما كنيت. كثير النصح يهجم على كثير الظنة. من ألحف في المسألة ثقل. من سأل فوق قدره استحق الحرمان. الرفق يمن، والخرق شؤم. خير السخاء ما وافق الحاجة. خير العفو ما كان بعد القدرة". "مجمع الأمثال 2:87".   1 التحفة: البر واللطف والطرفة، وقد أتحفته تحفة. العدم بالضم وبضمتين وبالتحريك الفقدان وغلب على فقدان المال. 3 القسم: القدر 4 وفي رواية: "العادة أملك من الأدب". 5 الرماء مصدر رامى كالمراماة، والكنائن جمع كنانة: وهي جعبة السهام، وهو مثل معناه: تؤخذ للأمر أهبته قبل وقوعه، ومثله قولهم "قبل الرمي يراش السهم" أي يوضع له الريش. 6 العدل: الاستقامة أي بقاء المودة في استقامة التعاهد والحرص على سلامة شروطه. 7 ويروى نتجت الفاقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 85- وصية أكثم بن صيفي لبنيه ورهطه : وصى أكثم بن صيفي بنيه ورهطه، فقال: "يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي، إن بين حيزومي1 وصدري لكلامًا لا أجد له مواقع إلا   1 الحيزوم: وسط الصدر وما يضم عليه الخزام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أسماعكم، ولا مقار إلا قلوبكم؛ فتلقوه بأسماع مصغية، وقلوب واعية، تحمدوا مغبته الهوى يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول1 والنفس مهملة، والروية مقيدة، ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشدًا، والمستبد برأيه موقوف على مداحض2 الزلل، ومن سمع سمع به، ومصارع الرجال تحت بروق الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام، وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد3 أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه، ويشغل فكره، ويؤرث4 غيظه، ولا تجاوز مضرته نفسه. يا بني تميم: الصبر على جرع الحلم أعذب من جني ثمر الندامة، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم؛ فإذا نجمت فهي أسد محرب5، أو نار تلهب، ورأى الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في الحرب، أجدى من الطعن والضرب". "شرح ابن أبي الحديد 4: 155، وسرح العيون 15 وجمهرة الأمثال 2: 212".   1 محبوس. 2 جمع مدحضة: وهي المزلة. 3 الأرض المستوية. 4 يوقد. 5 التحريب: التحريش والتحديد، والمحرب والمتحرب الأسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 86- نصيحة أكثم بن صيفي لقومه : ونصح قومه فقال: "أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، والمرء يعجز لا محالة، يا قوم تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين1 ورب عجلة تهب ريثا2، واتزروا للحرب، وادرعوا الليل؛ فإنه أخفى للويل، ولا جماعة لمن اختلف". "الأغاني 15: 70".   1 الرزين. 2 بطئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 87- أمثال أكثم بن صيفي "وبزرجمهر" الفارسي: 1 "العقل بالتجارب. الصاحب مناسب2. الصديق من صدق غيبه3. الغريب من لم يكن له حبيب. رب بعيد أقر من قريب. القريب من قرب نفعه. لو تكاشفتم ما تدافنتم. خير أهلك من كفاك، خير سلاحك ما وقاك. خير إخوانك من لم تخبره. رب غريب ناصح الجيب4، وابن أب متهم بالغيب، أخوك من صدقك، الأخ مرآة أخيه. إذا عز أخوك فهن5. مكره أخاك لا بطل6. تباعدوا في الديار وتقاربوا في المحبة. أي الرجال المهذب7 من لك بأخيك كله. إنك إن فرحت لاق فرحًا.   1 هكذا في العقد الفريد، وليس من الميسور تمييز أمثال أحدهما من أمثال الآخر إلا في القليل، على أنه قد ورد بينهما أمثال لغير أكثم، "ولعله تمثل بها" وأخرى له قد وردت في ثنايا كلامه الذي أوردته آنفًا؛ ولكني آثرت إيراد المقال برمته كما جاء في العقد، وبزرجمهر: مركب من بزرج معرب بزرك أي الكبير، ومهر أي الروح وهو بزر جمهر بن البختكان وزير كسرى أنو شروان ملك الفرس، وكان سديد الفكر، حصيف الرأي. 2 المناسب والنسيب: القريب، من النسبة "بالكسر والضم" وهي: القرابة، وبينهما مناسبة أي مشاكلة، هذا يناسب ذاك أي يقاربه شبهًا. 3 في الأصل "من صدق عينيه" وهو محرف، وأراه من صدق غيبه أو غيبته أي من صدق في موجته، وحفظ الإخاء، في الغيبة لا في المحضر فحسب. 4 جيب القميص طوقه، وهو ناصح الجيب أي القلب كتابة عن أنه خالص الطوية لا غش فيه. 5 في الميداني: هذا المثل لهذيل بن هبيرة التغلبي، وكان أغار على بني ضبة فغنم فأقبل بالغنائم. فقال له أصحابه قسمها بيننا؛ فقال: إني أخاف إن تشاغلتم بالاقتسام أن يدرككم الطلب فأبوان فعندها قال: "إذا عز أخوك فهن" ثم نزل فقسم بينهم الغنائم، ومعناها، مياسرتك صديق ليس بضيم يركبك منه فتدخلك الحمية به، إنما هو حسن خلق وتفضل؛ فإذا عاسرك فياسره. 6 قاله أبو حنش: وذلك أن رجلًا من بني فزارة يقال له بيهس أخبر أن ناسًا من أشجع في غار يشربون فيه -وكانوا قد قتلوا إخوته الستة- فانطلق بخال له يسمى أبا حنش، فقال له هل لك في غار فيه ظباء لعلنا نصيب منها -ويروى: هل لك في غنيمة باردة- ثم انطلق به حتى أقامه على فم الغار، ودفعه فيه فقال: ضربًا أبا حنش، فقال بعضهم: إن أبا حنش لبطل، فقال أبو حنش: مكره أخاك لا بطل، فأرسلها مثلًا. 7 في الميداني: أول من قاله النابغة الذبياني حيث قال: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أحسن يحسن إليك. ارحم ترحم. كما تدين تدان1. من ير يومًا ير به، والدهر لا يغتر به، عين عرفت فذرفت2. في كل خبرة عبرة، من مأمنه يؤتى الحذر، لا يعدو المرء رزقه وإن حرص، إذا نزل القدر عمي البصر، وإذا نزل الحين نزل بين الأذن والعين3. الخمر مفتاح كل شر. الغناء رقية الزناء4. القناعة مال لا ينفد. خير الغنى غنى النفس. منساق إلى ما أنت لاق. خذ من العافية ما أعطيت. ما الإنسان إلا القلب واللسان. إنما لك ما أمضيت. لا تتكلف ما كفيت. القلم أحد اللسانين. قلة العيال أحد اليسارين، ربما ضاقت الدنيا باثنين. لن تعدم الحسناء ذامًا5. لم يعدم الغاوي لائمًا. لا تك في أهلك كالجنازة6. لا تسخر من شيء فيجوز بك. أخر الشر فإذا شئت تعجلته. صغير الشر يوشك أن يكبر. يبصر القلب ما يعمى عنه البصر، الحر حر وإن مسه الضر، العبد عبد وإن ساعده جد7، من عرف قدره استبان   1 الدين بالكسر: الجزاء دانه يدينه دينًا بالفتح ويكسر، ومعنى المثل كما تجازي تجازى: أي كما تعمل تجازى، إن حسنًا فحسن، وإن سيئًا فسيئ، وقوله تدين: أراد تعمل فسمي الابتداء جزاء للمطابقة والموافقة، وعلى هذا قوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . ويجوز أن يجري كلاهما على الجزاء أي كما تجازي أنت الناس على صنيعهم كذلك تجازى على صنيعك. 2 في الأصل "عين رفت" وهو تشويه، وصوابه "عين عرفت فذرفت". 3 الحين: الهلاك، وقوله: نزل بين الأذن والعين أي بمسح ومر أي ممن نزل به لا مختفيًا عنه. 4 زنى يزني زنى وزناء. 5 الذام: والذيم العيب، قال الميداني: "وأول من تكلم بهذا المثل فيما زعم أهل الأخبار حبى بنت مالك بن عمرو العدوانية "وحبسي: بضم الحاء، وتشديد الباء المفتوحة" وكانت من أجمل النساء؛ فسمع بجمالها ملك غسان فخطبها إلى أبيها، وحكمه في مهرها، وسأله تعجيلها؛ فلما عزم الأمر، قالت أمها لتباعها: إن لنا عند الملامسة رشحة فيها هنة؛ فإذا أردتن، إدخالها على زوجها، فطيبنها بما في أصدافها فلما كان الوقت أعجلهن زوجها، فأغفلن تطييبها، فلما أصبح قيل له: كيف وجدت أهلك: طروقتك، البارحة؟ فقال ما رأيت كالليلة قط لولا رويحة أنكرتها، فقالت هي من خلف الستر "لا تعدم الحسناء ذامًا" فأرسلتها مثلًا. 6 الجنازة بالكسر: الميت، ويفتح، أو بالكسر الميت، وبالفتح السرير، أو عكسه، أو بالكسر السرير مع الميت، والمراد هنا الميت، وهذا المثل والمثلان قبله في الأصل مشوهة مختلطة هكذا: لن تعدم الحسناء ما لم يعدم الغاوي لا يمالأ بك في أهلك كالجنازة". 7 الجد: الحظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أمره. من سره بنوه ساءته نفسه. من تعظم على الزمان أهانه. من تعرض للسلطان آذاه، ومن تطامن له تخطاه. من خطأ يخطو1. كل مبذول مملول، كل ممنوع مرغوب فيه. كل عزيز تحت القدرة ذليل. لكل مقام مقال. لكل زمان رجال. لكل أجل كتاب. لك عمل ثواب. لكل نبأ مستقر. لكل سر مستودع. قيمة كل إنسان ما يحسن. اطلب لكل غلق2 مفتاحًا. أكثر في الباطل يكن حقًّا. عند القنط3 يأتي الفرج. عند الصباح يحمد السرى4. الصدق منجاة، والكذب مهواة. الاعتراف يهدم الاقتراف. رب قول أنفذ من صول. رب ساعة ليس بها طاعة. رب عجلة تعقب ريثًا5. بعض الكلام أقطع من الحسام، بعض الجهل أبلغ   1 يريد: من حاول الخطو وعالجه استطاعه ومرن عليه، أي أن من أراد وتحيل له وأخذ في معالجته وممارسته، تم له ما يبغي، وهو كقولهم: إنما العلم بالتعلم، "ورفع يخطو في المثل حسن؛ لأن الشرط ماض". 2 الغلق: القفل كالمغلاق. 3 القنط والقنوط: اليأس. 4 السرى: السير ليلًا، ويروى "عند الصباح يحمد القوم السرى" وهو مثل يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة، وفي الميداني: "أن أول من قال ذلك خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر رضي الله عنهما وهو باليمامة أن سر إلى العراق؛ فأراد سلوك المفازة، فقال له رافع الطائي: قد سلكتها في الجاهلية، هي خمس للإبل الواردة "فلاة خمس بكسر الخاء: بعد وردها حتى يكون ورد النعم اليوم الرابع سوى اليوم الذي شربت فيه" ولا أظنك تقدر عليها إلا أن تحمل من الماء؛ فاشترى مائة شارف "الشارف الناقة المسنة" فعطشها ثم سقاها الماء حتى رويت، ثم سلك المفازة، حتى إذا مضى يومان وخاف العطش على الناس والخيل، وخشي أن يذهب ما في بطون الإبل نحر الإبل، واستخرج ما في بطونها من الماء؛ فسقى الناس والخيل ومضى؛ فلما كان في الليلة الرابعة. قال رافع: انظروا هل ترون سدرًا عظامًا "السدر بالكسر شجر النبق" فإن رأيتموها وإلا فهو الهلاك؛ فنظر الناس فرأوا السدر فأخبروه فكبر وكبر الناس، ثم هجموا على الماء فقال خالد رجزًا منه "عند الصباح يحمد القوم السرى". 5 الريث: الإبطاء ويروى تهب ريثًا، وفي الميداني: "أن أول من قال ذلك مالك بن عوف بن أبي عمرو بن عوف محمل الشيباني، وكان سنان بن مالك بن أبي عمرو بن عوف بم محلم شام غيمصًا؛ فأراد أن يرحل بامرأته وهي أخت مالك بن عوف؛ فقال له مالك: أين تظعن يا أخي؟ قال: أطلب موقع هذه السحابة. قال: لا تفعل فإنه ربما خيلت، وليس فيها قطر، وأنا أخاف عليك فأبى، ومضى فعرض له مروان القرظ بن زنباع العبسي، فأعجله عنها وانطلق بها، وجعلها بين بناته وإخواته ولم يكشف لها سترا فقال مالك بن عوف لسنان: ما فعلت أختي؟ قال: نفتني عنها الرماح، فقال مالك: "رب عجلة تهب ريثًا. ورب فروقة يدعى ليثا، ورب غيث لم يكن غيثًا"، فأرسلها مثلًا، يضرب للرجل يشتد حرصه على حاجة، ويخرق فيها حتى تذهب كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 من الحلم، ربيع القلب ما اشتهى، الهوى شديد العمى. الهوى الإله المعبود. الرأي نائم، والهوى يقظان. غلب عليك من دعا إليك. لا راحة لحسود ولا وفاء، لا سرور كطيب النفس. العمر أقصر من أن يحتمل الهجر. أحق الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. خير العلم ما نفع. خير القول ما اتبع. البطنة1 تذهب الفطنة. شر العمى عمى القلب. أوثق العرى كملة التقوى2. النساء حبائل الشيطان. الشباب شعبة من الجنون. الشقي من شقي في بطن أمه. السعيد من وعظ بغيره؛ لكل امرئ في بدنه شغل، من يعرف البلاء يصبر عليه. المقادير تريك مالًا يخطر ببالك. أفضل الزاد ما تزود للمعاد. الفحل أحمى للشول4. صاحب الحظوة غدًا، من بلغ المدى. عواقب الصبر محمودة. لا تبلغ الغايات بالأماني. الصريمة4 على قدر العزيمة. الضيف يثني أو يذم من تفكر اعتبر. كم شاهد لك لا ينطق. ليس منك من غشك، ما نظر لامرئ مثل نفسه. ما سد فقرك إلا ملك يمينك، ما على عاقل ضيعة. الغنى في الغربة وطن. المقل في أهله غريب، أول المعرفة الاختبار: يدك منك وإن كانت شلاء. أنفك منك وإن كان أجدع5.   1 البطنة: الامتلاء الشديد من الطعام. 2 انظر خطبة عبد الله بن مسعود. 3 الشول: جمع شائلة وهي من الإبل ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها، وأحمى: أفعل من الجماية. 4 الصريمة: قطع الأمر "والعزيمة". 5 ويروى "منك أنفك وإن كان أجدع" وفي الميداني: "أول من قال ذلك قنفذ بن جعونة المازني للربيع بن كعب المازني؛ وذلك أن الربيع دفع فرسًا كان قد أبر على الخيل "أي زاد" كرمًا وجودة إلى أخيه كميش ليأتي به أهله، وكان كميش أنوك مشهورًا بالحمق، وكان رجل من بني مالك يقال له قراد بن جرم قدم على أصحاب الفرس ليصيب منهم غرة فيأخذها، وكان داهية فكث فيهم مقيمًا لا يعرفون نسبة ولايظهره هو؛ فلما نظر إلى كميش راكبًا الفرس ركب ناقته ثم عارضه. فقال يا كميش: هل لك في عانة لم أر مثلها سمنًا ولا عظمًا "العانة: القطيع من حمر الوحش" وعير معها من ذهب؟ فأما الأتن "بضمتين جمع أتان" فتروح بها إلى هلك فتملأ قدورهم، وتفرح صدروهم، وأما العير فلا افتقار بعده= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 من عرف بالكذب جاز صدقه1. الصحة داعية السقم. الشباب داعية الهرم. كثرة الصياح من الفشل. إذا قدمت المصيبة تركت التعزية. إذا قدم الإخاء سمج الثناء. العادة أملك من الأدب. الرفق يمن والخرق شؤم. المرأة ريحانة وليست بقهرمانة2. الدال على الخير كفاعله. المحاجزة قبل المناجزة. قبل الرماية تملأ الكنائن. لكل ساقطة لاقطة. مقتل الرجل بين كفيه. ترك الحركة غفلة. الصمت حبسة. من خير خبر. إن تسمع تمطر3. كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة. قيدوا النعم بالشكر. من يزرع المعروف يحصد الشكر، لا تغتر بمودة الأمير إذا غشك الوزير. أعظم من المصيبة سوء الخلف منها. من أراد البقاء فليوطن نفسه على المصائب. لقاء الأحبة مسلاة للهم. قطيعة الجاهل كصلة العاقل. من رضي على نفسه كثر الساخط عليه. قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضًا عارفها. أدوأ الداء الخلق الدني، واللسان البذي. إذا جعلك السلطان أخا فاجعله ربًّا. احذر الأمين ولا تأمن الخائن. عند الغاية يعرف السبق. عند الرهان يحمد المضمار. السؤال وإن قل أكثر من النوال وإن جل كافئ المعروف بمثله أو انشره. لاخلة4 مع عيلة، لا مروءة مع ضر، ولا صبر مع شكوى.   = قال له كمش: وكيف لنا به؟ قال: أنا لك به، وليس يدرك إلا على فرسك هذا، ولا يرى إلا بليل، ولا يراه غيري، قال كميش: فدونكه، قال نعم وأمسك أنت راحلتي؛ فركب قراد الفرس وقال: انتظرني في هذا المكان إلى هذه الساعة من غد، قال: نعم ومضى قراد: فلم يزل كميش ينتظره حتى أمسى من غده وجاع؛ فلما لم ير له أثرًا انصرف إلى أهله وقال في نفسه: إن سألني أخي عن الفرس قلت تحول ناقة؛ فلما رآه أخوه الربيع عرف أنه خدع عن الفرس، فقال له: أين الفرس؟ قال: تحول ناقة، قال: فما فعل السرج؟ قال: لم أذكر السرج فاطلب له علة، فصرعه الربيع ليقتله، فقال له قنفذ بن جعونة: لله عما فاتك، فإن أنفك منك وإن كان أجدع، فذهبت مثلًا. 1 في مجمع الأمثال "2: 175": "من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يحز صدقه". 2 القهرمان: هو كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجل بلغة الفرس. 3 أي إن تفتح أذنك للأقاويل تمطر وابلًا منها. 4 الخلة: الصداقة المختصة لا خلل فيها. والعيلة الفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ليس من العدل، سرعة العذل1. عبد غيرك حر مثلك. لا يعدم الخيار، من استشار. الوضيع من وضع نفسه. المهين من نزل وحده من أكثر أهجر2. كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع". " العقد الفريد 1: 272". ومن أمثال أكثم بن صيفي أيضًا: "في الجريرة تشترك العشيرة3. إذا قرع الفؤاد ذهب الرقاد. هل يهلكني فقد ما لا يعود؟ أعوذ بالله أن يرميني امرؤ بدائه. رب كلام، ليس فيه اكتتام. حافظ على الصديق، ولو في الحريق. ليس بيسير، تقويم العسير. إذا أردت النصيحة؛ فتأهب للظنة. متى تعالج مال غيرك تسأم. غثك خير من سمين غيرك. لا تنطح جماء4 ذات قرن. قد يبلغ الخضم بالقضم5. قد صدع الفراق، بين الرفاق، استأنوا6 أخاكم، فإن مع اليوم غدًا. الحر عزوف7. لا تطمع في كل ما تسمع". "جمهرة الأمثال 2:103".   1 اللوم. 2 الإهجار: الإفحاش وهو أن يأتي في كلامه بالفحش. 3 مثل يضرب في الحث على المواساة. 4 الجماء: الشاة بلا قرن مؤنث الأجم. 5 القضم، الأكل بأطراف الأسنان، والخضم الأكل بأقصى الأضراس، ومعنى المثل: قد تدرك الغاية البعيدة بالرفق. 6 انتظروا. 7 من عزفت نفسه عنه: إذا زهدت فيه وانصرفت عنه أي أنف راغب عن الدنايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 88- نصيحة الجمانة بنت قيس بن زهير لجدها الربيع بن زياد : كان قيس بن زهير العبسي قد اشترى من مكة درعًا حسنة، تسمى ذات الفضول، وورد بها إلى قومه، فرآها عمه الربيع بن زياد، وكان سيد بني عبس، فأخذها منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 غضبًا، فقالت الجمانة بنت قيس لأبيها: دعني أناظر جدي، فإن صلح الأمر بينكما، وإلا كنت من وراء رأيك؛ فأذن لها، فأتت الربيع فقالت: "إذا كان قيس أبي، فإنك يا ريبع جدي، وما يجب له من حق الأبوة علي، إلا كالذي يجب عليك من حق البنوة لي، والرأي الصحيح تبعثه العناية، وتجلي عن محضه النصيحة، إنك قد ظلمت قيسًا بأخذ درعه، وأجد مكافأته إياك سوء عزمه، والمعارض منتصر، والبادي أظلم، وليس قيس ممن يخوف بالوعيد، ولا يردعه التهديد، فلا تركنن إلى منابذته؛ فالحزم في متاركته، والحرب متلفة للعباد، ذهابة بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال، وأبقى لأنفس الرجال، وبحق أقول: لقد صعدت بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم"، ثم أنشأت تقول: أبي لا يرى أن يترك الدهر درعه ... وجدي يرى أن يأخذ الدرع من أبي فرأي أبي رأي البخيل بماله ... وشيمة جدي شيمة الخائف الأبي "بلاغات النساء ص125". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 89- وصف عصام الكندية أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني : لما بلغ الحارث بن عمرو ملك كندة جمال أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني، وكمالها وقوة عقلها، أراد أن يتزوجها؛ فدعا امرأة من كندة، يقال لها عصام، ذات عقل ولسان، وأدب وبيان، وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف؛ فمضت حتى انتهت إلى أمها أمامة بنت الحارث؛ فأعلمتها ما قدمت له، فأرسلت أمامة إلى ابنتها وقالت: أي بنية، هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك، فلا تستري عنها شيئًا أرادت النظر إليه، من وجه وخلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه، فدخلت عصام عليها؛ فنظرت إلى ما لم تر عينها مثله قط بهجة وحسنًا وجمالًا؛ فإذا هي أكمل الناس عقلًا، وأفصحهم لسانًا؛ فخرجت من عندها وهي تقول: "ترك الخداع من كشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 القِنَاعَ" فذهبت مثلًا، ثم أقبلت إلى الحارث فقال لها: "ما وراءك يا عصام"؟ فأرسلها مثلًا، قالت: "صرح المخض عن الزبد1"، فذهبت مثلًا. قال أخبريني، قالت: أخبرك صدقًا وحقًّا: "رأيت جبهة كالمرآة الصقيلة، يزينها شعر حالك، كأذناب الخيل المضفورة2، إن أرسلته خلته السلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد كرم جلاها الوابل3، وحاجبين كأنهما خطا بقلم، أو سودا بحمم4 قد تقوسا على عيني الظبية العبهرة5 التي لم يرعها قانص، ولم يذعرها قسورة6، بينهما أنف كحد السيف المصقول7، لم يخنس به8 قصر، ولم يمض9 به طول، حفت به وجنتان كالأرجوان10، في بياض محض كالجمان11، شق فيه فم كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثنايا غر، ذوات أشر12، وأسنان تبدو كالدرر، وريق كالخمر له نشر الروض بالسحر، يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يحركه عقل وافر وجواب حاضر، تلتقي دونه شفتان حمراوان كالورد، تجلبان ريقًا كالشهد، تحت ذلك عنق كإبربق الفضة، ركب في صدر كصدر تمثال دمية13، يتصل بها عضدان ممتلئان لحمًا، مكتزان14 شحمًا، وذراعان ليس فيها عظم يحس، ولا عرق يجس، ركبت فيهما كفان، دقيق   1 مخض اللبن: أخذ زبده، والتصريح: تبين الأمر، وهو مثل يضرب للأمر إذا انكشف وتبين. 2 في الأصل "المقصورة" وهو تحريف وصوابه "المضفورة". 3 المطر الشديد الضخم القطر. 4 الحمم: الفحم. 5 العبهرة والعبهر: الرقيقة البشرة الناصعة البياض، والسمينة الممتلئة الجسم. 6 القسورة: الرماة من الصيادين، الواحد قسور. 7 في مجمع الأمثال "الصنيع" وهو السيف الصقيل المجرب. 8 خنس عنه كضرب وكرم تأخر "والخنس: محرك تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، خنس كفرح فهو أخنس وهي خنساء". 9 وفي جمهرة الأمثال "ولم يمعن". 10 الأرجوان: صبغ أحمر. 11 الجمان: اللؤلؤ، أو هنوات أشكال اللؤلؤ من فضة. 12 أشر الأسنان: التحزيز الذي فيها. 13 الدمية: الصورة المنقشة من الرخام أو عام. 14 اكتنز: اجتمع: اجتمع وامتلأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 قصبهما، لين عصبهما، تعقد إن شئت منهما الأنامل، وتركب الفصوص في حفر المفاصل، وقد تربع في صدرها حقان، كأنهما رمانتان، يخرقان عليها ثيابها، تحت ذلك بطن طوي كطي القباطي1 المدمجة، كسي عكنًا2 كالقراطيس المدرجة3 تحيط تلك العكن بسرة كمدهن4 العاج المجلو، خلف ذلك ظهر كالجدول، ينتهي إلى خصر، لولا رحمة الله لانبتر، تحته كفل5 يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص6 رمل، لبده سقوط الطل، يحمله فخذان لفاوان7 كأنهما نضيد الجمان تحتهما ساقان، خدلتان8 كالبردي، وشيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزرد، يحمل ذلك قدمان، كحذو اللسان، فتبارك الله مع صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما، فأما ما سوى ذلك فتركت أن أصفه؛ غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر"؛ فأرسل الملك إلى أبيها فخطبها، فزوجه إياها9. "العقد الفريد 3:235، ومجمع الأمثال 2:143، وجمهرة الأمثال 2: 27".   1 القباطي "بضم الأول مع تشديد الآخر" وقباطي "بفتح الأول مع تخفيف الآخر" جمع قبطية "بالضم على غير قياس وقد تكسر": ثياب كنان بيض رقاق كانت تعمل في مصر. 2 العكن: جمع عكنة "كفرصة" وهي ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنًا. 3 المطوية. 4 المدهن: قارورة الدهن. 5 عجز. 6 الدعص: الكثيب من الرمل المجتمع. 7 اللفاء: الفخذ الضخمة "والضخمة الفخذين". 8 ساق خدلة: ممتلئة صخمة "والحدالة المرأة الغليظة الساق المستديرتها وفي العقد: "خد لجتان". "بفتح الخاء والدال وتشديد اللام" والخدلجة: المرأة الممتلئة الذراعين والساقين. 9 في مجمع الأمثال وجمهرة الأمثال، أن الذي تزوج أم إياس هو الحارث بن عمرو، والحارث هذا هو جد امرئ القيس، وذكر صاحب العقد أن الذي تزوجها هو عمرو بن حجر، وأنها ولدت له الحارث بن عمرو جد امرئ القيس غير أنا نلاحظ أنه قال في مقدمة هذا الوصف: "ثم أقبلت عصام إلى الحارث؛ فقال لها: ما وراءك ياعصام؟ ... إلخ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 90- وصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس : فلما حملت إلى زوجها قالت لها أمها أمامة بنت الحارث: "أي بنية: إن الوصية لو تركت لفضل أدب، تركت لذلك منك؛ ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة جاجتها إليها، كنت أغنى الناس عنه؛ ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال. أي بنية: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه1 عليك رقيبًا ومليكًا؛ فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكًا2. يا بنية: احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذكرًا، الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضوع أنفه؛ فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، والكحل أحسن الحسن، والماء أطيب الطيب المفقود، والتعهد لوقت طعامه، والهدو عنه عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيض النوم مغضبة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على العيال والحشم جميل حسن التدبير، ولا تفشي له سرًا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنك إن أفشيت سره، لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره، أو غرت صدره، ثم انقي من   1 أملكه إياها: زوجه فملكها ملكًا، مثلث الميم. 2 الوشيك، السريع: أي يكن عبدًا سريع الإجابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ذلك الفرح إن كان ترحًا، وإلا كتئاب عنده إن كان فرحًا؛ فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لك إكرامًا، وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين، حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك". "مجمع الأمثال 2:143، والعقد الفريد 3: 223". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الباب الثاني: الخطب والوصايا في عصر صدر الإسلام خطب النبي صلى الله عليه وسلم أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه ... الخطب والوصايافي عصر صدر الإسلام: خطب النبي صلى الله عليه وسلم: 1- أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه: حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الرائد1 لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعًا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانًا، وبالسوء سوءًا، وإنها لجنة أبدًا، أو لنار أبدًا". "السير الحلبية 1: 272، والكامل لابن الأثير 2: 27".   1 المرسل في طلب الكلأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أول خطبة بالمدينة ... 2- أول خطبة خطبها بالمدينة: حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم؛ تعلمن، والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فلبغك، وآتيتك مالًا، وأفضلت عليك؛ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينًا وشمالًا؛ فلا يرى شيئًا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جنهم؛ فمن استطاع أن يقي وجهه من النار، ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة؛ فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف1، والسلام عليكم وعلى رسوله الله ورحمة الله وبركاته". "سيرة ابن هشام 1: 300".   1 ضعف الشيء مثله، وضعفاه، أو الضعف المثل إلى ما زاد، ويقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله؛ لأن زيادة غير محصورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 3- خطبته في أول جمعة جمعها بالمدينة : "الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأومن به ولا أكفره وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله؛ فقد رشد1، ومن يعصهما؛ فقد غوى وفرط، وضل ضلالًا بعيدًا، وأوصيكم بتقوى الله؛ فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرًا، وإن   1 كنصر وفرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه، عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله؛ يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد، والذي صدق قوله، وأنجز وعده لا خلف لذلك؛ فإنه يقول عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية؛ فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجرًا، ومن يتق الله فقد فاز فوزًا عظيمًا، وإن تقوى الله يوقى مقته، ويوقى عقوبته، ويوقى سخطه، وإن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضي الرب، ويرفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين؛ فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله؛ فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم؛ فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس؛ ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، يملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم". "تاريخ الطبري 2: 255". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 4- خطبة له يوم أحد : قام عليه الصلاة والسلام فخطب الناس فقال: "أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه، من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطن نفسه على الصبر واليقين، والجد والنشاط؛ فإن جهاد العدو شديد كربه، قليل من يصبر عليه إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 من عزم له على رشده، إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه؛ فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به؛ فإني حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف. وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطي عليه النصر. أيها الناس إنه قذف في قلبي أن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله؛ غفر له ذنبه، ومن صلى على محمد وملائكته عشرًا، ومن أحسن وقع أجره على الله في عاجل دنياه، أو في آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فعليه الجمعة يوم الجماعة، إلا صبيًّا أو امرأة أو مريضًا أو عبدًا مملوكًا، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه. والله غني حميد. ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث الروح الأمين في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها؛ فاتقوا الله ربكم، وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم؛ فإنه لا يقدر على ما عنده إلى بطاعته، قد بين لكم الحلال والحرام؛ غير أن بينهما شبهًا من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم؛ فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه، وليس ملك إلا وله حمى؛ ألا وإن حمى الله محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده، والسلام عليكم". "شرح ابن أبي الحديد 3: 365". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 5- خطبته بالخيف : وخطب بالخيف من منى فقال: "نضر1 الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها؛ فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل2 عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأولى الأمر، ولزوم الجماعة، إن دعوتهم تكون من ورائه، ومن كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له". "إعجاز القرآن ص112".   1 من النضرة والنضارة: وهي الحسن. 2 غل صدره بغل كضرب غلًا: وهو الحقد والضغن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 6- خطبة له عليه الصلاة والسلام : ومن خطبه أيضًا أنه خطب بعد العصر فقال: "ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، ألا لا يمنعن رجلًا مخافة الناس أن تقول الحق إذا علمه. ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف فقال: إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى". "إعجاز القرآن ص113". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 7- خطبة له عليه الصلاة والسلام: "إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أصدق الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسو عليه قلوبكم، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، اتقوا الله حق تقاته1، وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، والسلام عليكم ورحمة الله". "إعجاز القرآن ص110".   1 التقاة: التقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 8- خطبة له عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس إن لكم معالم1؛ فانتهو إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم؛ فإن العبد بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجل باق لا يدري ما الله قاض فيه؛ فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، والذي نفس محمد بيده: ما بعد الموت من مستعتب2، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. "تهذيب الكامل 1:5، إعجاز القرآن 110، البيان والتبيين 1: 165، عيون الأخبار م 2: ص213، وغرر الخصائص الواضحة 150".   1 جمع معلم كمذهب، وهو الأثر يستدل به على الطريق، والمراد حدود الشريعة المطهرة. 2 استعتبه: أعطاه العتبى "وهي الرضا والصفح" وطلب إليه العتبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 9- خطبة له عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب. وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر، عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم؛ كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة، وأمنَّا كل جائحة1، طوبى2 لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالًا اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم تستهوه البدعة". "صبح الأعشى 1: 213".   1 الجوح: الإهلاك والاستئصال كالاجتياح. 2 مؤنث أطيب، والحسنى والخير، وشجرة في الجنة أو الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 10- خطبة له عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب. وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر، عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة، وأمنَّا كل جائحة1، طوبى2 لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالًا اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم تستهوه البدعة". "صبح الأعشى 1: 213".   1 الجوح: الإهلاك والاستئصال كالاجتياح. 2 مؤنث أطيب، والحسنى والخير، وشجرة في الجنة أو الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 11- خطبته يوم فتح مكة : وقف على باب الكعبة ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة1 أو دم أو مال يدعى؛ فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت2، وسقاية الحاج، ألا وقتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا، فيهما الدية مغلظة، منها أربعون خلفة3 في بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها4 بالآباء، الناس من آدم، وآدم خلق من تراب، ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] الآية يا معشر قريش "أو يأهل مكة" ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء". "تاريخ الطبري 3: 120، وإعجاز القرآن ص112، والكامل لابن الأثير 2: 121، وسيرة ابن هشام 2: 273".   1 المأثرة: المكرة. 2 خدمة الكعبة. 3 الخلفة: الحامل من النياق. 4 تعظم: تكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 12- خطبته في الاستسقاء : روي أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله في عام جدب؛ فقال: أتيناك يارسول الله، ولم يبق لنا صبي يرتضع، ولا شارف5 تجتر ثم أنشده: أتيناك والعذراء بدمي لبابها6 ... وقد شغلت أم الرضيع عن الطفل وألقى بكفيه الفتى لاستكانةٍ ... من الجوع حتى ما يمر ولا يحلي7   1 المأثرة: المكرة. 2 خدمة الكعبة. 3 الخلفة: الحامل من النياق. 4 تعظم: تكبر. 5 الشارف من النوق: المسنة الهرمة كالشارفة. 6 أي يدمى صدرها لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان. 7 أي ما يضر وما ينفع، أو ما يأتي بكلمة ولا فعلة مرة ولا حلوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ولاشيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل1 وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأنثى عليه، وقال: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، مريئًا هنيئًا مريعًا2، سحًّا سجالًا3، غدقًا4 طبقًا 5، ديمًا دررًا6، تحيي به الأرض وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، واجعله سقيًا نافعة، عاجلًا غير رائث7. فوالله مارد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يده إلى نحره؛ حتى ألقت السماء أروافها8، وجاء الناس يضجون: الغرق الغرق يا رسول الله، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا! ما فانجاب9 السحاب عن المدينة؛ حتى استدار حولها كالإكليل، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده10. "شرح ابن الحديدم 3 ص316".   1 العامي: الذي أتى عليه عام، قال الشاعر: "من أن شجاك طلل عامي: والعلهز: طعام من الدم والبر كان يتخذ في المجاعة، والفسل: الريء الرذل من كل شيء. 2 المربع الخصيب، أي تخصب به الأرض التي ينزل عليها. 3 أي متداولًا بين البلاد، ينال كل منها نصيبه منه، والسجل بالفتح: النصيب والدلو المماوءة العظيمة، ويقال الحرب سجال: أي نصرتها بين القوم متداولة سجل منها على هؤلاء وآخر على هؤلاء. 4 الغدق: الماء الكثير. 5 أي مالئًا للأرض مغطيًا لها، يقال غيث طبق: أي عام واسع يطبق الأرض. 6 هو جمع درة بالكسر، يقال للسحاب درة: أي صب واندفاق، وقيل الدرر: الدار، كقوله تعالى: "دِيْنًا قَيِّمًا" أي قائمًا. 7 أي غير بطيء. 8 ألقت السحابة أرواقها: أي مطرها ووبلها. 9 انكشف. 10 النواجذ: أقصى الأضراس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح1 بالذي هو خير، أما بعد: أيها الناس اسعموا مني أبين لكم؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب2، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب2، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود3، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير؛ فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه4 قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ما تحقرون من أعمالكم، أيها الناس: {إِنَّمَا النَّسِيء5 زِيَادَةٌ   1 الاستفتاح: الافتتاح والاستنصار. 2 وكان مسترضعًا في بني ليث فقتلته بنو هذيل. 3 القود: القصاص، أي من قتل عمدًا يقتل. 4 في رواية الكامل لابن الأثير: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدًا، ولكنه يطاع فيما سوى ذلك، وقد رضي بما تحقرون من أعمالكم". 5 أي تأخير حرمة شهر إلى آخر، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه، وحرموا مكانه شهرًا آخر فيحلون المحرم، ويحرمون صفرًا؛ فإن احتاجوا أحلوه وحرموا ربيعًا الأول، وهكذا حتى استدار التحريم على الشهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لاخصوصية الأشهر المعلومة، وأول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني، كان يوم على جمل في الموسم فينادي: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم ينادي في القبائل: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم؛ فحرموه -زيادة في الكفر، أي كفر آخر ضموه إلى كفرهم. ليواطئوا: أي يوافقوا عدة الأشهر الأربعة المحرمة، وكانوا ربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حرامًا أيضًا، ولذا نص على العدد المبين في الكتاب والسنة، وكان وقت حجهم يختلف من أجل ذلك، وكان في السنة التاسعة التي حج فيها أبو بكر بالناس في ذي القعدة، وفي حجة الوداع في ذي الحجة، وهو الذي كان على عهد إبراهيم الخليل ومن قبله من الأنبياء، ولذا قال عليه الصلاة السلام "إن الزمان قد استدار ... إلخ" - راجع تفسير الألوسي جـ3 ص305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب1 الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حق، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة؛ فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن2 وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرح؛ فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالعروف، وإنما النساء عندكم عوان3 لا يملكن لأنفسهن شيئًا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه؛ ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! فلا ترجعن بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده، كتاب الله، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى؛ ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! قالوا نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب.   1 قالوا في تثنية رجب وشعبان رجبان للتغليب. 2 العضل: الحبس والتضييق. 3 جمع عانية من عنا، أي خضع وذل، والعاني: الأسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أيها الناس: إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر1، من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل2، والسلام عليكم ورحمة الله. "البيان والتبين 2:15، العقد الفريد 2: 13، إعجاز القرآن 111، شرح ابن أبي الحديد 1: 41، تاريخ الطبري 3:   1 والعاهر: أي الزاني، أي لا حق له في النسب ولا حظ له في الولد، وإنما هو لصاحب الفراش أي لصاحب أم الولد وهو زوجها أو مولاها، وهو كقوله الآخر: له التراب، أي لاشيء له. 2 الصرف: التوبة. والعدل: الفدية، وقيل الصرف القيمة. والعدل المثل، وأصله في الفدية يقال: لم يقبلوا منهم صرفًا ولا عدلًا، أي لم يأخذوا منهم دية ولم يقتلوا بقتيلهم رجلًا واحدًا، أي طلبوا منهم أكثر من ذلك، ثم جعل بعد في كل شيء حتى صار مثلًا فيمن لم يؤخذ منه الذي يجب عليه وألزم أكثر منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 14- خطبته في مرض موته عن الفضل بن عباس قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إليه _فوجدته موعوكًا قد عصب رأسه، فقال: خذ بيدي يا فضل، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال ناد في الناس، فاجتمعوا إليه، فقال: "أما بعد: أيها الناس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني خفوق1 من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهري فليستقد2 منه ومن كنت شتمت له عرضًا، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالًا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني، إلا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقًّا إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارًا".   1 خفق النجم يخفق خفوقًا: غاب، والطائر طار، والليل ذهب أكثره. 2 فليقتص "من القود" وهو القصاص، أقاد القاتل بالقتيل قتله به، واستقاد الحاكم سأله أن يقيد القاتل بالقتيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى، فادعى عليه رجل بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال: "أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة" ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: "إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بأنفسنا وآبائنا". "تاريخ الطبري 2:191: والكامل لابن الأثير 2: 154". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 15- خطبة أكثم بن صيفي يدعو قومه إلى الإسلام : لما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام بمكة، ودعا الناس إلى الإسلام بعث أكثم بن صيفي ابنه حبيشًا؛ فأتاه بخبره، فجمع بني تميم وقام فيهم خطيبًا فقال: "يا بني تميم: لا تحضروني سفيهًا؛ فإنه من يسمع يخل1، إن السفيه يوهن من فوقه، ويتبب من دونه2. لا خير فيمن لا عقل له. كبرت سني ودخلتني ذلة؛ فإذا رأيتم مني حسنًا فاقبلوه، وإن رأيتم مني غير ذلك فقوموني أستقم. إن ابني شافه هذا الرجل مشافهةً، وأتاني بخبره، وكتابه يأمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق، ويدعو إلى توحيد الله تعالى، وخلع الأوثان، وترك الحلف بالنيران، وقد عرف ذوو الرأى منكم أن الفضل فيما يدعو إليه، وأن الرأي ترك   1 خال: ظن، ومضارعه إخال بالكسر وهو الأفصح، وبنو أسد يقولون أخال بالفتح وهو القياس، وقوله "من يسمع يخل" مثل، معناه من يسمع أخبار الناس ومعايبهم يقع في نفسه عليهم المكروه. 2 في مجمع الأمثال "ويثبت من دونه" من أثبته: أي أثخنه بالجراح، والمعنى يضعف ويوهن، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [لأنفال: 30] . ليثبتوك: أي ليجرحوك جراحة لا تقوم معها أو ليحبسوك، وفي سرح العيون "ويتبب من دونه" من تببه بالتشديد: أي أهلكه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ما ينهى عنه، إن أحق الناس بمعونة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومساعدته على أمره أنتم؛ فإن يكن الذي يدعو إليه حقًّا؛ فهو لكم1 دون الناس، وإن يكن باطلًا كنتم أحق الناس بالكف عنه وبالستر عليه، وقد كان أسقف نجران يحدث بصفته، وكان سفيان بن مجاشع يحدث به قبله، وسمى ابنه محمدًا؛ فكونوا في أمره أولًا، ولا تكونوا آخرًا، ائتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين، إن الذي يدعو إليه محمد -صلى الله عليه وسلم- لو لم يكن دينًا كان في أخلاق الناس حسنًا، أطيعوني واتبعوا أمري، أسأل لكم أشياء لا تنزع منكم أبدًا، وأصبحتم أعز حي في العرب، وأكثرهم عددًا، وأوسعهم دارًا؛ فإن أرى أمرًا لا يجتنبه عزيز إلا ذل، ولا يلزمه ذليل إلا عز، إن الأول لم يدع للآخر شيئًا، وهذا أمر له ما بعده، من سبق إليه غمر المعالي2، واقتدى به التالي والعزيمة حزم، والاختلاف عجز". فقال مالك3 بن نويرة: قد خرف شيخكم؛ فلا تتعرضوا للبلاء، فقال أكثم: ويل للشجي من الخلي، وا لهفي على أمر لم أشهده ولم يسعني4. ثم رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق، وبعث بإسلامه مع من أسلم ممن كان معه5. "مجمع الأمثال 2: 218، سرح العيون ص14".   1 يريد للعرب. 2 من غمره الماء: أي غطاه. 3 وقد أسلم ثم ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض بني تميم، وسار إليه خالد بن الوليد فقتله، وقصته في التاريخ مشهورة. 4 وفي سرح العيون، ولم يسبقني. 5 وذكر عن ابن عباس أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] نزل في أكثم ومن تبعه من أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 16- وصية أبي طالب لوجوه قريش عند موته : لما حضرت أبا طالب1 الوفاة، جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: "يا معشر قريش: أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، الواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبًا إلا أحرزتموه، ولا شرفًا إلا أدركتموه؛ فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم ألب2، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية -يعني الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب، وقوامًا للمعاش، وثباتًا للوطأة، صلوا أرحامكم فإن في صلة الرحم منسأةً3 في الأجل، زيادة في العدد، اتركوا البغي والعقوق؛ ففيهما هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، فإن فيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيهما محبةً في الخاص، ومكرمة في العام. وإني أوصيكم بمحمد خيرًا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاءنا بأمر قبله الجنان4، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن5، وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره؛ فخاض بهم غمرات الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابًا، ودورها خرابًا، وضعفاؤها أربابًا6، وإذا   1 توفي في السنة العاشرة من النبوة وهو ابن بضع وثمانين سنة، وإسلامه مختلف فيه "اقرأ فصلًا طويلًا في ذلك في شرح ابن أبي الحديد م 3: ص311". 2 أي ذوو ألب، والألب: التدبير على العدو من حيث لا يعلم. 3 أي فسحة وامتداد: من نسأه، أي آخره. 4 القلب. 5 البغض والكراهية. 6 سادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته1 العرب ودادها وأصفت له بلادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش: كونوا له ولاةً، ولحزبه حماةً، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ بهديه أحد، إلا سعد ولو كان لنفسي مدة، وفي أجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز2، ولدافعت عنه الدواهي". "بلوغ الأدب 1: 327".   1 محضه الود، وأمحضه: أخلصه. 2 الهزاهز والهزهزة: تحريك البلايا والحروب الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 خطب الوفود خطبة عطارد بن حاجب بن زرارة بين يدي النبي ... خطب الوفود: 17- خطبة عطارد بن حاجب بن زرارة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع للهجرة عطارد بن حاجب بن زرارة، في أشراف من بني تميم؛ فلما دخل الوفد المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك من صياحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال نعم، قد أذنت لخطيبكم فليقل، فقام إليه عطارد فقال: "الحمد لله الذي له علينا الفضل، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددًا، وأيسره عدة؛ فمن مثلنا في الناس، ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس، قم فأجب الرجل في خطبته، فقام ثابت فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 18- خطبة ثابت بن قيس بن الشماس : "الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 من خير خلقه رسولًا، أكرمهم نسبًا، وأصدقهم حديثًا، وأفضلهم حسبًا؛ فأنزل عليه كتابه، وأتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أنسابًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالًا، ثم كان أول الخلق استجابة لله، حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن؛ فنحن أنصار الله، ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم". ثم قالوا يا محمد: ائذن لشاعرنا، فقال نعم، فقام الزبرقان بن بدر؛ فأنشد قصيدة في الفخر، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى حسان بن ثابت فرد عليه؛ فقال الأقرع بن حابس التميمي. إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا؛ فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم. "تاريخ الطبري 3: 150، والكامل لابن الأثير 2: 139، وسيرة ابن هشام 2: 363" وصبح الأعشى 1: 373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 19- عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر1 فقال عمرو: "مطاع في أدنيه2، شديد العارضة3. مانع لما وراء ظهره" فقال الزبرقان:   1 هما سيدان من بني تميم. 2 أي في الأدنين منه: أي الأقربين، وأصله أدنين حذفت نونه لإضافته إلى الضمير. 3 العارضة: قوة الكلام وتنقيحه، والرأي الجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 "والله يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر مما قال، ولكنه حدني شرفي" فقال عمرو: "أما لئن قال ما قال؛ فوالله ما علمته إلا ضيق الصدر، زمر المروءة1، أحمق الوالد، لئيم الخال، حديث الغنى"؛ فلما رأى أنه خالف قوله الآخر قوله الأول، ورأى الإنكار في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله رضيت؛ فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن من البيان لسحرًا". "البيان والتبيين 1: 31، والعقد الفريد 1: 117، ومجمع الأمثال للميداني 1: 5".   1 قليل المروءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 20- خطبة طهفة بن أبي زهير النهدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير النهدي فقال: "يا رسول الله أتيناك من غوري1 تهامة بأكوار الميس، ترمي بنا العيس2 نستحلب الصبير3، ونستجلب الخبير4، ونستعضد5 البرير، ونستخيل الرهام6، ونستحيل الجهام7، من أرض غائلة النطاء8، غليظة الوطاء، نشف المدهن9،   1 الغور: كل ما نحدر مغربًا عن تهامة، والأكوار: جمع كور بالضم، وهو الرحل أو بأداته، والميس، شجر عظام أي بالأكوار المصنوعة منه. 2 العيس جمع عيساء: الإبل البيض يخالط بياضها شقرة. 3 الصبير: السحاب الكثيف. 4 العشب. 5 استعضد الثمرة: اجتناها، والبرير: ثمر الأراك، وكانوا يأكلونه وقت الجدب لقلة الزاد. 6 الرهم جمع رهمة بالكسر: وهي المطر الضعيف الدائم. ونستخبل: نخال ونظن. وسحابة مخيلة بضم فكسر: أي تحسبها ماطرة. 7 الجهام: السحاب قد أراق ماءه. 8 النطاء: البعد، أي بعيدة بعدًا مهلكًا. 9 مستنقع الماء: أو كل موضع حفره سيل، ونشف الحوض الماء: شربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ويبس الجعثن1، وسقط الأملوج2، ومات العسلوج3، وهلك الهدي4، ومات الودي5، برئنا يا رسول الله من الوثن والعثن6، وما يحدث الزمن، لنا دعوة السلام، وشريعة الإسلام، ما طمى7 البحر، وقام تعار8، ولنا نعم، همل9 أغفال، ما تبض10 ببلال، ووقير11 كثير الرسل، قليل الرسل، أصابتها سنية حمراء مؤزلة 12، ليس بها علل ولا نهل".   1 أصل النبات. 2 ورق كورق السرو لشجر بالبادية. 3 مالان واحضر من القضبان. وعسلجت الشجرة: أخرجته. 4 ما يهدي إلى مكة لينحر. 5 الودى الفسيل "النخل الصغار". 6 الصنم الصغير. 7 امتلأ وعلا. 8 جبل بيلاد قيس. 9 مهملة، والأغفال جمع غفل بالضم: وهو ما لا سمة عليه من الدواب. 10 بض الماء يبض: سال قليلًا قليلًا، والبلال: البلل، والمراد قلة اللبن. 11 القطيع من الغنم. 12 الرسل: القطيع من كل شيء، والرسل: اللبن، وسنية: تصغير تعظيم لسنة، وهي القحط والمجاعة، وحمراء: أي شديدة، ومؤزلة: ذات أزل بسكون الزاي، وهو الضيق والشدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 21- رده صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في محضها1 ومخضها ومذقها، وابعث راعيها في الدثر2 بيانع الثمر، وافجر له الثمد3، وبارك له في المال والولد. من أقام الصلاة كان مسلمًا، ومن آتى الزكاة كان محسنًا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصًا، يا بني نهد، ودائع4 الشرك، ووضائع الملك، لا تلطط في الزكاة، ولا تلحد في الحياة، ولا تثاقل عن الصلاة" "العقد الفريد 1: 113".   1 اللبن الخالص، ومخض اللبن: أخذ زبده: والمذيق: اللبن الممزوج بالماء، مذقه فامتذق. 2 الدثر: المال الكثير. وقيل هو الكثير من كل شيء، وأراد به هنا الخصب والنبات الكثير. 3 الماء القليل لا مادة له، أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف. 4 أي الغنائم التي تغنم من المشركين وتودع بيت مال المسلمين، ليقووا بها على شئونهم، والوضائع جمع وضيعة: وهي ما يأخذه السلطان من الخراج والعشور. يريد أن يقول لهم: إن موارد المال للأمة الإسلامية هما هذان الركنان الغنائم والزكاة، فلا تعطلوا الزكاة، ولذا عقب ذلك القول بقوله: لا تلطط في الزكاة أي لا تمنعها: لططت حقه جحدته كألططت، ولا تلحد في الحياة: أي لا يجري منكم ميل عن الحق ما دمتم أحياء، ولا تثاقل عن الصلاة: أي عن أدائها في وقتها، ويروى: ولا يلطط في الزكاة، ولا يلحد في الحياة "بالبناء للمجهول" ولا تثاقل عن الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 22- خطبة ظبيان بن حداد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم: وفد ظبيان بن حداد في سراة مذحج على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال بعد السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثناء على الله عز وجل بما هو أهله: "الحمد لله الذي صدع1 الأرض بالنبات، وفتق السماء بالرجع2، ثم قال: نحن قوم من سراة مذحج من يحابر3 بن مالك، ثم قال: فتوقلت4 بنا القلاص من أعالى الحوف ورءوس الهضاب، يرفعها عرر5 الربا، ويخفضها بطنان الرقاق، وتلحقها دياحي الدجى، ثم قال: وسروات الطائف كانت لبني مهلائيل بن قينان، غرسوا وديانه، وذللوا خشانه6 ورعوا قربانه، ثم ذكر نوحًا حين خرج من السفينة بمن معه، قال فكان أكثر بنيه بنات، وأسرعهم نباتًا، عاد وثمود، فرماهم الله بالدمالق7، وأهلكم بالصواعق، ثم قال: وكانت بنو هانئ من ثمود تسكن   1 شق. 2 المطر بعد المطر. 3 هو مراد بن مالك "وهو مذحج" بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. 4 توقل في الجبل: صعد، والقلاص جمع قلوص: وهي الناقة الشابة أو الباقية على السير، والحوف: بلد بعمان. 5 في الأصل: "عوار" ولا معنى له هنا، وأرى أن صوابه "عرر" جمع عرة كقبة وعرة السنام: الشحمة العليا، أي ذروته وأعلاه: أي أنها تسير في أعالي الربا وذراها: وربما كان الأصل "عراعر" بفتح العين الأولى جمع عرعرة بضمها، وعرعرة الجبل والسنام، وكل شيء: رأسه، وبطنان جمع باطن: وهو الغامض من الأرض: أي المطمئن منها، والرقاق جمع رق بالفتح، وهو كل أرض إلى جنب واد ينبسط الماء عليها أيام المد ثم ينضب ودياجي الليل جنادسه كأنه جمع ديجاة، والدجى جمع دجية: وهي الظلمة. 6 الخشن والأخشن: الأخرش من كل شيء جمعه خشان. 7 الأملس: المستدير من الحجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الطائف، وهم الذين خطوا مشاربها، وأتوا جداولها1، وأحيوا غراسها، ورفعوا عريشها، ثم قال: وإن حمير ملكوا معاقل الأرض وقرارها، وكهول الناس وأغمارها2 ورءوس الملوك وعرارها؛ فكان لهم البيضاء والسوداء، وفارس الحمراء، والجزية الصفراء3، فبطروا النعم، واستحقوا النقم، فضرب الله بعضهم ببعض، ثم قال: وإن قبائل من الأزد نزلوا على عهد عمرو بن عامر؛ ففتحوا فيها الشرائع4، وبنوا فيها المصانع5، واتخذوا الدسائع6، ثم ترامت مذحج بأسنتها، وتنزت7 بأعنتها؛ فغلب العزيز أذلها، وقتل الكثير أقلها، ثم قال: وكان بنو عمرو بن خالد بن جذيمة يخبطون عضيدها8، ويأكلون حصيدها، ويرشحون9 حصيدها". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن نعيم الدنيا أقل وأصغر عند الله من خرء بعيضة، ولو عدلت عند الله جناح ذباب لم يكن لكافر منها خلاق، ولا لمسلم منها لحاق". " العقد الفريد 1:110".   1 أتى الماء تأتيه سهل وأصلح مجراه، أي سهلوا طرق المياه إليها. 2 جمع غمر مثلث الغين: وهو الحدث لا تجربة له، والعرار: الرفعة والسودد. 3 أي الذهبية. 4 جمع شريعة، وهي مورد الشاربة كالمشرعة. 5 المباني من القصور والحصون. 6 جمع دسيعة، وهي الجفنة والدسكرة. 7 تنزى: ثوثب وتسرع. 8 العضيد: ما قطع من الشجر، أي يضربونه ليسقط ورقة فيتخذوه علفًا لإبلهم. 9 الترشيح: التربية وحسن القيام على المال، والخضيد: ما خضد من الشجر ونحي عنه، وكل ما قطع من عود رطب "فعيل بمعنى مفعول" أي يصلحونه ويقومون بأمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 23- خطبة مالك بن نمط بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم: وقدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم مالك بن نمط أبو ثور، فقام بين يديه ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 "يارسول الله، نصية1 من همدان، من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج2، متصلة بحبال الإسلام، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف3 خارف4، ويام، وشاكر، أهل السواد والقرى، أجابوا دعوة الرسول، وفارقوا آلهة الأنصاب5 عهدهم لا ينقض، ما أقام لعلع6 وما جرى اليعفور بصُلَّع7". "صبح الأعشى 2: 244".   1 النصية من القوم: الخيار، وهمدان: من عرب اليمن. 2 القلص: جمع قلوص، وهي من الإبل الشابة أو الباقية على السير، والنواجي: جمع ناجية، وهي المسرعة في السير. 3 المخلاف الكورة. 4 خارف: لقب مالك بن عبد الله أبي قبيلة من همدان، ويام، وشاكر، قبيلتان من همدان باليمن. 5 الأنصاب: جمع نصب بضمتين، وهو حجر نصب وعبد من دون الله، وقيل النصب جمع واحدها نصاب، قيل هي الأصنام وقيل غيرها. 6 اسم جبل. 7 اليعفور: ولد البقرة الوحشية، والصلع: الموضع لاينبت شيئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 24- سفانة بنت حاتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدث الإمام علي كرم الله وجهه قال: لما أتينا بسبايا طيئ، كانت في النساء جارية جميلة -وهي سفانة بنت حاتم1؛ فلما رأيتها أعجبت بها؛ فقلت لأطلبنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجعلها من فيئي؛ فلما تكملت أنسيت جمالها، لما سمعت من فصاحتها، فقالت: "يا محمد: هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني، فلا تشمت بي أحياء العرب؛ فإني بنت سيد قومي2. كان أبي يفك العاني3، ويحمي الذمار.   1 السفانة في الأصل: اللؤلؤة. 2 جواب الشرط محذوف وهذا تعليل له أي فافعل فإني ... 3 العاني: الأسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طيئ". فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جارية هذه صفة المؤمن، ولو كان أبوك إسلاميًا لترحمنا عليه، خلوا عنها؛ فإن أباهها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق". "الأغاني 16: 93". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 25- وصية دريد بن الصمة : قال دريد بن الصمة لمالك بن عوف النصري قائد هوازن يوم حنين1: "يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم له ما بعده من أيام، مالي أسمع رغاء البعير، ونهيق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار2 الشاء. قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله، ليقاتل عنهم، فأنقض به3، ثم قال راعي4 ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك، لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك، ويحك، إنك لن تصنع بتقديم البيضة5 بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئًا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعلياء قومهم، ثم ألق الصبا6 على متون الخيل؛ فإن كان لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك، كنت قد أحرزت أهلك ومالك.   1 عزوة حنين كانت بين المسلمين وبين هوازن وثقيف سنة ثمان بعد الفتح انهزم فيها المسلمون أولًا ثم لموا شعثهم وشدوا على عدوهم فهزموهم. 2 اليعار: صوت الغنم أو المعزى أو الشديد من أصوات الشاء. 3 يقال أنقض أصابعه: ضرب بها لتصوت، وأنقض بالدابة: ألصق لسانه بالحنك ثم صوت في حافتيه. 4 يضرب به المثل في الحمق فيقال: "أحمق من راعي ضأن". 5 بيضة القوم: جماعتهم، وأصلهم، وفي الحديث: "ولا تسلط عليهم عدوًّا من عدوهم فيستبيح بيضتهم" يريد جماعتهم وأصلهم. 6 أي ذوي الصبا: أي الشبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قال لا والله ما أفعل، إنك قد كبرت وذهل عقلك. قال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يفتني، ثم أنشأ يقول: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع1 أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع2 "سيرة ابن هشام 2: 289، العقد الفريد 1: 41".   1 الخبب: ضرب من العدو، ووضعت الناقة وأوضعت: أسرعت في سيرها. 2 الوطف، كثرة شعر الحاجبين والعينين، والزمع جمع زمعة، وهي هنة زائدة وراء الظلف أو الشعرات المدلاة في مؤخر رجل الشاة، والصداع: من الأوعال والإبل الفتى الشاب القوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 26- وصية عمير بن حبيب الصحابي لبنيه : أوصى عمير بن حبيب بنيه فقال: "يا بني إياكم ومخالطة السفهاء؛ فإن مجالستهم داء، وإن من يحلم عن السفيه يسر يحلمه، ومن يجبه يندم، ومن لا يقر بقليل ما يأتي به السفيه، يقر بالكثير. وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف، أو ينهى عن المنكر؛ فليوطن قبل ذلك على الأذى، وليوقن بالثواب من الله عز وجل، إنه من يوقن بالثواب من الله عز وجل لا يجد مس الأذى". "الأمالي 2: 60".   1 الخبب: ضرب من العدو، ووضعت الناقة وأوضعت: أسرعت في سيرها. 2 الوطف، كثرة شعر الحاجبين والعينين، والزمع جمع زمعة، وهي هنة زائدة وراء الظلف أو الشعرات المدلاة في مؤخر رجل الشاة، والصداع: من الأوعال والإبل الفتى الشاب القوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 27- وصية قيس بن عاصم المنقري لبنيه : أوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال: "يا بني، خذوا عني، فلا أحد أصلح لكم مني، إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم، فسودوا أكبركم؛ فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا سودوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أصغرهم؛ أزرى ذلك بهم في أكفائهم، وإياكم ومعصية الله، وقطيعة الرحم، وتمسكوا بطاعة أمرائكم؛ فإنهم من رفعوا ارتفع، ومن وضعوا اتضع، وعليكم بهذا المال فأصلحوه فإنه منبهة للكريم، وجنة لعرض اللئيم، وإياكم والمسألة؛ فإنها آخر1 كسب الرجل، وإن أحدًا لم يسأل إلا ترك الكسب، وإياكم والنياحة؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، وادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم، ولا يعلم بكر بن وائل بمدفني؛ فقد كانت بيني وبينهم مشاحنات في الجاهلية والإسلام، وأخاف أن يدخلوا عليكم بي عارًا، وخذوا عني ثلاث خصال: إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه؛ فإنه إن يسرركم اليوم، يسؤكم غدًا، واكظموا الغيظ، واحذروا بني أعداء آبائكم، فإنهم على منهاج آبائهم، ثم قال: أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء "شرح ابن أبي الحديد م 4: ص155، وتهذيب الكامل 1: 11".   1 أخر بقصر الهمزة لا غير: أي أدنى وأرذل، ومن رواه بالمد أخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 خطب يوم السقيفة مدخل ... خطب يوم السقيفة: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد عليه الصلاة والسلام سعد بن عبادة، وأخرجوا سعدًا إليهم وهو مريض؛ فلما اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمه، إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي؛ ولكن تلق مني قولي فاسمعهموه؛ فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله: فيرفع صوته، فيسمع أصحابه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 28- خطبة سعد بن عبادة : فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب، إن محمدًا عليه الصلاة والسلام لبث عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان؛ فما آمن به من قومه إلا رجل قليل، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة؛ فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه؛ فكنتم أشد الناس على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا1، حتى أثخن2   1 صاغرًا ذليلًا: من دخر كمنع وفرح دخورًا ودخرًا بالتحريك. 2 أثخن فلانًا: أوهنه، والمراد أخضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، استبدوا بهذا الأمر دون الناس؛ فإنه لكم دون الناس". فأجابوه بأجمعهم أن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت نوليك هذا الأمر، وأتى عمر الخبر، فأقبل إلى أبي بكر فقال: "أما علمت أن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة؟ وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير" فمضيا مسرعين نحوهم؛ فلقيا أبا عبيدة بن الجراح فتماشوا إليهم ثلاثتم، فجاءوا وهم مجتمعون. فقال عمر: أتيناهم وقد كنت زويت1 كلامًا أردت أن أقوم به فيهم؛ فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق. فقال لي أبو بكر: رويدًا حتى أتكلم، ثم انطق بعد بما أحببت فنطق. فقال عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه".   1 زواه يزويه جمعه، والمراد أعددت. ورواية العقد الفريد "2: 204" زورت كلامًا في نفسي، وزور الشيء حسنه وقومه، والمراد هيأت وأعددت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 29- خطبة أبي بكر رضي الله عنه : حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله بعث محمدًا رسولًا إلى خلقه، وشهيدًا على أمته، ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة؛ وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور3، ثم قرأ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِِِ} [يونس: 18] ، وقال {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم. فخص الله المهاجرين الأولين من   1 زواه يزويه جمعه، والمراد أعددت. ورواية العقد الفريد "2: 204" زورت كلامًا في نفسي، وزور الشيء حسنه وقومه، والمراد هيأت وأعددت. 2 النجر: نحت الخشب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة له، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبه إياهم، وكل الناس مخالف زار1 عليهم؛ فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف2 الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم؛ فهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة أزواجه وأصحابه؛ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم؛ فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور". "هذا رواية الطبري لتلك الخطبة، وأوردها غيره بنص آخر، وها كه".   1 زرى عليه زراية: عابه. 2 شنف له كفرح: أبغضه وتنكره فهو شنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 30- نص آخر لخطبة أبي بكر يوم السقيفة : حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: نحن المهاجرون، أول الناس إسلامًا، وأكرمهم أحسابًا، وأوسطهم دارًا، وأحسنهم وجوهًا، وأكثر الناس ولادة في العرب، وأمسهم رحمًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم؛ فقال تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار. إخواننا في الدين. وشركاؤنا في الفيء1، وأنصارنا على العدو، آويتم وواسيتم، فجزاكم الله خيرًا، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء،   1 الغنيمة والخراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 لا تدين العرب إلى لهذا الحي من قريش؛ فلا تنفسوا1 على إخوانكم ما منحهم الله من فضله". "العقد الفريد 2: 130- 204، عيون الأخبار م2: ص233، البيان والتبيين 3: 147 والإمامة والسياسة 1: 7".   1 نفس عليه بخير "كفرح" حسبه، ونفس عليه الشيء نفاسة لم يره أهلًا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 31- خطبة الحباب بن المنذر : ثم قام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: "يا معشر الأنصار: املكوا عليكم أمركم؛ فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولوا العدد والمنعة والتجربة، وذوو البأس والنجدة؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 32- خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فقال عمر: "هيهات لا يجتمع اثنان في قرن1، والله لا ترضى العرب أن يؤموكم ونبيها من غيركم؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف2 لإثم، أو متورط في هلكة؟ ".   1 حبل. 2 مائل جانح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 33- خطبة أخرى للحباب بن المنذر : فقام الحباب بن المنذر، فقال: "يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه؛ فيذهبوا بنصيبكم من الأمر؛ فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب1، أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة2". فقال عمر: إذن يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل، فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار: إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.   1 الجذيل: تصغير الجذل "بالكسر"، وهو أصل الشجرة، وعود ينصب للإبل الجربى لتحتك به وتتمرس، والمحكك الذي تتحكك به، والعذيق بصغير العذق "بالفتح"، وهو النخلة. والمرجب: الذي جعل له رجبة، وهي دعامة تبنى حولها من الحجارة؛ وذلك إذا كانت النخلة كريمة وطالت تخوفوا عليها أن تنقعر من الرياح العواصف، والتصغير هنا يراد به التكبير والتعظيم، وهو مثل، والمراد أنه رجل يستشفى برأيه وعقله. 2 الجذعة: الشابة الفتية، يريد الحروب والغارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 24- خطبة بشير بن سعد : فقام بشير بن سعد -أبو النعمان بن بشير- فقال: "يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي المنة علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 بذلك؛ ألا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أحق به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدًا؛ فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم". فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا؛ فقالا لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك؛ فإنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك، أو يتولى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك نبايعك، وقام الناس إليه فبايعوه. "تاريخ الطبري 3: 207، والكامل لابن الأثير 2: 158". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 خطب أبي بكر الصديق ووصاياه رضي الله عنه : 35- خطبته يوم قبض الرسول صلى الله عليه وسلم : دخل أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، على النبي عليه الصلاة والسلام وهو مسجى1 بثوب؛ فكشف عنه الثوب، وقال: "بأبي أنت وأمي! طبت حيًّا، وطبت ميتًا! وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوة، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة2، وعممت حتى صرنا فيك سواءً3، ولولا أن موتك كان اختيارًا منك4، لجدنا لموتك بالنفوس، ولولا أنك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا عليك ماء الشئون5؛ فأما ما لا نستطيع نفيه عنا، فكمد وإدناف6، يتخالفان ولا يبرحان   1 تسجية الميت: تغطيته. 2 خص الشيء من باب قعد خصوصًا فهو خاص: خلاف عم، مثل اختص "وكلا الفعلين يستعمل متعديًا ولازمًا"، والمعنى إنك يا رسول الله قد صرت بموتك مسلاة للناس؛ فإنك مع ما اختصصت به من مناقب النبوة قد نزل بك الموت، فللعباد فيك أسوة حسنة. 3 أي عمت مصيبتك جميع المسلمين فصرنا نحن وقرابتك سواء في الحزن عليك والتفجع لفقدك. 4 يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "لم يقبض نبي حي يرى مقعده من الجنة ثم يخير" قالت عائشة: فسمعته وقد شخص بصره، وهو يقول: "في الرفيق الأعلى" فعلمت أنه خير؛ فعلمت أن لا يختارنا إذن، وقلت هو الذي كان يحدثنا وهو صحيح. 5 جمع شأن، وهو مجرى الدمع إلى العين. 6 دنف المريض كفرح، وأدنف: ثقل، والشمس: دنت للغروب واصفرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 اللهم فأبلغه عنا السلام، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك؛ فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة، اللهم أبلغ نبيك عنا، واحفظه فينا"! ثم خرج إلى الناس وهم في شديد غمراتهم، وعظيم سكراتهم، فخطب خطبة قال فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وأشهد أن الكتاب كما نزل، وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحق المبين.. في كلام طويل، ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وإن الله قد تقدم إليكم في أمره؛ فلا تدعوه جزعًا، وإن الله قد اختار لنبيه ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلف فيكم كتابه، وسنة نبيه؛ فمن أخذ بهما عرف، ومن فرق بينهما أنكر. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] ، ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يفتننكم عن دينكم؛ فعاجلوه بالذي تعجزونه، ولا تستنظروه فيلحق بكم". "زهر الآداب 1: 35".   1 القسط: العدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 36- خطبته بعد البيعة : حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إني قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم، إلا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". "العقد الفريد 2: 130، وإعجاز القرآن ص115، وعيون الأخبار م 2: 234، وتهذيب الكامل 1: 6، وتاريخ الطبري 3: 203، وابن أبي الحديد م 2: 8، وم 4: 167، وسيرة ابن هشام 2: 430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 37- خطبة أخرى له بعد البيعة : وقال الطبري: نادى منادي أبي بكر من بعد الغد من متوفى رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم: ليتم بعث أسامة: ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره، وقام في الناس، فحمد لله وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس: إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق. إن الله اصطفى محمدًا على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض، وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة1 ضربة سوط فما دونها، ألا وإن لي شيطانًا2 يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم3، ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قومًا نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم؛ فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجد الجد، والوحا4 الوحا، والنجاء5 النجاء؛ فإن وراءكم طالبًا حثيثًا6 أجلًا مره سريع، احذروا الموت واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا7 الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات". "تاريخ الطبري 3: 211، وشرح ابن الحديد م4: ص167".   1 الظلامة. 2 قال ابن أبي الحديد: وأراد بالشيطان الغضب، ولم يرد أن له شيطانًا من مردة الجن يعتريه إذا غضب، ولو كان له شيطان من الجن يعتاده وينوبه لكان في عداد المصروعين من المجانين، وما ادعى أحد على أبي بكر هذا لا من أوليائه ولا من أعدائه. 3 أبشار جمع بشر، وهو جمع بشرة: وهي ظاهر الجلد. 4 العجلة والإسراع، وحى وتوحى: أسرع، ووحاه، عجله. 5 الإسراع أيضًا. 6 سريعًا. 7 غبطه: تمنى مثل حاله من غير أن يريد زوال نعمته عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 38- خطبة أخرى : قال الطبري: وقام أيضًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها، وحظ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه، من أيام فانية لأخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم. أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون؟ وأين الذين كانوا لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميمًا، قد تركت عليهم القالات1 الخبيثات، وإنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا، ونسي ذكرهم، وصاروا كلا شيء؛ ألا وإن الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفًا من بعدهم؛ فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن اغتررنا كنا مثلهم، أين الوضاء3 الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابًا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعجايب؟ قد تركوها لمن خلفهم؛ فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزًا3؟ أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدموا، فحلوا عليه، وأقاموا للشقوة وللسعادة فيما بعد الموت،   1 القول: في الخيرة، والقال والقيل والقالة: في الشر. 2 الوضاء جمع وضيء: وهو الحسن والنظيف، وهو أيضًا وضاء بضم الواو وتشديد الضاد، وجمعه وضاءون. 3 الصوت الخفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ألا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه به سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما وإنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة. "تاريخ الطبري 3: 311، وشرح أبي الحديد م 4 ص 167". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 39- خطبة له : ومن خطبه: "حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك، فرفع الناس رءوسهم، فقال: ما لكم يا معشر الناس؟ إنكم لطعانون عجلون، إن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما في يده، ورغبه فيما في يد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخط1 الكثير، ويسأم الرخاء وتنقطع عنه لذة البهاء، لا يستعمل العبرة، ولا يسكن إلى الثقة؛ فهو كالدرهم القسي2، والسراب الخادع، جذل الظاهر، حزين الباطن؛ فإذا وجبت3 نفسه، ونضب عمره، وَضَحَا ظله4، حاسبه الله فأشد حسابه، وأقل عفوه. ألا إن الفقراء هم المرحومون، وخيرالملوك من آمن بالله، وحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنكم اليوم على خلافة نبوة، ومفرق محجة، وسترون بعدي ملكًا عضوضًا5، وأمة شعاعًا6، ودمًا مفاحًا7؛ فإن كانت للباطل نزوة8، ولأهل الحق جولة، يعفولها الأثر، وتموت السنن؛ فالزموا المساجد،   1 تسخط عطاءه: استقله ولم يقع منه موقعًا. 2 الزائف. 3 مات. ووجبت الشمس: غابت، والعين غارت. 4 مات أيضًا. 5 الغضوض: ما يعض عليه، وملك عضوض: فيه عسف وظلم. 6 متفرقة. 7 أفاحه: أراقه. 8 وثبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر، أي بلاد خرشنة1 إن الله سيفتح عليكم أقصاها كما فتح أدناها". "عيون الأخبار م 2 ص 233، والبيان والتبيين 2: 21، والعقد الفريد 2: 131، وصبح الأعشى 1: 213، وزهر الآداب 1: 39".   1 خرشنة: بلد بالروم، والمراد بلاد الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 40- خطبة له: وخطب أيضًا فقال: "الحمد لله، أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأومن به، وأتوكل عليه، وأستهدي الله بالهدى، وأعوذ به من الضلالة والردى، ومن الشك والعمى، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، يعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إلى الناس كافة، رحمة لهم، وحجة عليهم والناس حييئذ على شر حال في ظلمات الجاهلية، دينهم بدعة، ودعوتهم فرية؛ فأعز الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وألف بين قلوبكم أيها المؤمنون، فأصبحتم بنعمته إخوانًا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون؛ فأطيعوا الله ورسوله، فإنه قال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] . أما بعد أيها الناس: إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر، وعلى كل حال، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، من يكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يفجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من التراب، وإلى التراب يعود؟ هو اليوم حي، وغدًا ميت؛ فاعملوا وعدوا أنفسكم في الموتى، وما أشكل عليكم فردوا علمه إلى الله، وقدموا لأنفسكم خيرًا تجدوه محضرًا؛ فإنه قال عز وجل {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30] . فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لا بد من لقاء ربكم والجزاء بأعمالكم صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله، إنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم، والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، أفضل ما صليت على أحد من خلقك، وزكنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه. اللهم أعنا على طاعتك، وانصرنا على عدوك. "العقد الفريد 2: 131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 41- خطبة له: وخطب أيضًا؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة؛ فإن الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، وعوضكم بالقليل الفاني الكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فثقوا بقوله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وانتصحوا1 كتابه، واستبصروا فيه ليوم الظلمة؛ فإنه خلقكم لعبادته، ووكل بكم الكرام الكاتبين ما تفعلون2". "العقد الفريد 2: 131، وعيون الأخبار م2 ص232".   1 انتصح فلان: قبل النصيحة، يقال: انتصحني فإني لك ناصح. 2 ورد عقب ذلك " ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه.. إلخ" مما أورده ابن جرير الطبري في الخطبة التي أسلفنا ذكرها ص181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 42- خطبة له في الأنصار : ووصل إليه مال من البحرين، فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار، وقالوا له فضلنا؛ فقال أبو بكر صدقتم، إن أردتم أن أفضلكم صار ما عملتموه للدنيا، وإن صبرتم كان ذلك لله عز وجل، فقالو: والله ما عملنا إلا لله تعالى وانصرفوا، فرقي أبو بكر المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه وصلى الله عليه وسلم. ثم قال: "يا معشر الأنصار: إن شئتم أن تقولوا إنا آويناكم في ظلالنا، وشاطرناكم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا: قلتم: وإن لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد وإن طال به الأمد. فنحن وأنتم كما قال طفيل الغنوي: جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا، ولو أن أمنا ... تلاقى الذي يلقون منا لملت هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأظلت "زهر الآداب 1: 39 وصبح الأعشى 13: 108". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 43- وصيته لأسامة بن زيد : وأوصى أسامة بن زيد وجيشه حين سيره إلى أبنى1، فقال: "يا أيها الناس: قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا2، ولا تغدروا3، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تقعروا4 نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة5، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم بأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام؛ فإذا أكلتم منها شيئًا بعد شيء، فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رءوسهم، وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم6 بالسيف خفقًا، اندفعوا باسم الله7". "تاريخ الطبري 3: 213، والكامل لابن الأثير 2: 162".   1 موضع بقرب مؤتة بمشارق الشام قتل فيه والده زيد بن حارثة. 2 غل يغل كنصر: خان كأغل، وغل صدره يغل كضرب غليلًا وغلًا: حقد. 3 غدره وغدر به كنصر وضرب وسمع. 4 قعر النخلة: كمنع فانقعرت قطعها من أصلها فسقطت. 5 المأكلة: ما أكل. 6 خفقه: ضربه بشيء عريض. 7 وأورده العقد الفريد هذه الوصية وذكر أنها وصية من أبي بكر لزيد بن أبي سفيان –راجع العقد جـ1 ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وصيته لعمرو بن العاص والوليد بن عقبة ... 44- وصيته لعمرو بن والوليد بن عقبة: وشيخ عمرو بن العاص والوليد بن عقبة مبعثهما على الصدقة، وأوصى كل واحد منهما بوصية واحدة: "اتق الله في السر والعلانية؛ فإنه من يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئآته، ويعظم له أجرًا، فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله، إنك في سبيل من سبل الله، لا يسمك فيه الإدهان1 والتفريط والغفلة عما فيه قوام دينكم، وعصمة أمركم فلا تن، ولا تفتر". "تاريخ الطبري 4: 29".   1 الإدهان: المداهنة والغش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 خطب الفتوح في عهد أبي بكر " 45- وصيته لخالد بن الوليد" ووصى أبو بكر خالد بن الوليد فقال: "سر على بركة الله؛ فإن دخلت أرض العدو؛ فكن بعيدًا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجوالة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح، فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات، فإن في العرب غرة، وأقلل من الكلام، فإن مالك ما وعي عنك، واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سريرتهم، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه". "العقد الفريد 1: 40". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 46- خطبة خالد بن الوليد : وكان أبو بكر رضي الله عنه قد بعث المثنى بن حارثة على جيش إلى العراق، فقدم العراق فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحي السواد، ثم بعث أخاه مسعودًا إلى أبي بكر يستمده. فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد -وكان باليمامة- أن يسير إلى العراق؛ فلما قرأ خالد الكتاب. قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 "الحمد لله والله أهله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلينا يحضنا على طاعة ربنا، وجهاد عدونا وعدو الله، وبالجهاد في سبيل الله أنجز الله دعوتنا، وجمع كلمتنا وأمنيتنا، والحمد لله رب العالمين، ألا إني خارج ومعسكر وسائر إن شاء الله ومعجل، فمن أراد ثواب العاجل والآجل فلينكمش1":   1 انكمش: أسرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 47- خطبة لأبي بكر في ندب الناس ل فتح الشأم : وخطب يندب الناس لفتح الشأم؛ فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، وقال: "ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه، ومن عمل لله كفاه الله، عليكم بالجد والقصد، فإن القصد أبلغ؛ ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له؛ ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله، كما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به، هي التجارة التي دل الله عليها، ونجى بها من الخزي، وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة". "تاريخ الطبري 4: 30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فتح الشام مدخل ... فتح الشام: حدث أبو إسماعيل محمد بن عبد الأزدي البصري صاحب فتوح الشام قال: لما أراد أبو بكر رحمة الله عليه أن يجهز الجنود إلى الشأم؛ دعا عمر وعثمان وعليًّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 48- خطبة أبي بكر : "إن الله تبارك وتعالى لا تحصى نعمه، ولا تبلغ جزاءها الأعمال؛ فله الحمد كثيرًا على ما اصطنع عندكم، فقد جمع كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان؛ فليس يطمع أن تشركوا بالله، ولا أن تتخذوا إلهًا غيره؛ فالعرب اليوم بنو أم وأب، وقد أردت أن أستنفرهم إلى جهاد الروم بالشام ليؤيد الله المسلمين، ويجعل الله كلمته العليا، مع أن للمسلمين في ذلك الحظ الأوفر؛ فمن هلك منهم هلك شهيدًا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعًا عن الدين، مستوجبًا على الله عز وجل ثواب المجاهدين، هذا رأيي الذي رأيت فليشر علي أمرؤ بمبلغ رأيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 49- خطبة عمر : فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الذي كرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن فقد أصبت، أصحاب الله بك سبل الرشاد، سرب إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال، والجنود تتبعها الجنود؛ فإن الله عز وجل ناصر دينه، ومعز الإسلام وأهله، ومنجز ما وعد رسوله". "فتوح الشام ص1 وتاريخ ابن عساكر 1: 126- 127". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 50- خطبة عبد الرحمن بن عوف : ثم إن عبد الرحمن بن عوف قام فقال: "يا خليفة رسول الله، إنها الروم وبنو الأصفر، حد حديد، وركن شديد، والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحامًا، ولكن تبعث الخيل، فتغير في أداني أرضهم، ثم تبعثها فتغير، ثم ترجع إليك، ثم تبعثها فتغير، ثم ترجع إليك؛ فإذا فعلوا ذلك مرارًا أضروا بعدوهم، وغنموا من أداني أرضهم، فقووا بذلك على قتالهم، ثم تبعث إلى أقاصى أهل اليمن، وإلى أقاصي ربيعة ومضر فتجمعهم إليك جميعًا. فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت بعثت على غزوهم غيرك". ثم جلس وسكت وسكت الناس. قال لهم أبو بكر ما ترون؟ رحمكم الله؛ فقام عثمان بن عفان رضوان الله عليه. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "رأيي أنك ناصح لأهل هذا الدين، عليهم شفيق. فإذا رأيت رأيًا علمته لهم رشدًا وصلاحا وخيرًا، فاعزم على إمضائه، فإنك غير ظنين ولا متهم عليهم". فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار: "صدق عثمان فيما قال، ما رأيت من رأي فأمض؛ فإنا سامعون لك مطيعون، لا نخالف أمرك، ولا نتهم رأيك، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فذكروا هذا وشبهه، وعلي بن طالب رحمة الله عليه في القوم لا يتكلم، فقال له أبو بكر: ما ترى يا أبا الحسن؟ قال: "أرى أنك مبارك الأمر، ميمون النقيبة، وأنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله". فقال له أبو بكر: بشرك الله بخير، فمن أين علمت هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الدين ظاهرًا على كل من ناوأه، حتى يقوم الدين وأهله ظاهرين" فقال أبو بكر: سبحان الله! ما أحسن هذا الحديث! لقد سررتني سرك الله في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 51- خطبة أبي بكر: ثم إن أبا بكر رحمة الله عليه ورضوانه قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وذكره بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أيها الناس، إن الله قد أنعم عليكم بالإسلام، وأعزكم بالجهاد، وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين. فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشأم؛ فإني مؤمر عليكم أمراء وعاقد لهم ألوية، فأطيعوا ربكم، ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيتكم وسيرتكم وطعمتكم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون". فسكت الناس، فو الله ما أجابه هيبة لغزو الروم لما يعلمون من كثرة عددهم وشده شوكتهم، فقام عمر بن الخطاب رحمة الله عليه وضوانه فقال: يا معشر المسلمين ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دعاكم لما يحييكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 52- خطبة خالد بن سعيد بن العاص : فقام خالد بن سعيد بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 "الحمد لله الذي لا إله إلا هو، الذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ فإن الله منجز وعده، ومعز دينه، ومهلك عدوه" ثم أقبل على أبي بكر فقال: "نحن غير مخالفين لك، ولا متخلفين عنك، وأنت الوالي الناصح الشفيق، ننفر إذا استنفرتنا، ونطيعك إذا أمرتنا، ونجيبك إذا دعوتنا". ففرح أبو بكر بمقالته، وقال له: "جزاك الله من أخ وخليل خيرًا؛ فقد أسلمت مرتغبًا، وهاجرت محتسبًا، وهربت بدينك من الكفار، لكي يطاع الله ورسوله، وتكون كلمة الله هي العليا، فتيسر رحمك الله". فتجهز خالد بن سعيد بأحسن الجهاز وخرج هو وإخوته وغلمانه ومن تبعه من أهل بيته؛ فكان أول من عسكر، وأمر أبو بكر بلالًا فنادى في الناس: أن انفروا إلى جهاد عدوكم الروم بالشام، فنفروا إليه -وكان خالد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره الإمارة واستعفى أبا بكر فأعفاه- "فتوح الشام ص1" ورأى أبو بكر أن يكتب كتابًا إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد، ويرغبهم في ثوابه، وبعث الكتاب مع أنس بن مالك. قال أنس: أتيت أهل اليمن جناحًا جناحًا وقبيلة قبيلة، أقرأ عليهم كتاب أبي بكر وإذا فرغت من قراءته قلت: "الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني رسول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول المسلمين إليكم، ألا وإني قد تركتهم معسكرين، ليس يمنعهم من الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم، فعجلوا إلى إخوانكم رحمة الله عليكم أيها المسلمون". فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب، ويسمع مني هذا القول يحسن الرد علي، ويقول: نحن سائرون وكأنا قد فعلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 53- خطبة ذي الكلاع : حتى انتهيت إلى ذي الكلاع؛ فلما قرأت عليه الكتاب، وقلت هذا المقال، دعا بفرسه وسلاحه، ونهض في قومه من ساعته ولم يؤخر ذلك، وأمر بالمعسكر فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن وسارعوا؛ فلما اجتمعوا إليه قام فيهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أيها الناس إن من رحمة الله إياكم، ونعمته عليكم، أن بعث فيكم رسولًا، وأنزل عليه كتابًا فأحسن عنه البلاغ؛ فعلمكم ما يرشدكم، ونهاكم عما يفسدكم، حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ورغبكم في الخير فيما لم تكونوا ترغبون، ثم قد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين، واكتساب الأجر العظيم؛ فلينفر من أراد النفير معي الساعة". فنفر بعدد من أهل اليمن كثير، وقدموا على أبي بكر ففرح بمقدمهم. "فتوح الشام ص6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 54- وصية خالد بن سعيد بن العاص لأبي بكر : ولما أراد خالد بن سعيد بن العاص أن يغدو سائرًا إلى الشأم، لبس سلاحه، وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم، عمرًا والحكم وأبان، وغلمته ومواليه، ثم أقبل إلى أبي بكر رضي الله عنه بعد صلاة الغداة وصلى معه؛ فلما انصرفوا قام إليه هو وإخوته، فجلسوا إليه فحمد الله خالد وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "يا أبا بكر، إن الله أكرمنا وإياك والمسلمين طرًّا بهذا الدين، فأحق من أقام السنة، وأمات البدعة، وعدل في السيرة، الوالي على الرعية، وكل امرئ من أهل هذا الدين محقوق بالإحسان، ومعدلة الوالي أعم نفعًا، فاتق الله يا أبا بكر فيمن ولاك الله أمره، وارحم الأرملة واليتيم، وأعن الضعيف المظلوم، ولا يكن رجل من المسلمين إذا وضيت عنه آثر عندك في الحق منه إذا سخطت عليه، ولا تغضب. ما قدرت على ذلك؛ فإن الغضب يجر الجور. ولا تحقد على مسلم وأنت تسطيع، فإن حقدك على المسلم يجعلك له عدوًا، وإن اطلع على ذلك منك عاداك؛ فإذا عادى الوالي الرعية، وعادت الرعية الوالي، كان ذلك قمنًا أن يكون إلى هلاكهم داعيًا، وكن لينًا للمحسن، واشدد على المريب، ولا تأخذك في الله لومة لائم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثم قال: هات يدك؛ فإن لا أدري: هل نلتقي في الدنيا بعد هذا اليوم؟ فإن قضى الله لنا التقاء فنسأل الله عفوه وغفرانه، وإن كانت هي الفرقة التي ليس بعدها التقاء، فعرفنا الله وإياك وجه النبي صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم" فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، ثم بكى وبكى خالد والمسلمون، وظنوا أنه يريد الشهادة. "فتوح الشأم ص17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ووصية أبي بكر لخالد بن سعيد بن العاص ... 55- وصية أبى بكر لخالد بن سعيد بن العاص: فلما خرج من المدينة قال له أبو بكر رضي الله عنه: "إنك قد أوصيتني برشدي وقد وعيته، وأنا موصيك فاستمع وصيتي وعها، إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة في الإسلام، وفضيلة عظيمة، والناس ناظرون إليك، ومستمعون منك، وقد خرجت في هذا الوجه العظيم الأجر، وأنا أرجو أن يكون خروجك فيه لحسبة ونية صادقة إن شاء الله، فثبت العالم، وعلم الجاهل، وعاتب السفيه المترف، وانصح لعامة المسلمين، واخصص الوالي على الجند من نصيحتك ومشورتك ما يحق الله وللمسلمين عليك واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واعلم أنا عما قليل ميتون ثم مبعوثون ثم مساءلون ومحاسبون، جعلنا الله وإياك لأنعمه من الشاكرين ولنقمه من الخائفين ثم أخذ يده فودعه". وجهز أبو بكر أربعة جيوش على أحدها عمرو بن العاص ووجهه إلى فلسطين، وعلى الثاني شرحبيل بن حسنة ووجه إلى الأردن، وعلى الثالث يزيد بن أبي سفيان ووجهه إلى البلقاء، وعلى الرابع أبو عبيدة عامر بن الجراح ووجهه إلى حمص، وشيع الأمراء ووصاهم. "فتوح الشام ص18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 56- وصية أبى بكر لعمرو بن العاص: ولما أجمع أبو بكر أن يبعث الجيوش إلى الشام كان أول من سار من عماله عمرو بن العاص. وخرج أبو بكر يمشي إلى جنب راحلة عمرو بن العاص وهو يوصيه ويقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 "يا عمرو اتق الله في سر أمرك وعلانيته، واستحيه فإنه يراك ويرى عملك، وقد رأيت تقديمي إياك على من هو أقدم سابقةً منك، ومن كان أعظم غناء عن الإسلام وأهله منك؛ فكن من عمال الآخرة، وأرد بما تعمل وجه الله، وكن والدًا لمن معك. ولا تكشفن الناس عن أستارهم، واكتف بعلانيتهم، وكن مجدًّا في أمرك، واصدق اللقاء إذا لاقيت ولا تجبن، وتقدم في العلوم1 وعاقب عليه، وإذا وعظت أصحابك فأوجز، وأصلح نفسك تصلح لك رعيتك ....... في وصية له طويلة". "تاريخ ابن عساكر1: 129".   1 هكذا في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 57- وصية أخرى : وأمد أبو بكر أبا عبيدة بجيش عليه عمرو بن العاص؛ فلما أراد الشخوص خرج معه أبو بكر رضي الله عنه يشيعه وقال: "يا عمرو إنك ذو رأي وتجربة بالأمور وتبصرة بالحرب. وقد خرجت مع أشرف قومك، ورجال من صلحاء المسلمين، وأنت قادم على إخوانك فلا تألهم نصيحة، ولا تدخر عنهم صالح مشورة؛ فرب رأي لك محمود في الحرب، مبارك في عواقب الأمور" فقال له عمرو: ما أخلقني أن أصدق ظنك وأن أقبل رأيك، ثم ودعه وانصرف". "فتوح الشام ص41". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 58- وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان : ودعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له وأوصاه فقال: "يا يزيد، إني أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له، والخوف منه، وإذا لقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 العدو فأظفركم بهم، فلا تغلل ولا تمثل، ولا تغدر ولا تجبن، ولا تقتلوا وليدًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تحرقوا نخلًا ولا تقعره، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكلة، وستمرون بقوم في الصوامع، يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله؛ فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين قد فحص الشيطان عن أوساط رءوسهم، حتى كأن أوساط رءوسهم أفاحيص1 القطا، فاضربوا ما فحصوا من رءوسهم بالسيوف، حتى ينيبوا إلى الإسلام، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب" ثم أخذ يده فقال: "إني أستودعك الله وعليك سلام الله ورحمته" ثم ودعه وقال: "إنك أول أمرائي، وقد وليتك على رجال من المسلمين أشراف غير أوزع2 في الناس؛ فأحسن صحبتهم، ولتكن لهم كنفًا واخفض لهم جناحك وشاورهم في الأمر، أحسن الله لك الصحابة وعلينا الخلافة". "فتوح الشام ص8".   1 جمع أفحوص وهو ما يجثم فيه القطا. 2 أي ليسوا بأدنياء ولا ضعفاء ولا جفاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 59- وصية أخرى ليزيد بن أبي سفيان : ووصى يزيد بن أبي سفيان أيضًا حين وجهه لفتح الشام قال: "إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك1؛ فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك؛ فعليك بتقوى الله، فإنه يرى من باطنك مثل الذي يرى من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربًا إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد2؛ فإياك وعبية3 الجاهلية، فإن الله يبغضها ويبغض   1 خرجه: دربه وعلمه. 2 هو خالد بن سعيد العاص، وكان أبو بكر سيره إلى الشام أولًا مم عزله. 3 العبية: الكبر والفخر، وفي الحديث: "إن الله قد وضع عنكم عبية الجاهلية" يعني الكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير، وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصل الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإ ذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا تريثهم1 فيروا خللك، ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتك؛ فيختلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تصدق المشورة، ولا تخزن عن المشير خبرك، فتؤتى من قبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار، وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه؛ فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وعقب2 بينهم بالليل، واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة؛ فإنها أيسرهما لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق، ولا تلجن فيها، ولا تسرع إليها، ولا تخذ لها مدقعًا3، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا يكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العباثين وجالس أهل الصدق والوفاء، واصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول4؛ فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر، وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له". "تاريخ الكامل لابن الأثير2: 196".   1 من الريث: وهو الإبطاء. 2 عقبه تعقيبًا: جاء بعقبه. 3 لا تخذ: من خذا يخذو كنصر وخذي يخذي كرضي إذا استرخى، والمدقع: الملصق بالدقعاء أو الهارب أو أشد الهزلى هزالًا، أي ولا تضعف، ولا تجبن أمام تنفيذ العقوبة وهو مقابل لقوله: ولا تسرع إليها. 4 غل غلولًا: خان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 60- دعاء أبي بكر : وكان أبو بكر رحمة الله عليه يدعو في كل يوم غدوةً وعشيةً في دبر صلاة الغداة وبعد العصر يقول: "اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئًا، ثم بعثت إلينا رسولًا، رحمة منك لنا، وفضلًا منك علينا، فهديتنا وكنا ضلالًا، وحببت إلينا الإيمان وكنا كفارًا، وكثرتنا وكنا قليلًا وجمعتنا وكنا أشتاتًا، وقويتنا وكنا ضعافًا، ثم فرضت علينا الجهاد، وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، اللهم لأصبحنا أن نطلب رضاك، ونجاهد أعداءك، من عدل بك، وعبد معك إلهًا غيرك، تعاليت عما يقولون علوًّا كبيرًا، اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين، اللهم افتح لهم فتحًا يسيرًا، وانصرهم نصرًا عزيزًا، واجعل لهم من لدنك سلطانًا نصيرًا، اللهم شجع جبنهم وثبت أقدامهم، وزلزل بعدوهم، وأدخل الرعب قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأبد خضراءهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، وكن لنا وليًا، وبنا حفيًا، وأصلح لنا شأننا كله ونياتنا وقضاءنا وتبعاتنا، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، واغفر لنا والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنه بالمؤمنين رءوف رحيم". "فتوح الشام ص9". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 61- وصيته لشرحبيل بن حسنة : ووجه شرحبيل بن حسنة، وودعه فقال له: يا شرحبيل، ألم تسمع وصيتي ليزيد بن أبي سفيان؟ قال: بلى، قال: فإني أوصيك بمثلها، وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ليزيد: أوصيك بالصلاة في وقتها، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل وبعيادة المرضى، وبحضور الجنائز، وذكر الله كثيرًا على كل حال". "فتوح الشام ص 11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 63- وصيته لأبي عبيدة بن الجراح : ولما أراد أن يبعث أبا عبيد بن الجراح دعاه فودعه ثم قال له: "اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له، ثم يعمل بما أمر به، إنك تخرج في أشراف الناس، وبيوتات العرب، وصلحاء المسلمين، وفرسان الجاهلية، كانوا يقاتلون إذ ذاك على الحمية، وهم اليوم يقاتلون على الحسبة والنية الحسنة، أحسن صحبة من صحبك، وليكن الناس عندك في الحق سواء، واستعن بالله وكفى بالله معينًا، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلًا، اخرج من غد إن شاء الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 63- وصيته لأبي عبيدة بن الجراح أيضًا: فلما كان من الغد خرج أبو بكر رضي الله عنه يمشي في رجال من المسلمين، حتى أتى أبا عبيدة، فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع، ثم قال حين أراد أن يفارقه: "يا أبا عبيدة، اعمل صالحًا. وعش مجاهدًا، وتوف شهيدًا، يعطك الله كتابك بيمينك، ولتقر عينك في دنياك وآخرتك، فوالله إني لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين المخبتين1 الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، إن الله قد صنع بك خيرًا وساقة إليك؛ إذ جعلك تسير في جيش من المسلمين إلى عدوه من المشركين، فقاتل من كفر بالله وأشرك به، وعبد معه غيره". "فتوح الشام ص14".   1 في الأصل "المخشئين"، وأخبت: خشع وتواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 64- خطبة أبي بكر: وسار أبو عبيدة حتى إذا دنا الجابية بلغه أن هرقل ملك الروم بأنطاكية، وأنه قد جمع لهم جموعًا كثيرة، فكتب أبو عبيدة إلى أبي بكر يخبره بذلك، فقام أبو بكر رضي الله عنه في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن إخوانكم المسلمين معافون مكلئون1، مدفوع عنهم، مصنوع لهم، وقد ألقى الله الرعب في قلوب عدوهم منهم، وقد اعتصموا بحصونهم، وأغلقوا أبوابها دونهم عليهم، وقد جاءتني رسلهم يخبرونني بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم، حتى نزل قرية من قرى الشام في أقصى الشام، وقد بعثوا إلي يخبرونني أنه قد وجه إليهم هرقل جندًا من مكانه ذلك، فرأيت أن أمد إخوانكم المسلمين بجند منكم يشدد الله بكم ظهورهم، ويكبت بهم عدوهم، ويلق بهم الرعب في قلوبهم. فانتدبوا رحمكم الله مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. واحتسبوا في ذلك الأجر والخير فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة. وإن تهلكوا فهي الشهادة الكرامة". "فتوح الشام ص27".   1 محروسون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 65- وصية أبي بكر لهاشم بن عتبة : ولما سار هاشم بن عتبة ودعه أبو بكر رضي الله عنه وقال له: "يا هاشم إنا إنما كنا ننتفع من الشيوخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره، وكنا ننتفع من الشاب بصبره وبأسه ونجدته، وإن الله عز وجل قد جمع لك تلك الخصال كلها، وأنت حديث السن مستقبل الخير؛ فإذا لقيت عدوك فاصبر وصابر، واعلم أنك لا تخطو خطوة، ولا تنفق نفقة، ولا يصيبك ظمأ ولا نصب ولا مخمصة1 في سبيل الله إلا كتب الله لك به عملًا صالحًا، إن الله لا يضيع أجر المحسنين".   1 جوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فقال هاشم: إن يرد الله بي خيرًا يجعلني كذلك، وأنا أفعل ولا قوة إلا بالله، وأنا أرجو إن أنا لم أقتل أن أقتل ثم أقتل إن شاء الله. فقال له عمه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "يا بن أخي لا تطعن طعنة ولا تضربن ضربة إلا وأنت تريد بها وجه الله، واعلم أنك خارج من الدنيا رشيدًا، وراجع إلى الله قريبًا، ولن يصحبك من الدنيا إلى الآخرة إلا قدم صدق قدمته، أو عمل صالح أسلفته". فقال أي عم: لا تخالن1 مني غير هذا، إني إذًا لمن الخاسرين، إن جعلت حلي وارتحالي وغدوي ورواحي وسيفي وطعني برمحي وضربي بسيفي رياء للناس. ثم خرج فقدم على أبي عبيدة فتباشر بمقدمه المسلمون. "فتوح الشام ص 28".   1 في الأصل "لا تخافن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 66- خطبة خالد بن الوليد يوم اليرموك : ووجه هرقل إلى كل جيش من جيوش المسلمين جيشًا يفوقه؛ فأشار عمرو بن العاص على الأمراء بالاجتماع، فأرسلوا إلى أبي بكر في ذلك فأشار عليهم بمثل رأي عمرو. فاجتمعوا باليرموك وكل واحد من الأمراء أمير على جيشه، والروم أمامهم، وبين الفريقين خندق؛ فكان الروم يقاتلون باختيارهم، وإن شاءوا احتجزوا بخنادقهم، فأرسل الأمراء إلي أبي بكر يستمدونه. فكتب إلى خالد بن الوليد أمير جند العراق يأمره أن يستخلف على جنده بعد أن يأخذ معه نصفه ويتوجه إلى الشام مددًا لأمرائه، فسار إلى الشام، ووافى المسلمين وهم متضايقون، إذ وصل باهان بجيش مددًا للروم، فولى خالد قتاله، وقاتل كل أمير من بإزائه متساندين1، فرأى خالد أن هذا القتل لا يجدي نفعًا ما دامت كل فرقة من الجيش لها أمير فجمع الأمراء وخطبهم. فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبية، على تساند   1 أي تحت رايات شتى لاتجمعهم راية أمير واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولاينبغي، وإن من وراءكم1 لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته". قالوا: فهات فما الرأي؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر2، ولو علم بالذي كان ويكون لما جمعكم. إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم؛ فالله الله فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان، لا ينتقص منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه أن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله، ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلموا فإن هؤلاء قد تهيأوا، وهذا يوم له ما بعده إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا فلنتعاور3 الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم ودعوني أتأمر اليوم" فأمروه وانتهت الموقعة بهزيمة الروم شر هزيمة "سنة 13هـ". "تاريخ الطبري 4: 33 والكامل لابن الأثير2: 200".   1 يعني أبا بكر. 2 التياسر: التساهل. 3 نتعاقب عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 67- خطبة أبي عبيدة في وقعة اليرموك : ولما برز المسلمون إلى الروم في وقعة اليرموك سار أبو عبيدة في المسلمين ثم قال: "يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، فإن وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا، فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، فلا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة ولا تبدءوهم بقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله، حتى آمركم إن شاء الله". "فتوح الشام ص195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 68- قصص معاذ بن جبل : وخرج معاذ بن جبل يقص على الناس ويقول: "يا قراء القرآن ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى، وأولياء الحق، إن رحمة الله -والله- لا تنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله عز وجل، ألم تسمعوا لقول الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] . أنتم إن شاء الله منصورون، فأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارًا من عدوكم، وأنتم في قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ ولا ملتجأ من دونه ولا متعزز بغير الله". فجعل يمشي في الصفوف ويحرضهم ويقص عليهم ثم انصرف إلى موقفه. "فتوح الشام ص195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 69- خطبة عمرو بن العاص : ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس، فجعل يعظهم ويقص عليهم، ويحرضهم ويقول: "أيها الناس: غضوا أبصاركم، واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، والزموا مراكزكم ومصافكم، فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة، فثبوا في وجوههم وثوب الأسد، فو الذي يرضى الصدق ويمقت الكذب ويعاقب عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ويجزي بالإحسان، لقد بلغني أن المسلمين سيفتحونها كفرًا كفرًا1، وقصرًا قصرًا، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم؛ فإنكم لو قد صدقتموهم الشدة لقد انذعروا انذعار أولاد الحجل2". "فتوح الشام ص196".   1 القرية. 2 الحجل: الذكر من القبج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 70- خطبة أبي سفيان بن حرب : وكان أبو سفيان بن حرب يسير في الناس يوم اليرموك، ويقف على أهل كل راية وعلى كل جماعة فيحرض الناس ويحضهم ويعظهم ويقول: "إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم في دار العجم، منقطعين عن الأهل1، نائين عن أمير المؤمنين وأمداد المسلمين، وقد والله، أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم، شديد عليكم حنقهم، وقد وترتموهم في أنفسهم ونسائهم وأولادهم وأموالهم وبلادهم، فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم وتبلغون رضوان الله إلا بصدق اللقاء، والصبر في مواطن المكروه، فامتنعوا بسيوفكم، وتقربوا بها إلى خالقكم، ولتكن هي الحصون التي تلجئون إليها، وبها تمنعون". وقاتل أبو سفيان يومئذ قتالًا شديدًا، وأبلى بلاء حسنًا. "فتوح الشام ص197".   1 في الأصل "الأبل" وهو تحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 71- وصية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما عند موته : "إني مستخلفك من بعدي، وموصيك بتقوى الله، إن لله عملًا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة؛ فإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلًا؛ وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا. إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم؛ فإذا ذكرتهم قلت إني أخاف ألا أكون من هؤلاء، وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ولم يذكر حسناتهم، فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون العبد راغبًا راهبًا، ولا يتمنى على الله غير الحق، ولا يلقي بيده إلى التهلكة؛ فإذا حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك، وإن ضيعت فلا يكن غائب أبغض إليك من الموت ولست بمعجز الله". "البيان والتبيين 2: 22، والكامل لابن الأثير2: 208، والعقد الفريد: 298". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 72- كلامه لعبد الرحمن بن عوف في علته التي مات فيها : وقال عبد الرحمن بن عوف: "دخلت يومًا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، في علته التي مات فيها؛ فقلت له: أراك بارئًا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي، إني وليت أموركم خيركم في نفسي؛ فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد1 الديباج وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي2، كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان3، والذي نفسي بيده؛ لأن يقدم أحدكم فتضرب   1 جمع نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع. 2 نسبة إلى أذربيجان. 3 نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه ويغذوها غذاء لا يوجد في غيره، وفي المثل: مرعى ولا كالسعدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، يا هادي الطريق جرت إنما هو والله الفجر أو البجر1". فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يهيضك2 إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحًا مصلحًا، لا تأسى على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلا خيرًا. "تهذيب الكامل 1: 6، وإعجاز القرآن 116، والعقد الفريد 2: 208، وتاريخ الطبري 4: 52".   1 الشر والأمر العظيم. يقول: إن انتظرت حتى يضيء لك الفجر والطريق أبصرت قصدك، وإن خبطت الظلماء وركبت العشواء هجمًا بك على المكروه، وضرب ذلك مثلًا لغمرات الدنيا وتحييرها أهلها. 2 هاض العظم: كسره بعد الجبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 73- خطبة السيدة عائشة في الانتصار لأبيها : يروى أنه بلغ عائشة رضي الله عنها أن أقوامًا يتناولون أبا بكر رضي الله عنه فأرسلت إلى أزفلة1 من الناس، فلما حضروا أسدلت2 أستارها، وعلت وسادها، ثم قالت: "أبي وما أبيه، أبي والله لا تعطوه الأيدي3، وذاك طود منيف4، وفرع5 مديد، هيهات كذبت الظنون، أنجح6 إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم7، سبق الجواد إذا استولى على الأمد8، فتى قريش ناشئًا، وكهفها9 كهلًا، يفك عانيها، ويريش10 مملقها، ويرأب شعبها11، ويلم شعثها، حتى حليته12 قلوبها، ثم   1 جماعة. 2 سدله يسدله: كنصر وضرب وأسدله أرخاه. 3 تتناوله. 4 الطود: الجبل، والمنيف: المشرف. 5 فرع كل شيء أعلاه، ومن القوم شريفهم. 6 أنجح: صر ذا نجح. 7 الكدية: بضم فسكون الأرض الغليظة، والصفاة العظيمة الشديدة، وحفر فأكدى إذا صادفها فلا يمكنه الحفر "وسأله فأكدى وجده مثلها": وونيتم أي فترتم وضعفتم. 8 الغاية والمنتهى. 9 الكهف: الوزر والملجأ، والكهل من جاوز الثلاثين أو أربعًا وثلاثين إلى إحدى وخمسين. 10 راش السهم يريشه ألزق عليه الريش كريشه، والمراد يعينه ويساعده. 11 يصلح. والشعب: الصدع. 12 حل الشيء: استحلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 استشرى1 في دين الله؛ فما برحت شكيمته2 في ذات الله عز وجل، حتى اتخذ بفنائه مسجدًا، يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدمعة، وقيذ2 الجوانح، شجي النشيج4 فانقضت إليه نسوان مكة وولدانها، يسخرون منه ويستهزئون به {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 5 فأكبرت ذلك رجالات من قريش، فجنت قسيها، وفوقت سهامها6، وامتثلوه7 غرضًا، فما فلوا له صفاة8، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه9، حتى إذا ضرب الدين بجرانه10، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجًا، ومن كل فرقة أرسالًا11 وأشتاتًا، اختار الله لنبيه ما عنده، فلما قبض الله صلى الله عليه وسلم ضرب الشيطان رواقه12، ومد طنبه13، ونضب حبائله، وأجلب14 بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج 15 عهده، وماج أهله، وبغي الغوائل؛ فظنت رجال أن قد أكثبت16 أطماعهم، ولات حين الذي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم، فقام حاسرًا مشمرًا،   1 غضب ولج. 2 الشكيمة: الأنفة وفي اللجام الحديد المعترضة في فم الفرس. وهو شديد الشكيمة، أنف: أبي لا ينقاد. 3 الوقيذ: الصريع والشديد المرض المشرف. 4 الشجي: الحزين، والنشيج: صوت البكاء تشج الباكي ينشج كمجلس غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. 5 العمه بفتحتين التردد في الضلال. 6 فوق السهم: جعل له فوقًا، وهو موضع الوتر من السهم. 7 امتثلوه: مثلوه. 8 الحجر الصلد: الضخم. 9 شدته. حمله على سيساء الحق أي على حده، والسيساء: عظم الظهر، والعرب تضربه مثلًا لشده الأمر. 10 جران البعير: مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره. 11 جمع رسل بفتحتين وهو القطيع من كل شيء. 12 فسطاطه. 13 حبل طويل يشده به سرادق البيت أو الوتد. 14 أجلب: صاح، والخيل: الخيالة، ومنه "يا خيل الله اركبي" والرجل: اسم جمع راجل كالصحب والركب، أي صاح بالركاب والمشاة وقرئ ورجلك بكسر الجيم وضمها. 15 المرج: بفتحتين الفساد والقلق والاختلاط والاضطراب "وإنما يسكن مع الهرج". 16 أكثب: قرب، والنهز جمع نهزة بضم النون وهي الفرصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فجمع حاشيتيه1، ورفع قطريه2، فرد رسن3 الإسلام على غربه4، ولم شعثه بطبه، وانتاش5 الدين فنعشه؛ لما أراح6 الحق على أهله، وقرر الرءوس على كواهلها7 وحقن الدماء في أهبها8، أتته منيته، فسد ثلمته بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطاب؛ فلله در أم9 حملت به، ودرت عليه، لقد أوحدت10 به، ففنخ11 الكفرة، وديخها12، وشرد الشرك شذر مذر13، وبعج14 الأرض وبخعها15، فقاءت أكلها16 ولفظت خبأها، ترأمه17 ويصدف عنها، وتصدى18 له ويأباها، ثم وزع فيها فيئها، وودعها كما صحبها، فأروني ماذا ترتئون، وأي يومي أبي تنقمون، أيوم إقامته إذا عدل فيكم أم يوم ظعنه إذ نظر لكم19؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ثم أقبلت على الناس بوجهها، فقالت: أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئًا، قالوا: اللهم لا". "صبح الأعشى 1: 248، والعقد الفريد2: 206، ونهاية الأرب 7: 230".   1 حاشية كل شيء: جانبه وطرفه. 2 القطر: الناحية. 3 الحبل. 4 الغرب: حد الشيء. 5 انتشل، ونعشه الله كأنعشه، ونعشه: رفعه. 6 أراح على فلان حقه: رده عليه. 7 الكاهل: مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق. 8 جمع إهاب، وهو الجلد، والمراد الأجسام. 9 الدر: اللبن والنفس والعمل. 10 أوحدت المرأة: ولدت واحدًا، أي جاءت به منفردًا لا نظير له. 11 أذل وقهر. 12 داخ البلاد ودوخها وديخها: قهرها واستولى على أهلها. 13 تفرقوا شذر مذر: ذهبوا في كل وجه. 14 شقها: كناية عن الفتح. 15 قهر أهلها واستخرج ما فيها من الكنوز وأموال الملوك. 16 الأكل: ما يؤكل، أي أخرجت خيراتها. 17 تعطف عليه، ويصدف أي يعرض. 18 تتعرض. 19 أي فيما يصلحكم فولى عليكم عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 74- رثاؤها لأبيها : ما توفي أبو بكر رضي الله عنه، وقفت عائشة على قبره فقالت: "نضر1 الله وجهك يا أبت، وشكر لك صالح سعيك؛ لقد كنت للدنيا مذلًّا بإدبارك عنها، وللآخرة معزًًّا بإقبالك عليها، ولئن كان أجل الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك حسن العوض منك، وأنا أستنجز موعود الله تعالى بالصبر فيك، وأستقضيه2 بالاستغفار لك، أما لئن قاموا بأمر الدنيا، لقد قمت بأمر الدين، لما وهى شعبه3، وتفاقم صدعه4، ورجفت5 جوانبه، فعليك سلام الله توديع غير قالية6 لحياتك، ولا زارية7 على القضاء فيك". "زهر الآداب 1: 40، العقد الفريد 2: 7، نهاية الأرب 5: 167، البيان والتبيين 2: 160".   1 من النضرة والنضارة بفتح النون وهي الحسن. 2 أطلب قضاءه. 3 وهي ضعف، والشعب الجمع. 4 الصدع: الشق. 5 اضطربت. 6 مبغضة. 7 عائبة ولائمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه : 5- خطبته حين ولي الخلافة : ما استخلف عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال: "إني قائل كلمات فأمنوا عليهن" فكان أول منطق نطق به به حين استخلف، قال: "إنما مثل العرب مثل جمل أنف1 ابتع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق". "تاريخ الطبري 4: 54، والكامل لابن الأثير2: 208".   1 أنف البعير: اشتكى أنفه من البرة فهو أنف وآنف، وفي الحديث: "المؤمن كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن استنيخ على صخرة استناخ" وذلك للوجع الذي به فهو ذلول منقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 76- خطبة أخرى : قال ابن قتيبة في عيون الأخبار: لما ولي عمر صعد المنبر فقال: "ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلًا لمجلس أبي بكر، ثم نزل عن مجلسه مرقاة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرم1 البهمة2 الأعرابية، القضم لا الخضم3". "عيون الأخبار م 2 ص 235، والعقد الفريد2: 132".   1 تقرم الصبي أكل أكلًا ضعيفًا، وذلك في أول أكله. 2 البهمة: أولاد الضأن والمعز والبقر. 3 القضم: الأكل بأطراف الأسنان والخضم الأكل بأقصى الأضراس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 77- خطبة له : ذكر الطبري أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الناس بالله عز وجل واليوم الآخر، ثم قال: "يأيها الناس: إني قد وليت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استضلاعًا1 بما ينوب من مهم أموركم؛ ما توليت ذلك منكم، ولكفى عمر مهمًّا محزنًا انتظار موافقة الحساب بأخذ حقوقكم كيف آخذها، ووضعها أين أضعها، وبالسير فيكم كيف أسير، فربي المستعان، فإن عمر أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده". "تاريخ الطبري 5: 25، وشرح ابن أبي الحديد م 3 ص124".   1 الذي في كتب اللغة "اضطلاع" يقال هو مضطلع بهذا الأمر، أي قوي عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 78- خطبة له: م خطب فقال: "إن الله عز وجل قد ولاني أمركم، وقد علمت أنفع ما بحضرتكم لكم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنده كما حرسني عند غيره، وأن يلهمني العدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 في قسمكم كالذي أمرني به، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف؛ إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله؛ نما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأبين لكم أمري؛ أيما رجل كانت له حاجة، أو ظلم مظلمة، أو عتب علينا في خلق فليؤذني؛ إنما أنا رجل منكم، فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إلي، فإن ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز علي عنتكم، وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع، إلا ما جاء الله به إليه، وإن الله عز وجل قد وعدكم كرامة كثيرة، وأنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما بحضرتي بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله". "تاريخ الطبري 5: 26، وشرح ابن أبي الحديد م 3: 124". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 79- خطبة أخرى: قال ابن عبد ربه: وخطب إذ ولي الخلافة: صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "يأيها الناس، إني داع فأمنوا، اللهم فلَيِّنِي لأهل طاعتك، بموافقة الحق، ابتغاء وجهك والدار الآخرة، وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك، وأهل الدعارة1 والنفاق، من غير ظلم مني لهم، ولا اعتداء عليهم، اللهم إني شحيح، فسخني   1 الفجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 في نوائب المعروف، قصدًا من غير سرف ولا تبذير ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة، اللهم ارزقني خفض الجناح، ولين الجانب للمؤمنين، اللهم إني كثير الغفلة والنسيان؛ فألهمني ذكرك على كل حال، وذكر الموت في كل حين. اللهم إني ضعيف عن العمل بطاعتك، فارزقني النشاط فيها، والقوة عليها، بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك، اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى، وذكر المقام بين يديك، والحياء منك، وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني، والمحاسبة لنفسي، وإصلاح الساعات والحذر من الشبهات، اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك، والفهم له، والمعرفة بمعانيه، والنظر في عجائبه، والعمل بذلك ما بقيت، إنك على كل شيء قدير". "العقد الفريد 2: 133". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 80- خطبة له: وخطب أيضًا، فقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور، كنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذون بالوحي؛ فمن أسر شيئًا أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئًا أخذ بعلانيته؛ فأظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر؛ فإنه من أظهر لنا قبيحًا وزعم أن سريرته حسنة لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنًا، واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق؛ فأنفقوا خيرًا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، أيها الناس أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم، واتقوا الله ربكم، ولا تلبسوا نساءكم القباطي1؛ فإنه إن لم يشف فإنه يصف أيها الناس: إني لوددت   1 القُبَاطي "بضم الأول وتشديد الآخر، أو القَبَاطي بفتح الأول وتخفيف الآخر" ثياب كتان بيض رقاق كانت تعمل في مصر جمع قبطية "بضم القاف نسبة إلى القبط على غير قياس وقد تكسر" وشف الثوب يشف رق فحكى ما تحته، وقوله: فإنه يصف أي ما تحته من أجزاء البدن ويحددها لرقته وطراوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أن أنجو كفافًا لا لي ولا علي، وإني لأرجو إن عمرت فيكم يسيرًا أو كثيرًا أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، وأن لا يبقى أحد من المسلمين وإن كان في بيته إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله وإن لم يعمل إليه نفسه، ولم ينصب إليه بدنه، وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولقليل في رفق خير من كثير في عنف، والقتل حتف من الحتوف، يصيب البر والفاجر، والشهيد من احتسب نفسه، وإذا أراد أحدكم بعيرًا؛ فليعمد إلى الطويل العظيم فليضر به بعصًا، فإن وجده حديد الفؤاد فليشتره". "تاريخ الطبري 5: 26، وشرح ابن أبي الحديد م 3: ص125". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 81- خطبة له: وخطب أيضًا فقال: "إن الله سبحانه وبحمده قد استوجب عليكم الشكر، واتخذ عليكم الحجيج فيما آتاكم من كرامة الآخرة والدنيا من غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه؛ فخلقكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئًا، لنفسه وعبادته، وكان قادرًا أن يحعلكم لأهون خلقه عليه؛ فجعل لكم عامة خلقه، ولم يجعلكم لشيء غيره، وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وحملكم في البر والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون، ثم جعل لكم سمعًا وبصرًا، ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم، ومنها نعم اختص بها أهل دينكم، ثم صارت تلك النعم خواصها وعوامها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم، وليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلا لو قسم ما وصل إليه منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها، وفدحهم حقها إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله، فأنتم مستخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم، فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلا أمتان، أمة مستعبدة للإسلام وأهله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 يتجرون لكم، تستصفون1 معايشهم وكدائحهم ورشح جباههم، عليهم المئونة ولكم المنفعة، وأمة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة، قد ملأ الله قلوبهم رعبًا؛ فليس لهم معقل يلجئون إليه، ولا مهرب يتقون به، قد دهمتهم جنود الله عز وجل، ونزلت بساحتهم مع رفاغة2 العيش، واستفاضة المال، وتتابع البعوث، وسد الثغور بإذن الله في العافية الجليلة العامة، التي لم تكن هذه الأمة على أحسن منها مذ كان الإسلام، والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد؛ فما عسى أن يبلغ مع هذا شكر الشاكرين، وذكر الذاكرين، واجتهاد المجتهدين، مع هذه النعم التي لا يحصى عددها، ولا يقدر قدرها، ولا يستطاع أداء حقها؛ إلا بعون الله ورحمته ولطفه. فنسأل الله الذي لا إله إلا هو، الذي أبلانا هذا، أن يرزقنا العمل بطاعته، والمسارعة إلى مرضاته. فاذكروا عباد الله بلاء الله عندكم، واستتموا نعمة الله عليكم، وفي مجالسكم مثنى وفرادى فإن الله عز وجل قال لموسى {أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق تؤمنون بها، وتستريحون إليها، مع المعرفة بالله ودينه، وترجون بها الخير فيما بعد الموت لكان ذلك؛ ولكنكم كنتم أشد الناس معيشة، وأعظم الناس بالله جهالة. فلو كان هذا الذي ابتلاكم به لم يكن معه حظ في دنياكم؛ غير أنه ثقة لكم في آخرتكم، التي إليها المعاد والمنقلب، وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه، كنتم أحرياء أن تشحوا على نصيبكم منه، وأن تظهروه على غيره فبله3 ما أنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا، وكرامة الآخرة، أو لمن شاء أن يجمع له ذلك منكم، فأذكركم الله الحائل بينكم وبين قلوبكم، إلا ما عرفتم حق الله   1 استصفى الشيء: أخذ منه صفوه. 2 رفغ عيشه ككرم رفاغة: اتسع، والرفاغة والرفاغية: سعة العيش والخصب والسعة. 3 بله: اسم فعل بمعنى دع واترك، فما بعدها منصوب، ومصدر بمعنى الترك، فما بعدها مجرور بالإضافة، واسم مرادف لكيف فما بعدها مرفوعة بالإبتداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فعملتم له، وقسرتم أنفسكم على طاعته، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفًا لزوالها ولانتقالها، ووجلًا من تحويلها،؛ فإنه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها، وإن الشكر أمن للغير، ونماء للنعمة، واستجلاب للزيادة، وهذا لله على من أمركم ونهيكم واجب". "تاريخ الطبري 5: 27 وشرح ابن أبي الحديد م 3 ص125". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 82- خطبة له: وخطب أيضًا؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: من أراد أن يسأل عن القرآن؛ فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض؛ فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل. ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنًا وقاسمًا، إني بادئ بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أنا وأصحابي، ثم بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، ثم من أسرع إلى الهجرة أسرع إليه العطاء، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ عنه العطاء؛ فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته، إني قد بقيت فيكم بعد صاحبي، فابتليت بكم، وابتليتم بي، وإني لن يحضرني من أموركم شيء فأكله إلى غير أهل الجزاء والأمانة؛ فلئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم". "العقد الفريد 2: 132". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 83- خطبة له: وخطب أيضًا فقال: "الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه صلى الله عليه وسلم؛ فهدانا به من الضلالة، وجمعنا به من الشتات، وألف بين قلوبنا، ونصرنا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 عدونا، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخوانًا متحابين؛ فاحمدوا الله على هذه النعمة، واسألوه المزيد فيها والشكر عليها؛ فإن الله قد صدقكم الوعد، بالنصر على من خالفكم، وإياكم والعمل المعاصي، وكفر النعمة؛ فقلما كفر قوم بنعمة، ولم ينزعوا إلى التوبة، إلا سلبوا عزهم، وسلط عليهم عدوهم. أيها الناس: إن الله قد أعز دعوة هذه الأمة، وجمع كلمتها، وأظهر فلجها1 ونصرها وشرفها، فاحمدوه عباد الله على نعمه، واشكروه على آلائه، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين". "العقد الفريد 2: 132".   1 الفلج: الظفر والفوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 84- خطبة له: وخطب عمر الناس فقال: "والذي بعث محمدًا بالحق لو أن جملًا هلك ضياعًا بشط الفرات، خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب". قال أبو زيد "آل الخطاب" يعني نفسه ما يعني غيرها. "تاريخ الطبري 5: 18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 85- خطبة له: وخطب أيضًا فقال: "أيها الناس: إنه أتى علي حين، وأنا أحسب أن من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده، ألا وإنه قد خيل إلي أن أقوامًا يقرءون القرآن يريدون به ما عند الناس؛ ألا فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم؛ فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل، وإذ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فقد رفع الوحي، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما أعرفكم بما أقول لكم، ألا فمن أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا، وأثنينا به عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ومن أظهر لنا شرًّا ظننا به شرًّا، وأبغضناه عليه، اقدعوا1 هذه النفوس عن شهواتها؛ فإنها طلعة2 وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى غاية، إن هذا الحق ثقل مريء3، وإن الباطل خفيف وبيء4، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا". وفي رواية صاحب العقد: "ألا وإني إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم وسنتكم، ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم، ويأخذوا أموالكم، ألا من رابه شيء من ذلك فليرفعه إلي؛ فوالذي نفسي بيده لأقصنكم منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن بعثت عاملًا من عمالك، فأدب رحالًا من رعيتك فضربه، أتقصه منه؟ قال: نعم والذي نفس عمر بيده لأقصنه منه؛ فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه". وفي رواية الطبري: وخطب عمر الناس يوم الجمعة فقال: "اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، أني بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، وأن يقيموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي". "يأيها الناس: إني والله ما أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه". فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين: أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته إنك لتقصنه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وكيف   1 قدعه كمنعه: كفه. 2 نفس طلعة: تكثر التطلع إلى الشيء. 3 حميد العاقبة. 4 وخيم العاقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه؟ ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم". "البيان والتبيين 3: 71، وصبح الأعشى1: 214، والعقد الفريد 2: 132 وتاريخ الطبري 5: 19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 86- خطبته عام الرمادة : وخطب عام الرمادة1 بالعباس رحمه الله: حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: "أيها الناس: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وبقية آبائه وكبار رجاله؛ فإنك تقول: "وقولك الحق": {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيك في عمه، اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارًا، اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة، ولا تدع الكسيرة بمضيعة، اللهم قد ضرع الصغير ورق الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم أغثهم بغياثك، قبل أن يقنطوا فيهلكوا؛ فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون". فما برحوا حتى علقوا الحذاء، وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعباس يقولون: "هنيئًا لك يا ساقي الحرمين". "العقد الفريد: 132".   1 في السنة الثامنة عشرة أصابت الناس مجاعة شديدة بالمدينة وما حولها فكانت تسفي إذا ريحت ترابًا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة "الطبري 4: 223". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 87- خطبته وقد بلغه أن قومًا يفضلونه على أبي بكر: وبلغه أن قومًا يفضلونه على أبي بكر الصديق، فوثب مغضبًا حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أيها الناس: إني سأخبركم عني وعن أبي بكر، إنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن قلنا له يا خليفة رسول الله: إن رسول الله كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم؛ فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب، فقال أبو بكر: أوكلكم رأيه على هذا؟ فقلنا: نعم، فقال: والله لأن أخر من السماء فتخطفني الطير، أحب إلي من أن يكون رأيي هذا، ثم صعد المنبر، فحمد الله وكبره، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على الناس فقال: "أيها الناس: من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. أيها الناس: أئن كثر أعداؤكم، وقل عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب؟ والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. والله أيها الناس: لو منعوني عقالًا1 لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم الله وهو خير معين". ثم نزل. "تهذيب الكامل 1: 8".   1 العقال: زكاة عام من الإبل والغنم، أو المراد به الحبل مبالغة في التشدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 خطب الفتوح في عهد عمر في فتح فارس مدخل ... خطب الفتوح في عهد عمر في فتح فارس: كان المثنى بن حارثة الشيباني أمير جيش العراق قدم على أبي بكر بالمدينة يستمده فألقاه مريضًا، ووصى أبو بكر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش معه؛ فكان أول ما عمل به عمر، أن ندب الناس مع المثنى إلى أهل فارس، قبل صلاة الفجر، من الليلة التي مات فيها أبو بكر -وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم لشدة سلطانهم، وشوكتهم، وعزهم، وقهرهم الأمم- وجعل يندبهم ثلاثة أيام فلا ينتدب أحد إلى فارس؛ فلما كان اليوم الرابع عاد فندب الناس إلى العراق؛ فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي -والد المختار- وتتابع الناس، وتكلم المثنى بن حارثة فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 خطبة المثنى بن حارثة الشيباني ... 88- خطبة المثنى بن حاثة الشيباني: "أيها الناس: لا يعظمن عليكم هذا الوجه؛ فإنا قد تبحبحنا1 ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد، وشاطرناهم ونلنا منهم، واجترأنا من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها.   1 تبحبح: تمكن في المقام والحلول كبحبح، والدار توسطها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 89- خطبة عمر رضي الله عنه : وقام عمر في الناس فقال: "إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة1، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك،   1 طلب الكلأ في موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أين الطراء1 المهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها؛ فإنه قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومولي أهله مواريث الأمم، أين عباد الله الصالحون ... "؟ فلما اجتمع له البعث أمر عليهم أولهم انتدابًا2 وهو أبو عبيد وقال له: "اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعًا حتى تتبين؛ فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث3 الذي يعرف الفرصة والكف". "تاريخ الطبري 4: 60، والكامل لابن الأثير 2: 211".   1 جمع طارئ، من طرأ عليهم كمنع أتاهم من مكان أو خرج عليهم منه فجأة. 2 ندب القوم إلى الأمر: دعاهم وحثهم، وانتدبوا إليه أسرعوا. 3 الرزين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 90- وصية عمر لأبي عبيد بن مسعود : وتقدم عمر إلى أبي عبيد بن مسعود فقال: "إنك تقدم على أرض المكر والخديعة، والخيانة والجبرية، تقدم على قوم قد جرءوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه؛ فانظر كيف تكون، واخزن لسانك، ولا تفشين سرك، فإن صاحب السر -ما ضبطه- متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة". "تاريخ الطبري 4: 66". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 91- خطبة له وقد شيع جيش سعد بن أبي وقاص : وشيع جيش سعد بن أبي وقاص، حين وجهه لحرب العراق؛ فقام في الناس خطيبًا فقال: "إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم الأقوال، ليحيي بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 القلوب؛ فإن القلوب ميتة في صدروها حتى يحييها الله، من علم شيئًا فلينتفع به، وإن للعدل أمارات وتباشير، فأما الأمارات: فالحياء، والسخاء، والهين، واللين. وأما التباشير: فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر بابًا، وبشر لكل باب مفتاحًا؛ فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحدًا، واكتف بما يكفيه من الكفاف؛ فإن من لم يكفه الكفاف، لم يغنه شيء، إني بينكم وبين الله، وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه؛ فأنهوا اشكاتكم إلينا؛ فمن لم يستطع؛ فإلى من يبلغناها، نأخذ له الحق غير متعتع". "تاريخ الطبري 4: 85". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 92- وصيته لسعد بن أبي وقاص : وصى سعد بن أبي وقاص حين أمره على حرب العراق فقال: "يا سعد سعد بني وهيب، لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ؛ ولكنه يمحو السيئ بالحسن، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته؛ فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة؛ فانظر الأمر الذي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه؛ فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين". "تاريخ الطبري 4: 84، والكامل لابن الأثير 2: 220". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 93- وصيته لسعد بن أبي وقاص أيضًا ولما أراد أن يسرحه دعاه فقال: "إني قد وليتك حرب العراق، فاحفظ وصيتي فإنك تقدم على أمر شديد كريه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لا يخلص منه إلا الحق، فعود نفسك ومن معك الخير واستفتح به، واعلم أن لكل عادة عتادًا1، فعتاد الخير الصبر، فالصبر الصبر على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته، واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء، منها السر، ومنها العلانية. فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواءً، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه وبمحبة الناس، فلا تزهد في التحبب، فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبدًا حببه، وإذا أبغض عبدًا بغضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس ممن يشرع معك في أمرك". "تاريخ الطبري 4: 85".   1 العتاد: العدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 94- وصية أخرى كتبها إلى سعد بن أبي وقاص : وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد. "أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصبة عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ولا تقولوا إن عدونا شر منا؛ فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل "لما عملوا بمساخط الله" كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا، واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشهم مسيرًا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم "والسفر لم ينقص قوتهم" فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، حامي الأنفس والكراع1، وأقم بمن معك في كل جمعة يومًا وليلة، حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم، ويرمون2 أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ3 أحدًا من أهلها شيئًا؛ فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولوهم خيرًا، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح، وإذا وطئت أرض العدو فأذك4 العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب، أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره، وإن صدقك في بعضه، والغاش عين عليك، وليس عينًا لك، وليكن منكم عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وتبث السرايا5 بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم، وتنق6 للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل؛ فإن لقوا عدوًّا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السريا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدًا بهوى، فتضيع من رأيك وأمرك، أكثر مما حابيت به أهل   1 الكراع من كل شيء: طرفه واسم يجمع الخيل. 2 رمه يرمه: أصلحه. 3 رزأه ماله: أصاب منه شيئًا. 4 أذكى عليه العيون: إذا أرسل عليه الطلائع. 5 جمع سرية، وهي من خمسة أنفس إلى ثلثمائة أو أربعمائة. 6 تنقاه وانتقاه: اختاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 خاصتك، ولا تبعثن طليعة، ولا سرية، في وجه تتخوف فيه غلبة أو ضيعة ونكاية؛ فإذا عاينت العدو، فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك، كصنعه بك، ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتيقظ من البيان جهدك، ولا تؤتى بأسير ليس له عقد1 إلا ضربت عنقه، لترهب به عدو الله وعدوكم، والله ولي أمرك ومن معك، وولي النصر لكم على عدوكم، والله المستعان". "العقد الفريد 1: 40".   1 عهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 95- وصيته للمجاهدين : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند عقد الألوية: "بسم الله وبالله، وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله، وما النصر إلا من عند الله، ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور1 ولا تقتلوا هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن2 الغارات". "العقد الفريد 1: 40".   1 الغلبة. 2 شن الغارة عليهم: صبها من كل وجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وصية عمر ليعلى بن أمية في إجلاء نهر نجران ... 96- وصية عمر ليعلى بن أمية في إجلاء أهل نجران: روى الطبري قال: كان أول بعث بعثه عمر بعث أبي عبيد، ثم بعث يعلى بن أمية إلى اليمن، وأمره بإجلاء أهل نجران، ولوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه بذلك، ولوصية أبي بكر رحمه الله بذلك في مرضه، وقال: "ائتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجلهم من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من تجلى منهم، ثم خيرهم البلدان، وأعلمهم أنا نجليهم بأمر الله ورسوله ألا يترك بجزيرة العرب دينان؛ فليخرجوا من أقام على دينه منهم، ثم نعطيهم أرضًا كأرضهم إقرارًا لهم بالحق على أنفسنا، ووفاء بذمتهم، فيما أمر الله من ذلك بدلًا بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم بالريف". "تاريخ الطبري 4: 62". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 97- خطبة لعمر : ولما انتهى إلى عمر قتل أبي عبيد بن مسعود نادى في المهاجرين والأنصار وخرج حتى أتى صرارًا فعسكر به، واستشار الناس فكلهم أشار عليه بالسير إلى فارس واستشار ذوي الرأي فأشاروا عليه أن يقيم ويبعث رجلًا فقام في الناس فقال: "إن الله عز وجل قد جمع على الإسلام أهله؛ فألف بين القلوب، وجعلهم فيه إخوانًا، والمسلمون فيما بينهم كالجسد لا يخلوا منه شيء من شيء أصاب غيره. وكذلك يحق على المسلمين أن يكونوا "وأمرهم شورى بينهم" بين ذوي الرأي منهم؛ فالناس تبع لمن قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بهذا الأمر، ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعًا لهم، ومن قام بهذا الأمر تبع لأول رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعًا لهم. يأيها الناس إني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج؛ فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلًا، وقد أحضرت هذا الأمر من قدمت ومن خلفت". "تاريخ الطبري 4: 83".   1 هو اليوم الأول من أيام القادسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 98- خطبة جرير بن عبد الله البجلي : وقال المثنى بن حارثة وهو على قتال فارس: من يتبع الناس إلى السيب؟ فقام جرير بن عبد الله البجلي في قومه فقال: "يا معشر بجيلة: إنكم وجيمع من شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة والبلاء سواء، وليس لأحد منهم في هذا الخمس غدًا من النفل مثل الذي لكم مه، ولكم ربع خمسه نفلًا من أمير المؤمنين؛ فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو، ولا أشد عليه منكم للذي لكم منه، ونية إلى ماترجون؛ فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين: الشهادة والجنة أو الغنيمة والجنة". "تاريخ الطبري 4: 76".   1 هو اليوم الأول من أيام القادسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 خطبة سعد ابن أبي وقاص يوم أرماث ... 99- خطبة سعد بن أبي وقاص يوم أرماث: وخطب سعد بن أبي وقاص يوم أرماث1 " سنة 14هـ" فحمد وأثنى عليه وقال: "إن الله هو الحق لا شريك له في الملك وليس لقوله خلف" قال الله جل ثناؤه:   1 هو اليوم الأول من أيام القادسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج؛ فأنتم تطعمون منها وتأكلون منها، وتقتلون أهلها وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم، وخيار كل قبيلة وعز من وراءكم؛ فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 100- خطبة عاصم بن عمرو : وقام عاصم بن عمرو فقال: "إن هذه بلاد قد أحل الله لكم أهلها، وأنتم تنالون منها منذ ثلاث سنين ما لا ينالون منكم، وأنتم الأعلون والله معكم، إن صبرتم وصدقتموهم الضرب والطعن فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، وإن خرتم وفشلتم -والله لكم من ذلك جار وحافظ- لم يبق هذا الجمع منكم باقية، مخافة أن تعودوا عليهم بعائدة هلاك، الله الله، اذكروا الأيام وما منحكم الله فيها، أولا ترون أن الأرض وراءكم بسابس1 قفار ليس خمر2 ولا وزر إليه ويمتنع به؟ اجعلوا همكم الآخرة". "تاريخ الطبري 4: 114".   1 البسبس: القفر. 2 الخمر: ما واراك من شجر وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 101- خطبة طليحة بن خويلد الأسدي : وحمل أصحاب الفيلة من جيش الفرس على المسلمين، وكادت بجيلة أن تؤكل، فرت عنها خيلها نفارًا؛ فأرسل سعد إلى بني أسد: ذببوا1 عن بجيلة، وقام طليحة بن خويلد الأسدي في قومه حين استصرخهم سعد فقال:   1 دافعوا عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 "يا عشيرتاه: إن المنوه باسمه الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحدًا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدئوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة1؛ فإنما سميتم أسدًا لتفعلوا فعله، شدوا ولا تصدوا وكروا ولا تفروا، لله در ربيعة! أي فري يفرون، وأي قرن يغنون! هل يوصل إلى مواقفهم؟ فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله، شدوا عليهم باسم الله". "تاريخ الطبري 4: 118".   1 حرب: كليب واشتد غضبه فهو حرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 102- الخنساء تحرض أولادها على القتال : حضرت الخنساء حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم: "يا بني، أنتم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله غيره، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت1 حسبكم، ولا غبرت2 نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب العظيم في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإذا أصبحتم غدًا؛ فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، ولله على أعدائه مستنصرين". فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، فتقدموا واحدًا بعد واحد، ينشدون الأراجيز؛ فقاتلوا حتى استشهدوا جميعًا، فلما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته". فكان عمر رضي الله عنه يعطيها أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد منهم مائة درهم، حتى قبض وماتت الخنساء. "حزانة الأدب:1، 395".   1 التهجين: التقبيح. 2 غبره: لطخه بالغبار، أي دنست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 103- خطبة عتبة بن غزوان : وفي سنة 14هـ وجه عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان إلى البصرة وأمره بنزولها بمن معه وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم؛ فرفعوا له منبرًا وقام يخطب فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أما بعد: فإن الدنيا قد تولت حذاء1 مدبرة، وقد آذنت أهلها بصرم2؛ وإنما بقي منها صبابة3 كصبابة الإناء يصطبها صاحبها، ألا وإنكم مفارقوها لا محالة، ففارقوها بأحسن ما يحضركم، ألا وإن من العجب أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحجر الضخم يلقى في النار من شفيرها4، فيهوي فيها سبعين خريفًا5، ولجهنم سبعة أبواب ما بين البابين منها مسيرة خمسمائة سنة، ولتأتين عليها ساعة وهي كظيظ6 بالزحام، ولقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سابعة، ما لنا طعام إلا ورق البشام7، حتى قرحت أشداقنا؛ فوجدت أنا وسعد بن مالك تمرة، فشققتها بيني وبينه نصفين، والتقطت بردة فشققتها بيني وبينه، فأتزرت بنصفها، وأتزر بنصفها، وما منا أحد اليوم إلا وهو أمير على مصر من الأمصار، وإنه لم يكن نبوة قط إلا تناسختها8 جبرية، وأنا أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وفي أعين الناس صغيرًا، وستجربون الأمراء من بعدي، فتعرفون وتنكرون". "تاريخ الطبري 4: 149 والعقد الفريد 2: 156، والبيان والتبيين 2: 27، والكامل لابن الأثير 2: 188".   1 السريعة الماضية التي لا يتعلق بها شيء. 2 آذنت: أعلمت، والصرم: القطع. 3 الصبابة: بقية الماء في الإناء. 4 الشفير: حرف كل شيء 5 سنة: والمراد أنها بعيدة الأقطار شاسعة الأرجاء. 6 من كظه الطعام: ملأه حتى لا يطيق النفس، ورجل كظ وكظيظ ومكظوظ تبهظه الأمور حتى يعجز عنها. 7 البشام: شجر عطر الرائحة يستاك به. 8 في الحديث "لم تكن نبوة إلا تناسخت" أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الأمة وتغاير أحوالها، والجبرية الجبروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 104- خطبة لسعد بن أبي وقاص : ولما نزل سعد بهرسير -وهي المدينة الدنيا- طلب السفن ليعبر بالناس إلا المدينة القصوى "على نهر دجلة"؛ فلم يقدر على شيء ووجدهم قد ضموا السفن؛ فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموه أهل الأيام، وعطلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم. وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا؛ ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم". فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل. واقتحم دجلة وفتح المدينة القصوى "سنة 16هـ". "تاريخ الطبري 4: 170". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 105- خطبة عمر ولما تجمعت جموع الفرس بنهاوند كتب سعد إلى عمر يخبره بذلك فاجتمع الناس وقام عمر على المنبر خطيبًا فأخبرهم الخبر واستشارهم وقال: "هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر وإني عارضه عليكم فاسمعوه، ثم أخبروني وأوجزوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، ولا تكثروا ولا تطيلوا فتفشغ1 بكم الأمور، ويتلوى عليكم الرأي، أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه، حتى أنزل منزلًا وسطًا بين هذين المصرين فأستنفرهم ثم أكون   1 فشغه كمنعه: علاه حتى غطاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لهم رداء يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم أن أضربهم عليهم في بلادهم ليتنازعوا ملكهم". فقام عثمان بن عفان ورجال من أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلموا كلاماً فقالوا: "لا نرى ذلك، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأثرك، وقالوا: بإزائهم وجوده العرب وفرسانهم وأعلامهم ومن قد فض جموعهم، وقتل ملوكهم، وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذه، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك فأذن لهم واندب إليهم وادع لهم". "تاريخ الطبري 4:237" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 106- خطبة لعلي : وقام علي بن أبي طالب فقال: "أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأي، وفهموا ما كتب به إليك، وإن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه لكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهره، وجده الذي أعزه وأيده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ؛ فنحن على موعد من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلًا فهي كثير عزيز بالإسلام، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، ومن لم يحفل بمن هو أجمع وأحدُّ وأجدُّ من هؤلاء؛ فليأتهم الثلثان وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم". فسر عمر بحسن رأيهم وأعجبه ذلك منهم. "تاريخ الطبري 4: 237". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 107- خطبة طلحة بن عبيد الله : وقام طلحة بن عبيد الله وكان من خطباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد ثم قال: "أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور وعجمتك1 البلايا، واحتنكتك2 التجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك، إليك هذا الأمر فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، ووفدنا نفد، وقدنا ننقد فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واختبرت؛ فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار" ثم جلس. "تاريخ الطبري 4: 238".   1 عجم العود: عضه ليعرف صلابته من خوره. 2 أحكمتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 108- خطبة عثمان بن عفان : فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من أيام فتكلموا؛ فقام عثمان بن عفان فتشهد وقال: "أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين: البصرة والكوفة، فتلقى جميع المشركين بجميع المسلمين، فإنك إذا سرت بمن معك وعندك. قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزًّا وأكثر يا أمير المؤمنين، إنك لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقية، ولا تمتنع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز، إن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، فأشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه" ثم جلس. "تاريخ الطبري 4: 238". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 109- خطبة علي بن أبي طالب : فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعد من الأيام فتكلموا؛ فقام علي بن أبي طالب فقال: "أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم؛ سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم؛ سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض؛ انتفضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق: فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم لئلا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددًا لهم. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا قالوا هذا أمير العرب وأصل العرب؛ فكان ذلك أشد لكلبهم وألبتهم1 على نفسك، وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكنا نقاتل بالنصر". فقال عمر: أجل والله لئن شخصت من هذه البلدة لتنتقضن علي الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت إلي الأعاجم لا يفارقن العرصة2، وليمدهم من لم يمدهم، وليقولن: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب: فأشيروا علي برجل أوله ذلك الثغر غدًا، قالوا أنت أفضل رأيًا، وأحسن مقدرة، قال: أشيروا علي به واجعلوه عراقيًّا، قالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق،   1 ألب إليه القوم: أتوه من كل جانب. 2 الساحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وجندك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم، فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلًا ليكونن لأول الأسنة إذا لقيها غدًا، فقيل من يا أمير المؤمنين؟ فقال: النعمان بن مقرن المزني، فقالوا: هو لها، والنعمان يؤمئذ بالبصرة، فولاه. "تاريخ الطبري 4: 238". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 110- خطبة النعمان بن مقرن : ونشب القتال بين المسلمين والفرس، وكان النعمان يسير في الناس على برذون أحوى1 قريب من الأرض فيقف على كل راية ويحمد الله ويثني عليه ويقول: "قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هوادي2 ما وعدكم وصدوره؛ وإنما بقيت أعجازه وأكارعه، والله منجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة؛ فأنتم اليوم عباد الله حقًا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذي لهم في ظفركم وعزكم، والذي عليهم في هزيمتكم وذلكم، وقد ترون من أنتم بإزائه من عدوكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم؛ فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة3 وما ترون من هذا السواد، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا؛ فلا يكونن على دنياهم أحمى منكم على دينكم، واتقى الله عبد صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء؛ فإنكم بين خيرين منتظرين: إحدى الحسنيين، من بين شهيد حي مرزوق أو فتح قريب وظفر يسير؛ فكفى كل رجل مايليه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه، وذلك من الملأمة، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا، فإني مكبر ثلاثًا، فإذا كبرت التكبيرة   1 وصف من الحوة وهي: حمرة إلى السواد. 2 أوائلي جمع هاد. 3 الرثة: ضعفاء الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ؛ فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتهيأ للنهوض، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معًا، اللهم أعز دينك وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك". وزلق فرسه في دماء القوم فصرع فاستشهد. "تاريخ الطبري 4: 242". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 خطب رجال من الفاتحين بين يدي يزدجرد ملك الفرس وقواده مدخل ... خطب رجال من الفاتحين بين يدي يزدجرد ملك الفرس وقواده: وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على فتح العراق يأمره أن يبعث إلى يزدجرد ملك الفرس رجالًا من أهل المنظرة1 والرأي والجلد يدعونه، فاختارهم وأنفذهم إليه بالمدائن؛ فلما دخلوا عليه أمر الترجمان بينه وبينهم فقال: سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا، أمن أجل أنا أجممناكم2 وتشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم، ومن شاء آثرته، فقالوا: بل تكلم، فتكلم النعمان فقال:   1 المنظر. 2 من أجم الماء إذا تركه يجتمع، أي أرحناكم وانصرفنا عنكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 111- خطبة النعمان بن مقرن : "إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولًا يدلنا على الخير، ويأمرنا به، ويعرفنا الشر، وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة؛ فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، وبدأ بهم وفعل، فدخلوا معه جميعًا على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه، من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الحسن، وقبح القبيح كله؛ فإن أبيتم فأمر من الشر، هو أهون من آخر شر منه، الجزاء1؛ فإذا أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم". فقال يزدجرد: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم، لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان غرور لحقكم، فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم، فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم، فقام المغيرة بن زرارة فقال:   1 الجزاء: جمع جزية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 112- خطبة المغيرة بن زرارة : أيها الملك: إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف؛ وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك؛ فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك، إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس، والجعلان1 والعقارب والحيات فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل، وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا   1 جمع جعل بضم ففتح: وهو الحرباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا؛ فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبيلتنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر، فلم يجب أحد أول من ترب كان له، وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلي يصير كل شي، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل، لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا، فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه؛ فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك". فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ثم قال: ائتوني بوقر1 من تراب، فقال احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن. "تاريخ الطبري 4: 92 والكامل لابن الأثير 2: 223".   1 الوقر: الحمل الثقيل أو أعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 113- مقال ربعي بن عامر عند رستم قائد جيش الفرس : وأرسل رستم قائد جيش الفرس، إلى سعد بن أبي وقاص، أن ابعث إلينا رجلًا نكلمه ويكلمنا؛ فبعث إليه ربعي بن عامر؛ فلما انتهى إليه قال له الترجمان "واسمه عبود من أهل الحيرة" ما جاء بكم؟ قال: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد، إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا، حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي". "تاريخ الطبري 4: 106، والكامل لابن الأثير 2: 227". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 114- خطبة المغيرة بن شعبة في حضرة رستم : وبعث إليه أيضًا المغيرة بن شعبة، فتكلم بحضرته، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله خالق كل شيء ورازقه، فمن صنع شيئًا فإنما هو يصنعه والذي له، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء، والتمكن في البلاد، وعظم السلطان في الدنيا، فنحن نعرفه، ولسنا ننكره، فالله صنعه بكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال، وضيق المعيشة، واختلاف القلوب، فنحن نعرفه، ولسنا ننكره، والله ابتلانا بذلك، وصيرنا إليه، والدنيا دول، ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء، حتى يصيروا إليه، ولم يزل أهل رخائها يتوقعون الشدائد، حتى تنزل بهم، ويصيروا إليها، ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر، كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر، كان عظيم ما تتابع علينا، مستجلبًا من الله رحمة يرفه بها عنا، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه، أو كنتم تعرفوننا به، إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولًا، ثم ذكر مثل الكلام الأول". "تاريخ الطبري4: 109، والكامل لابن الأثير 2: 228". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 115- خطبة المغيرة بن شعبة : لما اجتمعت جيوش المسلمين بنهاوند "سنة 21هـ" وأميرهم النعمان بن مقرن المزني أرسل بندار العلج إليهم أن أرسلوا إلينا رجلًا نكلمه، فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة، فأدخل إليه وترجم له قوله: "إنكم معشر العرب أبعد الناس من كل خير، وأطول الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاء، وأقذر الناس قذرًا، وأبعده دارًا، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة1 حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجسا لجيفكم، فإنكم أرجاس، فإن تذهبوا نُخَلِّ عنكم، وإن تأبوا نركم مصارعكم". قال: فحمدت الله، وأثنيت عليه، فقلت: "والله ما أخطأت من صفتنا شيئًا ولا من نعتنا. إن كنا لأبعد الناس دارًا، وأشد الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاء، وأبعد الناس من كل خير، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فوالله ما زلنا نتعرف من ربنا منذ جاءنا رسوله بالفتح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبكم على ما في أيديكم، أو نقتل بأرضكم". "تاريخ الطبري 4: 234".   1 الأساورة: جمع أسوار، والأسوار: بالضم والكسر قائد الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 116- خطبة عمر : وغزا الأحنف بن قيس خراسان وحارب يزدجرد سنة 22هـ ثم أقبل أهل فارس على الأحنف، فصالحوه، وعاقدوه، ودفعوا إليه خزائن يزدجرد، وتراجعوا إلى بلدانهم، وبعث الأحنف بالخبر والغنائم إلى عمر بن الخطاب، فجمع الناس وخطبهم، فقال في خطبته: "إن الله تبارك وتعالى ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فالحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر جنده، ألا إن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم، فليسوا يملكون من بلادهم شبرًا يضر بمسلم، ألا وإن الله أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون. ألا وإن المصرين من مسالحها1 اليوم كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد، وقد وغلوا في البلاد، والله بالغ أمره ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، فقوموا في أمره على رجل يوفِّ لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تبدلوا ولا تغيروا؛ فيستبدل الله بكم غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم". "تاريخ الطبري 4: 267".   1 المسالح: جمع مسلحة، وهي الثغر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 117- خطبة عثمان بن أبي العاص : ولما فتح عثمان بن أبي العاص إصطخر "سنة 23هـ" وجمع إليه ما أفاء الله على المسلمين خمَّسه، وبعث بالخمس إلى عمر، وقسم أربعة أخماس المغنم في الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وعفت الجند عن النهاب، وأدوا الأمانة، واستدقوا1 الدنيا، فجمعهم عثمان ثم قام فيهم وقال: "إن هذا الأمر لا يزال مقبلًا، ولايزال أهله معافين مما يكرهون مالم يغلوا، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون: ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم". "تاريخ الطبري 5: 3".   1 رأوها دقيقة حقيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 في فتح الشام : 118- بين الروم ومعاذ بن جبل : وبعث الروم إلى أبي عبيدة أن "أرسل إلينا رجلًا من صلحائكم نسأله عما تريدون، وما تسألون، وما تدعون إليه، ونخبره بذات أنفسنا، وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم، فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأتاهم، فقالوا للترجمان: قل له: "أخبرونا ما تطلبون؟ وإلام تدعون إليه؟ وما أدخلكم بلادنا؟ وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وتركتم أرض فارس وقد هلك ملك فارس وهلك ابنه، وإنما تملكهم اليوم النساء ونحن ملكنا حي، وجنودنا عظيمة كثيرة، وإن اقتحمتم من مدائننا مدينة، أو من قرانا قرية، أو من حصوننا حصنًا، أو هزمتم لنا عسكرًا، أظننتم أنكم قد ظفرتم بجماعتنا؟ وأنكم قد قطعتم حربنا عنكم؟ أو فرغتم ممن وراءنا منا، ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض! وأخبرونا لم تستحلون قتالنا، وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا؟ ". فلما قالوا هذا القول وفسره الترجمان لمعاذ سكتوا، فقال معاذ للترجمان: قد فرغوا؟ قال له: نعم، قال: فأفهمهم عني أن أول ما أنا ذاكر حمد الله الذي لا إله إلا هو، والصلاة على محمد نبيه صلى لله عليه وسلم، وأن أول ما أدعوكم إلى الله أن تؤمنوا بالله وحده، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن تصلوا صلاتنا وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا في ديننا، لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أبيتم، فأدوا الجزية إلينا في كل عام وأنتم صاغرون، ونكف عنكم، وإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله عز وجل نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وما ندعوكم إليه. وأما قولكم: "ما أدخلكم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وتركتم أهل فارس، وقد هلك ملكهم" فإني أخبركم عن ذلك: ما بدأنا قتالكم؛ لأنكم أقرب إلينا منهم، وإنكم عندنا جميعًا بالسواء، وما جاءنا كتابنا بالكف عنهم، ولكن الله عز وجل أنزل في كتابه على نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} وكنتم أقرب إلينا منهم، فبدأنا بكم لذلك، وقد أتاهم طائفة منا وهم يقاتلونهم، وأرجو أن يظفرهم الله ويفتح عليهم فينصر. وأما قولكم: "إن ملكنا حي، وإن جنودنا عظيمة، وإنا عدد نجوم السماء وحصى الأرض" وتوئسونا من الظهور عليكم فإن الأمر في ذلك ليس إليكم، وإنما الأمور كلها إلى الله، وكل شيء في قبضته وقدرته، وإذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، وإن يكن ملككم هرقل فإن ملكنا الله عز وجل الذي خلقنا، وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب ديننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أقررناه علينا، وإن عمل بغير ذلك عزلناه عنا، وإن هو سرق قطعنا يده، وإن زنى جلدناه، وإن شتم رجلًا منا شتمه كما شتمه، وإن جرحه أقاده1 من نفسه، ولا يحتجب منا. ولا يتكبر علينا، ولا يستأثر علينا في فيئنا الذي أفاءه الله علينا وهو كرجل منا. وأما قولكم: "جنودنا كثيرة" فإنها وإن عظمت وكثرت حتى تكون أكثر من نجوم السماء وحصى الأرض، فإنا لا نثق بها ولا نتكل عليها، ولا نرجوا النصر على   1 أقصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عدونا بها، ولكنا نتبرأ من الحول والقوة، ونتوكل على الله عز وجل، ونثق بربنا، فكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها وأغناها، وغلبت فئة كثيرة بإذن الله، وكم من فئة كثيرة قد أذلها الله وأهانها، قال تبارك وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . وأما قولكم: "كيف تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا" فأنا أخبركم عن ذلك: نحن نؤمن بنبيكم، ونشهد أنه عبد من عبيد الله، وأنه رسول من رسل الله، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون، ولا نقول إنه الله، ولا نقول إنه ثاني اثنين، ولا ثالث ثلاثة، ولا إن لله والدًا ولا إن له صاحبة ولا ولدًا، ولا إن معه آلهة أخرى، لا إله إلا هو، تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا، وأنتم تقولون في عيسى قولًا عظيمًا، فلو أنكم قلتم في عيسى كما نقول، وآمنتم بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كما تجدونه في كتابكم، وكما نؤمن نحن بنبيكم، وأقررتم بما جاء به من عند الله، ووحدتم الله، ما قاتلناكم، بل كنا نسالمكم ونواليكم ونقاتل معكم عدوكم". فلما فرغ معاذ من خطابه قالوا له: ما نرى بيننا وبينك إلا متباعدا، وقد بقيت خصلة نحن نعرضها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم، نعطيكم البلقاء وما والى أرضكم من سواد الأردن، وتنحوا عن بقية أرضنا وعن مدائننا، ونكتب عليكم كتابًا نسمي فيه خياركم وصلحاءكم، ونأخذ عهودكم ومواثيقكم على ألا تطلبوا من أرضنا غير ما صالحناكم عليه، وعليكم بأهل فارس فقاتلوهم، ونحن معكم نعينكم عليهم حتى تقتلوهم وتظهروا عليهم. فقال معاذ: هذا الذي عرضتم علينا وتعطوناه كله في أيدينا ولو أعطيتمونا جميع ما في أيديكم مما لم نظهر عليه، ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاثة التي وصفت لكم ما فعلنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فغضبوا عند ذلك وقالوا: نتقرب إليك وتتباعد عنا؟ اذهب إلى أصحابك فوالله إنا لنرجو أن نفرقكم في الجبال غدًا، فقال معاذ: أما الجبال فلا، ولكن والله لتقتلنا عن آخرنا، أو لنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون" وانصرف معاذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 119- بين أبي عبيدة ورسول الروم : وانصرف معاذ إلى أبي عبيدة فأخبره بما قالوا، ثم أرسل الروم رسولًا من قبلهم إلى أبي عبيدة، فقال له: أنا أعرض عليكم أمرًا لكم فيه حظ إن قبلتموه: نحن نعطيكم دينارين دينارين وثوبًا ثوبا. ونعطيك أنت ألف دينار، ونعطي الأمير الذي فوقك –يعنون عمر- ألفي دينار، وتنصرفون عنا، وإن شئتم أعطيناكم أرض البلقاء ما والى أرضكم من سواد الأردن، وخرجتم من مدائننا وأرضنا وبلادنا، وكتبنا فيما بيننا وبينكم كتابًا يستوثق فيه بعضنا من بعض بالأيمان المغلظة ليقومن به وليفين بما عاهد الله عليه. فحمد الله أبو عبيدة وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إن الله بعث فينا رسولًا نبيا، وأنزل عليه كتابًا حكيمًا، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة ربهم رحمة منه للعالمين، وقال لهم: إن الله إله واحد، عزيز حكيم، علي مجيد، وهو خالق كل شيء وليس كمثله شيء، وأمرهم أن يوحدوا الله الذي لا إله إلا هو، ولا يتخذوا له صاحبة ولا ولدًا، ولا يتخذوا معه آلهة أخرى، وأن كل شيء يعبده الناس دونه فهو خلقه، وأمرنا صلى الله عليه وسلم فقال: إذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، وبالإقرار بما جاء من عند الله عز وجل، فمن آمن وصدق فهو أخوكم في دينكم، له ما لكم، وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية حتى يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فاقتلوهم وقاتلوهم فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله، وهو في جنات النعيم، وقتيل عدوكم في النار". فقال: قبلتم ما سمعتم مني فهو خير لكم، وإن أبيتم ذلك فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين". فقال الرومي: قد أبيتم إلا هذا؟ فقال له أبو عبيدة: نعم. فقال له الرومي: أما والله على ذلك، إني لا نراكم تتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم. "فتوح الشام ص 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 120- بين باهان وخالد بن الوليد : وبعث باهان أمير الروم إلى خالد بن الوليد أن القني، فأقبل إليه خالد، فقال باهان: إن شئت فتكلم، وإن شئت بدأتك فتكلمت، فقال له خالد: فتكلم، فقال باهان: "الحمد لله الذي جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك، وأمتنا خير الأمم، فلما بلغ هذا المكان، قال خالد للترجمان، وقطع على صاحب الروم منطقه ثم قال: "الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الأنبياء، وجعل الأمير الذي وليناه أمورنا رجلًا كبعضنا، فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا، ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلًا، إلا أن يكون أتقى منه عند الله وأبر، والحمد لله الذي جعل أمتنا تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتقر بالذنب وتستغفر الله منه، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا" قل الآن ما بدا لك. فاصفر وجه باهان ومكث قليلًا، ثم قال: "الحمد لله الذي أبلانا فأحسن البلاء عندنا، وأغنانا من الفقر، ونصرنا على الأمم، وأعزنا فلا نذل، ومنعنا من الضيم، فلا يباح حريمنا، ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولامرحين ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 باغين على الناس، وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم، ونعظم قدرهم، ونفضل عليهم، ونفي لهم بالعهد، وخيرناهم بلادنا، ينزلون منها حين شاءوا، فينزلون آمنين، ويرحلون آمنين، وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكر لنا ذلك الذي أتينا إلى إخوانهم، وما اصطنعنا عندهم، فلم يرعنا منكم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال، تقاتلوننا على حصوننا، وتريدون أن تغلبونا على بلادنا، وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددًا، وأعظم مكيدة، وأوفى جندًا، ثم رددناهم عنها، فلم يرجعوا عنَّا إلا وهم بين قتيل وأسير، وأراد ذلك منا فارس، فقد بلغكم كيف صنع الله عز وجل بهم، وأراد ذلك منا الترك، فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس، وأرادنا غيركم من أهل المشرق والمغرب من ذوي المنعة والعز والجنود العظيمة، فكلهم أظفرنا الله بهم، وصنع لنا عليهم، ولم تكن أمة من الأمم بأرق عندنا منكم شأنًا، ولا أصغر أخطارًا1 إنما جُلكم رعاء الشاء والإبل، وأهل الصخر والحجر والبؤس والشقاء، فأنتم تطمعون أن نجلى لكم عن بلادنا؟ بئس ما طمعتم فيه منا، وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا –ونحن يتقي كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد، مع كثرتنا وشدة شوكتنا- إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر، وعثتم في بلادنا وأفسدتم كل الفساد، وقد ركبتم مراكبنا، وليست كمراكبكم، ولبستم ثيابنا وليست كثيابكم، وثياب الروم البيض كأنها صفائح الفضة، وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم، وقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا، فهو في أيديكم، فنحن نسلمه لكم، فاخرجوا به، وانصرفوا عن بلادنا، فإن أبت أنفسكم إلا أن تحرصوا وتشرهوا، وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما يقوى به الضعيف منكم، ويرى الغائب أن قد   1 أقدارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 رجع إلى أهله بخير، فعلنا، ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار، ونأمر لك بمثلها، ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار، ونأمر لجميع أصحابك بمائة دينار مائة دينار، على أن توثقوا لنا بالأيمان المغلظة ألا تعودوا إلى بلادنا" ثم سكت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 212- جواب خالد : فقال خالد رحمه الله: الحمد لله الذي لا إله إلا هو، فلما فسر له الترجمان قوله: الحمد لله الذي لا إله إلا هو رفع يده إلى السماء، ثم قال لخالد: نعم ما قلت، ثم قال خالد: وأشهد أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فسر له الترجمان قال باهان: الله أعلم، ما أدري، لعله كما تقول، فأخبر خالد الترجمان. ثم قال خالد رحمه الله: "أما بعد: فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظهور على الأعداء، والتمكن في البلاد، فنحن به عارفون، وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا، فقد عرفناه، وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم، وإصلاحكم كان إليهم وإحسانكم إليهم، كان ذلك زيادة في ملككم وعزا لكم، ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم دخلوا معكم في دينكم فهم يقاتلوننا معكم؟. وأما ما ذكرتنا به من رعي الإبل والغنم، فما أقل من رأيت واحدًا منا يكرهه، وما لم يكن يكرهه منا فضل على من يفعله، وأما قولكم: إنا أهل الصخر والحجر والبؤس والشقاء، فحالنا والله كما وصفته، ما ننتفي من ذلك ولا نتبرأ منه، وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت، وسأقص عليك قصتنا، وأعرض عليك أمرنا، وأدعوك إلى حظك إن قبلت، ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم، أنزلنا الله –وله الحمد- منزلًا من الأرض. ليست به أنهار جارية، ولا يكون به من الزرع إلا القليل، وكل أرضنا المهامه1 والقفار، فكنا أهل حجر ومدر2 وشاء وبعير، وعيش شديد، وبلاء   1 جمع مهمه: القفر. 2 المدر: قطع الطين اليابس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 دائم لازم، نقطع أرحامنا ونقتل خشية الإملاق أولادنا، ويأكل قوينا ضعيفنا، وكثيرنا قليلنا، ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة1، نعبد من دون الله أربابًا وأصنامًا، ننحتها بأيدينا من الحجارة التي نختارها على أعيننا، وهي لا تضر ولا تنفع، ونحن عليها مكبون، فبينما نحن كذلك على شفا2 حفرة من النار، من مات منا مات مشركًا، وصار إلى النار، ومن بقي منا بقي كافرًا مشركًا بربه، قاطعًا لرحمه، إذ بعث الله فينا رسولًا من صميمنا وشرفائنا وخيارنا وكرمائنا وأفضلنا، دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع الأنداد التي يعبدها المشركون دونه، وقال لنا لا تتخذوا من دون الله ربكم إلهًا ولا وليًّا ولا نصيرًا، ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدًا، ولا تعبدوا من دونه نارًا ولا حجرًا، ولا شمسًا ولا قمرًا، واكتفوا به ربا وإلها من كل شيء دونه، وكونوا أولياءه، وإليه فادعوا، وإليه فارغبوا، وقال لنا: قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وكل من زعم أن لله ولدًا وأنه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويدخلوا في الإسلام، فإن فعلوا حَرُمَت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فإن هم أبوا أن يدخلوا في دينكم، وأقاموا على دينهم، فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن هم فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا فقاتلوهم؛ فإنه من قتل منكم كان شهيدًا حيًّا عند الله مرزوقًا، وأدخله الله الجنة، ومن قتل من عدوكم قتل كافرًا، وصار إلى النار مخلدًا فيها أبدًا، ثم قال خالد: وهذا والله الذي لا إله إلا هو أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، فعلمنا، وأمرنا به أن ندعو الناس إليه ونحن ندعوكم إلى ما دعانا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، وإلى ما أمرنا به أن ندعو إليه الناس، فندعوكم إلى الإسلام، وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإلى أن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتقروا بما جاء من عند الله   1 هي الأشهر الحرم: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. 2 حرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عز وجل، فإن فعلتم فأنتم إخواننا في الإسلام، لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فإنا نفرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم، وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة، فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله، فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين" ثم سكت خالد. فقال باهان: أما أن ندخل في دينكم فما أبعد من ترى من الناس من أن يترك دينه ويدخل في دينكم، وأما أن نؤدي الجزية –فتنفس الصعداء1 وثقلت عليه وعظمت عنده- فقال: سيموت من ترى جميعًا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس، وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها، وأما قولك: فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا، فلعمري ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله، وأما قولك: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فصدقت، والله ما كانت هذه الأرض التي نقاتلكم عليها وتقاتلوننا فيها، إلا لأمة من الأمم كانوا قبلنا فيها، فقاتلناهم عليها، فأخرجناهم منها، وقد كانت قبل ذلك لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عنها، فابرزوا على اسم الله، فإنا خارجون إليكم". "فتوح الشام: 179".   1 التنفس الطويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 122- خطبة عمر و بن العاص : ولما نقض أهل الأردن العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، قام عمرو بن العاص، وجمع إليه من كان قبله من المسلمين: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أما بعد فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن قدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 على رجل من أهل إيليا، أو كان عنده لم يأتنا به، ولم يرفعه إلينا، ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد، حتى يسير معي إلى أهل إيليا، فإني أريد المسير إليهم، والنزول بساحتهم، ثم لا أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم، وأسبي ذراريهم، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون". "فتوح الشام ص146". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 123- خطبة عمر: ولما حصر أبو عبيدة أهل إيليا ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحربه سألوه الصلح على أن يكون عمر هو الذي يعطيهم العهد، ويكتب لهم الأمان، فأقبل عمر إلى الشام حتى انتهى إلى الجابية، فقام في الناس، فقال: "الحمد لله الحميد المستحمد المجيد، الدفاع الغفور الودود، الذي من أراد أن يهديه من عباده اهتدى، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. أما بعد؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خيار أمتي الذين يلونكم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها، وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها، فمن أراد بحبوحة1 الجنة فليلزم الجماعة، ولا يبالي الله شذوذ من شذ، ألا لا يخلون رجل منكم بامرأة إلا أن يكون لها محرمًا؛ فإن ثالثهما الشيطان". "فتوح الشام ص 226".   1 وسطها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 124- خطبة عمر: ولما كان عمر رضي الله عنه بالشام، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 "يأهل الإسلام، إن الله قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وورثكم البلاد، ومكن لكم في الأرض، فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصي، فإن العمل بالمعاصي كفر للنعم، وقلما كفر قوم بما أنعم الله عليهم، ثم لم يفزعوا إلى التوبة، إلا سلبوا عزهم، وسلط عليهم عدوهم" ثم نزل. "فتوح الشام ص231". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 125- خطبة لعمر : وقفل عمر من الشام إلى المدينة في ذي الحجة سنة 17هـ، وخطب حين أراد القفول فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ألا إني قد وليت عليكم، وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، قسطنا1 بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج2، وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيئكم، وما قاتلتم عليه من شأمكم، وسمينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بإعطائكم أرزاقكم ومعاونكم، فمن علم علم شيء ينبغي العمل به، فبلغنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله". "تاريخ الطبري 4-204".   1 فرقنا. 2 الثغور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 126- خطبة عمر: ولما رجع عمر رضي الله عنه إلى المدينة، استقبله الناس يهنئون بالنصر والفتح، فجاء حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين عند المنبر، ثم صعد المنبر فاجتمع الناس إليه، فقام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أيها الناس، إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن يحمدوه ويشكروه، وقد أعز دعوتها، وجمع كلمتها، وأظهر فلجها1، ونصرها على الأعداء، وشرفها ومكن لها في الأرض وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم، فأحدثوا لله شكرًا يزدكم، واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين" ثم نزل. "فتوح الشام ص 239".   1 الفلج: الفوز والظفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 127- وصية أبي عبيدة للمسلمين وقد أصابه طاعون عمواس: وكان طاعون عمواس قد عم أهل الشام "سنة 18هـ" ومات فيه بشر كثير، ومات فيه أبو عبيدة رحمه الله. ولما طعن أبو عبيدة وهو بالأردن، دعا المسلمين، فلما دخلوا عليه قال: "إني أوصيكم بوصية قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم، وبعد ما تهلكون، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصوموا، وتصدقوا، وحجوا، واعتمروا، وتواصلوا، وتحابوا، وأصدقوا أمراءكم ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأً لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، وإن الله قد كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكرمهم منهم أطوعهم لربه، وأعلمهم ليوم معاده" ثم قال: يا معاذ، صل بالناس، فصلى معاذ بالناس، ومات أبو عبيدة رحمه الله. "فتوح الشام ص: 240". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 128- خطبة معاذ بن جبل عند موت أبي عبيدة : فقام معاذ بن جبل في الناس فقال: "يأيها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة، فإن عبدًا أن يلقى الله عز وجل تائبًا من ذنبه، كان حقًّا على الله أن يغفر له ذنوبه، ومن كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مصارمًا1 مسلمًا فليلقه وليصالحه إذا لقيه وليصافحه، فإنه لا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه المسلم أكثر من ثلاثة أيام، والذنب في ذلك عند الله، وأنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت منكم عبدًا من عباد الله قط أقل غمرا2، ولا أبر صدرًا، ولا أبعد من الغائلة3، ولا أنصح للعامة، ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه، فترحموا عليه ثم احضروا الصلاة عليه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والله لا يلي عليكم بعده مثله أبدًا". فاجتمع الناس، وأخرج أبو عبيدة، وتقدم معاذ فصلى عليه، حتى إذا أتى به قبره، دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما وضعوه في قبره، وخرجوا منه، فسفوا عليه التراب، قال معاذ:   1 مقاطعا. 2 الغمر: الحقد. 3 الأمر النكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 129- رثاء معاذ بن جبل لأبي عبيدة : "رحمك الله يا أبا عبيدة، فوالله لاثنين عليك بما علمت، والله لا أقول باطلًا، أخاف أن يلحقني من الله مقت، كنت والله –ما علمت- من الذاكرين الله كثيرًا، ومن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما، وكنت والله -ما علمت- من المخبتين المتواضعين، ومن الذين يرحمون اليتيم والمسكين، ويبغضون الجفاة والمتكبرين". ولم يكن أحد من الناس كان أشد جرعًا على فقد أبي عبيدة وعلى موته ولا أطول حزنًا عليه من معاذ بن جبل. "فتوح الشام ص242". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 130- ابن العاص ومعاذ والطاعون : وصلى معاذ بالناس أيامًا، واشتد الطاعون، وكثر الموت في الناس، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أيها الناس، إن هذا الطاعون هو الرجز الذي عذب الله به بني إسرائيل مع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وأمر الناس بالفرار منه، فأخبر معاذ بقول عمرو، فقال: ما أراد إلى ما يقول ما لا علم له به، ثم جاء معاذ حتى صعد المنبر. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الوباء فقال: ليس كما قال عمرو، ولكنه رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، اللهم أعط معاذًا وآل معاذ منه النصيب الأوفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 131- وصية لمعاذ بن جبل : ثم صلى ورجع إلى منزله، فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن، فلم يلبث إلا قليلًا حتى مات يرحمه الله، وصلى عليه معاذ، ثم دفنه، فلما رجع معاذ إلى منزله طعن، فاشتد به وجعه، وجعل أصحابه يختلفون إليه، فإذا أتاه أصحابه أقبل عليهم، فقال لهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 "اعملوا وأنتم في مهلة وحياة، وفي بقية من آجالكم من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلًا، وأنفقوا مما عندكم لما بعدكم قبل أن تهلكوا وتدعوا ذلك كله ميراثًا لمن بعدكم، واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم وأعطيتم فأمضيتم، وما سوى ذلك فللوارثين". "فتوح الشام ص243". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 132- وصية لمعاذ بن جبل أيضًا: وأتاه رجل في مرضه فقال: يا معاذ علمني شيئًا ينفعني الله به قبل أن تفارقني، فلا أراك ولا تراني، ولا أجد منك خلفًا، ثم لعلي أن أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعني بعدك، فلا أجد فيهم مثلك، فقال معاذ: كلا إن صلحاء المسلمين –والحمد لله- كثير، ولن يضيع الله أهل هذا الدين، ثم قال له: "خذ عني ما آمرك، كن من الصائمين بالنهار، ومن المصلين في جوف الليل، ومن المستغفرين بالأسحار، ومن الذاكرين الله على كل حال كثيرًا، ولا تشرب الخمر، ولا تزنين، ولا تعق والديك، ولا تأكل مال اليتيم، ولا تفر من الزحف، ولا تأكل الربا، ولا تدع الصلاة المكتوبة، ولا تضيع الزكاة المفروضة، وصل رحمك، وكن بالمؤمنين رحيمًا، ولا تظلم مسلمًا، وحج واعتمر وجاهد، ثم أنا لك زعيم بالجنة". "فتوح الشام ص244". ومات رحمه الله، وقد استخلف عمرو بن العاص، فصلى عليه عمرو. فلما دفنه قال: "رحمك الله يا معاذ، فقد كنت –ما علمناك- من نصحاء المسلمين ومن خيارهم وأعلامهم، ثم كنت مؤدبًا للجاهل، شديدًا على الفاجر، رحيما بالمؤمنين، وايم الله لا يستخلف من بعدك مثلك". "فتوح الشام ص245". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ولما انتهى إلى عمر رضي الله عنه هلاك أبي عبيدة وهلاك معاذ فرق عماله على كور الشأم، فبعث عبد الله بن قرط على حمص ثم عزله، وولى عبادة بن الصامت الأنصاري، واستعمل على دمشق أبا الدرداء الأنصاري، وكتب إلى يزيد بن أبي سفيان أن يسير إلى قيسارية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 133- خطبة عبادة بن الصامت : فلما قدم عبادة على أهل حمص قام في الناس خطيبًا. فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أما بعد، ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك قادر، ألا وإنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره، ألا وإن للدنيا بنين وللآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة". "فتوح الشام ص248". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 134- خطبة شداد بن أوس : ثم قال لشداد بن أوس: قم يا شداد فعظ الناس، وكان شداد مفوهًا، قد أعطي لسانًا وحكمةً وفضلًا وبيانًا، فقام شداد، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس، فإنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه، ولا من الشر إلا أسبابه، وإن الله جمع الخير كله بحذافيره فجعله في الجنة، وجمع الشر بحذافيره، فجعله في النار، ألا وإن الجنة وعرة حزنة، ألا وإن النار سهلة لينة، ألا وإن الجنة حفت بالكره والصبر، ألا وإن النار حفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 بالهوى والشهوة، ألا فمن كشف حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة، ومن أشفى على الجنة كان من أهلها، ألا ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار، وكان من أهلها، فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق". "فتوح الشام ص249". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 135- خطبة أبي الدرداء : وقام أبو الدرداء في أهل دمشق خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أما بعد، يأهل دمشق اسمعوا مقالة أخ لكم ناصح، فما بالكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون؟ وقد كان من كان قبلكم جمعوا كثيرًا، وبنوا شديدًا، وأملوا بعيدًا، وماتوا قريبًا، فأصبحت أعمالهم بورًا، ومساكنهم قبورًا، وأملهم غرورًا، وإن عادًا وثمودًا كانوا قد ملئوا ما بين بصرى وعدن أموالًا وأولادًا ونعما، فمن يشتري مني ما تركوا بدرهمين؟ ". "فتوح الشام ص250". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 236- خطبة يزيد بن أبي سفيان : وسار يزيد بن أبي سفيان إلى قيسارية فقام في جنده فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أما بعد: فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق أتاني يحثني على المسير إلى قيسارية، وأن أدعوهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أهل الشام، فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا نزلت عليهم فلم أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم وأسبي ذراريهم، فسيروا -رحمكم الله- إليهم، فإني أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة في الدنيا والآخرة". "فتوح الشام ص251". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 137- وصية العباس بن عبد المطلب "المتوفى سنة 32هـ" لابنه عبد الله: قال عبد الله بن عباس: قال لي أبي: يا بني، إني أرى أمير المؤمنين -يعني عمر بن الخطاب- قد اختصك دون من ترى من المهاجرين والأنصار، وإني موصيك بخلال أربع: لا يجربن عليك كذبًا، ولا تغتابن عنده مسلمًا، ولا تفشين له سرًّا، ولا تطوِ عنه نصيحة، قال: فقلت: يا أبه، كل واحدة منها خير من ألف، فقال: كل واحدة منها خير من عشرة آلاف. "تهذيب الكامل 1: 15 والعقد الفريد 1: 11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 138- وصية عمر للخليفة من بعده : وأوصى عمر الخليفة من بعده، فقال: "أوصيك بتقوى الله لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرًا، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرًا، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيرًا، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل فيئهم، إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرًا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام أن تأخذ من حواشي أموال أغنيائهم، فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيرًا، أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تقاتل من ورائهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدَّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يد وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه، ومخافة مقته، أن يطلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس، وتخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورهم، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن ذلك بإذن الله سلامة لقلبك، وحط لوزرك، وخير في عاقبة أمرك، حتى تفضي من ذلك إلى من يعرف سريرتك، ويحول بينك وبين قلبك، وآمرك أن تشتد في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه، على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد رأفة حتى تنتهك منه، مثل ما انتهك من حرمة الله، واجعل الناس عندك سواء، لا تبالي على من وجب الحق، ثم لا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله، مما أفاء الله على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، وأنت إلى الآخرة جد قريب، فإن اقترفت لدنياك عدلاًَ وعفة عما بسط الله لك، اقترفت به إيماناً ورضواناً، وإن غلبك الهوى، اقترفت به سخط الله، وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة، وقد أوصيتك وحضضتك ونصحتك، فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالا عليه نفسي وولدي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك، أخذت به نصيباً وافراً، وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم يهمك، ولم تنزل معاظم الأمور عند الذي يرضى الله به عنك، يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً؛ لأن الأهواء مشتركة، ورأس كل خطيئة إبليس، وهو داعٍ إلى كل هلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك، فأوردهم النار، ولبئس الثمن أن يكون حظ أمرئ موالاة عدو الله الداعي إلى معاصيه، ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظا لنفسك، أنشدك الله لما رحمت على جماعة المسلمين، فأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 عليهم بالفيء، فتبغضهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها، فتفقرهم، ولا تجمرهم1 في البعوث، فتقطع نسلهم، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم. هذه وصيتي إياك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام. "شرح ابن أبي الحديد م3: 96 والبيان والتبيين 2: 22 وتاريخ الطبري 5: 13". وفي رواية الطبري: قال: "وأوصى الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصى الخليفة من بعدي بالعرب، فإنهم مادة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتهم حقها، فتوضع في فقرائهم، وأوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت؟ تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة".   1 جمر الجيش: حبسهم في أرض العدو ولم يقفلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 خطب يوم الشورى مدخل ... خطب يوم الشورى: بعد دفن عمر اجتمع أهل الشورى، وهم: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله -وكان طلحة غائبًا- فبدأ عبد الرحمن بن عوف بالكلام، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 139- خطبة عبد الرحمن بن عوف : "يا هؤلاء، إن عندي رأيًا، وإن لكم نظرًا، فاسمعوا تعلموا، وأجيبوا تفقهوا، فإن حابيًا1 خير من زاهق2، وإن جرعة من شروب3 بارد، أنفع من عذب موبٍ4، أنتم أئمة يهتدى بكم، وعلماء يصدر5 إليكم، فلا تفلوا المدى بالاختلاف بينكم، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم، فتوتروا6 ثأركم، وتؤلتوا7 أعمالكم، لكل أجل كتاب، ولكل بيت إمام، بأمره يقومون، وبنهيه يرعون8، قلدوا أمركم واحدًا منكم، تمشوا الهوينى، وتلحقوا الطلب، لولا فتنة عمياء، وضلالة حيراء، يقول أهلها ما يرون، وتحلهم الحبو كرى9، ما عدت نياتكم معرفتكم، ولا أعمالكم   1 الحابي من السهام: ما يزحف إلى الهدف. 2 السهم الزاهق: ما جاوز الهدف. 3 الشراب والشريب والشروب: ما يشرب. 4 أصله موبي، مسهل عن موبئ. 5 يرجع. 6 قال في اللسان: "قال الأزهري: هو من الوتر "الثأر" يقال: وترت فلانًا إذا أصبته بوتر، وأوترته أوجدته ذلك "أي أظفرته به، أوجدت فلانًا مطلوبه أي أظفرته به" قال: والثأر ههنا العدو؛ لأنه موضع الثأر، والمعنى لا توجدوا عدوكم الوتر في أنفسكم". 7 ألته حقه يألته وآلته: نقصه. 8 ورع يرع: كورث يرث من الورع، وهو التقوى. 9 رمل يضل فيه السالك، والداهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 نياتكم، احذروا نصيحة الهوى، ولسان الفرقة، فإن الحيلة في المنطق أبلغ من السيوف في الكلم، علقوا أمركم رحب الذراع فيما حل، مأمون الغيب فيما نزل، رضا منكم وكلكم رضًا، ومقترعًا1 منكم وكلكم منتهًى، لا تطيعوا مفسدا يتنصح2، ولا تخالفوا مرشدًا ينتصر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم": ثم تكلم عثمان بن عفان، فقال:   1 مختارًا. 2 تنصح: تشبه بالنصحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 140- خطبة عثمان بن عفان : "الحمد لله الذي اتخذ محمدًا نبيًا، وبعثه رسولًا، صدقه وعده، ووهب له نصره على كل من بعد نسبًا، أو قرب رحمًا صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين، فهو لنا نور، ونحن بأمره نقوم عند تفرق الأهواء، ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منا، ولا يدخل علينا غيرنا، إلا من سفه الحق، ونكل عن القصد، وأحرِ بها يابن عوف أن تترك، وأجدر بها أن تكون، إن خولف أمرك، وترك دعاؤك، فأنا أول مجيب لك، وداعٍ إليك، وكفيل بما أقول زعيم، وأستغفر الله لي ولكم". ثم تكلم الزبير بن العوام بعده فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 141- خطبة الزبير بن العوام : "أما بعد: فإن داعي الله لا يجهل، ومجيبه لا يخذل، عند تفرق الأهواء، ولي الأعناق، ولن يقصر عما قلت إلا غوي، ولن يترك ما دعوت إليه إلا شقي، لولا حدود الله فرضت، وفرائض الله حدت، تراح1 على أهلها، وتحيا لا تموت، لكان   1 أراح حقه عليه: رده عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدعوة، وإظهار السنة، لئلا نموت ميتة عمية1، ولا نعمى عمى الجاهلية، فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله لي ولكم".   1 العمية: الكبر أو الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 142- خطبة سعد بن أبي وقاص : ثم تكلم سعد بن أبي وقاص فقال: "الحمد لله بديئًا1 كان، وآخرًا يعود، أحمده لما نجاني من الضلالة، وبصرني من الغواية، فبهدى الله فاز من نجا، وبرحمته أفلح من زكا، وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أنارت الطرق، واستقامت السبل، وظهر كل حق، ومات كل باطل، إياكم أيها النفر وقول الزور، وأمنية أهل الغرور، فقد سلبت الأماني قومًا قبلكم، ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم، فاتخذهم الله عدوا، ولعنهم لعنًا كبيرًا، قال الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79] إني نكبت2 قرني، فأخذت سهمي الفالج3، وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي، فأنا به كفيل، وبما أعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يا ابن عوف بجهد النفس، وقصد النصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم".   1 البديء: الأول. 2 النكب: الطرح. والقرن: الجعبة. 3 الفائز الظافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 143- خطبة علي بن أبي طالب : ثم تكلم علي بن أبي طالب فقال: "الحمد الله الذي بعث محمدًا منا نبيًّا، وبعثه إلينا رسولًا، فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، ولو طال السرى، لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولًا لجادلنا عليه حتى نموت، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق، وصلة رحم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي، وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا المجمع، تنتضى1 فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعة لأهل الجهالة، ثم أنشأ يقول: فإن تك جاسم2 هلكت فإني ... بما فعلت بنو عبد بن ضخم مطيع في الهواجر كل عي ... بصير بالنوى من كل نجم "تاريخ الطبري 5: 38، والكامل لابن الأثير 3: 36".   1 تسل. 2 بنو جاسم حي قديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 خطب عثمان بن عفان رضي الله عنه : 144- خطبته حين بايعه أهل الشورى : روى الطبري قال: "لما بايع أهل الشورى عثمان خرج وهو أشدهم كآبة، فأتى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "إنكم في دار قُلْعَة1، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم، صُبِّحتم أو مُسِّيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها، ومتعوا بها طويلًا، ألم تلفظهم؟ أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلًا، والذي هو خير، فقال عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} وأقبل الناس يبايعونه". "تاريخ الطبري 5: 43".   1 أي انقلاع، ومنزلنا منزل قلعة "بتسكين اللام وضمها وفتحها" أي ليس بمستوطن، أو لا نملكه، أو لا ندري متى نتحول عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 145- خطبته بعد البيعة : وقال أيضًا: خطب عثمان الناس بعد ما بويع، فقال: "أما بعد، فإني قد حملت وقد قبلت، ألا وإني متبِّع، ولست بمبتدع، ألا وإن لكم علي بعد كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم، ألا وإن الدنيا خضرة قد شهيت إلى الناس، ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها". "تاريخ الطبري 5: 149". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 146- خطبة أخرى : وقال ابن قتيبة: لما ولي عثمان صعد المنبر، فجلس على ذروته، فرماه الناس بأبصارهم، فقال: "إن أول مركب صعب، وإن مع اليوم أيامًا، وما كنا خطباء، وإن نعش لكم تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله تعالى". "عيون الأخبار م2 ص235، والعقد الفريد 2: 133". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 147- خطبة لعثمان : وبعث عثمان بدء الفتنة إلى عمال الأمصار، فقدموا عليه، فقال: ويحكم، ما هذه الشكاية وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقًا عليكم، وما يعصب هذا إلا بي، ثم قال: أشيروا عليّ، فأشار عليه كلٌّ بما يراه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وقام عثمان، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: "كل ما أشرتم به علي قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه! إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه يغلق عليه، فيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سده شيء فرفق، فذاك الله ليفتحن، وليست لأحد على حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيرًا ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها". "تاريخ الطبري 5: 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 148- خطبة عثمان : ولما حدثت الأحداث بالمدينة خرج منها رجال إلى الأمصار، ثم رجعوا جميعًا إلى المدينة إلا من كان بالشأم، فأخبروا عثمان بخبرهم، فقام عثمان في الناس خطيبًا فقال: "يأهل المدينة، أنتم أصل الإسلام، وإنما يفسد الناس بفسادكم، ويصلحون بصلاحكم، والله والله والله لا يبلغني عن أحد منكم حدث أحدثه إلا سيرته، ألا فلا أعرفن أحدًا عرض دون أولئك بكلام ولا طلب، فإن من كان قبلكم كانت تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم أحد منهم بما عليه ولا له. وايم الله لآخذن العفو من أخلاقكم، ولأبذلنه لكم من خلقي، وقد دنت أمور، ولا أحب أن تحل بنا وبكم، وأنا على وجل وحذر، فاحذروا، واعتبروا". "تاريخ الطبري 5: 135". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 141- خطبته حين نقم عليه الناس : وخطب عثمان حين نقم عليه الناس ما نقموا فقال: "أما بعد: فإن لكل شيء آفة، وإن لكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة، عيابون ظنانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، طغام1 مثل النعام، يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم النازح2، لا يشربون إلا نغصا3، ولا يردون إلا عسكرًا، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب. لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم علي، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، ووقمكم وقمعكم4 وزجركم زجر النعام المخزمة5، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كنفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي. أما والله إني لأقرب ناصرًا، وأعز نفرًا، وأكثر عددًا، وأقمن –إن قلت هلمَّ- أن تجاب دعوتي من عمر. وقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به.   1 أوغاد الناس، الواحد والجمع فيه سواء، أو واحده كسحابة. 2 المورد النازح: الذي نزح ماؤه، أي غاض وقل أو بعد. 3 نغص البعير كفرح: لم يتم شربه. 4 وقم الدابة جذب عنانها، ووقمه قهره وأذله أو رده أقبح الرد وحزنه أشد الحزن وقمعه: ضربه بالمقمعة وقهره وأذله. 5 خزم البعير: جعل في جانب منخره الخزامة، والطير كلها مخزومة؛ لأن وترات أنوفها مخزومة، وكذا النعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ فو الله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه، فَضَل فَضْلٌ من مالي، فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد؟ إذن فلم كنت إمامًا؟ ". "تاريخ الطبري 5: 97 وإعجاز القرآن ص 118، وصبح الأعشى 1: 214 والبيان والتبيين 1: 200". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 150- خطبته التي نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التوبة : حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد أيها الناس: فوالله ما عاب من عاب منكم شيئًا أجهله، وما جئت شيئًا إلا وأنا أعرفه، ولكني منتني نفسي وكذبتني، وضل عني رشدي، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زل فليتب، ومن أخطأ فليتب، ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور، كان أبعد من الطريق" فأنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلت، وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم، فليروني رأيهم، فوالله لئن ردني الحق عبدًا لأستنن بسنة العبد، ولأذلن ذل العبد، ولأكونن كالمرقوق، إن ملك صبر، وإن عتق شكر، وما عن الله مذهب إلا إليه، فلا يعجزن عنكم خياركم أن يدنوا إلي، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي". "تاريخ الطبري 5: 111، والكامل لابن الأثير 3: 80". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 151- خطبته في الرد على الثوار : وقال يرد على الثوار: "الحمد لله، أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، أما بعد: فإنكم لم تعدلوا في المنطق، ولم تنصفوا في القضاء، أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصًا قمصنيه الله عز وجل، وأكرمني به، وخصني به على غيري، ولكني أتوب وأنزع، ولا أعود لشيء عابه المسلمون، فإني والله الفقير إلى الله، الخائف منه". قالوا: إن هذا لو كان أول حدث أحدثته ثم تبت منه، ولم تقم عليه، لكان علينا أن نقبل منك، وأن ننصرف عنك ... إلى آخر ما قالوا. فقال عثمان: "أما أن أتبرأ من الإمارة، فأن تصلبوني أحب إلي من أن أتبرأ من أمر الله عز وجل وخلافته، وأما قولكم تقاتلون من دوني، فإني لا آمر أحدًا بقتالكم، فمن قاتل دوني فإنما قاتل بغير أمري، ولعمري لو كنت أريد قتالكم، لقد كنت كتبت إلى الأجناد، فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق، فالله الله في أنفسكم، فأبقوا عليها، إن لم تبقوا عليّ، فإنكم مجتلبون بهذا الأمر إن قتلتموني دمًا" فانصرفوا عنه، وآذنوه بالحرب. "تاريخ الطبري 5: 121، والكامل لابن الأثير 3: 84". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 152- خطبته وقد اشتد عليه الحصار : ولما اشتد الحصار عليه أرسل إلى علي وطلحة والزبير، فحضروا، فأشرف عليهم، فقال: "يأيها الناس: اجلسوا، فجلسوا؛ المحارب والمسالم، فقال لهم: يأهل المدينة، أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم، ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون: إن الله لم يستجب لكم، وهنتم عليه، وأنتم أهل حقه؟ أم تقولون: هان على الله دينه، فلم يبالِ من ولى، والدين لم يتفرق أهله يومئذ؟ أم تقولون: لم يكن أخذ عن مشورة، إنما كان مكابرة، فوكل الله الأمة إذ عصته، ولم يشاوروا في الإمامة، أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري؟ أنشدكم بالله أتعلمون لي من سابقة خير، وقدم خير، قدمه الله لي يحق على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها؟ فمهلًا لا تقتلوني، فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إيمانه، أو قتل نفسًا بغير حق، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدًا". "تاريخ الكامل لابن الأثير 3: 84". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 153- آخر خطبة خطبها عثمان : "إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، فآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، اتقوا الله جل وعز، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فإن تقواه جنة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم، لا تصيروا أحزابًا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا". "تاريخ الطبري 5: 126، 149". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 154- خطبة الوليد بن عقبة : قال الطبري: لما أصاب الوليد بن عقبة حاجته من أرمينية "سنة 24هـ -وكان أهلها قد منعوا ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر- ودخل الموصل، فنزل الحديثة، أتاه كتاب من عثمان رضي الله عنه: "أما بعد فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليّ يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإذا أتاك كتابي هذا، فابعث رجلًا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه، في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف، من المكان الذي يأتيك فيه رسولي والسلام". فقام الوليد في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: أيها الناس فإن الله أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنًا، فرد عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادًا لم تكن فتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلي أمير الؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى الثمانية الآلاف تمدون إخوانكم من أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي". فانتدب الناس. "تاريخ الطبري 5: 46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 155- خطبة سعيد بن العاص حين قدم الكوفة واليًا عليها: عزل عثمان رضي الله عنه الوليد بن عقبة بن أبي معيط من إمارة الكوفة، وكان قد اتهم بشرب الخمر، وولى مكانه سعيد بن العاص سنة 30هـ، فلما قدم الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني لم أجد بدًا إذ أمرت أن ائتمر، ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها1 وعينيها، ووالله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تعييني2، وإني لرائد3 نفسي اليوم" ثم نزل. "تاريخ الطبري 5: 63".   1 الخطم: جمع خطام، وهو ما وضع في أنف البعير ليقتاد به، والمراد ظهورها ونشوبها. 2 أي تعجزني. 3 الرود: الطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 156- خطبة عبد الله بن الزبير حين قدم بفتح إفريقية : 1 قدم عبد الله بن الزبير على عثمان بن عفان بفتح إفريقية، فأخبره مشافهة، وقص عليه كيف كانت الوقعة، فأعجب عثمان ما سمع منه، فقال له: أتقوم بمثل هذا الكلام على الناس! فقال: يا أمير المؤمنين، إني أهيب لك مني لهم، فقام عثمان في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس: إن الله قد فتح عليكم إفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم خبرها إن شاء الله، وكان عبد الله بن الزبير إلى جانب المنبر، فقام خطيبًا –وكان أول من خطب إلى جانب المنبر- فقال: "الحمد لله الذي ألف بين قلوبنا، وجعلنا متحابين بعد البغضة، الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه، له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله، انتخب محمدًا صلى الله   1 فتحها عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة 26هـ، وأمده عثمان بجيش يرأسه عبد الله بن الزبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 عليه وسلم، فاختاره بعلمه، وأتمنه على وحيه، واختار له من الناس أعوانًا، قذف في قلوبهم تصديقه ومحبته، فآمنوا به وعزروه1 ووقروه، وجاهدوا في الله حق جهاده، فاستشهد2 الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي، لا تأخذهم في الله لومة لائم. أيها الناس: رحمكم الله إنا خرجنا للوجه الذي علمتم، فكنا مع والٍ حافظ، حفظ وصية أمير المؤمنين، كان يسير بنا الأبردين3، ويخفض4 بنا في الظهائر، ويتخذ الليل جملًا، يعجل الرحلة من المنزل الجدب، ويطيل البث في المنزل الخصب، فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربنا، حتى انتهينا إلى إفريقية، فنزلنا منها حيث يسمعون صهيل الخيل، ورغاء الإبل، وقعقعة السلاح، فأقمنا أيامًا نجم كراعنا5، ونصلح سلاحنا، ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخول فيه، فأبعدوا منه، فسألناهم الجزية عن صغار أو الصلح، فكانت هذه أبعد، فأقمنا عليهم ثلاث عشرة ليلة نتأناهم، وتختلف رسلنا إليهم، فلما يئس منهم قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر فضل الجهاد، وما لصاحبه إذا صبر واحتسب، ثم نهضنا إلى عدونا، وقاتلناهم أشد القتال، يومنا ذلك، وصبر فيه الفريقان فكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد الله فيهم رجالًا من المسلمين، فبتنا وباتوا، وللمسلمين دوي بالقرآن كدوي النحل، وبات المشركون في خمورهم وملاعبهم، فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس، فزحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره، وأنزل علينا نصره، ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، وفيئًا واسعًا، بلغ فيه الخمس خمسمائة ألف، فصفق6 عليها مروان بن الحكم، فتركت المسلمين قد   1 التعزير: التفخيم والعظيم والإعانة، وهو أيضًا ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب ضد. 2 استشهد "مبنيًّا للمجهول" قتل في سبيل الله. 3 الأبردان: الغداة والعشي. 4 خفض بالمكان: أقام، والظهائر: جمع ظهيرة. 5 الكراع: جماعة الخيل، وأجم الفرس: ترك ركوبه. 6 صفق الباب يصفقه وأصفقه أغلقه: أي أغلق عليها باب الخزائن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قرت أعينهم، وأغناهم النفل، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين، أبشره وإياكم بما فتح الله من البلاد، وأذل من الشرك، فاحمدوا الله عباد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه، من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين". ثم سكت فنهض إليه أبوه الزبير، فقبل بين عينيه وقال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يا بني ما زلت تنطق بلسان أبي بكر حتى صمت. "العقد الفريد 2: 149". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 157- خطبة عبد الله بن مسعود "المتوفى سنة 32هـ": أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرا كلمة التقوى، أكرم الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، خير الأمور أوساطها، وشر الأمور محدثاتها. ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، خير الغنى غنى النفس، وخير ما ألقي في القلب اليقين. الخمر جماع الآثام، النساء حبالة الشيطان، الشباب شعبة من الجنون، حسب الكفاية مفتاح المعجزة، شر الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرًا، ولا يذكر الله إلا هجرًا1، أعظم الخطايات اللسان الكذوب، سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، من يتأل3 على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له، مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفا الله عنه، الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، الأمور بعواقبها، ملاك العمل خواتيمه، أشرف الموت الشهادة، من يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره. "إعجاز القرآن 122، العقد الفريد 2: 156، البيان والتبيين 2: 27".   1 الهَجِر ككتف: الذي يمشي مثقلًا ضعيفًا: أي لا يعرف الله إلا وقت الشدة. 2 تألى: أقسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 158- أبو زبيد الطائي يصف الأسد : قال عثمان بن عفان رضي الله عنه يومًا لأبي زبيد: حرملة بن المنذر الطائي –وكان نصرانيًا- يا أخا تبع المسيح، أسمعنا بعض قولك، فقد أنبئت أنك تجيد، فأنشده قصيدة له في وصف الأسد، فقال عثمان: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت! والله إني لأحسبك جبانًا هرابًا، قال: كلا، يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظرًا، وشهدت منه مشهدًا، لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي، ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم، فقال له عثمان: وأنى كان ذلك؟ قال: "خرجت في صُيَّابَة1 أشراف من أبناء قبائل العرب، ذوي هيئة وشارة2 حسنة، ترمى بنا المهارى3 بأكسائها4، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشأم، فاخروَّط5 بنا السير في حمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه، وذبلت الشفاه، وشالت6 المياه، وأذكت الجوزاء المعزاء7، وذاب الصيهب8، وصر الجندب9 وأضاف العصفور الضب في وكره، وجاوره في جحره، قال قائل: أيها الركب، غوروا10 بنا في دوح هذا الوادي، وإذا واد قد بدا لنا كثير الدغل11، دائم الغلل12   1 الصيابة بالتشديد وتخفف: الخالص والصميم والخيار من الشيء. 2 الشارة: الهيئة واللباس والزينة، والجمال. 3 مهرة بن حيدان "بفتح الميم والحاء": حي تنسب إليه الإبل المهرية، وجمعها مهارى "بفتح الميم والراء" ومهار "منقوصًا" ومهاري. 4 الأكساء: جمع كسء "كقفل وعنق" وكسء كل شيء: مؤخره. 5 اخروط بهم الطريق: طال وامتد. 6 قلَّت. 7 أذكت: أشعلت، والمعزاء من المعز بالتحريك: وهو الصلابة، مكان أمعز وأرض معزاء، كناية عن اشتداد الحر. 8 الصيهب: الصخرة الصلبة والموضع الشديد، وكل موضع تحمى عليه الشمس حتى ينشوي اللحم عليه. 9 نوع من الجراد، وصر: صوت. 10 الغور والغئور: الدخول في الشيء. والدوح: جمع دوحة، وهي الشجرة العظيمة. 11 الدغل: الشجر الكثير الملتف، واشتباك النبت وكثرته. 12 الغلل: الماء الذي يجري بين الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أشجاره مغنة1، وأطياره مرنة2، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات3، فأصبنا من فضلات المزاود، وأتبعناها الماء البارد، فإنا لنصف حر يومنا ومماطلته، إذ صر أقصى الخيل أذنيه4، وفحص الأرض بيديه، فوالله ما لبث أن جال، ثم حمحم5 فبال، ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحدًا فواحدًا، فتضعضعت الخيل، وتكعكعت6 الإبل، وتقهقرت البغال، فمن نافر بشكاله7، وناهض بعقاله، فعلمنا أنا قد أتينا، وأنه السبع لا شك فيه، ففزع كل واحد منا إلى سيفه، فاستله من جربانه8، ثم وقفنا رزدقًا أرسالا9، وأقبل أبو الحارث من أجمته، يتظالع10 في مشيته، كأنه مجنوب أو في هجار11، لصدره نحيط12 ولبلاعمه غطيط13، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض14 كأنما يخبط هشيمًا، أو يطأ صريمًا15، وإذا هامة كالمجن16 وخد كالمسن، وعينان سجراوان17 كأنهما سراجان يتقدان،   1 أغن الذباب: صوت، ويقال: واد مغن، وهو الذي صار فيه صوت الذباب، ولا يكون الذباب إلا في واد مخصب معشب، والغنة "بالضم" صوت في الخيشوم، والأغن: الذي يتكلم من قبل خياشيمه، غن يغن بالفتح فهو أغن، ومنه قالوا واد أغن: أي كثير العشب؛ لأنه إذا كان كذلك ألفه الذباب وفي أصواتها غنة، وروضة غناء كذلك، أو تمر فيها الرياح غير صافية الصوت لكثافة عشبها. 2 رنت وأرنت: صاحت. 3 الكنهبل: شجر عظام، والمزاود: جمع مزود كمنبر، وهو وعاء الزاد. 4 صر الحمار بأذنه وصرها وأصر بها: سواها ونصبها للاستماع. 5 الحمحمة والتحمحم: صياح الفرس حين يقصر في الصهيل ويستعين بنفسه، وصوته إذا طلب العلف. 6 خافت وفزعت، كعكعته فتكعكع: جبنته وخوفته. 7 الشكال: الحبل الذي تشد به قوائم الدابة. 8 الجربان: غمد السيف. 9 الرزدق: الصف من الناس والأرسال جمع رسل كسبب، وهو القطيع من كل شيء. 10 من ظلع كمنع: إذا غمز في مشيه. 11 جنبه: قاده إلى جنبه، فهو جنيب ومجنوب ومجنب والهجار: حبل يشد في رسغ رجل البعير ثم يشد إلى حقوه، وإن كان مرحولًا شد إلى الحقب. 12 النحيط: الزفير، والناحط: من يسعل شديدًا. 13 غط البعير غطيطًا: هدر، والنائم صوت وكذا المذبوح والمخنوق. 14 نقيض الأصابع والأضلاع والمفاصل: أصواتها. 15 ثمر صريم: أي مقطوع. 16 المجن: الترس. 17 عين سجراء: خالطت بياضها حمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقصرة ربلة1، ولهزمة رهلة2، وكتد مغبط3 وزور مفرط4 وساعد مجدول، وعضد مفتول، وكف شثنة البراثن5 إلى مخالب كالمحاجن6، فضرب بيديه فأرهج7 وكشر8 فأفرج عن أنياب كالمعاول، مصقولة، غير مفلولة، وفم أشد9 كالغار الأخوق10، ثم تمطى فأسرع بيديه، وحفز11 وركيه برجليه، حتى صار ظله مثليه، ثم أقعى12 فاقشعر، ثم مثل فاكفهر13، ثم تجهم فازبأر14 فلا وذو15 بيته في السماء، ما اتقيناه إلا بأخ لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة16، فوقصه17 ثم نقضه نقضة، فقضقض18 متنيه، فجعل يلغ في دمه، فذمرت19 أصحابي، فبعد لأيٍ20 ما استقدموا، فهجهجنا21 به فكر مقشعر الزبرة 22،   1 القصرة: أصل العنق، والربالة بالفتح: كثرة اللحم، وهي ربلة ومتربلة. 2 اللهزمتان ناتئان تحت الأذنين، والجمع لهازم، ورهل لحمه: كفرح انتفخ وورم من غير داء. 3 الكتد: مجتمع الكتفين، أو الكاهل، أو ما بين الكاهل إلى الظهر، وأغبط النبات: غطى الأرض، وكثف وتدانى، وأرض مغبطة بفتح الباء، أي وكاهل مغطى بالشعر. 4 من أفرطه: إذا ملأه حتى أسال الماء فهو مفرط. 5 شثنة: أي غليظة خشنة، شثنت كفه: كفرح وكرم، والبراثن: جمع برثن كبرقع، وهو مخلب الأسد. 6 المحاجن: جمع محجن كمنبر ومكنسة: العصا المعوجة وكل معطوف معوج. 7 أرهج: أثار الغبار، والرهج "كشمس وسبب" الغبار. 8 كشر عن أسنانه: أبدى. 9 من الشدق "كسبب" وهو سعة الشدق. 10 من الخوق "كسبب أيضًا" وهو السعة ومنه مفازة خوقاء. 11 حفزه: دفعه. 12 أقعى: جلس على استه مفترشًا رجله ناصبًا يديه. 13 مثل: قام منتصبًا، والمكفهر من الوجوه: الضارب لونه إلى الغبرة من غلظ، والمتعبس. 14 تجهمه وجهمه "كمنع وسمع" استقبله بوجه كريه، وازبأر: تنفش. 15 ذو: بمعنى الذي في لغة طيئ: فحسبي من ذو عندهم ما كفانيا 16 الجزارة: بالضم اليدان والرجلان والعنق. 17 وقص عنقه: كسرها. 18 من نقض البناء: أي هدمه، وقضقض: مزق. 19 الذمر: الملامة، والحض والتهدد. 20 اللأي: الإبطاء والاحتباس. 21 هجهج بالأسد: صاح. 22 الزبرة "كفرصة" هي الشعر المجتمع بين كتفي الأسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 كأن به شيهما1 حوليًّا، فاختلج2 رجلًا أعجر ذا حوايا، فنقضه نقضة تزايلت منها مفاصله، ثم همهم فقرقر3، ثم زفر فبربر4، ثم زأر فجرجر5، ثم لحظ، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وأطت6 الأضلاع، وارتجت الأسماع، وشخصت7 العيون، وتحققت الظنون، وانخزلت8 المتون، ولحقت الظهور بالبطون، ثم ساءت الظنون، فقال له عثمان: اسكت قطع الله لسانك! فقد أرعبت قلوب المسلمين". "الأغاني 11: 23 والمحاسن والأضداد ص112".   1 الشيهم: ما عظم شوكه من ذكران القنافذ، والحولى: ما أتى عليه حول. 2 اختلج: جذب وانتزع، والأعجر: السمين، عجر: كفرح غلظ وسمن وضخم بطنه، والحوايا جمع حاوية، وهي ما تحوي من الأمعاء أي استدار، والمعنى أنه عظيم البطن. 3 الهمهمة: تردد الزئير في الصدر، وكل صوت معه بحح، والقرقرة: هدير البعير. 4 البربرة: الجلبة والصياح. 5 الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته. 6 الأطيط: صوت الرحل والإبل إذا أنَّت تعبا أو حنينا، وصوت الظهر، والجوف من الجوع. 7 شخص بصره كمنع: فتح عينيه وجعل لا يطرف. 8 الانخزال والتخزل: مشية في تثاقل. ومتنا الظهر: مكتنفا الصلب عن يمينه وشماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 خلافة الإمام علي كرم الله وجهه : 159- وصية علي لقيس بن سعد : ولما قتل عثمان رضي الله عنه وولي علي بن أبي طالب الأمر، دعا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وولاه مصر سنة 36هـ. وقال له: "سر إلى مصر فقد وليتكها، واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك، ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوك، وأعز لوليك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن، واشتد على المريب، وارفق بالعامة والخاصة فإن الرفق يمن". "تاريخ الطبري 5: 227". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 160- خطبة لقيس بن سعد : ولما دخل قيس مصر قام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال: "الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل، وكبت الظالمين، أيها الناس إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد محمد نبينا صلى الله عليه وسلم، فقوموا أيها الناس، فبايعوا على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم". فقام الناس فبايعوا. "تاريخ الطبري 5: 228". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فتنة أصحاب الجمل مدخل ... فتنة أصحاب الجمل: ولما قدمت السيدة عائشة رضي الله عنها البصرة، للطلب بدم عثمان، خرج إليها من أهلها من أراد أن يكون معها، واجتمع القوم بالمربد، وجعلوا يثوبون، حتى غص بالناس، فتكلم طلحة، فأنصتوا له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 161- خطبة طلحة : حمد الله وأثنى عليه، وذكر عثمان رضي الله عنه وفضله، والبلد وما استحل منه، وعظم ما أتى إليه، ودعا إلى الطلب بدمه وقال: "إن في ذلك إعزاز دين الله عز وجل وسلطانه، وأما الطلب بدم الخليفة المظلوم، فإنه حد من حدود الله، وإنكم إن فعلتم أصبتم، وعاد أمركم إليكم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان، ولم يكن لكم نظام". وتكلم الزبير بمثل ذلك، ثم تكلمت السيدة عائشة وكانت جهورية الصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 162- خطبة السيدة عائشة بالمربد : حمدت الله عز وجل، وأثنت عليه وقالت: "كان الناس يتجنون1 على عثمان رضي الله عنه، ويزرون2 على عماله، ويأتوننا بالمدينة، فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، فننظر في ذلك فنجده بريًّا، تقيًّا وفيًّا،   1 تجنى عليه: ادعى ذنبًا لم يفعله. 2 زرى عليه: عابه كأزرى لكنه قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ونجدهم فجرة غدرة كذبة، يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا على المكاثرة كاثروه، واقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام، والمال الحرام، والبلد الحرام، لا ترة1 ولا عذر، ألا إن ما ينبغي، لا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان رضي الله عنه، وإقامة كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية". "تاريخ الطبري 5: 175، والكامل لابن الأثير 3: 105".   1عذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 163- خطبة لعلي : وخطب علي لما سار الزبير وطلحة من مكة ومعهما عائشة يريدون البصرة، فقال: "أيها الناس: إن عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها، والله لو ظفروا بما أرادوا –ولن ينالوا ذلك أبدًا- ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد، والله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة، إلا في معصية الله وسخطه، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة، إي والله ليقتلن ثلثهم، وليهربن ثلثهم، وليتوبن ثلثهم، وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب، وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان، ورب عالم قتله جهله، ومعه علمه لا ينفعه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية، أين المحتسبون؟ أين المؤمنون؟ ما لي ولقريش! أما والله لقد قتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أننا أدخلناها في حيزنا، والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته، فقل لقريش فلتضج ضجيجها" ثم نزل. "ابن أبي الحديد م 1: ص 78". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 164- خطبة لعلي: ولما رجعت رسل علي من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه بالحرب قام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال: "أيها الناس: إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا، ووبختهم بنكثهم، وعرفتهم بغيهم فلم يستحيوا، وقد بعثوا إلي أن ابرز للطعان، واصبر للجلاد، وإنما تمنيك نفسك أماني الباطل، وتعدك الغرور، ألا هبلتهم1 الهبول، لقد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهب بالضرب، ولقد أنصف القارة2 من راماها، فليرعدوا وليبرقوا، فقد رأوني قديمًا، وعرفوا نكايتي، فكيف رأوني؟ أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين، وفرقت جماعتهم، وبذلك القلب ألقى عدوي اليوم، وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد، وعلى يقين من أمري، وفي غير شبهة من ديني. أيها الناس: إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص، من لم يقتل مات، إن أفضل الموت القتل، والذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش. اللهم إن طلحة نكث بيعتي، وألب على عثمان حتى قتله، ثم عضهني3 به ورماني، اللهم فلا تمهله. اللهم إن الزبير قطع رحمي، ونكث بيعتي، وظاهر علي عدوي، فاكفنيه اليوم بما شئت" ثم نزل. "ابن أبي الحديد م 1: 101".   1 هبلته أمه: ثكلته. 2 القارة: قبيلة، وهم قوم رماة. 3 عضهه: بهته، وقال فيه ما لم يكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 165- خطبة لعلي: حمد الله وصلى على رسوله ثم قال: "أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة لغيرنا، وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل، فبكت الأعين منا لذلك، وخشنت الصدور، وجزعت النفوس. وايم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه، فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرًا، ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي، فبايعتموني على شين مني لأمركم، وفراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم، وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع –تعلمون ذلك- وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة، ليفرقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم، اللهم فخذهما بما عملا أخذة واحدة رابية، ولا تنعش لهما صرعة، ولا تقل لهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا1، فإنهما يطلبان حقًّا تركاه، ودمًا سفكاه، اللهم إني أقتضيك وعدك، فإنك قلت وقولك الحق: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} اللهم فأنجز لي موعودك، ولا تكلني إلى نفسي، إنك على كل شيء قدير". "ابن أبي الحديد م 1: 101".   1 الفواق بالضم وبفتح: ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 166- خطبة عدي بن حاتم، يستنفر قومه لنصرة الإمام علي: ولما شخص الإمام علي كرم الله وجهه من المدينة إلى البصرة وقد علم بمسير طلحة والزبير وعائشة إليها، قام عدي بن حاتم إليه فقال: يا أمير المؤمنين لو تقدمت إلى قومي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أخبرهم بمسيرك، وأستنفرهم، فإن لك من طيئ مثل الذي معك، فقال علي: نعم فافعل، فتقدم عدي إلى قومه، فاجتمعت إليه رؤساء طيئ، فقال لهم: "يا معشر طيئ: إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرك، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردة، وعلي قادم عليكم، وقد ضمنت له مثل عدة من معه منكم، فخفوا1 معه، وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا، فقاتلوا في الإسلام على الآخرة، فإن أردتم الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة، وقد ضمنت عنكم الوفاء، وباهيت بكم الناس، فأجيبوا قولي، فإنكم أعز العرب دارًا، لكم فضل معاشكم وخيلكم، فاجعلوا فضل المعاش للعيال2، وفضول الخيل للجهاد، وقد أظلكم علي والناس معه من المهاجرين والبدريين3 والأنصار، فكونوا أكثرهم عددًا، فإن هذا سبيل للحي فيه الغنى والسرور، وللقتيل فيه الحياة والرزق". فصاحت طيئ: نعم نعم! حتى كاد أن يصم من صياحهم. "الإمامة والسياسة 1: 45".   1 أي ارتحلوا مسرعين. 2 جمع عيل "كجيد" وهو من يجب الإنفاق عليه. 3 أي الذين حضروا وقعة بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 167- خطبة زفر بن زيد يستنفر قومه لنصرة علي أيضًا: وقام إلى علي زفر بن زيد الأسدي -وكان من سادة بني أسد- فقال: يا أمير المؤمنين، إن طيئًا إخواننا قد أجابوا عديًّا، ولي في قومي طاعة، فأذن لي فآتيهم، قال: نعم، فأتاهم فجمعهم، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 "يا بني أسد: إن عدي بن حاتم ضمن لعلي قومه، فأجابوه، وقضوا عنه ذمامه1، فلم يعتل الغني بالغنى، ولا الفقير بالفقر، وواسى بعضهم بعضًا حتى كأنهم المهاجرون في الهجرة، والأنصار في الأثرة2، وهم جيرانكم في الديار، وخلطاؤكم3 في الأموال، فأنشدكم الله لا يقول الناس غدًا: نصرت طيئ، وخذلت بنو أسد، وإن الجار يقاس بالجار، كالنعل بالنعل، فإن خفتم، فتوسعوا في بلادهم، وانضموا إلى جبلهم، وهذه دعوة لها ثواب من الله في الدنيا والآخرة". "الإمامة والسياسة 1: 46".   1 العهد والحرمة. 2 أي يؤثر كل منهم أخاه على نفسه، ويفضله كما فعل الأنصار بالمهاجرين {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . 3 الخلطاء: جمع خليط، وهو الشريك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 168- خطبة علي بالربذة : روى الطبري قال: لما أتى عليًّا الخبر –وهو بالمدينة- بأمر عائشة وطلحة والزبير أنهم قد توجهوا نحو العراق، خرج يبادر وهو يرجو أن يدركهم ويردهم، فلما انتهى إلى الربذة1 أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام بالربذة أيامًا، وبقي بها يتهيأ، وأرسل إلى المدينة، فلحقه ما أراد من دابة وسلاح، وقام في الناس فخطبهم وقال: "إن الله عز وجل أعزنا بالإسلام، ورفعنا به، وجعلنا به إخوانًا بعد ذلة وقلة، وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم، والحق فيهم، والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان، لينزغ بين هذه الأمة، ألا إن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن.   1 قرب المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ثم عاد ثانية فقال: إنه لا بد مما هو كائن أن يكون. ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي، فقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم واهدوا بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، واتبعوا سنته، واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله عز وجل ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، وبالقرآن حكمًا وإمامًا". "تاريخ الطبري 5: 185". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 170- خطبة الحسن بن علي : ولما دخل الحسن وعمار الكوفة اجتمع إليهما الناس، فقام الحسن، فاستنفر الناس، فحمد الله، وصلى على رسوله، ثم قال: "أيها الناس إنا جئنا ندعوكم إلى الله وإلى كتابه وسنة رسوله، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين وأعدل من تعدلون، وأفضل من تفضلون، وأوفى من تبايعون، من لم يعبه القرآن، ولم تجهله السنة، ولم تقعد به السابقة، إلى من قربه الله تعالى ورسوله قرابتين قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى الله ورسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصلى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدقه وهم يكذبون، إلى من لم ترد له ولا تكافأ له سابقة، وهو يسألكم النصر، ويدعوكم إلى الحق، ويأمركم بالمسير إليه لتوازروه وتنصروه على قوم نكثوا بيعته، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه، ومثلوا بعماله، وانتهبوا بيت ماله، فاشخصوا إليه رحمكم الله، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واحضروا بما يحضر به الصالحون". "شرح ابن أبي الحديد م 3: 292". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 171- خطبة أخرى للحسن : "الحمد لله العزيز الجبار، الواحد القهار، الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، على ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده وسوله، امتن علينا بنبوته، واختصه برسالته، وأنزل عليه وحيه، واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الإنس والجن، حين عبدت الأوثان، وأطيع الشيطان، وجحد الرحمن، وصلى الله عليه وعلى آله، وجزاه الله أفضل ما جزى المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 أما بعد، فإني لا أقول لكم إلا ما تعرفون، إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أرشد الله أمره، وأعز نصره، بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب، وإلى العمل بالكتاب، والجهاد في سبيل الله، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله. ولقد علمتم أن عليًّا صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وحده، وإنه يوم صدق به لفى عاشرة من سنه، ثم شهد مع رسول الله صلى الله وآله جميع مشاهده، وكان من اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله راضيًا عنه، حتى غمضه بيده، وغسله وحده، والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم أدخله حفرته، وأوصاه بقضاء دينه وعداته وغير ذلك من أموره، كل ذلك من من الله عليه. ثم والله ما دعا إلى نفسه، ولقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم عند ورودها، فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه، ولا خلاف أتاه، حسدًا له وبغيًا عليه. فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته والجد والصبر والاستعانة بالله والخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين، عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإياكم تقواه، وأعاننا وإياكم على جهاد أعدائه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم". "شرح ابن أبي الحديد م 3: 292". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 172- خطبة عمار بن ياسر : وقام بعده عمار، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال: أيها الناس أخو نبيكم وابن عمه يستنفركم لنصر دين الله، وقد بلاكم الله بحق دينكم، وحرمة أمكم، فحق دينكم أوجب، وحرمته أعظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 "أيها الناس عليكم بإمام لا يؤدب، وفقيه لا يعلم، وصاحب بأس لا ينكل، وذي سابقة في الإسلام ليست لأحد، وإنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 173- خطبة أبي موسى الأشعري : فلما سمع أبو موسى الأشعري خطبة الحسن وعمار، قام فصعد المنبر، وقال: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد؛ فجمعنا بعد الفرقة، وجعلنا إخوانًا متحابين بعد العداوة، وحرم عليا دماءنا وأموالنا، قال الله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} فاتقوا الله عباد الله. وضعوا أسلحتكم، وكفوا عن قتال إخوانكم. أما بعد، يأهل الكوفة إن تطيعوا الله باديًا، وتطيعوني ثانيًا تكونوا جرثومة1 من جراثيم العرب، يأوي إليكم المضطر، ويأمن فيكم الخائف، إن عليًا إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري رسول الله ومن معهم من المسلمين، وأنا أعلم بهذه الفتن. إنها إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت أسفرت، إني خائف عليكم أن يلتقي غاران منكم، فيقتتلا، ثم يتركا كالأحلاس الملقاة بنجوة من الأرض لا يدرى من أين تؤتى، تترك الحليم حيران، كأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وآله بالأمس يذكر الفتن فيقول: أنت فيها نائمًا خير منك قاعدًا، وأنت فيها جالسًا خير منكم قائمًا، وأنت فيها قائمًَا خير منك ساعيًا، فثلموا سيوفكم، وقصفوا رماحكم، وأنصلوا2 سهامكم، وقطعوا أوتاركم، وخلوا قريشًا ترتق فتقها، وترأب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت، وإن أبت فعلى أنفسها ما جنت، سمنها في أديمها، واستنصحوني ولا تستغشوني، وأطيعوني ولا تعصوني، يتبين لكم رشدكم، وتصلى هذه الفتنة من جناها. "شرح ابن الحديد م 293".   1 جرموثة الشيء: أصله. 2 أنصل السهم، ونصله بالتشديد: جعل فيه نصلًا وأزاله عنه –ضد-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 صورة أخرى : 174- خطبة أبي موسى الأشعري : وكاتب الإمام علي من الربذة أبا موسى الأشعري –وكان عامله على الكوفه- ليستنفر الناس لقتال عائشة ومن معها، فثبطهم وخطبهم، فقال: "أيها الناس: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه في المواطن، أعلم بالله جل وعز وبرسوله صلى الله عليه وسلم ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقًّا، فأنا مؤديه إليكم، كان الرأى ألا تستخفوا بسلطان الله عز وجل، ولا تجترئوا على الله عز وجل، وكان الرأي الثاني أن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة، فتردوهم إليها، حتى يجتمعوا، وهم أعلم بمن تصلح له الإمامة منكم، ولا تكلفوا الدخول في هذا، فأما إذ كان ما كان، فإنها فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة1 من جراثيم العرب، فأغمدوا1 السيوف، وأنصلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم والمضطهد، حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة". "تاريخ الطبري 5: 187، والكامل لابن الأثير 3: 113".   1 غمد السيف يغمده كنصر وضرب وأغمده: جعله في الغمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 175- صورة أخرى : وخطب أيضًا في هذا الصدد، فقال: "أيها الناس: أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب، يأوي إليكم المظلوم، ويأمن فيكم الخائف، إنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعلم بما سمعنا، إن الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت بينت، وإن هذه الفتنة باقرة1 كداء البطن، تجري بها الشمال والجنوب، والصبا2 والدبور، فتكن أحيانًا، فلا يدرى من أين تؤتى، تذر الحليم كابن أمس، شيموا3 سيوفكم، وقصدوا 4 رماحكم، وأرسلوا سهامكم، واقطعوا أوتاركم، والزموا بيوتكم، خلوا قريشًا إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة، وفراق أهل العلم بالإمرة، ترتق5 فتقها، وتشعب6 صدعها، فإن فعلت فلأنفسها سعت، وإن أبت فعلى أنفسها جنت، سمنها تهريق في أديمها، استنصحوني ولا تستغشوني، وأطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياكم، ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها".   1 فتنة باقرة: صادعة للألفة شاقة للعصا، وفي الكامل لابن الأثير: فاقرة بالفاء، وهي الداهية تكسر فقار الظهر. 2 الصبا: ريح تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار. والدبور: ريح تقابلها. 3 شام سيفه يشيمه: غمده واستله، ضد. 4 التقصيد والقصد: الكسر بأي وجه كان أو بالنصف، ورمح قصد ككتف وقصيد وأقصاد متكسر. 5 رتق الفتق: سده. 6 الشعب: الإصلاح والإفساد والجمع والتفريق، -ضد-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 176- خطبة زيد بن صوحان : فقام زيد بن صوحان، فشال1 يده المقطوعة، فقال: "يا عبد الله2 بن قيس، رد الفرات عن أدراجه3، اردده من حيث يجيء،   1 شال: رفع، قطعت يده يوم جلولاء، وقيل بالقادسية في قتال الفرس، وقتل يوم الجمل "أسد الغابة 2: 234". 2 هو اسم أبي موسى. 3 جمع درج بفتحتين، وهو الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك، فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه، ثم قرأ: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-2-3] سيروا إلى أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وانفروا1 إليه أجمعين، تصيبوا الحق".   1 اذهبوا، وكانت السيدة عائشة قد كتبت إليه كتابًا تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها، فقال: أمرت أن تقر في بيتها، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما أمرت به، وركبت ما أمرنا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 177- خطبة القعقاع بن عمرو : فقام القعقاع بن عمرو فقال: "إني لكم ناصح، وعليكم شفيق، أحب أن ترشدوا1، ولأقولن لكم قولًا هو الحق، أما ما قال الأمير فهو الأمر، لو أن إليه سبيلًا، وأما ما قال زيد فزيد عدو هذا الأمر، فلا تستنصحوه، فإنه لا ينتزع أحد من الفتنة طعن فيها، وجرى إليها، والقول الذي هو الحق أنه لا بد من إمارة تنظم الناس، وتزع2 الظالم، وتعز المظلوم، وهذا علي يلي بما ولي، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع".   1 رشد: كنصر وفرح. 2 تردع وتكف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 178- خطبة سيحان بن صوحان : وقال سيحان: "أيها الناس: إنه لا بد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من والٍ، يدفع الظالم ويعز المظلوم، ويجمع الناس، وهذا واليكم يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه1، وهو المأمون على الأمة، الفقيه في الدين، فمن نهض إليه، فإنا سائرون معه".   1 طلحة والزبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 179- خطبة الحسن بن علي : وقام الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال: "أيها الناس: أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإن أمير المؤمنين يقول: قد خرجت مخرجي هذا ظالمًا أو مظلومًا، وإني أذكر الله رجلاً رعى حق الله إلا نفر، فإن كنت مظلومًا أعانني، وإن كنت ظالمًا أخذ مني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني، وأول من غدر، فهل استأثرت بمال، أو بدلت حكمًا؟ فانفروا، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر". "تاريخ الطبري 5: 188، والكامل لابن الأثير 3: 114". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 180- وفادة القعقاع بن عمرو إلى أصحاب الجمل : ولما نزل الإمام علي كرم الله وجهه بذي قار، دعا القعقاع بن عمرو، فأرسله إلى أهل البصرة، وقال له: الق هذين الرجلين –طلحة والزبير- يابن الحنظلية، "وكان القعقاع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما الفرقة، وقال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما، مما ليس عندك فيه وصاة1 مني؟ فقال: نلقاهم بالذي أمرت به، فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي، اجتهدنا الرأي، وكلمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي، قال: أنت لها.   1 وصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها، فسلم عليها، وقال: أي أمه: ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني: إصلاح بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزبير، حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا، فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني، ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه، فإن هذا إن ترك كان تركًا للقرآن، وإن عمل به كان إحياء للقرآن، فقال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلا رجلًا، فغضب لهم ستة آلاف، واعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الذي أفلت -يعني حرقوص بن زهير- فمنعه ستة آلاف وهم على رجل، فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولون، فإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا1 عليكم، فالذي خذرتم وقربتم2 به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وأنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم، والذنب الكبير". فقالت أم المؤمنين: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا3، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خيرٍ، وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه، كانت علامة شر وذهاب هذا الثأر، وبعثة الله في هذه الأمة هزاهزها4، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير، كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا للبلاء، ولا تعرضوا   1 أي غلبوكم وانتصروا عليكم. 2 قربه "كسمع" قرب منه "ككرم". 3 اضطربوا وتفككوا. 4 الهزهزة والهزاهز: تحريك البلايا والحروب الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 له، فيصرعنا وإياكم، وايم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف ألا يتم حتى يأخذ الله عز وجل حاجته من هذه الأمة، التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث ليس يقدَّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل". فقالوا: نعم، إذن قد أحسنت وأصبت المقالة فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر، فرجع إلى علي فأخبره، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح1. "تاريخ الطبري 5: 191".   1 ولكن السبئيين أحبطوا مساعي الصلح، إذ خرجوا في الغلس دون أن يشعر بهم أحد، فقصد مضرهم مضر البصرة، وربيعتهم ربيعة البصرة، ويمنهم يمن البصرة، ووضعوا فيهم السلاح. فثار كل قوم في وجوه أصحابهم، ودارت رحى القتال بينهم، وكلا الفريقين لا يعلم بكنه تلك المكيدة، وكان بينهما ما كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 181- خطبة علي بن أبي طالب : فلما رجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير، جمع الإمام علي الناس، ثم قام على الغرائر، فحمد الله عز وجل، وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الجاهلية وشقاها، والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم حدث هذا الحدث، الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة، وأرادوا رد الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد، ألا إني راحل غدًا فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن غدًا أحدٌ أعان على عثمان رضي الله عنه بشيء، في شيء من أمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم". "تاريخ الطبري 5: 194". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 182- خطبة لعلي: ولما أراد علي المسير إلى البصرة قام فخطب الناس، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله: إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وآله. استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب1 يفسده أدنى وهن، وينكسه2 أقل خلق، فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادًا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء، والله ولي تمحيص سيئاتهم، والعفو عن هفواتهم، فما بال طلحة والزبير –وليسا من هذا الأمر بسبيل- لم يصبروا علي حولًا ولا أشهرًا حتى وثبا ومرقا، ونازعاني أمرًا لم يجعل الله لهما إليه سبيلًا، بعد أن بايعاني طائعين غير مكرهين، يرتضعان أما قد فطمت، ويحييان بدعة قد أميتت، أدم عثمان زعما؟ والله ما التبعة إلا عندهم وفيهم، وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، وأنا راضٍ بحجة الله عليهم وعلمه فيهم، فإن فاءا وأنابا فحظهما أحرزا، وأنفسهما غنما، وأعظم بهما غنيمة، وإن أبيا أعطيتهما حد السيف، وكفى به ناصرًا لحق، وشافيًا لباطل" ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م 1: 102".   1 الوطب: سقاء اللبن. 2 في الأصل "ويعكسه" وأراه محرفًا، نكسه: قلبه على رأسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 183- خطبة لعلي: وخطب فقال: "الحمد لله على كل أمر وحال، في الغدو والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ابتعثه رحمة للعباد، وحياة للبلاد، حين امتلأت الأرض فتنة، واضطرب حيلها، وعبد الشيطان في أكنافها، واشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها، فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها، وأخمد به شرارها، ونزع به أوتادها، وأقام به ميلها، إمام الهدى، والنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد صدع بما أمر به، وبلغ رسالات ربه، فأصلح الله به ذات البين، وآمن به السبل، وحقن به الدماء، وألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور، حتى أتاه اليقين، ثم قبضه الله إليه حميدًا. ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده، ثم استخلف الناس عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموني لتبايعوني فقلت: لا حاجة لي في ذلك، ودخلت منزلي فاستخرجتموني، فقبضت يدي فبسطتموها، وتداككتم علي حتى ظننت أنكم قاتلي وأن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل، وقد علم الله سبحانه أني كنت كارهًا للحكومة بين أمة محمد صلى الله عليه وآله، ولقد سمعته صلى الله عليه وآله يقول: "ما من وال يلي شيئًا من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق، ثم ينشر كتابه، فإن كان عادلاً نجا، وإن كان جائرًا هوى" حتى اجتمع علي ملؤكم، وبايعني طلحة والزبير، وأنا أعرف الغدر في أوجههما، والنكث في أعينهما، ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها، وشخص معهما أبناء الطلقاء، فقدموا البصرة، فقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر، ويا عجبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما علي وهما يعلمان أني لست دون أحدهما، ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابًا يخدعهما فيه، فكتماه عني، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان. والله ما أنكرا علي منكرًا، ولا جعلا بيني وبينهم نصفا، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما، يا خيبة الداعي إلام دعا؟ وبماذا أجيب؟ والله إنهما لعلى ضلالة صماء، وجهالة عمياء، وإن الشيطان قد ذمر لها حزبه، واستجلب منهما خيله ورجله، ليعيد الجور إلى أوطانه، ويرد الباطل إلى نصابه. ثم رفع يديه فقال: اللهم إن طلحة والزبير قطعاني، وظلماني وألبا علي، فاحلل ما عقدا، وانكث ما أبرما، ولا تغفر لهما أبدًا، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا". "شرح ابن أبي الحديد م 1: 102". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 184- خطبة الأشتر : فقام إليه الأشتر فقال: "الحمد لله الذي من علينا فأفضل، وأحسن إلينا فأجمل، قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين، ولقد أصبت ووفقت وأنت ابن عم نبينا، وصهره ووصيه، وأول مصدق به ومصل معه، شهدت مشاهده كلها، فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة، فمن اتبعك أصاب حظه، واستبشر بفلجه1، ومن عصاك ورغب عنك فإلى أمه الهاوية، لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل2، ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه، وفارقا على غير حدث أحدثت ولا جور صنعت، فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما، فإنهما أول من ألب عليه وأغرى الناس بدمه، وأشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقهما بعثمان، فإن سيوفنا في عواتقنا، وقلوبنا في صدورنا، ونحن اليوم كما كنا أمس" ثم قعد. "شرح ابن الحديد م 1: 102".   1 الفلج: الفوز. 2 من أخالت الناقة إذا كان في ضرعها لبن، والأرض بالنبات ازدانت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 185- خطبة السيدة عائشة "توفيت سنة 57هـ": وخطبت السيدة عائشة وقد أخذ الناس مصافهم للحرب، فقالت: "أما بعد: فإنا كنا نقمنا على عثمان ضرب السوط، وإمرة الفتيان، وموقع السحابة المحمية، ألا وإنكم استعتبتموه فأعتبكم، فلما مصتموه1 كما يماص الثوب الرحيض2 عدوتم عليه، فارتكبتم منه دمًا حرامًا، وايم الله إن كان لأحصنكم فرجًا، وأتقاكم لله". "شرح ابن أبي الحديد 2: 81".   1 الموص: الدلك باليد. 2 رحض الثوب كمنعه: غسله فهو رحيض ومرحوض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 186- خطبة لعلي : وخطب علي لما تواقف الجمعان فقال: "لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وكفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرًا، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى حال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارًا، ولا تأخذوا من أموالهم شيئًا، ولا تهيجوا امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القول والأنفس والعقول، لقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة، فيعير بها وعقبه من بعده" "شرح ابن أبي الحديد 2: 81". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 187- خطبة السيدة عائشة يوم الجمل : وخطبت السيدة عائشة رضي الله عنها أهل البصرة يوم الجمل فقالت: "أيها الناس: صه صه، إن لي عليكم حق الأمومة، وحرمة الموعظة، لا يتهمني إلا من عصى ربه، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري1 ونحري، فأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي، وخلصني من كل بضاعة، وبي ميز منافقكم من مؤمنكم، وبي أرخص الله لكم في صيد الأبواء2، ثم أبي ثاني اثنين الله ثالثهما وأول من سمي صديقًا، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيًا عنه، وطوقه أعباء الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين بعده، فمسك أبي بطرفيه، ورتق لكم فتق النفاق، وأغاض نبع الردة، وأطفأ ما حش3 يهود، وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون الغدرة، وتسمعون الصيحة، فرأب الثأي4 وأود5 من الغلظة، وانتاش من الهوة،   1 السحر: الرئة. 2 الصعيد: التراب أو وجه الأرض، والأبواء: قرية بها قبر آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم، تشير إلى ما حدث ببركتها من ترخيص المولى "جل وعلا" للمسلمين في التيمم إذا لم يجدوا ماء يتوضئون به. وفي الحديث: "عن عائشة رضي الله عنها: قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله قد نام، فقال: حبست رسول الله والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير "بصيغة التصغير" ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته" "راجع الحديث كاملًا في باب التيمم من صحيح البخاري 1: 70، وصحيح مسلم 1: 146". 3 حش النار: أوقدها. 4 الثأْي والثأَي بسكون الهمزة وفتحها: الإفساد. 5 أوده فتأود: عطفه فانعطف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 واجتحى1 دفين الداء، حتى أعطن2 الوارد، وأورد الصادر، وعل3 الناهل، فقبضه الله إليه، واطئًا على هامات4 النفاق، مذكيًا5 نار الحرب للمشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله، فولى أمركم رجلًا مرعيًا إذا ركن إليه، بعيد ما بين اللابتين6، عركة للأذاة بجنبه7، صفوحًا عن أذاة الجاهلين، يقظان الليل في نصرة الإسلام، فسلك مسلك السابقة، ففرق شمل الفتنة، وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا، لم ألتمس إثمًا، ولم أونس فتنة أوطئكموها، أقول قولي هذا صدقًا وعدلًا، وإعذارًا وإنذارًا، وأسأل الله أن يصلي على محمد، وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين". "العقد الفريد 2: 156- 226".   1 اجتحاه: استأصله. 2 أعطن الإبل: حبسها عند الماء. 3 العل والعلل: "بفتحتين" الشرب بعد الشرب تباعًا على يعل بكسر العين وضمها، والنهل: أو الشرب نهل ينهل كفرح. 4 جمع هامة: وهي الرأس. 5 مشعلًا. 6 اللابة: الحرة بفتح الحاء "أرض ذات حجارة نخرة سود" ولابتا المدينة: حرتان تكتنفانها. أرادت أنه واسع الصدر واسع العطن فاستعارت له اللابة، كما يقال: رحب الفناء واسع الجناب. 7 أي يعرك الأذى بجنبه: أي يحتمله وفي هذه الخطبة تحريف شديد في الأصل، وقد أصلحته كما يتبين بالمراجعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 188- خطبة زفر بن قيس : وكتب الإمام علي كرم الله وجهه، مع زفر بن قيس إلى جرير بن عبد الله البجلي -وكان على ثغر همذان استعمله عليه عثمان- كتابًا يخبره فيه بما كان بينه وبين أصحاب الجمل، وما أوتي من الانتصار عليهم، واستعمال ابن عباس على البصرة، فلما قدم زفر على جرير بكتاب علي وقرأه جرير، قام زفر خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إن عليًّا كتب إليكم بكتاب، لا نقول بعده إلا رجيعًا1 من القول، إن الناس بايعوا عليًا بالمدينة غير محاباة ببيعتهم، لعلمه بكتاب الله ويرى الحق   1 الرجيع: كل مردد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فيه، وإن طلحة والزبير نقضا بيعة علي على غير حدث، ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب، وألبا1 عليه الناس، وأخرجا أم المؤمنين عائشة من حجاب ضربه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها، فلقيهما، فأعذر في الدعاء، وخشي البغي، وحمل الناس على ما يعرفون، فهذا عيان2 ما غاب عنكم، وإن سألتم الزيادة زدناكم". "الإمامة والسياسة 1: 69".   1 حرضا. 2 مصدر عاين الشيء: إذا رآه بعينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 189- خطبة جرير بن عبد الله البجلي : وقام جرير بن عبد الله البجلي خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو المأمون على الدين والدنيا، وكان من أمره وأمر عدوه ما قد سمعتم، والحمد لله على أقضيته، وقد بايعه السابقون الأولون، من المهاجرين والأنصار، والتابعون بإحسان، ولو جعل الله هذا الأمر شورى بين المسلمين لكان علي أحق بها، ألا وإن البقاء في الجماعة، والفناء في الفرقة، وعلي حاملكم ما استقمتم له، فإن ملتم أقام ميلكم". قال الناس: سمعًا وطاعة، ورضانا رضا من بعدنا. "الإمامة والسياسة 1: 69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 190- خطبة زياد بن كعب : وكتب الإمام علي كرم الله وجهه، إلى الأشعث بن قيس -وكان عاملًا بأذربيجان، استعمله عليها عثمان- بمثل ما كتب به إلى جرير بن عبد الله، ووجه بالكتاب مع زياد بن كعب، فلما قرأ الأشعث كتاب علي، قام زياد بن كعب خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 "أيها الناس: إنه من لم يكفه القليل، لم يكفه الكثير، وإن أمر عثمان لم ينفع فيه العيان، ولم يشف منه الخبر، غير أن من سمعه ليس كمن عاينه، وإن المهاجرين والأنصار بايعوا عليًّا راضين به، وإن طلحة والزبير نقضا بيعة علي على غير حدث، وأخرجا أم المؤمنين على غير رضًا، فسار إليهم ولم ينلهم، فتركهم وما في نفسه منهم حاجة فأورثه الله الأرض، وجعل له عاقبة المتقين". "الإمامة والسياسة 1: 70". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 191- خطبة الأشعث بن قيس : فقام الأشعث بن قيس فقال: "أيها الناس: إن عثمان رحمه الله ولاني أذربيجان، وهلك وهي في يدي، وقد بايع الناس عليًّا، وطاعتنا له لازمة، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما قد بلغكم، وهو المأمون على ما غاب عنا وعنكم من ذلك". "الإمامة والسياسة 1: 70". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 192- خطبة جرير بن عبد الله البجلي: وبعث علي إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي بكتاب يدعوه إلى بيعته، فلما قرأ الكتاب قام جرير فخطب فقال: "الحمد لله المحمود بالعوائد، المأمول فيه الزوائد، المرتجى منه الثواب، المستعان على النوائب، أحمده وأستعينه في الأمور التي تحير دونها الألباب، وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بعد فترة من الرسل الماضية، والقرون الخالية، فبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وأدى الحق الذي استودعه الله وأمره بأدائه إلى أمته، صلى الله عليه وآله، من رسول ومبتعث ومنتخب وعلى آله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أيها الناس إن أمر عثمان قد أعيا من شهده، فكيف بمن غاب عنه، وإن الناس بايعوا عليًا غير واتر ولا موتور، وكان طلحة والزبير ممن بايعاه، ثم نكثا بيعته على غير حدث، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن، وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملمة، إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس، وقد بايعت الأمة عليًّا، ولو ملكنا والله الأمور لم نختر لها غيره، فادخلْ معاويةُ فيما دخل فيه الناس، فإن قلت: استعملني عثمان ثم لم يعزلني، فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين، وكان لكل امرئ ما في يديه، ولكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول، وجعل الأمور موطأة ينسخ بعضها بعضًا" ثم قعد. "شرح ابن أبي الحديد 1: 248". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 193- خطبة معاوية : فقال معاوية: أنظر وتنظر وأستطلع رأي أهل الشام، فمضت أيام، وأمر معاوية مناديًا ينادي: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد المنبر، ثم قال: "الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا، والشرائع للإيمان برهانا، يتوقد قبسه في الأرض المقدسة، جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلهم أرض الشام، ورضيهم لها، لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره، والذابين عن دينه وحرماته، ثم جعلهم لهذه الأمة نظامًا، وفي سبيل الخيرات أعلامًا، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم ألفة المؤمنين، والله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام، وتباعد بعد القرب. اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا، ويخيفون آمننا، ويريدون إراقة دمائنا، وإخافة سبلنا، وقد علم الله أنا لا نريد لهم عقابا، ولا نهتك لهم حجابا، ولا نوطئهم زلقا، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا، ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، حملهم على ذلك البغي والحسد، فنستعين بالله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 "أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم، وأني لم أقم رجلًا منكم على خزاية قط، وأني ولي عثمان وقد قتل مظلومًا، والله تعالى يقول: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان". فقام أهل الشام بأجمعهم، فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك، وأوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم وأنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلحق أرواحهم بالله". "شرح ابن أبي الحديد 1: 248". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فتنة معاوية استطلاع الإمام علي كرم الله وجهه آراء أصحابه وقد أراد المسير إلى الشأم مدخل ... فتنة معاوية: استطلاع الإمام علي كرم الله وجهه آراء أصحابه وقد أراد المسير إلى الشأم: لما أراد الإمام علي كرم الله وجهه المسير إلى الشأم، دعا من كان معه من المهاجرين والأنصار، فجمعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 194- خطبة الإمام علي : ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال: "أما بعد: فإنكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مباركو الأمر، مقاويل بالحق، وقد عزمنا على المسير إلى عدونا وعدوكم، فأشيروا علينا برأيكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 195- خطبة هاشم بن عتبة : فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أما بعد -يا أمير المؤمنين- فأنا بالقوم جد خبير، هم لك ولأشياعك أعداء، وهم لمن يطلب حرث1 الدنيا أولياء، وهم مقاتلوك ومجادلوك، لا يبقون جهدًا، مشاحة2 على الدنيا، وضنا3 بما في أيديهم منها، ليس لهم إربة4 غيرها،   1 أي متاعها. 2 بخلا عليها وحرصًا. 3 ضن ضنا: بالكسر وضنانة بالفتح: بخل. 4 الإربة: الأرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 إلا ما يخدعون به الجهال، من طلب دم ابن عفان، كذبوا ليسوا لدمه ينفرون1 ولكن الدنيا يطلبون، انهض بنا إليهم، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال، وإن أبوا إلا الشقاق، فذاك ظني بهم، والله ما أراهم يبايعون، وقد بقي فيهم أحد ممن يطاع إذا نهى، ولا يسمع إذا أمر".   1 نفر للأمر: ذهب له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 196- خطبة عمار بن ياسر : وقام عمار بن ياسر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "يا أمير المؤمنين، إن استطعت أن لا تقيم يومًا واحدًا فافعل، اشخص بنا قبل استعار1 نار الفجرة، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة، وادعهم إلى حظهم ورشدهم، فإن قبلوا سعدوا، وإن أبوا إلا حربنا، فوالله إن سفك دمائهم، والجد في جهادهم، لقربة عند الله وكرامة منه".   1 أي اشتعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 197- خطبة قيس بن سعد بن عبادة : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أمير المؤمنين: انكمش1 بنا إلى عدونا ولا تعرج، فوالله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك والروم، لإدهانهم2 في دين الله، واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وسيروه3، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال، ونحن لهم فيما يزعمون قطين4".   1 انكمش وتكمش: أسرع. 2 الإدهان: المداهنة والغش. 3 المراد أبعدوه. 4 القطين: الرقيق والخدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فقال أشياخ الأنصار، منهم خزيمة بن ثابت وأبو أيوب وغيرهما: لم تقدمت أشياخ قومك، وبدأتهم بالكلام يا قيس، فقال: أما إني عارف بفضلكم، معظم لشأنكم، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي في صدوركم، جاش حين ذكرت الأحزاب، فقال بعضهم: ليقم رجل منكم، فليجب أمير المؤمنين عليه السلام عن جماعتكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 198- خطبة سهل بن حنيف : فقام سهل بن حنيف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أمير المؤمنين: نحن سلم لمن سالمت، وحرب لمن حاربت، ورأينا رأيك، ونحن يمينك، وقد رأينا أن تقوم في أهل الكوفة، فتأمرهم بالشخوص، وتخبرهم بما صنع لهم في ذلك من الفضل، فإنهم أهل البلد، وهم الناس، فإن استقاموا لك، استقام لك الذي تريد وتطلب، فأما نحن فليس عليك خلاف منا، متى دعوتنا أجبناك، ومتى أمرتنا أطعناك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 199- خطبة الإمام علي: وقام الإمام علي خطيبًا على منبره، يحرض الناس ويأمرهم بالمسير إلى صفين، لقتال أهل الشأم، فقال: "سيروا إلى أعداء الله، سيروا إلى أعداء القرآن والسنن، سيروا إلى بقية الأحزاب1 وقتلة المهاجرين والأنصار".   1 يشير إلى الأحزاب التي تألبت وتظاهرت على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش، وغطفان، وبني مرة، وبني أشجع، وبني سليم، وبني أسد في غزوة الأحزاب –غزوة الخندق- التي كانت سنة خمس للهجرة، وكانت عدة الجميع عشرة آلاف مقاتل وقائدهم العام أبو سفيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فقام رجل من بني فزارة فقال له: أتريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشأم نقتلهم كُلًّا؟، كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلتهم كلًّا؟ ها الله1 إذن لا نفعل ذلك، فقام الأشتر فقال: من هذا المارق؟ فهرب الفزاري، واشتد الناس على أثره، فلحق في مكان من السوق، تباع فيه البراذين2، فوطئوه بأرجلهم، وضربوه بأيديهم ونصال سيوفهم، حتى قتل، فأتى علي عليه السلام، فقيل له: يا أمير المؤمنين قتل الرجل، قال: ومن قتله؟ قالوا: قتلته همدان ومعهم شوب3 من الناس، فقال: قتيل عمية4 لا يدرى من قتله، ديته من بيت مال المسلمين، فقام الأشتر فقال:   1 هي ها التنبيه، وهي تدخل على اسم الله في القسم عند حذف الحرف، تقول: ها الله بقطع الهمزة ووصلها، وكلاهما مع إثبات ألف "ها" وحذفها. 2 البراذين: الدواب، جمع برذون. 3 خليط. 4 قتل عِمِّيًّا بكسر العين والميم مشددة مع تشديد الياء: لم يدر من قتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 200- خطبة الأشتر النخعي : "يا أمير المؤمنين لا يهُدَّنَّك ما رأيت، ولا يولينك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن، إن جميع من ترى من الناس شيعتك، لا يرغبون بأنفسهم عن نفسك، ولا يحبون البقاء بعدك، فإن شئت فسر بنا إلى عدوك، فوالله ما ينجو من الموت من خافه، ولايعطى البقاء من أحبه، وإنا لعلى بينة من ربنا، وإن أنفسنا لن تموت حتى يأتي أجلها، وكيف لا نقاتل قومًا هم كما وصف أمير المؤمنين، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالأمس، وباعوا خلاقهم1 بعرض من الدنيا يسير". فقال علي: الطريق مشترك، والناس في الحق سواء، ومن اجتهد رأيه في نصيحة العامة، فقد قضى ما عليه" ثم نزل فدخل منزله.   1 الخلاق: النصيب الوافر من الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 201- مقال من ثبطوه عن المسير : ولما أمر الإمام بالمسير إلى الشأم، دخل عليه عبد الله بن المعتم العبسي وحنظلة بن الربيع التميمي، في رجال كثير من غطفان وبني تميم، فقال له حنظلة: "يا أمير المؤمنين: إنا قد مشينا إليك في نصيحة، فاقبلها، ورأينا لك رأيًا فلا تردنه علينا، فإنا نظرنا لك ولمن معك، أقم وكاتب هذا الرجل، ولا تعجل إلى قتال أهل الشأم، فإنا والله ما ندري ولا تدري لمن تكون الغلبة إذا التقيتم، ولا على من تكون الدبرة1". وقال ابن المعتم مثل قوله، وتكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل كلامهما.   1 الدبرة بسكون الباء وفتحها: الهزيمة في القتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 202- رد الإمام عليهم : فحمد علي عليه السلام الله وأثنى، ثم قال: "أما بعد: فإن الله وارث العباد والبلاد، ورب السموات السبع والأرضين السبع، وإليه ترجعون، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، أما الدبرة، فإنها على الضالين العاصين، ظفروا أو ظفر بهم، وايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا". فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال: "يا أمير المؤمنين: إن هؤلاء والله ما آثروك بنصح، ولا دخلوا عليك إلا بغش، فاحذرهم، فإنهم أدنى العدو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وقال له مالك بن حبيب: "إنه بلغني يا أمير المؤمنين أن حنظلة هذا يكاتب معاوية، فادفعه إلينا نحبسه، حتى تنقضي غزاتك وتتصرف". وقام من بني عبس قائد بن بكير، وعياش بن ربيعة، فقالا: "يا أمير المؤمنين، إن صاحبنا عبد الله بن المعتم قد بلغنا أنه يكاتب معاوية، فاحبسه أو مكنا من حبسه، حتى تنقضي غزاتك ثم تتصرف". فقالا: "هذا جزاء لمن نظر لكم، وأشار عليكم بالرأي فيما بينكم وبين عدوكم؟ " فقال لهما علي عليه السلام: "الله بيني وبينكم وإليه أكلكم، وبه أستظهر عليكم، اذهبوا حيث شئتم1".   1 هذا، وقد خرجا إلى معاوية في رجال من قومهما، ولكنهما لم يقاتلا معه واعتزلا الفريقين جميعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 203- خطبة عدي بن حاتم الطائي : وقام عدي بن حاتم الطائي، بين يدي علي عليه السلام، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: "يا أمير المؤمنين، ما قلت إلا بعلم، ولا دعوت إلا إلى حق، ولا أمرت إلا برشد، ولكن إذا رأيت أن تستأني1 هؤلاء القوم وتستديمهم، حتى تأتيهم كتبك، وتقدم عليهم رسلك، فعلت، فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم، والعافية أوسع لنا ولهم، وإن يتمادوا في الشقاق، ولا ينزعوا عن الغي، نسر إليهم، وقد قدمنا إليهم العذر، ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق، فوالله لهم من الحق أبعد، وعلى الله أهون   1 تنتظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة، لما دعوناهم إلى الحق فتركوه، ناوخناهم براكاء القتال1، حتى بلغنا منهم ما نحب، وبلغ الله منهم رضاه".   1 براكاء القتال وبروكاء: موضع اصطدام القوم، وناوخناهم مفاعلة، من أناخ الإبل: إذا أبركها، والمعنى: التقينا وإياهم في ساحة القتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 204- خطبة زيد بن حصين الطائي : فقام زيد بن حصين الطائي –وكان من أصحاب البرانس المجتهدين- فقال: "الحمد لله حتى يرضى، ولا إله إلا الله ربنا، أما بعد: فوالله إن كنا في شك في قتال من خالفنا، ولا تصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم، فما الأعمال إلا تباب1، ولا السعي إلا في ضلال، والله تعالى يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} إننا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يتبعونه، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم، القليل من الإسلام حظهم، أعوان الظلمة، وأصحاب الجور والعدوان؟ ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار، ولا التابعين بإحسان". فقام رجل من طيئ فقال: "يا زيد بن حصين، أكلام سيدنا عدي بن حاتم يهجن2؟ " فقال زيد: "ما أنتم بأعرف بحق عدي مني، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس".   1 خسران. 2 يقبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 205- خطبة أبي زينب بن عوف : ودخل أبو زينب بن عوف على الإمام علي فقال: "يا أمير المؤمنين، لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلًا، وأعظمنا في الخير نصيبًا، ولئن كنا على ضلال إنك لأثقلنا ظهرًا1، وأعظمنا وزرًا، قد أمرتنا بالمسير   1 لأنه حينئذ يكون أكثرهم ذنوبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 إلى هذا العدو، وقد قطعنا ما بيننا وبينهم من الولاية، وأظهرنا لهم العداوة، نريد بذلك ما يعلم الله تعالى من طاعتك، أليس الذي نحن عليه هو الحق المبين، والذي عليه عدونا هو الحوب1 الكبير؟ ". فقال عليه السلام: "بلى، شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرًا لدعوتنا، صحيح النية في نصرنا، قد قطعت منهم الولاية، وأظهرت لهم العداوة، كما زعمت، فإنك ولي الله تسبح في رضوانه، وتركض في طاعته، فأبشر أبا زينب" وقال له عمار بن ياسر: "اثبت أبا زينب، ولا تشك في الأحزاب أعداء الله ورسوله" فقال أبو زينب: "ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة، شهدا لي عما سألت من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما".   1 الحوب بالفتح والضم: الإثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 206- خطبة يزيد بن قيس الأرحبي : ودخل يزيد بن قيس الأرحبي1 على علي عليه السلام فقال: "يا أمير المؤمنين: نحن أولو جهاز2 وعدة، وأكثر الناس أهل قوة، ومن ليس به ضعف ولا علة، فمر مناديك فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة، فإن أخا الحرب ليس بالسئوم ولا النئوم، ولا من إذا أمكنته الفرص أجلها، واستشار فيها، ولا من يؤخر عمل الحرب اليوم لغد، وبعد غد".   1 نسبة إلى أرحب: وهي قبيلة من همدان. 2 جهاز المسافر والعروس والميت "بالكسر والفتح" ما يحتاجون إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 207- خطبة زياد بن النضر : فقال زياد بن النضر: "لقد نصح لك يزيد بن قيس يا أمير المؤمنين، وقال: ما يعرف، فتوكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 على الله، وثق به، واشخص بنا إلى هذا العدو راشدًا مُعانًا، فإن يرد الله بهم خيرًا لا يتركوك، رغبة عنك إلى من ليس له مثل سابقتك وقدمك، وإلا ينيبوا ويقبلوا، وأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا، ونرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم ثم1 بالأمس".   1 هناك، يريد البصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 208- خطبة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي : ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال: "يا أمير المؤمنين: إن القوم لو كانوا الله يريدون، ولله يعملون، ما خالفونا، ولكن القوم إنما يقاتلوننا فرارًا من الأسوة1، وحبًّا للأثرة2، وضنًّا بسلطانهم، وكرهًا لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلى إحن3 في نفوسهم، وعداوة يجدونها في صدورهم، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة، قتلت فيها آباءهم وأعوانهم" ثم التفت إلى الناس فقال: "كيف يبايع معاوية عليا، وقد قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وجده عتبة، في موقف واحد4 والله ما أظنهم يفعلون، ولن يستقيموا لكم دون أن تقصف فيهم قنا المران5، وتقطع على هامهم6 السيوف، وتنثر حواجبهم بعمد الحديد، وتكون أمور جمة بين الفريقين".   1 الأسوة بالضم والكسر: القدوة: أي فرارًا من أن يكونوا تابعين لك مسودين وأن تكون لهم إمامًا وسيدًا. 2 استأثر على أصحابه: اختار لنفسه أشياء حسنة، والاسم الأثرة. 3 جمع إحنة، وهي الحقد والعداوة. أي ويقاتلوننا على إحن: أي من أجلها. 4 هو جده لأمه عتبة بن أبي ربيعة، وقد قتلهم علي يوم بدر، وفي كتاب بعث به الإمام إلى معاوية يقول: "فأنا أبو حسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخا يوم بدر وذلك السيف معي". 5 القنا: الرماح جمع قناة، والمران: الرماح الصلبة اللدنة، الواحدة مرانة، وشجر، والإضافة على المعنى الأول على حد قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} –إن فسر العرم بالمطر الشديد- "وفسر أيضًا بالأحباس والسدود تبني في الأودية، وبالجرذ، وبواد جاء السيل من قبله" وعلى المعنى الثاني: أي القنا المتخذة من الشجر. 6 الهام جمع هامة: وهي الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 209- أدب الإمام علي، وكرم خلقه : وخرج حجر بن عدي، وعمر بن الحمق، يظهران البراءة من أهل الشأم، فأرسل علي عليه السلام إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما، فأتياه فقالا: "يا أمير المؤمنين: ألسنا محقين؟ " قال: بلى، قالا: "أو ليسوا مبطلين؟ " قال: بلى، قالا: "فلم منعتنا من شتمهم؟ " قال: "كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين، تشتمون وتبرءون، ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن أعمالهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إياهم، وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءهم ودماءنا، وأصلح ذات بينهم وبيننا، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لهج به، لكان أحب إلي، وخيرًا لكم". فقالا: يا أمير المؤمنين، نقبل عظتك، ونتأدب بأدبك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 210- مقال عمرو بن الحمق : وقال له عمرو بن الحمق يومئذ: "والله يا أمير المؤمنين، إني ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك، ولا إرادة مال تؤتينيه، ولا التماس سلطان ترفع ذكري به، ولكني أحببتك بخصال خمس، إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، ووصيه، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول اله صلى الله عليه وآله، وأسبق الناس إلى الإسلام، وأعظم المهاجرين سهمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 في الجهاد، فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي1 حتى يأتي علي يومي في أمر أقوي به وليك وأهين عدوك، ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك". فقال علي عليه السلام: "اللهم نور قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم، ليت أن في جندي مائة مثلك، فقال حجر: إذن والله يا أمير المؤمنين صح جند، وقل فيهم من يغشك.   1 جمع طام، من طمي البحر: إذا امتلأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 211- مقال حجر بن عدي : وقام حجر بن عدي فقال: "يا أمير المؤمنين نحن بنو الحرب. وأهلها الذين نلقحها1 وننتجها، قد ضارستنا2 وضارسناها، ولنا أعوان وعشيرة ذات عدد، ورأي مجرب، وبأس محمود، وأزمتنا، منقادة لك بالسمع والطاعة، فإن شرقت شرقنا، وإن غربت غربنا، وما أمرتنا به من أمر فعلنا". فقال علي عليه السلام: أكل قومك يرى مثل رأيك؟ قال: ما رأيت منهم إلا حسنًا، وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة وحسن الإجابة، فقال له علي عليه السلام خيرًا.   1 أصله من ألقح الفحل الناقة. 2 ضرسته الحرب تضريسًا: جربته وأحكمته، وضارس الأمور: جربها وعرفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 212- مقال هاشم بن عتبة : وقال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل الخزاعي: "إن يومنا ليوم عصبصب1، ما يصبر عليه إلا كل مشبع القلب، صادق النية   1 أي شديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 رابط الجأش، وايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقي منهم ولا منا إلا الرذال1" فقال عبد الله بن بديل: أنا والله أظن ذلك، فبلغ كلامهما عليًا عليه السلام، فقال لهما: "ليكن هذا الكلام مخزونا في صدروكما، لا تظهراه، ولا يسمعه منكما سامع، إن الله كتب القتل على قوم والموت على آخرين، وكل آتيه منيته كما كتب الله له، فطوبى للمجاهدين في سبيله، والمقتولين في طاعته" فلما سمع هاشم بن عتبة ما قالاه أتى عليا عليه السلام فقال: "سر بنا يا أمير المؤمنين، إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وعملوا في عباد الله، بغير رضا الله، فأحلوا حرامه، وحرموا حلاله، واستهوى2 بهم الشيطان، ووعدهم الأباطيل، ومناهم الأماني، حتى أزاغهم عن الهدى، وقصد بهم قصد الردى، وحبب إليهم الدنيا، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها، كرغبتنا في الآخرة، وانتجاز موعد ربنا، وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله رحما، وأفضل الناس سابقة وقدما، وهم يا أمير المؤمنين يعلمون منك مثل الذي نعلم، ولكن كتب عليهم الشقاء، ومالت بهم الأهواء، وكانوا ظالمين. فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة، وأنفسنا تنصرك على من خالفك، وتولي الأمر دونك، جذلة، والله ما أحب أن لي ما على الأرض فما أقلت3، ولا ما تحت السماء فما أظلت، وأني واليت عدوًا لك، وعاديت وليًا لك". فقال علي عليه السلام: "اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك والموافقة لنبيك".   1 الدون: الخسيس، أو الرديء من كل شيء 2 استهواه: استماله والفعل متعد ومفعوله هنا محذوف: أي استوى الشيطان أتباعهم بهم؛ فالباء للسببية. 3 أي حملت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 213- خطبة الإمام علي: ثم إن عليًّا عليه السلام صعد المنبر، فخطب الناس ودعاهم إلى الجهاد، فبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم قال: "إن الله قد أكرمكم بدينه، وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقه، وتنَجَّزوا موعوده، واعلموا أن الله جعل أمراس1 الإسلام متينة، وعراه وثيقةً، ثم جعل الطاعة حظ الأنفس ورضا الرب، وغنيمة الأكياس2 عند تفريط العجزة، وقد حملت أمر أسودها وأحمرها، ولا قوة إلا بالله، ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه3، نفسه وتناول ما ليس له، وما لا يدركه، معاوية وجنده، الفئة الطاغية الباغية، يقودهم إبليس، ويبرق لهم ببارق تسويفه، ويدليهم4 بغرروه، وأنتم أعلم الناس بالحلال والحرام، فاستغنوا بما علمتم، واحذورا ما حذركم الله من الشيطان، وارغبوا فيما عنده من الأجر والكرامة، واعلموا أن المسلوب من سلب دينه وأمانته، والمغرور من آثر الضلالة على الهدى، فلا أعرفن أحدًا منكم تقاعس5 عني، وقال في غيري كفاية، فإن الذود إلى الذود إبل6: ومن لا يذد من حوضه يتهدم. ثم إني آمركم بالشدة في الأمر، والجهاد في سبيل الله، وأن لا تغتابوا مسلمًا، وانتظروا النصر العاجل من الله، إن شاء الله".   1 جمع مرس بفتحتين، ومرس جمع مرسة بفتحتين أيضًا: وهي الحبل. 2 جمع كيس: وهو ضد الأحمق. 3 أصله سفهت نفسه، فلما حول الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بوقوع الفعل عليه؛ لأنه صار في معنى سفه نفسه بالتشديد، ومثله: رشد أمره وبطر عيشه. 4 أي يحطهم عن منزلتهم. قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} . 5 تأخر وتقاعد. 6 الذود: ثلاثة أبعرة إلى العشرة أو خمسة عشر أو عشرين أو ثلاثين وهو مثل: أي إذا جمعت القليل مع القليل صار كثيرًا، فإلى بمعنى مع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 214- خطبة الحسن بن علي : ثم قام بعده ابنه الحسن رضي الله عنه فقال: "الحمد لله لا إله غيره، ولا شريك له، ثم قال: إن مما عظم الله عليكم من حقه وأسبغ عليكم من نعمه، ما لا يحصى ذكره، ولا يؤدى شكره، ولا يبلغه قول ولا صفة، ونحن إنما غضبنا لله ولكم، إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم، واستحكمت عقدتهم، فاحتشدوا في قتل عدوكم معاوية وجنوده، ولا تخاذلوا، فإن الخذلان يقطع نياط القلوب1، وإن الإقدام على الأسنة نخوة وعصمة، لم يتمنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة، وكفاهم جوائح الذلة، وهداهم إلى معالم الملة، ثم أنشد: والصلح تأخذ منه ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع   1 عرق غليظ نيط به القلب إلى الوتين، جمعه أنوطة. "والوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه جمعه أوتنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 215- خطبة الحسين بن علي : ثم قام الحسين رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أهل الكوفة: أنتم الأحبة الكرماء، والشعار1 دون الدثار، جدوا في إطفاء ما وتر2 بينكم، وتسهيل ما توعر عليكم، ألا إن الحرب وريع3، وطعمها   1 الشعار: ما يلبس على شعر الجسد، والدثار: ما فوق الشعار من الثياب. 2 الوتر والترة: الثأر، وتره يتره، ووتره حقه: نقصه إياه، ووتره: أدركه بمكروه. 3 الوريع: الكاف. أي إن شرها عظيم يدعو الناس إلى أن يكفوا عن خوض غمارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فظيع، فمن أخذ لها أهبتها، واستعد لها عدتها، ولم يألم كلومها1 قبل حلولها، فذاك صاحبها، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها، واستبصار سعيه فيها، فذاك قمن2 أن لا ينفع قومه، وأن يهلك نفسه، نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة3" ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 278".   1 كلوم: جمع كلم، وهو الجرح. 2 جدير وحقيق. 3 الفيئة: بفتح الفاء وكسرها، والفيء: الغنيمة، أي نسأل الله أن يقويكم بما تغنمون من عدوكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 216- خطبة عبد الله بن عباس : وكتب علي إلى ابن عباس بالبصرة: "أما بعد فاشخص إلي بمن قبلك من المسلمين والمؤمنين، وذكرهم بلائي عندهم، وعفوي عنهم في الحرب، وأعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل والسلام". فلما وصل كتابه إلى ابن عباس قام في الناس فقرأ عليهم الكتاب وحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أيها الناس: استعدوا للشخوص إلى إمامكم، وانفروا خفافًا وثقالًا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين، الذين لا يقرءون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحق، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله، الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والصادع بالحق، والقيم بالهدى، والحاكم بحكم الكتاب، الذي لا يرتشي في الحكم، ولا يداهن الفجار ولا تأخذه في الله لومة لائم". "شرح ابن أبي الحديد 1: 283". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 217- خطبة لمعاوية : ولما نزل على النخيلة متوجهًا إلى الشأم، وبلغ معاوية خبره، وهو يومئذ بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مخضبًا بالدم وحول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله لا تجف دموعهم على عثمان، خطبهم وقال: "يا أهل الشأم قد كنتم تكذبونني في علي، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، وألب الناس عليه، وآوى قتلته، وهم جنده وأنصاره وأعوانه، وقد خرج بهم قاصدًا بلادكم ودياركم لإبادتكم. يأهل الشأم، الله الله في دم عثمان، فأنا وليه وأحق من طلب بدمه، وقد جعل الله لولي المقتول ظلمًا سلطانًا، فانصروا خليفتكم المظلوم، فقد صنع القوم ما تعلمون، قتلوه ظلمًا وبغيا، وقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله"، ثم نزل. فأعطوه الطاعة وانقادوا له وجمع إليه أطرافه واستعد للقاء علي. "شرح ابن أبي الحديد 1: 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وفد علي على معاوية مدخل ... وفد علي على معاوية: بعد أن نزل الإمام علي كرم الله وجهه بصفين، دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل، فادعوه إلى الله، وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعي: يا أمير المؤمنين: ألا تطمعه في سلطان توليه إياه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال علي: ائتوه فالقوه واحتجوا عليه، وانظروا ما رأيه؟ -وهذا في أول ذي الحجة سنة 36هـ- فأتوه، ودخلوا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 218- خطبة بشير بن عمرو : فحمد الله أبو عمرة بشير بن عمرو، وأثنى عليه، وقال: "يا معاوية: إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله عز وجل محاسبك بعملك، وجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها". فقطع عليه الكلام، وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: "إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر، في الفضل، والدين، والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: فيقول ماذا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عز وجل، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في عاقبة أمرك". قال معاوية: ونطل دم عثمان رضي الله عنه! لا والله لا أفعل ذلك أبدًا، فذهب سعيد بن قيس يتكلم، فبادره شبث بن ربعي، فتكلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 219- خطبة شبث بن ربعي : فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: "يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلا قولك: "قتل إمامكم مظلومًا، فنحن نطلب بدمه" فاستجاب لك سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، ورب متمني أمر وطالبه، الله عز وجل يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمني أمنيته، وفوق أمنيته، ووالله ما لك في واحدة منهما خير، لئن أخطأت ما ترجو، إنك لشر العرب حالًا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنى لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي1 النار، فاتق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله".   1 صلي النار: كرضي، وصلي بها صليا بكسر الصاد وضمها، قاسى حرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 320- خطبة معاوية : فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن أول ما عرفت فيه سفهك: وخفة حلمك، قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه، ثم عنيت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولومت1،   1 لامه لومًا: عذله، وألامه ولوَّمه للمبالغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 أيها الأعرابي الجلف1 الجافي في كل ما ذكرت ووصفت، انصرفوا من عندي، فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف". وغضب وخرج القوم وشبث يقول: أفعلينا تهول بالسيف؟ أقسم بالله ليعجلن بها إليك، فأتوا عليا، وأخبروه بالذي كان من قوله، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف، فيخرج معه جماعة، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ورجالهما، ثم ينصرفان، وكانوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشأم، لما يتخوفون أن يكون في ذلك الاستئصال والهلاك. "تاريخ الطبري 5: 242".   1 الجلف: الرجل الجافي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وفد علي إلى معاوية أيضا ً مدخل ... وفد علي إلى معاوية أيضًا: ولما دخلت سنة 37هـ توادعا على ترك الحرب في المحرم إلى انقضائه، طمعًا في الصلح واختلفت فيما بينهما الرسل في ذلك دون جدوى، فبعث علي عدي بن حاتم، ويزيد بن قيس، وشبث بن ربعي، وزياد بن خصفة إلى معاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 221- خطبة عدي بن حاتم : فلما دخلوا حمد اللهَ عديُّ بن حاتم، ثم قال: "أما بعد: فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية، لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 222- جواب معاوية : فقال معاوية: "كأنك إنما جئت متهددًا، لم تأت مصلحًا! هيهات يا عدي، كلا والله، إني لابن حرب1 ما يقعقع2 لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على   1 هو جده. 2 القعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت، والشنان: جمع شن بالفتح، وهو القربة البالية، وإذا قعقع بالشنان للإبل نفرت، وهو مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ابن عفان رضي الله عنه، وإنك لمن قَتَلَتِه، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل1 الله عز وجل به، هيهات يا عدي بن حاتم، قد حلبت بالساعد الأشد2". فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة -وتنازعا جوابًا واحدًا: "أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه".   1 أي يقتله. 2 يعني بذلك قوة استعداده للقتال وتأهبه له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 223- خطبة يزيد بن قيس : وتكلم يزيد بن قيس فقال: "إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن -على ذلك- لن ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وأنك راجع به إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك، إن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي، ولن يميلوا1 بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية، ولا تخالف عليا، فإنا والله ما رأينا رجلًا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه".   1 التمييل بين الشيئين، كالترجيح بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 224- خطبة معاوية : فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا1 وقتَلَتَنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا، ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا، فلنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة". فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار2 تقتله؟ فقال معاوية:   1 الثأر: قاتل حميمك. 2 هو عمار بن ياسر رضي الله عنه، أحد السابقين الأولين، وقد عذبه المشركون في بدء الدعوة الإسلامية فاحتمل العذاب، وكان يعذب هو وأخوه وأبوه وأمه بالنار، فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صبرًا آل ياسر فموعدكم الجنة. اللهم اغفر لآل ياسر" ومراد شبث بهذا القول إحراج معاوية. لقوله عليه الصلاة والسلاة لعمار: "تقتلك الفئة الباغية": أي إنك يا معاوية إن قتلت عمارًا –وكان من أصحاب علي- كنت من الفئة الباغية. وتفصيل الخبر في ذلك ما روته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب وما يحتاج إليه، ثم قام فوضع رداءه فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون. لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذن لعمل مضلل قالت: وكان عثمان بن عفان رجلًا نظيفًا متنظفًا، فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه، ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شيء من التراب نفضه فنظر إليه علي رضي الله عنه فأنشد: لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها راكعا وساجدا وقائما طورا وطورا قاعدا ... ومن يرى عن التراب حائدا فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني، فسمعه عثمان فقال: يابن سمية " وسمية أمه" ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة، فقال لتكفن أو لأعترضن بها وجهك، فسمعه النبي وهو جالس في ظل حائط فقال: "عمار جلدة ما بين عيني وأنفي" فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني، وأشار بيده فوضعها بين عينيه فكف الناس عن ذلك، وقالوا لعمار: إن رسول الله قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فأقبل عليه فقال: يا رسول الله مالي ولأصحابك؟ قال: مالك ولهم؟ قال يريدون قتلي، يحملون لبنة ويحملون علي لبنتين، فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول "يا بن سمية لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية" فلما قتل بصفين، وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال معاوية: هم قتلوه؛ لأنهم أخرجوه إلى القتل، فلما بلغ ذلك عليا قال: ونحن قتلنا أيضًا حمزة؛ لأنا أخرجناه "العقد الفريد 2: 237". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وما يمنعني من ذلك؟ والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان، فقال شبث: "وإله الأرض وإله السماء، ما عدلت معتدلًا1، لا والذي لا إله إلا هو، لا تصل إلى عمار، حتى تندر2 الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها3 فقال له معاوية: "إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق" وتفرق القوم عن معاوية، فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن خصفة التميمي فخلا به. فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليًّا قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر بأسرتك وعشيرتك، ثم لك عهد الله جل وعز وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت4 أي المصرين أحببت، قال زياد: فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله عز وجل وأثنيت عليه ثم قلت: "أما بعد فإني على بينة من ربي، وبما أنعم عليّ، فلن أكون ظهيرًا5 للمجرمين" ثم قمت. "تاريخ الطبري 6: 2".   1 أي إنك إذا عدلت عمارًا بناتل مولى عثمان: أي سويت بينهما لم تكن معتدلًا في حكمك. 2 ندر الشيء كنصر ندورًا: سقط جوف شيء أو من بين أشياء فظهر. والهام الرءوس: جمع هامة. 3 الرحب بالضم: الاتساع. 4 أي غلبت وانتصرت. 5 معينًا وناصرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وفد معاوية إلى علي مدخل ... وفد معاوية إلى علي: وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 225- خطبة حبيب بن مسلمة : فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفة مهديًّا، يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه، فقتلتموه رضي الله عنه، فادفع إلينا قتلة عثمان –إن زعمت أنك لم تقتله- نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم". فقال له علي بن أبي طالب: "وما أنت لا أم لك والعزل، وهذا الأمر؟ اسكت؛ فإنك لست هناك، ولا بأهل له" فقام، وقال له: "والله لتريني بحيث تكره"، فقال علي: "وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي، أحقرة1 وسوءًا، اذهب فصوِّب وصعِّد ما بدا لك. وقال شرحبيل بن السمط:   1 في كتب اللغة: حقره حقرًا بفتح الحاء وحُقرية بضمها وتشديد الياء ولم أجد كلمة "حقرة" وأرى أنها مثل هزأة وضحكة، يقال: رجل هزأة بضم الهاء وسكون الزاى أي يهزأ به وضحكة كذلك أي يضحك منه، فالمعنى أتكون حقرة أي حقيرًا وتسوءني سوءًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 إني إن كلمتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال علي: نعم لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 226- خطبة علي بن أبي طالب : فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإن الله جل ثناؤه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، فأنقذ به من الضلالة، وانتاش1 به من الهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه، صلى الله عليه وسلم، ثم استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، وقد وجدنا2 عليهما أن توليا علينا، ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف إن لم تفعل أن تفترق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني3، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عز وجل له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق4 بن طليق، حزب5 من هذه الأحزاب، لم يزل الله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين عدوًّا، هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين،   1 انتشل وأخرج. 2 وجد عليه: غضب. 3 يعني طلحة والزبير وما كان منهما من الخلاف عليه، وانضمامهما إلى السيدة عائشة. 4 الطلقاء: هم الذين عفا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. 5 حزب بدل من طليق الثاني: أي ابن حزب من هذه الأحزاب التي تألبت وتظاهرت على حربه صلى الله عليه وسلم من قريش، وغطفان، وبني مرة، وبني أشجع، وبني سليم، وبني أسد "في غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق سنة 5هـ" وكانت عدة الجميع عشرة آلاف مقاتل، وقائدهم العام أبو سفيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فلا غرو1 إلا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم صلى الله عليه وسلم، الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحدًا، ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة". فقالا: "اشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلومًا" فقال لهما: "لا أقول إنه قتل مظلومًا ولا إنه قتل ظالمًا". قالا: "فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلومًا، فنحن منه برآء" ثم قاما فانصرفا، فقال علي: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80- 81] . "تاريخ الطبري 6: 4".   1 فلا غرو: أي لا عجب، وقوله: إلا خلافكم معه: أي خلافكم علي معه، أو هو "حلافكم معه" بالحاء: أي محالفتكم له، ومناصرتكم إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 التحريض على القتال من قبل معاوية : 227- خطبة عمرو بن العاص "المتوفى سنة 43هـ": لما بلغ معاوية أن الإمام عليًا "كرم الله وجهه" يجهز الجيوش لقتاله، دعا عمرو بن العاص، فاستشاره، فقال: "أما إذ بلغك أنه يسير فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك". قال: "أما إذًا يا أبا عبد الله فجهز الناس". فجاء عمرو فحضض الناس، وضعف عليًا وأصحابه، وقال: "إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة مخالفون لعلي، وقد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، منهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تطلوه". "تاريخ الطبري 5: 236". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 228- خطبة أخرى لعمرو بن العاص : وخطب عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين، يحرض أهل الشأم "وقد كان منحنيًا على قوس" فقال: "الحمد لله العظيم في شأنه، القوي في سلطانه، العلي في مكانه، الواضح في برهانه، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، في كل رزية من بلاء1، أو شدة أو رخاء،   1 البلاء: يكون محنة، ويكون منحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين ما أصبح في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من اشتعال نيرانها، واضطراب حبلها، ووقوع بأسها بينها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين. أولا تعلمون أن صلاتنا وصلاتهم، وصيامنا وصيامهم، وحجنا وحجهم، وقبلتنا وقبلتهم، وديننا ودينهم واحد؟ ولكن الأهواء مختلفة، اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها، واحفظ فيما بيننا، مع أن القوم قد وطئوا بلادكم، وبغوا عليكم، فجدوا في قتال عدوكم، واستعينوا بالله ربكم، وحافظوا على حرماتكم1" ثم جلس. "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 504".   1 جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 229- خطبة معاوية بن أبي سفيان يحرض أهل الشأم : وقام معاوية في أهل الشأم خطيبًا، فقال: "أيها الناس: أعيرونا جماجمكم وأنفسكم1، لا تقتلوا2، ولا تتخاذلوا3، فإن اليوم يوم أخطار، ويوم حقيقة وحفاظ4، إنكم لعلى حق، وبأيديكم حجة، إنما تقاتلون من نكث البيعة، وسفك الدم الحرام، فليس له من السماء عاذر، قدموا أصحاب السلاح المستلئمة5، وأخروا الحاسر6، واحملوا بأجمعكم، فقد بلغ الحق مقطعه، وإنما هو ظالم ومظلوم". "شرح ابن أبي الحديد 1: 481".   1 أي جودوا برءوسكم، ولا تبخلوا بنفوسكم على القتل. 2 في الأصل "لا تقتتلوا" على أن الفعل مجزوم بلا الناهية، وأراه محرفًا، وإنما هو "لا تقتلوا" مجزوم في جواب الأمر، أي إن تسخوا ببذل رءوسكم ونفوسكم وتقاتلوا مستبسلين تنجوا من القتل. 3 في الأصل "ولا تتجادلوا" وأراه مصحفًا عن "ولا تتخاذلوا" أي لتتعاونوا، ولا يخذل بعضكم بعضًا. 4 أي يوم محافظة على الأرواح والأعراض والأموال ودفاع عنها. 5 استلأم: لبس اللأمة، وهي الدرع. 6 الحاسر: من لا مغفر له، ولا درع، أو لا جنة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 230- خطبة ذي الكلاع الحميري : 1 وطلب معاوية إلى ذي الكلاع الحميري أن يخطب الناس، ويحرضهم على قتال علي رضي الله عنه ومن معه من أهل العراق، فعقد فرسه "وكان من أعظم أصحاب معاوية خطرًا2" وخطب الناس فقال: "الحمد لله حمدًا كثيرًا، ناميًا واضحًا منيرًا، بكرةً وأصيلًا، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وكفى بالله وكيلًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالعرفان إمامًا، وبالهدى ودين الحق، حين ظهرت المعاصي، ودرست3 الطاعة، وامتلأت الأرض جورًا وضلالة، واضطرمت الدنيا نيرانًا وفتنة، وورك4 عدو الله إبليس على أن يكون قد عبد في أكنافها، واستولى على جميع أهلها، فكان محمد صلى الله عليه وآله هو الذي أطفأ الله به نيرانها، ونزع به أوتادها، وأوهن به قوى إبليس، وآيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم، وأظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. ثم كان من قضاء الله أن ضم بيننا وبين أهل ديننا بصفين، وإنا لنعلم أن فيهم قومًا، قد كانت لهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله سابقة ذات شأن وخطر عظيم، ولكني ضربت الأمر ظهرًا وبطنًا، فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان، صهر نبينا صلى الله عليه وآله، الذي جهز جيش العسرة5، وألحق في مصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بيتًا،   1 هو ذو الكلاع الأصغر سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر يزيد بن النعمان وهما من أذواء اليمن. 2 أي شأنًا وقدرًا. 3 امَّحت. 4 ورك على الأمر وروكًا: قدر. 5 وذلك أنه في غزوة تبوك –وكانت سنة تسع للهجرة- أنفق في تجهيز المقاتلة من المسلمين عشرة آلاف دينار، وأعطى ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها "والأحلاس جمع حلس بالكسر: وهو كساء على ظهر البعير تحت البرذعة. والأقتاب جمع قتب بالتحريك: وهو ما يوضع على سنام البعير" وخمسين فرسًا، فقال= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وبنى سقاية1، وبايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى2، واختصه بكريمتيه أم كلثوم ورقية3، فإن كان قد أذنب ذنبًا، فقد أذنب من هو خير منه، وقد قال الله سبحانه لنبيه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقتل موسى نفسًا4، ثم استغفر الله   = عليه الصلاة والسلام: "اللهم ارض عن عثمان، فإني راض عنه" وكان ذلك في زمن عسرة الناس وجدب البلاد، وشدة الحر، قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي وقتها، وهي حالهم في تلك الغزوة، ذكروا أن الرجلين كانا يقتسمان تمرة، وأن العشرة كانوا يعتقبون البعير الواحد. 1 وذلك أنه اشترى بئر رومة "بضم الراء: بئر بالمدينة" ثم تصدق بها على المسلمين، فكان رشاؤه فيها كرشاء أحدهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من حفر بئر رومة فله الجنة" وأشرف عثمان رضي الله عنه على الثوار حين حصروه ومنعوا الماء عنه، فقال: أنشدكم الله، هل علمتم أني اشتريت رومة من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين؟ قيل: نعم، قال: فما يمنعني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ ثم قال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم، قال: فهل علمتم أحدًا من الناس منع أن يصلي فيه قبلي؟ ثم قال: أنشدكم الله، هل سمعتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكر كذا وكذا -أشياء في شأنه، فجعل الناس يقولون: مهلًا عن أمير المؤمنين. 2 وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصد إلى مكة في غزوة الحديبية "سنة ست للهجرة" بعث عثمان بن عفان إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه إنما جاء زائرًا للبيت ومعظمًا لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة وبلغ الرسالة، واحتبسته قريش عندها، فشاع عند المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا نبرح حتى نناجز القوم"، ودعا المسلمين إلى البيعة على الموت، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وبايع عليه الصلاة والسلام لعثمان، فضرب بيده اليمنى على يده اليسرى وقال: "هذه يد عثمان". 3 تزوج عثمان السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ماتت جزع عثمان عليها، وقال: يا رسول الله انقطع صهري منك، قال: "إن صهرك مني لا ينقطع، وقد أمرني جبريل أن أزوجك أختها بأمر الله: السيدة أم كلثوم". 4 وذلك أنه في إبان نشأته بمصر دخل مدينة منف ذات مرة، فوجد فيها رجلين يقتتلان قبطيًّا يسخر إسرائيليًّا ليحمل حطبًا إلى مطبخ فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي، فقال موسى للقطبي: خل سبيله، فقال له: لقد هممت أن أحمله عليك، فوكزه موسى "أي ضربه بجمع كفه" وكان شديد القوة والبطش، فقتله، ولم يكن يقصد قتله "وذكروا أنه كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة" وقد اغتم لذلك خوفًا من عقاب الله. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فغفر له، وقد أذنب نوح1، ثم استغفر الله فغفر له، وقد أذنب أبوكم آدم2، ثم استغفر الله فغفر له، ولم يعر أحدكم من الذنوب، وإنا لنعلم. وقد كانت لابن أبي طالب سابقة حسنة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن لم يكن مالأ3 على قتل عثمان فقد   = ومن اقتصاص فرعون، واستغفر الله، فغفر له، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة القصص: 15- 16] وقال تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [سورة طه] 1 يشير إلى ما كان من نوح عليه السلام بشأن ابنه كنعان حين حدث الطوفان، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} إلى أن قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} "أي وقد وعدتني بنجاتهم" {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة هود] . 2 وذلك أنه إذ أسكنه الله هو وزوجه حواء الجنة، وأباح لهما أن يأكلا من حيث شاءا، نهاه أن يقرب شجرة عينها له، فوسوس له إبليس أن يأكل منها فأطاعه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [سورة الأعراف] . 3 ناصر وشايع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 خذله، وإنه لأخوه في دينه، وابن عمه1، وسلفه2، وابن عمته3، ثم قد أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم وبلادكم وبيضتكم4، وإنما عامتهم بين قاتل وخاذل، فاستعينوا بالله واصبروا، فلقد ابتليتم أيتها الأمة، ولقد رأيت في منامي في ليلتي هذه، لكأنا وأهل العراق اعتورنا5 مصحفا نضربه بسيوفنا، ونحن في ذلك جميعًا ننادي: ويحكم الله! ومع أنا والله لا نفارق العرصة6 حتى نموت، فيكم بتقوى الله، وليكن الثبات لله، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "إنما يبعث المقتتلون على الثبات" أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وأعز لنا ولكم النصر، وكان لنا ولكم في كل أمر، وأستغفر الله لي ولكم". "شرح ابن أبي الحديد: 1: 484".   1 عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. 2 السلف "بفتح فكسر وبكسر فسكون" من الرجل: زوج أخت امرأته وقد علمت أن عثمان تزوج السيدة رقية أخت السيدة فاطمة زوج الإمام علي. 3 أم عثمان هي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم. 4 البيضة: ساحة القوم. 5 اعتوروا الشيء: تداولوه. 6 العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 خطبة يزيد بن أبي أسد البجلي ... 231- خطبة يزيد بن أسد البجلي: وقام يزيد بن أسد البجلي في أهل الشأم يخطب بصفين، وعليه قباء من خز وعمامة سوداء، آخذًا بقائم سيفه، واضعًا نصل السيف في الأرض متوكئًا عليه، فقال: "الحمد لله الواحد الفرد، ذي الطول1 والجلال، العزيز الجبار، الحكيم الغفار، الكبير المتعال، ذي العطاء والفعال2، والسخاء والنوال، والبهاء والجمال، والمن   1 الطول: الفضل والقدرة والغنى. 2 الفعال: اسم الفعل الحسن، والكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والإفضال، مالك اليوم الذي لا بيع فيه1 ولا خلال2، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وفي كل حال من شدة أو رخاء، أحمده على نعمه التوام، وآلائه العظام، حمدًا يستنير بالليل والنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة النجاة في الحياة الدنيا وعند الوفاة، وفيها الخلاص يوم القصاص، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، وإمام الرحمة والهدى، صلى الله عليه وآله. ثم كان من قضاء الله أن جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض، والله يعلم أني كنت كارهًا لذلك، ولكنهم لم يبلعونا ريقنا، ولم يتركونا نرتاد لأنفسنا، وننظر لمعادنا، حتى نزلوا بين أظهرنا، وفي حريمنا وبيضتنا3، وقد علمنا أن في القوم أحلامًا وطغامًا4، ولسنا نأمن طغامهم على ذرارينا ونسائنا، ولقد كنا نحب أن لا نقاتل أهل ديننا، فأخرجونا حتى صارت الأمور إلى أن قاتلناهم عدا حمية5، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين. أما والذي بعث محمدًا بالرسالة لوددت أني مت منذ سنة، ولكن الله إذا أراد أمرًا لم يستطع العباد رده، فنستعين بالله العظيم، وأستغفر الله لي ولكم". "شرح ابن أبي الحديد 1: 485 والأغاني 19: 55".   1 لا بيع فيه فيباع المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه. 2 الخلال والمخالة مصدر خال: المصادقة، أي ولا مخالة فيه فيشفع لك خليلك. 3 البيضة: ساحة القوم. 4 الحلم بالكسر: الأناة والعقل، وهو حليم والجمع حلماء وأحلام، والطغام: أوغاد الناس. 5 الحمية: الأنفة "وفي الأصل غدا، وأرى صوابه عدا أي أعداء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 التحريض على القتال من قبل الإمام علي أيضًا: 232- خطبة الإمام علي : وخطب الإمام علي كرم الله وجهه أصحابه، متوكئًا على قوسه، وقد جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله عنده فهم يلونه -كأنه أحب أن يعلم الناس أن الصحابة متوافرون معه- فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أما بعد: فإن الخيلاء1 من التجبر، وإن النخوة2 من التكبر، وإن الشيطان عدو حاضر، يعدكم الباطل. ألا إن المسلم أخو المسلم، فلا تنابذوا، ولا تخاذلوا، ألا إن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة3، من أخذ بها لحق4، ومن فارقها محق5، ومن تركها مرق6، ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن، ولا بالمخلف إذا وعد، ولا بالكذاب إذا نطق، نحن أهل بيت الرحمة، وقولنا الصدق، وفعلنا الفضل، ومنا خاتم النبيين، وفينا قادة الإسلام، وفينا حملة الكتاب، ألا إنا ندعوكم إلى الله، وإلى رسوله، وإلى جهاد عدوه، والشدة في أمره، وابتغاء مرضاته، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان، وتوفير الفيء على أهله، ألا وإن من أعجب   1 الخيلاء: الكبر. 2 النخوة: الافتخار والتعظم. 3 القصد: استقامة الطريق. 4 أي أدرك رضا الله وثوابه. 5 محقه: محاه، ومحق الله الشيء ذهب ببركته. 6 أي خرج عن الدين، وأصله من مرق السهم من الرمية مروقًا: إذا خرج من الجانب الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 العجائب أن معاوية بن أبي سفيان الأموي، وعمرو بن العاص السهمي، أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما، ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله صلى الله عليه وآله قط، ولم أعصه في أمر، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص1 فيها الأبطال وترعد فيها الفرائص2، بنجدة أكرمني الله سبحانه بها وله الحمد، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن رأسه لفي حجري، ولقد وليت غسله بيدي وحدي تقلبه الملائكة المقربون معي، وايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها، إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 481".   1 نكص عن الأمر: أحجم عنه. 2 جمع فريصة، وهي لحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 233- خطبة أخرى له: وروي أن الإمام عليًا قال في هذه الليلة: حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا؟ فقام في الناس فقال: "الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، ولا ينقض ما أبرم، لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة، ولا من خلقه، ولا تنازع البشر في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، حتى لفت بيننا في هذا الموضع، ونحن من ربنا بمرأى ومسمع، ولو شاء لعجل النقمة، ولكان منه النصر، حتى يكذب الله الظالم، ويعلم المحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دارالأعمال، والآخرة دار الجزاء والقرار، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ألا إنكم لاقو العدوِّ غدًا إن شاء الله، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالحد والحزم وكونوا صادقين". "شرح ابن أبي الحديد م 1 ص 481 وتاريخ الطبري 6: 7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 234- ومن كلام له كرم الله وجهه : كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين. "معاشر المسلمين: استشعروا1 الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ2، فإنه أنبى للسيوف عن الهام3، وأكملوا اللأمة4، وقلقلوا السيوف في أغمادها، قبل سلها5، والحظوا الخزر6، واطعنوا الشزر7، ونافحوا بالظبا8، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين9 الله، ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعاودوا الكر، واستحيوا من الفر، فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، وطيبوا عن أنفسكم نفسا، وامشوا إلى الموت مشيا سجحًا10، وعليكم بهذا السواد11 الأعظم، والرواق المطنب12، فاضربوا ثبجه13، فإن الشيطان كامن في كسره14، قد قدم للوثبة يدا، وأخر للنكوص رجلًا، فصمدًا صمدًا15، حتى ينجلي لكم عمود الحق، وأنتم الأعلون، الله معكم، ولن يتركم16 أعمالكم". "نهج البلاغة 1: 57".   1 استشعر: لبس الشعار وهو ما يلي البدن من الثياب. وتجلبب: لبس الجلباب، والمراد: لازموا الخشية والسكينة. 2 النواجذ جمع ناجذ: أقصى الأضراس، ويعض المرء نواجذه حين يشتد غيظه، والمراد: استجمعوا كل قوتكم. 3 فإنه: الضمير فيه يعود على المصدر المفهوم من الفعل السابق: أي فإن العض على النواجذ أنبى للسيوف، أي أدعى إلى نبوها عن رءوسكم، نبا السيف عن الضريبة: كَلَّ، والهام: الرءوس جمع هامة. 4 اللأمة: الدرع، ويجوز أن يعبر باللأمة عن جميع أدوات الحرب، يريد أكملوا السلاح. 5 مخالفة أن تستعصي عن الخروج وقت سلها. 6 الخزر: النظر في أحد الشقين، وتلك أمارة الغضب. 7 الطعن في الجوانب يمينًا وشمالًا. 8 نافحوا: كافحوا وضاربوا، والظبا: جمع ظبة وهي حد السيف. 9 أي ملحوظون بها. 10 اللين: السهل. 11 العدد الكثير. يعني جمهور أهل الشأم. 12 الرواق: بكسر الراء وضمها الفسطاط، يريد به مضرب معاوية المطنب، أي المشدود بالأطناب "جمع طنب بضمتين، وهو الحبل" وكان معاوية في مضرب عليه قبة عالية وحوله صناديد أهل الشأم. 13 أي وسطه. 14 جانبه. 15 الصمد: القصد، صمده من باب نصر قصده. 16 لن ينقصكم منها شيئًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 235- خطبة أخرى للإمام : وخطب الإمام علي ذلك اليوم أيضًا، فقال: "أيها الناس: إن الله تعالى ذكره، قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب، وتشفي1 بكم على الخير، إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله، وجعل ثوابه مغفرة الذنوب، ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله أكبر، وأخبركم بالذي يحب فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، وأربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وأولى بالوقار، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمْوَر2 للأسنة، ورايتكم فلا تميلوها، ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، المانعي الذمار3، والصبر عند نزول الحقائق، أهل الحفاظ الذين يخفرون4 برايتكم ويكنفونها يضربون خلفها وأمامها، ولا يضيعونها، أجزأ كل امرئ مسلم قرنه5، وواسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجمع عليه قرنه وقرن أخيه، فيكسب بذلك اللائمة، ويأتي به دناءة، أنى هذا، وكيف يكون هذا؟ هذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك يده، قد خلى قرنه إلى أخيه هاربًا منه، أو قائمًا ينظر إليه؟ من يفعل هذا مقته الله، فلا تعرضوا لمقت الله، فإنما مردكم إلى الله، قال الله تعالى لقوم عابهم: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا   1 أشفى عليه: أشرف. 2 اسم تفضيل من مار، سهم مائر: أي خفيف نافذ داخل في الأجسام. 3 ما يلزمك حفظه وحمايته. 4 خفره وبه وعليه يخفر بكسر الفاء وضمها: أجاره ومنعه وآمنه. 5 القرن: كفؤك في الشجاعة "أو عام" وأجزأه: أغناه وكفاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 قَلِيلاً} وايم الله إن فررتم من سيف الله العاجلة، لا تسلمون من سيف الآخرة، استعينوا بالصدق والصبر، فإنه بعد الصبر ينزل النصر". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 483 وتاريخ الطبري 6: 9". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 236- خطبة للإمام علي: ومر الإمام علي كرم الله وجهه على جماعة من أهل الشأم، فيها الوليد بن عقبة وهم يشتمونه، فخبر بذلك، فوقف فيمن يليهم من أصحابه، فقال: "انهدوا1 إليهم، عليكم السكينة والوقار، وقار الإسلام وسيمى الصالحين، فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم2 معاوية وابن النابغة3 وأبو الأعور السلمي، وابن أبي معيط، شارب الخمر، المجلود حدًّا في الإسلام، وهم أولى من يقومون، فينقصونني ويجدبونني4، وقبل اليوم ما قاتلوني، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام، الحمد لله قديمًا عاداني الفاسقون، فعبدهم5 الله، ألم يفنخوا6؟ إن هذا لهو الخطب الجليل، إن فساقا كانوا غير مرضيين، وعلى الإسلام وأهله متخوفين، خدعوا شطر هذه الأمة، وأشربوا قلوبهم حب الفتنة، واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان، قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور الله عز وجل، اللهم فافضض خدمتهم7، وشتت كلمتهم، وأبسلهم8 بخطاياهم، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت"، "تاريخ الطبري 6: 24".   1 نهد الرجل: نهض، ونهد لعدوه: صمد له. 2 الأذين والمؤذن: الزعيم. 3 هو عمرو بن العاص، والنابغة: لقب أمه سلمى بنت حرملة. 4 الجدب بالتسكين: العيب. 5 ذللهم. المعبد: المذلل من الطريق وغيره. 6 الفنخ بالسكون: القهر، والغلبة والتذليل كالتفنيخ "وفي الأصل: "ألم يفتحوا" وهو تصحيف". 7 يقال: فض الله خدمتهم، أي فرق جماعتهم، الخدمة بالتحريك سير غليظ مضفور مثل الحلقة يشد في رسغ البعير، ثم يشد إليه سرائح النعل "أي سيورها: جمع سريحة" فإذا انفضت الخدمة انحلت السرائح وسقطت النعل، فضرب ذلك مثلًا لذهاب ما كانوا عليه وتفرقه، وشبه اجتماع أمرهم واتساقه بالحلقة المستديرة. 8 أبسله: أسلمه للهكلة، أي أهلكهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 237- خطبة أخرى له: ومر بأهل راية، فرآهم لا يزولون عن موقفهم، فحرض عليهم الناس -وذكر أنهم غسان- فقال: "إن هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن دراك، يخرج منهم النسم1، وضرب يفلق منه الهام2. ويطيح 3 العظام، وتسقط منه المعاصم4 والأكف. وحتى يصدع جباههم بعمد الحديد، وتنتشر حواجبهم على الصدور والأذقان، أين أهل الصبر، وطلاب الأجر؟ ". "تاريخ الطبري 6: 25".   1 جمع نسمة، وهي نفس الروح "بفتح الفاء" ثم سميت بها النفس "بالسكون". 2 جمع هامة، وهي الرأس. 3 يصح أن يكون مضارع طيح بالتشديد: طيح بثوبه: رمى به في مضيعة، وطيح الشيء: ضيعه، وأن يكون مضارع أطاح: أطاح شعره أسقطه، والشيء أفناه وأذهبه، وأن يكون مضارع طاح: طاح يطيح ويطوح هلك، أو أشرف على الهلاك وذهب وسقط وتاه في الأرض. 4 جمع معصم بكسر الميم، وهو موضع السوار أو اليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 238- خطبة عبد الله بن عباس : وخطب عبد الله بن عباس أهل العراق بصفين، فقال: "الحمد لله رب العالمين، الذي دحا1 تحتنا سبعًا، وسمك2 فوقنا سبعًا، وخلق فيما بينهن خلقًا، وأنزل لنا منهن رزقًا، ثم جعل لكل شيء قدرًا، يبلى ويفنى، غير وجهه الحي القيوم، الذي يحيا ويبقى.   1 دحا الله الأرض يدحوها ويدحاها: بسطها. 2 أي رفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 إن الله تعالى بعث أنبياء ورسلًا، فجعلهم حججًا على عباده عذرًا ونذرًا1، لا يطاع إلا بعلمه وإذنه، يمن بالطاعة على من يشاء من عباده، ثم يثيب عليها، ويعصى بعلم منه، فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا يبلغ شيء مكانه، أحصى كل شيء عددًا، وأحاط بكل شيء علمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الهدى والنبي المصطفى. وقد ساقنا قدر الله إلى ما ترون، حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة، وانتشر من أمرها، أن معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانًا على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، وأول ذكر صلى معه، بدري2 قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله كل مشاهده التي فيها الفضل، ومعاوية مشرك كان يعبد الأصنام، والذي ملك الملك وحده، وبان به وكان أهله، لقد قاتل علي بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: صدق الله ورسوله، ومعاوية يقول: كذب الله ورسوله، فعليكم بتقوى الله، والجد والحزم والصبر، والله إنا لنعلم أنكم لعلى حق، وأن القوم لعلى باطل، فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم، وإنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم، اللهم أعنا ولا تخذلنا، وانصرنا على عدونا، ولا تحل عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 504".   1 هما مصدران: عذره يعذره عذرًا بضم فسكون وبضمتين وأنذره إنذارًا ونذرًا بضم فسكون وبضمتين: أو جمعان: العذر بضمتين جمع عذير وهو العاذر، والنذر بضمتين جمع نذير وهو المنذر. 2 أي حضر غزوة بدر الكبرى التي نشبت بين رسول الله عليه الصلاة والسلام وبين مشركي قريش في السنة الثانية للهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 239- خطبة عبد الله بن بديل الخزاعي : وقام عبد الله بن بديل الخزاعي في أصحابه فخطبهم، فقال: "إن معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الأمر أهله، ومن ليس مثله، وجادل بالباطل، ليدحض1 به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس2 عليهم الأمور، وزادهم رجسًا3 إلى رجسهم، وأنتم والله على نور وبرهان، قاتلوا الطغام الجفاة، قاتلوهم ولا تخشوهم، وكيف تخشونهم؟ وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين، قوله سبحانه: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} لقد قاتلتهم مع النبي صلى الله عليه وآله، والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبر، انهضوا إلى عدو الله وعدوكم، بارك الله عليكم". "شرح ابن أبي الحديد 1: ص 483 وتاريخ الطبري 6: 9".   1 دحضت الحجة: بطلت، وأدحضتها: أبطلتها. 2 التلبيس: التخليط. 3 الرجس: القذر والمأثم، وكل ما استقذر من العمل، والعمل المؤدي إلى العذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 240- خطبة أبي الهيثم بن التيهان : وكان أبو الهيثم بن التيهان يسوي صفوف أهل العراق، ويقول: "يا معشر أهل العراق، إنه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل، والجنة في الآجل، إلا ساعة من النهار، فأرسلوا أقدامكم، وسووا صفوفكم، أعيروا ربكم جماجمكم، واستعينوا بالله إلهكم، وجاهدوا عدو الله وعدوكم، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم. واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". "شرح ابن أبي الحديد 1: ص 484". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 241- خطبة للإمام علي: وخطب علي عليه السلام بصفين أيضًا فقال: "الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر، وعلى حججه البالغة على خلقه من أطاعه منهم ومن عصاه، إن يرحم؛ فبفضله ومنه، وإن عذب؛ فبما كسبت أيديهم، وإن الله ليس بظلام للعبيد، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وأستعينه على ما نابنا من أمر الدنيا والآخرة، وأتوكل عليه، وكفى بالله وكيلًا. ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ارتضاه لذلك وكان أهله، واصطفاه لتبليغ رسالته وجعله رحمة منه على خلقه. فكان علمه فيه رءوفًا رحيمًا، أكرم خلق الله حسبًا، وأجملهم منظرًا، وأسخاهم نفسًا، وأبرهم لوالد، وأوصلهم لرحم، وأفضلهم علمًا، وأثقلهم حلمًا، وأوفاهم لعهد، وآمنهم على عقد، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط، بل كان يظلم فيغفر ويقدر فيصفح، حتى مضى صلى الله عليه وآله مطيعًا لله، صابرًا على ما أصابه، مجاهدًا في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وآله، فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البر والفاجر، ثم ترك فيكم كتاب الله يأمركم بطاعة الله، وينهاكم عن معصيته. وقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا، فلست أحيد عنه، وقد حضرتم عدوكم، وعلمتم أن رئيسهم منافق يدعوهم إلى النار، وابن عم نبيكم معكم وبين أظهركم يدعوكم إلى الجنة، وإلى طاعة ربكم، والعمل بسنة نبيكم، ولا سواء1 من صلى قبل كل ذكر، لا يسبقني بصلاة مع رسول الله أحد. وأنا من أهل بدر، ومعاوية طليق،   1 أي ولا مثل من صلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 والله إنا على الحق، وإنهم على الباطل، فلا يجتمعن على باطلهم، وتتفرقوا عن حقكم، حتى يغلب باطلهم حقكم، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 503". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 242- خطبة سعيد بن قيس : وقام سعيد بن قيس يخطب أصحابه بقناصرين1، فقال: "الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأورثنا كتابه، وامتن علينا بنبيه، فجعله رحمة للعالمين، وسيد المرسلين، وقائد المؤمنين، وختامًا للنبيين، وحجة الله العظيم، على الماضين والغابرين، ثم كان مما قضى الله وقدره -وله الحمد على ما أحببنا وكرهنا- أن ضمنا وعدونا بقناصرين، فلا يجمل بنا اليوم الحياص2، وليس هذا بأوان انصراف، ولات حين مناص3، وقد خصنا الله بمنه برحمة لا نستطيع أداء شكرها، ولا نقدر4 قدرها، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله المصطفين الأخيار معنا وفي حيزنا، فوالله   1 قال صاحب اللسان والقاموس: قناصرين موضع بالشأم، ولم يذكره ياقوت في معجمه. 2 حاص عنه يحيص حيصا ومحيصا ومحاصا عدل وحاد، والحياص والمحايصة: مفاعلة من الحيص أي العدول والهرب. قال صاحب اللسان: وفي حديث مطرف "بتشديد الراء المكسورة" أنه خرج من الطاعون فقيل له في ذلك، فقال: "هو الموت نحايصه ولا بد منه" "قال أبو عبيد معناه: نروغ عنه" وليس بين العبد والموت مفاعلة، وإنما المعنى أن الرجل في فرط حرصه على الفرار من الموت كأنه يباريه ويغالبه، فأخرجه على المفاعلة لكونها موضوعة لإفادة المباراة والمغالبة بالفعل، كقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيئول معنى نحايصه إلى قولك نحرص على الفرار منه أهـ". 3 النوص والمناص: التأخر والفرار، ناص عن قرنه ينوص: فر وراغ. أي وليس الوقت وقت تأخر وفرار. 4 قدر الشيء قدره من التقدير وبابه ضرب ونصر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الذي هو بالعباد بصير، أن لو كان قائدنا رجلًا مخدوعًا، إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلًا، لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا، وتطيب أنفسنا، فكيف وإنما رئيسنا ابن عم نبينا، بدري صدق، صلى صغيرًا، وجاهد مع نبيكم صلى الله عليه وسلم كثيرًا، ومعاوية طليق من وثاق1 الأسارى، إلا أنه أخو جفاة، فأوردهم النار، وأورثهم العار، والله محل بهم الذل والصغار2، ألا إنكم ستلقون عدوكم غدًا، فعليكم بتقوى الله من الجد والحزم والصدق والصبر، فإن الله مع الصابرين، ألا إنكم تفوزون بقتلهم، ويشقون بقتلكم، والله لا يقتل رجل منكم رجلًا منهم إلا أدخل الله القاتل جنات عدن وأدخل المقتول نارًا تلظى، لا تفتر عنهم وهم فيها مبلسون3، عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه، وجعلنا وإياكم ممن أطاعه واتقاه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم والمؤمنين". "شرح بن أبي الحديد 1: ص 483".   1 الوثاق بالفتح ويكسر: ما يشد به، وأوثقه في الوثاق شده {فَشدُّوا الوَثَاقَ} . 2 الذل والضيم. 3 من أبلس: إذا يئس وتحير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 243- خطبة يزيد بن قيس الأرحبي : وحرض يزيد بن قيس الأرحبي أهل العراق بصفين، فقال: "إن المسلم من سلم دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه، ولا على إحياء حق رأونا أمتناه، ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا، ليكونوا فيها جبابرة وملوكًا، ولو ظهروا عليكم -لا أراهم الله ظهورًا ولا سرورًا- إذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 لوليكم مثل سعيد1 والوليد2 وعبد الله بن عامر3 السفيه، يحدث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت4، ويأخذ مال الله، ويقول: لا إثم علي فيه، كأنما أعطي تراثه من أبيه، كيف؟ إنما هو مال الله، أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا، قاتلوا -عباد الله- القوم الظالمين، الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم فيهم لومة لائم. إنهم إن يظهروا عليكم، يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم. وهم من قد عرفتم وجربتم. والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرًا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم". "تاريخ الطبري 6: 10، شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 485".   1 هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، قتل أبوه العاص يوم بدر كافرًا، قتله علي بن أبي طالب، وقد استعمل عثمان بن عفان سعيدًا على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وولاه معاوية في خلافته المدينة، فكان يوليه إذا عزل مروان بن الحكم عن المدينة ويولي مروان إذا عزله. 2 هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه "أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس" ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، ثم عزله حين اتهم بشرب الخمر، واستعمل بعده سعيد بن العاص. 3 هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو ابن خال عثمان بن عفان، استعمله عثمان على البصرة بعد أبي موسى الأشعري، وولاه أيضًا بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، ولم يزل واليًا على البصرة إلى أن قتل عثمان، وقد ولاه معاوية البصرة ثلاث سنين. 4 ذيت وذيت مثلثة الآخر: أي كيت وكيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 244- خطبة هاشم بن عتبة المرقال : وشد هاشم بن عتبة المرقال1 في عصابة من أصحابه على أهل الشأم مرارًا،   1 هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص، ولقب بالمرقال؛ لأن عليا رضي الله عنه أعطاه الراية بصفين، فكان يرقل بها أي يسرع، وهو الذي افتتح جلولاء من بلاد الفرس، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح، وفقئت عينه يوم اليرموك بالشام، وقتل في وقعة صفين، قطعت رجله يومئذ، فجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فليس من وجه يحمل عليه، إلا صبر له، وقاتل فيه قتالًا شديدًا. فقال لأصحابه: "لا يهولنكم ما ترون من صبرهم. فوالله ما ترون فيهم إلا حمية العرب، وصبرها تحت راياتها، وعند مراكزها، وإنهم لعلى الضلال، وإنكم لعلى الحق، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا إلى عدونا، على تؤدة رويدًا، ثم اثبتوا وتناصروا، واذكروا الله، ولا يسأل رجل أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا1 صمدهم، وجاهدوا محتسبين، حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين". "تاريخ الطبري 6: 23".   1 أي اقصدوا جهتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 245- خطبة عمار بن ياسر : وقام عمار بن ياسر يوم صفين، فقال: "انهضوا معي: عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم، ولو درس1 هذا الدين، لم قتلتموه؟ فقلنا: لأحداثه، فقالوا: إنه لم يحدث شيئًأ؛ وذلك لأنه مكنهم من الدنيا، فهم يأكلونها، ويرعونها، ولا يبالون لو انهدمت الجبال، والله ما أظنهم يطلبون بدم، ولكن القوم ذاقوا الدنيا، فاستحلوها واستمرءوها2، واعلموا أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها، إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام، يستحقون بها الطاعة والولاية، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل إمامنا مظلومًا: ليكونوا بذلك جبابرة وملوكًا، تلك   1 امحى. 2 استمرأ الطعام: وجده مريئًا أي هنيئًا حميد المغبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 مكيدة قد بلغوا ما ترون، ولولاها ما تابعهم من الناس رجل، اللهم إن تنصرنا، فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 504، وتاريخ الطبري 6: 21 والكامل لابن الأثير 3: 123". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 246- خطبة الأشعث بن قيس : وخطب الأشعث بن قيس أصحابه من كندة ليلة الهرير بصفين فقال: "الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأستنصره وأستغفره، وأستجيره، وأستهديه وأستشيره، وأستشهد به، فإنه من هداه الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله ثم قال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا نحن إن تواقفنا غدًا إنه لفنيت العرب، وضُيعت الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا. اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، والرأي يخطئ ويصيب، وإذا قضى الله أمرًا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فاغتنمها وبنى عليها تدبيره. "شرح ابن أبي الحديد م 1: 185". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 247- خطبة الأشترالنخعي: وقام الأشتر يخطب الناس بقناصرين، وهو يومئذ على فرس أدهم مثل حلك1 الغراب، فقال: "الحمد لله الذي خلق السموات العلى، الرحمن على العرش استوى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، حمدًا كثيرًا، بكرة وأصيلًا، من هداه الله فقد اهتدى، ومن يضلل فقد غوى، أرسل محمدًا بالصواب والهدى، فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وآله. ثم قد كان مما قضى الله سبحانه وقدر، أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض، فلفت بيننا وبين عدو الله وعدونا، فنحن بحمد الله ونعمه ومنه وفضله، قريرة أعيننا، طيبة أنفسنا، نرجو بقتالهم حسن الثواب، والأمن من العقاب، معنا ابن عم نبينا، وسيف من سيوف الله، علي بن أبي طالب، صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسبقه إلى الصلاة ذكر، حتى كان شيخًا لم يكن له صبوة2، ولا نبوة3، ولا هفوة، ولاسقطة، فقيه في دين الله تعالى، عالم بحدود الله، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، وعفاف قديم، فاتقوا الله وعليكم بالحزم والجد، واعلموا أنكم على الحق، وأن القوم على الباطل، إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري، سوى من حولكم من أصحاب محمد، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاوية مع رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم،   1 الحلك: شدة السواد، وفي الأصل: "حثل" وهو تحريف. 2 الصبوة: جهلة الفتوة. 3 نبا السهم عن الهدف: قصر ولم يصبه، والمراد أنه لا يعرف عنه تقصير في الدين ولا وهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فمن يشك في قتال هؤلاء؟ إلا ميت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين، إما الفتح، وإما الشهادة، عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه، وأستغفر الله لي ولكم". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 484". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 248- خطبة الأشتر في المنهزمين من الميمنة : ولما انهزمت ميمنة العراق، قال له علي: يا مالك، قال: لبيك، قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: "أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه، إلى الحياة التي لن تبقى لكم" فمضى فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات، وقال: إلي أيها الناس، أنا مالك بن الحاث، أنا مالك بن الحارث، ثم ظن أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: أنا الأشتر، إلي أيها الناس، فأقبلت إليه طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى: أيها الناس، عضضتم بهن1 آبائكم، ما أقبح ماقاتلتم منذ اليوم! أيها الناس: أخلصوا إلي مذحجا2، فأقبلت إليه مذحج فقال: "عضضتم بصتم3 الجندل، ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف بذلك وأنتم أبناء الحروب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح4، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان، الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطل دماؤهم، ولا يعرفون في موطن بخسف5، وأنتم حد أهل مصركم، وأعز حي في قومكم، وما تفعلوا في هذا اليوم، فإنه مأثور بعد اليوم، فاتقوا مأثور الأحاديث في غد، واصدقوا عدوكم اللقاء، فإن الله مع الصادقين، والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء "وأشار بيده   1 الهن: اسم يكنى به عن الفرج. 2 كان الأشتر من النخع "بالتحريك"، وهي قبيلة كبيرة من مذحج باليمن. 3 الصتم: جمع صتمة "كفرصة"، وهي الصخرة الصلبة كالصتيمة. 4 الغارة. 5 الخسف: الذل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 إلى أهل الشأم" رجل على مثال جناح بعوضة من محمد صلى الله عليه وسلم، أنتم ما أحسنتم القراع1، اجلوا سواد وجهي، يرجع في وجهي دمي، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله عز وجل لو قد فضه، تبعه من بجانبيه كما يتبع موخر السبيل مقدمه". قالوا: خذ بنا حيث أحببت. "تاريخ الطبري 6: 11، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 487".   1 المقارعة والمناضلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 249- خطبة أخرى له فيهم : وروى أنه لما اجتمع إليه عظم من كان انهزم من الميمنة حرضهم ثم قال: "عضوا على النواجذ من الأضراس، واستقبلوا القوم بهامكم، وشدوا عليهم شدة قوم موتورين1 ثأرًا بآبائهم وإخوانهم، حناقًا على عدوهم، قد وطنوا على الموت أنفسهم، كيلا يسبقوا بوتر، ولا يلحقوا في الدنيا عارًا، وايم الله ما وتر قوم قط بشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم، وإن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم، ليميتوا السنة ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة، فطيبوا عباد الله أنفسًا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله، والله عنده جنات النعيم وإن الفرار من الزحف فيه السلب للعز، والغلبة على الفيء، وذل المحيا والممات، وعار الدنيا والآخرة، وسخط الله وأليم عقابه". "تاريخ الطبري 6: 12، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 487".   1 وتره: إذا أصابه بوتر، وهو الثأر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 250- خطبة علي فيهم وقد عادوا إلى مواقفهم : ولما رأى الإمام كرم الله وجهه ميمنته قد عادت إلى مواقفها ومصافها، وكشفت من بإزائها من عدوها، حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال: "إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، يحوزكم الطغاة الجفاة، وأعراب أهل الشأم، وأنتم لهاميم1 العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين، ولكن هون وجدي، وشفى بعض أحاح2 نفسي، أني رأيتكم بأخرة3 حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافكم كما أزالوكم، تحسونهم4 بالسيوف تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرودة الهيم5، فالآن فاصبروا؛ نزلت عليكم السكينة، وثبتكم الله عز وجل باليقين، وليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق6 نفسه، إن في الفرار موجدة7 الله عز وجل عليه، والذل اللازم له، والعار الباقي، واعتصار الفيء من يده، وفساد العيش عليه، وإن الفار لا يزيد الفرار في عمره، ولا يرضي ربه، فموت المرء محقا قبل إتيان هذه الخصال، خير من الرضا بالتلبس بها والإصرار عليه". "تاريخ الطبري 6: 13، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 488".   1 اللهمم، واللهيم "بكسر اللام والميم فيهما": السابق الجواد من الحيل والناس. 2 الأحاح: الغيظ وحرارة الغم. 3 يقال: جاء أخرة وبأخرة محركتين وقد يضم أولهما أي آخرًا. 4 من الحس بالفتح: وهو القتل والاستئصال. 5 العطاش: جمع أهيم وهيماء "والهيام بالضم: أشد العطش". 6 مهلك. 7 أي غضبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 251- خطبة خالد بن معمر : ولما ولى الإمام خالد بن معمر راية ربيعة، وحمل عليها أهل الشأم حملة شديدة، وانهزم ناس من قومه، صاح بمن انهزم، وقال يومئذ: "يا معشر ربيعة: إن الله عز وجل قد أتى بكل رجل منكم من منبته، ومسقط رأسه، فجمعكم في هذا المكان جمعًا لم يجمعكم مثله منذ نشركم في الأرض، فإن تمسكوا أيديكم وتنكلوا1 عن عدوكم، وتزولوا عن مصافكم، لا يرضَ الله فعلكم ولا تعدموا من الناس معيرا يقول: فضحت ربيعة الذمار2، وحاصت3 عن القتال، وأتيت من قبلها العرب، فإياكم أن تتشاءم بكم العرب والمسلمون اليوم، وإنكم إن تمضوا مقبلين مقدمين، وتصبروا محتسبين، فإن الإقدام لكم عادة، والصبر منكم سجية، واصبروا ونيتكم أن تؤجروا، فإن ثواب من نوى ما عند الله شرف الدنيا وكرامة الآخرة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملًا". "تاريخ الطبري 6: 19، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 496".   1 أي تنكصوا وتجبنوا. 2 ما تجب حمايته وحفظه. 3 هربت وفرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 252- خطبة عقبة بن حديد النمري : وقال عقبة بن حديد النمري يوم صفين لأهله وأصحابه: "ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيمًا1، وأصبح شجرها خضيدًا2، وجديدها سملًا3، وحلوها مر المذاق، ألا وإني أنبئكم نبأ امرئ صادق: إني قد سئمت الدنيا   1 الهشيم من النبات: اليابس المنكسر. 2 مقطوعًا، خضده: كضربه، فهو خضيد ومخضود. 3 السمل: الخلق من الثياب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وعزفت1 نفسي عنها، وقد كنت أتمنى الشهادة، وأتعرض لها في كل جيش وغارة، فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هذا اليوم، ألا وإني متعرض لها من ساعتي هذه، قد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون -عباد الله- بجهاد من عادى الله، أخوفا من الموت القادم عليكم، الذاهب بأنفسكم لا محالة؟ أو من ضربة كف بالسيف؟ أتستبدلون الدنيا بالنظر في وجه الله عز وجل، ومرافقة النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين في دار القرار؟ ما هذا بالرأي السديد! ". ثم مضى فقال: "يا إخوتي إني قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها. لا تبرح وجوهكم، ولا يقطع الله عز وجل رجاءكم" فتبعه إخوته وقالوا: "لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقبح الله العيش بعدك: اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك" فاستقدموا فقاتلوا حتى قتلوا. "تاريخ الطبري 6: 15، شرح ابن أبي الحديد م 1: ص490".   1 انصرفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 253- خطبة خنثر بن عبيدة بن خالد : وكان من "محارب" رجل يقال له: خنثر بن عبيدة بن خالد، وكان من أشجع الناس، فلما اقتتل الناس يوم صفين، جعل يرى أصحابه منهزمين، فأخذ ينادي: "يا معشر قيس، أطاعة الشيطان آثر1 عندكم من طاعة الرحمن؟ ألا إن الفرار فيه معصية الله سبحانه وسخطه، وإن الصبر فيه طاعة الله عز وجل ورضوانه، أفتختارون سخط الله تعالى على رضوانه، ومعصيته على طاعته؟ ألا إنما الراحة بعد الموت لمن مات محاسبًا نفسه، ثم قال:   1 أفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 لا وألتْ نفس امرئ ولَّى الدبرْ1 ... أنا الذي لا ينثني ولا يفرْ ولا يرى مع المعازيل الغدر2 "تاريخ الطبري 6: 18، شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 495".   1 وأل: طلب النجاة، وخلص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 254- تحريض معاوية أيضًا: وخطب معاوية الناس بصفين فقال: "الحمد لله الذي دنا في علوه، وعلا في دنوه، وظهر وبطن، وارتفع فوق كل ذي منظر، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، يقضي فيفصل، ويقدر فيغفر، ويفعل ما يشاء، إذا أراد أمرًا أمضاه، وإذا عزم على شيء قضاه، لا يؤامر1 أحدًا فيما يملك، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا". وقد كان فيما قضاه الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض، ولفت بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} انظروا يأهل الشأم، إنكم غدًا تلقون أهل العراق، فكونوا على إحدى ثلاث خصال: إما أن تكونوا طلبتم ماعند الله في قتال قوم بغوا عليكم، فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم2، وإما أن تكونوا قومًا تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم، وإما أن تكونوا قومًا تذبون عن نسائكم وأبنائكم، فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل، واسألوا الله لنا ولكم النصر، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الفاتحين". "شرح ابن أبي الحديد م 11 ص 497".   1 أي لا يشاور. 2 ساحتكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 255- ما خاطب به النعمانُ بنُ بشيرٍ قيسَ بنَ سعد في وقعة صفين: وقف النعمان بن بشير الأنصاري بين الصفين بصفين فقال: "يا قيس بن سعد: أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه؟ إنكم يا معشر الأنصار، أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلكم أنصاره يوم الجمل، وإقحامكم، على أهل الشأم بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليًا، كان هذا بهذا، ولكنكم خذلتم حقا، ونصرتم باطلًا، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس، شعلتم3 الحرب، ودعوتم إلى البراز، فقد والله وجدتم رجال الحرب من أهل الشأم سراعًا إلى برازكم، غير أنكاس2 عن حربكم، ثم لم ينزل بعلي أمر قط إلا هونتم عليه المصيبة، ووعدتموه الظفر، وقد والله أخلفتموه، وهان علينا بأسكم، وما كنتم لتخلوا به أنفسكم من شدتكم في الحرب، وقدرتكم على عدوكم، وقد أصبحتم أذلاء على أهل الشأم، لا يرون حربكم شيئًا، وأنتم أكثر منهم عددًا ومددًا، وقد والله كاثروكم بالقلة، فكيف لو كانوا مثلكم في الكثرة، والله لا تزالون أذلاء في الحرب بعدها أبدًا، إلا أن يكون معكم أهل الشأم، وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، ونحن أحسن بقية وأقرب إلى الظفر، فاتقوا الله في البقية" فضحك قيس وقال:   1 قحم في الأمر: رمى بنفسه فيه من غير روية، وأقحمت الفرس النهر: أدخلته فيه فانقحم واقتحم. 2 شعل النار، وأشعلها: ألهبها. 3 أنكاس: جمع نكس "بالكسر"، وهو الضعيف المقصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 256- جواب قيس بن سعد : "والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام، أما المنصف المحق فلا ينصح أخاه من غش نفسه، وأنت والله الغاش لنفسه، المبطل فيما نصح غيره، أما ذكر عثمان فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه، قتل عثمان من لست خيرًا منه، وخذله من هو خير منك. وأما أصحاب الجمل فقتلناهم على النكث. وأما معاوية، فلو اجتمعت العرب على بيعته لقاتلتهم الأنصار، وأما قولك إنا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله، نلقى السيوف بوجوهنا، والرماح بنحورنا، حتى جاء الحق، وظهر أمر الله وهم كارهون، ولكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقًا أعرابيًا، أو يمانيًّا مستدرجًا1، وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك2، ولستما والله بدريين ولا عقبيين3، ولا لكما سابقة في الإسلام، ولا آية في القرآن". "الإمامة والسياسة 1: 83".   1 استدرجه: خدعه وأدناه. 2 أراه يعني به عمرو بن العاص، وقد كان أكبر أعوان معاوية ونصرائه، عاقده على نصرته، على أن يجعل له مصر طعمة. 3 أي لا ممن حضروا وقعة بدر مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن بايعوه في العقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 خطب الشيعيات في وقعة صفين : 257- خطبة عكرشة بنت الأطرش : دخلت عكرشة بنت الأطرش على معاوية متوكئة على عكاز، فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست، فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إذ لا علي حي، قال: ألست المتقلدة حمائل السيوف بصفين، وأنت واقفة بين الصفين تقولين: "أيها الناس: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إن الجنة لا يرحل من أوطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها، وكونوا قومًا مستبصرين في دينهم مستظهرين1 بالصبر على طلب حقهم، إن معاوية دلف2 إليكم بعجم العرب، غلف3 القلوب، لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله، إياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرا الإسلام، ويطفئ نور الحق، هذه بدر الصغرى، والعقبة4 الأخرى، يا معشر المهاجرين والأنصار،   1 مستعينين. 2 دلف: مشى مشي المقيد، وفي التعبير به إيماء إلى ضعف معاوية ووهن قوته. 3 جمع أغلف وقلب أغلف كأنما غشي بغلاف؛ فهو لا يعي. 4 تشير إلى بيعة العقبة "الأولى والثانية" حين بايع المسلمون الأولون من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة على نصرته: أي إن هذه الموقعة دفاع عن الإسلام ونصرة له كتلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدا، وقد لقيتم أهل الشأم كالحمر الناهقة، تصقع1 صقع البعير". فكأني أراك على عصاك هذه، وقد انكفأ عليك العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة، فإن كدت لتفلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين يقول الله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية. وإن اللبيب إذا كره أمرًا لا يحب إعادته، قال صدقت، فاذكري حاجتك، قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا، فترد على فقرائنا، وإنا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير، فإن كان ذلك عن رأيك، فمثلك تنبه من الغفلة، وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك، فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة، قال معاوية: يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق2، وبحور تنفهق3، قالت: يا سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقًّا، فجعل فيه ضررًا على غيرنا، وهو علام الغيوب. قال معاوية: يا أهل العراق، نبهكم علي بن أبي طالب، فلم تطاقوا، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم، وإنصافهم. "العقد الفريد 2: 131، وصبح الأعشى 1: 253".   1 الصقع: رفع الصوت، صقع بصوته: رفعه. وفي صبح الأعشى تقصع قصع البعير. من قصع الجمل بجرته ردها إلى جوفه. 2 انبثق: انفجر، وانبثق السيل عليهم: أقبل ولم يحتسبوه. 3 تتسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 258- خطبة أم الخير بنت الحريش : كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بالخير خيرًا، وبالشر شرًا بقولها فيه، فلما ورد عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 كتابه، ركب إليها، فأقرأها كتابه، فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة، ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين، لأمور تختلج في صدري، فلما شيعها، وأراد مفارقتها، قال لها: يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه مجازيني بقولك في بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا، فما لي عندك؟ قالت: يا هذا، لا يطمعك برك بي، أن أسرك بباطل، ولا يؤيسك معرفتي بك، أن أقول فيك غير الحق، فسارت خير مسير، حتى قدمت على معاوية، فأنزلها مع الحرم، ثم أدخلها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! فقال لها: وعليك السلام يا أم الخير؟ بحق ما دعوتني بهذا الاسم؟ قالت: مه يا أمير المؤمنين، فإن بديهة1 السلطان مدحضة2 لما يجب علمه، ولكل أحل كتاب، قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة، وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية، حتى صرت إليك، فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق. قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم. قالت: يا أمير المؤمنين، يعيذك الله من دحض3 المقال، وما تردي عاقبته، قال: ليس هذا أردنا، أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله زورته4 قبل، ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة، فإن أحببت أن أحدث لك مقالًا غير ذلك فعلت، فالتفت معاوية إلى جلسائه، فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين. قال: هات؟ قال: كأني بها بين بردين زئبريين5 كثيفي النسيج، وهي على جمل أرمك6، وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر7 في شقشقته تقول:   1 البديهة: أول كل شيء وما يفجأ منه. 2 المدحضة: المزلة. 3 دحضت الحجة دحضا من باب نفع: بطلت ورجله زلقت، ومكان دحض زلق. 4 زور الشيء: حسنه وقومه وهذبه. 5 الزئبر: ما يعلو الثوب الجديد كالذي تراه في القطيفة. وفي رواية أخرى: عليها برد زبيدي نسبة إلى زبيد "بفتح الزاي" بلد باليمن. 6 من الرمكة: بالضم، وهي لون الرماد. 7 يصوت، والشقشقة: شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 "يأيها الناس: اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء مدلهمة، فأين تريدون رحمكم الله؟ أفرارًا عن أمير المؤمنين، أم فرارًا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادًا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله، هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والرضي التقي، والصديق الأكبر، إنها إحن1 بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية2 وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد شمس، ثم قالت: {قَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون} صبرًا يا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم، فكأني بكم غدا، وقد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة فرت من قسورة3، لا تدري أنى يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وعما قليل ليصبحن نادمين، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة، ولات حين مناص، إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل، ألا إن أولياء الله استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها، فالله الله أيها الناس، قبل أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، وتقوى كلمة الشيطان، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره، وأبي سبطيه، خلق من طينته، وتفرع من نبعته4،   1 جمع إحنة: وهي الضغينة والحقد، تؤمئ إلى ما كان من قتل علي يوم بدر أخا معاوية "حنظلة بن أبي سفيان" وجده لأمه "عتبة بن ربيعة" وخاله "الوليد بن عتبة". 2 تشير إلى ماحدث من هند زوج أبي سفيان "أم معاوية" في غزوة أحد، إذ بقرت بطن حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعد قتله وأخذت كبده لتأكلها فلاكتها ثم أرسلتها. 3 الأسد والرماة من الصيادين، والواحد قسور. 4 النبعة في الأصل واحدة النبع: شجر القسي والسهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وجعله باب دينه، وأبان ببغضه المنافقين، وها هو ذا مفلق الهام، ومكسر الأصنام، صلى والناس مشركون، وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر، وفرق به جمع هوازن، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقًا، وردة وشقاقًا، وزادت المؤمنين إيمانًا، قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله". فقال معاوية: يا أم الخير، ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت1 في ذلك. قالت: والله ما يسوءني يابن هند أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه. قال: هيهات يا كثيرة الفضول! ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟ قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان! استخلفه الناس وهم به راضون، وقتلوه وهم له كارهون. قال معاوية: يا أم الخير هذا ثناؤك الذي تثنين؟ قالت: لكن الله يشهد، وكفى بالله شهيدًا، ما أردت بعثمان نقصًا، ولقد كان سباقًا إلى الخيرات، وإنه لرفيع الدرجة غدًا، قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر. وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه2. وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. وأنا أسألك بحق الله يا معاوية "فإن قريشًا تحدثت أنك أحلمها" أن تعفيني من هذه المسائل، وتسألني عما شئت من غيرها. قال: نعم ونعمة3 عين، قد أعفيتك منها، ثم أمر لها بجائزة رفيعة، وردها مكرمة. "العقد الفريد 1: 132، ونهاية الأرب 7: 241. وصبح الأعشى 1: 248".   1 أثمت. 2 الحواري: الناصر، أو ناصر الأنبياء. 3 أي افعل ذلك إنعامًا لعينك وإكرامًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 259- خطبة الزرقاء بنت عدي الهمداني ة: وذكرت الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية عند معاوية يومًا، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال: فأشيروا علي في أمرها، فأشار بعضهم بقتلها، فقال: بئس الرأي أيحسن بمثلي أن يقتل امرأة! ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محارمها، وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاءً1 لينًا، ويسترها بستر خصيف2، ويوسع لها في النفقة، فأرسل إليها، فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلي، فإني لا آتيه، وإن كان حتَّم فالطاعة أولى، فحملها وأحسن جهازها، على ما أمر به، فلما دخلت على معاوية. قال: مرحبًا بك وأهلا! قدمت خير مقدمة قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة. قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت، أو طفلًا ممهدًا. قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: وأنى لي بعلم ما لم أعلم؟ قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفين بصفين، تحضين على القتال، وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو غير3 ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر، قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: "أيها الناس: ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة4. فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسمع لناعقها، ولا تنساق   1 الفراش. 2 أصله من خصف النعل بخصفها، كضرب: ظاهر بعضها على بعض وخرزها وهي نعل خصيف، وكل ما طورق بعضه على بعض فقد خصف. 3 أحداث، جمع غيرة بالكسر أو مفرد، وجمعه أغيار. 4 جادة الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس: إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرًا يا معشر المهاجرين والأنصار على العصص، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة الحق، ودمغ الحق الظلمة، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف، وأنى؟ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا: إيهًا1 في الحرب قدما، غير ناكصين، ولا متشاكسين". ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليًا في كل دم سفكه. قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك! فمثلك بشر بخير وسر جليسه. قال: أويسرك ذلك؟ قالت: نعم. والله لقد سررت بالخبر! فأنى لي بتصديق الفعل! فضحك معاوية، وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي ألا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا، ومثلك أعطى عن غير مسألة، وجاد عن غير طلبة. قال: صدقت، وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسًا. "العقد الفريد 1: 130، وصبح الأعشى 1: 252".   1 إيها: كلمة زجر بمعنى حسبك "وإيه بالكسر منونة وغير منونة كلمة استزادة واستنطاق" والقدم: المضي أمام، وهو يمشي القدم: إذا مضى في الحرب، ورجل قدم: أي شجاع. وفي الحديث "طوبى لعبد مغبر قدم في سبيل الله" القدم: الإقدام، أقدم على قرنه إقدامًا وقدمًا: تقدم عليه بجراءة صدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 اختلاف أهل العراق في الموادعة مدخل ... اختلاف أهل العراق في الموادعة: وذكروا أنه لما اشتد الأمر واستعر القتال، قال رأس من أهل العراق لعلي: إن هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة. وقال بعضهم: لا، بل نقاتلهم اليوم على ما قاتلناهم عليه أمس، وكانت الجماعة قد رضيت الموادعة، وجنحت إلى الصلح والمسالمة، فقام علي خطيبًا، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 260- خطبة الإمام علي كرم الله وجهه : "أيها الناس: إنه لم أزل من أمري على ما أحب، حتى فدحتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وهي لعدوكم أنهك، وقد كنت بالأمس أميرًا، فأصبحت اليوم مأمورًا، وكنت ناهيًا، فأصبحت اليوم منهيًا، فليس لي أن أحملكم على ما تكرهون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 261- خطبة كردوس بن هانئ : وقام كردوس بن هانئ، فقال: "إنه والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه، وإن قتلينا لشهيد، وإن حينا لفائز، وإن عليًا على بينة من ربه، وما أجاب القوم إلا إنصافًا، وكل محق منصف، فمن سلم له نجا، ومن خالفه هوى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 262- خطبة سفيان بن ثور : وقام سفيان بن ثور، فقال: "أيها الناس: إنا دعونا أهل الشأم إلى كتاب الله، فردوه علينا فقاتلناهم، وإنهم دعونا إلى كتاب الله، فإن رددناه عليهم، حل لهم منا ما حل لنا منهم، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله، وإن عليًا ليس بالراجع الناكص، وهو اليوم على ما كان عليه أمس، وقد أكلتنا هذه الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 263- خطبة حريث بن جابر : ثم قام حريث بن جابر فقال: "إن عليًّا لو كان خِلوًا من هذا الأمر لكان المرجع إليه، فكيف وهو قائده وسائقه، وإنه والله ما قبل من القوم اليوم إلا الأمر الذي دعاهم إليه أمس، ولو رده عليهم كنتم له أعيب، ولا يلحد في هذا الأمر إلا راجع على عقبيه، أو مستدرج مغرور، وما بيننا وبين من طعن علينا إلا السيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 264- خطبة خالد بن معمر : ثم قام خالد بن معمر فقال: "يا أمير المؤمنين: إنا والله ما أخرجنا هذا المقام أن يكون أحد أولى به منا، ولكن قلنا أحب الأمور إلينا ما كفينا مئونته، فأما إذ استغنينا، فإنا لا نرى البقاء إلا فيما دعاك القوم إليه اليوم، إن رأيت ذلك، وإن لم تره فرأيك أفضل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 265- خطبة الحصين بن المنذر : ثم قام الحصين بن المنذر وكان أحدث القوم سنًا، فقال: "إنما بني هذا الدين على التسليم، فلا تدفعوه بالقياس، ولا تهدموه بالشبهة، وإنا والله لو أنا لا نقبل من الأمور إلا ما نعرف، لأصبح الحق في الدنيا قليلًا، ولو تركنا وما نهوى، لأصبح الباطل في أيدينا كثيرًا، وإن لنا راعيًا قد حمدنا ورده وصدره، وهو المأمون على ما قال وفعل، فإن قال: لا. قلنا: لا، وإن قال: نعم، قلنا: نعم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 266- خطبة عثمان بن حنيف : ثم قام عثمان بن حنيف، وكان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عاملًا لعلي على البصرة وله فضل، فقال: "أيها الناس: اتهموا رأيكم، فقد والله كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية يوم أبي جندل1، وإنا لنريد القتال إنكارًا للصلح حتى ردنا عنه رسول الله   1 هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو. وقصته: أنه لما كانت غزوة الحديبية "سنة ست للهجرة" بعثت قريش من قبلها سهيل بن عمرو ليكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في المصالحة، وقد جرى بينهما الصلح وكتبت صحيفته، وكان من شروطه، وضع الحرب عن الناس عشر سنين يكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان المسلمون حين خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع دخل عليهم من ذلك أمر عظيم، ولما رأى سهيل ابنه أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه "بفتح التاء: ما في موضع اللبب "أي النحر" من الثياب" ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال صدقت،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 صلى الله عليه وسلم، وإن أهل الشأم دعونا إلى كتاب الله اضطرارًا، فأجبناهم إليه إعذارًا، فلسنا والقوم سواء، إنا والله ما عدلنا الحي بالحي، ولا القتيل بالقتيل، ولا الشامي بالعراقي، ولا معاوية بعلي، وإنه لأمر منعه غير نافع، وإعطاؤه غير ضائر، وقد كلت البصائر التي كنا نقاتل بها، وقد حمل الشك اليقين الذي كنا نئول إليه، وذهب الحياء الذي كنا نماري به، فاستظلوا في هذا الفيء1، واسكنوا في هذه العافية، فإن قلتم نقاتل على ما كنا نقاتل عليه أمس، فهيهات هيهات ذهب والله قياس أمس وجاء غد".   = فجعل ينثره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد الناس إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم"، ووثب عمرو بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون. وإنما دم أحدهم دم كلب. ويدني قائم السيف منه. قال عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد وكان ممن حبس بمكة، فبعثت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بصير إنا قد أعطينا القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. فانطلق إلى قومك". قال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: "يا أبا بصير انطلق"، فانطلق معهما حتى إذا كان في بعض الطريق عدا على أحدما فقتله وهرب الآخر، ورجع أبو بصير إلى المدينة، فقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني ورددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، وخرج أبو بصير إلى ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وخرج المسلمون، الذين كانوا حبسوا بمكة إليه، وانفلت إليه أبو جندل بن سهيل، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلًا منهم وضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بأرحامها إلا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا على المدينة. 1 الفيء: ما كان شمسًا فينسخه الظل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 267- خطبة عدي بن حاتم : ثم قام عدي بن حاتم فقال: "أيها الناس: إنه والله لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه، ولا وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفي يديه من الله سبب، وإنه وفق عن عثمان بشبهة، وقاتل أهل الجمل على النكث، وأهل الشأم على البغي، فانظروا في أموركم وأمره، فإن كان له عليكم فضل فليس لكم مثله فسلموا له وإلا فنازعوا عليه، والله لإن كان إلى العلم بالكتاب والسنة إنه لأعلم الناس بهما، ولئن كان إلى الإسلام إنه لأخو نبي الله والرأس في الإسلام، ولئن كان إلى الزهد والعبادة إنه لأظهر الناس زهدًا، وأنهكهم عبادة، ولئن كان إلى العقول والنحائز1 إنه لأشد الناس عقلًا، وأكرمهم نحيزة، ولئن كان إلى الشرف والنجدة إنه لأعظم الناس شرفًا ونجدة، ولئن كان إلى الرضا لقد رضي عنه المهاجرون والأنصار في شورى عمر رضي الله عنهم، وبايعوه بعد عثمان ونصروه على أصحاب الجمل وأهل الشأم، فما الفضل الذي قركم إلى الهدى، وما النقص الذي قربه إلى الضلال؟ والله لو اجتمعتم جميعًا على أمر واحد، لأتاح الله له من يقاتل لأمر ماض، كتاب سابق". فاعترف أهل صفين لعدي بن حاتم بعد هذا المقام، ورجع كل من تشعب على علي رضي الله عنه.   1 النحيزة: الطبيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 268- خطبة عبد الله بن حجل : ثم قام عبد الله بن حجل، فقال: "يا أمير المؤمنين، إنك أمرتنا يوم الجمل بأمور مختلفة، كانت عندنا أمرًا واحدًا، فقبلناها بالتسليم، وهذه مثل تلك الأمور، ونحن أولئك أصحابك، وقد أكثر الناس في هذه القضية، وايم الله ما المكثر المنكر بأعلم بها من المقل المعترف، وقد أخذت الحرب بأنفاسنا، فلم يبق إلا رجاء ضعيف، فإن تجب القوم إلى ما دعوك إليه، فأنت أولنا إيمانًا، وآخرنا بنبي الله عهدًا، وهذه سيوفنا على أعناقنا، وقلوبنا بين جوانحنا، وقد أعطيناك بقيتنا، وشرحت بالطاعة صدورنا، ونفذت في جهاد عدوك بصيرتنا، فأنت الوالي المطاع، ونحن الرعية الأتباع. أنت أعلمنا بربنا، وأقربنا بنبينا، وخيرنا في ديننا، وأعظمنا حقًّا فينا، فسدد رأيك نتبعك، واستخر الله تعالى في أمرك، واعزم عليه برأيك، فأنت الوالي المطاع". فسر علي كرم الله وجهه بقوله، وأثنى خيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 269- خطبة صعصعة بن صوحان : ثم قام صعصعة بن صوحان فقال: "يا أمير المؤمنين: إنا سبقنا الناس إليك، يوم قدوم طلحة والزبير عليك، فدعانا حكيم1إلى نصرة عاملك عثمان بن حنيف2 فأجبناه، فقاتل عدوك، حتى أصيب في قوم من بني عبد قيس عبدوا الله حتى كانت أكفهم مثل أكف الإبل، وجباههم مثل   1 هو حكيم بن حبلة. 2 كان عامل علي على البصرة، وقد نشب القتال بينه وبين أصحاب عائشة حين قدموا البصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ركب المعز، فأسر الحي، وسلب القتيل، فكنا أول قتيل وأسير، ثم رأيت بلاءنا بصفين، وقد كلت البصائر، وذهب الصبر، وبقي الحق موفورًا، وأنت بالغ بهذا حاجتك والأمر إليك ما أراك الله فمرنا به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 270- خطبة المنذر بن الجارود : ثم قام المنذر بن الجارود فقال: "يا أمير المؤمنين إني أرى أمرًا لا يدين له الشأم إلا بهلاك العراق، ولا يدين له العراق إلا بهلاك الشأم، ولقد كنا نرى أن ما زادنا نقصهم، وما نقصنا أضرهم، فإذا في ذلك أمران، فإن رأيت غيره1 ففينا والله ما يفل به الحد2 ويرد به الكلب3. وليس لنا معك إيراد ولا صدر".   1 أي فإن رأيت غير رأيي "وهو الذي عبر عنه بقول: إني أرى أمرًا.. إلخ" وفي الأصل "غيرك" وأراء محرفًا. 2 أي ففينا من البأس ما يفل به حد الأعداء وقوتهم. 3 الكلب: داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعقر الناس ويعتري الناس أيضًا من عضها، وقد استعاره هنا لطمع الأعداء فيهم وغارتهم عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 271- خطبة الأحنف بن قيس : ثم قام الأحنف بن قيس، فقال: "يا أمير المؤمنين: إن الناس بين ماض وواقف، وقائل وساكت، وكل في موضعه حسن، وإنه لو نكل الآخر عن الأول لم يقل شيئًا، إلا أن يقول اليوم ما قد قيل أمس، ولكنه حق يقضى، ولم نقاتل القوم لنا ولا لك، إنما قاتلناهم لله، فإن حال أمر الله دوننا ودونك فاقبله، فإنك أولى بالحق، وأحقنا بالتوفيق، ولا أرى إلا القتال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 272- خطبة عمير بن عطارد : ثم قام عمير بن عطارد، فقال: "يا أمير المؤمنين: إن طلحة والزبير وعائشة كانوا أحب الناس إلى معاوية، وكانت البصرة أقرب إلينا من الشأم، وكان القوم الذين وثبوا عليك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خيرًا من الذين وثبوا عليك من أصحاب معاوية اليوم، فوالله ما منعنا ذلك من قتل المحارب، وعيب الواقف، فقاتل القوم، إنا معك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 273- خطبة علي بن أبي طالب : ثم قام علي خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إنه قد بلغ بكم وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغوا منكم ما بلغوا، وأنا غاد عليهم بنفسي بالغداة، فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله". وأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يدعو عليًا إلى تحكيم كتاب الله، فأصبح أصحاب معاوية، وقد رفعوا المصاحف على الرماح، وقلدوها أعناق الخيل يقولون: "هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 274- مقال عدي بن حاتم : فقام عدي بن حاتم، فقال: "يا أمير المؤمنين: إن أهل الباطل، لا تعوق أهل الحق، وقد جزع القوم حين تأهبت للقتال بنفسك، وليس بعد الجزع إلا ما تحب، ناجز القوم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 275- مقال الأشتر النخعي : ثم قام الأشتر فقال: "يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدنيا. إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولكن بحمد الله الخلف لك، ولو كان مثل رجالك، لم يكن له مثل صبرك، ولا نصرتك، فافرج1 الحديد بالحديد، واستعن بالله".   1 أي شق سلاحهم مزقه بسلاحك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 276- مقال عمرو بن الحمق : ثم قام عمرو بن الحمق فقال: "يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدينا، ولا نصرناك على باطل، ما أجبناك إلا لله تعالى وما نصرناك إلا للحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه، لكثر فيه اللجاج، وطالت له النجوى1، وقد بلغ الحق مقطعه، وليس معك رأي".   1 المسارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 277- مقال الأشعث بن قيس : ثم قام الأشعث بن قيس فقال: "يا أمير المؤمنين، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس، ولست أدري كيف يكون غدًا، وما القوم الذين كلموك بأحمد لأهل العراق مني، ولا بأوتر1 لأهل الشأم مني، فأجب القوم إلى كتاب الله، فإنك أحق به منهم، وقد أحب الله البقيا".   1 أي ولا أشد وترًا. من وتره إذا أدركه بمكروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 278- مقال عبد الرحمن بن الحارث : ثم قام عبد الرحمن بن حارث فقال: "يا أمير المؤمنين، امض لأمر الله ولا يتسخفنك الذين لا يوقنون، أحكم بعد حكم وأمر بعد أمر؟ مضت دماؤنا ودماؤهم، ومضى حكم الله علينا وعليهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 279- مقال عمار بن ياسر : فلما أظهر علي أنه قد قبل التحكيم قام عمار بن ياسر فقال: "يا أمير المؤمنين، أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء، من أقر بها هلك، ومن أنكرها ملك، ما لك يا أبا الحسن، شككتنا في ديننا، ورددتنا على أعقابنا، بعد مائة ألف قتلوا منا ومنهم، أفلا كان هذا قبل السيف، وقبل طلحة والزبير وعائشة قد دعوك إلى ذلك فأبيت، وزعمت أنك أولى بالحق، وأن ما خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله تعالى في هذا الحال ما قد سمعت، فإن كان القوم كفارًا مشركين، فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى يفيئوا1 إلى أمر الله، وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، والله ما أسلموا، ولا أدوا الجزية، ولا فاءوا إلى أمر الله ولا طفئت2 الفتنة" فقال علي: والله إني لهذا الأمر كاره. ثم كثر اللجاج والجدال في الأمر، وجعل علي يبين لهم أنها خدعة ومكيدة يرام بها   1 يرجعوا. 2 أي انطفأت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 توهين قوتهم، وتشتيت جمعهم، وهم لا يستمعون لقوله، ولا يذعنون لنصحه، وأقبل الأشعث بن قيس في ناس كثير من أهل اليمن، فقالوا لعلي: "لا ترد ما دعاك القوم إليه، قد أنصفك القوم، والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء معك، ولا نرمي معك بسهم ولا حجر، ولا نقف معك موقفًا". وغلا أنصار التحكيم في تطرفهم فقالوا "يا علي أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان" فلم ير بدًّا من الإذعان وقبول التحكيم. "الإمامة والسياسة 1: 89". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 التحكيم بين علي ومعاوية : 280- كلام عبد الله بن عباس لأبي موسى الأشعري : ولما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى الأشعري وأحضروه للتحكيم على كره من علي عليه السلام، أتاه عبد الله بن العباس، وعنده وجوه الناس وأشرافهم، فقال له: "أبا موسى: إن الناس لم يرضوا بك، ولم يجتمعوا عليك، لفضل لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار المتقدمين قبلك، ولكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيًا، ورأوا أن معظم أهل الشام يمان، وايم الله إني لأظن ذلك شرًا لك ولنا، فإنه قد ضم إليك داهية العرب، وليس في معاوية خلة1 يستحق بها الخلافة، فإن نقذف بحقك على باطله، تدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك، واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه، فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي، ويوجره2 ما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة، واعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرك خبأً3 يسوءك، ومهما نسيت فلا تنس أن عليًا   1 خصلة. 2 وجره الدواء "كوعده" وأوجره إياه: جعله في فيه، وأوجره الرمح: طعنه، ووجره: أسمعه ما يكره. 3 الخبء: ما خبئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدى، وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين". فقال أبو موسى: "رحمك الله، والله ما لي إمام غير علي، وإني لواقف عند ما رأى، وإن حق الله أحب إلي من رضا معاوية وأهل الشأم، وما أنت وأنا إلا بالله". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 281- وصية شريح بن هانئ لأبي موسى الأشعري : ولما أراد أبو موسى قام إليه شريح بن هانئ الحارثي، فأخذ بيده وقال: "يا أبا موسى: إنك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه، ولا تستفال فلتته، ومهما تقل من شيء لك أو عليك، يثبت حقه، ويرى صحته وإن كان باطلًا، وإنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية، ولا بأس على أهل الشأم إن ملكهم علي، وقد كانت منك تثبيطة1 أيام الكوفة والجمل، فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينًا، والرجاء منك يأسًا، ثم قال: أبا موسى: رميت بشر خصم ... فلا تضع العراق "فدتك نفسي" وأعط الحق شامهم وخذه ... فإن اليوم في مهل كأمس وإن غدًا يجيء بما عليه ... كذاك الدهر من سعد ونحس ولا يخدعك عمرو، إن عمرًا ... عدو الله مطلع كل شمس له خدع يحار العقل منها ... مموهة مزخرفة بلبس   1 أي تعويق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فلا تجعل معاوية بن حرب ... كشيخ في الحوادث غير نكس1 هداه الله للإسلام فردا ... سوى عرس2 النبي، وأي عرس؟ فقال أبو موسى: "ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلًا، أو أجر إليهم حقًًّا". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 195، والإمامة والسياسة 1: 99".   1 كشيخ: يريد به الإمام عليا، والنكس: الضعيف والمقصر عن غاية الكرم. 2 أي زوجه، يريد السيدة خديجة رضي الله عنها، وأي عرس: أي وأي عرس هي. استفهام المراد به التعظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 282- وصية الأحنف بن قيس لأبي موسى الأشعري : ولما حكم أبو موسى الأشعري أتاه الأحنف بن قيس، فقال له: "يا أبا موسى، إن هذا مسير له ما بعده، من عز الدنيا أو ذلها آخر الدهر، ادع القوم إلى طاعة علي، فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشأم من قريش العراق من أحبوا، ويختار أهل العراق من قريش الشأم من أحبوا، وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحه بنية، وأن يقعدك على صدر المجلس فإنها خديعة، وأن يضمك وإياه بيت، فيكمن لك فيه الرجال، ودعه فليتكم، لتكون عليه بالخيار، فالبادئ مستغلق1، والمجيب ناطق". فما عمل أبو موسى إلا بخلاف ما قال الأحنف، وأشار به، فكان من الأمر ما كان، فلقيه الأحنف بعد ذلك، فقال له: "أدخل والله قدميك في خف واحدة". " نهاية الأرب 7: 239، الإمامة والسياسة 1: 99، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 196".   1 أصله من قولهم: استغلقني في بيعه: لم يجعل لي خيارًا في رده: أي أن البادئ ليس له الخيار في رد ما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 283- وصية معاوية لعمرو بن العاص: وقال معاوية لعمرو: "إن أهل العراق أكرهوا عليًّا على أبي موسى، وأنا وأهل الشأم راضون عنك، وأرجو في دفع هذه الحرب قوة لأهل الشأم، وفرقة لأهل العراق، وإمدادًا لأهل اليمن، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، وله على ذلك دين وفضل، فدعه يقول فإذا هو قال فاصمت، واعلم أن حسن الرأي زيادة في العقل، إن خوفك العراق فخوفه بالشام، وإن خوفك مصر فخوفه باليمن، وإن خوفك عليًا، فخوفه بمعاوية، وإن أتاك بالجميل فأته بالجميل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 284- رد عمرو بن العاص عليه : فقال عمرو: "يا أمير المؤمنين، أقلل الإهتمام بما قبلي، وارج الله تعالى فيما وجهتني له، إنك من أمرك على مثل حد السيف، لم تنل في حربك ما رجوت، ولم تأمن ما خفت، ونحن نرجو أن يصنع الله تعالى لك خيرًا، وقد ذكر لأبي موسى دينًا، وإن الدين منصور، أرأيت إن ذكر عليًا، وجاءنا بالإسلام والهجرة واجتماع الناس عليه ما أقول؟ ". فقال معاوية: "قل ما تريد وترى". "الإمامة والسياسة 1: 99". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 285- مقال شرحبيل بن السمط لعمرو : ولما ودعه شرحبيل بن السمط قال له: "يا عمرو إنك رجل قريش، وإن معاوية لم يبعثك إلا لعلمه أنك لا تؤتى من عجز ولا مكيدة، وقد علمت أن وطأة هذا الأمر لك ولصاحبك، فكن عند ظننا بك". "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 196، والإمامة والسياسة 1: 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 286- خطبة أبي موسى الأشعري : ولما التقى الحكمان أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص بدومة الجندل، ودار بينهما من الحوار ما دار، أقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فتقدم أبو موسى، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا1". ثم تنحى.   1 وفي رواية ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: "وإني رأيت وعمرًا أن نخلع عليا ومعاوية ونجعلها لعبد الله بن عمر، فإنه لم يبسط في هذه الحرب يدًا ولا لسانًا" وفي رواية المسعودي في مروج الذهب: "وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه "وأهوى إلى عمامته فخلعها" واستخلفنا رجلًا قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصحب أبوه النبي صلى الله عليه وسلم، فبرز في سابقته، وهو عبد الله بن عمر وأطراه ورغب الناس فيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 287- خطبة عمرو بن العاص : وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إن هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان رضي الله عنه، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه". فقال أبو موسى: "مالك –لا وفقك الله- غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث1" قال عمرو: "إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا". "تاريخ الطبري 6: 40، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 198، والإمامة والسياسة 1: 101 مروج الذهب 2: 32".   1 لهث الكلب كقطع: أخرج لسانه من العطش أو التعب، وكذا الرجل إذا أعيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 288- خطبة الإمام علي بعد التحكيم : وخطب الإمام علي كرم الله وجهه بعد فشل التحكيم فقال: "الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح1، والحدث2 الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس معه إله غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله. أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان   1 من فدحه الدين: أي أثقله. 2 الحادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 يطاع لقصير1 أمر، فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن2: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ... فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه، بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشأم". "نهج البلاغة 1: 44، وتاريخ الطبري 6: 43، والإمامة والسياسة 1: 105".   1 قصير: هو مولى جذيمة الأبرش، وكان قد أشار على سيده أن لا يأمن الزباء ملكة الجزيرة، وقد دعته إليها ليتزوجها، فخالفه وقصد إليها، فقال قصير: "لا يطاع لقصير أمر" فذهبت مثلًا. 2 هو دريد بن الصمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 289- خطبة الحسن بن علي : وقال الإمام علي: قم يا حسن فتكلم في أمر هذين الرجلين أبي موسى وعمرو، فقام الحسن فتكلم فقال: "أيها الناس، قد أكثرتم في أمر أبي موسى وعمرو، وإنما بعثا ليحكما بالقرآن دون الهوى، فحكما بالهوى دون القرآن، فمن كان هكذا لم يكن حكمًا، ولكنه محكوم عليه، وقد كان من خطأ أبي موسى أن جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: خالف "يعني أبا موسى" أباه عمر إذ لم يرضه لها، ولم يره أهلًا لها، وكان أبوه أعلم به من غيره، ولا أدخله في الشورى إلا على أنه لا شيء له فيها، شرطًا مشروطًا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 عمر على أهل الشورى، فهذه واحدة، وثانية: لم يجتمع عليه المهاجرين والأنصار، الذين يعقدون الإمامة، ويحكمون على الناس. وثالثة: لم يستأمر الرجل في نفسه، ولا علم ما عنده من رد أو قبول" ثم جلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 290- خطبة عبد الله بن عباس " توفي سنة 68هـ": ثم قال علي لعبد الله بن عباس: قم فتكلم، فقام عبد الله بن عباس وقال: "أيها الناس: إن للحق أناسًا أصابوه بالتوفيق والرضا، والناس بين راض به، وراغب عنه، وإنما سار أبو موسى بهدى إلى ضلال، وسار عمرو بضلال إلى هدى، فلما التقيا رجع أبو موسى عن هداه، ومضى عمرو على ضلاله، فوالله لو كانا حكما عليه بالقرآن لقد حكما عليه، ولئن كانا حكما بهواهما على القرآن، ولئن مسكا بما سارا به، لقد سار أبو موسى وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه" ثم جلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 291- خطبة عبد الله بن جعفر : فقال علي لعبد الله بن جعفر: قم فتكلم، فقام وقال: "أيها الناس: هذا أمر كان النظر فيه لعلي، والرضا فيه إلى غيره، جئتم بأبي موسى فقلتم قد رضينا هذا فارض به، وايم الله ما أصلحا بما فعلا الشأم، ولا أفسدا العراق، ولا أماتا حق علي، ولا أحييا باطل معاوية، ولا يذهب الحق قلة رأي، ولا نفخة شيطان، وإنا لعلي اليوم كما كنا أمس عليه" ثم جلس. "الإمامة والسياسة 1: 102". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 292- خطبة علي: ولما نزل علي النخيلة وأيس من الخوارج، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: فإنه من ترك الجهاد في الله، وادهن في أمره، كان على شفا هلكة، إلا أن يتداركه الله بنعمة، فاتقوا الله، وقاتلوا من حاد الله، وحاول أن يطفئ نور الله، قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقراء للقرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسروا وتهيئوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب. وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله". "تاريخ الطبري 6: 44". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 293- خطبة عبد الله بن عباس: وكتب علي إلى عبد الله بن عباس: "أما بعد: فإنا قد خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل المغرب، فأشخص بالناس حين يأتيك رسولي، وأقم حتى يأتيك أمري والسلام". فلما قدم عليه الكتاب قرأه على الناس، وأمرهم بالشخوص مع الأحنف بن قيس، فشخص معه منهم ألف وخمسمائة رجل، فاستقلهم عبد الله بن عباس، فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد يأهل البصرة فإنه جاءني أمر أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف بن قيس، ولم يشخص معه منكم إلا ألف وخمسمائة، وأنتم ستوت ألفًا سوى أبنائكم وعبدانكم وموالكيم ألا انفروا مع جارية بن قدامة السعدي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلًا، فإني موقع بكل من وجدته متخلفًا عن مكتبه، عاصيًا لإمامه. وقد أمرت أبا الأسود الدؤلي بحشركم، فلا يلم رجل جعل السبيل على نفسه إلا نفسه". "تاريخ الطبري 6: 44". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 294- خطبة علي: فخرج جارية فعسكر، وخرج أبو الأسود فحشر الناس، فاجتمع إلى جارية ألف وسبعمائة، ثم أقبل حتى وافاه علي بالنخيلة، فلم يزل بالنخيلة حتى وافاه هذان الجيشان من البصرة ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فجمع إليه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع ورءوس القبائل ووجوه الناس. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يأهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، وصحابتي على جهاد عدوي المحلين، بكم أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم، فلم يأتني منهم إلا ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فأعينوني بمناصحة جلية خلية من الغش، وإنكم ... 1 مخرجنا إلى صفين، بل استجمعوا بأجمعكم، وإني أسألكم أن يكتب لي رئيس كل قوم ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم، ثم يرفع ذلك إلينا". فقام سعيد بن قيس الهمداني فقال: يا أمير المؤمنين سمعًا وطاعة وودا ونصيحة، أنا أول الناس جاء بما سألت وبما طلبت، وقام معقل بن قيس الرياحي فقال له نحوًا من ذلك، وقام عدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس والقبائل فقالوا مثل ذلك، ثم إن الرءوس كتبوا من فيهم ثم رفعوهم إليه. "تاريخ الطبري 4: 45".   1 فراغ في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 295- خطبة علي: وكتب علي إلى سعد بن مسعود الثقفي، وهو عامله على المدائن: "أما بعد فإني قد بعثت إليك زياد بن خصفة فأشخص معه من قبلك من مقاتلة أهل الكوفة، وعجل ذلك إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله" وبلغ عليا أن الناس يقولون: لو سار بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم، فإنا فرغنا منهم وجهنا من وجهنا ذلك إلى المحلين. فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإنه قد بلغني قولكم: لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت عليه، فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجهنا إلى المحلين. وأن غير هذه الخارجة أهم إلينا منهم، فدعوا ذكرهم، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكًا، ويتخذوا عباد الله خولا1". فتنادى الناس من كل جانب: سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت، وقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال: يا أمير المؤمنين، نحن حزبك وأنصارك، نعادي من عاديت، ونشايع من أناب إلى طاعتك، فسر بنا إلى عدوك من كانوا وأينما كانوا، فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع. وقام إليه محرز بن شهاب التميمي من بني سعد قال: يا أمير المؤمنين: شيعتك كقلب رجل واحد في الإجماع على بصرك، والجد في جهاد عدوك، فأبشروا بالنصر، وسر بنا إلى أي الفريقين أحببت، فإنا شيعتك الذين نرجو في طاعتك، وجهاد من خالفك صالح الثواب، ونخاف في خذلانك والتخلف عنك شدة الوبال "تاريخ الطبري 6: 45".   1 عبيدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 296- خطبة لمعاوية : ولما فشل التحكيم بايع أهل الشأم معاوية بالخلافة، واختلف الناس بالعراق على علي فما كان لمعاوية هم إلا مصر، فدعا أصحابه ليستشيرهم في أمرها، وكان فيهم عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فقد رأيتم كيف صنع الله بكم في حربكم عدوكم، جاءوكم وهم لا ترون إلا أنهم سيقبضون بيضتكم1، ويخربون بلادكم، ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرًا مما أحبوا، وحاكمناهم إلى الله فحكم لنا عليهم، ثم جمع لنا كلمتنا وأصلح ذات بيننا، وجعلهم أعداء متفرقين يشهد بعضهم على بعض بالكفر، ويسفك بعضهم دم بعض، والله إني لأرجو أن يتم لنا هذا الأمر، وقد رأيت أن نحاول أهل مصر فكيف ترون ارتئاءنا لها؟ ". وكان عمرو بن العاص قد صالح معاوية حين بايعه على قتال علي بن أبي طالب، على أن له مصر طعمة ما بقي، فقال لمعاوية: فإني أشير عليك كيف تصنع: أرى أن تبعث جيشًا كثيفًا عليهم رجل حازم صارم تأمنه وتثق به، فيأتي مصر حتى يدخلها.. فسيره إليها. "تاريخ الطبري 6: 56".   1 البيضة: حوزة كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 297- وصية معاوية لعمرو بن العاص: وجهز معاوية عمرو بن العاص، وبعثه في ستة آلاف رجل، وخرج وودعه، وقال له عند وداعه إياه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 "أوصيك يا عمرو بتقوى الله والرفق، فإنه يمن، وبالمهل والتؤدة، فإن العجلة من الشيطان، وبأن تقبل ممن أقبل، وأن تعفو عمن أدبر، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أبلغ في الحجة، وأحسن في العاقبة، وادع الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك، وكل الناس فأوْلِ حسنا". "تاريخ الطبري 6: 57". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 خطبة محمد بن أبي بكر ... 298- خطبة بن أبي بكر: وقدم محمد بن أبي بكر مصر واليًا عليها من قبل علي بن أبي طالب "سنة 36هـ" فقام خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق، وبصرنا وإياكم كثيرًا بما عمي عنه الجاهلون، ألا إن أمير المؤمنين ولاني أموركم، وعهد إلي ما قد سمعتم، وأوصاني بكثير منه مشافهة، ولن آلوكم خيرًا ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله وتقوى، فاحمدوا الله عز وجل على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادي. وإن رأيتم عاملًا لي عمل غير الحق زائفًا، فارفعوه إلي وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد، وأنتم بذلك جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته". "تاريخ الطبري 5: 232". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 299- خطبة لمحمد بن أبي بكر : وأقبل عمرو بن العاص حتى قصد مصر، فقام محمد بن أبي بكر في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال: "أما بعد معاشر المسلمين والمؤمنين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وينعشون الضلالة، ويشبون نار الفتنة، ويتسلطون بالجبرية، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود. عباد الله فمن أراد الجنة والمغفرة، فليخرج إلى هؤلاء القوم، فليجاهدهم في الله. انتدبوا إلى هؤلاء. رحمكم الله مع كنانة بن بشر" ثم انتهى الأمر بقتل محمد بن أبي بكر. "تاريخ الطبري 6: 59". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 300- خطبة لعلي وقد استصرخه محمد بن أبي بكر : ولما سير معاوية عمرو بن العاص إلى مصر "سنة 38هـ" -وكان عليها محمد بن أبي بكر من قبل علي- بعث ابن أبي بكر إلى علي يستصرخه، فقام علي في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: "أما بعد، فإن هذا صريخ محمد بن أبي بكر، وإخوانكم من أهل مصر، قد سار إليهم ابن النابغة، عدو الله، وولي من عادى الله، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت، أشد اجتماعًا منكم على حقكم هذا، فإنهم قد بدءوكم وإخوانكم بالغزو، فاعجلوا إليهم بالمؤاساة والنصر. عباد الله: إن مصر أعظم من الشأم، أكثر خيرًا، وخير أهلًا، فلا تغلبوا على مصر، فإن بقاء مصر في أيديكم عز لكم، وكبت لعدوكم، اخرجوا إلى الجرعة بين الحيرة والكوفة، فوافوني بها هناك غدًا إن شاء الله". "تاريخ الطبري 6: 61 وشرح ابن أبي الحديد م 2: 34". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 301- خطبة علي حين بلغه مقتل محمد بن أبي بكر : ولما بلغ عليا مقتل محمد بن أبي بكر، حزن عليه حتى رئي ذلك في وجهه وتبين فيه وقام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: "إلا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم، الذين صدوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمه الله، فعند الله نحتسبه، أما والله إن كان -ما علمت- لممن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدى المؤمن. إني والله ما ألوم نفسي على التقصير، وإني لمقاساة الحرب نجد1 خبير، وإني لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم بالرأي المصيب، فأستصرخكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث معربًا، فلا تسمعون لي قولًا، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا ينقض بكم الأوتار، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة2 الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نية في جهاد العدو، ولا اكتساب الأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب3 كأنما يساقون إلى الموت، وهم ينظرون، فأفٍّ لكم" ثم نزل: "تاريخ الطبري 6: 62".   1 النجد: الشجاع الماضي فيما يعجز غيره. 2 الجرجرة: صوت تردده البعير في حنجرته، وأكثر ما يكون ذلك عند الإعياء والتعب. 3 جنيد: تصغير جند، متذائب: مضطرب. من قولهم: تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها، ومنه سمي الذئب ذئبًا لاضطراب مشيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فتنة الخوارج : 302- مناظرة عبد الله بن عباس لهم : لما رجع الإمام علي كرم الله وجهه من صفين إلى الكوفة -بعد كتابة صحيفة التحكيم بينه وبين معاوية- اعتزله جماعة من أصحابه ممن رأوا التحكيم ضلالًا، ونزلوا حروراء1 في اثني عشر ألفًا، وأمروا على القتال شبث بن ربعي، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس، فقال: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك، فخرج إليهم حتى أتاهم، فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم فقال: "ما نقمتم من الحكمين؟ وقد قال الله عز وجل: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 2 فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الخوارج: قلنا: أما ما جعل حكمه إلى الناس وأمر بالنظر فيه والإصلاح له، فهو إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه، فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزانى مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا في هذا، قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: {يَحْكُمُ بِهِ   1 بظاهر الكوفة. 2 الآية في الصلح بين الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1، فقالوا له: "أو تجعل الحكم في الصيد، والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ " وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا، ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلًا فلسنا بعدول، ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا2، وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عز وجل فأبوه، ثم كتبتم بينكم وبينه كتابًا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة3 وقد قطع الله عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة، إلا من أقر بالجزية". "تاريخ الطبري 6: 36، والكامل للمبرد 2: 120".   1 الآية في حكم قاتل الصيد وهو محرم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . 2 يشيرون إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . 3 استفاض المكان استفاضة: اتسع، وهي هنا مرادفة للموادعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 303- مناظرة الإمام علي لهم : ثم خرج إليهم علي حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال: انته عن كلامهم ألم أنهك رحمك الله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ثم تكلم، فحمد الله عز وجل، وأثنى عليه، ثم قال: "اللهم إن هذا مقام من أفلج1 فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نطق فيه وأوعث2 فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا، ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، قال علي: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين. قال: أنشدكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالًا ورجالًا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، امضوا على حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة وإدهانًا3 ومكيدة، فرددتم علي رأيي، وقلتم: لا، بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلا الكتاب، اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وإن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن، فليس لنا أن نخالف حكمًا يحكم بما في القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمها برآء، قالوا له: فخبرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال، قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل، ويتثبت العالم، ولعل الله عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا من عند آخرهم". "تاريخ الطبري 6: 37، الكامل للمبرد 2: 128".   1 الفلج والإفلاج: الظفر والفوز. 2 أوعث: وقع في الوعث "الوعث بالسكون: المكان السهل الدهس تغيب فيه الأقدام والطريق العسر". 3 الإدهان: الغش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 304- صورة أخرى: وروى صاحب العقد المناظرة بين علي وبين الخوارج بصورة أخرى وهاكها: "قالوا: إن عليًأ لما اختلف عليه أهل النهروان والقرى وأصحاب البرانس، ونزلوا قرية يقال لها حروراء -وذلك بعد وقعة الجمل- رجع إليهم علي بن أبي طالب، فقال لهم: يا هؤلاء من زعيمكم! قالوا: ابن الكواء، قال: فليبرز إلي، فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يابن الكواء، ما أخرجكم علينا بعد رضاكم بالحكمين، ومقامكم بالكوفة؟ قال: قاتلت بنا عدوا لا نشك في جهاده، فزعمت أن قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار، فبينما نحن كذلك إذ أرسلت منافقًا، وحكمت كافرًا، وكان من شكك في أمر الله أن قلت للقوم حين دعوتهم: كتاب الله بيني وبينكم، فإن قضى علي بايعتكم، وإن قضى عليكم بايعتموني، فلولا شكك لم تفعل هذا، والحق في يدك. قال علي: يابن الكواء، إنما الجواب بعد الفراغ، أفرغت فأجيبك؟ قال: نعم، قال علي: أما قتالك معي عدوا لا نشك في جهاده فصدقت، ولو شككت فيهم لم أقاتلهم، وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله في ذلك ما يستغنى به عن قولي، وأما إرسالي المنافق وتحكيمي الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسًا، ومعاوية حكم عمرًا، أتيت بأبي موسى مبرنسًا، فقلت: لا نرضى إلا أبا موسى، فهلا قام إلي رجل منكم فقال: يا علي لا تعط هذه الدنية؛ فإنها ضلالة؟ وأما قولي لمعاوية: إن جرني إليك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إلي تبعتني. زعمت أني لم أعطَ ذلك إلا من شك، فقد علمت أن أوثق ما في يديك هذا الأمر، فحدثني ويحك عن اليهودي والنصراني ومشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشأم؟ قال: بل معاوية وأهل الشأم أقرب، قال علي: أفرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوثق بما في يديه من كتاب الله أو أنا؟ قال: بل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أفرأيت الله تبارك وتعالى حين يقول: {قُلْ فَأْتُوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 {بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا يؤتى بكتاب هو أهدى في يديه؟ قال: بلى، قال فلم أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما أعطاهم؟ قال: إنصافًا وحجة، قال: فإني أعطيت القوم ما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن الكواء: فإني أخطأت. هذه واحدة. زدني، قال علي: فما أعظم ما نقمتم علي؟ قال: تحكيم الحكمين، نظرنا في أمرنا، فوجدنا تحكيمهما شكًّا وتبذيرًا، قال علي: فمتى سمي أبو موسى حكمًا، حين أرسل، أو حين حكم؟ قال: حين أرسل، قال: أليس قد سار وهو مسلم، وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم، قال علي: فلا أرى الضلال في إرساله، فقال ابن الكواء: سمي حكمًا حين حكم، قال: نعم إذن فإرساله كان عدلًا، أرأيت يا بن الكواء لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مؤمنًا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب الله، فارتد على عقبه كافرًا، كان يضر نبي الله شيئًا؟ قال: لا، قال علي: فما كان ذنبي إن كان أبو موسى ضل، هل رضيت حكومته حين حكم، أو قوله إذ قال؟ قال ابن الكواء: لا، ولكنك جعلت مسلمًا وكافرًا يحكمان في كتاب الله، قال علي: ويلك يا بن الكواء! هل بعث عمرًا غير معاوية؟ وكيف أحكمه وحكمه على ضرب عنقي، إنما رضي به صاحبه، كما رضيت أنت بصاحبك، وقد يجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله، أرأيت لو أن رجلًا مؤمنًا تزوج يهودية أو نصرانية، فخافا شقاق بينهما، ففزع الناس إلى كتاب الله، وفي كتابه: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} فجاء رجل من اليهود، أو رجل من النصارى، ورجل من المسلمين، اللذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله فحكما. قال ابن الكواء: وهذه أيضًا، أمهلنا حتى ننظر، فانصرف عنهم علي. فقال له صعصعة بن صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لي في كلام القوم، قال: نعم ما لم تبسط يدًا، فنادى صعصعة ابن الكواء، فخرج إليه فقال: أنشدكم الله يا معشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الخارجين أن لا تكونوا عارًا على من يغزو لغيره1، وأن لا تخرجوا بأرض تسمون بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام قابل، فقال له ابن الكواء: إن صاحبك لقينا بأمر، قولك فيه صغير، فأمسك. قالوا: إن عليًّا خرج بعد ذلك إليهم، فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يابن الكواء: إنه من أذنب في هذا الدين ذنبًا يكون في الإسلام حدثًا، استتبناه من ذلك الذنب بعينه، وإن توبتك أن تعرف هدى ما خرجت منه، وضلال ما دخلت فيه. قال ابن الكواء: إننا لا ننكر أنا قد فتنا، فقال له عبد الله بن عمرو بن جرموز: أدركنا والله هذه الآية {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} -وكان عبد الله من قراء أهل حروراء، فرجعوا فصلوا خلف علي الظهر، وانصرفوا معه إلى الكوفة، ثم اختلفوا بعد ذلك في رجعتهم ولام بعضهم بعضًا، ثم خرجوا على علي، فقتلهم بالنهروان. "العقد الفريد 2: 240".   1 أي لغير منفعته الشخصية بل للم شعث المسلمين وجمع كلمتهم؛ يعني عليًّا وأصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 305- مناظرة ابن عباس لهم : فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليًّا رجع عن التحكيم، وتاب منه، ورآه ضلالًا، فأتى الأشعث بن قيس عليًّا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالًا، والإقامة عليها كفرًا وتبت، فخطب علي الناس فقال: "من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالًا فهو أضل منها، فخرجت الخوارج من المسجد فحكمت، فقيل لعلي: إنهم خارجون، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون، فوجه إليهم عبد الله بن العباس. فلما سار إليهم رحبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها قرحت لطول السجود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وأيديا كثفنات1 الإبل، وعليهم قمص مرحضة2 وهم مشمرون. قالوا: ما جاء بك يابن عباس؟ قال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربه وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار، فقالوا: إنا أتينا عظيما حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا، ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا، فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم. أما علمتم أن الله أمركم بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق امرأة ورجلها، فقالوا: اللهم نعم، قال: فأنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن القتال، للهدنة بينه وبين الحديبية3، قالوا: نعم ولكن عليًّا محا نفسه من خلافة المسلمين، قال ابن عباس: أذلك يزيلها عنه؟ وقد محا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوة، قال سهيل4 بن عمرو: لو علمت أنك رسول الله ما حاربتك، فقال للكاتب5: اكتب محمد بن عبد الله وقد أخذ على الحكمين أن لا يجورا، فعلي أولى من معاوية وغيره، قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال: فأيهما رأيتموه أولى فولوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما، ولا قبول لقولهما". فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فلم يزالوا على ذلك حتى اجتمعوا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي. "العقد الفريد 1: 212".   1 ثفنة البعير: ركبته. 2 قمص جمع قميص، ورحض الثوب: غسله. 3 أي وبين أهل الحديبية. والحديبية بئر قرب مكة، وكانت غزوة الحديبية سنة ست هجرية. 4 النائب عن قريش في عقد الصلح مع المسلمين. 5 وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 306- خطبة يزيد بن عاصم المحاربي : وخرج الإمام علي كرم الله وجهه ذات يوم يخطب، فإنه لفي خطبته، إذ حكمت1 المحكمة في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يراد بها باطل: إن سكتوا عممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم، فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: "الحمد لله غير مودع2 ربنا ولا مستغنى عنه، اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية3 في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان4 في أمر الله عز وجل، وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات5، ثم لتعلمن أينا أولى بها صليًّا6". ثم خرج بهم هو وإخوة له ثلاثة هو رابعهم، فأصيبوا مع الخوارج بالنهر، وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة. "تاريخ الطبري 6: 41".   1 أي قالوا: لا حكم إلا الله، ويسمي الخوارج المحكمة: أي الذين يمنعون التحكيم. 2 أي غير متروك ولا مقطوع: أي حمدًا دائمًا. 3 يريد بها قبول التحكيم. 4 الإدهان والمداهنة: إظهار غير ما يضمر. 5 أي نضربكم بحدها لا بعرضها، ضربه بالسيف مصفحًا: أي بعرضه. 6 صلي النار وبها صليا: قاسى حرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 خطبة عبد الله بن وهب الراسي ... 307- خطبة عبد الله بن وهب الراسبي: ولما بعث الإمام علي أبا موسى الأشعري لإنفاذ الحكومة، لقيت الخوارج بعضها بعضًا، فاجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 "أما بعد: فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا –التي الرضا بها والركون إليها، والإيثار إياها عناء وتبار1- آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بالحق، وإن من 2 وضر، فإنه من يمن ويضر في هذه الدنيا، فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله عز وجل، والخلود في جناته، فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القربة الظالم أهلها، إلى بعض كور3 الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة".   1 هلاك. 2 أي قطع وهجر. 3 جمع كورة بالضم، وهي المدينة والصقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 308- خطبة حرقوص بن زهير السعدي : فقام حرقوص بن زهير السعدي فقال: "إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك1، فلا تدعونكم زينتها، وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، فإن الله مع الذي اتقوا والذين هم محسنون".   1 سريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 309- خطبة حمزة بن سنان الأسدي : فقام حمزة بن سنان الأسدي فقال: "يا قوم إن الرأي ما قد رأيتم، والحق ما قد ذكرتم، فولوا أمركم رجلًا منكم فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، وراية تحفون بها، وترجعون إليها". فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعلى حرقوص بن زهير فأبى، وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 حمزة بن سنان، وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعلى عبد الله بن وهب فقال: "هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرقًا1 من الموت" فبايعوه "لعشر خلون من شوال سنة 37 هـ".   1 جزعًا وخوفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 310- خطبة شريح بن أوفى العبسي : 1 ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقام شريح فقال: "إن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقول بالحق، والجهاد في تقويم السبيل، وقد قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فاشهدوا على أهل دعوتنا أن قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم القرآن، وجاروا في الحكم والعمل، وأن جهادهم على المؤمنين فرض، وأقسم بالذي تعنو2 له الوجوه، وتخشع دونه الأبصار، لو لم يكن أحد على تغيير المنكر، وقتال القاسطين3 مساعدًا، لقاتلتهم وحدي فردًا حتى ألقى الله ربي، فيرى أني قد غيرت "إرادة رضوانه" بلساني، يا إخواننا، اضربوا جباههم ووجوههم بالسيف، حتى يطاع الرحمن عز وجل، فإن   1 قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: "ثم اجتمعوا في منزل زفر بن حصين الطائي، فقالوا: إن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا .... إلى آخر الخطبة، ولم يذكر قائلها. وذكر الطبري في تاريخه: أنهم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، وذكرت الفقرات الأخيرة من هذه الخطبة وعزاها إلى شريح". 2 تذل وتخضع. 3 الجائرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 يطع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له الآمرين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أعظم من المسير إلى رضوان الله وجنته؟ واعلموا أن هؤلاء القوم خرجوا لإقصاء حكم الضلالة، فاخرجوا بنا إلى بلد نتعد فيه الاجتماع من مكاننا هذا، فإنكم قد أصبحتم بنعمة ربكم وأنتم أهل الحق بين الخلق، إذ قلتم بالحق، وصمدتم لقول الصدق، فاخرجوا بنا إلى "المدائن1" نسكنها فنأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا".   1 على نهر دجلة شرقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 311- مقال زيد بن حصين الطائي : فقال زيد بن حصين الطائي: "إنكم إن خرجتم مجتمعين أتبعتم، ولكن اخرجوا وحدانًا مستخفين، فأما المدائن، فإن بها قومًا يمنعونكم منها، ويمنعونها منكم، ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة، فأعلموهم بخروجكم، وسيروا حتى تنزلوا جسر النهروان1". قالوا: هذا هو الرأي، فاجتمعوا على ذلك، وكتبوا به إليهم. "تاريخ الطبري 5: 42، والإمامة والسياسة 1: 104".   1 النهروان: بليدة بالقرب من بغداد، نحو أربعة فراسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 312- خطبة علي في تخويف أهل النهروان : فلما نزلوا بالنهروان، وأتوا بها ما أتوا من الأحداث1، وأتاهم الإمام علي كرم الله وجهه، فوقف عليهم فقال: "أيها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بها النزق2 وأصبحت في اللبس والخطب العظيم، إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدًا صرعى بأثناء3 هذا النهر، وبأهضام4 هذا الغائط5، على غير بينة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم، وقد طوحت بكم الدار، واحتبلكم6 المقدار. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن7 ومكيدة لكم؟ ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأني أعرف بهم منكم؟   1 من ذلك أنهم لقوا عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه امرأته وهي حبل متم "أي دنا ولادها" فقالوا: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرًا، قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقًّا في أولها وفي آخرها، قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، وسال دمه في الماء، وبقروا بطن امرأته، وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ، وقتلوا أم سنان الصيداوية، وأصابوا مسلمًا ونصرانيًّا، فقتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني خيرًا، وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم، وأرسل إليهم علي رسولًا ينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه، فبعث إليهم أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل الشأم، فلعل الله يقلب قلوبكم ويردكم إلى خير ما أنتم عليه من أمركم، فبعثوا إليه، فقالوا كلنا قتلهم، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم. 2 الطيش. 3 جمع ثنى بالكسر: أي منعطفاته. 4 جمع هضم "بالفتح ويكسر" وهو المطئن من الأرض. 5 الغائط: المطمئن الواسع من الأرض. 6 أوقعكم في الحبالة. 7 دهن الرجل: إذا نافق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 "عرفتهم أطفالًا ورجالًا، فهم أهل المكر والغدر" وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم؟ فعصيتموني وأكرهتموني حتى حكمت، فلما أن فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، وعملا بالهوى، فنبذنا أمرهما، ونحن على أمرنا الأول، فما الذي بكم، ومن أين أتيتم؟ ". قالوا: إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت كما تبنا، فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا، فإنا منابذوك على سواء1 إن الله لا يحب الخائنين". فقال علي: "أصابكم حاصب2، ولا بقي منكم وابر3، أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، فأوبوا شر مآب4، وارجعوا على أثر الأعقاب5 أما إنكم ستلقون بعدي ذلًّا شاملًا، وسيفًا قاطعًا، وأثرة6 يتخذها الظالمون فيكم سنة".   1 هو من قوله تعالى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ومعناه إذا هادنت قومًا فعلمت منهم النقض للعهد، فلا توقع بهم سابقًا إلى النقض حتى تعلمهم أنك نقضت العهد، فتكونوا في علم النقض مستوين لئلا يتهموك بالغدر، ثم أوقع بهم. 2 الحاصب: الريح الشديدة تثير الحصباء "الحصى"، وحصبه: رماه بالحصباء. 3 أي أحد. ويروى آبر، وهو الذي يأبر النخل أي يصلحه. ويروى آثر، وهو الذي يأثر الحديث أي يرويه ويحكيه. ويروى آبز، وهو الواثب. 4 أي ارجعوا شر مرجع. 5 الأعقاب جمع عقب "بكسر القاف": وهو مؤخر القدم، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} يدعو عليهم بانعكاس حالهم وارتدادهم وعودهم من العز إلى الذل. 6 أي استبدادًا عليكم بالفيء والغنائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 313- صورة أخرى: وفي رواية أخرى أن عليًّا قال لأهل النهر: "يا هؤلاء: إن أنفسكم قد سولت لكم فراق هذه الحكومة، التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها1 وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم سألوكموها مكيدة ودهنًا، فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين، وعدلتم عني عدول النكداء2 العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، وأنتم والله معاشر أخفاء الهام3، سفهاء الأحلام، فلم آت "لا أبا لكم" بجرًا4، ولا أردت بكم ضرًّا، والله ما خبلتكم5 عن أموركم، ولا أخفيت شيئًا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوةً6، ولا دنيت7 لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرًا فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه، فتاها8 وتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما "وقد سبق استيثاقنا عليهما في الحكم بالعدل" والصد للحق بسوء رأيهما وجور حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا، والخروج من جماعتنا؟ أن اختار الناس رجلين9 أحل لكم أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم، ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم، وتسفكون   1 المراد: سألتموني أن أجيب إليها. 2 رجل نكد "بكسر الكاف وفتحها وسكونها" وأنكد أي عسر، وقوم أنكاد ومناكيد، ولم أر في كتب اللغة جمعه على نكداء. 3 أخفاء: جمع خفيف، والهام: الرءوس، وهو كناية عن قلة العقل. 4 البجر، بالضم والفتح: الشر والأمر العظيم، ويروى حرامًا. 5 منعتكم وحبستكم. 6 العشوة مثلثة: ركوب الأمر على غير بيان، وبالفتح الظلمة، ويقال: أوطأته عشوة، أي غررته وحملته على أن يركب أمرًا غير مستبين الرشد، فربما كان فيه عطبه. 7 دناه وأدناه: قربه. 8 ضلا. 9 همزة الاستفهام مقدرة قبل أن: أي هل اختيار الناس رجلين أحل لكم ذلك؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 دماءهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟ ". فتنادوا لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الرب، الرواح الرواح إلى الجنة، فزحف عليهم علي فأفناهم، وقتل ابن وهب في المعركة، ولم يفلت منهم إلا عشرة "وكان ذلك سنة 37، وقيل سنة 38هـ". "تاريخ الطبري 6: 47، والإمامة والسياسة 1: 109 ونهج البلاغة 1: 44- 54". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 314- خطبة المستورد بن علفة : واجتمع بعد وقعة النهروان بالنخيلة جماعة من الخوارج، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب1، وممن كان أقام بالكوفة فقال: لا أقاتل عليًّا ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد بن علفة من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا بالعدل تخفق راياته، معلنًا مقالته، مبلغًا عن ربه، ناصحًا لأمته، حتى قبضه الله مخيرًا مختارًا، ثم قام الصديق، فصدق عن نبيه، وقاتل من ارتد عن دين ربه، وذكر أن الله عز وجل قرن الصلاة بالزكاة، فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين، ثم   1 وذلك أن الإمام قبل أن يزحف عليهم في وقعة النهروان نصب لهم راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب: "من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن. ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 قبضه الله إليه موفورًا، ثم قام الفاروق ففرق بين الحق والباطل، مسويًّا بين الناس في إعطائه، لا مؤثرًا لأقاربه، ولا محكمًا في دين ربه، وهأنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: من الآية 95] فكل أجاب وبايع1. "الكامل للمبرد 2: 154".   1 وقد وجه إليهم الإمام علي، عبد الله بن عباس داعيًا فأبوا، فسار إليهم فطحنهم جميعًا لم يفلت منهم إلا خمسة منهم المستورد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 خور أصحاب الإمام خطبة عبد الله بن عباس في أهل البصرة ... خور أصحاب الإمام وتقاعسهم عن نصرته: 315- خطبة عبد الله بن عباس في أهل البصرة: ورأى الإمام علي كرم الله وجهه بعد فشل التحكيم أن يمضي لمناجزة معاوية وأهل الشأم؛ فكتب إلى عبد الله بن عباس -وكان على البصرة- أن يشخص1 إليه من قبله من الناس؛ فأمرهم ابن عباس بالشخوص مع الأحنف بن قيس؛ فشخص معه منهم ألف وخمسمائة رجل، فاستقلهم ابن عباس، فقام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أهل البصرة: قد جاءني كتاب أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالمسير إليه مع الأحنف بن قيس؛ فلم يشخص إليه منكم إلا ألف وخمسمائة، وأنتم في الديوان2   1 شخص كمنع شخوصًا: خرج من موضع إلى غيره، وأشخصته أنا. 2 الديوان: الكتاب الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وهو فارسي معرب. قال القلقشندي في صبح الأعشى 1: 90 "وقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية في سبب تسميته بذلك وجهين: أحدهما أن كسرى ذات يوم اطلع على كتاب ديوانه في مكان لهم، وهم يحسبون مع أنفسهم فقال "ديوانه" أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ولزمه من حينئذ، ثم حذفت الهاء من آخره لكثرة الاستعمال تخفيفًا فقيل ديوان، والثاني: أن الديوان بالفارسية اسم للشيطان، وسمي الكتاب بذلك لحذقهم بالأمور، ووقوفهم على الجلي منها والخفي" أهـ، ومنه ترى أن الديوان كان يطلق في الفارسية على موضع الكتاب الحاسبين وعلى جماعة الكتاب، وقد أطلق في العربية على جريدة الحساب، ثم أطلق على الحساب، ثم على موضع الحساب،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ستون ألفًا، سوى أبنائكم وعبدانكم1 ومواليكم، ألا فانفروا2، ولا يجعل امرؤ على نفسه سبيلًا؛ فإني موقع بكل من وجدته تخلف عن دعوته، عاصيًا لإمامه، حزنًا يعقب ندمًا، وقد أمرت أبا الأسود بحشدكم، فلا يلم امرؤ جعل السبيل على نفسه إلا نفسه". "الإمامة والسياسة 1: 106، تاريخ الطبري 6: 44".   = ثم على طائفة الكتاب، وكان ذلك عهد في عصر الدولة العباسية، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من دون الدواوين في العرب سنة23 أي رتب الجرائد للعمال ورجال الجيش فيها أسماؤهم ومراتبهم في النسب وأرزاقهم "انظر تاريخ الطبري 5: 23". 1 جمع عبد. 2 نفر إلى الشيء: أسرع إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 خطبة الإمام وقد أراد الانصراف من النهروان ... 317- مقال الأشعث بن قيس: فقام الأشعث بن قيس فقال: "يا أمير المؤمنين: نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت1 أسنة رماحنا وعاد   = ثم على طائفة الكتاب، وكان ذلك عهد في عصر الدولة العباسية، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من دون الدواوين في العرب سنة23 أي رتب الجرائد للعمال ورجال الجيش فيها أسماؤهم ومراتبهم في النسب وأرزاقهم "انظر تاريخ الطبري 5: 23". 1 سقطت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 أكثرها قصدا1 فارجع بنا إلى مصرنا؛ فلنستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منا؛ فإنه أقوى لنا على عدونا". فأقبل علي بالناس حتى نزل بالنخيلة2، ثم دخل الكوفة. "الإمامة والسياسة 1: 110، وتاريخ الطبري 6: 51، ومروج الذهب 2: 38، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص179".   1 رمح قصد، وقصيد، وأقصاد: أي متكسر. 2 وعسكر بها حين نزلها، وأمر الناس أن يلزموا معه معسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا من زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إلى عدوهم من أهل الشأم. فجعلوا يتسللون ويدخلون الكوفة، حتى تركوه وما معه إلا نفر من وجوه الناس يسير، وبقي المعسكر خاليًا، فلا من دخل الكوفة خرج إليه، ولا من أقام معه صبر، فلما رأى ذلك دخل الكوفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 318- خطبة الإمام بالكوفة بعد قدومه من حرب الخوارج يستنفر الناس لقتال معاوية: وخطب الناس بالكوفة بعد قدومه من حرب الخوارج فقال: "أيها الناس استعدوا لقتال عدوٍّ، في جهادهم القربة إلى الله عز وجل، ودرك الوسيلة عنده، قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه، موزعين1 بالجور والظلم لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب2 عن الدين، يعمهون3 في الطغيان ويتسكعون4 في غمرة الضلال، فـ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ 5 الْخَيْلِ} ، {وَتَوَكَّلْوا عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .   1 أوزعه بالشيء: أغراه فأوزع به بالضم. 2 من نكب عن الطريق: أي عدل ومال. 3 من العمه "محركة": وهو التحير والتردد في الضلال. 4 تسكع: مشى مشيًا متعسفًا، وتحير. 5 اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به كالمرابطة أو جمع فعيل بمعنى مفعول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فما نفروا ولا تيسروا؛ فتركهم أيامًا حتى إذا أيس من أن يفعلوا دعا رؤساءهم ووجوههم؛ فسألهم عن رأيهم، وما الذي ينظرهم1، فمنهم المعتل، ومنهم المتكره، وأقلهم من نشط، فقام فيهم خطيبًا فقال: "شرح ابن أبي الحديد م 1: ص179، والإمامة والسياسة 1: 110، وتاريخ الطبري 6: 51".   1 يؤخرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 319- خطبة له أيضًا في استنفارهم لقتال معاوية: "عباد الله: ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم1 إلى الأرض! أرضيتم بالحياة الدينا من الآخرة بدلًا، وبالذل والهوان من العز خلفًا؟ أوكلما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم؛ كأنكم من الموت في سكرة، وكأن قلوبكم مألوسة2 فأنتم لا تعقلون، وكأن أبصاركم كمه3 فأنتم لا تبصرون، لله أنتم! ما أنتم إلا أسود الشرى4 في الدعة5، وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس! ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي6، ما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه، لعمر الله لبئس حشاش7 الحرب أنتم، إنكم تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون8، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن أخا الحرب اليقظان ذو العقل، وبات لذل من وادع، وغلب المتخاذلون، والمغلوب مقهور ومسلوب، ثم قال:   1 تثاقلتم. 2 من الألس: كشمس، وهو الجنون واختلاط العقل، ألس "كعني" فهو مألوس. 3 كمه: جمع أكمه من كمه بصره "كفرح" اعترته ظلمة تطمس عليه. 4 الشرى: موضع تنسب إليه الأسد، قيل هو شرى الفرات وناحيته وبه غياض وآجام ومأسدة. 5 أي في وقت الدعة والخفض. 6 يقال: لا آتيك سجيس الليالي: أي أبدًا. 7 جمع حاش اسم فاعل، من حش النار: أي أوقدها. 8 أي ولا تبتعدون عن ذلك وتتلافونه بالدفاع عنها، من حاشية الشيء وهي ناحيته كما تقول تنحى عنه: أي تباعد عنه من الناحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 "أما بعد: فإن لي عليكم حقًّا، وإن لكم علي حقًّا؛ فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم؛ فالوفاء بالبيعة والنصح لي في الغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيرًا تنزعوا عما أكره، وترجعون إلى ما أحب، تنالوا ما تطلبون، وتدركوا ما تأملون". "تاريخ الطبري 6: 51، الإمامة والسياسة 1: 110". وروى الشريف الرضي هذه الخطبة في نهج البلاغة بصورة أخرى وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 صورة أخرى1 مدخل ... 320- صورة أخرى: "أفٍ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضًا، وبالذل من العز خلفًا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم؛ كأنكم من الموت في غمرة1، ومن الذهول في سكرة، يرتج2 عليكم حواري فتعمهون! فكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يمال بكم3، ولا زوافر4 عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها؛ فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس لعمر الله سعر5 نار الحرب أنتم، تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون6، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غلب والله المتخاذلون، وايم الله إني لأظن بكم أن لو حمس7 الوغى،   1 الغمرة: الشدة. 2 يغلق، والحوار: المحاورة. 3 أي يستند إليكم ويمال على العدو بقوتكم. 4 جمع زافرة، والزافرة من البناء: ركنه، ومن الرجل: عشيرته. 5 من سعر النار والحرب: كمنع أوقدها مصدر بمعنى اسم الفاعل، أو هو جمع ساعر، كقولهم: قوم كظم للغيظ جمع كاظم. 6 أي فلا تغضبون. 7 اشتد، وكذا استحر، وأصل الوغى: الصوت والجلبة، ثم سميت الحرب وغى لما فيها من الأصوات والجلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 واستحر الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب، انفراج الرأس1، والله إن امرأ يمكن عدوه من نفسه يعرق2 لحمه، ويهثم عظمه، ويفري3 جلده لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت4 فأما أنا: فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية5 تطير منه فراش6 الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل بعد ذلك ما يشاء. أيها الناس: إن لي عليكم حقًّا، ولكم علي حق؛ فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم".   1 أي انفراجًا لا التئام بعده. 2 عرق العظم عرقًا. أكل ما عليه من اللحم، كتعرقه. 3 يمزق. 4 الخطاب عام لكل من أمكن عدوه من نفسه. 5 السيوف، نسبة إلى مشارف الشام، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف. 6 عظامها الرقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وزاد ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : "والله يأهل العراق، ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشأم إلا ظاهرين1 عليكم؛ فقالوا: أبعلم تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟ " فقال: "نعم والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إني أرى أمورهم قد علت، وأرى أموركم قد خبت2، وأراهم جادين في باطلهم، وأراكم وانين3 في حقكم، وأراهم مجتمعين، وأراكم متفرقين، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين، وأراكم لي عاصين، أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي، لتجدنهم أرباب سوء، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم   1 منتصرين. 2 من خبت النار، أي سكنت وانطفأت. 3 من ونى: إذا فتر وضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 في بلادكم، وحملوا إلى بلادهم منكم، وكأني أنظر إليكم تكشون1 كشيش الضباب، لا تأخذون لله حقًّا، ولا تمنعون له حرمة، وكأني أنظر إليهم يقتلون صلحاءكم، ويخيفون علماءكم، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم، ويدنون الناس دونكم؛ فلو قد رأيتم الحرمان، ولقيتم الذل والهوان، ووقع السيف، ونزل الخوف، لندمتم وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية، حين لا ينفعكم التذكار".   1 كش الضب كشيشا: صوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 321- خطبة أبي أيوب الأنصاري : ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال: "إن أمير المؤمنين -أكرمه الله- قد أسمع من كانت له أذن واعية، وقلب حفيظ إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها؛ حيث نزل بين أظهركم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير المسلمين وأفضلهم وسيدهم بعده، يفقهكم في الدين ويدعوكم إلى جهاد المحلين؛ فوالله لكأنكم صم لا تسمعون، وقلوبكم غلف1 مطبوع عليها، فلا تستجيبون. عباد الله أليس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد وشاع في الإسلام، فذو حتى محروم مشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوء بطنه، وملقى بالعراء2، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحق ونشر العدل، وعمل بالكتاب؛ فاشكروا نعمة الله عليكم، ولا تتولوا مجرمين، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، اشحذوا السيوف، وجددوا آلة الحرب، واستعدوا للجهاد، فإذا دعيتم فأجيبوا، وإذا أمرتم فأطيعوا، تكونوا بذلك من الصادقين". "الإمامة والسياسة 1: 112".   1 جمع أغلف، وقلب أغلف كأنما غشى غلافًا فهو لا يعي. 2 العراء: الفضاء لا يستتر فيه بشيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 322- خطبة الإمام وقد أغار النعمان بن بشير على عين التمر : وفي سنة 39هـ فرق معاوية جيوشه في أطراف علي؛ فبعث النعمان بن بشير الأنصاري في ألفين، فأتوا عين التمر1 فأغاروا عليها، وبها عامل لعلي في ثلثمائة، فكتب إلى علي يستمده، فأمر الناس أن ينهضوا إليه فتثاقلوا، فصعد المنبر فتشهد ثم قال: "يأهل الكوفة: كلما سمعتم بمنسر2 من مناسر أهل الشأم أظلكم، انجحر3 كل امرئ منكم في بيته، وأغلق بابه، انجحار الضب في جحره، والضبع في وجارها4، المغرور من غررتموه، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء5، إن لله وإنا إليه راجعون! ماذا منيت به منكم؟ عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تستمعون! إنا لله وإنا إليه راجعون! ". "تاريخ الطبري 6: 77". وروى الشريف الرضي في نهج البلاغة هذه الخطبة ب صورة أخرى وهي:   1 بلد على الفرات شمالي الكوفة. 2 المنسر: قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير. 3 من انجحر الضب: أي دخل جحره. 4 الوجار بالكسر والفتح: جحر الضبع وغيرها. 5 النجاء: السرعة في السير، نجوت نجاء أي أسرعت وسبقت، وقالوا: النجاء النجاء، والنجا النجا فدوا وقصروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 323- صورة أخرى: منيت1 بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت! لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم، ولا حمية تحمشكم2؟ أقوم فيكم مستصرخًا، وأناديكم متغوثًا3 فلا تسمعون لي قولًا، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تكشف الأمور   1 بليت. 2 تغضبكم. 3 قائلًا واغوثاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 عن عواقب المساءة؟ فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام؟ دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم1 جرجرة الجمل الأسر2 وتثاقلتم تثاقل النضو3 الأدبر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب4 ضعيف؛ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون". "نهج البلاغة 1: 46".   1 الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته، وأكثر ما يكون ذلك عند الإعياء والتعب. 2 المصاب بداء السرر "بالتحريك"، وهو وجع في الكركرة "رحى زور البعير". 3 النضو: البعير المهزول، والأدبر: المدبور أي المجروح. 4 جنيد: تصغير جند، ومتذائب: أي مضطرب من قولهم: تذاءت الريح، أي اضطرب هبوبها، ومنه سمي الذئب ذئبًا لاضطراب مشيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 324- خطبة الإمام وقد أغار الضحاك بن قيس على الحيرة 1: ووجه معاوية الضحاك بن قيس فأغار على الحيرة وغنم أموال أهلها، وبلغ ذلك عليًًّا فاستصرخ الناس، فتقاعدوا عنه، فقام فيهم خطيبًا فقال: "أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم2 الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت وكيت3؛ فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد4، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل5، دفاع ذي الدين المطول6، هيهات لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك   1 شمالي الكوفة. 2 يوهي: يشق ويخرق، والصم: جمع أصم، وهو الحجر الصلب المصمت. 3 بفتح آخرهما ويكسر: أي كذا كذا. 4 حيدي حياد: كلمة يقولها الهارب الفار، من حاد حيدانًا بمعنى مال وانحرف، أي ابعدي وتنحي عني أيتها الحرب، وهي نظيرة قولهم "فيحى فياح" أي اتسعي. 5 الأضاليل: جمع أضلولة بالضم، وهي الضلال، وفي كتب اللغة: العلالة ""بالضم" والتعلة "كتحية"، والعلة "بالفتح" ما يتعلل به"، ولم أجد فيها كلمة أعاليل ولا مفردها ولا بد أن تكون جمع أعلولة بالضم: كأضاليل وأعاجيب وألاعيب ... إلخ. والمعنى إن أقوالكم هذه تعلل بأباطيل لا جدوى لها. 6 مبالغة في ماطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الحق إلا بالجد، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم؛ فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل1، وأصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم، ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم! أقولًا بغير علم، وغفلة من غير ورع، وطمعًا في غير حق! ". وزاد ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: "فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من خير لي منكم، وأعقبكم بعدي من شر لكم مني، أما إنكم ستلقون بعدي ذلًّا شاملًا، وسيفًا قاتلًا، وأثرة يتخذها الظالمون بعدي فيكم سنة، تفرق جماعتكم، وتبكي عيونكم، وتدخل الفقر بيوتكم، تمنون والله عندها أن لو رأيتموني ونصرتموني، وستعرفون ما أقول لكم عما قليل. استنفرتكم فلم تنفروا! ونصحت لكم فلم تقبلوا! وأسمعتكم فلم تعوا؛ فأنتم شهود كأغياب، وصم ذوو أسماع، أتلو عليكم الحكمة، وأعظكم بالموعظة النافعة، وأحثكم على جهاد المحلين2، الظلمة الباغين؛ فما آتي على آخر قولي، حتى أراكم متفرقين، وإذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا3 عزين4، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار، تربت5 أيديكم، وقد نسيتم الحرب واستعدادها، وأصبحت قلوبكم فارغة عن ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل". "نهج البلاغة 1: 39، والإمامة والسياسة 2: 111، والبيان والتبيين 2: 26".   1 سهم أفوق مكسور الفوق "بضم الفاء" والفوق: مدخل الوتر من السهم، والناصل: العاري عن النصل. 2 أي الذين خرجوا على إمامهم واستحلوا قتاله. 3 الحلق: محركة جمع حلقة "بسكون اللام" وحلقة القوم: الذين يجتمعون مستديرين. 4 جمع عزة "بالكسر": وهي الطائفة من الناس. 5 دعاء عليهم: أي خسرتم ولا أصبتم خيرًا، وأصله من ترب الرجل: أي افتقر كأنه لصق بالتراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 325- خطبة الإمام : وقد أغار سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار. ووجه معاوية سفيان بن عوف الغامدي في جيش، فأغاروا على الأنبار1 وقتلوا عامل علي عليها وهو حسان بن حسان البكري، واحتملوا ما كان في الأنبار من الأموال وأموال أهلها، وانتهى الخبر إلى علي فخرج مغضبًا حتى أتى النخيلة، واتبعه الناس فرقي رباوة2 من الأرض؛ فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أما بعد: فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته3 الوثيقة؛ فمن تركه رغبة عنه، ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث4 بالصغار والقماءة5، وضرب على قلبه بالإسهاب6، وأديل7 الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف8، ومنع النصف9، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وإعلانًا، وقلت لكم اغزوهم من قبل أن يغزوكم؛ فوالله ما غزي قوم قط في عقر10 دارهم إلا ذلوا؛ فتخاذلتم   1 بلد على الفرات. 2 الربوة والرباوة مثلثتين: ما ارتفع من الأرض. 3 وقايته 4 ذلل، وأصله من داث الشيء من باب باع: لان وسهل ومنه الديوث، وهو الرجل الذي لا غيرة له على أهله، والصغار: الذل. 5 قمأ: كجمع وكرم، قماءة: ذل وصغر. 6 هكذا في رواية ابن أبي الحديد، من أسهب بالضم: أي ذهب عقله، وفي نهج البلاغة: "طبع الشام" بالأسداد. 7 من أداله الله من عدوه: أي نصره عليه، والباء في قوله "بتضييع الجهاد" للسببية. 8 أي أولي الذل والضيم، وفي رواية المبرد "وسيمي الخسف" بالإضافة، والسيمي: العلامة. قال المبرد: هكذا حدثونا وأظنه سيم الخسف، من قول الله عز وجل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} . 9 النصف بالكسر ويثلث، والنصف والنصفة محركين الإنصاف. 10 وسطها وأصلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وتواكلتم وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريًّا؛ حتى شنت1 عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان، هذا أخو غامد2 قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان بن حسان البكري، ورجالًا منهم كثيرًا ونساء، وأزال خيلكم عن مسالحها3. والذي نفسي بيده، لقد بلغني أنه كان يدخل على المرآة المسلمة، والأخرى المعاهدة4، فينتزع حجلها5 وقلبها6، وقلائدها ورعثها7، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع8 والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين9، ما نال رجلًا منهم كلم10، ولا أريق لهم دم؛ فلو أن امرأ مسلمًا مات من دون هذا أسفًا، ما كان عندي فيه ملومًا؛ بل كان به عندي جديرًا. يا عجبًا كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان! من تضافر11 هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضًا12 ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون: إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء؛ قلتم هذا أوان قر13 وصر، وإن قلت لكم اغزوهم   1 شن الغارة عليهم: صبها من كل وجه، من شن الماء على رأسه إذا صبه. 2 يريد سفيان بن عوف الغامدي قائد الحملة على الأنبار. 3 جمع مسلحة بالفتح: وهي الثغر. 4 المعاهدة: ذات العهد، وهي الذمية. 5 الحجل بالفتح: الخلخال، وسمي القيد حجلًا؛ لأنه يكون مكان الخلخال. 6 القلب: سوار المرأة. 7 الرعثة بالفتح: القرط، والجمع رعاث بالكسر، وجمع الجمع رعث بضمتين. 8 قول: إنا لله وإنا إليه راجعون. 9 أي تامين، وفي رواية المبرد: "موفورين" أي لم ينل أحدًا منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال. 10 جرح. 11 تعاون وتناصر. 12 وفي رواية نهج البلاغة: "فقبحًا لكم وترحا حين صرتم غرضًا يرمى" وزادت رواية الجاحظ بعد ذلك: "وفيئًا ينهب" والترح: محركة الهم، والغرض: الهدف. 13 القر مثلثة القاف: البرد، والصر: شدة البرد. وفي النهج: "وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء؛ قلتم هذه صبارة القر، أمهلنا: ينسلخ عنا البرد" وصبارة الشتاء بتشديد الراء: شدة برده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 في الصيف، قلتم حمارة1 القيظ، أنظرنا2 ينصرم الحر عنا؛ فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون؛ فأنتم والله من السيف أفر! يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام3 الأحلام! ويا عقول ربات الحجال4، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندمًا، وأعقبت سدمًا5! قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحًا6، وشحنتم صدري غيظًا، وجرعتموني نغب التهام أنفاسًا7، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان؛ حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له في الحرب! لله درهم8! ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراسًا؟ فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت9 اليوم على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع "يقولها ثلاثًا". فقام إليه رجل ومعه أخوه10 فقال: "يا أمير المؤمنين أنا وأخي هذا، كما قال الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي   1 شدة الحر. 2 أي أمهلنا حتى ينسلخ الحر، وفي رواية النهج "أمهلنا يسبخ عنا الحر" بتشديد الباء المفتوحة: أي يخف ويسكن، وكل من خفف عنه شيء فقد سبخ عنه، ومنه قولهم: اللهم سبخ عني الحمى: أي خففها. 3 أوغاد الناس ومن لا عقل له ولا معرفة عنده. والأحلام العقول: جمع حلم بالكسر، ويجمع أيضًا على حلوم، وفي رواية النهج: "حلوم الأطفال". 4 الحجال: جمع حجلة بالتحريك، وهي القبة، وموضع يزين بالستور والثياب للعروس -كناية عن النساء. 5 السدم: الهم، أو مع ندم، أو غيظ مع حزن. 6 القيح: ما يكون في القرحة من صديدها، وشحنتم: ملأتم، وفي رواية الكامل: "ولقد ملأتم جوفي غيظًا". 7 النغب: جمع نغبة بالفتح والضم، وهي الجرعة، والتهمام: الهم، وأنفاسًا أي جرعة بعد جرعة، يقال: اكرع في الإناء نفسين أو ثلاثة. 8 لله دره: أي عمله، والدر أيضًا: اللبن، أي لله الثدي الذي رضعه، وهو تعجب أريد به التهكم، وفي رواية النهج: "لله أبوهم"! 9 نيفت: زدت ورواية النهج: "وهأنذا قد ذرفت على الستين" أي زدت أيضًا. 10 الرجل وأخوه: يعرفان بابني عفيف من الأنصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وَأََخِي} فمرنا بأمرك؛ فوالله لننتهين إليه، ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا1، وشوك القتاد2" فدعا لهما بخير، ثم قال لهما: "وأين تقعان مما أريد؟ " ثم نزل. "نهج البلاغة 1: 35، الكامل للمبرد 1: 11، البيان والتبيين 2: 25، والأغاني 15: 43".   1 شجر جمره يبقى طويلًا. 2 شجر صلب له شوك كالإبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 خطبة الحسن بن علي في يوم جمعة ... 326- خطبة للحسن بن علي في يوم جمعة: اعتل الإمام علي كرم الله وجهه يومًا، فأمر ابنه الحسن رضي الله عنه أن يصلي بالناس يوم الجمعة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله لم يبعث نبيًّا إلا اختار له نفسًا ورهطًا وبيتًا، فوالذي بعث محمدًا بالحق، لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد، إلا نقصه الله من عمله مثله، ولا يكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة، ولتعلمن نبأه بعد حين". "مروج الذهب 2: 53". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 "أما بعد: فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان، وقطعت إحدهما يوم صفين "يعني عمار بن ياسر"، وقطعت الأخرى اليوم "يعني الأشتر" ". "تاريخ الطبري 6: 54".   = إلى القلزم استقبله الجايستار، فقال: هذا منزل وهذا طعام وعلف، وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل به الأشتر، وسأل الدهقان: أي الطعام والشراب أحب إليه؟ قيل العسل، فأهدى له عسلًا قد جعل فيه سما وقال: إن من شأنه كذا وكذا، فتناول منه شربة، فما استقرت في جوفه حتى تلف، وأتى من كان معه على الدهقان ومن معه، فبلغ ذلك عليًا، فقال: "لليدين والفم" وبلغ معاوية، فقال: "إن لله جنودًا منها العسل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 327- خطبة معاوية وقد بلغه هلاك الأشتر : ولما نمى إلى معاوية هلاك الأشتر النخعي1، قام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:   1 هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي توفي سنة 38هـ. روى المؤرخون أنه مات مسمومًا سمه معاوية، وذلك أن الإمام عليا كان قد ولى على مصر محمد بن أبي بكر ففسدت عليه، وخرجت عليه بها خوارج، فبعث إليها الأشتر وأتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية الأشتر، فعظم ذلك عليه، وقد كان طمع في مصر، فعلم أنه إن قدمها كان أشد عليه من بن أبي بكر، فبعث إلى الجايستار "رجل من أهل الخراج"، فقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت، "وقيل قال له أترك خراجك عشرين سنة" فاحتل له بما قدرت عليه، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فتنة البصرة مدخل ... فتنة البصرة: تسيير معاوية عبد الله بن عامر الحضرمي إليها ومقتله. لما قتل محمد بن أبي بكر بمصر وظهر معاوية عليها "سنة 38هـ" دعا عبد الله بن عامر الحضرمي، فقال له: "سر إلى البصرة فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان، ويعظمون قتله، وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم موتورون حنقون لما أصابهم، ودوا لو يجدون من يدعوهم ويجمعهم، وينهض بهم في الطلب بدم عثمان، ودفع إليه كتابًا، وأمره إذا قدم أن يقرأه على الناس1، فمضى حتى نزل البصرة في بني تميم، فسمع بقدومه أهل البصرة، فجاءه كل من يرى عثمان، فاجتمع إليه رءوس أهلها.   1 وكان الذي سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي كتاب كتبه إليه عباس بن صحار العبدي، وفيه: "أما بعد: فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر الذين بغوا على إمامهم، وقتلوا خليفتهم طمعًا وبغيًا، فقرت بذلك العيون، وشفيت بذلك النفوس، وبردت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين، ولعدوه مفارقين، ولكم موالين، وبك راضين، فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرًا طيبًا ذكيًّا ذا عفاف ودين إلى الطلب بدم عثمان فعلت، فإني لا إخال الناس إلا مجمعين عليك، وإن ابن عباس غائب عن المصر والسلام" فكتب إليه معاوية "أما بعد: فقد قرأت كتابك، فعرفت نصيحتك، وقبلت مشورتك. رحمك الله وسددك، اثبت هداك الله على رأيك الرشيد، فكأنك بالرجل الذي سألت قد أتاك، وكأنك بالجيش قد أطل عليك، فسررت وحييت والسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 328- خطبة عبد الله بن عامر الحضرمي : فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد أيها الناس: فإن إمامكم إمام الهدى عثمان بن عفان، قتله علي بن أبي طالب ظلمًا، فطلبتم بدمه، وقاتلتم من قتله، فجزاكم الله من أهل مصرٍ خيرًا، وقد أصيب منكم الملأ الأخيار، وقد جاءكم الله بإخوان لكم، لهم بأس يتقى وعدد لا يحصى، فلقوا عدوكم الذين قتلوكم، فلبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين، ورجعوا وقد نالوا ما طلبوا، فمالئوهم1 وساعدوهم، وتذكروا ثأركم، لتشفوا صدوركم من عدوكم".   1 ساعدوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 خطبة الضحاك بن عبد الله الهلاكي ... 329- خطبة الضحاك بن عبد الله الهلالي: فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي فقال: "قبح الله ما جئتنا به، وما دعوتنا إليه، جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك: طلحة والزبير، أتيانا وقد بايعنا عليًّا واجتمعنا له، فكلمتنا واحدة، ونحن على سبيل مستقيم، فدعوانا إلى الفرقة، وقاما فينا بزخرف القول، حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانًا وظلمًا، فاقتتلنا على ذلك، وايم الله ما سلمنا من عظيم وبال ذلك، ونحن الآن مجمعون على بيعة هذا العبد الصلاح، الذي أقال العثرة، وعفا عن المسيء، وأخذ بيعة غائبنا وشاهدنا، أفتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها، ثم يضرب بعضنا بعضا؛ ليكون معاوية أميرًا، وتكون له وزيرًا، ونعدل بهذا الأمر عن علي؟ والله ليوم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 أيام علي مع رسول الله صلى الله عليه وآله، خير من بلاء معاوية وآل معاوية، لو بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية1". فقام عبد الله بن حازم السلمي، فقال للضحاك: "اسكت فلست بأهل أن تتكلم في أمر العامة" ثم أقبل على ابن الحضرمي، فقال: "نحن يدك وأنصارك. والقول ما قلت، وقد فهمنا عنك، فادعنا أنى شئت" فقال الضحاك لابن حازم: "يا بن السوداء2، والله لا يعز من نصرت، ولا يذل بخذلانك من خذلت" فتشاتما.   1 ما: ظرفية، أي ما دامت الدنيا باقية. 2 وكانت أمه سوداء حبشية يقال لها عجلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 330- خطبة عبد الرحمن بن عمير القرشي : فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي التميمي فقال: "عباد الله: إنا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة، ولا نريد أن تقتتلوا وتتنابزوا1 ولكنا إنما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم، وتوازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم، وأن تلموا شعثكم، وتصلحوا ذات بينكم، فمهلًا مهلًا رحمكم الله، استمعوا لهذا الكتاب، وأطيعوا الذي يقرأ عليكم". فلما قرئ عليهم الكتاب، قال معظمهم: "سمعنا وأطعنا" وقال الأحنف بن قيس: "أما أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جمل2"، واعتزل أمرهم ذلك، وقال عمرو بن مرحوم من عبد القيس: "أيها الناس، الزموا طاعتكم، ولا تنكثوا بيعتكم، فتقع   1 النبز: محركة اللقب، والتنابز: التعاير والتداعي بالألقاب. 2 أصل المثل للحارث بن عباد البكري حين قتل جساس بن مرة كليبًا، وهاجت الحرب بين بكر وتغلب "حرب البسوس" وكان الحارث قد اعتزلهما، والقصة مشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 بكم واقعة، وتصيبكم قارعة1، ولا يكن بعدها لكم بقية، ألا إني قد نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين". ثم إن الناس أقبلوا إلى ابن الحضرمي وكثر تبعه -وكان الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن أبيه استخلفه عبد الله بن عباس وقدم الكوفة على علي عليه السلام يعزيه عن محمد بن أبي بكر- فأفزع ذلك زيادًا وهاله، وخلى قصر الإمارة، واستجار بالأزد فأجاروه، وكتب إلى ابن عباس بالأمر، وطلب إليه أن يرفع ذلك إلى أمير المؤمنين، ليرى فيه رأيه، وغلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة وجباها، وأجمعت الأزد على زياد، وأعدوا له منبرًا وسريرًا وشرطًا.   1 داهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 331- خطبة زياد بن أبيه : فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا معشر الأزد: إنكم كنتم أعدائي، فأصبحتم أوليائي وأولى الناس بي، وإني لو كنت في بني تميم، وابن الحضرمي فيكم، لم أطمع فيه أبدًا، وأنتم دونه، فلا يطمع ابن الحضرمي في وأنتم دوني، وليس ابن آكلة الأكباد –في بقية الأحزاب وأولياء الشيطان- بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين والأنصار، وقد أصبحت فيكم مضمونًا، وأمانة مؤداة، وقد رأينا وقعتكم يوم الجمل، فاصبروا مع الحق صبركم مع الباطل، فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة، ولا تعذرون على الجبن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 332- خطبة شيمان الأزدي : فقام شيمان الأزدي –ولم يكن شهد يوم الجمل وكان غائبًا- فقال: "يا معشر الأزد: ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر، وقد كنتم أمس على علي عليه السلام، فكونوا اليوم له، واعلموا أن إسلامكم1 له ذل، وخذلانكم إياه عار، وأنتم حي مضماركم الصبر، وعاقبتكم الوفاء، فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم، وإن استمدوا معاوية فاستمدوا عليًّا عليه السلام، وإن وادعوكم فوادعوهم".   1 أسلمه: خذله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 333- خطبة صبرة بن شيمان : ثم قام صبرة ابنه، فقال: "يا معشر الأزد: إنا قلنا يوم الجمل نمنع مصرنا، ونطيع أمنا، ونطلب دم خليفتنا المظلوم، فجددنا في القتال، وأقمنا بعد انهزام الناس، حتى قتل منا من لا خير فينا بعده، وهذا زياد جاركم اليوم، والجار مضمون، ولسنا نخاف من علي ما نخاف من معاوية، فهبوا لنا أنفسكم، وامنعوا جاركم، أو فأبلغوه مأمنه". فقالت الأزد: إنما نحن لكم تبع فأجيروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 334- خطبة الإمام علي : واستنفر علي بني تميم أيامًا لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمي، ويرد عادية بني تميم الذين أجاروه بها، فلم يجبه أحد فخطبهم وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 "أليس من العجب أن ينصرني الأزد1، وتخذلني مضر؟ وأعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي، وخلاف تميم البصرة علي، وأن أستنجد بطائفة منها تشخص إلى إخوانها فتدعوهم إلى الرشاد، فإن أجابت وإلا فالمنابذة والحرب، فكأني أخاطب صمًّا بكمًا، لا يفقهون حوارًا، ولا يجيبون نداءً، كل هذا جبنًا عن البأس، وحبًّا للحياة، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا، وإخواننا وأعمامنا2، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، ومضيًّا على اللقم3، وصبرًا على مضض الألم، وجدًّا في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان4 تصاول الفحلين يتخالسان5 أنفسهما، أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت6، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقيًا جرانه7، ومتبوئًا أوطانه، ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم، ما قام للدين عمود، ولا اخضر للإيمان عود، وايم الله لتحتلبنها دمًا8، ولتتبعنها ندمًا". فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي9 فقال: "أنا إن شاء الله أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب، وأتكفل لك بقتل ابن الحضرمي، أو إخراجه عن البصرة" فأمره بالتهيؤ للشخوص، فشخص إلى البصرة.   1 هم من العرب اليمانيين. 2 قتلهم الأقارب في ذات الله كثير، قتل علي عليه السلام الجم الغفير من بني عبد مناف وبني عبد الدار في يوم بدر وأحد وهم عشيرته وبنو عمه، وقتل عمر بن الخطاب يوم بدر خاله العاص بن هاشم بن المغيرة، وقتل حمزة بن عبد المطلب شيبة بن ربيعة يوم بدر وهو ابن عمه، ومثل ذلك كثير مذكور في كتب السيرة. 3 لقم الطريق: الجادة الواضحة منها. 4 التصاول: أن يصول كل من القرنين على صاحبه. 5 التخالس: التسالب، أي يبغي كل أن يسلب روح الآخر. 6 الإذلال. 7 جران البعير: مقدم عنقه، وهو كناية عن التمكن كالبعير يلقى جرانه على الأرض. 8 يقال لمن أسرف في الأمر: لتحتلبن دمًا، وأصلها الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم. 9 مجاشع بن دارم: أبو قبيلة من تميم، وأعين بن ضبيعة، هو الذي عقر الجمل الذي كانت عليه عائشة يوم الجمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 335- خطبة أعين بن ضبيعة : فلما قدمها دخل على زياد، وهو بالأزد مقيم فأخبره بأمره، ثم خرج فأتى رحله، فجمع إليه رجالًا من قومه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا قوم: على ماذا تقتلون أنفسكم، وتهريقون دماءكم، على الباطل مع السفهاء الأشرار؟ وإني والله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود، فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم ويكف عنكم، وإن أبيتم فهو والله استئصالكم وبواركم". فقالوا بل نسمع ونطيع، فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي، فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي وواقفهم عامة يومه يناشدهم الله ويقول: "يا قوم لا تنكثوا بيعتكم، ولا تخالفوا إمامكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلًا، فقد رأيتم وجربتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم". فكفوا عنه وهم في ذلك يشتمونه وينالون منه فانصرف عنهم، فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج فقتلوه، وكتب زياد إلى الإمام بذلك، فأشخص إليهم جارية بن قدامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 336- خطبة جارية بن قدامة : فلما دخل البصرة بدأ بزياد، فناجاه ساعة وساءله، ثم خرج من عنده، فقام في الأزد فقال: "جزاكم الله من حي خيرًا، ما أعظم غناءكم1، وأحسن بلاءكم، وأطوعكم   1 أي كفايتكم ونفعكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 لأميركم، لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره، ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه" ثم قرأ عليهم كتاب علي عليه السلام، فقام صبرة بن شيمان، فقال: "سمعنا وأطعنا، ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب، ولمن سالم سلم، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك، وإن أحببت أن ننصرك نصرناك" وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك، فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه، ومضى نحو بني تميم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 337- خطبة زياد : فقام زياد في الأزد فقال: "يا معشر الأزد: إن هؤلاء كانوا أمس سلمًا، فأصبحوا اليوم حربًا، وإنكم كنتم حربًا فأصبحتم سلمًا، وإني والله ما اخترتكم إلا على التجربة، ولا أقمت فيكم إلا على الأمل، فما رضيتم أن أجرتموني، حتى نصبتم لي منبرًا وسريرًا، وجعلتم لي شرطًا وأعوانًا، ومناديًا وجمعة، فما فقدت بحضرتكم شيئًا إلا هذا الدرهم لا أجيبه اليوم، فإن لم أجبه اليوم أجبه غدًا إن شاء الله، واعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدنيا والدين من حربكم أمس عليًّا، وقد قدم عليكم جارية بن قدامة، وإنما أرسله علي ليصدع أمر قومه، والله ما هو بالأمير المطاع، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين، ولكان لي تبعًا، وأنتم الهامة العظمى، والجمرة الحامية، فقدموه إلى قومه، فإن اضطر إلى نصركم، فسيروا إليه إن رأيتم ذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 338- خطبة أبي صبرة شيمان: فقام أبو صبرة شيمان فقال: "يا زياد، إني والله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت ألا يقاتلوا عليًا، وقد مضى الأمر بما فيه، وهو يوم بيوم، وأمر بأمر، والله إلى الجزاء بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ، والتوبة مع الحق، والعفو مع الندم، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء، واستئناف الأمور، ولكنها جماعة، دماؤها حرام، وجروحها قصاص ونحن معك نحب ما أحببت". فعجب زياد من كلامه، وقال: "ما أظن في الناس مثل هذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 339- خطبة صبرة بن شيمان: ثم قام صبرة ابنه فقال: "إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا، كما أصبنا أمس يوم الجمل، وإنا لنرجو اليوم أن يمحص1 ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين. وأما أنت يا زياد، فوالله ما أدركت أملك فينا، ولا أدركنا أملنا فيك، دون ردك إلى دارك، ونحن رادوك إليها غدًا إن شاء الله تعالى، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا، فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك، وإنا والله نخاف من حرب علي في الآخرة، ما لانخاف من حرب معاوية في الدنيا، فقدم هواك، وأخر هوانا، فنحن معك وطوعك".   1 من محص الذهب بالنار كقطع: أخلصه مما يشوبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 340- خطبة خنفر الحماني : ثم قام خنفر الحماني فقال: "أيها الأمير: إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا، لم نرض ذلك لأنفسنا، سر بنا إلى القوم إن شئت، وايم الله ما لقينا يومًا قط إلا اكتفينا بعفونا1 دون جهدنا، إلا ما كان أمس". أما جارية فإنه كلم قومه فلم يجيبوه، وخرج إليه منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه، فأرسل إلى زياد والأزد يستصرخهم، فسارت الأزد بزياد، وخرج إليهم ابن الخضرمي وعلى خيله عبد الله بن حازم السلمي، فاقتتلوا ساعة، فما لبثوا بني تميم أن هزموهم، وحصروا ابن الحضرمي في إحدى دور البصرة، في عدة من أصحابه، وحرق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلًا، وسارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة ومعه بيت المال، وقالوا له: هل بقي علينا من جوارك شيء؟ قال: لا، فانصرفوا عنه، وكتب زياد بذلك أمير المؤمنين عليه السلام. "شرح ابن أبي الحديد م 1 ص 348، ونهج البلاغة 1: 53".   1 العفو: الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 341- صعصعة بن صوحان ومعاوية : أرسل علي كرم الله وجهه إلى معاوية بالشام كتابًا صحبة صعصعة بن صوحان، فسار به حتى أتى دمشق، فأتى باب معاوية، فقال لآذنه استأذن لرسول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -وبالباب جماعة من بني أميه- فأخذته النعال والأيدى، لقوله "أمير المؤمنين"، وكثرت عليه الجلبة، فاتصل ذلك بمعاوية، فأذن له، فدخل عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فقال: السلام عليك يا بن أبي سفيان، هذا كتاب أمير المؤمنين، فقال معاوية: أما إنه لو كانت الرسل تقتل في جاهلية أو إسلام لقتلتك، ثم اعترضه معاوية في الكلام، وأراد أن يستخبره، ليعرف طبعًا أو تكلفًا، فقال له ممن الرجل؟ قال من نزار، قال وما كان نزار؟ قال كان إذا غزا انكمش1، وإذا لقي افترش2، وإذا انصرف احترش3، قال فمن أي أولاده أنت؟ قال من ربيعة، قال وما كان ربيعة؟ قال: كان يطيل النجاد4، ويعول العباد، ويضرب ببقاع الأرض العماد. قال فمن أي أولاده أنت؟ قال من جديلة، قال وما كان جديلة؟ قال كان في الحرب سيفًا قاطعًا، وفي المكرمات غيثًا نافعًا، وفي اللقاء لهبًا ساطعًا، قال فمن أي أولاده أنت؟ قال من عبد القيس، قال وما كان عبد القيس؟ قال كان حسنًا أبيض5 وهابًا، يقدم لضيفه ما وجد، ولا يسأل عما فقد، كثير المرق، طيب العرق، يقوم للناس مقام الغيث من السماء، قال ويحك يا بن صوحان! فما تركت لهذا الحي من قريش مجدًا ولا فخرًا؟ قال بلى والله يا بن أبي سفيان؟ تركت لهم ما لا يصلح إلا لهم، تركت لهم الأحمر والأبيض والأصفر6، والسرير والمنبر7، والملك إلى المحشر. ففرح معاوية، وظن أن كلامه يشتمل على قريش كلها، قال: صدقت يا بن صوحان، إن ذلك لكذلك، فعرف صعصعة ما أراد، فقال: ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد8، بعدتم عن أنف9 المرعى، وعلوتم عن عذب الماء، قال ولم ذلك؟ ويلك يا بن صوحان! فقال الويل لأهل النار،   1 انكمش وتكمش: أسرع، والكميش: الرجل السريع. 2 افترش فلانًا: غلبه وصرعه. 3 احترش الشيء: جمعه وكسبه 4 حمائل السيف، وهو كناية عن طول القامة. 5 أي أبيض اللون كناية عن أنه حر لا رقيق، أو أبيض العرق نقيه. 6 الأحمر: الذهب، والأبيض: الفضة "والسيف أيضًا" والأصفر: الذهب. كناية عن الغنى والثروة "وقد كان لقريش في الجاهلية مركز تجاري مهم". 7 كناية عن الملك والمقدرة الخطابية. 8 أورد إبله الماء وأصدرها: ردها وأرجعها. 9 روضة أنف: لم ترع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ذلك لبني هاشم، قال قم، فأخرجوه. فقال صعصعة: الوعد بيني وبينك لا الوعيد، من أراد المناجزة، يقبل المحاجزة1، فقال معاوية لشيء ما سوده قومه، وددت أني من صلبه، ثم التفت إلى بني أمية فقال: هكذا فلتكن الرجال! "صبح الأعشى 1: 254، ومروج الذهب 2: 77".   1 وفي مروج الذهب: "من أراد المشاجرة قبل المحاورة" والوارد في الأمثال: "المحاجزة قبل المناجزة" أي المسالمة قبل المعاجلة في القتال، يضرب لمن يطلب الصلح بعد القتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 342- صورة أخرى : وروى أبو علي القالي هذا الخبر في الأمالي بصورة أخرى، قال: "دخل صعصعة بن صوحان على معاوية أول ما دخل عليه –وقد كان يبلغ معاوية عنه فقال معاوية: ممن الرجل؟ فقال رجل من نزار، قال وما نزار؟ قال: كان إذا غزا انحوش1، وإذا انصرف انكمش، وإذا لقي افترش، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من ربيعة، قال: وما ربيعة؟ قال كان يغزو بالخيل، ويغير بالليل، ويجود بالنيل، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من أمهر2، قال: وما أمهر؟ قال: كان إذا طلب أفضى3، وإذا أدرك أرضى، وإذا آب أنضى4 قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من جديلة قال: وما جديلة؟ قال: كان يطيل النجاد، ويعد الجياد، ويجيد الجلاد، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من دعمي، قال: وما دعمي؟ قال: كان نارًا ساطعًا، وشرًّا قاطعًا، وخيرًا نافعًا، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من أفصى   1 لم أجد هذه الكلمة في كتب اللغة، وأرى أنها محرفة عن "احترش" كما ورد في رواية صبح الأعشى، وإن اختلف تأليف الجمل في الروايتين. 2 وفي نسخة: "من أسد، قال وما أسد؟ ". 3 أفضى إلى الشيء: وصل إليه. 4 أنضى بعيره: هزله، وأنضى الثوب: أبلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 قال: وما أفصى؟ قال كان ينزل القارات1، ويكثر الغارات، ويحمي الجارات، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من عبد القيس قال: وما عبد القيس؟ قال: أبطال ذادة2، جحاجحة3 سادة، صناديد قادة، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من أفصى، قال: وما أفصى؟ قال: كانت رماحهم مشرعة4 وقدورهم مترعة5، وجفانهم مفرغة، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من لكيز، قال: وما لكيز؟ قال: كان يباشر القتال، ويعانق الأبطال، ويبدد الأموال، قال: فمن أي ولده أنت:؟ قال: من عجل، قال: وما عجل؟ قال: الليوث الضراغمة6، الملوك القماقمة7، القروم القشاعمة8، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من كعب، قال: وما كعب؟ قال: كان يسعر9 الحرب، ويجيد الضرب، ويكشف الكرب، قال: فمن أي ولده أنت؟ قال: من مالك، قال: وما مالك؟ قال: هو الهمام للهمام، والقمقام للقمقام، فقال معاوية: ما تركت لهذا الحي من قريش شيئًا، قال: بل تركت أكثره وأحبه، قال: وما هو؟ قال: تركت لهم الوبر والمدر10 والأبيض والأصفر، والصفا والمشعر11، والقبة والمفخر، والسرير والمنبر، والملك إلى المحشر، قال: أما والله لقد كان يسوءني أن أراك أسيرًا قال: وأنا والله لقد كان يسوءني أن أراك أميرًا، ثم خرج فبعث إليه، فرد، ووصله وأكرمه". "الأمالي 2: 230".   1 القارات: جمع قارة، وهي الجبيل الصغير. 2 جمع ذائد، وهو المدافع. 3 جمع جحجح: وهو السيد، كالجحجاح. 4 مسددة. 5 مملوءة. 6 جمع ضرغام وهو الأسد. 7 جمع قمقام بالفتح ويضم، وهو السيد. 8 القروم، جمع قرم: كشهم، وهو السيد، والقشاعمة: جمع قشعم، كجعفر، وهو الرجل المسن "كناية عن كثرة التجربة" والأسد. 9 سعر الحرب: كمنع، وسعرها: أوقدها. 10 كناية عن البادية، والمدر: المدن والحضر. 11 شعار الحج بالكسر: مناسكه وعلاماته، والشعيرة والشعارة بالفتح، والمشعر موضعها، والمشعر الحرام: بالمزدلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وروى المسعودي في مروج الذهب قال: "قال معاوية يومًا وعنده صعصعة، وكان قدم عليه بكتاب علي، وعنده وجوه الناس: "الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزًا لي" فقال صعصعة: نمنيك نفسك ما لا يكو ... ن جهلًا، معاوي لا تأثم. فقال معاوية: يا صعصعة تعلمت الكلام، قال: العلم بالتعلم، ومن لا يعلم يجهل، قال معاوية: ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك، قال: ليس ذلك بيدك، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، قال: ومن يحول بيني وبينك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير، قال: اتسع بطن من لا يشبع1، ودعا عليه من لا يجمع2". "مروج الذهب 2: 79".   1 يعرض بمعاوية إذ كان مبطانًا "أي أكولًا" وكان أيضًا بطينًا "أي عظيم البطن"، وقد قال فيه سيدنا علي وقعة صفين: أضربهم ولا أرى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الحاويه. "والحاوية ما تحوي من الأمعاء أي العظيم البطن". 2 دعا عليه: معطوف على لا يشبع: أي اتسع بطن من دعا إليه من لا يجمع، والمراد بمن لا يجمع النبي عليه الصلاة والسلام، وقد دعا على معاوية بالنهم وعدم الشبع، ومعنى لا يجمع أي لا يجمع الدنيا ولا يجنح إليها، وهو تعريض آخر بمعاوية. أما دعاء رسول الله صلى الله عليه فقد روى ابن الاثير في أسد الغابة -4: 386- قال: "عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف باب، قال فجاء، فحطاني حطاة –والحطو: تحريك الشيء مزعزعًا- وقال اذهب فادع لي معاوية، قال فجئت فقلت هو يأكل، ثم قال: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت هو يأكل، فقال: لا أشبع الله بطنه" أخرج مسلم هذا الحديث بعينه لمعاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 343- تتمة في الحكم 1: من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "إن الله قرن وعده بوعيده ليكون العبد راغبًا راهبًا. ليست مع العزاء مصيبة، الموت أهون مما بعده وأشد مما قبله. ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي، والنكث، والمكر، ذل قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، لا يكونن قولك لغوًا في عفو ولا عقوبة. إذا فاتك خير فأدركه، وإن أدركك شر فاسبقه. إن عليك من الله عيونًا تراك. احرص على الموت توهب لك الحياة –قاله لخالد بن الوليد حين بعثه إلى أهل الردة- رحم الله امرأً أعان أخاه بنفسه. أطوع الناس لله أشدهم بغضًا لمعصيته، إن الله يرى من باطنك ما يرى من ظاهرك، إن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له. لا تجعل سرك مع علانيتك، فيمرج2 أمرك، خير الخصلتين لك أبغضهما إليك. صنائع المعروف تقي مصارع السوء". ومن كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من كتم سره كان الخيار في يده. أشقى الولاة من شقيت به رعيته. اتقوا من تبغضه قلوبكم. أعقل الناس أعذرهم للناس. لا تؤجل عمل يومك لغدك. من لم يعرف الشر كان جديرًا أن يقع فيه. ما الخمر صرفًا بأذهب للعقول من الطمع. قلما أدبر شيء فأقبل. مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا، غمض عن الدنيا عينك وول عنها قلبك. وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعها،   1 في كتب الحديث الشريف مأثور أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجوامع كلمه، وفي نهج البلاغة، وشرح ابن أبي الحديد عليه وغيرهما كثير من حكم الإمام علي كرم الله وجهه فاقرأها هنالك. 2 يفسد ويختلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وعاينت سوء آثارها على أهلها، وكيف عري من كست، وجاع من أطعمت، ومات من أحيت. احتفظ من النعمة احتفاظك من المصيبة، فوالله لهي أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك. الدنيا أمل مخترم وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه واستقال ذنبه. إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجوف، مؤدية إلى السقم. رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي، أفلح من حفظ من الطمع والغضب والهوى نفسه". ومن كلام عثمان رضي الله عنه: "ما يزع1 الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال –قاله يوم صعد المنبر فأرتج عليه". ومن كلام ابن عباس رضي الله عنه: "صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متكا. الحرمان خير من الامتنان. ملاك أمركم الدين، وزينتكم العلم، وحصون أعراضكم الأدب، وعزكم الحلم. وحليتكم الوفاء. القرابة تقطع. والمعروف يكفر. ولم ير كالمودة. لا تمار سيفهًا ولا حليمًا. فإن السفيه يؤذيك. والحليم يقليك2. واعمل عمل من يعلم أنه مجزي بالحسنات. مأخوذ بالسيئات". ومن كلام ابن مسعود رضي الله عنه: "ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب، الدنيا كلها غموم، فما كان منها في سرور فهو ربح".   1 يكف. 2 يبغضك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ومن كلام المغيرة بن شعبة: "إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور، والجمل الصئول1، فكيف بالرجل الكريم! ". ومن كلام أبي الدرداء: "السودد اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة، والشرف كف الأذى، وبذل الندى، والغنى قلة التمني، والفقر شره النفس". ومن كلام أبي ذر: "إن لك في مالك شريكين: الحدثان2 والوارث، فإن قدرت ألا تكون أخس الشركاء حظًّا فافعل". "مجمع الأمثال للميداني 2: 276، ونهاية الأرب 3: 4".   1 صؤل الجمل: واثب الناس أو صار يقتلهم ويعدو عليهم. 2 حدثان الدهر: نوبه وأحداثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 خطب الوفود مدخل ... خطب الوفود بين يدي عمر بن الخطاب: سقطت هذه الخطب سهوًا في أثناء الطبع فأوردناها في آخر الجزء وهاهي ذي: لما قدمت الوفود على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام هلال بن بشر1 فقال:   1 في البيان والتبيين: ابن وكيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 244- خطبة هلال بن بشر : "يا أمير المؤمنين: إنا غرة من خلفنا من قومنا، وسادة من وراءنا من أهل مصرنا وإنك إن تصرفنا بالزيادة في أعطياتنا، والفرائض لعيالاتنا، يزدد بذلك الشريف تأميلًا، وتكن لهم أبًا وصولًا، وإن تكن مع ما نمت به1 من وسائلك، وندلي به من أسبابك، كالحدل2، ولا يحل ولا يرتحل، نرجع بأنوف مصلومة3، وجدود عاثرة، فمحنا4 وأهالينا بسجل مترع5 من سجالك المترعة".   1 نتوسل به. 2 في البيان والتبيين "كالجد" وفي نهاية الأرب "كالجدل" ولا معنى لهما هنا، وأرى أن صوابه "كالحدل" بحاء مفتوحة ودال مكسورة، وصف من الحدل بفتحتين: وهو الذي أشرف أحد عاتقيه على الآخر، أو المائل العنق من خلقة أو وجع لا يملك أن يقيمه. وارتحل البعير ورحله: حط عليه الرحل، وإذا كان البعير حدلًا فهو لا يرتحل لعدم توازن العدلين عليه، وكذا لا يحل من مبركه ليرتحل فهو إذن لا يستخدم ولا ينتفع به، فالمعنى أنك إن لم تعطنا تكن كالبعير الحدل العديم الجدوى. 3 المقطوعة من أصلها. 4 الميح: الإعطاء. 5 المترع: الدلو العظيمة مملوءة "مذكر" ومترع: مملوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 خطبة زيدان بن جبلة ... 345- خطبة زيد بن جبلة: وقام زيد بن جبلة فقال: "يا أمير المؤمنين، سود الشريف، وأكرم الحسيب، وازرع عندنا من أياديك ما تسد به الخصاصة، وتطرد به الفاقلة، فإنا بقف1 من الأرض يابس الأكناف، مقشعر الذروة، لا متجر ولا زرع، وإنا من العرب اليوم إذ أتيناك بمرأى ومسمع".   1 ما ارتفع من الأرض كالقفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 346- خطبة الأحنف بن قيس : فقام الأحنف فقال: "يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله، والحرص قائد الحرمان، فاتق الله فيما لا يغني عنك يوم القيامة قيلا ولا قالا، واجعل بينك وبين رعيتك من العدل والإنصاف شيئًا يكفيك وقادة الوفود، واستماحة الممتاح1، فإن كل امرئ يجمع في وعائه إلا الأقل ممن عسى أن تقتحمه الأعين فلا يوفد إليك". "نهاية الأرب 7: 239، والبيان والتبيين2: 71".   1 استماحة: سأله العطاء. والامتياح: الإعطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 347- خطبة الأحنف بن قيس، بين يدي عمر بن الخطاب: قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل البصرة وأهل الكوفة، فتكلموا عنده في أنفسهم، وما ينوب كل واحد منهم، وتكلم الأحنف فقال: "يا أمير المؤمنين: إن مفاتيح الخير، بيد الله، وقد أتتك وفود العراق، وإن إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية، والملوك الجبابرة، ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصفر، فهم من المياه العذبة، والجنان المخصبة في مثل حولاء السلى1 وحدقة البعير الغاسقة2، تأتيهم ثمارهم غضة قبل أن تتغير، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا أرضًا سبخة هشاشة، زعقة نشاشة3، طرف في فلاة، وطرف في ملح أجاج4، جانب منها منابت القصب، وجانب سبخة نشاشة لا يجف ترابها، ولا ينبت مرعاها، تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب5 الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك، ترنق6 ولدها ترنيق العنز تخاف عليه العدو والسبع، دارنا فعمة7، ووظيفتنا ضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا8 صغير وقد وسع الله علينا وزادنا   1 الحولاء: جلدة خضراء مملوءة ماء تخرج مع الولد فيها أغراس وخطوط حمر وخضر ونزلوا في مثل حولاء الناقة. يريدون الخصب وكثرة الماء والخضرة، والسلى جلدة فيها الولد "من الناس والمواشي". 2 السوداء. 3 هشاشة: يسيل ماؤها. سبخة نشاشة: لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، والسبخة بفتح الباء وسكونها أرض ذات نز وملح. 4 ملح مر. 5 استعذب: استقى عذبًا. 6 الترنيق: إدامة النظر. 7 ممتلئة "أي بساكنيها". 8 مكيال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 في أرضنا فوسع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظف علينا ونعيش بها، فإلا ترفع خسيستنا1 وتنعش ركيستنا2 وتجبر فاقتنا وتزد في عيالنا عيالًا، وفي رجالنا رجالًا، وتصفر3 درهمنا، وتكبر قفيزنا، وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء، هلكنا". قال عمر: هذا والله السيد، هذا والله السيد. قال الأحنف: فما زلت أسمعها بعدها. "العقد الفريد 1: 116، وسرح العيون 68 وتاريخ الطبري 4: 209". انتهى الجزء الأول ويليه: الجزء الثاني وأوله: الباب الثالث في خطب ووصيا العصر الأموي.   1 رفعت من خسيسته: فعلت به فعلًا فيه رفعته. 2 الركس: قلب أول الشيء على آخره، وارتكس: انتكس ووقع. 3 صفره: صبغه بصفرة: أي تبدلنا بالدرهم الأبيض دينارًا أصفر وتجعل فضتنا ذهبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فهرس الجزء الأول من جمهرة خطب العرب: الباب الأول: الخطب في العصر الجاهلي: رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 9 إصلاح مرثد الخير بين سبيع بن الحارث وبين ميثم بن مثوب. 10 1 "مقال مرثد الخير". 11 2 "مقال سبيع بن الحارث". 11 3 "مقال ميثم بن مثوب". 12 4 "مقال مرثد الخير". 13 5 "طريف بن العاصي والحارث بن ذبيان يتفاخران عند بعض مقاول حمير". 17 "وفود العرب يعزون سلامة ذا فائش بابن له مات". 17 6 "خطبة الملبب بن عوف". 18 7 "خطبة جعادة بن أفلح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 454 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 18 8 تساؤل عامر بن الظرب وحممة بن رافع عند أحد ملوك حمير. 19 9 خطبة عامر بن الظرب العدواني وقد خطبت ابنته. 20 10 حديث بعض مقاول حمير مع ابنيه وما دار بينه وبينهما من المساءلة حين كبرت سنه. 25 11 إحدى ملكات اليمن وخاطبوها. 26 12 رواد مذحج يصفون ما ارتادوا من المراعي. 27 13 ما دار من الحديث بين المنذر بن النعمان الأكبر وبين عامر بن جوين الطائي. 32 14 قيس بن رفاعة والحارث بن أبي شمر الغساني. 32 15 قيس بن خفاف البرجمي وحاتم طيئ. 34 16 مقال قبيصة بن نعيم لامرئ القيس بن حجر. 36 17 رد امرئ القيس عليه. 37 18 خطبة هانئ بن قبيصة الشيباني. 37 19 خطبة عمرو بن كلثوم. 37 20 أكثم بن صيفي يعزي عمرو بن هند عن أخيه. 38 21 خطبة قس بن ساعدة الإيادي. 39 22 قس بن ساعدة عند قيصر. 39 23 خطبة المأمون الحارثي. 40 24 بين مهلهل بن ربيعة ومرة بن ذهل بن شيبان. 41 25 منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين. 46 أشراف العرب بين يدي كسرى. 46 26 مقال حذيفة بن بدر الفزاري. 47 27 مقال الأشعث الكندي. 47 28 مقال بسطام الشيباني. 48 29 مقال حاجب بن زرارة. 49 30 مقال قيس بن عاصم السعدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أوالوصية 50 وفود العرب على كسرى 51 31 خطبة النعمان بن المنذر. 56 32 خطبة أكثم بن صيفي. 57 33 خطبة حاجب بن زرارة. 57 34 خطبة الحارث بن عباد. 59 35 خطبة عمرو بن الشريد. 60 36 خطبة خالد بن جعفر الكلابي. 60 37 خطبة علقمة بن علاثة العامري. 61 38 خطبة قيس بن مسعود الشيباني. 62 39 خطبة عامر بن الطفيل العامري. 63 40 خطبة عمرو بن معد يكرب الزبيدي. 63 41 خطبة الحارث بن ظالم المري. 64 42 مخالس بن مزاحم وقاصر بن سلمة عند النعمان بن المنذر. 66 43 ضمرة بن ضمرة عند النعمان بن المنذر. 67 44 لبيد بن ربيعة يصف بقلة. 68 45 كلمات هند بنت الخس الإيادية. 73 46 خطبة كعب بن لؤي. 74 47 خطبة هاشم بن عبد مناف. 75 48 خطبة هاشم بن عبد مناف في قريش وخزاعة. 76 49 خطبة عبد المطلب بن هاشم. 77 50 خطبة أبي طالب في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة 78 خطب الكهان. 78 51 الكاهن الخزاعي ينفر هاشم بن عبد مناف على أمية بن عبد شمس. 79 52 عوف بن ربيعة الأسدي يتكهن بمقتل حجر بن الحارث. 80 53 كاهن بني الحارث بن كعب يحذرهم غزو بني تميم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 81 54 أحد كهان اليمن يفصل في أمر هند بنت عتبة. 82 55 خمسة نفر من طيئ يمتحنون سواد بن قارب الدوسي. 86 56 حديث مصاد بن مذعور القيني. 88 57 حديث خنافر بن التوءم الحميري مع رئية شصار. 90 58 شافع بن كليب الصدفي يتكهن بظهور النبي صلى الله عليه وسلم 91 59 سطيح الذئبي يعبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي. 93 60 شق أنمار يعبر رؤيا ربيعة بن نصر أيضًا 94 61 وفود عبد المسيح بن بقيلة على سطيح. 97 62 شتى وسطيح ينبئان بأصل ثقيف. 98 63 تنافر عبد المطلب بن هاشم والثقفيين إلى عزى سلمة الكاهن. 100 64 منافرة عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية. 101 65 ما أمر به عبد المطلب بن هاشم، في منامه من حفر زمزم. 103 خطب الكواهن 103 66 الشعثاء الكاهنة تصف سبعة إخوة. 105 67 طريفة الخير تتكهن بسيل العرم وخراب سد مأرب. 110 68 حديث زبراء الكاهنة مع بني رئام بن قضاعة. 112 69 كاهنة ذي الخلصة تتكهن بما في بطن رقية بنت جشم. 113 70 رأي سلمى الهمدانية في حريم المرادي. 114 71 تنافر العجفاء بنت علقمة وصواحباتها إلى الكاهنة السعدية. 115 72 عفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبد كلال. 119 الوصايا 119 73 وصية أوس بن حارثة لابنه مالك. 120 74 وصية ذي الإصبع العدواني لابنه أسيد. 121 75 وصية عمرو بن كلثوم لبنيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 122 76 وصية الحرث بن كعب لبنيه. 123 77 وصية عامر بن الظرب لقومه. 124 78 وصية دويد بن زيد لبنيه. 126 79 وصية زهير بن جناب الكلبي. 126 80 وصية النعمان بن ثواب العبدي لبنيه. 127 81 وصية قيس بن زهير لبني النمر بن قاسط. 129 82 وصية حصن بن حذيفة لبنيه. 130 83 وصية لأكثم بن صيفي. 133 84 وصية أكثم بن صيفي لطيء. 134 85 وصية أكثم بن صيفي لبنيه ورهطه. 135 86 نصيحة أكثم بن صيفي لقومه. 136 87 أمثال أكثم بن صيفي وبزر جمهر الفارسي. 141 88 نصيحة الجمانة بنت قيس بن زهير لجدها الربيع بن زياد. 142 89 وصف عصام الكندي أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني. 145 90 وصية أمامة بنت الحرث لابنتها أم إياس. الباب الثاني الخطب والوصايا: وفي عصر صدر الإسلام 147 خطب النبي صلى الله عليه وسلم وما يتبعها 147 1 أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه. 148 2 أول خطبة خطبها بالمدينة. 148 3 خطبته في أول جمعة جمعها بالمدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 149 4 خطبة له يوم أحد. 151 5 خطبة بالخيف. 151 6 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 152 7 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 152 8 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 153 9 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 153 10 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 154 11 خطبته يوم فتح مكة. 154 12 خطبته في الاستسقاء. 155 13 خطبته في حجة الوداع. 158 14 خطبته في مرض موته. 159 15 خطبة أكثم بن صيفي يدعو قومه إلى الإسلام. 161 16 وصية أبي طالب لوجوه قريش عند موته. 163 خطب الوفود بين يديه صلى الله عليه وسلم. 163 17 خطبة عطارد بن حاجب بن زرارة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. 163 18 خطبة ثابت بن قيس بن الشماس. 164 19 عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. 165 20 خطبة طهفة بن أبي زهير النهدي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. 166 21 رده صلى الله عليه وسلم. 167 22 خطبة ظبيان بن حداد بين يديه صلى الله عليه وسلم. 168 23 خطبة مالك بن نمط بين يديه صلى الله عليه وسلم. 169 24 سفانة بنت حاتم بين يديه صلى الله عليه وسلم. 170 25 وصية دريد بن الصمة. 171 26 وصية عمير بن حبيب الصحابي لبنيه. 171 27 وصية قيس بن عاصم المنقري لبنيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 173 خطب يوم السقيفة 173 28 خطبة سعد بن عبادة. 174 29 خطبة أبي بكر رضي الله عنه. 175 30 نص آخر لخطبة أبي بكر يوم السقيفة. 176 31 خطبة الحباب بن المنذر. 176 32 خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 177 33 خطبة أخرى للحباب بن المنذر. 177 34 خطبة بشير بن سعد. 179 خطب أبي بكر الصديق ووصاياه 179 35 خطبة يوم قبض الرسول صلى الله عليه وسلم. 180 36 خطبته بعد البيعة. 181 37 خطبة أخرى له بعد البيعة. 182 38 خطبة أخرى. 183 39 خطبة له. 184 40 خطبة له. 185 41 خطبة له. 186 42 خطبة له في الأنصار. 187 43 وصيته لأسامة بن زيد. 187 44 وصيتة لعمرو بن العاص والوليد بن عقبة. 188 خطب الفتوح في عهد أبي بكر 188 45 وصيته لخالد بن الوليد. 188 46 خطبة خالد بن الوليد. 189 47 خطبة لأبي بكر في ندب الناس لفتح الشأم. 190 48 فتح الشام – خطبة أبي بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 190 49 خطبة عمر. 191 50 خطبة عبد الرحمن بن عوف. 192 51 خطبة أبي بكر. 192 52 خطبة خالد بن سعيد بن العاص. 193 53 خطبة ذي الكلاع. 194 54 وصية خالد بن سعيد بن العاص لأبي بكر. 195 55 وصية أبي بكر لخالد بن سعيد بن العاص. 195 56 وصية أبي بكر لعمرو بن العاص. 196 57 وصية أخرى. 196 58 وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان. 197 59 وصية أخرى ليزيد بن أبي سفيان. 199 60 دعاء أبي بكر. 199 61 وصيته لشرحبيل بن حسنة. 200 62 وصيته لأبي عبيدة بن الجراح. 200 63 وصيته لأبي عبيدة بن الجراح أيضًا. 201 64 خطبة أبي بكر. 201 65 وصية أبي بكر لهاشم بن عتبة. 202 66 خطبة خالد بن الوليد يوم اليرموك. 203 67 خطبة أبي عبيدة في وقعة اليرموك. 204 68 قصص معاذ بن جبل. 204 69 خطبة عمرو بن العاص. 205 70 خطبة أبي سفيان بن حرب. 205 71 وصية أبي بكر لعمرو رضي الله عنهما عند موته. 206 72 كلامه لعبد الرحمن بن عوف في علته التي مات فيها. 207 73 خطبة السيدة عائشة في الانتصار لأبيها. 210 74 رثاؤها لأبيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 211 خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 211 75 خطبته حين ولي الخلافة. 211 76 خطبة أخرى. 212 77 خطبة له. 212 78 خطبة له. 213 79 خطبة أخرى. 214 80 خطبة له. 215 81 خطبة له. 217 82 خطبة له. 217 83 خطبة له. 218 84 خطبة له. 218 85 خطبة له. 220 86 خطبته عام الرمادة. 221 87 خطبته وقد بلغه أن قومًا يفضلونه على أبي بكر. 222 خطب الفتوح في عهد عمر في فتوح فارس 222 88 خطبة المثنى بن حارثة الشيباني. 222 89 خطبة عمر. 223 91 خطبة له وقد شيع جيش سعد بن أبي وقاص. 224 92 وصيته لسعد بن أبي وقاص. 224 93 وصيته لسعد بن أبي وقاص أيضًا. 225 94 وصية أخرى كتبها إلى سعد بن أبي وقاص. 227 95 وصيته للمجاهدين. 228 96 وصية عمر ليعلى بن أمية في إجلاء أهل نجران. 228 97 خطبة لعمر. 229 98 خطبة جرير بن عبد الله البجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 229 99 خطبة سعد بن أبي وقاص يوم أرماث. 230 100 خطبة عاصم بن عمرو. 230 101 خطبة طليحة بن خويلد الأسدي. 231 102 الخنساء تحرض أولادها على القتال. 232 103 خطبة عتبة بن غزوان. 233 104 خطبة لسعد بن أبي وقاص. 233 105 خطبة عمر. 234 106 خطبة لعلي. 235 107 خطبة طلحة بن عبيد الله. 235 108 خطبة عثمان بن عفان. 236 109 خطبة علي بن أبي طالب. 237 110 خطبة النعمان بن مقرن. 239 خطب رجال من الفاتحين بين يدي بزدجرد ملك الفرس وقواده. 239 111 خطبة النعمان بن مقرن. 240 112 خطبة المغيرة بن زرارة. 242 113 مقال ربعي بن عامر عند رستم قائد جيش الفرس. 242 114 خطبة المغيرة بن شعبة في حضرة رستم. 243 115 خطبة المغيرة بن شعبة في حضرة بندار. 244 116 خطبة عمر. 244 117 خطبة عثمان بن أبي العاص في فتح الشام. 246 118 بين الروم ومعاذ بن جبل. 249 119 بين أبي عبيدة ورسول الروم. 250 120 بين باهان وخالد بن الوليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 252 121 جواب خالد. 254 122 خطبة عمرو بن العاص. 255 123 خطبة عمر. 255 124 خطبة عمر. 256 125 خطبة عمر. 256 126 خطبة عمر. 257 127 وصية أبي عبيدة للمسلمين وقد أصابه طاعون عمواس. 258 128 خطبة معاذ بن جبل. 258 129 رثاء معاذ بن جبل لأبي عبيدة. 259 130 ابن العاص ومعاذ والطاعون. 259 131 وصية لمعاذ بن جبل. 260 132 وصية لمعاذ بن جبل أيضًا. 261 133 خطبة عبادة بن الصامت. 261 134 خطبة شداد بن أوس. 262 135 خطبة أبي الدرداء. 262 136 خطبة يزيد بن أبي سفيان. 263 137 وصية العباس بن عبد المطلب. 263 138 وصية عمر للخليفة من بعده. 266 خطب يوم الشوى 266 139 خطبة عبد الرحمن بن عوف. 267 140 خطبة عثمان بن عفان. 267 141 خطبة الزبير بن العوام. 268 142 خطبة سعد بن أبي وقاص. 269 143 خطبة علي بن أبي طالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 270 خطب عثمان بن عفان رضي الله عنه. 270 144 خطبته حين بايعه أهل الشورى. 271 145 خطبته بعد البيعة. 271 146 خطبة أخرى. 271 147 خطبة لعثمان. 272 148 خطبة لعثمان. 273 149 خطبته حين نقم عليه الناس. 274 150 خطبته التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة. 275 151 خطبته في الرد على الثوار. 276 152 خطبته وقد اشتد عليه الحصار. 276 153 آخر خطبة خطبها عثمان. 277 154 خطبة الوليد بن عقبة. 278 155 خطبة سعيد بن العاص حين قدم الكوفة واليًا عليها. 278 156 خطبة عبد الله بن الزبير حين قدم بفتح إفريقية. 280 157 خطبة عبد الله بن مسعود. 281 158 أبو زبيد الطائي يصف الأسد. 285 خلافة الإمام علي كرم الله وجهه. 185 159 وصية علي لقيس بن سعد. 285 160 خطبة لقيس بن سعد. 286 فتنة أصحاب الجمل. 286 161 خطبة طلحة. 286 162 خطبة السيدة عائشة بالمربد. 287 163 خطبة لعلي 288 164 خطبة لعلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 289 165 خطبة لعلي. 289 166 خطبة عدي بن حاتم. 290 167 خطبة زفر بن زيد. 291 168 خطبة علي بالربذة. 292 169 خطبة سعيد بن عبيد الطائي. 293 170 خطبة الحسن بن علي. 293 171 خطبة الحسن بن علي. 294 172 خطبة عمار بن ياسر. 295 173 خطبة أبي موسى الأشعري. 296 174 خطبة أخرى. 297 175 خطبة أخرى. 297 176 خطبة زيد بن صوحان. 297 177 خطبة القعقاع بن عمرو. 298 178 خطبة سيحان بن صوحان. 299 179 خطبة الحسن بن علي. 299 180 وفادة القعقاع بن عمرو إلى أصحاب الجمل. 301 181 خطبة علي بن أبي طالب. 302 182 خطبة علي بن أبي طالب. 303 183 خطبة علي. 304 184 خطبة الأشتر. 305 185 خطبة السيدة عائشة. 305 186 خطبة علي. 306 187 خطبة السيدة عائشة يوم الجمل. 307 188 خطبة زفر بن قيس. 308 189 خطبة جرير بن عبد الله البجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 308 190 خطبة زياد بن كعب. 309 191 خطبة الأشعث بن قيس. 309 192 خطبة جرير بن عبد الله البجلي. 310 193 خطبة معاوية. 312 فتنة معاوية استطلاع الإمام علي كرم الله وجهه آراء أصحابه وقد أراد المسير إلى الشام. 312 194 خطبة الإمام علي. 312 195 خطبة هاشم بن عتبة. 313 196 خطبة عمار بن ياسر. 313 197 خطبة قيس بن سعد بن عبادة. 314 198 خطبة سهل بن حنيف. 314 199 خطبة الإمام علي. 315 200 خطبة الأشتر النخعي. 316 201 مقال من ثبطوه عن المسير. 316 202 رد الإمام عليهم. 317 203 خطبة عدي بن حاتم الطائي. 318 204 خطبة زيد بن حصين الطائي. 318 205 خطبة أبي زينب بن عوف. 319 206 خطبة زيد بن قيس الأرحبي. 319 207 خطبة زياد بن النضر. 320 208 خطبة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي. 321 209 أدب الإمام علي وكرم خلقه. 321 210 مقال عمرو بن الحمق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 322 211 مقال حجر بن عدي 322 212 مقال هاشم بن عتبة. 324 213 خطبة الإمام علي. 325 214 خطبة الحسن بن علي. 325 215 خطبة الحسين بن علي. 326 216 خطبة عبد الله بن عباس. 327 217 خطبة معاوية. 328 وفد علي على معاوية 328 218 خطبة بشير بن عمرو. 329 219 خطبة شبث بن ربعي. 329 220 خطبة معاوية. 331 وفد علي على معاوية. 331 221 خطبة عدي بن حاتم. 331 222 جواب معاوية. 332 223 خطبة يزيد بن قيس. 332 224 خطبة معاوية. 335 وفد معاوية إلى علي 335 225 خطبة حبيب بن مسلمة. 336 226 خطبة علي بن أبي طالب. 338 التحريض على القتال من قبل معاوية. 338 227 خطبة عمرو بن العاص. 338 228 خطبة أخرى. 339 229 خطبة معاوية يحرض أهل الشأم. 340 230 خطبة ذي الكلاع الحميري. 343 231 خطبة يزيد بن أسد البجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 345 التحريض على القتال من قبل الإمام علي. 345 232 خطبة الإمام علي. 346 233 خطبة أخرى له. 347 234 ومن كلام له كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين. 348 235 خطبة أخرى للإمام علي. 349 236 خطبة للإمام علي. 350 237 خطبة أخرى له. 350 238 خطبة عبد الله بن عباس. 352 239 خطبة عبد الله بن بديل الخزاعي. 352 240 خطبة أبي الهيثم بن التيهان. 353 241 خطبة للإمام علي. 354 242 خطبة سعيد بن قيس. 355 243 خطبة يزيد بن قيس الأرحبي. 356 244 خطبة هاشم بن عتبة المرقال. 357 245 خطبة عمار بن ياسر. 358 246 خطبة الأشعث بن قيس. 359 247 خطبة الأشتر النخعي. 360 248 خطبة الأشتر النخعي في المنهزمين من الميمنة. 361 249 خطبة أخرى له فيهم. 362 250 خطبة علي فيهم وقد عادوا إلى مواقفهم. 363 251 خطبة خالد بن معمر. 363 252 خطبة عقبة بن حديد النمري. 364 253 خطبة خنثر بن عبيدة بن خالد. 365 254 تحريض معاوية أيضًا. 366 255 ما خطب به النعمان بن بشير قيس بن سعد في وقعة صفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 367 256 جواب قيس بن سعد. 368 خطب الشيعيات في وقعة صفين. 368 257 خطبة عكرشة بنت الأطرش. 369 258 خطبة أم الخير بنت الحريش. 373 259 خطبة الزرقاء بنت عدي الهمدانية. 375 اختلاف أهل العراق في الموادعة. 375 260 خطبة الإمام علي. 375 261 خطبة كردوس بن هانئ. 376 262 خطبة سفيان بن ثور. 376 263 خطبة جريث بن جابر. 376 264 خطبة خالد بن معمر. 377 265 خطبة الحصين بن المنذر. 377 266 خطبة عثمان بن حنيف. 379 267 خطبة عدي بن حاتم. 380 268 خطبة عبد الله بن حجل. 380 269 خطبة صعصعة بن صوحان. 381 270 خطبة المنذر بن الجارود. 381 271 خطبة الأحنف بن قيس. 382 272 خطبة عمير بن عطارد. 382 273 خطبة علي بن أبي طالب. 382 274 مقال عدي بن حاتم. 383 275 مقال الأشتر النخعي. 383 276 مقال عمرو بن الحمق. 383 277 مقال الأشعث بن قيس. 384 278 مقال عبد الرحمن بن الحارث. 384 279 مقال عمار بن ياسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 386 التحكيم بين علي ومعاوية. 386 280 كلام عبد الله بن عباس لأبي موسى الأشعري. 387 281 وصية شريح بن هانئ لأبي موسى الأشعري. 388 282 وصية الأحنف بن قيس لأبي موسى الأشعري. 389 283 وصية معاوية لعمرو بن العاص. 389 284 رد عمرو بن العاص عليه. 390 285 مقال شرحبيل بن السمط لعمرو. 390 286 خطبة أبي موسى الأشعري. 391 287 خطبة عمرو بن العاص. 391 288 خطبة الإمام بعد التحكيم. 392 289 خطبة الحسن بن علي. 393 290 خطبة عبد الله بن عباس. 393 291 خطبة عبد الله بن جعفر. 394 292 خطبة علي. 394 293 خطبة عبد الله بن عباس. 395 294 خطبة علي. 396 295 خطبة علي. 397 296 خطبة معاوية. 397 297 وصية معاوية لعمرو بن العاص. 398 298 خطبة محمد بن أبي بكر. 398 299 خطبة محمد بن أبي بكر. 399 300 خطبة علي وقد استصرخه محمد بن أبي بكر. 400 301 خطبة علي وقد بلغه مقتل محمد بن أبي بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 401 فتنة الخوارج. 401 302 مناظرة عبد الله بن عباس لهم. 402 303 مناظرة الإمام علي لهم. 404 304 صورة أخرى. 406 305 مناظرة ابن عباس لهم. 408 306 خطبة يزيد بن عاصم المحاربي. 408 307 خطبة عبد الله بن وهب الراسبي. 409 308 خطبة حرقوص بن زهير السعدي. 409 309 خطبة حمزة بن سنان الأسدي. 410 310 خطبة شريح بن أوفى. 411 311 مقال زيد بن حصين الطائي. 412 312 خطبة علي في تخويف أهل النهروان. 414 313 صورة أخرى. 415 314 خطبة المستورد بن علفة. 417 خور أصحاب الإمام وتقاعسهم عن نصرته. 417 315 خطبة عبد الله بن عباس في أهل البصرة. 418 316 خطبة الإمام وقد أراد الانصراف من النهروان. 418 317 مقال الأشعث بن قيس. 419 318 خطبة الإمام علي بالكوفة بعد قدومه من حرب الخوارج يستنفر الناس لقتال معاوية. 420 319 خطبة له أيضًا في استنفارهم لقتال معاوية. 421 320 صورة أخرى. 423 321 خطبة أبي أيوب الأنصاري. 424 322 خطبة الإمام وقد أغار النعمان بن بشير على عين التمر. 424 323 صورة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية. 425 324 خطبة الإمام وقد أغار الضحاك بن قيس على الحيرة. 427 325 خطبة الإمام وقد أغار سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار. 430 326 خطبة للحسن بن علي في يوم جمعة. 430 327 خطبة معاوية وقد بلغه هلاك الأشتر. 432 فتنة البصرة. 433 328 خطبة عبد الله بن عامر الحضرمي. 433 329 خطبة الضحاك بن عبد الله الهلالي. 434 330 خطبة عبد الرحمن بن عمير القرشي. 435 331 خطبة زياد بن أبيه. 436 332 خطبة شيمان الأزدي. 436 333 خطبة صبرة بن شيمان. 436 334 خطبة الإمام علي. 438 335 خطبة أعين بن ضبيعة. 438 336 خطبة جارية بن قدامة. 439 337 خطبة زياد. 440 338 خطبة أبي صبرة شيمان. 440 339 خطبة صبرة بن شيمان. 441 340 خطبة خنفر الحماني. 441 341 صعصعة بن صوحان ومعاوية. 443 342 صورة أخرى. 446 343 تتمة في الحكم. 449 خطب الوفود بين يدي عمر بن الخطاب. 449 344 خطبة هلال بن بشر. 449 345 خطبة زيد بن جبلة. 450 346 خطبة الأحنف بن قيس. 450 347 خطبة الأحنف بن قيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 فهرس أعلام الخطباء : مرتب بترتيب الحروف الهجائية مع إتباع اسم كل خطيب بأرقام الصفحات التي وردت فيها خطبه. "1" أبو أيوب الأنصاري: 423 أبو بكر الصديق رضي الله عنه: 174- 175- 179- 180- 181- 182- 183- 184- 185- 186- 187- 188- 189- 190- 192- 195- 196- 197- 199- 200- 201- 205- 206 أبو زبيد الطائي: 281 أبو الدرداء: 262 أبو زينب بن عوف: 318 أبو سفيان: 205 أبو طالب بن عبد المطلب:77- 161 أبو عبيدة بن الجراح: 203- 249- 257 أبو موسى الأشعري: 295- 296- 297- 390 أبو الهيثم بن التيهان: 352 الأحنف بن قيس: 381- 388- 450 الأشتر النخعي: 304- 315- 359-360- 261- 383 الأشعث بن قيس الكندي: 47- 309- 358- 383- 418 أعين بن ضبيعة: 438 أكثم بن صيفي: 37- 56- 130- 133- 134- 135- 136- 159 أمامة بنت الحرث: 145 أم الخير بنت الحريش: 269 امرؤ القيس: 36 أوس بن حارثة:119 "ب" بسطام الشيباني: 47 بشير بن سعد: 177 بشير بن عمرو: 328 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 "ث" ثابت بن قيس بن الشماس: 163 "ج" جارية بن قدامة: 438 جرير بن عبد الله البجلي: 229- 308- 309 جعادة بن أفلح: 18 الجمانة بنت قيس: 141 "ح" حاجب بن زرارة: 48- 57 الحارث بن ذبيان: 13- 16 الحارث بن ظالم المري:63 الحارث بن عباد: 57 الحارث بن كعب: 122 الحباب بن المنذر: 176 حبيب بن مسلمة: 235 حجر بن عدي: 322 حذيفة بن بدر الفزاري: 46 حرب بن أمية: 100 حرقوص بن زهير: 409 حريث بن جابر: 376 الحسن بن علي: 293- 299- 325- 392- 430 الحسين بن علي: 325 حصن بن حذيفة: 129 الحصين بن المنذر: 377 حمزة بن سنان: 409 حممة بن رافع الدوسي: 18 "خ" خالد بن جعفر الكلابي: 60 خالد بن سعيد بن العاص: 192- 194 خالد بن معمر: 363- 376 خالد بن الوليد: 188- 202- 250- 252 خنافر بن التوءم: 88 خنثر بن عبيدة: -364 الخنساء: 231 خنفر الحماني: 441 "د" دريد بن الصمة: 170 دويد بن زيد: 124 "ذ" ذو الأصبع العدواني: 120 ذو الكلاع الحميري: 193- 340 "ر" ربعي بن عامر: 242 "ز" زبراء الكاهنة: 110 الزبير بن العوام: 267 الزرقاء بنت عدي: 373 زفر بن زيد: 290 زفر بن قيس: 307 زهير بن جناب الكلبي: 126 زياد بن أبيه: 435- 439 زياد بن كعب: 308 زياد بن النضر: 319 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 زيد بن جبلة: 449 زيد بن حصين الطائي: 318- 411 زيد بن صوحان: 297 "س" سبيع بن الحرث: 11 سطيح الذئبي: 91- 94- 97 سعد بن أبي وقاص: 229- 223- 268 سعد بن عبادة: 173 سعيد بن العاص: 278 سعيد بن عبيد الطائي: 292 سعيد بن قيس: 354 سفانة بنت حاتم: 169 سفيان بن ثور: 376 سلمى الهمدانية: 113 سهل بن حنيف: 314 سواد بن قارب: 82 سيحان بن صوحان: 298 "ش" شافع بن كليب الصدفي: 90 شبث بن رعبي: 329 شداد بن أوس: 261 شرحبيل بن السمط: 390 شريح بن أوفي: 410 شريح بن هانئ: 387 الشعثاء الكاهنة: 103 شق أنمار: 93- 97 شيمان الأزدي: 436- 440 "ص" صبرة بن شيمان 436- 440 صعصعة بن صوحان: 380- 441- 443 "ض" الضحاك بن عبد الله الهلالي: 433 ضمرة بن ضمرة: 66 "ط" طريف بن العاصي: 13- 16 طريفة الكاهنة: 105 طلحة بن عبيد الله: 235- 286 طليحة بن خويلد الأسدي: 230 طهفة بن أبي زهير النهدي: 165 "ظ" ظبيان بن حداد: 167 "ع" عائشة رضي الله عنها: 207- 210- 286- 305- 306 عاصم بن عمرو: 230 عامر بن جوين: 27 عامر بن الطفيل: 41- 62 عامر بن الظرب: 18- 19- 123 عبادة بن الصامت: 261 العباس بن عبد المطلب: 263 عبد الرحمن بن الحرث: 384 عبد الرحمن بن عمير: 434 عبد الرحمن بن عوف: 191- 266 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 عبد الله بن بديل بن ورقاء: 320- 352 عبد الله بن جعفر: 393 عبد الله بن حجل: 380 عبد الله بن الزبير: 278 عبد الله بن عامر الحضرمي: 433 عبد الله بن عباس: 326- 250- 387- 393- 394- 401- 406- 417 عبد الله مسعود: 280 عبد الله بن وهب: 408 عبد المطلب بن هاشم: 76- 100- 101 عتبة بن غزوان: 232 عثمان بن أبي العاص: 244 عثمان بن حنيف: 377 عثمان بن عفان رضي الله عنه: 235- 267- 270- 271- 272- 273- 274- 275- 276 عجفاء بنت علقمة: 114 عدي بن حاتم: 289- 317- 331- 379- 382 عزى سلمة: 98 عصام الكندية: 142 عطارد بن حاجب بن زرارة: 163 عفيراء الكاهنة: 115 عقبة بن حديد النمري: 363 عكرشة بنت الأطرش: 368 علقمة بن علاثة: 41- 60 علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: 234- 236- 269- 285- 287- 288- 289- 291- 301- 302- 303- 305- 312- 314- 316- 314- 336- 345- 346- 347- 348- 349- 350- 353- 362- 375- 382- 391- 394- 395- 396- 399- 400- 402- 404- 412- 414- 418- 419- 420- 421- 424- 725- 427- 436 عمار بن ياسر: 294- 313- 357- 384 عمر بن الخطاب رضي الله عنه: 176- 190- 211- 212- 213- 214- 215- 217- 218- 220- 221- 222- 223- 224- 225- 227- 228- 233- 244- 255- 256- 261 عمرو بن الأهتم: 164 عمرو بن الحمق: 321- 383 عمرو بن الشريد: 59 عمرو بن العاص: 204- 254- 339- 389- 391 عمرو بن كلثوم: 37- 121 عمرو بن معد يكرب الزبيدي: 63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 عمير بن حبيب: 171 عمير بن عطارد: 382 عوف بن ربيعة الأسدي: 79 "ق" قاصر بن سلمة: 64 قبيصة بن نعيم: 34 قس بن ساعدة: 38- 39 القعقاع بن عمرو: 298- 299 قيس بن خفاف البرجمي: 32 قيس بن رفاعة: 32 قيس بن زهير: 127 قيس بن سعد بن عبادة: 285- 313- 367 قيس بن عاصم السعدي: 49 قيس بن عاصم المنقري: 171 قيس بن مسعود الشيباني: 61 "ك" كاهن بني الحارث بن كعب: 80 كاهن ذو الخلصة: 112 الكاهن الخزاعي: 78 الكاهن اليمني: 81 كردوس بن هانئ: 375 كعب بن لؤي: 73 "ل" لبيد بن ربيعة: 67 "م" المأمون الحارثي: 39 مالك بن نمط: 168 المثنى بن حارثة الشيباني: 222 محمد بن أبي بكر: 398 سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: 147- 148- 149- 151- 152- 153- 154- 155- 158- 166 مخالس بن مزاحم: 64 مرة بن ذهل: 40 مرثد الخير: 10- 12 المستورد بن علفة: 415 مصاد بن مذعور القيني: 86 معاذ بن جبل: 204- 246- 258- 259- 260 معاوية بن أبي سفيان: 310- 327- 329- 331- 339- 365- 389- 397- 430 المغيرة بن زرارة: 240 المغيرة بن شعبة: 242- 243 الملبب بن عوف: 17 المنذر بن الجارود: 381 مهلهل بن ربيعة: 40 ميثم بن مثوب: 11 "ن" النعمان بن بشير: 366 النعمان بن ثواب العبدي: 126 النعمان بن مقرن: 237- 239 النعمان بن المنذر: 51 نفيل بن عبد العزى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 "هـ" هاشم بن عبد مناف: 74- 75 هاشم بن عتبة: 312- 322- 356 هانئ بن قبيصة الشيباني: 37 هلال بن بشر: 449 هند بنت الخس الإيادية: 68 "و" الوليد بن عقبة: 277 "ي" يزيد بن أبي سفيان: 262 يزيد بن أسد البجلي: 343 يزيد بن عاصم المحاربي: 408 يزيد بن قيس: 319- 332- 355 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 المجلد الثاني مقدمة ... تصدير الطبعة الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ بحمدك اللهم على ما أوليتني من جزيل تفضلك، ومزيد تطولك، وأصلي وأسلم على رسولك الأمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وبعد: فها هو ذا "الجزء الثاني – من جمهرة خطب العرب" أصدره حاويًا ما وصل إلينا من خطب العصر الأموي ووصاياه، وما دار بمجالس الخلفاء والأمراء والرؤساء من حوار ومجاوبة، وهو كما ستراه أحفل أجزاء الكتاب الثلاثة، وأغزرها مادة، لتوافر دواعي الخطابة في هذا العصر، ونفاق سوقها. وقد نهجت فيه نهجي في سالفه، من التوفيق بين الروايات، وتحرير الألفاظ وضبطها وشرحها، والتعليق عليها بما يميط اللثام عن خفايا مراميها، وغوامض مغازيها، فجاء بحمده تعالى مرضيًا، والله نسأل أن يكلأنا برعايته، وأن يمن علينا بالتوفيق للعمل الصالح، إنه خير مرتجى، فنعم المولى ونعم النصير، أحمد زكي صفوت حرر بالقاهرة في رجب سنة 1352هـ نوفمبر سنة 1933م الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 فهرس مآخذ في هذا الجزء ... فهرس مآخذ الخطب في هذا الجزء الأمالي: لأبي علي القالي: الجزء الأول – الثاني – ذيل الأمالي الأغاني: لأبي الفرج الأصبهاني: "الثاني – السابع – الثالث عشر : الخامس عشر السابع عشر – الثامن :عشر – العشرون – الحادي والعشرون. صبح الأعشى: لأبي العباس القلقشندي: الجزء الأول – التاسع نهاية الأرب: لشهاب الدين النويري: "الخامس – السابع عيون الأخبار: لابن قتيبة الدينوري: المجلد الثاني الكامل: لأبي العباس المبرد:الجزء الأول – الثاني العقد الفريد: لابن عبد ربه: "الأول – الثاني – الثالث زهر الآداب: لأبي إسحاق الحصري: "الأول – الثاني – الثالث البيان والتبيين: للجاحظ: "الأول – الثاني – الثالث نهج البلاغة: للشريف الرضي: الجزء الأول شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد: المجلد الأول – الثاني – الثالث – الرابع أمالي السيد المرتضى: الجزء الأول جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري: الجزء الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 مجمع الأمثال: لأبي الفضل الميداني: الجزء الأول – الثاني تاريخ الأمم والملوك: لابن جرير الطبري: الجزء السادس – السابع – الثامن – التاسع تاريخ الكامل: لابن الأثير: الجزء الثالث – الرابع مروج الذهب: للمسعودي: الجزء الثاني الإمامة والسياسة: لابن قتيبة: الجزء الأول – الثاني معجم البلدان: لياقوت الحموي: الجزء الثالث أُسْد الغابة في معرفة الصحابة: لابن الأثير: الجزء الثالث النجوم الزاهرة، في ملوك مصر والقاهرة: الجزء الأول لابن تغرى بردى: وفيات الأعيان: لابن خلكان: الجزء الأول – الثاني معاهد التنصيص: لعبد الرحيم العباسي: الجزء الأول نفح الطيب: للمقري: الجزء الأول بلوغ الأرب: للسيد محمود شكري الألوسي: الجزء الثالث مواسم الأدب: للسيد جعفر بن السيد: الجزء الثاني محمد البيتي العلوي سيرة عمر بن عبد العزيز: لأبي الفرج بن الجوزي سيرة عمر بن عبد العزيز: لابن عبد الحكم سرح العيون: شرح رسالة ابن زيدون: لابن نباتة المصري أنباء نجباء الأنباء: لابن ظفر المكي الحسن البصري: لابن الجوزي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 الفخرى: لابن طباطبا بلاغات النساء: لابن أبي طاهر طيفور دستور معالم الحكم: للقضاعي إعجاز القرآن: لأبي بكر الباقلاني المنية والأمل: لأحمد بن يحيى المرتضى مفتاح الأفكار: للشيخ أحمد مفتاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الباب الثالث: الخطب والوصايا في العصر الأموى خطب بنى هاشم وشيعتهم وما يتصل بها خطبة الحسن بن على بعد وفاة أبيه ... الباب الثالث: الخطب والوصايا في العصر الأموي: الخطب: خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها: خطبة الحسن بن علي بعد وفاة أبيه: 1 خطب الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما بعد وفاة أبيه فنعاه فقال: "لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة فيها نزل القرآن، وفيها رفع عيسى بن مريم عليه السلام، وفيها قتل يوشع بن نون، فتى موسى عليهما السلام، والله ما سبقه أحد كان   1 في الكامل لابن الأثير "3: 197" أن الحسن بن علي توفي سنة 49هـ وفي ابن أبي الحديد "م4: ص4" أنه توفي سنة 50 وفي الإمامة والسياسة "1: 127" أنه توفي سنة 51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 قبله، ولا يدركه أحد يكون بعده، والله إن كان رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبعثه في السرية1، وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادمًا لأهله، ثم خنقته العبرة فبكى، وبكى الناس معه، ثم قال: "أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، أنا من أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس2 وطهرهم تطهيرًا، والذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} ، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت". فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة، قام عبيد الله بن العباس بين يديه، فدعا الناس إلى بيعته، فاستجابوا وقالوا ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة! فبايعوه ثم نزل من المنبر. "تاريخ الطبري 6: 91، وشرح ابن أبي الحديد م4 ص11، والعقد الفريد 2: 6"   1 السرية من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة. 2 الرجس: القذر والمأثم، وكل ما استقذر من العمل، والعمل المؤدي إلى العذاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 تعبئته الجيوش لقتال معاوية مدخل ... تعبئة الجيوش لقتال معاوية: سار معاوية بجيوشه قاصدًا إلى العراق، وبلغ الحسن خبره، ومسيره نحوه، فأمر بالتهيؤ للمسير، ونادى المنادي: الصلاة جامعة، فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون، فخرج الحسن، وصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 2- خطبة الحسن بن علي في الحث على الجهاد: "أما بعد: فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وسماه كرهًا1، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون. بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه، فتحرك لذلك، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنُّخَيْلَة، حتى ننظر وتنظروا، ونرى وتَرَوْا" – وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له- فسكتوا، فما تكلم منهم أحد، ولا أجابه بحرف، فلما رأى ذلك عدي بن حاتم، قام فقال:   1 يشير إلى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 3- مقال عدي بن حاتم: "أنا ابن حاتم، سبحان الله! ما أقبح هذا المقام! لا تجيبون إمامكم، وابن بنت نبيكم! أين خطباء مُضَرَ الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدَّعة1، فإذا جَدَّ الجِدُّ   1 جمع مخراق بالكسر: السيف "وهو أيضًا المنديل يلف ليضرب به" وفي الدعة: أي وقت الدعة: أي الخفض والسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 فَرَوَّاغُون كالثعالب، أما تخافون مقت الله! ولا عَيْبَهَا وعارها1! ". ثم استقبل الحسن بوجهه فقال: "أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره، ووفقك لما تحمد وروده وصدوره، قد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا لك، وأطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحب أن يوافيني فليوافِ" ثم مضى لوجهه، إلى النخيلة. وقام ثلاثة آخرون من أصحاب الحسن، فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم، وكلموا الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم، فقال لهم: صدقتم رحمكم الله، ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة، فجزاكم الله خيرًا، ثم نزل، وخرج الناس، فعسكروا ونشطوا للخروج، وسار الحسن في عسكر عظيم، وعدة حسنة. "شرح ابن أبي الحديد م4: ص14"   1 أي عار فعلتكم هذه: وهي تقاعسهم عن إجابة الحسن إلى ما دعاهم إليه، وفي الأصل: "وعارتها" وأراه محرفا إذ العارة هي العارية ولا معنى لها هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 4- خطبة الحسن وقد جنح إلى مصالحة معاوية : ثم نزل الحسن ساباط1، فلما أصبح نادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر، فخطبهم فقال: "الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدًا رسول الله، أرسله بالحق، وائتمنه على الوحي، صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد، فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه، وأنا أنصح خلقه لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مريدًا له بسوء ولا غائلة2، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرًا من نظركم   1 ساباط كسرى بالمدائن. 2 الغائلة: الشر والفساد والداهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا علي رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه محبته ورضاه إن شاء الله" ثم نزل. فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنه يريد أن يصالح معاوية ويكل الأمر إليه، كفر والله الرجل، ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه، حتى أخذوا مصلاه من تحته، وشد عليه بعضهم، فنزع مطرفه1 عن عاتقه، فبقي جالسًا متقلدًا سيفًا بغير رداء، فدعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا منه من أراده، ولاموه وضعّفوا لما تكلم. فلما مر في مظلم2 ساباط، قام إليه رجل من بني أسد يقال له: جراح بن سنان، وبيده معول3، فأخذ بلجام فرسه وقال: الله أكبر يا حسن! أشرك أبوك، ثم أشركت أنت! وطعنه بالمعول، فوقعت في فخذه فشقته، حتى بلغت أَرْبِيَّتَهُ4، وسقط الحسن إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده واعتنقه فخرَّا جميعًا إلى الأرض. "شرح ابن أبي الحديد م4: ص14"   1 رداء من خز مربع ذو أعلام. 2 مظلم مضاف إلى ساباط التي قرب المدائن: موضع هناك. 3 المعول: الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر. 4 الأربية: أصل الفخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 5- خطبته يبرر مصالحته لمعاوية : لما رأى الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تفرق الأمر عنه، بعث إلى معاوية يطلب الصلح، فبعث معاوية إليه رسولين، قدما عليه بالمدائن، فأعطياه ما أراد، وصالحاه على أن يأخذَ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف –في أشياء اشترطها- ثم قام الحسن في أهل العراق فقال: "يا أهل العراق، إنه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي". "تاريخ الطبري 6: 92، ومروج الذهب 2: 53". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 6- خطبته في الصلح بينه وبين معاوية : وقدم معاوية الكوفة لإنفاذ الصلح بينه وبين الحسن "سنة 41هـ"، وكان عمرو بن العاص حين اجتمعوا بالكوفة، قد كلم معاوية، وأمره أن يأمر الحسن أن يقوم ويخطب الناس، فكره ذلك معاوية، وقال: ما تريد إليّ أن أخطب الناس؟ فقال عمرو: لكني أريد أن يبدُوَ عِيُّهُ للناس1، فلم يزل عمرو بمعاوية حتى أطاعه، فخرج معاوية، فخطب الناس، ثم نادى الحسن، فقال: قم يا حسن، فكلم الناس، فتشهد في بديهة أمر لم يُرَوِّ فيه، ثم قال: "أما بعد أيها الناس: فإن الله قد هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكانت لي في رقابكم بيعة، تحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية وبايعته فبايعوه، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} وأشار إلى معاوية، فلما قالها قال معاوية: اجلس، فلم يزل ضَرِمًا2 على عمرو، وقال: هذا من رأيك" ولحق الحسن بالمدينة. "تاريخ الطبري 6: 93، ومروج الذهب 2: 53، والإمامة والسياسة 1: 120، وأنباء نجباء الأنباء ص 56 وتاريخ ابن عساكر 4: 224"   1 روى أبو الفرج الأصبهاني أنه كان في لسان الحسن ثقل كالفأفأة "شرح ابن أبي الحديد م4 ص11". 2 ضرم عليه كفرح: احتدم غضباً فهو ضرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 7- خطبة له بعد الصلح : روى المدائني قال: سأل معاوية الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد الصلح أن يخطب الناس، فامتنع، فناشده أن يفعل، فوضع له كرسيًَا، فجلس عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 "الحمد لله الذي توحد في ملكه، وتفرد في ربوبيته، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، والحمد لله أكرم بنا مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم، وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم قديمًا وحديثًا أحسن البلاء1، إن شكرتم أو كفرتم. أيها الناس: إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه، ولقد اختصه بفضل لم تعتدُّوا مثله، ولم تجدوا مثل سابقته، فهيهات، طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم، وهو صاحبكم وعدوكم في بدر وأخواتها، جرَّعكم رنقًا2، وسقاكم علقا3، وأذل رقابكم، وأشرقكم بريقكم، فلستم بملومين على بغضه، وايم الله لا ترى أمة محمد خفضًا ما كانت سادتهم وقادتهم بني أمية، ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا، لطاعتكم طواغيتكم4، وانضوائكم5 إلى شياطينكم، فعند الله أحتسب ما مضى، وما ينتظر من سوء دعتكم، وحيف6 حكمكم، ثم قال: "يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهمٌ من مرامي الله، صائب على أعداء الله، نكال على فجار قريش، لم يزل آخذًا بحناجرها، جاثمًا على أنفاسها، ليس بالملومة في أمر الله، ولا بالسَّرُوقة لمال الله، ولا بالفَرُوقَة7 في حرب أعداء الله، أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه، دعاه فأجابه، وقاده فاتبعه، لا تأخذه في الله لومة لائم، فصلوات الله عليه ورحمته" ثم نزل. فقال معاوية: أخطأ عَجِلٌ أو كَادَ، وأصابَ مُتَثَبِّتٌ أو كَادَ، ماذا أردتُ من خطبة الحسن؟ "شرح ابن أبي الحديد م4: ص10"   1 البلاء يكون منحة ويكون محنة، وهو هنا بالمعنى الأول. 2 ماء رنق: كعدل وكتف وجبل كدر. 3 العلق: الدم ودويبية في الماء تمص الدم. 4 الطواغيت: جمع طاغوت، وهو الشيطان وكل رأس ضلال. 5 انضمامكم. 6 الحيف: الظلم. 7 الفروق والفروقة: شديد الفزع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 8- خطبة لمعاوية في أهل الكوفة : وروى المدائني قال: خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن، فأرسل معاوية إلى الحسن يسأله أن يخرج، فيقاتل الخوارج، فقال الحسن: سبحان الله! تركت قتالك –وهو لي حلال- لصلاح الأمة وألفتهم، أفتراني أقاتل معك؟ فخطب معاوية أهل الكوفة فقال: "يا أهل الكوفة، أتراني، قاتلتُكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين، ولا يصلح الناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله، وإقفال1 الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فإنه إن لم تَغْزُوهم غَزَوكم" ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م4 ص6"   1 إرجاعهم وردهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 9- رد الحسن بن علي على معاوية حين نال منه ومن أبيه: وخطب معاوية بالكوفة حين دخلها، والحسن والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما جالسان تحت المنبر، فذكر عليًّا عليه السلام، فنال منه، ثم نال من الحسن، فقام الحسين؛ ليرد عليه، فأخذه الحسن بيده فأجلسه، ثم قام فقال: "أيها الذاكر عليًّا: أنا الحسن، وأبي علي، وأنت معاوية، وأبوك صخر، وأمي فاطمة، وأمك هند، وجدي رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجدك عتبة بن ربيعة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وجدتي خديجة، وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرًا، وألأمنا حسبًا، وشرَّنا قديمًا وحديثًا، وأقدمَنَا كفرًا ونفاقًا". فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. "شرح ابن أبي الحديد م4 ص16" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 10- خطبة سليمان بن صرد في استنكار الصلح : وذكروا أنه لما تمت البيعة لمعاوية بالعراق، وانصرف راجعًا إلى الشام، أتى سليمان بن صرد -وكان غائبًا عن الكوفة، وكان سيد أهل العراق ورأسهم- فدخل على الحسن فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال: وعليك السلام، اجلس لله أبوك، فجلس سليمان، ثم قال: "أما بعد: فإن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق، وكلهم يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك بقية في العهد، ولا حظًا من القضية، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت، وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق، كنت كتبت عليك بذلك كتابًا، وأشهدت عليه شهودًا من أهل المشرق والمغرب، أن هذا الأمر لك من بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنه أعطاك هذا، فرضيت به من قوله، ثم قال، وزعم على رءوس الناس ما قد سمعت: إني كنت شرطت لقوم شروطًا، ووعدتهم عدات، ومنيتهم أماني؛ إرادة إطفاء نار الحرب، ومداراة لهذه الفتنة، إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا، فإن كل ما هنالك تحت قدمي هاتين، ووالله ما عنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه، فأعد الحرب جَذَعة1، وأذن لي أَشْخَصْ إلى الكوفة،   1 هي في الأصل خدعة، وصوابها جذعة، أي فتية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فأُخْرِج عامله منها، وأظهر فيها خلعه، وانبذ إليه1 على سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين". ثم سكت، فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته، وكلهم يقول: ابعث سليمان بن صرد وابعثنا معه، ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله، وأظهرنا خلعه. "الإمامة والسياسة 1: 120".   1 معناه إذا هادنت قومًا، فعلمت منهم النقض للعهد، فلا توقع بهم سابقًا إلى النقض، حتى تعلمهم أنك نقضت العهد، فتكونوا في علم النقض مستوين، ثم أوقع بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 11- خطبة الحسن يرد على مستنكري الصلح: فتكلم الحسن، فحمد الله، ثم قال: "أما بعد فإنكم شيعتنا وأهل مودتنا، ومن نعرفه بالنصيحة والاستقامة لنا، وقد فهمت ما ذكرتم، ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا، وللدنيا أعمل وأَنْصَبُ، ما كان معاوية بأبأس مني وأشد شكيمة، ولكان رأيي غير ما رأيتم، لكني أشهد الله وإياكم أني لم أُرِدْ بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله، وارضوا بقضاء الله، وسلموا لأمر الله، والزموا بيوتكم، وكفوا أيديكم، حتى يستريح بَرٌّ أو يُستراحَ من فاجرٍ، مع أن أبي كان يحدثني أن معاوية سيلي الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر1، إن الله لا معقب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، وأما قولك: يا مذل المؤمنين، فوالله لأن تَذِلُّوا وتُعافُوا أحبُّ إلي من أن تَعِزُّوا وتُقتَلُوا، فإن رد الله علينا حقنا في عافية، قبلنا وسألنا الله العون على أمره، وإن صرفه عنا رضينا وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا، فليكن كل رجل منكم حلسًا2 من أحلاس بيته،   1 يغلب. 2 الحلس: بساط البيت، وفلان حِلْسٌ من أحلاس البيت: الذي لا يبرح البيت، وفي الحديث: "في الفتنة كن حلسًا من أحلاس بيتك حتى تأتيك يد خاطئة، أو منية قاضية" أي لا تبرح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 ما دام معاوية حيًّا، فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء، سألنا الله العزيمة على رشدنا، والمعونة على أمرنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . "الإمامة والسياسة 1: 120". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 12- خطبة له في عهد خلافته : ومن خطبه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أيامه في بعض مقاماته أنه قال: "نحن حزب الله المفلحون، وعترة1 رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين2 اللذين خلفهما رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني كتاب الله، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعول عليه في كل شيء، لا يخطئنا تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإطاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة3: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان، إنه لكم عدو مبين، فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي   1 العترة: رهط الرجل وعشيرته الأدنون. 2 الثقل: كل شيء نفيس مصون، وفي الحديث "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي". 3 يشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} فتلقون للرماح أزرًا1، وللسيوف جزرًا2، وللعمد3 حظًا، وللسهام غرضًا، ثم: {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} "مروج الذهب 2: 53"   1 الأزر: جمع إزار، وهو الملحفة وكل ما واراك وسترك: أي فتكونون أجربة للرماح تغيب في أبدانكم وتسعر، أو هو الأزر بفتح فسكون وهو الظهر: أي تركبكم الرماح وتعلوكم، والمراد تطعنون وتضربون بها والأول أوجه. 2 أي قطعًا. 3 عمد بفتحتين، وعمد بضمتين: جمع عمود، وهي من الآلات التي كانت تستعمل في القتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 13- خطبة أخرى له : ومن خطبه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "اعلموا أن الحلم زين، والوقار مودة، والصلة نعمة، والإكثار صلف1، والعجلة سفه، والسفه ضعف، والقلق ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسوق ريبة". "صبح الأعشى 1: 215"   1 الصلف: التكلم بما يكرهه صاحبك والتمدح بما ليس عندك، أو مجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 مخاصمة ومهاجاة مدخل ... مخاصمة ومهاجاة: بين الحسن بن علي، وبين عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، وعتبة بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، بحضرة معاوية: قال ابن أبي الحديد: روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات قال: "اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعتبة بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، وقد كان بلغهم عن الحسن بن علي عليه السلام قوارص1، وبلغه عنهم مثل ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين إن الحسن قد أحيا أباه وذكره، وقال فصدق، وأمر فأطيع، وخفقت2 له النعال، وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوءنا. قال معاوية: فما تريدون؟ قالوا: ابعث إليه فليحضر لنسبَّه ونسبَّ أباه ونعيره ونوبخه، ونخبره أن أباه قتل عثمان ونقرره بذلك، ولا يستطيع أن يغير علينا شيئًا من ذلك. قال معاوية: إني لا أرى ذلك ولا أفعله، قالوا: عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن، فقال: ويحكم لا تفعلوا، فوالله ما رأيته قط جالسًا عندي إلا خفت مقامه وعيبه لي قالوا: ابعث إليه على كل حال. قال: إن بعثت إليه لأنصفنه منكم، فقال عمرو بن العاص: أتخشى أن يأتي باطله على حقنا، أو يُرْبَى قوله على قولنا؟ قال معاوية: أما إني إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله. قالوا: مره بذلك، قال: أما إذا عصيتموني وبعثتم إليه وأبيتم إلا ذلك، فلا تمرضوا3 له   1 القوارص من الكلام: التي تنغصك وتؤلمك. 2 الخفق: صوت النعل. 3 تمرض: ضعف في أمره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 في القول، واعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب، ولا يلصق بهم العار، ولكن اقذفوه بحجره؛ تقولون له: إن أباك قتل عثمان، وكره خلافة الخلفاء من قبله؛ فبعث إليه معاوية، فجاءه رسوله. فقال: إن أمير المؤمنين يدعوك، قال: من عنده؟ فسماهم، فقال الحسن عليه السلام: ما لهم؟ خَرَّ عليهم السقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، ثم قال: يا جارية ابغيني ثيابي، اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأدرأ1 بك في نحورهم، وأستعين بك عليهم، فاكفنيهم كيف شئت، وأنى شئت، بحول منك وقوة، يا أرحم الراحمين، ثم قام، فلما دخل على معاوية أعظمه وأكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وقد ارتاد2 القوم، وخَطَرُوا3 خَطَران الفحول، بَغْيًا في أنفسهم وعلوًّا، ثم قال: يا أبا محمد، إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني. فقال الحسن عليه السلام: سبحان الله! الدار دارك، والإذن فيها إليك؛ والله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما في أنفسهم إني لأستحيي لك من الفحش، وإن كانوا غلبوك على رأيك إني لأستحيي لك من الضعف، فأيهما تقر وأيهما تنكر؟ أما إني لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب، وما لي أن أكون مستوحشًا منك أو منهم؟ إن وليي الله وهو يتولى الصالحين؛ فقال معاوية: يا هذا إني كرهت أن أدعوك، ولكن هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهتي له، وإن لك منهم النَّصَفَ4 ومني، وإنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلومًا، وأن أباك قتله، فاستمع منهم ثم أجبهم، ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك، فتكلم عمرو بن العاص:   1 أدفع. 2 الارتياد: الذهاب والمجيء. 3 خطر الرجل في مشيته: رفع يديه ووضعها واهتز وتبختر، وخطر بسيفه ورمحه: رفعه مرة ووضعه أخرى خطرانا "بالتحريك"، وخطر الفحل بذنبه: ضرب به يمينا وشمالا. 4 الإنصاف والعدل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 14- مقال عمرو بن العاص : فحمد الله وصلى على رسوله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ذكر عليًّا عليه السلام، فلم يترك شيئًا يعيبه به إلا قاله، وقال: إنه شتم أبا بكر، وكره خلافته، وامتنع من بيعته، ثم بايعه مكرهًا، وشرك في دم عمر، وقتل عثمان ظلمًا، وادعى من الخلافة ما ليس له، ثم ذكر الفتنة يعيره بها، وأضاف إليه مساوئ، وقال: إنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك، على قتلكم الخلفاء، واستحلالكم ما حرم الله من الدماء، وحرصكم على الملك، وإتيانكم ما لا يحل؛ ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك، وليس عندك عقل ذلك ولا لبه، كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك، وتركك أحمق قريش، يسخر منك، ويهزأ بك، وذلك لسوء عمل أبيك؛ وإنما دعوناك لنسُبَّك وأباك؛ فأما أبوك فقد تفرد الله به، وكفانا أمره، وأما أنت فإنك في أيدينا، نختار فيك الخصال، ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله، ولا عيب من الناس؛ فهل تستطيع أن ترد علينا وتكذبنا؟ فإن كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردده علينا فيما قلنا، وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 15- مقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط : ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فقال: "يا بني هاشم: إنكم كنتم أخوال عثمان، فنعم الولد كان لكم، فعرف حقكم، وكنتم أصهاره، فنعم الصهر كان لكم يكرمكم، فكنتم أول من حسده، فقتله أبوك ظلمًا، لا عذر له ولا حجة، فكيف ترون الله طلب بدمه، وأنزلكم منزلتكم، والله إن بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية، وإن معاوية خير لك من نفسك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 16- مقال عتبة بن أبي سفيان : ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان، فقال: "يا حسن: كان أبوك شرَّ قريش لقريش، لسفكه لدمائها، وقطعه لأرحامها، طويل السيف واللسان، يقتل الحي ويعيب الميت، وإنك ممن قتل عثمان ونحن قاتلوك به. وأما رجاؤك الخلافة فلست في زندها1 قادحًا، ولا في ميزانها راجحًا، وإنكم يا بني هاشم قتلتم عثمان، وإن في الحق أن نقتلك وأخاك به، فأما أبوك فقد كفانا الله أمره، وأقاد2 منه، وأما أنت فوالله ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم ولا عدوان".   1 الزند: العود الذي يقدح به النار. 2 أقاد القاتل بالقتيل: قتله به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 17- مقال المغيرة بن شعبة : ثم تكلم المغيرة بن شعبة، فشتم عليًّا، وقال: والله ما أعيبه في قضية يخون، ولا في حكم يميل، ولكنه قتل عثمان، ثم سكتوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 18- رد الحسن بن علي عليهم : فتكلم الحسن بن علي عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "أما بعد يا معاوية، فما هؤلاء شتموني، ولكنك شتمتني، فحشًا ألفته، وسوء رأي عُرِفْتَ به، وخلقًا سيئًا ثَبَتّ عليه، وبغيًا علينا، عداوة منك لمحمد وأهله، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا، فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم، أنشدكم الله أيها الرهط، أتعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين1 كلتيهما، وأنت يا معاوية   1 كان صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستقبل الكعبة وهو بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمر أن يستقبل بيت المقدس تألفًا لليهود، فصلى إليه ستة أو سبعة عشر شهرًا ثم حول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 بهما كافر، تراها ضلالة وتعبد اللات والعزى1 غواية، وأنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كلتيهما: بيعة الفتح2 وبيعة الرضوان3، وأنت يا معاوية بإحداهما كافر، وبالأخرى ناكث، وأنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانًا، وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم، تسرون الكفر وتظهرن الإسلام، وتُستمالون بالأموال، وأنشدكم الله ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يوم بدر، وأن راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه؟ ثم لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب ومعه راية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، ومعك ومع أبيك راية الشرك، وفي كل ذلك يفتح الله له، ويفلج4 حجته، وينصر دعوته، ويصدق حديثه، ورسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله في تلك المواطن كلها عنه راضٍ، وعليك وعلى أبيك ساخط؛ وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يومًا جاء أبوك على جمل أحمر، وأنت تسوقه، وأخوك عتبة هذا يقوده، فرآكم رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "اللهم العن الراكب والقائد والسائق" أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم تنهاه عن ذلك: يا صخر لا تسلمن يومًا فتفضحنا ... بعد الذين ببدر أصبحوا مِزَقا5 خالي وعمي وعم الأم ثالثهم ... وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا6   1 اللات: صنم ثقيف بالطائف، والعزى: أكبر صنم لقريش، وكان ببطن نخلة. 2 روى الطبري في تاريخه –بعد أن أورد خبر فتحه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة سنة ثمان للهجرة، وخطبته حين وقف على باب الكعبة –قال: "ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله على الإسلام فجلس لهم- فيما بلغني – على الصفا، وعمر بن الخطاب تحت رسول الله أسفل من مجلسه يأخذ على الناس، فبايع رسول الله على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وكذلك كانت بيعته لمن بايع رسول الله من الناس على الإسلام، فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش فيهن هند بنت عتبة "أم معاوية" ... إلى آخر القصة –تاريخ الطبري 3: 121– وكان معاوية ممن أسلم بعد الفتح. 3 بيعة الرضوان كانت سنة ست هجرية في غزوة الحديبية حين دعا الرسول صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين للبيعة على القتال، فبايعوه على الموت تحت شجرة هناك سميت بعد بشجرة الرضوان. 4 ينصر. 5 المزق: جمع مِزقة بالكسر، وهي القطعة من الثوب وغيره. 6 أي لشدة الحزن والأسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 لا تركنن إلى أمر تُكَلِّفُنَا ... والراقصاتُ به في مكة الخرقا1 فالموت أهون من قول العداة "لقد ... حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا"2 والله لَمَا أخفيتُ من أمرك، أكبر مما أبدي؛ وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن عليًّا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فأنزل فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} . وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة، فنزلوا من حصنهم، فهزموا، فبعث عَلِيًّا بالراية؛ فاستنزلهم على حكم الله، وحكم رسوله، وفعل في خيبر مثلها، ثم قال: يا معاوية أظنك لا تعلم أني أعلم ما دعا به عليك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، لما أراد أن يكتب كتابا إلى بني جذيمَة3، فبعث إليك ونَهَمك4 إلى أن تموت، وأنتم أيها الرهط   1 الخرق محرَّكة: ألا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور، والحمق. 2 فرق: فزع. 3 في الأصل "خزيمة"، وهو تحريف، وهم بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وقد بعث إليهم رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيًا، ولم يبعثه مقاتلا، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا، فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم – وكان بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف، والفاكه بن المغيرة عم خالد، وكانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما، وأخذوا أموالهما – فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثم دعا علي بن أبي طالب، فقال: يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم، ومعه مال قد بعثه رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به، فودى لهم الدماء، وما أصيب من الأموال، حتى إنه ليدي ميلغة الكلب، "والميلغة بالكسر: الإناء يلغ فيه الكلب" حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداء بقيت معه بقية من المال. قال لهم: هل بقى لكم دم أو مال لم يرد إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت، ثم استقبل القبلة قائما شاهرا يديه، وهو يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ابن الوليد، ثلاث مرات. 4 الذي في كتب اللغة: "نهمه: زجره، وحذفه بالحصى وغيره" ومراده هنا أنه دعا عليه بالنهم وعدم الشبع، وقد تقدم الكلام عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 نشدتكم الله ألا تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردها؟ أولها: يوم لقي رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله خارجًا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفًا إلى الدين؛ فوقع به، وسبه، وسفهه، وشتمه، وكذبه، وتوعده، وهم أن يبطش به، فلعنه الله ورسوله، وصرف عنه، والثانية: يوم العير1 إذ عَرَضَ لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وهي جائية من الشأم، فطردها أبو سفيان وساحل2 بها، فلم يظفر المسلمون بها، ولعنه رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله ودعا عليه، فكانت وقعة بدر لأجلها. والثالثة: يوم أحد؛ حيث وقف تحت الجبل، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ في أعلاه، وهو ينادي: اُعْلُ هبل3 مرارًا، فلعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عشر مرات، ولعنه المسلمون. والرابعة: يوم جاء بالأحزاب، وغطفان، واليهود، فلعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وابتهل. والخامسة: يوم جاء أبو سفيان في قريش، فصدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عن المسجد والهدي معكوفا أن يبلغ محله4، ذلك يوم الحديبية، فلعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أبا سفيان، ولعن القادة والأتباع، وقال: ملعونون كلهم، وليس فيهم من يؤمن. فقيل: يا رسول الله، أفما يرجى الإسلام لأحد منهم، فكيف باللعنة؟ فقال: لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع، وأما القادة فلا يفلح منهم أحد5. والسادسة: يوم الجمل الأحمر. والسابعة: يوم وقفوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ في العقبة؛ ليستنفروا ناقته، وكانوا اثنى عشر رجلا منهم أبو سفيان. فهذا لك يا معاوية. وأما أنت يا بن العاص، فإن أمرك مشترك، وضعتك أمك مجهولا من عهر6   1 العير: الإبل تحمل الميرة. 2 أتى بها ساحل البحر. 3 أي: اعل وانتصر يا هبل؛ وهو صنم كان في الكعبة. 4 والهدي معطوف على رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والهدي ما يهدى إلى مكة، ومعكوفًا أي محبوسًا وهو حال. أن يبلغ محله أي مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم. 5 لا يتعارض مع هذا أن أبا سفيان أفلح بعد وأسلم، إذ النفي فيه بلا، وليس النفي بلن. 6 فجور: ذكروا أن النابغة أم عمرو بن العاص كانت أمة لرجل من عنزة "بالتحريك" فسبيت: فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة، فكانت بغيًّا، ثم أعتقها، فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وسفاح، فتحاكم فيك أربعة من قريش، فغلب عليك جزّارها؛ ألأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا، ثم قام أبوك فقال: أنا شاني محمد الأبتر1. فأنزل الله فيه ما أنزل، وقاتلت رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله في جميع المشاهد، وهجوته وآذيته بمكة، وكدته كيدك كله، وكنت من أشد الناس له تكذيبا وعداوة، ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة؛ لتأتي بجعفرٍ وأصحابه إلى أهل مكة2. فلما أخطأك ما رجوت، ورجعك الله خائبًا وأكذبك واشيًا، جعلت حسدك على صاحبك عمارة بن الوليد، فوشيت به إلى النجاشي حسدًا لما ارتكب من حليلته3، ففضحك الله، وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم   = وأمية بن خلف الجمحي، وهشام بن المغيرة المخزومي، وأبو سفيان بن حرب، والعاص بن وائل السهمي في طهر واحد، فولدت عمرًا، فادعاه كلهم، فحكمت أمه فيه، فقالت: هو من العاص بن وائل؛ وذاك لأن العاص كان ينفق عليها كثيرًا، قالوا: وكان أشبه بأبي سفيان، وفي ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في عمرو بن العاص: أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت ... لنا فيك منه بينات الشمائل ويقال: إنه جعل لرجل ألف درهم أن يسأل عمرًا وهو على المنبر: من أمه؟ فسأله، قال: أمي سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عنزة أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت، فأنجبت، فإن كان جُعل لك شيء فخذه. "ورأيي فيما رُويَ من نسب عمرو بن العاص أن الإسلام يجب ما قبله". 1 الشانئ: المبغض، ويسهل: وذلك أن العاص بن وائل سمى النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبتر عند موت ابنه القاسم، فنزل فيه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي المنقطع عن كل خير، الذي لا يفوز بالذكر الحسن بعد موته، وأما أنت يا محمد فسيبقى حسن ذكرك، وآثار فضلك إلى يوم القيامة، فهو الأبتر لا أنت. 2 يشير إلى هجرة الحبشة الثانية، وقد هاجر إليها من المسلمين نحو ثلاثة وثمانين رجلا وثمان عشرة امرأة، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب، ولما رأت قريش ذلك أرسلت في أَثَرِهِم عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، بهدايا إلى النجاشي وبطارقته، ليسلم المسلمين، فرجعا خائبين، وأبى النجاشي أن يخفر ذمته. 3 وذلك أن عمرا وعمارة ركبا البحر إلى الحبشة كما قدمنا –وكان عمارة جميلا وسيما تهواه النساء، وكان مع عمرو بن العاص امرأته- فلما صاروا في البحر ليالي أصابا من خمر معهما، فانتشى عمارة، فقال لامرأة عمرو: قبليني، فقال لها عمرو: قبلي ابن عمك، فقبلته، فهويها عمارة، وجعل يراودها عن نفسها = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 في الجاهلية والإسلام. ثم إنك تعلم، وكل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله بسبعين بيتًا من الشعر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: اللهم إني لا أقول الشعر، ولا ينبغي لي. اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة، فعليك إذن من الله ما لا يحصى من اللعن، وأما ما ذكرت من أمر عثمان؛ فأنت سعرت1 عليه الدنيا نارا، ثم لحقت بفلسطين، فلما أتاك قتله قلت: "أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها" ثم حبست نفسك إلى معاوية، وبعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض، ولا نعاتبك على ود، وبالله ما نصرت عثمان حيًّا ولا غضبت له مقتولا، ويحك يابن العاص! ألست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي: تقول ابنتي: أين هذا الرحيل؟ ... وما السير مني بمستنكر   = فامتنعت منه، ثم إن عمرا جلس على منجاف السفينة يبول "منجاف السفينة هو سكانها الذي تعدل به" فدفعه عمارة في البحر، فلما وقع عمرو سبح حتى أخذ بمنجاف السفينة، وضغن عمرو عليه في نفسه، وعلم أنه كان أراد قتله، ومضيا حتى نزلا الحبشة، فلما اطمأنا بها لم يلبث عمارة أن دب لامرأة النجاشي، فأدخلته، فاختلف إليها، وجعل إذا رجع من مدخله ذلك يخبر عمرا بما كان من أمره، فيقول عمرو: لا أصدقك أنك قدرت على هذا، إن شأن هذه المرأة أرفع من ذلك، فلما أكثر عليه عمارة بما كان يخبره، ورأى عمرو من حاله وهيئته ومبيته عندها حتى يأتي إليه مع السحر ما عرف به ذلك، قال له: إن كنت صادقا، فقل لها فلتدهنك بدهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره، فإني أعرفه وأتني بشيء منه حتى أصدقك، قال: أفعل، فسألها ذلك، فدهنته منه، وأعطته شيئًا في قارورة، فقال عمرو: أشهد أنك قد صدقت، لقد أصبت شيئًا ما أصاب أحد من العرب مثله قط، امرأة الملك! ما سمعنا بمثل هذا، ثم سكت عنه حتى اطمأن ودخل على النجاشي، فأعلمه شأن عمارة، وقدم إليه الدهن، فلما أثبت أمره دعا بعمارة، ودعا نسوة أخر، فجردوه من ثيابه، ثم أمرهن ينفخن في إحليله، ثم خلى سبيله، فخرج هاربًا. 1 سعر النار: كمن أوقدها، وكان عمرو أول خلافة عثمان واليا على مصر –منذ خلافة عمر بن الخطاب- ثم إن عثمان ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح -وهو أخو عثمان من الرضاع- خراج مصر، وولى عمرو بن العاص على الجند، فلم يتفقا، فجمع لعبد الله الخراج والجند وعزل عمرا، فلما قدم عمرو المدينة جعل يطعن على عثمان، ويؤلب عليه، وخرج عمرو بعدئذ حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين، فكان يقول: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها، والله إن كنت لألقى الراعي، فأحرضه عليه "نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ فنديت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 فقلت: ذريني فإني امرؤ ... أريد النجاشي في جعفر لأكويه عنده كية ... أقيم بها نخوة الأصعر1 وشانئ أحمد من بينهم ... وأقولهم فيه بالمنكر وأجري إلى عتبة جاهدا ... ولو كان كالذهب الأحمر2 ولا أنثني عن بني هاشم ... وما اسطعت في الغيب والمحضر فإن قبل العتب مني له ... وإلا لويت له مشفري3 فهذا جوابك. هل سمعته؟ وأما أنت يا وليد، فوالله ما ألومك على بغض علي، وقد جلدك ثمانين في الخمر4، وقتل أباك بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ صَبْرًا5، وأنت الذي سماه اللهُ الفاسق   1 الصعر محرَّكة: الميل في الخد، صعر: كفرح فهو أصعر، وصعر خده تصعيرًا: أماله من الكبر. 2 كان من بين المهاجرين من المسلمين إلى الحبشة عتبة بن غزوان، وهو من بني نوفل بن عبد مناف، وعتبة بن مسعود "وهو أخو عبد الله بن مسعود" من هذيل من حلفائهم، وأظنه يعني عتبة بن غزوان، وقوله: ولو كان كالذهب الأحمر: أي في صعوبة الوصول إليه. 3 المشفر للبعير: كالشفة للإنسان، وقد يستعمل في الناس. 4 وذلك أن عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد أن عزل سعد بن أبي وقاص من إمارة الكوفة، ولى عليها الوليد بن عقبة –وهو أخوه لأمه- ورووا أنه شرب الخمر بالكوفة وسكر حتى دخل عليه، وأخذ خاتمه من أصبعه وهو لا يعلم، وأنه تكلم في الصلاة، والتفت إلى من يقتدون به فيها وهو سكران، وقال لهم: أزيدكم؟ قالوا: لا قد قضينا صلواتنا، وشهد الشهود عليه بذلك عند عثمان في وجهه، فأدخله بيتًا، وأراد أن يحده، فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه ناشده الوليد ألا يقطع رحمه، فلما رأى عليٌّ ذلك أخذ السوط ودخل عليه فجلده به. 5 القتل صبرا: أن يحبس الرجل ويرمى حتى يموت، وكان عقبة بن أبي معيط شديد الإيذاء لرسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيم الاستهزاء به، صنع مرة وليمة ودعا إليها كبراء قريش، وفيهم رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عليه الصلاة والسلام: والله لا آكل من طعامك حتى تؤمن بالله، فتشهد، فبلغ ذلك أبي بن خلف الجمحي، وكان صديقًا له، فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء دخل منزلي رجل شريف، فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له، قال أُبي: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدًا فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وسَمَّى عَلِيًّا المؤمن، حيث تفاخرتما، فقلت له: اسكت يا عليُّ، فأنا أشجع منك جَنَانًا، وأطول منك لسانًا، فقال لك علي: اسكت يا وليد، فأنا مؤمن وأنت فاسق، فأنزل الله تعالى في موافقة قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضًا {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1 ويحك يا وليد؟ مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه: أنزل الله "والكتاب عزيز" ... في علي وفي الوليد قُرانا2 فتبوَّا الوليد إذ ذاك فسقا ... وعلي مبوَّأٌ إيمانا3 ليس من كان مؤمنًا "عمرك اللـ ... ـه" كمن كان فاسقا خوَّانا سوف يُدعَى الوليد بعد قليل ... وعلي إلى الحساب عيانا فعلي يجزى بذاك جنانا ... ووليد يجزى بذاك هوانا رب جد لعقبة بن أبان ... لابس في بلادنا تُبَّانا4   = صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل به ذلك، فأنزل الله فيه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي في حجر الكعبة، فأقبل عقبة، فوضع ثوبه في عنق رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن الرسول، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} فلما كانت غزوة بدر كان عقبة من أسراها، وقد قتله عليه الصلاة والسلام وهو راجع. 1 وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق لأخذ الصدقات -وكان بينه وبينهم ترة في الجاهلية- فلما سمعوا به استقبلوه، فحسبهم مقاتليه، فرجع، وقال لرسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة، فهم بقتالهم، فأتوه منكرين ما قاله عنهم، فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . 2 مسهل عن: "قرآنا". 3 فتبوا: مسهل عن: "فتبوأ". 4 أبان: هو والد أبيه عقبة، فهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس، والتبان: سروال صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط يكون للملاحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وما أنت وقريش!، إنما أنت عِلْجٌ من أهل صفورية1، وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسن ممن تدعى إليه. وأما أنت يا عتبة، فوالله ما أنت بحصيف2 فأجيبك، ولا أقل فأحاورك وأعاتبك، وما عندك خير يرجى، ولا شر يتقى، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء، وما يضر عَلِيًّا لو سببته على رءوس الأشهاد؟ وأما وعيدك إياي بالقتل، فهلا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك؟ أما تستحيي من قول نصر بن حجاج فيك: يا للرجال وحادث الأزمان ... ولسبة تخزي أبا سفيان3 نبئت عتبة خانه في عرسه ... جنس لئيم الأصل من لحيان4 وبعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه، فكيف يخاف أحد سيفك؟ ولم تقتل فاضحك. وكيف ألومك على بغض عليٍّ، وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل جدك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد. وأما أنت يا مغيرة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: "استمسكي فإني طائرة عنك" فقالت النخلة: وهل علمت بك واقعةً عليَّ، فأعلم بك طائرة عني؟ والله ما نشعر بعداوتك إيانا، ولا اغتممنا إذ علمنا بها ولا يشق علينا كلامك، وإنَّ حد الله في الزنا لثابت عليك ولقد درأ عمر عنك حقًّا، الله سائله عنه. ولقد سألتَ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؟ فقال: لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا، لعلمه بأنك زانٍ، وأما   1 صفورية: بلد بالأردن "بضم الهمزة والدال وتشديد النون"، والعلج: الرجل من كفار العجم وذلك أن جده ذكوان كان يلقب بالصفوري، ذكر جماعة من النسابين أن ذكوان هذا كان مولى لأمية بن عبد شمس، فتبناه، وكناه أبا عمرو، فبنوه موالٍ، وليسوا من بني أمية لصلبه "شرح ابن أبي الحديد م1: ص154". 2 حصف: ككرم استحكم عقله، فهو حصيف. 3 السبة: العار. 4 عرس الرجل: امرأته: وبنو لحيان: حي من هذيل، وهو لحيان بن هذيل بن مدركة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فخركم علينا بالإمارة، فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا 1 مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} . ثم قام الحسن فنفض ثوبه فانصرف؛ فعلق عمرو بن العاص بثوبه وقال: يا أمير المؤمنين قد شهدت قوله في وقذفه أمي بالزنا، وأنا مطالب له بحد القذف. فقال معاوية: خل عنه، لا جزاك الله خيرًا، فتركه، فقال معاوية: قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني، والله ما قام حتى أظلم علي البيت، قوموا عني؟ لقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم، وعدولكم عن رأي الناصح المشفق، والله المستعان. "شرح ابن أبي الحديد م2 ص101"   1 أي كثرنا، أمره: كنصره، وآمره: كثره، "وفي قراءة: آمرنا" أو المعنى أمرناهم بالطاعة ففسقوا وعصوا، وقد يكون من الإمارة أي جعلناهم أمراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 19- رثاء محمد بن الحنفية لأخيه الحسن لما مات الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، أدخله قبره الحسين ومحمد بن الحنفية1 وعبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ثم وَقَفَ محمدٌ على قبره، وقد اغرورقت عيناه، وقال: "رحمك الله أبا محمد فلئن عزَّتْ حياتُك لقد هَدَّتْ وفاتُك، ولنعم الروحُ روحٌ تضمَّنَهُ بدنُك، ولنعم الجسدُ جسدٌ تضمنه كفنك، ولنعم الكفنُ كفنٌ تضمنه لحدُك، وكيف لا تكون كذلك، وأنت سليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء2؛ وخلف   1هو محمد بن علي بن أبي طالب: والحنفية أمه، وهي امرأة من بني حنيفة بن لجيم وتسمى خولة بنت جعفر، وتوفي سنة 81، وقيل سنة 83، وقيل سنة 72، وقيل سنة 73. 2 الكساء: هو كساء آل محمد صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يضافون إليه، فيقال: "آل الكساء" وهم النبي عليه الصلاة والسلام، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قال ديك الجن: والخمسة الغر أصحاب الكساء معا ... خير البرية من عجم ومن عرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 أهل التقوى، وجدك النبي المصطفى، وأبوك علي المرتضى، وأمك فاطمة الزهراء،   = وقال أبو عثمان الخالدي: أعاذل إن كساء التقى ... كسانيه حبي لأهل الكساء ومن قصة هذا الكساء ما روت الرواة من أن وفدًا من نصارى نجران قدموا على النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان مما جرى بينهم وبينه أن قالوا: يا محمد لم تعيب عيسى وتسميه عبدًا؟ فقال: أجل عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، قالوا: فأرنا مثله، يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير، وبايعنا على أنه ابن الله، ونحن نبايعك على أنك رسول الله، فقال رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: معاذَ اللهِ أن يكون لله ولد أو شريك، فما زالوا يحاجونه ويلاحونه حتى أنزل الله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أي في عيسى {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فقال لهم: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم –والمباهلة الملاعنة- فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع، فننظر في أمرنا، ثم نأتيك، فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم "وهو أحد رؤسائهم. قال ياقوت في معجمه: ووفد على النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد نجران وفيهم السيد واسمه وهب، والعاقب واسمه عبد المسيح، والأسقف وهو أبو حارثة، وأراد رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مباهلتهم، فامتنعوا.. الخ" يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال "والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدًا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم "أي عيسى" والله ما بَاهَلَ قومٌ نبيًّا قطُ، فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم" وكان رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج وعليه مرط من شعر أسود "والمرط بالكسر كساء من صوف أو خز" وقد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خلفها، وهو يقول "إذا دعوتُ فأمنوا" فقال أسقف نجران" "يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله لها، فلا تباهلوا، فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة" ثم قالوا. يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك" فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا أبيتم المباهلة، فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين" فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة، ألفًا في صفر وألفًا في رجب، وثلاثين درعًا عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: "والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارًا، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على رءوس الشجر، ولَمَا حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خرج في المرط الأسود جاء الحسن، فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فمن ذلك الوقت سُمِّيَ الخمسة أصحاب الكساء "انظر كتاب ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي ص483 وتفسير الفخر الرازي مفاتيح الغيب 2: 699" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وعمك جعفر1 الطيار في جنة المأوى، وغذَّتك أكف الحق، وربيت في حجر الإسلام، ورضعت ثدي الإيمان، فطبتَ حيًّا وميتًا، فلئن كانت الأنفسُ غيرَ طيبةٍ لفراقك، إنها غير شاكَّةٍ أنْ قد خِير لَكَ2، وإنك وأخاك لسيدا شبابِ أهلِ الجنةِ، فعليك أَبَا محمدٍ منا السلام". "زهر الآداب 1: 69، ومروج الذهب 2: 51، والعقد الفريد 2: 7".   1 هو جعفر بن أبي طالب، وقد استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان للهجرة، وكان يقول حين أخذ الراية من زيد بن حارثة الذي استشهد قبله في هذه الغزوة: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردًا شرابها ولقب بالطيار لما روي عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "دخلت الجنة البارحة، فرأيت جعفرًا يطير مع الملائكة وجناحاه مضرجان بالدم" – راجع الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام 2: 258-. 2 خار الله لك في الأمر: جعل لك فيه الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 مقتل الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تأبيه عن بيعة يزيد وخروجه إلى مكة : لما ولي الخلافة يزيدُ بنُ معاوية "في هلال رجب سنة 60هـ" كتب إلى أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يأخذ الحسين، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بالبيعة أخذًا شديدًا ليست فيه رخصة1، فبعث الوليد إلى الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ونعى له معاوية، ودعاه إلى البيعة، فقال الحسين: "إن مثلي لا يعطي بيعتَهُ سِرًّا، ولا أراك تجترئ بها مني سِرًّا، دون أن تظهرها على رءوس الناس علانية، فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس، فكان أمرًا واحدًا" فقال له الوليد –وكان يحب العافية: "فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس". فلما كان من الغد بعث الرجال إلى الحسين عند المساء، فقال: "أصبحوا ثم ترون ونرى" فكفوا عنه تلك الليلة ولم يلحوا عليه، فخرج الحسين من تحت ليلته "ليومين بقيا من رجب سنة 60هـ" ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه وجل أهل بيته إلا محمدَ بنَ الحنفيةِ فإنه قال له:   1 الرخصة: التسهيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 20- نصيحة محمد بن الحنفية للحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: "يا أخي: أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح بتبعتك1 عن يزيد بن معاوية، وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس، فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا من هذه الأمصار، وتأتي جماعة من الناس، فيختلفوا بينهم، فمنهم طائفةٌ معك، وأخرى عليك، فيقتتلوا، فتكون لأول الأسنة، فإذا خيرُ هذه الأمة كلها نفسًا وأبًا وأمًّا أضيعها دمًا، وأذلها أهلا". قال له الحسين: "فإني ذاهب يا أخي". قال: "فانزلْ مكةَ، فإن اطمأنت بك الدار فسبيلٌ ذلك، وإن نبت2 بك لحقت بالرمال، وشعف3 الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد، حتى تنظر إلام يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك أصوب ما يكون رأيًا وأحزمه عملا، حتى تستقبل الأمور استقبالا، ولا تكون الأمور عليك أبدًا أشكل منها حين تستدبرها استدبارًا". قال: "يا أخي قد نصحت فأشفقت، فأرجو أن يكون رأيك سديدًا موفقًا". وسار إلى مكة، فأتاه أهل الكوفة ورسلهم، إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي فاقدَم علينا4 -وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة-   1 تبعة جمع تابع. 2 ضاقت. 3 الشعف: جمع شفعة محركة، وهي رأس الجبل. 4 اجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد، فذكروا هلاك معاوية فحمدوا الله عليه، فقال سليمان: "إن معاوية قد هلك، وإن حسينا قد تقبض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه وإن خفتم الوهل "بالتحريك الضعف والفزع والفشل" فلا تغزوا الرجل من نفسه" قالوا: "لا، بل نقاتل عدوه، ونقتل أنفسنا دونه" قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، لحسين بن علي من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة، سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى "وثب" على هذه الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعْدًا له كما بعدت ثمود، إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه، حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله عليك" وكتبوا إليه أيضًا: "بسم الله الرحمن الرحيم، لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أما بعد: فحيهلا "أي أقبل" فإن الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل والسلام عليك" وكتبوا: "أما بعد: فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، "الجمام: بالكسر جمع جم بالفتح، وهو معظم الماء وطمى الماء: علا، وطم: غمر" فإذا شئت فأقدم على جند لك مجند، والسلام عليك" فكتب إليهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من حسين بن علي إلا الملأ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد: فإن هانئًا وسعيدًا "وهما هانئ بن هانئ وسعيد بن عبد الله قدما على بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي مَلَئِكُم وذوي الفضل والحجا منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسَه على ذات الله والسلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 بعثه مسلم بن عقيل إلى الكوفة : فبعث الحسين إلى ابن عمه مسلم بن عقيل، فقال له: "سِرْ إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي، فإن كان حقًّا خرجنا إليهم، فخرج مسلم إلى الكوفة، ونزل دار المختار بن أبي عبيد، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فقرأ عليهم كتاب الحسين، فأخذوا يبكون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 21- خطبة عابس بن أبي شبيب الشاكري: فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم، والله أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه، والله لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال: "رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجِزٍ من قولك" ثم قال: "وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه" وقال غيرهما مثل قولهما. فبلغ ذلك النعمان بن بشير، فخرج، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 22- خطبة النعمان بن بشير : "أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال –وكان حليمًا ناسكًا يحب العافية- قال: إني لا أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا أشاتمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرفة1 ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم، إن أبديتم صفحتكم2 لي ونكثم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل". فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية، فقال:   1 القرفة: التهمة، وقرفه بالشيء: اتهمه. 2 أي جاهرتموني بالعدواة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 "إنه لا يُصلِح ما ترى إلا الغَشْم1، إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين" فقال: "أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله" ثم نزل. وكتب عبد الله بن مسلم وغيره إلى يزيد أن يبعث إلى الكوفة رجلا قويًّا غير النعمان، فبعث إلى عبيد الله بن زياد –وكان على البصرة- وضم إليه الكوفة، فسار إليها، فلما نزل القصر نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فخرج إليهم.   1 الغشم: الظلم، والمراد الشدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 23- خطبة عبيد الله بن زياد : فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن أمير المؤمنين "أصلحه الله" ولَّانِي مِصْرَكُم وَثَغْرَكُم1، وأَمَرَنِي بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البَرِّ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري، وخالف عهدي، فَلْيُبْقِ امرؤٌ على نفسِهِ، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد". ثم نزل فأخذ العرفاء2 والناس أخذًا شديدًا، وبلغ ذلك مسلم بن عقيل، فخرج من دار المختار، حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادي لائذًا به، ونمى خبره إلى ابن زياد، فبعث إلى هانئ فجاءه، فأمره أن يأتيه بمسلم، فقال: لا والله لا أجيئك به أبدًا أن أجيئك بضيفي تقتله! وطال بينهما اللجاج في ذلك، فضربه ابن زياد بالقضيب، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده، حتى كسر أنفه، وسيل الدماء على ثيابه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته، حتى كسر القضيب، ثم أمر بحبسه.   1الثغر: موضع المخافة من فروج البلدان. 2 جمع عريف، وهو رئيس القوم سُمِّي لأنه عرف بذلك أو النقيب وهو دون الرئيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 24- خطبة أخرى له: ولما ضرب عبيد الله هانئًا وحبسه، خشي أن يثب الناس به، فخرج، فصعد المنبر ومعه أشراف الناس، وشرطه، وحشمه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس: فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تختلفوا، ولا تفرقوا، فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا، وتجفوا وتحرموا، إن أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر". وبلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب هانئ وحبسه، فأمر أن ينادى في أصحابه -وكان قد بايعه من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا- وأقبل نحو القصر، فتحرز فيه ابن زياد وغلق الأبواب، وبعث إلى الأشراف فجمعهم إليه، ثم قال: "أشرفوا على الناس، فَمَنُّوا أهل الطاعة الزيادةَ والكرامةَ، وخَوِّفُوا أهل المعصية الحرمانَ والعقوبةَ، وأعلموهم فصولَ1 الجنود من الشأم إليهم".   1 فصل من البلد فصولا: خرج منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 25- خطبة كثير بن شهاب : فتكلم كثير بن شهاب أول الناس فقال: "أيها الناس: الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشرَّ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى اللَّهَ الأميرُ عهدًا لئن تممتم1 على حربه، ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت2 أيديها".   1 يقال: تممت على الأمر، أي استمررت عليه. 2 جر جريرة: اجترم جريمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا، فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون وينصرفون عن ابن عقيل، حتى أمسى وما معه إلا ثلاثون نفسًا، فخرج متوجها نحو أبواب كندة، فبلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان، فمضى على وجهه في أزقة الكوفة، حتى انتهى إلى باب عجوز، فسألها أن تؤويه، فآوته في دارها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 خطبة أخرى لعبيد الله بن زياد ... 26- خطبة عبيد الله بن زياد: ولما انفضت جموع ابن عقيل، خرج عبيد الله بن زياد إلى المسجد، وأمر فنودي: "ألا برئتِ الذمةُ من رجل صَلَّى العتمةَ1 إلا في المسجد"، فلم يكن إلا ساعة حتى امتلأ من الناس، فصلى بهم، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن ابن عقيل السفيه الجاهل، قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، اتقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. يا حصين بن نمير2، ثكلتك3 أمك إن صَاحَ4 بابَ سكةٍ من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدة على أفواه السكك، وأصبح غدًا واستبِرِ الدورَ5، وجُسْ خلالها، حتى تأتيني بهذا الرجل" ثم نزل. وأصبح ابن تلك العجوز التي آوت مسلما، فدل على مكانه، فبعث ابن زياد محمد بن الأشعث في ستين أو سبعين رجلا فأتى به، وأمر به، فأصعد إلى أعلى القصر، وضرب   1 العتمة: وقت صلاة العشاء. 2 وكان على شرط ابن زياد. 3 ثكله: فقده. 4 صاحه يصوحه فانصاح: أي شقه فانشق، والمراد: فتح باب سكة وهرب. 5 سبر الجرح وغيره واستبره: امتحن غوره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 عنقه، فهوى رأسُهُ إلى الأرض، وأتبع جسده رأسه، ثم أمر بهانئ بن عروة، فأخرج إلى السوق، فضربت عنقه. وكان مسلم حيث تحول إلى دار هانئ، كتب إلى الحسين: "إني قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى". فسار الحسين من مكة "في 8 من ذي الحجة سنة 60هـ" متوجهًا إلى الكوفة، وهو لا يعلم بحال مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 خروج الحسين إلى الكوفة : 27- نصيحة ابن عباس له : ولما أجمع الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المسير إلى الكوفة، أتاه عبد الله بنُ عباس، فقال: "يابن عم إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟ " قال: "إني قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى"، فقال له ابن عباس: "فإني أعيذك بالله من ذلك، أخبرني –رحمك الله- أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك، فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمالُهُ تَجْبى بلادهم، فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُسْتَنْفَرُوا إليك، فيكونوا أشد الناس عليك". فقال له الحسينُ: "وإني أستخير الله وأنظر ما يكون". فخرج ابن عباس من عنده، وأتاه ابن الزبير، فحدثه ساعة ثم قال: "ما أدري ما تَرْكُنا هؤلاء القومِ وكفُّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم، خبرني ما تريد أن تصنع؟ " فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشرافُ أهلها، وأستخير الله" فقال له ابن الزبير: "أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عَدَلتُ بها" ثم إنه خشي أن يتهمه، فقال: "أما إنك لو أقمتَ بالحجاز، ثم أردت هذا الأمر هاهنا ما خولف عليك إن شاء الله" ثم قام، فخرج من عنده، فقال الحسين: "ها، إن هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبَّ إليه من أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوه1 بي، فود أني خرجتُ منها لتخلوَ له". فلما كان من العشي أو من الغدِ، أتى الحسينَ عبدُ الله بنُ العباس، قال: "يابن عم، إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذه الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قومٌ غُدُرٌ2، فلا تقربنهم، أقم بهذا البلد، فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم فَلْيَنفُوا عدوهم، ثم أقدم عليهم، فإن أبيت إلا أن تخرج، فسر إلى اليمن، فإن بها حصونًا وشعابًا3 وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل، وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية. فقال له الحسين: "يابن عم، إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق ولكني قد أزمعت وأجمعت4 على المسير" فقال له ابن عباس: "فإن كنت سائرًا، فلا تسر بنسائك وصبيتك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه" ثم قال ابن عباس: "لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز، والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك5، والله الذي لا إله إلا هو، لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني، لفعلت ذلك" ثم خرج ابن عباس من عنده، فمر بعبد الله بن الزبير فقال: قرت عينك يابن الزبير، ثم قال:   1 أي لم يسووه. 2 جمع غدور كصبور. 3 الشعب بالكسر: الطريق في الجبل، وما انفرج بين جبلين. 4 يقال: أجمعت السفر، وأجمعت عليه، وأزمعت السفر وعليه عزمت عليه وثبت عليه همي. 5 أي مع وجودك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 يا لك من قْبَّرَةٍ بِمَعْمَرِ ... خلا لك الجوُّ فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري1 هذا حسين يخرج إلى العراق، وعليك بالحجاز.   1 القبرة واحد القبر: ضرب من الطير، ويقال القنبراء: بضم القاف والباء، والجمع قنابر. قال صاحب القاموس: ولا تقل قنبرة "كقنفذة" أو هي لغية، وقال صاحب اللسان والصحاح: "والعامة تقول: القنبرة وقد جاء ذلك في الرجز" ورويا شاهدًا عليه أنشده أبو عبيدة، والمعمر: المنزل الكثير الماء والكلأ، وهو مثل، وأول من قاله طرفة بن العبد، وذلك أنه كان مع عمه في سفر وهو صبي، فنزلوا على ماء، فذهب طرفة بفخيخ له، فنصبه للقنابر وبقي عامة يومه فلم يصد شيئًا، ثم حمل فخه ورجع إلى عمه، وتحملوا من ذلك المكان، فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن من الحب، فقال ذلك، يضرب في الحاجة يتمكن منها صاحبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 28- نصيحة أبي بكر بن عبد الرحمن المخزومي له : ودخل أبو بكر عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام1على الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: "يابن عم، إن الرحم يظائرني2عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك، فقال: يا أبا بكر، ما أنت ممن يستغش، فقال أبو بكر: "كان أبوك أشد بأسًا، والناس له أرجى، ومنه أسمع، وعليه أجمع، فسار إليه معاوية، والناس مجتمعون عليه –إلا أهل الشام- وهو أعز منه، فخذلوه، وتثاقلوا عنه؛ حرصًا على الدنيا وضنا بها، فجرعوه الغيظ وخالفوه، حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه، ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد شهدت ذلك كله ورأيته. ثم   1هو أبو بكر عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي. 2 الرحم: القرابة، ويظائرني: يعطفني. يقال: ظأرني فلان على أمر كذا، وأظأرني وظاءرني: أي عطفني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 أنت تريد أن تسير إلى الذين عدوا على أبيك وأخيك، تقاتل بهم أهل الشام وأهل العراق، ومن هو أعد منك وأقوى، والناس منه أخوف، وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فاذكر الله في نفسك. فقال الحسين: "جزاك الله خيرًا يابن عم، فقد أجهدك رأيك، ومهما يقضِ الله يكن" فقال: "وعند الله نحتسب أبا عبد الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 29- خطبة عبيد الله بن زياد : ولما نمى إلى عبيد الله بن زياد خبر الكتاب الذي كتبه الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى أشراف البصرة يستنصرهم صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فوالله لا تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان1، وإني لنكل2 لمن عاداني، وسُمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة3 من راماها. يأهل البصرة: إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة، وأنا غاد إليها الغداة؛ وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإياكم والخلاف والإرجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف، لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق. أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطئ الحصى، ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم".   1 القعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت، والشنان: جمع شن بالفتح، وهو القربة البالية، وإذا قعقع بالشنان للإبل نفرت. وهو مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له. 2 يقال إنه لنكل شره: أي ينكل به أعداؤه. 3 القارة: قبيلة، وهم قوم رماة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 30- خطبة للحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ولما بلغ عبيد الله بن زياد أمير الكوفة إقبال الحسين بعث الحصين بن نمير التميمي، فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح1، وقدَّم الحرَّ بن يزيدٍ التميمي بين يديه، في ألف فارس من القادسية، فيستقبل حسينًا، وكان الحسين قد سبقه إلى ذي حسم ونزل به، فسار إليه الحُرُّ حتى وقف هو وخيله مقابله في حر الظهيرة، وحضرت صلاة الظهر؛ فخرج الحسين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس: إنها معذرة إلى الله عز وجل وإليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رُسُلُكُم: أنِ اقْدَمْ علينا؛ فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك، فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وأنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم" فسكتوا عنه، ثم أقيمت الصلاة. فقال الحسين للحُرِّ: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا بل تصلي أنت، ونصلي بصلاتك، فصلى بهم الحسين.   1 المسالح: جمع مسلحة بالفتح، وهي القوم ذوو السلاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 31- خطبة أخرى له : فلما كان وقت العصر، أمر الحسين أن يتهيئوا للرحيل، ثم إنه خرج، فأمر مناديه، فنادى بالعصر، وصلى ثم سلم، وانصرف إلى القوم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: أيها الناس فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله، يكن أرضى لله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 ونحن أهلَ البيتِ أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعِين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجَوْرِ والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقَّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم". فقال له الحْرُّ: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر؟ فأخرج له الحسين خُرْجَيْنِ مملوءين صحفًا، فنشرها بين أيديهم، ثم سار الحسين في أصحابِهِ والحُرُّ يسايِرُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 خطبة أخرى للحسين ... 32- خطبة أخرى له: وقام الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بذي حُسُم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، واستمرَّت1 جدًّا، فلم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء، وخسيسُ عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًا، فإني لا أرى الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برمًا2".   1 في كتب اللغة: "مر الشيء يمر بضم الميم وفتحها مرارة وأمر" ولم أر فيها بناء "استمر" ولا مانع منه على أن الهمزة والسين والتاء للصيرورة: أي صارت مرة، ونظيره استحجر الطين، واستحصن المهر "صار حصانا" واستعرب القوم. وفي الأمثال: "إن البغاث بأرضنا يستنسر" "كان عنزا فاستتيس"، "قد استنوق الجمل". 2 البرم: السآمة والضجر، برم به كفرح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 33- خطبة زهير بن القين البجلي: فقام زهير بن القين البجلي، فقال لأصحابه: تكلمون أم أتكلم؟ قالوا: لا، بل تكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 "قد سمعنا -هداك الله- بابن رسول الله مقالتك، والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين، إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها" فدعا له الحسين، ثم قال له خيرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 34- خطبة للحسين أيضًا: وخطب الحسين أصحابه وأصحاب الحُرِّ بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إن رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من رأى سلطانًا جائرًا مستحلا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله" ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني1 ولا تخذلوني، فإن تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنتِ رسولِ اللهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بِنُكر2؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرورُ من اغترَّ بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".   1 أسلمه: خذله. 2 النكر بضم وبضمتين: المنكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 35- خطبته ليلة قتله : وسيَّر إليه ابن زياد عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف، فعدل الحسين إلى كربلاء، وكانت بينهما مقابلات غير مجدية1. فنهض عمر إليه عشية الخميس "9 من المحرم سنة 61هـ" فجمع الحسين أصحابه عند قرب المساء فقال: "أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين. أما بعد: فإني لا أعلم أصحابًا أولى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصلَ من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعًا خيرًا ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدًا. ألا وإني قد رأيت لكم، فانطلقوا جميعًا في حلٍّ، ليس عليكم من ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جَمَلا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيدِ رجلٍ من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم، حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو قد أصابوني لَهَوْا عن طلب غيري".   1 التقى عمر بن سعد والحسين مرارًا ثلاثًا أو أربعًا، وكتب عمر بعدها إلى عبيد الله بن زياد: "أما بعد: فإن الله قد أطفأ الثائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر هذه الأمة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نُسَيِّرَهُ إلى أي ثغرٍ من ثغور المسلمين شِئْنَا، فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين، فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضا وللأمة صلاح" فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه نعم قد قبلت، ولكن شمر بن ذي الجوشن ثناه عن القبول، فكتب إلى عمر بن سعد كتابا يقول فيه: "أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا لتُمَنِّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعًا، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا، فابعث بهم إلى سلمًا، وإن أبَوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حسين فأوط الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 36- رد أهل بيته عليه : فقال أهل بيته: "لم نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدًا" فقال الحسين: "يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم" قالوا: "فما يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 37- رد أصحابه : وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: "أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك". وقال سعد بن عبد الله الحنفي: "والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيك، والله لو علمت أني أُقْتَلُ، ثم أَحْيَا، ثم أُحْرَقُ حَيًّا، ثم أُذَرُّ، يُفعَل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك، وإنما هي قَتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدًا". وقال زهير بن القيْن: "والله لوددت أني قُتِلت، ثم نشرت1، ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك".   1 حييت بعد موتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضًا في وجه واحد، فقالوا: "والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا، وقضينا ما علينا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 38- خطبته غداة يوم قتله : وخطب الحسين غداة اليوم الذي استشهد فيه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا عباد الله، اتقوا الله، وكونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت على أحد، أو بقي عليها أحد، لكانت الأنبياء أحق بالبقاء، وأولى بالرضاء، وأرضى بالقضاء، غير أن الله تعالى خلق الدنيا للفناء، فجديدها بالٍ، ونعيمها مضمحلّ، وسرورها مكفهر، والمنزل تَلْعَة1، والدار قُلْعَة2، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلكم تفلحون".   1 التلعة: مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الأرض، والنزول بالتلعة مخوف، لأن من نزلها فهو على خطر إن جاء السيل جرفه. 2 الدنيا دار قُلْعَة: أي انقلاع، وهو على قلعة أي رحلة، ومنزلنا منزل قلعة أي ليس بمستوطن، أو لا نملكه أو لا ندري متى نتحول عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 39- دعاؤه وقد صَبَّحَتُهُ الخيل: ولما صَبَّحَتُهُ الخيل رفع يديه فقال: "اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثِقَةٌ وَعُدَّة، كم من هَمٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتَقِلُّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديقُ، ويشمت فيه العدو، أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إليك؛ رغبةً مني إليك عمن سواك، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ، فأنت وليُّ كلِّ نعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ، ومنتهَى كلِّ رغبة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 40- خطبته وقد دنا منه القوم : ولما دنا منه القوم دعا براحلته فركبها، ثم نادى بأعلى صوته: "أيها الناس: اسمعوا قولي، ولا تُعجلوني حتى أعظكم، بما لِحَقٍّ لكم عليَّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النَّصَفَ، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيلٌ، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم. فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إن وَليِّيَ اللهُ الذي نزَّل الكتاب وهو يتولى الصالحين". فلما سمع أخَواتُهُ كلامَهُ هذا صِحْن وبَكَيْنَ وَبَكَى بناتُهُ، فارتفعَتْ أصواتُهُنَّ، فأرسل إليهن أخاه العباس بن علي وعَلِيًّا ابنه، وقال لهما: أسكتاهن، فلعمري لَيَكْثُرَنَّ بكاؤهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 41- خطبة أخرى : فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلى على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَلائكَتِهِ وَأَنْبِيائِهِ، ثم قال: "أما بعد: فانسبوني فانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحل لكم قتلى، وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن وصيِّهِ، وابن عمه! وأول المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء به من عند الله؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لي ولأخي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 هذان سيدا شبابِ أهلِ الجنةِ؟ فإن صدقتموني بما أقول -وهو الحق- والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابرَ بنَ عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لي ولأخي، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ ". ثم قال: "فإن كنتم في شكٍّ من هذا القول، أفتشكوني أثرا1 ما أنى ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم، ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة، أخبروني أتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته؟ أو بقصاص من جراحة؟ ". فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تَقْدَم على جندٍ لك مجنَّدٍ، فَأَقْبِلْ؟ قالوا: لم نفعل، فقال: سبحان الله بلى، والله لقد فعلتم، ثم قال: "أيها الناس: إذ كرهتموني، فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض". فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يُرُوك إلا ما تحبُّ، ولن يصل إليك منهم مكروه, فقال له الحسين: "أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرُّ إقرارَ العبيد، عبادَ اللهِ، إني عذتُ بربي وربكم أن ترجمونِ، أعوذ بربي وربكم من كل متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب"، فأقبلوا يزحفون نحوه.   1 أثرا منصوب على نزع الخافض، أي أفتشكون في أثر، وما زائدة، وأني ابن بنت نبيكم؟؟؟ من بدل من "أثرا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 42- خطبة زهير بن القين : فلما زحفوا قِبَلَهُ خرج إليهم زهير بن القين على فرس له ذنوب1 شاكٍ2 في السلاح فقال: "يأهل الكوفة، نَذَارِ لكم من عذاب الله نَذَارِ، إن حقًّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة3، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم، وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تُدْرَكُون منهما إلا بسوء، عُمْرَ سلطانهما كلِّه، ليسملان أعينكم4، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقُرَّاءكم؛ أمثال حجر بن عدي5 وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه".   1 الذنوب: الفرس الوافر الذنب. 2 يقال: رجل شاكّ السلاح وشاكّ في السلاح "بتشديد الكاف فيهما" وهو اللابس السلاح التام، من شك في السلاح أي دخل، شك فيه "كرد" شكا أي لبسه تامًّا فلم يدع منه شيئا، ويقال: رجل شائك السلاح، وشاكي السلاح، وشاك في السلاح "كراضٍ" وهو ذو الشوكة والحد في سلاحه، والشائك: من شاك الرجل يشاك شوكا "كنام نومًا" أي ظهرت شوكته وحجته –والشوكة: حدة السلاح- والشاكي مقلوب من شائك، ويقال أيضًا: رجل شاك السلاح "بضم الكاف" فإن أردت معنى فاعِل قلت: شاك "كراضٍ" وإن أردت معنى فَعِل "كفرح" قلت: شاك "بضم الكاف" وهو مثل جرف هار "كراضٍ" وهارُ "كنار" كما يقال: رجل مال ونال "بالضم" من المال والنوال وإنما هو مائل ونائل. 3 العصمة: القلادة، أي تفرقت وحدتنا، وانفرط عقد جماعتنا. 4 سمل عينه: فقأها بحديدة محماة. 5 هو حجر بن عدي بن جبلة الكندي من كبراء الشيعة بالكوفة، وذلك أن زياد بن أبيه لما جمعت له الكوفة والبصرة بلغه أن حجرًا يجتمع إليه الشيعة ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، فكتب إلى معاوية في أمره فكتب إليه معاوية أن شده في الحديد ثم احمله إلي، فشده في الحديد وحمل إلى معاوية، وأشهد عليه شهودا أنه خلع الطاعة، وفارق الجماعة: ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعو إلى نكث البيعة وخلع معاوية، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، وحمل معه كبار أصحابه، فكانوا أربعة عشر رجلا، فلما قدموا على معاوية شفع في بعضهم فخلى سبيلهم، وقال رسول معاوية للباقين: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليٍّ واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، فابرءوا من هذا الرجل نخل سبيلكم، فأبوا، وقالوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن يتبرأ منه، فقتلوا، وقتل حجر وستة معه، وكان ذلك سنة 51هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فسبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلمًا. فقال لهم: "عباد الله، إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم، فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين". فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: "اسكت، أسكت الله نأمتك1، أبرمتنا بكثرة كلامك" فقال له زهير: يا بن البوَّالِ على عَقِبَيْه، ما إياك أخاطب؛ إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم" فقال له شمر: "إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة" قال: "أفبالموت تخوفني؟ فوالله لَلْمَوْتُ معه أحبُّ إليَّ مِنَ الخلد معكم". ثم أقبل على الناس رافعًا صوته فقال: "عبادَ الله، لا يغُرَّنَّكُم من دينكم هذا الجِلْفُ الجافي وأشباهُهُ، فواللهِ لا تَنال شفاعةُ محمدٍ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومًا هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نَصَرَهم، وذبَّ عن حريمهم". فناداه رجل فقال له: "إن أبا عبد الله يقول: "أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه، وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء، وأبلغت لو نفع النصحُ والإبلاغ".   1 النأمة: الصوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 43- خطبة الحر بن يزيد : ولما زحف عمر بن سعد قال له الحرُّ بن يزيد: "أصلحك الله: مقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ قال: "إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرءوس، وتطيح الأيدي" قال: "أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضًا؟ " قال عمر: "أما والله لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك". ثم ضرب الحرُّ فرسه، ولحق بالحسين عليه السلام وانحاز إليه، واستقدم أمام أصحابه ثم قال: "أيها القوم: ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم، فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ قالوا: هذا الأمير عمر بن سعد فَكَلِّمْهُ، فَكَلَّمَهُ بمثل ما كَلَّمَهُ به من قبل، وبمثل ما كلم به أصحابه" فقال عمر: "قد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت". فقال: "يأهل الكوفة: لأُمِّكم الهَبَل والعَبَر1 إذ دعوتموه، حتى إذا أتاكم أسلمتموه2، وزعَمتُم أنكم قاتلُو أنفسِكُم دونه، ثم عدوتم عليه؛ لتقتلوه، أمسكتم بِنَفَسه، وأخذتُم بكظَمه3، وأحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجهَ في بلاد الله العريضة، حتى يأمنَ ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعًا، ولا يدفع ضرًّا، وحَلَّأْتُموه4 ونساءهُ وَأُصَيْبِيتَه5 وأصحابه عن ماء الفرات الجاري،   1 الهبل: الشكل، هبلته أمه: كفرح ثكلته وفقدته، والعبر والعبر "كسبب وقفل" سخنة في العين تبكيها، عبرت العين كفرح جرى دموعها، يقال لأمه الهبل، ولأمه العبر، والعبر: دعاء عليه. 2 خذلتموه. 3 الكظم: مخرج النفس. 4 حلأه عن الماء تحليئا وتحلئة: طرده ومنعه. 5 مصغر صبية على غير قياس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرَّغُ فيه خنازير السواد وكلابه، وهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدًا في ذريته، لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا، وتنزعوا عما أنتم عليه، من يومكم هذا، في ساعتكم هذه". ثم نشب القتال بين الفريقين، واستمات أصحاب الحسين في القتال حتى فنُوا، وقتل الحسين رضوان الله عليه، قتله سِنان بن أنس "وكان قتله بالطَّفِّ1 يوم عاشوراء سنة 61هـ" وأمر ابن سعد أصحابَه أن يوطئوا خيلهم الحسين، فوطئوه بخيلهم، ثم حمل النساء ورأسه إلى يزيد بن معاوية بدمشق. "تاريخ الطبري 6: 188 إلى 270، ومروج الذهب 2: 86، وزهر الآداب 1: 71"   1الطف: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية، وقال عبد الله بن الأحمر من قصيدة: فأضحى "حسين" للرماح دريئة ... وغودر مسلوبًا لدى الطف ثاويا فيا ليتني إذ ذاك كنت شهدته ... فضاربت عنه الشانئين الأعاديا سقى الله قبرًا ضمن المجد والتقى ... بغربية الطف الغمام الغواديا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 طلب التوابين بدم الحسين مدخل ... طلب التوابين بدم الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وفي سنة خمس وستين تحركت الشيعة بالكوفة، واتَّعدوا الاجتماع بالنخيلة للمسير إلى أهل الشام للطلب بدم الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما؛ وذلك أنهم بعد مقتله تلاقوا بالتلاوم والتندم، ورأوا أنهم قد أخطئوا خطأ كبيرًا بدعائهم إياه إلى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إلى جانبهم لم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارَهُم والإثم عنهم في مقتله إلا بقتل من قتله أو القتل فيه، وتابوا مما فرط منهم في ذلك "فَسُمُّوا التوابين" وفزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رءوس الشيعة: إلى سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبة مع النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وإلى عبد الله بن والٍ التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي، ثم إن هؤلاء النفر اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوهم، فبدأ المسيب بن نجبة بالكلام فتكلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 44- خطبة المسيب بن نجبة الفزاري: فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "أما بعد، فإنا قد ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غدا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فإن أمير المؤمنين قال: "العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة" وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا، حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 بلا الله أخيارنا، فَوجَدَنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد بلغَتْنا قبل ذلك كتبه، وقدمت علينا رسُلُه، وأعذر إلينا يسألنا نَصْرَهُ عَوْدًا وبَدْءًا، وعلانية وسرًّا، فبخلنا عنه بأنفسنا، حتى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا؛ فما عُذْرُنا إلى ربنا، وعند لقاءِ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله، لا والله لا عذرَ دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تُقْتَلُوا في طلب ذلك؛ فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك؛ وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمنٍ، أيها القوم وَلُّوا عليكم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من أميرٍ تَفْزَعُون إليه، ورايةٍ تَحُفُّون بها، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم". فَبَدَرَ1 القومَ رفاعةُ بنُ شداد بعد المسيب الكلامَ.   1 عجل واستبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 45- خطبة رفاعة بن شداد : فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "أما بعد: فإن الله قد هداك لأصوب القول، ودعوتَ إلى أرشدِ الأمور، بدأتَ بحمدِ الله والثناء عليه، والصلاةِ على نبيه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعوتَ إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموعٌ منك، مستجابٌ لك، مقبولٌ قولُك: قلتَ: وَلُّوا أمركم رجلا منكم تَفزعون إليه، وَتَحُفُّون برايته، وذلك رأيٌ، قد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيًا، وفينا مُنْتَصَحًا، وفي جماعتنا مُحَبًّا، وإن رأيت "ورأى أصحابُنا ذلك" ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد، المحمودَ في بأسه ودينه، والموثوقَ بحزمه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ثم تكلم عبد الله بن والٍ، وعبد الله بن سعد، فحمدا ربهما وأثنيا عليه، وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا المسيب بن نجية بفضله، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته، فقال المسيب بن نجبة: "أصبتم ووفقتم، وأنا أرى مثل الذي رأيتم، فولوا أمركم سليمان بن صرد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 46- خطبة سليمان بن صرد: قال حميد بن مسلم: والله إني لشاهد بهذا اليوم يوم ولوا سليمان بن صرد1 وإنا يومئذ لأكثر من مائة رجل من فرسان الشيعة ووجوههم في داره، قال: فتكلم سليمان، فشدد، وما زال يردد ذلك القول في كل جمعة حتى حفظته، بدأ فقال: "أثنى على الله خيرًا، وأحمد آلاءه وبلاءه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، أما بعد: فإني والله لخائف ألا يكون أخَّرَنا إلى هذا الدهر، الذي نكدت فيه المعيشة، وعظُمت فيه الرزية، وشمل فيه الجور أولي الفضل من هذه الشيعة" لما هو خير، إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا، ونمنيهم النصر، ونحثهم على القدوم؛ فلما قدموا وَنَيْنَا وعجزنا وأَدْهَنَّا وتربصنا وانتظرنا ما يكون حتى قُتِلَ فينا ولدينا وَلَدُ نَبِيِّنا وسُلَالَته وَعُصَارته وَبَضْعَة2 من لحمِهِ ودمِهِ، إذ جعل يستصرخ ويسأل النَّصَفَ3 فلا يُعْطَاه، اتخذه الفاسقون غَرَضًا للنبل، ودربةً4 للرماح، حتى أقصدوه5 وعدوا عليه فسلبوه، ألا انهضوا فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل6 والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنه راضيًا دون أن تناجزوا من قتله أو تُبِيرُوا7، ألا لا تهابوا   1 وقد سمي أمير التوابين. 2 البضعة بالفتح وقد تكسر: القطعة من اللحم. 3 الإنصاف. 4 مسهل عن دريئة، والدريئة: الحلقة يعلم الطعن والرمي عليها. 5 أقصد السهم: أصاب فقتل مكانه، وأقصد فلانًا: طعنه فلم يخطئه. 6 جمع حليلة: وهي الزوجة. 7 بار يبور بوارًا: هلك. وأباره أهلكه، أي تهلكوا أنفسكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الموتَ، فوالله ما هابه امرؤ إلا ذَلَّ، كونوا كالأولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} فما فعل القوم؟ جثوا على الركب والله، ومدوا الأعناق، ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبرُ على القتل، فكيف بكم لو قد دُعِيتُم إلى مثل ما دُعِيَ القوم إليه؟ اشحذوا السيوف، وركِّبُوا الأسنة {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ 1} حتى تُدْعَوا وتستنفروا".   1 اسم للخيل التي تربط في سبيل الله "فِعال" بمعنى مفعول، أو مصدر سمي به كالمرابطة، أو جمع ربيط فعيل بمعنى مفعول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 47- خطبة خالد بن سعد بن نفيل : فقام خالد بن سعد بن نفيل فقال: "أما أنا فوالله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي، ويرضي عني ربي لقتلتها، ولكن هذا أُمِرَ به قومٌ كانوا قبلنا ونُهِينا عنه، فأشهد الله ومن حضر من المسلمين أن كل ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقة على المسلمين أقويهم به على قتال القاسطين1". وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني، فقال: "وأنا أشهدكم على مثل ذلك" فقال سلمان بن صرد: "حسبكم، من أراد من هذا شيئًا فليأت بماله عبد الله بن والٍ التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كل ما تريدون إخراجه من أموالكم، جهزنا به ذوي الخَلَّة2 والمسكنة من أشياعكم".   1 الجائرين، قسط كجلس قسوطا: جار وعدل عن الحق. 2 الخلة: الحاجة والفقر، وفي المثل: "الخلة تدعو إلى السَّلة" بفتح السين أي إلى الاستلال والسرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 48- خطبة سعد بن حذيفة بن اليمان : وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بالمدائن كتابًا يستنهض فيه همم إخوانه هنالك، ويدعوهم أن يجدوا ويستعدوا، وضرب لهم غرة ربيع الآخر سنة 65 أجلا يلقونه فيه، والنُّخَيلة موطنًا يوافونه إليه، فبعث سعد إلى من كان بالمدائن من الشيعة، فقرأ عليهم كتاب سليمان بن صرد، ثم إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإنكم قد كنتم مجمعين مزمعين على نصر الحسين، وقتال عدوه، فلم يفجأكم أول من قتله، والله مثيبكم على حسن النية، وما أجمعتم عليه من النصر أحسن المثوبة، وقد بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم، ويدعونكم إلى الحق وإلى ما ترجون لكم به عند الله أفضلَ الأجر والحظ، فماذا ترون؟ وماذا تقولون؟ ". فقال القوم بأجمعهم: "نجيبهم ونقاتل معهم، ورأينا في ذلك مثل رأيهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 خطبة عبد الله بن بن الحنظل الطائى ... 49- خطبة عبد الله بن الحنظل الطائي: فقام عبد الله بن الحنظل الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإنا قد أجبنا إخواننا إلى ما دعونا إليه، وقد رأينا مثل الذي قد رَأَوْا، فَسَرِّحْنِي إليهم في الخيل". فقال له: "رويدًا لا تَعْجَل، استعدوا للعدو، وأعدوا له الحرب، ثم نسير وتسيرون" وكتب سعد إلى ابن صرد بإجابة دعوته، وأنهم في انتظار أمره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 50- خطبة عبيد الله بن عبد الله المري: وحدَّثَ رجلٌ من مُزَينة قال: "ما رأيت من هذه الأمة أحدًا كان أبلغ من عبيد الله بن عبد الله المري في منطقٍ ولا عظةٍ، وكان من دعاة أهل المصر زمان سليمان بن صرد، وكان إذا اجتمعت إليه جماعة من الناس فوعظهم، بدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يقول: أما بعد: فإن الله اصطفى محمدًا صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خلقه بنبوته، وخصَّه بالفضل كله، وأعزكم باتباعه، وأكرمكم بالإيمان به، فحقن به دماءكم المسفوكة، وآمن به سبلكم المخوفة {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا 1 حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فهل خلق ربكم في الأولين والآخرين أعظم حقًّا على هذه الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقًّا على هذه الأمة من ذرية رسولها؟ لا والله ما كان ولا يكون، لله أنتم! ألم تروا ويبلغكم ما اجترم2 إلى ابن بنت نبيكم؟ أما رأيتم إلى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم3 إياه بالدم، وَتَجْرَارِهُمُوهُ على الأرض؟ لم يراقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! اتخذوه للنبل غرضًا، وغادروه للضِّباع جَزَرا4، فلله عيناَ مَنْ رأى مثله! ولله حسين بن عليّ! ماذا غادروا به؟ ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم، ابن أول المسلمين إسلامًا، وابن بنت رسول رب العالمين، قلَّتْ حُماتُهُ، وكثُرتْ عُداته5 حوله، فقتله عدُوه وخَذَلَهُ وَلِيُّهُ، فويل للقاتل، وملامة للخاذل، إن الله لم يجعل لقاتله حجة، ولا لخاذله معذرة، إلا أن يناصح لله في التوبة، فيجاهد القاتلين، وينابذ القاسطين، فعسى الله عند ذلك أن يقيل العثرة   1 الشفا: حرف كل شيء. 2 ارتكب واقترف. 3 رمله: لطخه بالدم. 4 قطعا. 5 العداة: جمع عاد، وهو العدو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل بيته، وإلى جهاد المُحِلين والمارقين، فإن قتلنا فما عند الله خيرٌ للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهل بيتِ نبينا". قال: "وكان يعيد هذا الكلام علينا في كل يوم حتى حفظه عامتنا". وكان الشيعة بالكوفة منذ قتل الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "سنة 61هـ" يجدُّون في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس في السرِّ من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدمه حتى كثر تبعهم، وكان الناس إلى اتباعهم بعد هلاك يزيد بن معاوية "في 14 ربيع الأول سنة 64هـ" أسرعَ منهم قبل ذلك. وقدم المختار بن أبي عبيد الثقفي الكوفة في النصف من رمضان سنة 64، وقد اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سليمان بن صرد، فليس يعدلونه به، فكان المختار إذا دعاهم إلى نفسه وإلى الطلب بدم الحسين، قالت له الشيعة: "هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة قد انقادوا له واجتمعوا عليه" فأخذ يقول للشيعة: "إني قد جئتكم من قبل المهدي محمد بن علي "ابن الحنفية" مؤتمنًا مأمونًا، مُنْتَجَبًا1 ووزيرًا" فما زال بهم حتى انشعبت إليه طائفة تعظمه وتجيبه وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان بن صرد. وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري من قبل عبد الله بن الزبير أميرًا على الكوفة على حربها وثغرها، وقدم معه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي أميرًا على خراجها "وذلك بعد مقدم المختار بثمانية أيام" وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، ونمى إلى عبد الله بن يزيد اعتزام الشيعة الخروج، فخرج حتى صعد المنبر ثم قام في الناس.   1 المنتجب: المختار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 51- خطبة عبد الله بن يزيد الأنصاري: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، قد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل لي: زعموا أنهم يطلبون بدم الحسين بن عليٍّ، فرحم الله هؤلاء القوم، قد والله دُلِلْتُ على أماكنهم، وَأُمِرْتُ بأخذهم، وقيل: ابدأهم قبل أن يبدءوك، فأبيتُ ذلك، فقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم، وعلام يقاتلونني؟ فوالله ما أنا قتلتُ حسينًا ولا أنا ممن قاتَلَهُ، ولقد أُصِبْتُ بِمَقْتَلِهِ رحمةُ اللهِ عليه، فإنَّ هؤلاءِ القومَ آمنونَ، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين، ليسيروا إلى من قَاتَلَ الحسين فقد أقبل إليهم، وأنا لهم على قاتله ظهيرٌ1، هذا ابنُ زيادٍ قاتلُ الحسينِ وقاتلُ خيارِكُم وأماثِلِكُم، قد توجه إليكم عَهْدُ العاهدِ بِهِ2 على مسيرة ليلةٍ من جسر مَنْبِج3، فَقِتالُهُ والاستعدادُ له أولى وأرشدُ من أن تجعلوا بأسَكُم بينكم، فيقتلَ بعضُكُم بعضًا، ويسفكَ بعضُكُم دماءَ بعضٍ، فيلقاكم ذلك العدو غدًا وقد رَقَقْتُم4، وتلك واللهِ أمنيةُ عدوِّكُم، وإنه قد أقبلَ إليكُم أعدَى خلقِ اللهِ لَكُم، مَنْ وَلِيَ عليكم هو وأبوه سَبْعَ سِنِينَ، لا يُقْلِعَانِ عن قَتْلِ أهلِ العفافِ والدِّينِ، هو الذي قَتَلَكُم، ومِنْ قِبَلِهِ أُتِيتُم، والذي   1 معين. 2 وذلك أن عبيد الله بن زياد لما هاجت الفتنة بالبصرة بعد وفاة معاوية الثاني "سنة 64هـ" لحق بالشام، وكان مروان بن الحكم قد أراد أن يبايع بن الزبير لما رأى من إطباق الناس على مبايعته وإجابتهم له، وبلغ ابن زياد ذلك، فقال له: استَحْيَيْتُ لَكَ مما تريدُ، أنتَ كبيرُ قريشٍ وسيدُها تصنعُ ما تصنعُهُ! وشدَّ من عزيمتِهِ حتى نَهَضَ في طَلَبِ الخلافةِ وَتَمَّتْ له، فبويع بها، فلما استوثقتْ له الشامُ بالطاعةِ بَعَثَ جيشًا إلى العراق عليه ابن زيادٍ، وجعل له حين وجهه إلى العراق ما غلب عليه، وأَمَرَهُ أن ينهبَ الكوفةَ إذا هو ظفر بأهلها ثلاثًا. 3 بين حلب والفرات. 4 ضعفتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 قتل من تَثْأرُون بدمه قد جاءكم، فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسكم، إني لم آلُكم نصحًا1، جَمَعَ اللهُ لنا كلمتَنا، وأصلحَ لنا أَئِمَّتَنا.   1 أي لم أُقَصِّرْ في نصحكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 52- خطبة إبراهيم بن محمد بن طلح ة: 1 فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: "أيها الناس: لايغرنكم من السيف والغشم2 مقالة هذا المداهن الموادع؛ والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استيقنا أن قومًا يريدون الخروج علينا، لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده، ولنأخذنَّ الحميمَ3 بالحميمِ، والعريف4 بما في عرافته، حتى يَدِينوا للحق، ويذِلُّوا للطاعة".   1 مات سنة عشر ومائة عن أربع وسبعين سنة، كان يُسَمَّى أسد قريش. 2 الظلم، والمراد هنا القوة والأخذ بالشدة. 3 حميمك: قريبك الذي تهتم لأمره. 4 العريف: رئيس القوم، سمي لأنه عرف بذلك، أو النقيب، وهو دون الرئيس، عرف ككرم وضرب عرافة صار عريفًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 53- رد المسيب بن نجبة : فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه، ثم قال: "يابن الناكثين1: أنت تهددُنا بسيفِكَ وغشمِكَ؟ أنت والله أذلُّ من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك2 وجَدَّكَ، والله إني لأرجو أن لا يخرجك الله من بين ظهراني أهل المصر حتى يُثَلِّثُوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير، فقد   1 يشير إلى ما كان من جده طلحة بن عبيد الله إذ بايع الإمام عَلِيًّا ثم نكث بيعته، وقد اعتذر عن ذلك بأنه بايع والسيفُ على عنقه. 2 قتل محمد بن طلحة يوم الجمل مع أبيه ومر به علي، فقال: هذا رجل قتله بره بأبيه وطاعته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قلت قولا سديدًا، إني والله لأظن من يريد هذا الأمر1، مستنصحا لك، وقابلا قولك. فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: "إي واللهِ لَيُقْتَلَنَّ وقد أَدْهَنَ ثم أَعْلَنَ".   1 أي الطلب بدم الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 54- رد عبد الله بن وال التيمي: فقام إليه عبد الله بن وال التيمي، فقال: "ما اعتراضك يا أخا بني تيم بن مرة فيما بيننا وبين أميرنا؟ فوالله ما أنت علينا بأمير، ولا لك علينا سلطان! إنما أنت أمير الجزية، فأقبل على خراجك، فلعمر الله لئن كنت مفسدًا، ما أفسد أمر هذه الأمة إلا والدك وجدك الناكثانِ، فكانت بهما اليدان1 وكانت عليهما دائرةُ السَّوءِ". ثم أقبل المسيب بن نجبة، وعبد الله بن وال على عبد الله بن يزيد فقالا: "أما رأيك أيها الأمير فوالله إنا لنرجو أن تكون به عند العامة محمودًا، وأن تكون عند الذي عَنَيْتَ واعتريت مقبولا". ثم نزل عبد الله بن يزيد ودخل. فلما استهلَّ هلال ربيع الآخر سنة 65 شخص سليمان بن صرد في وجوه أصحابه، وقد كان واعد أصحابه عامةً للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة، وأقام بها ثلاثًا يبعث ثقته من أصحابه إلى من تخلف عنه يذكرهم اللهَ وما أعطَوه من أنفسهم، فقام إليه المسيب بن نجبة، فقال: "رحمك الله إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجَتْهُ   1 تقول العرب: كانت به اليدان، أي فعل الله به ما يقوله لي، ومرَّ قومٌ من الخوارج بقوم من أصحاب عليٍّ وهم يدعون عليهم، فقالوا: بكم اليدان أي حاق بكم ما تدعون به وتبسطون أيديكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 النية، فلا تنتظرن أحدًا، واكمش1 في أمرك" قال: "فإنك واللهِ لَنِعِمَّا رأيت" فقام سليمان بن صرد في الناس متوكئًا على قوس له عربية، فقال:   1 أسرع، كمش ككرم كماشة فهو كمش "كشهم" وكميش، أي سريع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 خطبة أخرى لسليمان بن صرد ... 55- خطبة سليمان بن صرد: "أيها الناس: من كان إنما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة، فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيًّا وميتًا. ومن كان إنما يريد الدنيا وحرثها1، فواللهِ ما نأتي فيئًا نستفِيئُه، ولا غنيمةً نغنَمُها، ما خلا رضوانَ اللهِ ربِّ العالمين، وما معنا من ذهبٍ ولا فضةٍ، ولا خزٍّ ولا حريرٍ، وما هو إلا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا، وزادٌ قدر البُلغَة2 إلى لقاء عَدُوِّنا، فمن كان غيرَ هذا ينوي فلا يصحَبْنا".   1 أي كسبها ومتاعها. 2 ما يتبلغ به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 56- خطبة صخير بن حذيفة بن هلال : فقام صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني فقال: "آتاك الله رشدَك، ولقَّاكَ حجتَكَ، واللهِ الذي لا إله غيرُهُ ما لنا خيرٌ في صحبةِ مَنِ الدُّنيا هِمَّتُهُ وَنِيَّتُهُ. أيها الناس: إنما أخرجتنا التوبةُ من ذنبِنا والطلبُ بدمِ ابنِ ابنةِ نبيِّنا صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس معنا دينارٌ ولا درهمٌ، إنما نَقْدَمُ على حدِّ السيوفِ وأطرافِ الرماحِ". فتنادى الناس من كل جانب: "إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 57- ما أشار به عبد الله بن سعد : وكان الرأي بادئ الأمر أن يسيروا إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبد الله بن سعد، وعنده رءوس أصحابه جلوسٌ حوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 "إني قد رأيت رأيًا، إن يكن صوابًا فالله وَفَّقَ، وإن يكن ليس بصواب فمن قِبَلِي، فإني ما آلُوكم ونفسي نُصْحًا، خطأ كان أم صوابًا، إنما خرجنا نطلب بدم الحسين وقتلة الحسين كلهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، ورءوس الأرباع1 وأشراف القبائل، فأنى نذهب ههنا وندع الأقتال والأوتار2؟ ". فقال سليمان بن صرد: فماذا ترون؟ فقالوا: "والله لقد جاء برأي، وإن ما ذَكَرَ لَكَمَا ذَكَرَ، والله ما نلقَى من قتلة الحسين –إن نحن مضينا نحو الشام- غيرَ ابنِ زيادٍ، وما طلبتنا إلا ههنا بالمصر".   1 كانت الكوفة مقسمة أربعة أقسام لكل ربع رئيس: ربع تميم وهمدان، وربع ربيعة وكندة، وربع مذحج وأسد، وربع أهل المدينة، "وتقسيم المدينة أرباعا لا يزال إلى اليوم في بعض بلاد القطر المصري، وقد كانت مدينة القاهرة قبل اليوم مقسمة ثمانية أقسام كل قسم ثمن، وصحفته العامة فقالوا "تمن"، وأطلق عليه بالتركية قره قول "كراكون" ويحسن أن يستعمل له كلمة مخفر "كمكتب". 2 الأقتال: جمع قتل بالكسر، وهو العدو والمقاتل، والأوتار: جمع وتر، الجناية والثأر، أي وندع أعداءنا وذوي ثاراتنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 58- رأي ابن صرد: فقال سليمان بن صرد: "لكن أنا ما أرى ذلك لكم، إن الذي قتل صاحبكم، وعبَّى الجنودَ إليه، وقال لا أمانَ له عندي دون أن يستسلم فَأُمْضِي فيه حُكْمِي، هذا الفاسق ابن الفاسق، ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد، فسيروا إلى عدوكم على اسم الله، فإن يُظْهِرْكُم اللهُ عليه، رَجَوْنا أن يكونَ مَنْ بَعْدَهُ أهونَ شوكة منه، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية، فتنظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فتقاتلونه ولا تغشموا1، وإن تُسْتَشْهَدُوا فإنما قاتَلْتُم المُحِلين، وما عند الله خيرٌ للأبرار والصديقين، إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين، والله   1 غشمه: كضرب ظلمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 لو قاتلتم غدًا أهل مصركم، ما عدم رجل أن يرى رجلا قد قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلا لم يكن يريد قتله، فاستخيروا الله وسيروا" فتهيأ الناس للشخوص. وبلغ عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد وأصحابه فرأيا أن يأتياهم، فخرجا إليهم في جماعة من أصحابهما، فلما انتهيا إلى ابن صرد دخلا عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 59- خطبة عبد الله بن يزيد : فحمد اللهَ عبدُ الله بن يزيد، وأثنى عليه، ثم قال: "إن المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يغشه، وأنتم إخواننا وأهل بلدنا، وأحب أهلِ مصرٍ خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حتى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا، خرجنا إليهم بجماعتنا فقاتلناهم". وتكلم إبراهيم بن محمد بنحو من هذا الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 60- خطبة سليمان بن صرد: فحمد اللهَ سليمانُ بنُ صرد وأثنى عليه، ثم قال لهما: "إني قد علمت أنكما قد محضتما1 في النصيحة، واجتهدتما في المشورة، فنحن بالله وله، وقد خرجنا لأمر، ونحن نسألُ اللهَ العزيمة على الرشد، والتسديد لأصوبه، ولا ترانا إلا شاخصين، إن شاء الله ذلك". فقال عبدُ اللهِ بنُ يزيد: "فأقيموا حتى نُعَبِّي معكم جيشًا كثيفًا فتلقَوا عدوكم   1 محضه الود وأمحضه: أخلصه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 بكثف1، وجمع وحدٍّ" فقال له سليمان: "تنصرفون ونرى فيما بيننا، وسيأتِيكُم إن شاء الله رأي". وانصرف عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد إلى الكوفة، وأجمع القوم على الشخوص، واستقبال ابن زياد.   1 الكشف: الجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 61- خطبة أخرى له: ثم إن سليمان بن صرد قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد أيها الناس، فإن الله قد علم ما تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإن للدنيا تجارًا، وللآخرة تجارًا؛ فأما تاجر الآخرة فساع إليها متنصب1 بِتَطْلَابها، لا يشتري بها ثمنًا، لا يُرى إلا قائمًا وقاعدَا، وراكعًا وساجدًا، لا يطلب ذهبا ولا فضة، ولا دينًا ولا لذة؛ وأما تاجر الدنيا فمكب عليها، راتع فيها، لا يبتغي بها بدلا، فعليكم "يرحمكم الله" في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل، وبذكر الله كثيرًا على كل حال، وتقربوا إلى الله جلَّ ذِكْرُهُ بكل خيرٍ قدرتم عليه، حتى تلقوا هذا العدو، والمحِلِّ القاسط فتجاهدوه، فإنكم لن تتوسلوا إلى ربكم بشيء هو أعظم عنده ثوابًا من الجهاد والصلاة، فإن الجهاد سنام العمل، جعلنا الله وإياكم من العباد الصالحين المجاهدين الصابرين على اللأواء2 وإنا مدلجون3 الليلة من منزلنا هذا إن شاء الله فأدلجوا". فأدلج عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة 65 للهجرة، وما زال يسير حتى انتهى إلى عين الوردة4 فنزل في غربيها.   1 أي قد نصب نفسه طالبا لها، نصب الشيء: رفعه فانتصب وتنصب. 2 الشدة. 3 أدلج: سار من أول الليل، فإن سار من آخره فادَّلج بالتشديد. 4 هي رأس العين: بلد في وسط الجزيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 62- خطبة أخرى وأقبل أهل الشام في عساكرهم، حتى كانوا منها على مسيرة يوم وليلة. قال عبد الله ابن غَزِيَّة، فقام فينا سليمانُ فحمدَ الله فأطالَ، وأثنى عليه فأطنبَ، ثم ذكر السماء والأرض، والجبال والبحار وما فيهن من الآيات، وذكر آلاء الله ونعمَهُ، وذكر الدنيا فزَهَدَ فيها، وذكر الآخرة فَرَغَّبَ فيها، فذكر من هذا ما لم أحصه، ولم أقدر على حفظه، ثم قال: "أما بعد فقد أتاكم الله بعدوكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء1 الليل والنهار، تريدون فيما تظهرونَ التوبةَ النصوحَ، ولقاء الله مُعْذِرِين، فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم في دارهم وحيزهم، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم، واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا يُوَلِّهِمْ امرؤٌ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً2 لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً3 إِلَى فِئَةٍ، إلى فئة، لا تقتلوا مدبرًا، ولا تُجْهِزُوا على جريحٍ، ولا تقتلوا أسيرًا من أهل دعوتكم4 إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه، أو يكون من قتلة إخواننا بالطَّفِّ رحمة الله عليهم، فإن هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة". ودارت رحى الحرب بينهم وبين جيوش عبيد الله بن زياد واستشْهِدَ في المعركة سليمان بن صرد، بعد أن قتل من القوم مقتلة عظيمة، وقُتِلَ أيضًا من رءوس أصحابه: المسيب بن نجبة، وعبد الله بن سعد بن نفيل، وعبد الله بن والٍ، فلما رأى من بقي   1 آناء الليل: ساعاته واحدها إِنَى "كإلى" أو إني "كحِمْل" أو إنو كذلك. 2 أي منعطفًا يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو، فإنه من مكايِدِ الحرب. 3 أي منحازًا إلى جماعة على القرب ليستنجد بهم. 4 ملتكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 من التوابين أن لا طاقة لهم بمن بإزائهم من أهل الشأم انحازوا عنهم وارتحلوا، وعليهم رفاعة بن شداد البَجَلِيّ. "وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 65هـ"1   1 وقال المسعودي في مروج الذهب: "وقيل إن وقعة الوردة كانت في سنة 66". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 63- خطبة عبد الملك بن مروان : وأُتِيَ عبدُ الملك بن مروان ببشارة الفتح، فصعد المنبر، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن الله قد أهلك من رءوسِ أهلِ العراقِ ملقحَ1 فتنةٍ، ورأسَ ضلالةٍ، سليمانَ بنَ صرد، ألا وإن السيوف تركتَ رأسَ المسيب بن نجبة خَذَارِيفَ2، ألا وقد قُتِلَ من رُءوسِهِم رأسَين عظيمَين ضالَّين مُضِلَّين: عبد الله بن سعد أخا الأزد، وعبد الله بن والٍ أخا بكرِ بن وائل، فلم يبق بعد هؤلاء أحد عنده دفاعٌ ولا امتناعٌ". "تاريخ الطبري 7: 47-83، ومروج الذهب 2: 110"   1 أصله: من ألقحَ النخلةَ، وألقحَ الفحلُ الناقةَ، والريحُ الشجرَ. 2 تركت السيوفُ رأسَه خذاريفَ: أي قطعًا كل قطعة كالخذروف، والخذروف: كعصفور شيء يدوره الصبي بخيط في يديه فيسمع له دوي "النحلة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 طلب المختار بن أبي عبيد الثقفي بدم الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: 64- خطبته حين قدم الكوفة : وقدم المختار بن أبي عبيد الثقفي1 الكوفة في النصف من رمضان سنة 64هـ، فأتاه بعض الشيعة ليلا، فساءلهم عن أمر الناس، وعن حال الشيعة، فقالوا له: إن الشيعة قد اجتمعت لسليمان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرا حتى يخرج. فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:   1 هو المختار بن أبي مسعود الثقفي، وقد قدمنا في الجزء الأول أن أول ما عمل به عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين وَلِيَ الخلافة أن نَدَبَ الناس مع المثنَّى بن حارثة الشيباني لقتال أهل فارس، وجعل يندبهم ثلاثة أيام، فلا ينتدب أحد إلى فارس، فلما كان اليوم الرابع عاد فندب الناس، فكان أولَ منتدبٍ أبو عبيد بن مسعود والد المختار، ولم يكن المختار في تشيعه لآل علي بالمخلص، وكانت الشيعة تنقم عليه ما كان منه في أمر الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوم طعن في مظلم ساباط وحمل إلى المدائن –وكان عم المختار، وهو سعد بن مسعود عاملا على المدائن- فقال له المختار: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية، فقال له سعد: عليك لعنةُ اللهِ، أثب على ابن بنت رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأوثقه! بئس الرجل أنت، ولما قدم مسلمُ بنُ عقيل الكوفة من قبل الحسين رضي الله تعالى عنه نزل دار المختار فبايعه المختار فيمن بايعه من أهل الكوفة، وناصحه ودعا إليه، ثم ظفر ابن زياد بمسلم وقتله، وأمر بالمختار فسجن، وبعث المختار إلى عبد الله بن عمر بالمدينة، يسأله أن يشفع له عند يزيد بن معاوية -وكانت صفية أخت المختار تحت عبد الله بن عمر- فكتب ابن عمر إلى يزيد يسأله أن يخلي سبيله، فشفعه فيه، وخلى ابن زياد سبيله وأخرجه من الكوفة، فقدم الحجاز وبايع ابن الزبير، وقاتل معه حين حاصر مكة جيش يزيد -وكان تحت إمرة الحصين بن نمير السكوني- وأقام مع ابن الزبير بعد مهلك يزيد حتى قدم الكوفة في منتصف رمضان سنة 64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 "أما بعد: فإن المهدي بن الوصي، محمد بن علي، بعثني إليكم أمينًا ووزيرًا، ومنتجبًا وأميرًا، وأمرني بقتال الملحدين والطلب بدماء أهل بيته، والدفع عن الضعفاء". وأقبل يبعث إلى الشيعة، فيقول لهم: "إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصيّ الوصيّ، والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء إن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه، إنما هو عَشَمة1 من العَشَم وحِفْشٌ2 بالٍ، ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتلَ نفسَهُ ويقتُلَكُم، إني إنما أعمل على مِثَالٍ قد مُثِّلَ لي، وأمر قد بُيِّنَ لي، فيه عِزُّ وَلِيُّكم، وَقَتْلُ عَدُوِّكُم، وشفاءُ صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل ما تأملون خيرُ زعيمٍ". فما زال بهذا القول ونحوه، حتى استمال طائفة من الشيعة، وَعُظْمُهُم يومئذ مع سليمان بن صرد، فلما خرج ابن صرد نحو الجزيرة، خاف عبد الله بن يزيد الأنصاري -أمير الكوفة من قبل ابن الزبير- أن يثب المختارُ عليه، فزجه في السجن. "تاريخ الطبري 7: 64".   1 العشمة: الشيخ الفاني للذكر والأنثى أو المتقارب الخطو المنحني الظهر، وكان عمر بن صرد حين قتل 93 سنة. 2 الحفش: الشيء البالي، والجوالق العظيم البالي، وما كان من أسقاط الآنية كالقوارير وغيرها، وأحفاش البيت: رذال متاعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 65- ما كان يردده على زائريه في سجنه : وكان يردد على زائريه في سجنه هذا القول: "أما وَرَبِّ البحار، والنخيل والأشجار، والمَهَامَهِ1 والقِفار، والملائكةِ الأبرار،   1 المهامه: جمع مهمه كجعفر، وهو البلد المقفر، والمفازة البعيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لَدِنٍ خَطّارٍ1، ومهند بتار2، في جموع من الأنصار، ليسوا بمِيلٍ أُغْمارٍ3، ولا بِعَزْلٍ4 أَشْرارٍ، حتى إذا أقمتُ عمودَ الدِّينِ، ورأيت شَعْبَ5 صَدْعِ المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، لم يكبُرْ عليَّ زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى". ثم خلى عبد الله بن يزيد سبيله، بشفاعة عبد الله بن عمر فيه، واختلفت إليه الشيعة بعد خروجه من السجن، واجتمعت عليه، واتفق رأيها على الرضا به، ولم يزل أصحابه يكثرون، وأمره يقوى ويشتد، حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد عن الكوفة وولى عليها عبدَ اللهِ بن مطيع العدوي. "تاريخ الطبري 7: 65".   1 الرمح اللدن: اللين؛ وذلك صفة جودة فيه لأن اللدن لا يقصف، وقد لدُن ككرم لدانة ولدونة، والرمح الخطار: أي المهتز، خطر كضرب خطرانا. 2 المهند: السيف المطبوع من حديد الهند، والبتار: القطاع. 3 ميل: جمع أميل، وهو الجبان، ومن يميل على السرج في جانب، ومن لا ترس معه أولا سيف أو لا رمح، والأغمار: جمع غمر "مثلث ويحرك" من لم يجرب الأمور. 4 العُزْل: جمع أعزل، وهو من لا سلاح معه. 5 الشعب: الصدع أي الشق، ومن معانيه الإفساد، وهو المراد هنا، ورأب الصدع: أصلحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 66- خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة: وقدم عبد الله بن مطيع العدوي الكوفة "لخمس بقين من رمضان سنة 65" فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أما بعد: فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثني على مصركم وثغوركم، وأمرني بجباية فيئكم، وأن لا أحمل فضل1 فيئكم عنكم إلا برضًا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته2، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين، فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا على أيدي سفهائكم، وإلا تفعلوا   1 الفضل: الزيادة. 2 انظر وصيته للخليفة من بعده. ج1: ص263. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 فلوموا أنفسكم ولا تلوموني، فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن درأ1 الأصعر2 المرتاب.   1 الدرأ: الميل والعوج في القناة ونحو. 2 الصعر محركة: ميل في العنق وانقلاب في الوجه إلى أحد الشقين، صعر كفرح فهو أصعر، وربما كان الإنسان أصعر خلقة، وصعَّر خده بالتشديد: أماله عن الناس إعراضًا وتكبرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 67- رد السائب بن مالك الأشعري عليه: فقام إليه السائب بن مالك الأشعري –وهو من رءوس أصحاب المختار- فقال: "أما أمر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عنا إلا برضانا، فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا، وأن لا يُقَسَّمَ إلا فينا، وأن لا يسار فينا إلا بسيرة عليِّ بن أبي طالب، التي سار بها في بلادنا هذه، حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، فإنها إنما كانت أَثَرَةً وَهَوًى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا، وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرًّا، وقد كان لا يألوا الناس خيرًا". فقال يزيد بن أنس الأسدي: صدق السائب بن مالك وبرَّ، رأيُنَا مثلُ رأيِهِ، وَقُولُنا مثلُ قَوْلِهِ، فقال ابنُ مُطِيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها، ثم نزل. فقال يزيد بن أنس: ذهبتَ بفضلِها يا سائب، لا يَعْدَمك المسلمون! "تاريخ الطبري 7: 95". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 68- خطبة عبد الرحمن بن شريح : وبعث المختار إلى أصحابه، فأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم، فجاء رجل منهم يقال له: عبد الرحمن بن شريح، فلقي جماعة من إخوانه، واجتمعوا في منزل أحدهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن المختار يريد أن يخرج بنا، وقد بايعناه، ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا؟ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلنخبره بما قدم علينا به، وبما دعانا إليه، فإن رخص لنا في اتباعه اتبعناه، وإن نهانا عنه اجتنبناه، فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من أمر الدنيا آثرَ عندنا من سلامة ديننا". فقالوا له: أرشدك الله، فقد أصبت ووفقت، اخرج بنا إذا شئت، فأجمع رأيهم على أن يخرجوا إليه، فلما قدموا عليه بدأ عبد الرحمن بن شريح، فتكلم: "تايخ الطبري 7: 96" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 69- خطبة أخرى له : فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإنكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة، وشرفكم بالنبوة، وعظم حقكم على هذه الأمة، فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرأي، مخسوس النصيب، قد أُصِبْتُم بحسينٍ رحمة الله عليه، عظمت مصيبة! ما قد خصكم بها، قد عُمَّ بها المسلمون وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد، يزعم لنا أنه قد جاءنا من تلقائكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنة نبيه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، فبايعناه على ذلك، ثم إنا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، وندبنا له، فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه". ثم تكلموا واحدًا واحدًا بنحو مما تكلم به صاحبهم وهو يسمع حتى إذا فرغوا. "تاريخ الطبري 7: 96" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 70- خطبة محمد بن الحنفية : حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "أما بعد: فأما ما ذكرتم مما خصصنا الله به من فضل، فإن الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فلله الحمد، وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين، فإن ذلك كان في الذكر الحكيم1، وهي ملحمة2 كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله مفعولا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا، فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم". فخرجوا من عنده، وهم يقولون: قد أذن لنا، قد قال: "لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه" ولو كره لقال: "لا تفعلوا". "تاريخ الطبري 7: 97"   1 يريد أنه سبق به قضاء الله تعالى. 2 الملحمة: الوقعة العظيمة القتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 71- خطبة المختار : وبلغ المختار مخرجهم فشق ذلك عليه، وخشي أن يأتوه بأمر يخذل الشيعة عنه، فكان يقول: "إن نفيرًا منكم ارتابوا، وتحيروا وخابوا، فإن هم أصابوا، أقبلوا وأنابوا، وإن هم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 كبَوْا وهابوا، واعترضوا وانجابوا1، فقد ثَبَرُوا2 وحابُوا3" وأقبل القوم، فدخلوا على المختار، فقال لهم: ما وراءكم؟ قد فتنتم وارتبتم، فقالوا له: قد أمرنا بنصرتك، فقال: الله أكبر أنا أبو إسحق! اجمعوا إلي الشيعة، فجمع له منهم من كان منه قريبًا فقال: "يا معشر الشيعة: إن نفرًا منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى، ابن خير من طشى4 ومشى، حاشا النبي المجتبى5 فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبأهم أني وزيره وظهيره، ورسوله وخليله، وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه، من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين".   1 انجابت الصحابة: انكشفت، والمعنى: وإن هم انسلخوا منا، وانشقوا علينا. 2 ثبر، كقعد ثبورًا: هلك. 3 حاب: أثم، والحوب بالفتح والضم: الإثم، وفي الأصل خابوا، وأرى أن تكون بالحاء لتقدم كلمة خابوا في أول قوله. 4 هكذا في الأصل، ولم أجد كلمة "طشى" في كتب اللغة، وفي لسان العرب "تطشى المريض برئ" وليست مناسبة هنا، وأرى أن العبارة: ابن خير من مشى وطشى" بتأخير طشى، وأنه إتباع الفعل قبله لتقويته وتوكيده، وهو كثير في كلام العرب، كقولهم: حسن يسن، وعفريت نفريت، وعطشان نطشان وشحيح بحيح، وكثير بثير، وحياك الله وبياك –وإن قيل إن الإتباع لا يكاد يكون بالواو- اقرأ باب الإتباع في المزهر للسيوطي "1: 244" وفي الأمالي "2: 211". 5 المختار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 خطبة أخرى لعبد الرحمن بن شريح ... 72- خطبة عبد الرحمن بن شريح: فقام عبد الرحمن بن شريح، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: يا معشر الشيعة فإنا قد كنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة، ولجميع إخواننا عامة، فقدمنا على المهدي بن علي، فسألناه عن حربنا هذه، وعما دعانا إليه المختار منها، فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته، وإجابته إلى ما دعانا إليه، فأقبلنا طيبة أنفسنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشك والغل والريب، واستقامت لنا بصيرتنا في قتالنا عدونا، فليبلغ ذلك شاهدكم غائبكم، واستعدوا وتأهبوا" ثم جلس. وقاموا رجلا فرجلا فتكلموا بنحو من كلامه، فاستجمعت له الشيعة وحَدَبَتْ1 عليه. "تاريخ الطبري 7: 97"   1 عطفت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 73- خطبة المختار في دار إبراهيم بن الأشتر : ومضى المختار في بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه إلى دار إبراهيم بن الأشتر1 يدعوه أن يناصره، فاستأذن عليه فأذن له، وألقى لأصحابه وسائد فجلسوا عليها، وجلس المختار معه على فراشه، فقال المختار: "الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وصلى الله على محمد والسلام عليه، أما بعد: فإن هذا كتاب إليك من المهدي محمد بن أمير المؤمنين الوصي، وهو خير أهل الأرض اليوم، وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم، بعد أنبياء الله ورسله، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجة عليك، وسيغني الله المهدي محمدًا وأولياءه عنك2" فبايعه إبراهيم.   1 وكان أصحاب المختار قد دعوه أن ينضم إلى زمرتهم فقال: إني قد أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه على أن تولوني الأمر، فقالوا: هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي، هو الرسول والمأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته، فسكت عنهم ابن الأشتر، وانصرفوا إلى المختار، فأخبروه بما رد عليهم. 2 ثم دفع إليه الكتاب، ففض خاتمه وقرأه، فإذا هو "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني قد بعثت إليكم بوزيري، وأميني، ونجيبي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي، والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإنك إن نصرتني وأجبت دعوتي، وساعدت وزيري كانت لك عندي بذلك فضيلة، ولك بذلك أعنة الخيل، وكل جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد أهل الشام، علي الوفاء بذلك على عهد الله، فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل، الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكا لا تستقبله أبدا، والسلام عليك" فلما قضى إبراهيم قراءة الكتاب، قال: قد كتب إلي ابن الحنفية وقد كتبت إليه قبل اليوم، فما كان يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه، قال له المختار: إن ذلك زمان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلي؟ فشهد من معه بأنه كتاب ابن الحنفية إليه، فقال إبراهيم: ابسط يدك أبايعك، فبسط المختار يده، فبايعه إبراهيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وجعل المختار وأصحابه يديرون أمورهم حتى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة 66، فثاروا بالكوفة، ونشب القتال بينهم وبين جند ابن مطيع. "تاريخ الطبري 7: 98" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 74- خطبة يزيد بن أنس الأسدي: ولما حمل خيل ابن مطيع على أصحاب المختار خطبهم يزيد بن أنس الأسدي محرضًا، فقال: "يا معشر الشيعة: قد كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم، وتسمل أعينكم، وترفعون على جذوع النخل، في حب أهل بيت نبيكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم؟ إذن والله لا يدعون منكم عينا تطرف1، وليقتلنكم صبرًا2، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منه إلا الصدق والصبر والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدَّرَّاك على هامهم، فتيسروا للشدة، وتهيئوا للحملة، فإذا حركت رايتي مرتين فاحملوا". "تاريخ الطبري 7: 104"   1 طرف البصر "كضرب" تحرك، وطرف بصره "كضرب أيضًا" أطبق أحد جفنيه على الآخر. 2 قتل صبرًا: هو أن يحبس ويرمى حتى يموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 75- خطبة عبد الله بن مطيع : وحمل أصحاب المختار على جند ابن مطيع، فكشفوهم، وهزموهم، فخرج ابن مطيع، فقام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 "أيها الناس: إن من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم، قليل عددها، خبيث دينها، ضالة مضلة، اخرجوا إليهم، فامنعوا منهم حريمكم، وقاتلوهم عن مصركم، وامنعوا منهم فيئكم، وإلا ليشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه، والله لقد بلغني أن فيهم خمسمائة رجل من محرَّرِيكم عليهم أمير منهم، وإنما ذهاب عزكم وسلطانكم، وتغير دينكم حين يكثرون". ثم نزل. "تاريخ الطبري 7: 106" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 76- تحريض ابن الأشتر أصحابه : واستنفر ابن مطيع الناس لقتال المختار وصده، وأقبل إبراهيم بن الأشتر في أصحابه فقال لهم: "قربوا خيولكم بعضها إلى بعض، ثم امشوا إليهم مصلتين1 السيوف، ولا يهولنكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعي، وآل عتيبة بن النهاس، وآل الأشعث، وآل يزيد بن الحارث، وآل فلان -فسمى بيوتات من بيوتات أهل الكوفة- ثم قال: إن هؤلاء لو قد وجدوا بهم حر السيوف قد انصفقوا2 عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب" ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم، فدًا لكم عمي وخالي. فما لبَّثهم أن هزمهم، فركب بعضهم بعضًا، ومضى بأصحابه في آثارهم حتى دخلوا السوق والمسجد، وحصروا ابن مطيع ثلاثًا. "تاريخ الطبري 7: 107"   1 أصلت السيف: جرده من غمده. 2 انصفق: انصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 77- خطبة ابن مطيع وهو محصور : فلما اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه، أشار عليه شبث بن ربعي أن يخرج من القصر لا يشعر به أحد، حتى ينزل منزلا بالكوفة عند من يستنصحه، ويثق به، ولا يعلم بمكانه إلى أن يخرج، فيلحق بصاحبه "ابن الزبير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وفي مساء اليوم الثالث دعا ابن مطيع أصحابه، فذكر الله بما هو أهله، وصلى على نبيه صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: "أما بعد: فقد علمت الذين صنعوا هذا منكم من هم، وقد علمت إنما هم أراذلكم وسفهاؤكم وطغامكم وأخساؤكم، ما عدا الرجل أو الرجلين، وأن أشرافكم، وأهل الفضل منكم لم يزالوا سامعين مطيعين مناصحين، وأنا مبلغ ذلك صاحبي، ومعلمه طاعتكم وجهادكم عدوَّه، حتى كان الله الغالب على أمره، وقد كان من رأيكم وما أشرتم به عليَّ ما قد علمتم، وقد رأيت أن أخرج الساعة". فقال له شبث: "جزاك الله من أمير خيرًا، فقد والله عففت عن أموالنا، وأكرمت أشرافنا، ونصحت لصاحبك، وقضيت الذي عليك، والله ما كنا لنفارقك أبدًا، إلا ونحن منك في إذن" فقال: جزاكم الله خيرًا، ثم خرج، وخلى القصر، وفتح أصحابه الباب، فقالوا: يابن الأشتر، آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون، فخرجوا، فبايعوا المختار. "تاريخ الطبري 7: 108" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 78- خطبة المختار بعد هرب ابن مطيع : وجاء المختار حتى دخل القصر، فبات به، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: "الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعدًا مفعولا، وقضاء مقضيًّا، وقد خاب من افترى، أيها الناس: إنه رفعت لنا راية، ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية أن ارفعوها ولا تضعوها، وفي الغاية أن اجروا إليها ولا تعدوها، فسمعنا دعوة الداعي، ومقالة الواعي، فكم من ناع وناعية، لقتلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 في الواعية1 وبعدًا لمن طغى، وأدبر وعصى، وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس فبايعوه بيعة هدى، فلا والذي جعل السماء سقفًا مكفوفًا2، والأرض فجاجًا3 سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها". ثم نزل، ودخل عليه أشراف الناس، فبسط يده وابتدره الناس فبايعوه، وجعل يقول: تبايعونني على كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلِّين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم ولا نستقيلكم" فإذا قال الراجل نعم: بايعه. ثم وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والمشايعين على قتله، فقتل من قدر عليه منهم، وهرب من الكوفة بعضهم فلم يقدر عليه، وكان ممن قتلهم عمر بن سعد بن أبي وقاص وابنه، وبعث برأسيهما إلى محمد بن الحنفية. "تاريخ الطبري 7: 108"   1 الواعية: الصراخ على الميت ونعيه "ولا فعل له" والمعنى: كم من ناع وناعية لأناس قتلوا بسبب نعيهم وصراخهم على من قتل من الحسين وأصحابه، فهو يستثيرهم لطلب الثأر من أعدائهم الذين لم يكفهم ما اقترفوه من قتل الحسين وشيعته، بل ضموا إلى جرمهم أن قتلوا من نعى هؤلاء الشهداء وبكاهم. 2 الكفة بالكسر ويضم: حبالة الصائد، وكل مستدير. 3 الفجاج: جمع فج، وهو الطريق الواضح الواسع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 79- خطبة المختار وقد استنصره ابن الحنفية : ولما كتب محمد بن الحنفية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى المختار يعلمه بما ناله هو ومن معه من ابن الزبير من سجنهم وتوعدهم بالقتل والتحريق بالنار إن لم يبايعوا له1 نادى المختار في الناس، وقرأ عليهم الكتاب، وقال:   1 وذلك أن محمد بن الحنفية كان قد أبى أن يبايع ابن الزبير إذ كره البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة -وكان ابن الزبير يبغضه ويحسده على أيده وقوته- فحبسه مع أربعة عشر رجلا من بني هاشم في سجن عارم وقال: لتباعين أو لأحرقنكم، وأعطى الله عهدًا إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلا، فكتب ابن الحنفية إلى المختار مستصرخًا، فوجه إليه جماعة من أصحابه، وكانوا يسيرون الليل ويكنون النهار، حتى انتهوا إلى مكة، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان. فكسروا سجن عارم واستخرجوا منه ابن الحنفية ومن معه، وقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم: إني لا أستحل القتال في حرم الله، وخرج هو وأصحابه إلى شعب علي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 "هذا كتاب مهديكم، وصريح1 أهل بيت نبيكم، وقد تُرِكُوا محظورًا2 عليهم كما يحظر على الغنم، ينتظرون القتل والتحريق بالنار، في آناء الليل وتارات3 النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرًا مؤزرًا4، وإن لم أسرب إليهم الخيل في إثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية5 الويل". "تاريخ الطبري 7: 136"   1 الصريح: الخالص من كل شيء. 2 حظر الشيء وعليه "كقتل" منعه وحجر، ويقال لما حظر به على الغنم وغيرها ليمنعها ويحفظها حظيرة. 3 جمع تارة، وهي هنا الحين. 4 نصر مؤزر: أي بالغ شديد من التأزير وهو التقوية. 5 ابن الكاهلية، هو عبد الله بن الزبير، والكاهلية أم أبي جده، فهو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، والكاهلية أم خويلد بن أسد، واسمها زهرة بنت عمرو بن خنثر بن روينة بن هلال من بني كاهل بن أسد بن خزيمة، وروي أن عبد الله بن فضالة بن شريك الوالبي الأسدي -من بني أسد بن خزيمة- أتى ابن الزبير فقال له: "نفدت نفقتي، ونقبت راحلتي "نقب الخف كفرح: رق" قال: أحضرها فأحضرها، فقال: أقبل بها أدبر بها ففعل، فقال: "ارقعها بسبت، واخصفها بهلب، وأمجد بها ببرد خفها، وسر البردين تصح" "والسبت كحمل كل جلد مدبوغ. والهلب كقفل: الشعر أو ما غلظ منه أو شعر الذئب أوشعر الخنزير الذي يخرز به، والبردان بفتح الباء وسكون الراء، والأبردان: الغداة والعشي" فقال ابن فضالة: إني أتيتك مستحملا، ولم آتك مستوصفا، فلعن الله ناقة حملتي إليك "مستحملا أي طالبا أن تحملني على ناقة أخرى تعطينيها" قال ابن الزبير: "إن وراكبها" "وإن هنا حرف جواب بمعنى نعم كأنه إقرار بما قال، ومثله قول ابن قيس الرقيات: ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت إنه فانصرف عنه ابن فضالة، وقال فيه شعرا منه قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ...................................................................................   = أقول لغلمتي شدوا ركابي ... أجاوز بطن مكة في سواد فمالي حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد فقال ابن الزبير لما بلغه هذا الشعر: "علم أنها شر أمهاتي فعيرني بها وهي خير عماته"- انظر "1: 8" وشرح ابن أبي الحديد "م4: ص495" ومجمع الأمثال للميداني "1: 75" وفيه "فلما بلغ الشعر ابن الزبير قال: لو علم لي أما ألأم من عمته لسبَّني بها" وبهذه المناسبة نقول: إن ابن الزبير كان شديد البخل وكان ذلك من أعظم أسباب إخفاقه وانفضاض الناس من حوله، رووا أنه كان يطعم جنده تمرًا ويأمرهم بالحرب فإذا فروا من وقع السيوف لامهم وقال لهم: أكلتم تمري، وعصيتم أمري، فقال بعضهم: ألم تر عبد الله والله غالب ... على أمره يبغي الخلافة بالتمر وكسر بعض جنده خمسة أرماح في صدور أصحاب الحجاج، وكلما كسر رمحًا أعطاه، فشق عليه ذلك، وقال: خمسة أرماح! لا يحتمل بيت مال المسلمين هذا. وجاءه أعرابي سائل فرده، فقال له: لقد أحرقت الرمضاء قدمي، فقال: بل عليهما يبردا، "ابن أبي الحديد م1: ص487" وقدم عليه معن بن أوس بمكة، فأنزله دار الضيفان –وكان ينزلها الغرباء وأبناء السبيل والضيفان- فأقام يومه لم يطعم شيئًا، حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل، فقال: كلوا من هذا وهم نيف وسبعون رجلا، فغضب معن وخرج من عنده، فأتى ابن عباس فقراه وحمله وكساه، ثم أتى عبد الله بن جعفر فأعطاه حتى أرضاه، وأقام عنده ثلاثًا حتى رحل، فقال معن في ذلك: رمانا أبو بكر "وقد طال يومنا" ... بتيس من الشاة الحجازي أعفر وقال: اطعموا منه "ونحن ثلاثة ... وسبعون إنسانًا" فيا لؤم مخبر! فقلنا له: لا تقربا، فأمامنا ... جفان ابن عباس العلا وابن جعفر وكنْ آمنا وارفق بتيسك إنه ... له أعنز ينزو عليها، وأبشر "الأغاني ج10: ص157". وقال عبد الملك بن مروان: "ما أعلم مكان أحد أقوى على هذا الأمر مني، وإن ابن الزبير لطويل الصلاة كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسًا" "تاريخ الطبري ج8: ص58". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 80- خطبته وقد شيع ابن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد : 1 وخرج يشيع2 إبراهيم بن الأشتر حين شخص لقتال عبيد الله بن زياد3 فقال للناس:   1 قدمنا لك أن مروان بن الحكم لما تمت له البيعة بعث إلى العراق جيشًا عليه عبيد الله بن زياد، وعلمت ما كان من أمره وأمر التوابين من الشيعة بعين الوردة من أرض الجزيرة ثم التقى به ابن الأشتر على شاطئ نهر خازر من أرض الموصل. 2 وقد خرج يشيعه ماشيًا، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق، فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشيعه فرسخين. 3 وكان قد دفع إلى قوم من خاصته حمامًا بيضًا ضخامًا، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم الدائرة في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا واقتلل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب ابن زياد ثم انكشفوا، ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، وقال ابن الأشتر: لقد ضربت رجلا على شاطئ هذا النهر، فرجع إلي سيفي فوجدت منه رائحة المسك، ورأيت إقدامًا وجرأة فصرعته، فذهبت يداه قبل المشرق ورجلاه قبل المغرب: فانظروه فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد، وكان مقتله سنة 67هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 "إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة1 فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غِضَابٍ، تأتي في صور الحمام دوين2 السحاب". "الكامل للمبرد 2: 169"   1 حاص يحيص حيصا: عدل وهرب. 2 مصغر دو: أي قريبًا منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 81- خطبته وقد سار إليه مصعب بن الزبير : ولما بلغ المختار مسير مصعب بن الزبير إليه من البصرة1 قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يأهل الكوفة، يأهل الدين، وأعوان الحق، وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول، وآل الرسول، إن فُرَّارَكم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغْوَوْهم عليكم، ليمْصَحَ2لحق، وينتعش الباطل، ويقتل أولياء الله، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفري3على الله، واللعن لأهل بيت نبيه،   1 وكان أخوه عبد الله بن الزبير بعثه عليها "سنة 67هـ" بعد عزل القباع عنها "والقباع كشجاع هو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر" فقدم على مصعب شبث بن ربعي، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة، وأخبروه بما اجتمعوا له وبما أصيبوا به، ووثوب عبيدهم ومواليهم، وشكوا إليه وسألوه النصر لهم، والسير إلى المختار معهم. 2 مصح كمنع: ذهب وانقطع، والثوب أخلق، والنبات ولى لون زهره: والظل قصر. 3 فرى الكذب كرمى: اختلقه كافتراه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 انتدبوا1 مع أحمر بن شميط: فإنكم لو قد لقيتموهم لقد قتلتموهم إن شاء الله قتل عاد2 وإرم". وتزاحف الجندان، وانهزم أصحاب المختار، وقتل "في رمضان سنة 67"3. "تاريخ الطبري 7: 148"   1 انتدب إليه: أسرع. 2 أي أبدتموهم كما باد هؤلاء. 3 قال أبو العباس المبرد في الكامل "2: 167" وكان المختار لا يوقف له على مذهب كان خارجيًا، ثم صار زبيريًّا، ثم صار رافضيًّا في ظاهره، وكان يدعي أنه يلهم ضربًا من الشجاعة لأمور تكون ثم يحتال، فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل" فمن ذلك قوله ذات يوم: "لتنزلن من السماء نار دهماء، فلتحرقن دار أسماء" فذكر ذلك لأسماء بن خارجة، فقال: أو قد سجع أبو إسحق؟ هو والله محرق داري، فتركه والدار وهرب من الكوفة، وقال في بعض سجعه: "أما والذي شرع الأديان، وجنب الأوثان، وكره العصيان، لأقتلن أزد عمان، وجُلَّ قيس عيلان، وتميمًا أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان" فكان ظبيان النجيب يقول: "لم أزل في عمر المختار أنقلب آمنا". وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد "2: 265": "ثم إن المختار لما قتل ابن مرجانة، وعمر بن سعد جعل يتتبع قتلة الحسين بن علي ومن خذله، فقتلهم أجمعين، فلما أفناهم دانت له العراق، ولم يكن صادق النية، ولا صحيح المذهب، وإنما أراد أن يستأصل الناس، فلما أدرك بغيته أظهر للناس قبح نيته، فادعى أن جبريل ينزل عليه، ويأتيه بالوحي من الله، وكتب على أهل البصرة "بلغني أنكم تكذبونني وتكذبون رسلي، وقد كذبت الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم" فلما انتشر ذلك عنه كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير "يعني مصعبًا" وهو بالبصرة فخرج إليه، وبرز إليه المختار فأسلمه إبراهيم بن الأشتر ووجوه أهل الكوفة، فقتله مصعب وقتل أصحابه". وقال الشهرستاني في الملل والنحل "1: 153": "ومن مذهب المختار أنه يجوز البدء على الله تعالى، والبدء له معانٍ، البدء في العلم وهو أن يظهر له خلاف ما علم، والبدء في الإرادة، وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم، والبدء في الأمر وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بعده بخلاف ذلك، وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبدء، لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام "ابن الحنفية"، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 82- خطبة محمد بن الحنفية يرد على عبد الله بن الزبير وقد تنقص الإمام : خطب ابن الزبير، فنال من الإمام علي كرم الله وجهه، فبلغ ذلك ابنه محمد ابن الحنفية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأقبل حتى وضع له كرسي قدامه، فعلاه وقال: "يا معشر قريش، شاهت الوجوه1، أينتقص علي وأنتم حضور؟ إن عَلِيًّا كان سهمًا صادقًا، أحد مرامي الله على أعدائه، يقتلهم لكفرهم، ويهوعهم2 مآكلهم، فثقل عليهم، فرموه بصرفة الأباطيل3، وإنا معشر له على نهج4 من أمره بنو الحسبة5 من الأنصار، فإن تكن لنا الأيام دولة ننثر عظامهم، ونحسر6   دليلا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال قد بدا لربكم، وقد تبرأ ابن الحنفية منه حين وصل إليه أنه قد لبَّس على الناس بأنه من دعاته، ورجاله، وتبرأ من الضلالات التي ابتدعها من التأويلات الفاسدة، والمخاريق المموهة، فمن مخاريقه أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه بالديباج وزينه بأنواع الزينة وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل، فكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف، ويقول: قاتلوا ولكم الظفر والنصرة، وهذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل وفيه السكينة والبقية، والملائكة من فوقكم ينزلون مددًا لكم أخذًا من قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ويقال: إنه اشتراه بدرهمين من نجار، انظر قصته في تاريخ الطبري "7: 140". 1 شاه وجهه: قبح. 2 هوعه ما أكل: قيأه إياه. 3 مؤنث صرف، والصرف: الخالص من كل شيء، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأباطيل: جمع أبطولة بضم الهمزة أو إبطالة بكسرها أو هو جمع باطل على غير قياس. 4 النهج: الطريق الواضح. 5 الحسبة: الاحتساب "طلب الأجر" في الأعمال الصالحات، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبًا للثواب المرجو بها. 6 حسره كنصر وضرب: كشفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 عن أجسادهم، والأبدان يومئذ بالية: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . فعاد ابن الزبير إلى خطبته وقال: "عذرت بني الفواطم يتكلمون، فما بال بني الحنفية؟ " فقال محمد: "يابن أم رومان1، ومالي لا أتكلم؟ أليست فاطمة بنت محمد حليلة2 أبي وأم إخوتي؟ أو ليست فاطمة3 بنت أسد بن هاشم جدتي؟ أو ليست فاطمة4 بنت عمرو بن عائذ جدة أبي؟ أما والله لولا خديجة بنت خويلد5 ما تركت في بني أسد عظمًا إلا هشمته، وإن نالتني فيه المصائب صبرت". "مروج الذهب 2: 102".   1 أم رومان بنت عامر هي زوج أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأم السيدة عائشة. 2 زوجته. 3 هي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أم الإمام علي كرم الله وجهه، وقد أسلمت بعد عشر من المسلمين فكانت الحادي عشر، وهي أول امرأة بايعت رسولَ اللهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النساء. 4 هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم أم أبي طالب، وهي أم عبد الله والد سيدنا محمد صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 5 هي زوج النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمة الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 83- عبد الله بن عباس ومعاوية : ودخل عبد الله بن عباس على معاوية وعنده وجوه قريش، فلما سلم وجلس، قال له معاوية: "إني أريد أن أسألك عن مسائل" قال: "سل عما بدا لك" قال: "ما تقول في أبي بكر؟ " قال: "رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تاليًا، وعن المنكر ناهيًا، وبذنبه عارفًا، ومن الله خائفًا، وعن الشبهات زاجرًا، وبالمعروف آمرًا، وبالليل قائمًا، وبالنهار صائمًا، فاق أصحابه ورعًا وكفافًا1، وسادهم زهدًا وعفافًا، فغضب الله على من أبغضه وطعن عليه" قال معاوية: إيهًا2 يابن عباس، فما تقول في عمر بن الخطاب؟ " قال: "رحم الله أبا حفص عمر، كان والله حليف الإسلام،   1 أي رضًا بالكفاف، والكفاف من الرزق: ما كف عن الناس وأغنى. 2 أمر بالسكوت أي حسبك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ومأوى الأيتام، ومنتهى الإحسان، ومحل الإيمان، وكهف1 الضعفاء، ومعقل الحنفاء2، قام بحق الله عَزَّ وَجَلَّ صابرًا محتسبًا3، حتى أوضح الدين، وفتح البلاد وأمَّنَ العباد، فأعقب الله على من ينقصه اللعنة إلى يوم الدين". قال: "فما تقول في عثمان؟ " قال: "رحم الله أبا عمرو كان والله أكرم الجعدة4، وأفضل البررة، هجادًا5 بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاضًا عند كل مكرمة، سباقًا إلى كل منحة، حييًّا أبيًّا وفيًّا، صاحب جيش العسرة6، وخَتَنَ7 رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعقب اللهُ على من يلعنه لعنة اللاعنين، إلى يوم الدين" قال: "فما تقول في علي؟ " قال: رضي الله عن أبي الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحمل الحجا8، وبحر الندى، وطود النهى9، وكهف العلا، للورى داعيًا إلى المحجة10، متمسكًا بالعروة الوثقى، خير من آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأبر من انتعل وسعى11، وأفصح من تنفس وقرا، وأكثر من شهد النجوى -سوى الأنبياء والنبي المصطفى- صاحب القبلتين، فهل يوازيه أحد؟ وأبو السبطين12 فهل يقارنه بشر، وزوج خير النسوان13، فهل يفوقه قاطن بلد؟ للأسود قتال، وفي الحروب ختال14، لم تر عيني مثله ولن ترى، فعلى من انتقصه   1 الكهف: الملجأ، وكذا المعقل. 2 جمع حنيف، وهو الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه. 3 احتسب بكذا أجرًا عند الله: اعتده ينوي به وجه الله. 4 الكرام، يقال للكريم: جعد بفتح فسكون، فأما إذا قيل فلان جعد اليدين أو جعد الأنامل فهو البخيل، وربما لم يذكروا معه اليد. 5 الهجاد والهجود: بفتح الهاء، والمتهجد: المصلي بالليل. 6 تقدم شرحه في خطبة ذي الكلاع الحميري. راجع الجزء الأول ص340. 7 أي صهره وقد تزوج السيدة رقية والسيدة أم كلثوم ابنتي رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 8 المحمل في الأصل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان، والحجا: العقل والفطنة. 9 الطود: الجبل، والنهى العقل. 10 الطريق الواضح. 11 في الأصل "واسعا" وهو تحريف. 12 الحسن والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وهما سبطا رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "والسبط ولد الولد". 13 السيدة فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. 14 خداع، من الختل: وهو الخداع، والمراد أنه ذو بصر بالحروب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 لعنة الله والعباد، إلى يوم التناد1" قال: "إيهًا يا بن عباس، لقد أكثرت في ابن عمك" قال: "فما تقول في أبيك العباس؟ " قال: "رحم الله العباس أبا الفضل، كان صنو2 نبي الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرة عين صفي الله، سيد الأعمام، له أخلاق آبائه الأجواد، وأحلام أجداده الأمجاد، تباعدت الأسباب في فضيلته، صاحب البيت والسقاية والمشاعر3 والتلاوة، ولم لا يكون كذلك، وقد ساسه أكرم من دبَّ4" فقال معاوية: "يابن عباس، أنا أعلم أنك كلماني5 أهل بيتك" قال: "ولم لا أكون كذلك، وقد قال رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". ثم قال ابن عباس بعد هذا الكلام: "يا معاوية، إن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، خص محمدًا صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصحابة آثروه على الأنفس والموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء6 الله، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل الله بهم الشرك، وأزال روحه، ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء أصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها"، فقطع عليه معاوية الكلام، وقال: إيها ابن عباس، حدثنا في غير هذا. "مروج الذهب 2: 84"   1 يوم القيامة. 2 الأصل فيه أنه إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو والاثنان صنوان والجمع صنوان برفع النون. 3 شعار الحج بالكسر: مناسكه وعلاماته، والشعيرة والشعارة بالفتح، والمشعر: موضعه، والمشعر الحرام بالمزدلفة. 4 في الأصل: "من دبَّ" أي مشى، والمعنى عليه صحيح، ولكني أرجح أنه "من أدب" لقوله "وقد ساسه". 5 رجل كلماني بسكون اللام وفتحها وكلماني بكسرتين مشدد اللام، وبكسرتين مشدد الميم وتكلام وتكلامة بكسر فسكون وتشدد لامهما: جيد الكلام فصيحه. 6 الآلاء: النعم جمع "إلى" "بفتح أوله وكسره" وأولو "بفتح أوله" وإلى "بفتح ثانيه وفتح أوله أو كسره". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 عبد الله بن عباس ومعاوية أيضا مدخل ... عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا: اجتمعت قريش الشامِ والحجازِ عند معاوية، وفيهم عبد الله بن عباس، وكان جريئًا على معاوية حقارًا له1 فبلغه عنه بعض ما غمه، فقال معاوية:   1 أي كثير التحقير له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 84- مقال معاوية : رحم الله أبا سفيان والعباس، كانا صَفِيِّيْن1 دون الناس، فحفظتُ الميت في الحي، والحي في الميت، استعملك علي يابن عباس على البصرة، واستعمل عبيد الله أخاك على اليمن، واستعمل أخاك2 على المدينة، فلما كان من الأمر ما كان، هنأتكم3 ما في أيديكم، ولم أكشفكم عما وعت غراركم4، وقلت: آخذ اليوم وأعطى غدًا مثله، وعلمت أن بدء اللؤم يضر بعاقبة الكرم، ولو شئت لأخذت بحلاقيمكم وقيأتكم ما أكلتم، لا يزال يبلغني عنكم ما تبرُك له الإبل، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم، خذلتم عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وحاربتموني بصفين، ولعمري لبنو تيم وعدي5 أعظم ذنوبًا منا إليكم، إذ صرفوا عنكم هذا الأمر، وسنُّوا فيكم هذه السنة، فحتى متى أُغْضِي الجفونَ على القَذَى6، وأسحب الذيول على الأذى، وأقول لعل الله وعسى! ما تقول يابن عباس؟   1 الصفي: الحبيب المصافي. 2 لما جاء عَلِيًّا الخبر عن طلحة والزبير وعائشة أَمَّرَ على المدينة تمام بن العباس، وبعث إلى مكة قثم بن العباس "قثم كعمر" وخرج إليهم. 3 هنأه كمنع وضرب: أطعمه وأعطاه. 4 جمع غرارة بالكسر وهي الجوالق "الشوال". 5 يعني ببني تيم أبا بكر الصديق "وهو من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي" ويعني ببني عدي عمر بن الخطاب "وهو من عدي بن كعب بن لؤي". 6 القذى: ما يقع في العين والشراب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 85- مقال ابن عباس: فتكلم ابن عباس فقال: رحم الله أبانا وأباك، كانا صَفِيَّيْنِ متفاوضين1، لم يكن لأبي من مال إلا ما فَضَلَ لأبيك، وكان أبوك كذلك لأبي، ولكن من هنَّأ أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنَّأ أبي بإخاء أبيك، نصر أبي أباك في الجاهلية، وحقن دَمَه في الإسلام2، وأما استعمال علي إيانا فلنفسه دون هواه، وقد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك، منهم ابن الحضرمي على البصرة فَقُتِلَ، وبسر بن أرطأة على اليمن فخان، وحبيب بن مرة على الحجاز فَرُدَّ، والضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحُصِبَ، ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا، وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لمحقها، ولو وضع أدنى عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسَّها، وأما خذلنا عثمان فلو لزمنا نصْرُهُ لَنَصَرْنَاهُ، وأما قَتْلُنا أنصارَه يوم الجمل، فعلى خروجهم مما دخلوا فيه، وأما حَرْبنا إياك بصفين، فعلى تركك الحق وادعائك الباطل، وإما إغراؤك إيانا بتيم وعدي فلو أردناها ما غلبونا عليه" وسكت. "العقد الفريد 2: 110".   1 التفاوض: الاشتراك في كل شيء والمساواة. 2 يشير إلى ما كان من العباس إذ شفع عند النبي عليه الصلاة والسلام في أبي سفيان يوم فتح مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا: 86- مقال معاوية لابن عباس : أقبل معاوية يومًا على ابن عباس، فقال: "لو وليتمونا ما أتيتم إلينا ما أتينا إليكم من الترحيب والتقريب وإعطائكم الجزيل، وإكرامكم على القليل، وصبري على ما صبرت عليه منكم، إني لا أريد أمرًا إلا أظمأتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 صدره1، ولا آتي معروفًا إلا صغرتم خطره2، وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم، فتأخذونها متكارهين عليها، تقولون: قد نقص الحق دون الأمل، فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم، ثم أكون أسرَّ بإعطائها منه بأخذها؟ والله لئن انخدعت لكم في مالي، وذللت لكم في عرضي، أرى انخداعي كرمًا، وذلي حلمًا، ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف، ولا نسألكم أموالكم؛ لعلمنا بحالكم وحالنا، ويكون أبغضها إلينا أحبها إليكم أن نعفيكم".   1 يقال: ورد الماء ليستقي ثم صدر عنه: أي رجع صدْرًا "بسكون الدال" وصدورًا والاسم منه الصَّدَر "بفتحتين" أي أصدرتم ورددتم وارده ظمآن لا ريان، يريد أنهم دائبون على مخالفته في كل أمر، يرون ضد رأيه. 2 قدره وشأنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 87- مقال ابن عباس : فقال ابن عباس: "لو ولينا أحسنا المواساة، وامتننا بالأَثَرَة1، ثم لم نغشم2 الحي، ولم نشتم الميت3، فلستم بأجود منا أكفًّا، ولا أكرم أنفسًا، ولا أصون لأعراض المروءة، ونحن والله أعطى للآخرة منكم للدنيا، وأعطى في الحق منكم في الباطل، وأعطى على التقوى منكم على الهوى، والقسم بالسوية والعدل في الرعية يأتيان على المنى والأمل، ما أرضاكم منا بالكفاف، فلو رضيتم منا لم نرضَ بأنفسنا به لكم، والكفاف رضا من لا حق له، فلا تُبَخِّلُونا4 حتى تسألونا، ولا تَلْفِظُونا حتى تذوقونا". العقد الفريد: 2: 111".   1 استأثر على أصحابه: اختار لنفسه أشياء حسنة والاسم الأثرة، والمعنى وامتننا أي وتفضلنا وأنعمنا بما نستأثر به. 2 غشمه غشما: ظلمه. 3 يعرض به في سبه عَلِيًّا على المنابر. 4 لا ترمونا بالبخل "بخله بالتشديد: رماه بالبخل، وأبخله: وجده بخيلا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا: 88- مقال معاوية لبني هاشم: اجتمع بنو هاشم عند معاوية، فأقبل عليهم، فقال: "يا بني هاشم، والله إن خيري لكم لممنوح، وإن بابي لكم لمفتوح، فلا يقطع خيري عنكم علة، ولا يُوصِد1 بابي دونكم مسألةٌ، ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرًا مختلفًا، إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني، وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم قلتم: أعطانا دون حقنا، وقصَّر بنا عن قدرنا، فصرت كالمسلوب، والمسلوب لا حمد له، وهذا مع إنصاف قائلكم، وإسعاف سائلكم".   1 أي: ولا يغلق، وفي الأصل "ولا يوجد" وهو تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 89- مقال ابن عباس: فأقبل عليه ابن عباس فقال: "والله ما منحتنا شيئًا حتى سألناه، ولا فتحت لنا بابًا حتى قرعناه، ولئن قطعت عنا خيرك، لَلَّهُ أوسعُ منك، ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفن أنفسنا عنك، وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين، ولنا في كتاب الله حقان: حق في الغنيمة وحق في الفيء. فالغنيمة: ما غلبنا عليه، والفيء: ما اجتبيناه، ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائرٌ، يحمله خف ولا حافر، أكفاك أم أزيدك؟ قال: كفاني فإنك لا تُعَزُّ1، ولا تُشَجُّ2". "العقد الفريد 2: 111".   1 لا تعز: أي لا تغلب، عزه يعزه "كنصره" عزا "بالفتح" غلبه، وفي الأصل "لا تغر" وهو مصحف. 2 شج رأسه: جرحه، والمراد لا تغلب ولا تهزم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 مقال آخر لمعاوية ... عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا: 90- مقال معاوية: وقال يومًا معاوية وعنده ابن عباس: "إذا جاء بنو هاشم1 بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية2 بأحلامها وسياستها، وبنو أسد3 بن عبد العزى بوافدها ودياتها، وبنو عبد الدار4 بحجابتها ولوائها، وبنو مخزوم5 بأموالها وأفعالها، وبنو تيم6 بصدِّيقها وجوادها، وبنو عدي7 بفاروقها ومتفكرها، وبنو سهم8 بآرائها ودهائها، وبنو جمح9 بشرفها وأنوفها10، وبنو عامر بن لؤي بفارسها وقريعها11، فمن ذا يُجَمِّلُ مضمارها، ويجرى إلى غايتها، ما تقول يابن عباس؟ ".   1 بنو هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة إلخ. 2 بنو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. 3 بنو أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. 4 بنو عبد الدار بن قصي، والحجابة: سدانة البيت الشريف؛ أي تولي مفاتيحه وخدمته، واللواء راية يلوونها على رمح وينصبونها علامة للعسكر إذا توجهوا إلى محاربة عدو، فيجتمعون تحتها، ويقاتلون عندها، وكان قصي بن كلاب قد ولي البيت الحرام وأمر مكة والحكم بها، وابتنى دارًا بها وهي دار الندوة: وكانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها، وقد ولد له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبد شمس، فلما كبر قصي ورق، قال لابنه عبد الدار -وهو أكبر ولده، وكان فيما يزعمون ضعيفها، وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وذهب كل مذهب: "أما والله لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك، ولا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها، ولا يعقد لقريش لواء لحربهم إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة ماء إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعامًا إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمورها إلا في دارك، فأعطاه داره دار الندوة، وأعطاه الحجابة واللواء والندوة والسقاية والرفادة، "وكانت خرجًا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي به، فيصنع طعاما للحاج يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد ممن يحضر الموسم". 5 بنو مخزوم بن يقظة "بالتحريك" بن مرة بن كعب بن لؤي. 6 بنو تيم بن مرة بن كعب بن لؤي. 7 بنو عدي بن كعب بن لؤي. 8 بنو سهم بن هصيص "كزبير" بن كعب بن لؤي، ومنهم عمرو بن العاص السهمي. 9 بنو جمح بن هصيص بن كعب. 10 جمع أنف: وهو السيد. 11 القريع: المقارع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 91- مقال ابن عباس: قال: "أقول ليس حي يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم إلا قريشًا، فإنهم يفخرون بالنبوة التي لا يُشاركون فيها، ولا يُساوون بها، ولا يُدفعون عنها، وأشهد أن الله لم يجعل محمدًا من قريش إلا وقريش خير البرية، ولم يجعله في بني عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم، يريد أن يفخر عليكم إلا بما تفخرون به، إن بنا فُتح الأمر وبنا يُختم، ولك مُلكٌ مُعَجَّل، ولنا مُلكٌ مُؤَجَّل، فإن يكن ملككم قبل ملكنا، فليس بعد ملكنا ملك، لأنَّا أهلُ العافية، والعاقبة للمتقين". "العقد الفريد 2: 112" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 92- عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا: لما بلغ معاوية نعي الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أظهر الفرح والسرور، حتى سَجَدَ وسَجَدَ من كان معه، فبلغ ذلك عبد الله بن عباس، وكان بالشام يومئذ، فدخل على معاوية، فلما جلس قال معاوية: يابن عباس هلك الحسن بن علي، ولم يُظهِر حزنًا؛ فقال ابن عباس: "نعم هلك إنا لله وإنا إليه راجعون، ترجيعًا مكررًا، وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله ما سَدَّ جَسَدُه حفرتَك، ولا زادَ نقصانُ أجلِهِ في عُمرِك، ولقد مات وهو خيرٌ منك، ولئن أُصِبنا به لقد أُصِبنا بمن كان خيرًا منه، جَدِّه رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجبر الله مصيبتَه، وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة. فقال له معاوية: كم كانت سنه؟ قال: مولده أشهر من أن تُتَعَرّف سنه! قال: أحسبه ترك أولادًا صغارًا؟ قال: كلنا كان صغيرًا فكبر، ولئن اختار الله لأبي محمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 ما عنده وقبضه إلى رحمته، لقد أبقى الله أبا عبد الله "يعني الحسين"، وفي مثله الخلف الصالح، ثم شهق وبكى، وبكى من حضر في المجلس، وبكى معاوية". "الإمامة والسياسة 1: 127، ومروج الذهب 2: 52 والبيان والتبيين 3: 221". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 93- عبد الله بن عباس وعتبة بن أبي سفيان : قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس: "ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك مكان أبي موسى يوم الحكمين؟ " قال: "منعه والله من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء، أما والله لو بعثني مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه، ناقضا لما أبرم، ومبرما لما نقض، أُسِفُّ1 إذا طار، وأطير إذا أَسَفَّ، ولكن مضى قدر، وبقى أسف ومع يومنا غدٌ، والآخرة خير لأمير المؤمنين من الأولى". "إعجاز القرآن 122، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص195، وأمالي المرتضى 1: 207".   أسف الطائر: دنا من الأرض في طيرانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 مخاصمة بين عبد الله بن عباس وبين معاوية وأصحابه مدخل ... مخاصمة بين عبد الله بن عباس وبين معاوية وأصحابه: قال ابن أبي الحديد: "روى المدائني قال: وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة، فقال معاوية لابنه يزيد، ولزياد بن سمية، وعتبة بن أبي سفيان، ومروان بن الحكم، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن أم الحكم: إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس، وما كان شجر1 بيننا وبينه وبين ابن عمه، ولقد كان نَصَبه للتحكيم فدُفِعَ عنه2، فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته، ونقف على كنه معرفته، ونعرف ما صرف عنا من شبا3 حده، وَوُوري عنا من دهاء رأيه، فربما وصف المرء بغير ما هو فيه، وأُعطِي من النعت والاسم ما لا يستحقه، ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس، فلما دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان فقال: يابن عباس ما منع عَلِيًّا أن يوجه بك حكمًا؟   1 شجر بينهم الأمر: تنازعوا فيه. 2 لما رأى عليٌّ إصرار من قبلوا التحكيم من قومه وتشبثهم بقبوله أشار عليهم أن يختاروا ابن عباس أو الأشتر النخعي حكمًا من قبلهم، فأبوا إلا أبا موسى الأشعري. 3 الشبا: جمع شباة، وهي حد كل شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 94- جواب ابن عباس : فقال: "أما والله لو فعل لقرن عَمْرًا بصعبة من الإبل، يوجع كتفيه مراسها1 ولأذهلت عقله، وأجرضته بريقه2، وقدحت في سويداء قلبه، فلم يبرم أمرًا،   1 أي علاجها وقيادتها. 2 جرض بريقه كفرح ابتلعه بالجهد على هم، وأجرضه بريقه: أغصه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 ولم ينفض ترابًا إلا كنت منه بمرأى ومسمع، فإن نكثه أرمت1 قواه، وإن أرمه فصمت2 عراه، بغرب3 مِقْوَلٍ لا يُفَلُّ حده، وأصالة رأي كمتاح4 الأجل لا وزر منه، أصدع5 به أديمه، وأفل به شبا حده، وأشحذ به عزائم المعتنز6، وأزيح به شُبَه الشاكِّين".   1 أرم الحبل: فتله شديدًا. 2 حللت. 3 الغرب: حد كل شيء، والمقول: اللسان. 4 من إضافة الصفة للموصوف أي كالأجل المتاح: أي المقدر. والوزر: الملجأ. 5 أشق، والأديم: الجلد، وهو كناية عن غلبته إياه وانتصاره عليه. 6 في الأصل "المتقيز" وقد بحثت في كتب اللغة عن مادة "قيز" فلم أجد هذه المادة، فقلبت الكلمة على الأوجه التي يظن أنها محرفة عنها، ورجح لدى أنها محرفة من "المعتنز" من اعتنز: أي تنحى وانفرد، يريد الذين تنحوا عن الفتنة والنزاع بين علي ومعاوية وكانوا محايدين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 95- مقال عمرو بن العاص : فقال عمرو بن العاص: "هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم1 أول الشر، وأُفُول آخر الخير، وفي حسمه قطع مادته، فبادره بالجملة، وانتهز منه الفرصة، واردع بالتنكيل به غيره، وشرد به من خلفه".   1 ظهور "مصدر نجم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 96- جواب ابن عباس: فقال ابن عباس: "يابن النابغة، ضل والله عقلك، وسفه حلمك، ونطق الشيطان على لسانك، هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دُعِيَتْ نَزَالِ1 وتكافَحَ الأبطالُ، وكثرتِ الجراحُ، وتقصفت الرماحُ، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولا، فانكفأ نحوك بالسيف حاملا، فلما رأيت الكواثرَ2 من الموت، أعددت حيلة السلامة   1 نزال: اسم فعل بمعنى أنزل، أي حين قال الأبطال بعضهم لبعض: نزال. 2 جمع كوثر، وهو الكثير من كل شيء والنهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 قبل لقائه، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه، فمنحته رجاء النجاة عورتك، وكشفت له خوف بأسه سوءتك، حذرًا أن يصطلمك1 بسطوته، أو يلتهمك بحملته، ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته، وحسنت له التعرض لمكافحته، رجاء أن تكتفي مئونته، وتعدم صورته، فعلم غِلَّ صدرك، وما انْحَنَتْ عليه من النفاق أضلعك، وعرف مقر سهمك في غرضك، فاكفف غرب لسانك، واقمع عوراء2 لفظك، فإنك بين أسد خادر3، وبحر زاخر، إن تبرزت للأسد افترسك، وإن عمت في البحر قَمَسَك4".   1 اصطلمه: استأصله. 2 العوراء: الكلمة أو الفعلة القبيحة. 3 الخدر: أجمة الأسد ومنه قيل أسد خادر. 4 غمسك وأغرقك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 97- مقال مروان بن الحك م: 1 فقال مروان بن الحكم: "يابن عباس إنك لتصرف2 بنابك، وتُورِي نارك، كأنك ترجو الغلبة، وتؤمل العاقبة، ولولا حلم أمير المؤمنين عنكم، لتناولكم بأقصر أنامله، فأوردكم منهلا بعيدا صدره3، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقه منكم، ولئن عفا عن جرائركم لقديمًا ما نسب إلى ذلك".   1هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ولد بمكة سنة اثنتين للهجرة، واستعمله معاوية على المدينة ومكة والطائف، وولي الخلافة بعد موت معاوية الثاني سنة 64هـ ومات بالشام في 3 رمضان سنة 65، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا. 2 صرفتِ البكرة تصرف كضرب صريفًا: صوت عند الاستقاء، وهو أيضًا صرير الباب وناب البعير. 3 الصدر: الرجوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 98- جواب ابن عباس: فقال ابن عباس: "وإنك لتقول ذلك يا عدو الله، وطريد رسول الله1 صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمباح دمه2، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه3، وركوب أثباجه4، أما والله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوله وآخره، وأما قولك لي: إنك لتصرف بنابك، وتوري نارك، فسل معاوية   1 يريد "ويا طريد رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبيك" أو "ويا بن طريد رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فإن المحقَّق أن طريد رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أبوه الحكم بن أبي العاص، وذلك أنه قدم المدينة بعد الفتح -وكان قد أسلم يوم الفتح- فأخرجه رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الطائف، وقال: "لا تساكني في بلد أبدا" لوقيعته فيه، قيل: كان يتسمع سر رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويطلع عليه من باب بيته، وإنه هو الذي أراد رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفقأ عينه بمدرى في يده لما اطلع عليه من الباب، وقيل: كان يحكي رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مشيته وبعض حركاته -وكان النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتكفأ في مشيته- فالتفت يومًا فرآه، وهو يتخلج في مشيته، فقال "كن كذلك" فلم يزل يرتعش في مشيته من يومئذ، وطرده رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعنه وأبعده حتى صار مشهورًا بأنه طريد رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يزل منفيا حياة النبي صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما ولي أبو بكر الخلافة قيل له في الحكم ليرده إلى المدينة، فقال: "ما كنت لأحل عقدة عقدها رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وكذلك عمر، فلما ولي عثمان الخلافة -والحكم عمه- رده، وقال: "كنت قد شفعت فيه إلى رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوعدني برده" وقد توفي في خلافة عثمان، أما مروان فلم ير النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى النبي أباه -وقد ولد بمكة سنة اثنتين للهجرة- وقيل إنه ولد بالطائف إبان نفي أبيه بها. 2 أي في فتنة عثمان، وذلك أن الثوار بعد أن هدأ الإمام عليٌّ ثائرتهم خرجوا عن المدينة، ولكنهم في أثناء رجوعهم ضبطوا غلام عثمان، ومعه كتاب إلى عامل مصر يأمره فيه بقتلهم، فعادوا إلى المدينة ثانية، وكانوا يعتقدون أن مروان هو الذي كتب ذلك الكتاب، وقد سألوا عثمان أن يسلم إليهم مروان، فأبى أن يسلمه وخشي عليه القتل. 3 جمع ودج "محركة" وهو عرق الأخدع الذي يقطعه الذابح، فلا يبقى معه حياة. 4 جمع ثبج "محركة" وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وعمرًا يخبراك ليلة الهرير1 كيف ثباتُنا للمثلات2، واستخفافُنا بالمعضلات، وصدْق جلادنا عند المصاولة، وصبُرنا على اللأواء3 والمطاولة، ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة4، ومباشرتنا بنحورنا حد الأسنة، هل خِمْنا5 عن كرائم تلك المواقف؟ أم لم نبذل مهجنا6 للمتالف؟ وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود، ولا يوم مشهود، ولا أثر معدود، وإنهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك، فاربع على ظلعك7، ولا تتعرض لما ليس لك، فإنك كالمغروز في صفد8، لا يهبط برجل، ولا يرقأ9 بيد".   1 هي ليلة العاشر من صفر سنة 37، وفيها حمل جيش علي على جيش معاوية في وقعة صفين حملة عنيفة، واقتتلوا تلك الليلة كلها حتى الصباح، وأوشك جيش علي أن تكون له الغلبة. 2 جمع مثلة "كغرفة" من مثلت بالقتيل: إذا نكلت به. 3 اللأواء: الشدة. 4 المرققة. 5 خام عنه يخيم: جبن ونكص. 6 جمع مهجة، وهي الدم أو الروح. 7 ربع كمنع: وقف وانتظر وتحبس، وظلع ظلعا كمنع: غمز في مشيه، واربع على ظلعك أي أنك ضعيف فانته عما لا تُطيقه واسكت على ما فيك من عيب. 8 الصفد: القيد، وفي الأصل "كالمغرور في صفد" وأراه "المقرون في صفد". 9 أي يصعد ويعلو: رقأ في الدرجة صعد: يقال: رقأت ورقيت "كرضيت" وترك الهمزة أكثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 99- مقال زياد : فقال زياد: "يابن عباس: إني لأعلم، ما منع حسنا وحسينا من الوفود معك على أمير المؤمنين إلا ما سولت لهما أنفسهما، وغرهما به من هو عند البأساء يسلمهما1، وايم الله لو وليتهما لأدأبا2 في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما، ولقل بمكانهما لبثهما".   1 أسلمه: خذله. 2 أجهدا وأتعبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 100- جواب ابن عباس: فقال ابن عباس: "إذن والله يقصر دونههما باعك، ويضيق بهما ذراعك، ولو رمت ذلك لوجدت من دونههما فئة صدقا صبرا1 على البلاء، لا يخيمون عن اللقاء،   1 أي ذات صدق وصبر على البلاء أو هو "صُدُقا صُبُرا" بضمتين جمع صدوق وصبور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 فلعركوك بكلاكلهم1 ووطئوك بمناسمهم2 وأوجروك3 مشق رماحهم، وشفار4 سيوفهم، ووخز أسنتهم، حتى تشهد بسوء ما أتيت، وتتبين ضياع الحزم فيما جنيت، فحذار حذار من سوء النية، فإنها ترد الأمنية، وتكون سببًا لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما، وسعيًا في اختلافهما بعد ائتلافهما، حيث لا يضرهما إبساسك5، ولا يغني عنهما إيناسك".   1 جمع كلكل وهو الصدر. 2 جمع منسم "كمجلس" وهو خف البعير. 3 أوجره الرمح: طعنه به في فيه، والمشق: سرعة في الطعن والضرب أو هو بمعنى مفعول، قضيب ممشوق: أي طويل دقيق. 4 جمع شفرة: وهي حد السيف. 5 الإبساس: التلطف بالناقة وقت حلبها، بأن يقال لها: بس بس "بفتح فسكون" تسكينا لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 101- مقال عبد الرحمن بن أم الحكم : فقال عبد الرحمن بن أم الحكم: "لله در ابن ملجم1، فقد بَلَّغَ الأمل، وأمَّن الوَجِل، وأحدَّ الشفرة، وألان المهرة، وأدرك الثار، ونفى العار، وفاز بالمنزلة العليا، ورقي الدرجة القصوى".   1 هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله قاتل الإمام عليٍّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 102- جواب ابن عباس: فقال ابن عباس: "أما والله لقد كرع1 كأس حتفه بيده، وعجل الله إلى النار بروحه، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته، لخالطه الفحل القطم2، والسيف الخذم، ولألعقه صابا3، وسقاه سماما4، وألحق بالوليد وعتبة وحنظلة5، فكلهم كان أشد منه شكيمة6،   1 كرع في الماء: تناوله بفيه من موضعه. 2 قطم الفحل كفرح فهو قطم: اشتهى الضراب. 3 عصارة شجر مرٍّ. 4 جمع سمّ مثلث السين. 5 الوليد بن عتبة: خال معاوية، وعتبة بن ربيعة: جده لأمه، وحنظلة بن أبي سفيان أخوه، وقد قتلهم عليٌّ يوم بدر. 6 الشكيمة: الأنفة، وهو شديد الشكيمة: أي أنفٌ أبيٌّ لا ينقاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وأمضى عزيمة، ففرى بالسيف هامهم1، ورملهم2 بدمائهم، وقرى الذئاب أشلاءهم3، وفرق بينهم وبين أحبائهم، أولئك حصب4 جهنم هم لها واردون، فهل تُحِسُّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا5؟ ولا غرو إن ختل، ولا وصمة إن قتل، فإنا لكما قال دريد بن الصمة: فإنا للحم السيف غير مكره ... ونلحمه طورا وليس بذي نكر6 يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر7   1 هام: جمع هامة، وهي الرأس. 2 رمل الثوب: لطخه بالدم، ويجوز أن يكون وزملهم أي لفهم بدمائهم "على المجاز". 3 أشلاء: جمع شلو، وهو العضو، وقرى الضيف قرى "بالكسر": أضافه. 4 الحطب، وما يرمى به في النار. 5 الصوت الخفي. 6 ألحمه: أطعمه اللحم. 7 الوتر: الثأر، وقد وتره يتره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 103- مقال المغيرة بن شعبة : فقال المغيرة بن شعبة: "أما والله لقد أشرت على عليٍّ بالنصيحة، فآثر رأيه، ومضى على غلوائه1، فكانت العاقبة عليه لا له، وإني لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه".   1 الغلواء: الغلو، وذلك أن المغيرة جاء عَلِيًّا بعد مقتل عثمان، وقال له: إن النصح رخيص وأنت بقية الناس وأنا لك ناصح، وأنا أشير عليك أن ترد عمال عثمان عامك هذا، فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك، واطمأن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 104- جواب ابن عباس: فقال ابن عباس: "كان والله أمير المؤمنين عليه السلام أعلمَ بوجوه الرأي، ومعاقد الحزم، وتصريف الأمور، من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه، وعنَّفَ عليه، قال سبحانه وتعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة، قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدً ا} . وهل كان يسوغ له أن يحكم في دماء المسلمين، وفي المؤمنين، من ليس بمأمون عنده، ولا موثوق به في نفسه؟ هيهات هيهات، هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتقية2، ولات حين تقية، مع وضوح الحق، وثبوت الجنان، وكثرة الأنصار، يمضي كالسيف المصلت3 في أمر الله، مؤثرًا لطاعة ربه والتقوى، على آراء أهل الدنيا".   = أمرك عزلت من أحببت، وأقررت من أحببت، فقال له: والله لا أداهن في ديني، ولا أعطي الرياء في أمري، قال: فإن أبيت فانزع من شئت واترك معاوية فإن له جراءة وهو في أهل الشام مسموع منه، ولك حجة في إثباته فقد كان عمر ولاه الشام كلها، فقال له: لا والله لا استعمل معاوية يومين أبدًا. "وقد كان ابن عباس يرى إثبات معاوية حتى يبايع، وقال لعلي: فإن بايع لك فعليَّ أن أقلعه من منزله، فقال علي: لا والله لا أعطيه إلا السيف". 1 حاده: غاضبه وعاداه وخالفه. 2 التقية: المحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرِّ الأعداء إذا كانت العداوة بسبب الدين. 3 المسلول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 105- مقال يزيد بن معاوية : فقال يزيد بن معاوية: "يابن عباس، إنك لتنطق بلسان طلق1، ينبئ عن مكنون قلب حرق2، فاطو على ما أنت عليه كشحًا3، فقد محا ضوء حقنا ظلمة باطلكم".   1 لسان طلق: "بسكون اللام وكسرها" ذلق. 2 الحرق: المحروق وفي الحديث "الحَرِق شهيد" وفي رواية "الحريق" أي الذي يقع في حرق النار "بفتحتين" فيلتهب، والحرق محركة: النار ولهبها، وفي الحديث "الحرق والغرق والشرق شهادة" وحرق شعره كفرح: تقطع ونسل. 3 الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وطوى كشحه على الأمر أضمه وستره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 106- جواب ابن عباس: فقال ابن عباس: "مهلا يزيد، فوالله ما صفتِ القلوبُ لكم، منذ تكدرتْ بالعدواة عليكم، ولا دنت بالمحبة إليكم، مذ نأتْ بالبغضاء عنكم، ولا رضيت اليوم منكم، ما سخطت بالأمس من أفعالكم، وإن تدل1 الأيام نستقض ما شذ عنا، ونسترجع ما ابتز2 منا، كيلا بكيل، ووزنا بوزن، وإن تكن الأخرى، فكفى بالله وليا لنا، ووكيلا على المعتدين علينا".   1 أداله الله من عدوه: نصره عليه. 2 ما سلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 مقال آخر لمعاوية ... 107- مقال معاوية: فقال معاوية: "إن في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم، وإني لخليق أن أدرك فيكم الثار، وأنفي العار، فإن دماءنا قبلكم، وظلامتنا فيكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 108- جواب ابن عباس: فقال ابن عباس: "والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أُسْدًا مخدرة1،وأفاعي مطرقة، لا يفثوها4 كثرة السلاح، ولا تعضها نكاية الجراح، يضعون أسيافهم على عواتقهم.   1 أخدر الأسد: لزم الأجمة، وأخدر العرين الأسد: ستره فهو مخدر "بكسر الدال وفتحها". 2 فثأ الغضب كمنع: سكنه وكسره، والقدر سكن غليانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 يضربون قُدُمًا قُدُمًا من ناوأهم1، يهون عليهم نباح الكلاب، وعواء الذئاب، لا يفاتون بوترٍ، ولا يسبقون إلى كريم ذكر، قد وطنوا على الموت أنفسهم، وسمت بهم إلى العلياء هممهم، كما قالت الأزدية: قوم إذا شهدوا الهياج فلا ... ضرب ينهنههم ولا زجر2 وكأنهم آساد غينة قد ... غرثت وبل متونها القطر3 فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همك سلامة حشاشة4 نفسك، ولولا طغام5 من أهل الشأم وقوك بأنفسهم، وبذلوا دونك مهجهم، حتى إذا ذاقوا وخز الشفار، وأيقنوا بحلول الدمار، رفعوا المصاحف مستجيرين بها، وعائذين بعصمتها، لكنت شلوا مطروحا بالعراء6، تسفي عليك رياحها7، ويعتورك ذئابها، وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك، ولا إزالتك عن معقود نيتك، لكن الرحم التي تعطف عليك، والأواصر8 التي توجب صرف النصيحة إليك". فقال معاوية: "لله درك يا بن عباس، ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف صقيل، ورأى أصيل! وبالله لو لم يلد هاشم غيرك، لما نقص عددهم، ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم"! ثم نهض، فقام ابن عباس، وانصرف". "شرح ابن أبي الحديد م2: ص105".   1 القُدُم: الشجاع والمضي أمام أمام، وناوأهم: عاداهم. 2 نهنهه عن الأمر: كفه وزجره. 3 الغينة: بالكسر الأجمة، والغينة بالفتح: الأشجار الملتفة في الجبال وفي السهل بلا ماء، فإذا كانت بماء فهي غيضة، وغرث: كفرح جاع فهو غرثان. 4 الحشاشة: بقية الروح في المريض والجريح. 5 الطغام: أوغاد الناس. 6 العراء: الفضاء لا يستتر فيه بشيء. 7 سفت الريح التراب تسفيه: ذرته، أو حملته. 8 في الأصل: "والأوامر" وهو تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص مدخل ... عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص: قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب، فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أمية، وتناول بني هاشم، وذكر مشاهده بصفين، واجتمعت قريش فأقبل عبد الله ابن عباس على عمرو فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 109- مقال ابن عباس : "يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية، وأعطيته ما بيدك، ومناك ما بيد غيره، فكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك، والذي أخذت منه دون الذي أعطيته، وكل راضٍ بما أخذ وأعطى1، فلا صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعزل والتنغيص2، حتى لو كانت نفسك في يدك ألقيتها إليه، وذكرت يومك مع أبي موسى،   1 وذلك أن عمرًا لما لحق بمعاوية بعد أن بلغه مقتل عثمان سأله معاوية أن يتبعه، قال عمرو: فاكتب لي مصر وكورها طعمة، فكتب له، وقال عمرو في ذلك: معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... به منك دنيا فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصرًا فأربح صفقة ... أخذت بها شيخًا يضر وينفع ثم إنه بعثه سنة 38 في جيش لغزو مصر، وكان عليها محمد بن أبي بكر من قبل الإمام علي فهزمه وقتله، وصارت مصر في حوزة معاوية فولاه عليها أميرًا. 2 روى ابن سعد في كتاب الطبقات الكبير "ج4: ص5" قال: "لما صار الأمر في يدي معاوية استكثر طعمة مصر لعمرو ما عاش، ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وعنائه وسعيه فيه، وظن أن معاوية سيزيده الشأم مع مصر، فلم يفعل معاوية، فتنكر عمرو لمعاوية فاختلفا وتغالظا. وتميز الناس، وظنوا أنه لا يجتمع أمرهما، فدخل بينهما معاوية بن حديج وأصلح أمرهما، وكتب بينهما كتابًا، وشرط فيه شروطًا لمعاوية، وعمرو خاصة، وللناس عليه، وأن لعمرو ولاية مصر سبع سنين، وعلى أن على عمرو السمع والطاعة لمعاوية، وتواثقا وتعاهدا على ذلك، وأشهدا عليهما به شهودًا، ثم مضى عمرو بن العاص على مصر واليًا عليها، وذلك في آخر سنة تسع وثلاثين، فوالله ما مكث بها إلا سنتين أو ثلاثًا حتى مات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فلا أراك فخرت إلا بالغدر، ولا مننت إلا بالفجور والغش، وذكرت مشاهدك بصفين، فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك، ولا نَكَتنا1 فيها حربك، ولقد كشفت فيها عورتك، وإن كنت فيها لطويل اللسان، قصير السنان، آخر الخيل إذا أقبلت، وأولها إذا أدربت، لك يدان: يد لا تبسطها إلى خير، وأخرى لا تقبضها عن شر، ولسان غرور ووجهان: وجه موحش، ووجه مؤنس، ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري أن يطول حزنه على ما باع واشترى، لك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك.   1 نكي العدو نكية: قتل وجرح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 110- رد ابن العاص : فأجابه عمرو بن العاص: والله ما في قريش أثقل عليَّ مسألة، ولا أمرُّ جوابًا منك، ولو استطعت ألا أجيبك لفعلت، غير أني لم أبع ديني من معاوية، ولكن بعت اللهَ نفسي، ولم أنس نصيبي من الدنيا، وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته، فإنه لا تُعَلَّم العَوَانُ الخِمْرَة1. وأما ما أتى إليَّ معاوية في مصر فإن ذلك لم يغرني له، وأما خفة وطأتي عليكم بصفين، فلما استثقلتم حياتي واستبطأتم وفاتي، وأما الجبن فقد علمت قريش أني أول من يبارز، وآخر من ينازل، وأما طول لساني، فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:   1في المثل: "إن العوان لا تعلم الخمرة". والعوان من النساء التي كان لها زوج، والخمرة اسم من الاختمار، واختمرت المرأة، لبست الخمار بكسر الخاء "الطرحة" يضرب للرجل المجرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 لساني طويل فاحترس من شذاته ... عليك، وسيفي من لساني أطول1 وأما وجهاي ولساناي، فإني ألقى كل ذي قدر بقدره، وأرمي كل نابح بحجره، فمن عرف قدره كفاني نفسه، ومن جهل قدره كفيته نفسي، ولعمري ما لأحد من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية، فما ينفعني ذلك عندك وأنشأ عمرو يقول: بني هاشم ما لي أراكم كأنكم ... بي اليوم جهال وليس بكم جهل ألم تعلموا أني جسور على الوغى ... سريع إلى الداعي إذا كثر القتل وأول من يدعو نزال طبيعة ... جبلت عليها والطباع هو الجبل2 وأني فصلت الأمر بعد اشتباهه ... بدومة إذ أعيا على الحكم الفصل3 وأنيَ لا أعيا بأمر أريده ... وأني إذا عجَّت بكارُكُمُ فحل4 "العقد الفريد 2: 112، وشرح بن أبي الحديد م1: ص196 والبيان والتبيين 2: 159".   1 الشذاة: الحدة، والشدا والشذا بالدال والذال: حد كل شيء. 2 أي نازلوني أيها الأقران، والطباع: الطبيعة والسجية جبل عليها الإنسان، والجبل: مصدر جبل. 3 هي دومة الجندل التي اجتمع فيها الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري. 4 البكار: جمع بكرة "بالفتح" وهي الناقة الفتية، وعجَّت: أي صاحت ورفعت صوتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 عبد الله بن عباس وعمر بن العاص أيضا ... 111- عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص أيضًا: حج عمرو بن العاص فمر بعبد الله بن عباس، فحسده مكانه، وما رأى من هيبة الناس له، وموقعه من قلوبهم، فقال له يابن عباس: "مالك إذا رأيتني وليتني القصرة1، وكان بين عينيك دبرة2، وإذا كنت في ملأ من الناس كنت   1 القصرة: أصل العنق في مركبة في الكاهل، ويقال لعنق الإنسان كله: قصرة، والمعنى وليتني عنقك إعراضًا عني. 2 الدبرة: بسكون الباء وفتحها الهزيمة في القتال: وهو اسم من الإدبار والمراد بها هنا الإغضاء وعدم الإقبال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الهوهاة1 الهمزة؟ فقال ابن عباس: "لأنك من اللئام الفجرة، وقريش الكرام البررة، لا ينطقون بباطل جهلوه، ولا يكتمون حقًّا علموه، وهم أعظم الناس أحلامًا، وأرفع الناس أعلامًا، دخلت في قريش ولست منها، فأنت الساقط بين فراشين، لا في بني هاشم رحلك، ولا في بني عبد شمس راحلتك، فأنت الأثيم الزنيم2 الضال المضل، حملك معاوية على رقاب الناس، فأنت تسطو بحلمه، وتسمو بكرمه" فقال عمرو: أما والله إني لمسرور بك، فهل ينفعني عندك؟ قال ابن عباس: حيث مَالَ الحقُّ مِلْنا، وحيث سَلَكَ قَصَدْنا". "العقد الفريد 2: 112"   1 قال صاحب اللسان: وفي حديث عمرو بن العاص: "كنت الهَوْهَاةَ الهُمَزَة" الهوهاة: الأحمق، وقال أيضًا: "رجل هوهاء وهواءة وهواة بفتح الأول ضعيف الفؤاد جبان، ورجل هوهة يضم الأول جبان أيضًا. 2 الزنيم: المستلحق في قوم ليس منهم والدعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 112- عمرو بن العاص وابن عباس : قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباس: "إن هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء، وقد بلغ الأمر منا ومنكم ما ترى، وما أبقت لنا هذه الحرب حياءً ولا صبرًا، ولسنا نقول: ليت الحرب عادت، ولكنا نقول: ليتها لم تكن كانت، فانظر فيما بقي بغير ما مضى، فإنك رأس هذا الأمر بعد علي، وإنما هو أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو". "البيان والتبيين 2: 158" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 113- مفاخرة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس : تزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو بنت منظور بن زبان الفزارية، فلما دخل بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك1؟ قالت: نعم، عبد الله بن الزبير بن   1 الحجلة: كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور للعروس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. قال: ليس غير هذا؟ قالت: فما الذي تريد؟ قال: معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس. قالت: أما والله لو أن بعض بني عبد مناف حضرك، لقال لك خلاف قولك، فغضب وقال: الطعام والشراب علي حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف، فلا يستطيعون لذلك إنكارًا، قالت: إن أطعتني لم تفعل، وأنت أعلم وشأنك، فخرج إلى المسجد، فرأى حلقة فيها قوم من قريش، منهم: عبد الله بن العباس، وعبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، فقال لهم ابن الزبير: أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلي، فقام القوم بأجمعهم، حتى وقفوا على باب بيته، فقال ابن الزبير: يا هذه اطرحي عليك سترك، فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة فتغدى1 القوم، فلما فرغوا قال لهم: إنما جمعتكم لحديث ردته علي صاحبة الستر، وزعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقر لي بما قلت، وقد حضرتم جميعًا، وأنت يابن عباس ما تقول؟ إني أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس، فردت علي مقالتي. فقال ابن عباس: أراك قصدت قصدي، فإن شئت أن أقول قلت، وإن شئت أن أكف كففت قال: بل قل وما عسى أن تقول؟ ألست تعلم أن أبي الزبير حواري2 رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين3؟   1 تغدى: أكل أول النهار، والغداء: الطعام الذي يؤكل أول النهار ضد العشاء، "وسمي السحور غداء، لأنه للصائم بمنزلة الغداء للمفطر". 2 الحواري: الناصر أو ناصر الأنبياء. قال عليه الصلاة والسلام: "الزبير ابن عمتي، وحواريي من أمتي". 3 كان يقال لأسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ذات النطاقين؛ قيل: لأنها كانت تطارق نطاقا على نطاق "طارق بين ثوبين: طابق" وقيل: إنه كان لها نطاقان تلبس أحدهما، وتحمل في الآخر الزاد إلى رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهما في الغار. قال الأزهري: وهذا أصح القولين، وقيل: إنها شقت نطاقها نصفين، فاستعملت أحدهما وجعلت الآخر شدادًا لزادهما. وجاء في العقد الفريد "ج2 ص270" أن الحجاج لما حصر ابن الزبير = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وأن عمتي خديجة سيدة نساء العالمين؟ وأن صفية عمة رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدتي1؟ وأن عائشة أم المؤمنين خالتي، فهل تستطيع لهذا إنكارًا؟ قال ابن عباس: لا، ولقد ذكرت شرفا شريفا، وفخرا فاخرا، غير أنك تفاخر من بفخره فخرت، وبفضله سموت، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك لم تذكر فخرا إلا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وأنا أولى بالفخر به منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة. قال ابن عباس: قد أنصف القارة من راماها3، نشدتكم الله أيها الحاضرون، أعبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش؟ قالوا: عبد المطلب. قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم. قال: أفعبد مناف أشرف أم عبد العزى؟ قالوا: عبد مناف، فقال ابن عباس: تنافرني يابن الزبير! وقد قضى ... عليك رسول الله لا قولَ هازلٍ   = بمكة ناداه: ويك يابن ذات النطاقين، اقْبَلِ الأمانَ، وادخُلْ في طاعة أمير المؤمنين، فدخل على أمه أسماء، فقال لها: سمعت رحمك الله ما يقول القوم، وما يدعونني إليه من الأمان؟ قالت: سمعتهم لعنهم الله! فما أجهلهم! وأعجب منهم إذ يعيرونك بذات النطاقين، ولو علموا ذلك لكان ذلك أعظم فخرك عندهم، قال: وما ذاك يا أماه؟ قالت: خرج رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره مع أبي بكر "وروي عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنه خرج معه مهاجرين كما جاء في لسان العرب" فهيأت لها سفرة فطلبا شيئًا يربطانها به فما وجداه، فقطعت من مئزري لذلك ما احتاجا إليه، فقال رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إن لك به نطاقين في الجنة، وفي القاموس المحيط: لأنها شقت نطاقها ليلة خروج رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الغار، فجعلت واحدة لسفرة رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأخرى عصامًا لقربته. 1 هي جدته لأبيه. 2 القارة: قبيلة، وهم قوم رماة. ويزعمون أن رجلين التقيا، أحدهما قاري، فقال القاري: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك، وإن شئت راميتك، فقال الآخر: قد اخترت المراماة، فقال القاري: قد أنصفتني وأنشأ يقول: قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على أخراها ثم انتزع له بسهم، فشلت به فؤاده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ولو غيرنا يابن الزبير فخرته ... ولكنما ساميت شمس الأصائل1 قضى لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بالفضل في قوله: "ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما" فقد فارقناك من بعد قصي2 بن كلاب، أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ إن قلت: نعم، خصمت، وإن قلت: لا، كفرت، فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: أما والله لولا تحرمك3 بطعامنا يابن عباس لأعرقت4 جبينك قبل أن تقوم من مجلسك. قال ابن عباس: وَلِمَ أَبِباطِلٍ؟ فالباطلُ لا يغلبُ الحقَّ، أم بحقٍّ؟ فالحقُّ لا يخشى من الباطل. فقالت المرأة من وراء الستر: إني والله لقد نهيته عن هذا المجلس، فأبى إلا ما ترون، فقال ابن عباس: مه أيتها المرأة، اقنعي ببعلك، فما أَعْظَمَ الخَطَرَ، وما أكرم الخبر، فأخذ القوم بيد ابن عباس وكان قد عمي، فقالوا: انهض أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة، فنهض وقال: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا لغفا وناما5 فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا أقبل علي، فما كنت لتدعني حتى أقول: وايم الله لقد عرف الأقوام أني سابق غير مسبوق، وابن حواري وصديق، متبجح6 في الشرف الأنيق، خير من طليق7 وابن طليق، فقال ابن عباس: رسغت   1 الأصائل: جمع أصيل، وهو العشي "ما بعد صلاة العصر إلى الغروب". 2 كان من أولاده عبد العزى بن قصي "ومن سلالته ابن الزبير" وعبد مناف بن قصي "ومن سلالته بنو هاشم". 3 تحرم منه بحرمة: تمنع وتحمى بذمة. 4 أي لذكرت لك من المساوئ ما يعرق له جبينك ويندى خجلا. 5 غفا وأغفى: نام نومة خفيفة. 6 من تبجح به: إذا افتخر وتعظم، وأرجح أنه "متبحبح" من تبحبح: أي تمكن في المقام والحلول. 7 يعرض بأبيه العباس بن عبد المطلب، وكان خرج مع المشركين في غزوة بدر الكبرى ووقع أسيرًا، وقد أطلقه عليه الصلاة والسلام بعد أن أخذ منه الفدية "ويروى أنه لما طلب منه الفداء قال: علام يؤخذ مني الفداء، وكنت مسلمًا؟ ولكن القوم استكرهوني، فقال له صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أعلم بما تقول إن يك حقًّا، فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 بِجُرَّتِك1 فلم تبق شيئًا، هذا الكلام مردود، من امرئ حسود، فإن كنت سابقًا فإلى من سبقت؟ وإن كنت فاخرًا فبمن فخرت، وإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا، فالفخر لك علينا. وإن كنت إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث2 في فمك ويديك وأما ما ذكرت من الطليق، فوالله لقد ابتُليَ فَصَبَرَ، وأُنْعِمَ عليه فشكر، وإن كان والله لَوَفِيًّا كَرِيمًا، غير ناقض بيعةٍ بعد توكيدها، ولا مُسْلِمٍ كتيبة بعد التأمُّرِ عليها3، فقال ابن الزبير: أَتُعَيِّرُ الزبير بالجبن؟ والله إنك لتعلمُ منه خلافَ ذلك، قال ابن عباس: والله إني لا أعلم إلا أنه فرَّ وما كرَّ، وحارب فما صَبَرَ وبايع فما تمم، وقطع الرحم، وأنكر الفضل، ورام ما ليس له بأهل4: وأدرك منها بعض ما كان يرتجى ... وقصر عن جري الكرام وبلدا وما كان إلا كالهجين أمامه ... عتاق، فجاراه العتاق فأجهدا5 فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة والمضاربة، فقال عبد الله بن الحصين   1 الجرة بالضم والفتح: عصا تربط إلى حبالة، تغيب في التراب للظبي يصطاد بها، فيها وتر، فإذا دخلت يده في الحبالة انعقدت الأوتار في يده، فإذا وثبت ليفلت فمد يده، ضرب بتلك العصاة يده الأخرى ورجله فكسرها، ورسغ البعير: شد رسغ يديه بخيط. والمعنى وقعت في حبالتك، وعاد ما فخرت به حجة عليك لا لك، وفي الأصل "رسعت" بالعين، ولا يستقيم المعنى بذلك "يقال: رسع الصبي كمنع: شد في يده أو رجله خرزا لدفع العين ورسعت أعضاؤه: فسدت واسترخت" وربما كان الأصل "رصعت بجرتك" من رصعه بالرمح إذا طعنه طعنا شديدا غيب السنان كله فيه، أي طعنت بسهمك وارتدت إليك حجتك، ومعناه كالأول. 2 الكثكث "بفتح الكافين وكسرهما": التراب وفتات الحجارة. 3 يعرض بالزبير وقد بايع الإمام ثم نكث بيعته، وخَرَجَ لقتاله مع أصحاب الجمل ثم اعتزلهم. 4 أي رام الخلافة، وقد قال للإمام حين حاوره قبل نشوب وقعة الجمل: "لا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به منا". 5 فرس هجين: إذا لم يكن عتيقًا، وفرس عتيق: أي كريم والجمع عتاق، وفي الأصل "عناق" بالنون، وهو تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 ابن الحارث: أقمناه عنك يابن الزبير، وتأبى إلا منازعته؟ والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك، ما كنت إلا كالسَّغِب1 الظمآن، يفتح فاه يستزيد من الريح، فلا يشبع من سغب2، ولا يروى من عطش، فقل إن شئت أو فدع، وانصرف القوم. "شرح ابن أبي الحديد م2: 501"   1 الجائع. 2 جوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 ابن عباس وابن الزبير في مجلس مروان بن الحكم مدخل ... ابن عباس وابن الزبير في مجلس مروان بن الحكم: وكان يوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم -وهو يومئذ أمير المدينة- سرير آخر أصغر من سريره، فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل، وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك، فأذن مروان يومًا للناس، وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه1 سرير مروان، فأقبل ابن عباس فجلس على سريره، وجاء عبد الله بن الزبير، فجلس على السرير المحدث، وسكت مروان والقوم، فإذا يد ابن الزبير تتحرك، فعلم أنه يريد أن ينطق، ثم نطق فقال:   1 تجاهه ووجاهه مثلين: تلقاء وجهه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 114- مقال ابن الزبير : "إنا ناسا يزعمون أن بيعة أبي بكر كانت غلطًا وفلتة ومغالبة، ألا إن شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا! ويزعمون أنه لولا ما وقع لكان الأمر لهم وفيهم، والله ما كان من أصحاب محمد صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد أثبت إيمانا، ولا أعظم سابقة من أبي بكر، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله، فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر فلم يكن إلا ما قال، ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ، وجدهم في جدود، فقسمت تلك الحظوظ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فأخر الله سهمهم، وأدحض جَدّهم، وولى الأمر عليهم من كان أحق به1 منهم، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجًا من القرية، فأصابوا منه غِرة2 فقتلوه، ثم قتلهم الله به كل قِتلة، وصاروا مطرودين تحت بطون الكواكب".   1 يشير إلى اختيار عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أصحاب الشورى الستة، وفيهم الإمام علي كرم الله وجهه، وما كان من مبايعة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالخلافة. 2 غفلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 115- مقال ابن عباس : فقال ابن عباس: "على رسلك1أيها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة، أما والله ما نالا ولا نال أحد منهما شيئًا، إلا وصاحبنا خيرٌ ممن نالا، وما أنكرنا تقدم من تقدم لعيب عبناه عليه، ولو تقدم صاحبنا لكان أهلا وفوق الأهل، ولولا أنك إنما تذكر حظ غيرك، وشرف امرئ سواك لكلمتك، ولكن ما أنت وما لا حظ لك فيه؟ اقتصر على حظك، ودع تيمًا لتيم، وعديًّا لعدي2 وأمية لأمية، ولو كلمني تيمي أو عدوي أو أموي، لكلمته وأخبرته خبر حاضر عن حاضر، لا خبر غائب عن غائب، ولكن ما أنت وما ليس عليك، فإن يكن في أسد بن عبد العزى شيء فهو لك، أما والله لنحن أقرب بك عهدًا، وأبيض بك يدا، وأوفر عندك نعمة، ممن أمسيت تظن أنك تصول به علينا، وما أخلق ثوب صفية بعد، والله المستعان على ما تصفون". "شرح ابن أبي الحديد م4: 490".   1 الرسِل: الرفق والتؤدة. 2 تيم رهط أبي بكر الصديق، وعدي رهط عمر الفاروق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 116- خطبة عبد الله بن عباس يرد على عبد الله بن الزبير وقد عاب بني هاشم: لما كاشف عبد الله بن الزبير بني هاشم، وأظهر بغضهم وعابهم، وهم بما هم به في أمرهم، ولم يذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ في خطبه، لا يوم الجمعة ولا غيرها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 عاتبه على ذلك قوم من خاصته، وتشاءموا بذلك منه، وخافوا عاقبته، فقال: "والله ما تركت ذلك علانية إلا وأنا أقوله سرًّا وأكثر منه، لكني رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره، اشرأبوا1 واحمرت ألوانهم، وطالت رقابهم، والله ما كنت لآتي لهم سرورًا وأنا أقدر عليه، والله لقد هممت أن أحظر لهم حظيرة، ثم أضرمها عليهم نارًا، فإني لا أقتل منهم إلا آثمًا كفارًا سحارًا، لا أنماهم الله، ولا بارك عليهم! بيت سوء لا أول لهم ولا آخر، والله ما ترك نبي الله فيهم خيرًا، استفرغ2 نبي الله صدقهم، فهم أكذب الناس، فقام إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال: "وفقك الله يا أمير المؤمنين! أنا أول من أعانك في أمرهم". فقام عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي فقال: والله ما قلت صوابًا، ولا هممت برشد، أرهط رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ تعيب، وإياهم تقتل، والعرب حولك؟ والله لو قتلت عدتهم أهل بيت من الترك مسلمين، ما سوَّغَهُ الله لك، والله لو لم ينصرهم الناس منك لنصرهم الله بنصره، فقال: اجلس أبا صفوان فلست بناموس3، فبلغ الخبر عبد الله بن العباس، فخرج مغضبًا ومعه ابنه، حتى أتى المسجد، فقصد قصد المنبر. فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، ثم قال: "أيها الناس: إن ابن الزبير يزعم أن لا أول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ولا آخر! فيا عجبًا كل العجب، لافترائه وتكذبه4! والله إن أول من أخذ الإيلاف5   1 اشرأب إليه: مد عنقه لينظر أو ارتفع. 2 في الأصل "استفزع" وهو تحريف. يقال: استفزع فلان مجهوده: إذا لم يبق من جهده وطاقته شيئًا، والمراد أنه حوى ما فيهم من صدق فلم يبق لهم منه شيء، فهم أكذب الناس "كذا! ". 3 الناموس: الحاذق، وهو أيضًا صاحب السر المطلع على باطن أمرك. 4تَكَذَّب: تكلف الكذب. 5 روى أبو علي القالي في أماليه قال: "كانت قريش تجارًا، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع، فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وحمى عيرات1 قريش لهاشمٌ، وإن أول من سقى بمكة عذبًا، وجعل باب الكعبة   = كذلك، حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشأم، فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة، ويصنع جفنة ثريد، ويجمع من حوله فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فقيل له: ها هنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم -وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز- فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم، فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال له: "أيها الملك إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمن تجاراتهم، فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم فهو أرخص عليكم" فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مرَّ بحيٍّ من العرب بطريق الشأم أخذ من أشرافهم إيلافا -والإيلاف أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف، إنما هو أمان الطريق- وعلى أن قريشا تحمل إليهم بضائع، فيكفونهم حملانها، ويؤدون إليهم رءوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشأم حتى قدم مكة، فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم؛ يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب، حتى أوردهم الشأم، وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة، وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم عهدًا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف، وكان يسمى الفيض، وهلك بردمان من اليمن، وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافا كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون، وخرج نوفل بن عبد مناف، وكان أصغر ولد أبيه، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش، وإيلافا ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان، واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام"- ذيل الأمالي ص204. 1 العير بالكسر الإبل تحمل الميرة: بلا واحد من لفظها، أو كل ما امتير عليه إبلا كانت أو حميرا أو بغالا وجمعه كعنيات ويسكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 ذهبًا، لعبدُ المطلب1 والله لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش، وإن كنا لقالتهم2 إذا قالوا، وخطباءهم إذا خطبوا، وما عُدَّ مجدٌ كمجد أولنا، ولا كان في قريش مجد لغيرنا، لأنها في كفر ماحق، ودين فاسق، وضلة وضلالة3 في عشواء4 عمياء، حتى اختار الله تعالى لها نورا، وبعث لها سراجا، فانتجبه5 طيبا من طيبين، لا يسب بمسبة، ولا يبغى عليه غائلة، فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا، ثم إن أسبق السابقين إليه، منا وابن عمنا6، ثم تلاه في السبق أهلنا ولحمتنا7 واحد بعد واحد، ثم إن لخير الناس بعده أكرمهم أدبا، وأشرفهم حسبا، وأقربهم منه رحما". واعجبا كل العجب لابن الزبير! يعيب بني هاشم، وإنما شرف هو وأبوه وجده بمصاهرتهم، أما والله إنه لمصلوب قريش، ومتى كان العوام بن خويلد يطمع في صفية بنت عبد المطلب؟ قيل للبغل: من أبوك يا بغل؟ فقال: خالي الفرس" ثم نزل "شرح ابن أبي الحديد م3: ص489".   1 قال الطبري: "وعبد المطلب هو الذي كشف عن زمزم بئر إسماعيل بن إبراهيم، واستخرج ما كان فيها مدفونا، وذلك غزالان من ذهب كانت جرهم دفنتهما فيما ذكر حين أخرجت من مكة، وأسياف قلعية "ومرج القلعة محركة: موضع بالبادية إليه تنسب السيوف" وأدراع، فجعل الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليته فيما قيل الكعبة "تاريخ الطبري 2: 179" 2 القالة جمع قائل. 3 الضلة والضلالة: ضد الهدى. 4 أي في جهالة وفتنة، عشواء، من العشى "كعصا" وهو سوء البصر بالليل والنهار، وقيل ذهاب البصر. عشي يعشى "كفرح" فهو أعشى وهي عشواء "والعشواء أيضًا الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيدها كل شيء، لأنها ترفع رأسها فلا تتعهد مواقع أخفافها". 5 انتجبه: اختاره. 6 يعني الإمام عَلِيًّا كرم الله وجهه. 7 اللحمة: القرابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 117- خطبة ابن الزبير يتنقص ابن عباس : وخطب ابن الزبير بمكة على المنبر، وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر، فقال: "إن ههنا رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة النساء حلال من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الله ورسوله، ويفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت مال البصرة1 بالأمس، وترك المسلمين بها يرتضخون2 النوى، وكيف ألومه في ذلك: وقد قاتل أم المؤمنين وحواري رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن وقاه بيده3".   1 ذكر بعض المؤرخين أن ابن عباس كان من أحب الناس إلى عمر، وكان يقدمه على أكابر الصحابة، ولم يستعمله قط، فقال له يومًا: كدت أستعملك، ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل، فلما صار الأمر إلى علي استعمله على البصرة، فاستحلَّ الفيء على تأويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} ، واستحله لقرابته من رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: ومر ابن عباس على أبي الأسود الدؤلي، فقال: لو كنت من البهائم لكنت جملا، ولو كنت راعيًا ما بلغت من المرعى، ولا أحسنت مهنته في المشي، فكتب أبو الأسود إلى علي كتابا يقول فيه: "إن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما هنالك" فكتب علي إلى ابن عباس "أن ارفع إلي حسابك" فرد عليه ابن عباس: "إن كل الذي بلغك باطل" فكتب إليه علي: "إنه لا يسعني تركك، حتى تعلمني ما أخذت من الجزية، من أين أخذته، وما وضعت منها، أين وضعته" فلما رأى أن عَلِيًّا غير مقلع عنه كتب إليه: "ابعث إلى عملك من أحببت، فإن ظاعنٌ عنه" ورحل عن البصرة، وقد حمل ما كان في بيت مالها حتى قدم الحجاز، فنزل مكة، وتبودلت الكتب بين علي وبينه ثانية، وكانت خاتمتها أن كتب إليه ابن عباس: "والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية يقاتلك به" فكف عنه علي، -انظر العقد الفريد ج2: ص242، وتاريخ الطبري 6: 81، ونهج البلاغة ج2: 46-. وقال آخرون: إن ابن عباس ما فارق عَلِيًّا ولا باينه، ولم يزل أميرًا على البصرة إلى أن قتل علي وبعد مقتل على حتى صالح الحسن معاوية، ثم خرج حينئذ إلى مكة، وليس هذا موضع بحث تلك المسألة -انظر كلمة عنها في شرح ابن أبي الحديد ج16 ص64، وأمالي السيد المرتضى ج1 ص123. 2 رضخ النوى "كمنع وضرب" كسره، وفي لسان العرب: "فظلوا يترضخون أي يكسرون الخبز فيأكلونه ويتناولونه" ولم أجد في كتب اللغة "يرتضخ" بهذا المعنى، وإنما الذي جاء "وهو يرتضخ لكنة عجمية إذا نشأ معهم ثم صار إلى العرب فهو ينزع إلى العجم في ألفاظه ولو اجتهد" وقول ابن الزبير كناية عن شدة القحط والفاقة. 3 كان طلحة بن عبيد الله ممن ثبت مع رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحامى عنه في وقعة أحد وقد انهزم المسلمون، ووقاه بيده من سيوف المشركين، وقد رمي سهم في يده، فيبست، وقال عليه الصلاة والسلام يومئذ "اليوم أوجب طلحة الجنة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 118- رد ابن عباس عليه : فقال ابن عباس لقائده سعيد بن جبير مولى بني أسد بن خزيمة -وكان ابن عباس قد كف بصره- استقبل بي وجه ابن الزبير وارفع من صدري، فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير وأقام قامته، فحسر عن ذراعيه، ثم قال: "يابن الزبير: قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على أخراها ... حتى تصير حرضا دعواها1 يابن الزبير: أما العمى، فإن الله تعالى يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، وأما فُتياي في القملة والنملة، فإن فيها حكمين لا تعلمهما أنت ولا أصحابك، وأما حملي المال، فإنه كان ما لا جبيناه، فأعطينا كل ذي حق حقه، وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله، فأخذناها بحقنا، وأما المتعة فسل أمك أسماء إذ نزلت عن بُرْدَيْ عوسجة، وأما قتالنا أم المؤمنين، فبنا سميت أم المؤمنين، لا بك ولا بأبيك، فانطلق أبوك وخالك2 إلى حجاب مده الله عليهما، فهتكاه عنها، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، فما أنصفا الله ولا محمدًا من أنفسهما أن أبرزا زوجة نبيه وصانا حلائلهما، وأما قتالنا إياكم، فإنا لقيناكم زحفا، فإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم منا، وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا، وايم الله لولا مكان صفية فيكم، ومكان خديجة فينا، لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظيما إلا كسرته"   1 الحرض: الفساد في المذهب والعقل والبدن. 2 يعني طلحة وهو ابن عم جده أبي بكر الصديق، فهو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عبيد الله بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وأبو بكر هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب.. إلخ، وإنما جعله خاله باعتبار القرابة النسوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن بَرْدَيْ عوسجة، فقالت: ألم أنهك عن ابن عباس، وعن بني هاشم؟ فإنهم كُعُم1 الجواب إذا بدهوا2" فقال: بلى وعصيتك، فقالت: يا بني احذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها، فإياك وإياه آخر الدهر". ورواية صاحب العقد: "أن ابن عباس قال لعكرمة: أقم وجهي نحوه يا عكرمة، ثم قال: إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي فؤادي وعقلي منهما نور وأما قولك يابن الزبير: إني قاتلت أم المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك، وبنا سميت أم المؤمنين، فكنا لها خير بنين، فتجاوز الله عنها، وقاتلت أنت وأبوك عليًّا، فإن كان علي مؤمنًا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين، وإن كان كافرا فقد بوئتم بسخط من الله بفراركم من الزحف. وأما المتعة فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص فيها، فأفتيت بها، ثم سمعته ينهى عنها، فنهيت عنها3.   1 كَعَمَ البعير كمنع: شُدَّ فاه لئلا يعض أو يأكل، الكعام ككتاب: ما يجعل على فمهن والجمع كعم ككتب. والمعنى أنهم ذوو أجوبة مسكتة مخرسة تلجم أفواه مناظريهم. 2 بدهه بأمر كمنعه: استقبله به أو بدأه به. 3 جاء في المصباح المنير: "المتعة اسم التمتع، ومنه متعة الحج، ومتعة النكاح، ومتعة الطلاق، ونكاح المتعة هو المؤقت في العقد، وقال في العباب: كان الرجل يشارط المرأة شرطا على شيء إلى أجل معلوم، ويعطيها ذلك فيستحل بذلك فرجها، ثم يخلي سبيلها من غير تزويج ولا طلاق، وقيل في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} المراد نكاح المتعة، والجمهور على تحريم نكاح المتعة، وقالوا معنى قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ} فما نكحتم على الشريطة التي في قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي عاقدين النكاح، واستمتعت بكذا وتمتعت: انتفعت، ومنه تمتع بالعمرة إلى الحج: إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج وبعد تمامها يحرم بالحج، فإنه بالفراغ من أعمالها يحل له ما كان حرم عليه، فمن ثم يسمى متمتعًا" أ. هـ. وجاء في التفاسير: "وقيل نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت: لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أباحها، ثم أصبح يقول: "يأيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة" وهي النكاح الموقت بوقت معلوم سمي بها، إذ الغرض منه مجرد الاستمتاع بالمرأة وتمتيعها بما تعطى، وجوزها ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ثم رجع عنه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وأول مجمر1 سطع في المتعة مجمر آل الزبير2". "شرح ابن أبي الحديد م4: 489، والعقد الفريد 2: 269-113، ومروج الذهب 2: 103"   1 المجمر: العود، واستجمر بالمجمر: تبخر بالعود. 2 قال المسعودي في مروج الذهب: "وقد تنازع الناس في ذلك، فمنهم من رأى أنه عني متعة النساء، ومنهم من رأى أنه أراد متعة الحج؛ لأن الزبير تزوج أسماء بكرًا في الإسلام، زوجه أبو بكر معلنا، فكيف تكون متعة النساء؟ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 عبد الله بن جعفر وعمرو بن العاص ... 119- عبد الله بن جعفر "المتوفى سنة 80هـ" وعمرو بن العاص: قال ابن أبي الحديد: روى المدائني قال: "بينا معاوية يومًا جالسًا وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذن: قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقال عمرو: والله لأسوأنه اليوم، فقال معاوية: لا تفعل يا أبا عبد الله، فإنك لا تنتصف منه، ولعلك أن تظهر لنا من منقبته1 ما هو خفي عنا، وما لا نحب أن نعلمه منه، وغشيهم عبد الله بن جعفر، فأدناه معاوية وقربه، فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية، فنال من علي عليه السلام جهارًا غير ساتر له، وثلبه ثلبًا2 قبيحًا، فامتقع3 لون عبد الله، واعتراه أفكل4، حتى أرعدت خصائله5 ثم نزل عن السرير كالفنيق6، فقال عمرو: مه يا أبا جعفر، فقال له عبد الله: مه لا أمَّ لك، ثم قال: أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يتجهل الرجل الحليم   1 المنقبة: المفخرة. 2 ثلبه: عابه. 3 تغير لونه. 4 الأفكل: الرعدة. 5 جمع خصيلة: وهي لحم الفخذين والعضدين والذراعين، أو كل عصبة فيها لحم غليظ. 6 الفنيق: الفحل المكرم لا يؤذى لكرامته على أهله ولا يركب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 ثم حسر عن ذراعيه، وقال: "يا معاوية حتام نتجرع غيظك، وإلى كم الصبر على مكروه قولك، وسيء أدبك، وذميم أخلاقك، هبلتك الهبول1، أما يزجرك ذمام2 المجالسة عن القذع3 لجليسك إذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك، والله لو عطفتك أواصر4 الأرحام، أو حاميت على سهمك من الإسلام، ما أرعيت بني الإماء المُتْك5، والعبيد السك6 أعراض قومك، وما يجهل موضع الصفوة7 إلا أهل الجفوة، وإنك لتعرف وشائج8 قريش، وصفوة غرائزها، فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين، ومحاربة أمير المؤمنين، إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه، فاقصد لمنهج الحق فقد طال عمهك9 عن سبيل الرشد، وخبط في ديجور10 ظلمة الغي، فإن أبيت أن لا تتابعنا في قبح اختيارك لنفسك، فأعفنا عن سوء القالة11 فينا، إذا ضمنا وإياك الندى12، وشأنك وما تريد إذا خلوت، والله حسيبك، فوالله لولا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك، ثم قال: إن كلفتني ما لم أطق، ساءك ما ستر مني من خلق".   1 هبلته أمه: ثكلته، والهبول: المرأة لا يعيش لها ولد. 2 الذمام: الحرمة. 3 قذعه وأقذه: رماه بالفحش وسوء القول. 4 جمع آصرة، وهي القرابة وحبل صغير يشد به أسفل الخباء. 5 المتك: جمع متكاء "كحمراء" وهي البظراء والمفضاة والتي لا تمسك البول. 6 السك جمع أسك من السكك "محركة"، وهو صغر الأذن ولزوقها بالرأس، أو صغر فوق الأذن وضيق الصماخ. 7 أي صفوة القوم وسادتهم. 8 في الأصل "وشاتك" وقد بحثت في مادة "وشك" فوجدت فيها "والوشيك السريع والقريب، وامرأة وشيك: أي سريعة" فلو جعلنا وشائك جمع وشيكة "أو وشيك على التأنيث" لم يستقم معنى العبارة، وأراه محرفًا عن "وشائج" بالجيم. جمع وشيجة، وهي عرق الشجرة، فمعنى وشائج قريش أصولها وعروقها "والعرق أصل كل شيء" أي وإنك يا معاوية لتعرف أصول قريش الكريمة الزاكية التي تأبى الضيم ولا تحتمل الثلب والإهانة "والوشيج أيضًا شجر الرماح" ونظير هذا التعبير قول الفرزدق "مشتقة من رسول الله نبعته" – والنبع: شجر تتخذ منه القمى والسهام. 9 العمة محركة: التردد في الضلال. 10 الديجور: الظلام. 11 القول في الخير، والقال والقيل والقالة في الشر. 12 النادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فقال معاوية: يا أبا جعفر نغيِّر الخطأ، أقسمت عليك لتجلسنَّ، لعن الله من أخرج ضب صدرك من وجاره1، محمول لك ما قلت، ولك عندنا ما أملت، فلو لم يكن محتِدك2 ومنصبك لكان خُلقك وخَلقك شافعين لك إلينا، وأنت ابن ذي الجناحين وسيد بني هاشم، فقال عبد الله: كلا بل سيد بني هاشم حسنٌ وحسينٌ لا ينازعهم في ذلك أحد، فقال: أبا جعفر أقسمت عليك لما ذكرت حاجة لك إلا قضيتها كائنة ما كانت، ولو ذهبت بجميع ما أملك، فقال: أما في هذا المجلس فلا، ثم انصرف، فأتبعه معاوية بصره فقال: والله لكأنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مشيه وخلقه وخلقه، وإنه لمن مشكاته3، لوددت أنه أخي بنفيس ما أملك. ثم التفت إلى عمرو فقال: أبا عبد الله ما تراه منعه من الكلام معك؟ قال: ما لا خفاء به عنك. قال: أظنك تقول: إنه هاب جوابك؟ لا والله ولكنه ازدراك واستحقرك ولم يرك للكلام أهلا، أما رأيت إقباله علي دونك، ذاهبا بنفسه عنك؟ فقال عمرو: فهل لك أن تسمع ما أعددته لجوابه؟ قال معاوية: أرغب إليك أبا عبد الله، فلات حين جوابٍ فيما يُرى اليوم؛ ونهض معاوية وتفرق الناس. "شرح ابن أبي الحديد م2: ص104"   1 جحره. 2 أصلك. 3 المشكاة: الكوة التي ليست بنافذة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 120- الحسن بن علي وعمرو بن العاص: ووفد الحسنُ بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على معاوية، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين إن الحسن رجل أفه1، فلو حملته على المنبر فتكلم وسمع الناس كلامه عابوه وسقط من عيونهم ففعل، فصعد على المنبر وتكلم فأحسن، ثم قال: أيها الناس لو   1 أفه: وصف من الفهاهة، وهي العي، وفعله فهه كفرح، وقياس الوصف منه أفه على أفل لأنه يدل على خلقة "عيب" كعور وعمى وعرج، ولكن الذي في كتب اللغة: فه كعذب وفهيه وفهفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 طلبتم ابنا لنبيكم ما بين جَابَرْسَ إلى جَابَلْقَ1 لم تجدوه غيري وغير أخي: "وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين" فساء ذلك عمرًا، وأراد أن يقطع كلامه، فقال له: أبا محمد، هل تنعت الرطب2؟ فقال: "أجل تلقحه الشمال، وتخرجه الجنوب، وينضجه برد الليل، بحر النهار3" قال: أبا محمد، هل تنعت الخراءة4؟ قال: "نعم، تبعد الممشى في الأرض الصحصح5، حتى تتوارى من القوم، ولا تستقبل القبلة، ولا تستدبرها، ولا تستنج بالروثة، ولا العظم، ولا تبل في الماء الراكد" وأخذ في كلامه. "العقد الفريد 2: 115، وعيون الأخبار م2: 172، ومعجم البلدان 3: 22"   1 جابرس: مدينة بأقصى المشرق، وجابلق: مدينة بأقصى المغرب، وضبطها ياقوت في معجمه بسكون اللام، وفي القاموس ولسان العرب بفتحها، قال ياقوت: "وفي رواية: جابلص" وضبطها صاحب اللسان بفتح اللام. وفي القاموس بفتح اللام أو سكوها: بلد بالمغرب ليس وراءه إنسي، وفي العقد الفرد: "لو طلبتم أبناء أبيكم ما بين لابتيها" ولابتا المدينة: حرتان تكتنفانها. 2 يسأله هذا وما بعده تعجيزًا له. 3 وفي العقد: "وتنضجه الشمس، ويصبغه القمر". 4 خري كسمع خراءة بفتح الخاء وكسرها: سلح. 5 الصحصح: ما استوى من الأرض. وفي العقد الفريد "للصحيح" وهو تحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 121- الحسن بن علي ومروان بن الحكم: بينما معاوية بن أبي سفيان جالس في أصحابه إذ قيل له: الحسن بالباب، فقال معاوية: إن دخل أفسد علينا ما نحن فيه، فقال له مروان بن الحكم: ائذن له، فإني أسأله ما ليس عنده فيه جواب، قال معاوية: لا تفعل، فإنهم قوم قد ألهموا الكلام. وأذن له، فلما دخل وجلس، قال له مروان: أسرع الشيب إلى شاربك يا حسن، ويقال: إن ذلك من الخرق1، فقال الحسن: ليس كما بلغك، ولكنا معشر بني هاشم، أفواهنا عذبة   1 الخرق كسبب: الحمق، وألا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور والاسم الخرق كقفل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 شفاهها، فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهن وقُبَلهن، وأنتم معشر بني أمية فيكم بخر 1 شديد، فنساؤكم يصرفن أفواههن وأنفاسهن عنكم إلى أصداغكم، فإنما يشيب منكم موضع العذار 2 من أجل ذلك. قال مروان: إن فيكم يا بني هاشم خصلة سوء. قال: وما هي؟ قال: الغلمة3. قال: أجل، نزعت الغلمة من نسائنا، ووضعت في رجالنا ونزعت الغلمة من رجالكم ووضعت في نسائكم، فما قام لأموية إلى هاشمي؛ فغضب معاوية، وقال: قد كنت أخبرتكم، فأبيتم حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم، وأفسد عليكم مجلسكم". "العقد الفريد 2: 115"   1 البخر: النتن في الفم وغيره. 2 العذار: جانبا اللحية. 3 الغلمة: شدة الشهوة كالشبق بالتحريك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 122- عقيل بن أبي طالب ومعاوية : وكان عقيل بن أبي طالب قد خرج إلى معاوية مغاضبا لأخيه الإمام علي كرم الله وجهه1، فأكرمه معاوية، وقربه إليه، وقضى حوائجه، وقضى عنه دينه، ثم قال له في بعض الأيام: "والله إن عليًّا غير حافظ لك، قطع قرابتك، وما وصلك، ولا اصطنعك" قال له عقيل: "والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنه بالله إذ ساء به ظنك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته، إذ خنتم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أبا لك؛ فإنه عما تقول بمعزل". وقال له معاوية يومًا: "أبا يزيد، أنا لك خير من أخيك عليٍّ" قال "صدقت، إن   1وكان قد قدم عليه بالكوفة، فسأله أن يقضي عنه دينه، قال: وكم دينك؟ قال: أربعون ألفا، قال: ما هي عندي، ولكن اصبر حتى يخرج عطائي، فإنه أربعة آلاف فأدفعه إليك، قال: بيوت المال بيدك وأنت تسوفني بعطائك؟ قال: أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها؟ قال: فإني آتٍ معاوية، فأذن له، فقدم عليه "انظر أسد الغابة 3: 423، الفخري ص76" اقرأ أيضًا كلمة في هذا الصدد في شرح ابن أبي الحديد م3: 82 وفي ترجمة عليِّ بن أبي طالب للمؤلف ص83. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 أخي آثر دينه على دنياه، وأنت آثرت دنياك على دينك، فأنت خير لي من أخي، وأخي خير لنفسه منك1". وقال له مرة: "أنت معنا يا أبا يزيد" قال: "ويوم بدر قد كنت معكم! ". وقال له يومًا: "إن عليًّا قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر". قال: "أفعل، فَأُصْعِدَ فصعد، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أيها الناس إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ثم نزل، فقال له معاوية: إنك لم تبين -أبا يزيد- من لعنتَ بيني وبينه. قال: والله لا زدت حرفًا ولا نقصت آخر، والكلام إلى نية المتكلم". ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره، فأجلسه على سريره، ثم قال له: "أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم" قال: "وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم". وقال له يومًا: ما أبينَ الشَّبَقَ في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم أبين يا بني أمية. وقال معاوية يومًا: "يأهل الشام، هل سمعتم قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كتابه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ 2 وَتَبَّ} ؟ قالوا: نعم، قال: فإن أبا لهب عَمُّه، فقال عقيل: فهل سمعتم قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْ حَطَبِ 3} قالوا: نعم، قال: فإنها عَمَّتُه، ثم   1 وفي البيان والتبيين أن معاوية قال: هذا أبو يزيد، لولا أنه علم أني خير له من أخيه لا أقام عندنا وتركه، فقال له عقيل: "أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي". 2 هو أبو لهب بن عبد المطلب عم الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان شديد الإيذاء له، يرمي القذر على بابه. 3 هي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، وقيل لها حمالة الحطب، لأنها كانت تحمل الشوك والسعدان وتلقيه في طريق النبي عليه الصلاة والسلام؛ إيذاءً له وكانت جارته، أو هو النميمة إذ كانت تسعى عليه بالنمائم وتوقد بذلك نار الخصومة، أو حطب جهنم، فإنها كانت تحمل الأوزار بمعاداته، وتحمل زوجها على إيذائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قال "يا معاوية، إذا دخلت النار، فاعدل ذات اليسار، فإنك ستجد عمي أبا لهب، مفترشًا عمتك حمالة الحطب، فانظر أيهما خير". وقال له معاوية يومًا: والله إن فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم. قال: وما هي؟ قال: لِينٌ فيكم. قال: لينُ ماذا؟ قال: هو ذاك. قال: إيانا تُعَيِّر يا معاوية؟ أجل والله إن فينا للينا من غير ضعف، وعزًّا من غير جبروت، وأما أنتم يا بني أمية، فإن لينكم غدر، وعزكم كفر. قال معاوية: ما كل هذا أردنا يا أبا يزيد. وقال معاوية لعقيل: لم جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول: وإني امرؤ مني التكرم شيمة ... إذا صاحبي يومًا على الهون أضمرا ثم قال: "وايم الله يا معاوية، لئن كانت الدنيا مهدتك مهادها، وأظلتك بحذافير1 أهلها، ومدت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة، ولا تخشعا لرهبة" قال معاوية: "لقد نعتها أبا يزيد نعتا هش لها قلبي، وإني لأرجو أن يكون الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ما رَدَّاني برداء ملكها، وحباني بفضيلة عيشها، إلا لكرامة ادخرها لي، وقد كان داود خليفة، وسليمان ملكًا، وإنما هو المثال يحتذى عليه، والأمور أشباه، وايم الله يا أبا يزيد، لقد أصبحت علينا كريمًا، وإلينا حبيبًا، وما أصبحت أضمر لك إساءة". "العقد الفريد 2: 110-119، البيان والتبيين 2: 174"   1 الحذافير: جمع حذفور أو حذفار "كعصفور وقرطاس" وهو الجانب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 123- خطبة السيدة أم كلثوم بنت عليِّ في أهل الكوفة بعد مقتل الحسين عليهم السلام: لما قتل الحسين بن عليّ عليهما السلام، وأدخل النسوة من كربلاء إلى الكوفة جعلت نساؤها يلتدمن1، ويهتكن الجيوب عليه، فرفع علي بن الحسين عليهما السلام رأسه، وقال بصوت ضئيل -وقد نحل2 من المرض- يأهل الكوفة إنكم تبكون علينا، فمن قتلنا غيركم؟ وأومأت أم كلثوم بنت عليٍّ عليهما السلام إلى الناس أن اسكتوا، فلما سكنت الأنفاس، وهدأت الأجراس3، قالت. "أبدأ بحمد الله، والصلاة والسلام على نَبِيَهْ4، أما بعد: يأهل الكوفة يأهل الختر5 والخذل، لا، فلا رقأت6 العبرة، ولا هدأت الرنة7، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا8، تتخذون أيمانكم دخلا9 بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف10 والشنف11، وملق12 الإماء، وغمز الأعداء، وهل أنتم   1 لدمت المرأة "كضرب"، والتدمت: لطمت وضربت صدرها في النياحة، ويهتكن: يمزقن، والجيوب جمع جيب: وهو طوق القميص. 2 كمنع وعلم ونصر وكرم. 3 الأجراس جمع جرس كشمس: وهو الصوت. 4 تريد جدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي رواية: "والصلاة على جدي سيد المرسلين". 5 الغدر والخديعة، أو أقبح الغدر. 6 رقأ الدمع: جف وسكن، والعبرة: الدمعة قبل أن تفيض. 7 الرنة: الصوت. 8 أنكاثا: جمع نكث كحمل، وهو ما نقض ليغزل ثانية -حال من غزلها، أو مفعول ثانٍ لنقضت لأنه بمعنى صيرت- وقيل: هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية، وكانت خرقاء تغزل طول يومها ثم تنقضه. 9 الدخل: ما يدخل في الشيء وليس منه، وما دخل من فساد في عقل أو جسم، والغدر والمكر والخديعة. 10 الصلف: التمدح بما ليس عندك، أو مجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرًا. 11 الشنف: النظر بمؤخر العين، أو النظر إلى الشيء كالمعترض عليه، أو كالمتعجب منه، أو كالكاره له، وشنف له كفرح فرحا: أبغضه وتنكره. 12 ملق الجارية: مجامعتها، أو هو ملق بالتحريك، والملق: التملق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 إلا كمرعًى على دمنة1، وكفضة على ملحودة2، ألا ساء ما قدمت أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون، أتبكون؟ إي والله فابكوا، وإنكم والله أحرياء3 بالبكاء، فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها وشنارها4 ولن تُرْحِضوها5 بِغَسْل بعدها أبدًا، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شبان أهل الجنة، ومنار محجتكم، ومدرة6 حجتكم، ومفرخ7 نازلتكم، فتعسًا ونُكْسًا8، لقد خاب السعي، وخسرت الصفقة9، وبؤتم10 بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة، لقد جئتم شيئا إدًا11، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا12؛ أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم؟ لقد جئتم بها شوهاء خرقاء13، شرُّها طِلاعُ14 الأرض والسماء؛ أفعجبتم أن قطرت السماء دمًا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون؛ فلا ستخفنكم المهل، فإنه لا تحفزه المبادرة15، ولا يخاف عليه فوت الثأر، كلا، إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد16" ثم   1 الدمنة: آثار الدار بعد الرحيل عنها من البعر والرماد وغيرهما، أخذت هذا القول من قول جدها عليه الصلاة والسلام: "إياكم وخضراء الدمن" وهي المرأة الحسناء في منبت السوء. 2 ملحودة: مدفونة في لحدها، تريد أنهم لا ينتفع بهم. 3 جديرون. 4 الشنار: أقبح العيب. 5 رحضه كمنعه وأرحضه: غسله. 6 دره عن القوم كمنع: إذا تكلم عنه ودفع فهو مدره. 7 أي مذهب ومزيل، يقال: "أفرخ روعك" -على الأمر وبضم الراء من روعك- أي اسكن وأمن، والروع: القلب. 8 التعس: الهلاك، ونكسه نكسا: قلبه على رأسه، والنكس بالضم عود المرض بعد النقه، ويقال: تعسا له ونكسا، بضم النون وقد يفتح ازدواجا. 9 البيعة. 10 رجعتم. 11 أي فظيعا منكرا 12 يتشققن، وتخر: تسقط، هدًّا: أي تهد هدا 13 بها أي بفعلتكم هذه، وخرقاء من الخرق: وهو ألا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور. 14 طلاع الشيء: ملؤه 15 أي لا تدفعه إلى العقوبة المبادرة إلى الذنب، والضمير لله تعالى. 16 المرصاد: الطريق والمكان يرصد فيه العدو، ورصده: رقبه، أي يرصد أعمال العباد فلا يفوته منها شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ولَّتْ عنهم، فظل الناس حيارى، وقد ردوا أيديهم إلى أفواههم، وقال شيخ كبير من بني جُعْفِيّ -وقد اخضلت1 لحيته من دموع عينيه: كهولهم خير الكهول ونسلهم ... إذا عد، نسل لا يبور ولا يخزى "بلاغات النساء ص27"   1 ابتلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 124- خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام بين يدي يزيد: ولما وجه عبيد الله بن زياد آل الحسين عليه السلام إلى يزيد بدمشق، ومثلوا بين يديه أمر برأس الحسين، فأبرز في طست، فجعلَ ينكت ثناياه بقضيب في يده، وهو يقول من أبيات1: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ... جَزَع الخزرج مِن وقع الأسل2 لأهلوا واستهلوا فرحا ... ثم قالوا: يا يزيد لا تشل3 فجزيناهم ببدر مثلها ... وأقمنا ميل بدر فاعتدل4 فقالت زينب بنت علي عليهما السلام: صدق الله ورسوله يا يزيد! {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} أظننت يا يزيد أنه حين أُخِذَ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء، فأصبحنا نساق كما يساق   1تمثل يزيد بهذه الأبيات وهي لعبد الله بن الزبعرى، قالها في غزوة أحد، وهو يومئذ مشرك، وكان يهجو المسلمين، ويحرض عليهم كفار قريش في شعره، ثم أسلم بعد فتح مكة. 2 كانت الغلبة يوم بدر للمسلمين ويوم أحد للمشركين، والأسل: الرماح والنبل والخزرج: قبيلة من الأنصار. 3 كل من رفع صوته فقد أهل إهلالا واستهل استهلالا، وشلت يده تشل كتعب يتعب، وأشلت وشلت مبنيين للمجهول: يبست وهي جملة دعائية، يقال في الدعاء: "لا تشلل يدك ولا تكلل" -والبيت من قول يزيد-. 4 لا تنس ما قدمناه لك من أن عليًّا كرم الله وجهه كان قد وتر آل أبي سفيان بدر، فقتل حنظلة بن أبي سفيان أخا معاوية، والوليد بن عتبة خاله، وعتبة بن ربيعة جده لأمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الأسارى، أن بنا هوانًا على الله، وبك عليه كرامة؟ وأن هذا لعظيم خطرك؟ فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفي1، جذلان فرحًا، حين رأيت الدنيا مستوسقة لك، والأمور متسقة2 عليك، وقد أُمْهِلْتَ ونُفِّسْتَ3، وهو قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي 4 لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أمن العدل، يابن الطلقاء تخديرك5 نساءك وإماءك وسوقك بنات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد هتكتَ ستورهن، وأصحلتَ6 صوتهن، مكتئبات تخدي7 بهن الأباعر، ويحدو8 بهن العادي، من بلد إلى بلد، لا يراقبن ولا يؤوين، يتشوفهن9 القريب والبعيد، ليس معهن ولي10 من رجالهن، وكيف يُستبطأ في بغضتنا من نظر إلينا بالشنف11 والشنآن، والإحن والأضغان؟ أتقول: "ليت أشياخي ببدر شهدوا" غير متأثم ولا مستعظم؟ وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك12، ولم لا تكون كذلك وقد نكأت13 القرحة، واستأصلت الشأفة14، بإهراقك دماء ذرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونجوم   1 أي جانبيك، وهو كناية عن إعجابه بنفسه. 2 من استوسقت الإبل: أي اجتمعت، ومتسقة: منتظمة. 3 أي فسح لك في أمرك، من نفس الله كربته: فرجها. 4 نمهل. 5 صونهن في خدورهن. 6 أبححته، صحل صوته كفرح: بح. 7 خدى البعير والفرس كجرى: أسرع وزج بقوائمه، أو هو ضرب من سيرهما. 8 يسوق. 9 يتطاول وينظر إليهن ويشرف عليهن. 10 قريب أو نصير. 11 سبق تفسيره، وفي الأصل "بالشنق" وهو تحريف "والشنق: أن تكف البعير بزمامه حتى تلزق ذفراه بقادمة الرحل، والذفرى بكسر الذال: العظم الشاخص خلف الأذن"، والشنآن: الكراهية، والإحن: الأحقاد. 12 المخصرة: ما يأخذه الملك يشير به إذا خاطب. 13 نكأ القرحة كمنع: قشرها قبل أن تبرأ فنديت، كناية عن نبشه عما كاد ينسى من العداوة بين بني هاشم وبني أمية. 14 الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى، فتذهب، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الأرض من آل عبد المطلب، ولتردنَّ على الله وشيكا1 موردهم، ولتودن أنك عميت وبكمت وأنك لم تقل: "فاستهلوا وأهلوا فرحا" اللهم خذ بحقنا، وانتقم لنا ممن ظلمنا، والله ما فريت إلا في جلدك، ولا حززت إلا في لحمك، وسترد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برغمك2. وعترته ولحمته في حظيرة القدس3 يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث4. وهو قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وسيعلم من بوأك5 ومكنك من رقاب المؤمنين -إذا كان الحَكَمَ اللهُ، والخصمَ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجوارحك شاهدة عليك فبئس للظالمين بدلا- أيكم شر مكانا وأضعف جندا، مع أني والله يا عدو الله وابن عدوه، أستصغر قدك، وأستعظم تقريعك6، غير أن العيون عبرى والصدور حرى7، وما يجزي ذلك أو يغني عنا؛ وقد قتل الحسين عليه السلام، وحزب الشيطان8 يقربنا إلى حزب السفهاء9، ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله، فهذه الأيدي تنطف10 من دمائنا، وهذه الأفواه تتحلب11 من لحومنا، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفَلَوَات12، فلئن اتخذتنا مغنما لتتخذن مغرمًا، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ13 يابن مرجانة، ويستصرخ بك، وتتعاوى وأتباعك.   1 سريعا. 2 الرغم: الذل. 3 العترة: رهط الرجل وعشريته الأدنون، واللحمة: القرابة، والقدس: الطهر، أي في الجنة. 4 التفرق. 5 أي أحلك في كرسي الخلافة وهو معاوية. 6 التقريع: التأنيب. 7 عين عبرى: جرت عبرتها، والصدور حرى: شديد الحرارة، كناية عن شدة الحزن. 8 تريد عبيد الله بن زياد ورجاله. 9 أي إلى يزيد وشيعته. 10 نطف الماء كنصر وضرب: سال، ونطف كفرح، وعني: تلطخ بعيب. 11 تحلب العرق: سال وتحلب بدنه عرقا: سال عرقه. 12 الزواكي: جمع زاكية من زكا إذا صلح وتنعم، واعتام: أخذ العيمة بالكسر وهي خيار المال، وعسل الذئب عسلانا كجرى جريانا: أعنق وأسرع، والعاسل: الذئب وجمعه كركع وفوارس، والمراد هنا معنى الجمع لا المصدر: أي ذؤبان الفلوات، ولم أجد في كتب اللغة لعاسل جمعا غير هذين، إلا أن يراد بالمصدر الوصف. 13 تستغيث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 عند الميزان؛ وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية فتلك ذرية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوالله ما اتقيت1 غير الله، ولا شكواي إلا إلى الله، فكد كدك، واسع سعيك، وناصب جهدك2. فوالله لا يرحض عنك عار ما أتيت إلينا أبدا، والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبان الجنان، فأوجب لهم الجنة. أسأل الله أن يرفع لهم الدرجات، وأن يوجب لهم المزيد من فضله، فإنه ولي قدير". "بلاغات النساء ص25".   1 أي لا أخاف إلا الله. 2 ناصبه العداوة: أظهرها له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 125- رثاء الحسين لأخيه الحسن عليهما السلام : وقال الحسين بن علي عند قبر أخيه الحسن عليهما السلام: "رحمك الله أبا محمد، إن كنت لتناصر الحق مظانَّه1، وتؤثر الله عند تداحض2 الباطل في مواطن التقية بحسن الروية، وتستشف3جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة، وتفيض عليها يدًا طاهرة الأطراف، نقية الأسرة4، وتردع بدارة غرب أعداك بأيسر المئونة عليك. ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة، ورضيع لبان الحكمة. فإلى روح وريحان وجنة نعيم أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى5 عنه" "عيون الأخبار م2: ص314"   1 في الأصل "لتباصر" بالياء وأراه بالنون، وقوله "مظانه" أي في مظانه، أو هو بدل. 2 هي تفاعل من الدحض، دحض برجله كمنع: فحص بها، ودحضت رجله زلقت، والمعنى: عند تطاحن الباطل ومغالبة بعضه بعضًا. 3 استشفه: نظر ما وراءه. 4 الأسرة جمع سرار ككتاب: الخطوط التي تبدو في ظاهر اليد والجبهة. 5 الأُسى بضم الهمزة وكسرها جمع أسوة بالضم والكسر أيضًا: ما يتعزى به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 126- عبد الله بن هاشم بن عتبة، وعمرو بن العاص في مجلس معاوية : روى المسعود في مروج الذهب قال: "لما قتل علي كرم الله وجهه، كان في نفس معاوية من يوم صفين على هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال وولده عبد الله بن هاشم إحن؛ فلما استعمل معاوية زيادا على العراق، كتب إليه: "أما بعد: فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة، فشد يده إلى عنقه، ثم ابعث به إلي" فحمله زياد من البصرة مقيدًا مغلولا إلى دمشق، وقد كان زياد طرقه بالليل في منزله بالبصرة، فدخل إلى معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو بن العاص: هل تعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا الذي يقول أبوه يوم صفين1: إني شريت النفس لما اعتلا ... وأكثرَ اللوْم وما أقلا2 أعورُ يبغي أهلَه مَحَلا ... قد عالج الحياة حتى ملا3 لا بد أن يَفُلَّ أو يُفلا ... يتُلُّهُم بذي الكعوب تلا4 لا خير عندي في كريم ولَّى   1 وذلك أن عمار بن ياسر جاء إلى هاشم بن عتبة "وكان هاشم أعور فقئت عينه يوم اليرموك بالشام" فقال: يا هاشم، أعورا وجبنا! لا خير في أعور لا يغشى البأس، اركب يا هاشم، فركب ومضى معه وهو يرتجز: إني شريت النفس.. إلخ وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت تحت أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العِين، اليوم ألقى الأحبة محمدًا وحزبه. 2 شريت النفس: أي بعتها في سبيل الله، واعتله: تجنى عليه "أي ادعى ذنبا لم يفعله"، وفاعله ضمير عمار بن ياسر، فمعنى لما اعتل أي لما رماني عمار بالجبن. 3 يبغي أهله محلا: أي يبغي محل أهله أي يطلب مصير أهله الذين استشهدوا في سبيل الله، فسكنوا جنات الخلد، فهو يبغي لقاءهم والاجتماع بهم هناك. 4 يفل: يهزم ويغلب، وتله صرعه، أو ألقاه على عنقه وخده "وفي الأصل: أسلهم بذي الكعوب سلا وهو تحريف، إذ رواية الطبري، وابن الأثير يتلهم بالتاء، أو هو صحيح على معنى: أسل أرواحهم وانتزعها"، وذو الكعوب: الرمح، وكعوب الرمح: النواشر في أطراف الأنابيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فقال عمرو متمثلا: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا1 "دونك يا أمير المؤمنين الضب الضب2، فاشخب أوداجه3 على أسباجه4، ولا ترده إلى أهل العراق، فإنه لا يصبر على النفاق، وهم أهل غدر وشقاق، وحزب إبليس ليوم هيجانه، وإن له هوى سيوديه5، ورأيا سيطغيه6، وبطانة ستقويه، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .   1 الدمن: جمع دمنة، وهي ما اسود من آثار الدار بالبعر والرماد وغيرهما، وهذا البيت لزفر بن الحارث الكلابي من قصيدة قالها، وقد قتل ابناه يوم وقعة مرج راهط، التي نشبت بعد موت معاوية الثاني بين مروان بن الحكم وبين من خالف على الأموية ودعا إلى الزبيرية من الضحاك بن قيس الفهري وأتباعه، ومنهم زفر الكلابي، وقد دارت عليهم الدائرة، وقتل الضحاك "انظر تاريخ الطبري، ومروج الذهب، والعقد الفريد". 2 الضب: حيوان بري يشبه الورل، وهو يتلون ألوانا بحر الشمس كما تتلون الحرباء، وقد ضرب به المثل فقالوا: "أخدع من ضبٍّ، وذلك أنهم كانوا يصيدونه، فيأتي الحارش "حرش الضب واحترشه: صاده" ويحرك يده على باب جحره ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، ولكن الضب شديد الحذر، فإنه يعمد بذنبه باب جحره ليضرب به حية أو شيئا آخر إن جاءه، فيجيء المحترش، فإن كان الضب مجربا أخرج ذنبه إلى نصف الجحر، فإن دخل عليه شيء ضربه وإلا بقي في جحره، فهذا هو خدعه -يعنون به شدة حذره- وقيل إن معناه أن جحره قلما يخلو من عقرب، لما بينهما من الألفة والاستعانة بها على المحترش، فإذا أدخل المحترش يديه لدغته وأنشدوا: وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا ويقولون: "فلان خب ضب" "والخب بالفتح وبكسر المخادع" فيشبهون الحقد الكامن في قلبه الذي يسري ضرره، بخدع الضب في جحره "ومن أمثالهم فيه أيضًا" "أعق من ضب" –يريدون الأنثى، وعقوقها أنها تأكل أولادها، وذلك أن الضبة إذا باضت حرست بيضها من كل ما قدرت عليه من ورل وحَيَّةٍ وغير ذلك، فإذا نقبت أولادها، وخرجت من البيض. ظنتها شيئا يريد بيضها، فوثبت عليها تقتلها، فلا ينجو منها إلا الشريد -وقالوا: "أعقد من ذنب الضب" ذكروا أن فيه إحدى وعشرين عقدة- "وأجبن من ضب"، "وأبلد من ضب"، "وأحيا من ضب"- أي أطول عمرا. 3 الأوداج جمع ودج بالتحريك: عرق في العنق، وشخبت أوداج القتيل دمًا من بابي قتل ونفع: جرت، وشخب اللبن وكل مائع: درَّ وسال، وشخبته أنا يتعدى ولا يتعدى. 4 الأسباج جمع سبجة "كفرصة" وسبجة القميص: لبنته - بنيقته. 5 أي وإن له ميلا إلى آل علي سيهلكه. 6 طغى: جاوز القدر وارتفع وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 فقال عبد الله: "يا عمرو إن أُقتل فرجل أسلمه1 قومه، وأدركه يومه، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بشمال النطاف2، وعقائق الرصاف3، كالأمة السوداء، والنعجة القوداء4 لا تدفع يد لامس". فقال عمرو: "أما والله لقد وقعت في لهذم5 شدقم للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتا من مخاليب أمير المؤمنين". فقال عبد الله: "أما والله يابن العاص، إنك لبطر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غَشُومٌ6 إذا وليت، هياب إذا لَقِيتَ، تهدر7 كما يهدر العود المنكوس، المقيد بين مجرى الشول، لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشدة، أفلا كان هذا منك، إذا غمرك أقوام لم يعنفوا صغارًا، ولم يمزقوا كبارًا. لهم أيد شداد، وألسنة حداد،   1 خذله. 2 النطاف جمع نطفة "كفرصة" وهي الماء الصافي، قل أو كثر، وفي الحديث: "قطعنا إليهم هذه النطفة" أي البحر وماءه، وفي حديث علي: "وليمهلها عند النطاف والأعشاب" يعني الإبل والماشية، يريد أنها إذا وردت على المياه والعشب يدعها لترد وترعى. 3 الرصفة بالتحريك الحجارة التي يرصف بعضها إلى بعض في مسيل، فيجتمع فيها ماء المطر، والعقائق: الغدران، يقال لكل مسيل شقه ماء السيل فأنهره ووسعه عقيق، والجمع أعقة وعقائق، وقيل: العقائق هي الرمال الحمر. 4 مؤنث الأقود: وهو الذلول المنقاد. 5 جمع لهذم كجعفر: وهو القاطع من الأسنة، والشدقم: الأسد، والواسع الشقد، وشدقم للأقران أي أسد مبتلع للأقران، واللبد جمع لبدة بالكسر، ولبدة الأسد: ما تلبتد من شعره على منكبيه، وكنيته "ذو لبدة" ويكنى أيضًا أبا الأبطال، وأبا شبل، وأبا العباس، وأبا الحارث، وأبا حفص، وأبا الزعفران. 6 ظلوم، غشمه كضربه غشما ظلمه. 7 هدر البعير وهدر بالتشديد: صوت، وفي المثل "كالمهدر في العنة" والعنة بضم العين وتشديد النون: الحظيرة. يضرب لمن يصيح ويجلب ولا ينفذ قوله ولا فعله، كالبعير يحبس في الحظيرة ممنوعا من الضراب وهو يهدر، والعود: المسن من الإبل، والمنكوس: الذي عاوده المرض بعد النقه، والشول جمع شائله، وهي من الإبل ما أى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 يدعمون العَوَج1، ويذهبون الحَرَج2، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويُعزُّون الذليل"؟ فقال عمرو: أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق3 أحشاؤه، وتبق4 أمعاؤه وتضطرب أصلاؤه5، كأنما انطبق عليه ضمد6". فقال عبد الله: "يا عمرو، إنا قد بلوناك ومقالتك، فوجدنا لسانك كذوبًا غادرًا، خلوت بأقوام لا يعرفونك، وجند لا يسأمونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام، لجحظ7 إليه عقلك، ولتلجلج لسانك، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود8 الذي أثقله حمله". فقال معاوية: "إيها9 عنكما، وأمر بإطلاق عبد الله، قال عمرو لمعاوية: أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم أليس أبوه "يا معاوية" الذي ... أعان عليا يوم حز الغلاصم10 فلم ينثني حتى جرت من دمائنا ... بصفين أمثال البحور الخضارم11 وهذا ابنه، والمرء يشبه سنخه ... ويوشك أن تقرع به سن نادم12   1 العوج: بالفتح، في كل ما كان منتصبا مثل الإنسان والعصا والعود وشبهه، والعود: بالكسر، ما كان في بساط أو أرض أو معاش أو دين، وقيل بالفتح مصدر وبالكسر اسم منه، ودعمه "كمنعه" مال فأقامه. 2 حرج صدره كفرح حرجا: ضاق. 3 تضطرب. 4 تخرج، بق النبت بقوقا: طلع. 5 جمع صلا بالفتح: وهو وسط الظهر من الإنسان ومن كل ذي أربع، وقيل: هو ما انحدر من الوركين. 6 ضمد جرحه: شده بالضماد والضماد "بالكسر" أي العصابة، والجمع ضمد ككتب. 7 من جحظت العين جحوظا: إذا برزت مقلتها، والمراد اضطرب عقلك وشرد ولم يسلس لك قياد التفكير. 8 القعود من الإبل: الذي يقتعده الراعي في كل حاجة. 9 أمر بالسكوت. 10 الغلاصم: جمع غصلمة بفتح الغين والصاد، وهي رأس الحلقوم -الموضع الثاني في الحلق- أو أصل اللسان. 11 الخضارم جمع خضرم بكسر الخاء والراء: البحر العظيم، وإثبات الياء في يتثنى مع الجازم لغة أو الضرورة أو إشباع والحرف الأصلي محذوف للجازم. 12 قرع فلان سنه: حرقه ندمًا "حرق نابه -كنصر وضرب- سحقه حتى سمع له صريف" وسكن الفعل للضرورة، والسنخ: الأصل من كل شيء، "وفي الأصل شيخه وهو تصحيف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 فقال عبد الله يجيبه: معاوي: إن المرء عمرا أبت له ... ضغينة صدر غشها غير نائم يرى لك قتلى "يابن هند" وإنما ... يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم على أنهم لا يقتلون أسيرهم ... إذا منعت منه عهود المسالم وقد كان منا يوم صفين نعرة ... عليك جناها هاشم وابن هاشم1 قضى ما انقضى منها، وليس الذي مضى ... ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم2 فإن تعف عني تعف عن ذي قرابة ... وإن تر قتلي تستحل محارمي3 فقال معاوية: أرى العفو عن عُليا قريش وسيلة ... إلى الله في اليوم العصيب القماطر4 ولست أرى قتل العداة ابن هاشم ... بإدراك ثأري في لؤي وعامر5 بل العفو عنه بعد ما بان جرمه ... وزلت به إحدى الجدود العوائر فكان أبوه يوم صفين جمرة ... علينا فأردته رماح نهابِرِ6   1 نعر القوم كمنع: هاجوا واجتمعوا في الحرب، ونعر الرجل خالف، وفي الأصل "نقرة" وهو تصحيف. 2 قضى: مات وذهب، وأضغاث حالم: رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها. 3 كان عبد الله بن هاشم من أقرباء معاوية، إذ هو ابن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، ومعاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، فهو يجتمع مع معاوية في جده كلاب. 4 يوم عصيب: شديد، ويوم قاطر وقطرير: شديد أيضًا. 5 العداة جمع عاد: وهو العدو، ولؤي هو الجد التاسع لمعاوية وعبد الله بن هاشم "والجد الثامن للنبي عليه الصلاة والسلام" وعامر: هو عامر بن لؤي. 6 النهابر: المهالك جمع نهبرة بضم النون والباء وكذا النهابير جمع نهبورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 127- عبد الله بن هاشم في مجلس معاوية : وحضر عبد الله بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية، فقال معاوية: "من يخبرني عن الجود والنجدة والمروءة"؟ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، أما الجود: فابتذال المال، والعطية قبل السؤال: وأما النجدة: فالجراءة على الإقدام، والصبر عند ازورار الأقدام1. وأما المروءة فالصلاح في الدين، والإصلاح للحال، والمحاماة عن الجار". "مروج الذهب 2: 57"   1 أي عند انحرافها وتزلزلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 قيس بن سعد بن عبادة ومعاوية : ودخل قيس بن سعد بن عبادة بعد وفاة علي ووقوع الصلح، في جماعة من الأنصار على معاوية، فقال لهم معاوية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 128- مقال معاوية : "يا معشر الأنصار، بم تطلبون ما قبلي؟ فوالله لقد كنتم قليلا معي، كثيرًا مع علي، ولقد فللتم حدي يوم صفين، حتى رأيت المنايا تلظى1في أسنتكم، وهجوتموني في أسلافي بأشد من وقع الأسنة، حتى إذا أقام الله منا ما حاولتم ميله، قلتم ارع فينا وصية رسول الله2 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هيهات يأبى الحقير الغدرة".   1 تتلظى: أي تتلهب. 2 وقد وصى عليه الصلاة والسلام بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 129- رد قيس بن سعد: فقال قيس: "نطلب ما قِبَلك بالإسلام الكافي به الله، لا بما نمت به إليك من الأحزاب؛ وأما عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك، وأما هجاؤنا إياك فقول يزول باطله، ويثبت حقه، وأما استقامة الأمر فعلى كره كان منا، وأما فلُّنا حدك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى طاعته لله طاعة، وأما وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنا، فمن آمن به رعاها بعده، وأما قولك يأبى الحقير الغدرة، فليس دون الله يد تحجزك منا يا معاوية. فقال معاوية يموِّه: "ارفعوا حوائجكم". "مروج الذهب 2: 63، والعقد الفريد 2: 121" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 130- معاوية وصعصعة بن صوحان وعبد الله بن الكواء: روى المسعودي في مروج الذهب قال: حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي، وعبد الله بن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب علي، مع رجال من قريش، فدخل عليهم معاوية يومًا، فقال: "نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقًّا وصدقا، أي الخلفاء رأيتموني"؟ فقال ابن الكواء: "لولا أنك عزمت علينا ما قلنا، لأنك جبار عنيد، لا تراقب الله في قتل الأخيار، ولكنا نقول: إنك -ما عَلمْنا- واسع الدنيا ضيق الآخرة1، قريب الثرى بعيد المرعى2، تجعل الظلمات نورًا، والنور ظلمات" فقال معاوية: "إن الله أكرم هذا الأمر   1 أي إنك ذو حظ وافر في الدنيا وليس لك من ثواب الآخرة من نصيب. 2 قريب الثرى: قريب الحلول في الثرى: أي قريب الأجل، وبعيد المرعى: كناية عن أنه بعيد الأمل. والمعنى أنك واسع الآمال بعيد مرعى الأماني، مع يقينك أن الارتحال عن هذه الدار وشيك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 بأهل الشام، الذابين عن بيضته، التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق، المنتهكين لمحارم الله، والمحلي ما حرم الله، والمحرمين ما أحل الله" فقال عبد الله بن الكواء: "يابن أبي سفيان، إن لكل كلام جوابا، ونحن نخاف جبروتك، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق، بألسنة حداد، لا يأخذها في الله لومة لائم، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فَرَجه" قال: "والله لا يُطلق لك لسان". ثم تكلم صعصعة فقال: "تكلمت يابن أبي سفيان، فأبلغت، ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أني يكون الخليفة من ملك الناس قهرا، ودانهم1 كبرا، واستولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا؟ أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى2، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: "لا حُلِّي ولا سيرى"، ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير3 ممن أجلب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما أنت طليق ابن طليق4، أطلقكما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنى تصلح الخلافة لطليق؟ "، فقال معاوية: "لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:   1 دانه: ملكه وأذله واستعبده. 2 أي مالك ضرب ولا رمى. 3 العير: الإبل تحمل الميرة، والمراد بها هنا عير قريش التي كان يقودها أبو سفيان بن حرب -وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تحين انصرافها من الشام- فلما دنا أبو سفيان من المدينة، وعرف أن عيون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترصده ساحل بعيره "أتى بها الساحل" وترك بدرًا يسارًا، وقد كان بعث إلى قريش حين فصل من الشام يخبرهم بما يخافه من محمد، فأقبلت قريش من مكة، فأرسل إليهم أبو سفيان يخبرهم أنه قد أحرز العير "أي حصَّنها" ويأمرهم بالرجوع، فأبت قريش أن ترجع، ورجعت بنو زهرة وعدلوا إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال: يا بني زهرة لا في العير ولا في النفير "فذهبت مثلا" قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع، ومضت قريش إلى بدر، فقاتلهم النبي، وأظفره الله بهم، والنفير: القوم يستنفرون للحرب وهم هنا مشركو مكة الذين خرجوا يستنقذون العير، وكان رئيسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس جد معاوية لأمه. 4 الطلقاء: هم الذي عفا عنهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد فتح مكة، فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 قابلت جهلهم حلمًا مغفرة ... والعفو عن قدرة ضرب من الكرم لقتلكم" "مروج الذهب 2: 78" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 131- صعصعة بن صوحان ومعاوية : ودخل صعصعة بن صوحان على معاوية، فقال: "يابن صوحان، أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها، فأخبرني عن أهل البصرة، وإياك والحمل على قوم لقوم" قال: "البصرة واسطة1 العرب، ومنتهى الشرف والسؤدد، وهم أهل الخطط2 في أول الدهر وآخره، وقد دارت بهم سروات3 العرب كدوران الرحى على قطبها"، قال: فأخبرني عن أهل الكوفة، قال: "قبة الإسلام، وذروة الكلام، ومصان ذوي الأعلام -إلا أن بها أجلافًا4 تمنع ذوي الأمر الطاعة، وتخرجهم عن الجماعة- وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة". قال: فأخبرني عن أهل الحجاز، قال: "أسرع الناس إلى فتنة، وأضعفهم عنها، وأقلهم غناء5 فيها، غير أن لهم ثباتًا في الدين، وتمسكًا بعروة اليقين، يتبعون الأئمة الأبرار، ويخلعون الفسقة الفجار" فقال معاوية: من البررة والفسقة؟ فقال: "يابن أبي سفيان، ترك الخداع، من كشف القناع، علي وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من أولئك" ثم أحب معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه، بعد أن بان فيه الغضب، فقال: أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر6، قال:   1هو على التشبيه بواسطة العقد: وهي الجوهرة الفاخرة التي تجعل وسطه. 2 الخطط جمع خطة بالكسر: وهي الأرض تنزل من غير أن ينزلها نازل قبل ذلك، ومنه خطط الكوفة والبصرة. وقد خطها لنفسه واختطها: وهو أن يعلم عليها علامة بالخط ليعلم أنه قد احتازها. 3 السرو بالفتح: المروءة في شرف، سرو فهو سري وجمعه أسرياء وسرواء كفضلاء والسراة بالفتح اسم جمع وجمعه سروات. 4 جمع جلف بالكسر: وهو الرجل الجافي. 5 غناء: كفاية. 6 ذكروا أن نزار ابن معد لما حضرته الوفاة جمع بنيه: مضر وإيادًا، وربية، وأنمارًا، فقال: يا بني، هذه القبة الحمرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 "أسد مضر بسلاء بين غيلين1، إذا أرسلتها افترست، وإذا تركتها احترست". فقال معاوية: "هنالك يابن صوحان، العز الراسي، فهل في قومك مثل هذا"؟ قال: هذا لأهله دونك يابن أبي سفيان، ومن أحب قومًا حشر معهم" قال: فأخبرني عن ديار ربيعة، ولا يستخفنك الجهل، وسابقة الحمية بالتعصب لقومك2، قال: "والله ما أنا عنهم براض، ولكني أقول فيهم وعليهم، هم والله أعلام الليل، وأذناب في الدين والميل، لن تغلب رايتها إذا رشحت، خوارج الدين، برازخ اليقين، من نصروه فلج3، ومن خذلوه زلج4". قال: فأخبرني عن مضر، قال: "كنانة5 العرب، ومعدن العز والحسب، يقذف البحر بها آذيَّه6، والبر رديه" ثم أمسك معاوية، فقال له صعصعة: سل يا معاوية، وإلا أخبرتك بما تحيد عنه، قال: وما ذاك يابن صوحان؟ قال: "أهل الشام" قال: "فأخبرني عنهم"، قال: "أطوع الناس لمخلوق، وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار، وخلفة7 الأشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار". فقال معاوية: "والله   =-وكانت من أدم- لمضر، وهذا الفرس الأدهم والخباء الأسود لربيعة، وهذه الخادم -وكانت شمطاء- لإياد، وهذه البدرة "بالفتح: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار" والمجلس لأنمار يجلس فيه، فإن أشكل عليكم كيف تقتسمون، فأتوا الأفعى الجرهمي، ومنزله بنجران، فتشاجروا في ميراثه، فاختصموا إلى الأفعى الجرهمي، وهو حكم العرب، فقصوا عليه قصتهم، وأخبروه بما أوصى به أبوهم فقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر، فذهب بالدنانير والإبل الحمر، فسمي مضر الحمراء لذلك، وقال: وأما صاحب الفرس الأدهم والخباء الأسود، فله كل شيء أسود، فصارت لربيعة الخيل الدهم، فقيل: ربيعة الفرس وما أشبه الخادم الشمطاء فهو لإياد، فصار له الماشية البلق من الحبلق والنقد "الحبلق: بفتح الحاء والباء وتشديد اللام: غنم صغار لا تكبر، أو قصار المعز ودمامها، والنقد كسبب: جنس من الغنم قبيح الشكل" فسمي إياد الشمطاء، وقضى لأنمار بالدراهم وبما فضل: فسمي أنمار الفضل، فصدروا من عنده على ذلك- مجمع الأمثال 1: 10. 1 بسلاء جمع باسل: وهو الأسد والشجاع، والغيل بالكسر ويفتح: الشجر الكثير الملتف والأجمة. 2 وكان صعصعة من بني عبد القيس بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. 3 فلج على خصمه: ظفر وفاز. 4 زلق وزل. 5 الكنانة في الأصل: جعبة السهام. 6 الآذي: الموج. 7 الخلفة في الأصل: ما علق خلف الراكب، والمراد بها هنا أتباع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 يابن صوحان، إنك لحامل مُدْيَتك منذ أزمان1" إلا أن حلم ابن أبي سفيان يرد عنك. فقال صعصعة: "بل أمر الله وقدرته، إن أمر الله كان قَدَرًا مَقْدُورًا". "مروج الذهب 2: 78".   1 كناية عن مجاهرته بالعداوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 132- صعصعة بن صوحان وعبد الله بن عباس : وروى المسعودي في مروج الذهب أيضًا، قال: "عن مصقلة بن هبيرة الشيباني قال: سمعت صعصعة وقد سأله ابن عباس: ما السؤدد1 فيكم؟ فقال: إطعام الطعام، ولين الكلام، وبذل النوال، وكف المرء نفسه عن السؤال، والتودد للصغير والكبير، وأن يكون الناس عندك شرعا2" قال: فما المروءة؟ قال: "أخوان اجتمعا، فإن لقيا قَهَرا، "وإن كان"3 حارسهما قليل، وصاحبهما جليل، محتاجان4 إلى صيانة، مع نزاهة وديانة" قال: فهل تحفظ في ذلك شعرًا؟ قال: نعم، أما سمعت قول مرة بن ذهل بن شيبان حيث يقول: إن السيادة والمروءة علقا ... حيث السماء من السماك الأعزل5 وإذا تقابل مجريان لغابة ... عثر الهجين وأسلمته الأرجل6 ويجي الصريح مع العتاق معودا ... قرب الجياد فلم يجئه الأفكل7   1 السؤدد بفتح الدال غير مهموز، والسؤدد بضم الدال مهموزا السيادة والسودد. 2شرعا بسكون الراء وفتحها أي سواء. 3 أي أنهما قوتان عظيمتان لصاحبهما، تقهران ما يلقاه من الشدائد والصعاب، وقوله: "وإن كان" أي وإن كان ما لقياه عظيمًا" ولعله زيادة من خطأ النساخ أو الطباع. 4 في الأصل "لحاجان" وهو تحريف. 5 السماكان الأعزل والرامح: نجمان نيران، وسمي أعزل لأنه لا شيء بين يديه من الكواكب كالأعزل الذي لا سلاح معه كما كان مع الرامح. 6 فرس هجين: إذا لم يكن عتيقا كريما، وأسلمته: خذلته. 7 لم يجئه الأفكل: أي لم تصبه الرعدة "ويلاحظ أن في هذا الشعر عيبا من عيوب القافية وهو الإقواء، لأن حركة الروي في البيت الأول كسر، وفي الثاني والثالث ضم، وقد وقع في شعر النابغة الذبياني، وحسان بن ثابت، وبشر بن أبي خازم..". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 في أبيات. فقال له ابن عباس: لو أن رجلا ضرب آباط1 إبله، مشرقًا ومغربًا لفائدة هذه الأبيات ما عنفته، إنا منك يابن صوحان لعلى علم وحلم واستنباط ما قد عفا2 من أخبار العرب، فمن الحليم فيكم؟ قال: "من ملك غضبه فلم يفعل، وسُعِيَ إليه بحق أو باطل فلم يقبل، ووجد قاتل أبيه وأخيه، فصفح ولم يقتل، ذلك الحليم يابن عباس". قال: فهل تجد ذلك فيكم كثيرا؟ قال: "ولا قليلا، وإنما وصفت لك أقوامًا لا تجدهم إلا خاشعين راهبين، لله مريدين، ينيلون ولا ينالون، فأما الآخرون فإنهم سبق جهلهم حلمَهم، ولا يبالي أحدهم "إذا ظفر ببغيته" حين الحفيظة3 من كان، بعد أن يدرك زعمه، ويقضي بغيته، ولو وتره أبوه لقتل أباه، أو أخوه لقتل أخاه، أما سمعت إلى قول ريان بن عمر بن ريان، وذلك أن عمرا أباه قتله مالك بن كومة، فأقام ريان زمانا ثم غزا مالكا، فأتاه في مائتي فارس صباحا، وهو في أربعين بيتا، فقتله وقتل أصحابه وقتل عمه فيمن قتل -ويقال بل كان أخاه- وذلك أنه كان جاوره، فقيل لريان في ذلك: قتلت صاحبنا، فقال: فلو أمي ثقفتُ بحيث كانوا ... لبل ثيابها علقٌ صبيب4 ولو كانت أمية أخت عمرو ... بهذا الماء ظل لها نحيب شهرت السيف في الأدنين مني ... ولم تعطف أواصرنا قلوب5 فقال ابن عباس: فمن الفارس فيكم؟ حُدَّ لي حدًّا أسمعه منك، فإنك تضع الأشياء مواضعها يابن صوحان، قال: "الفارس من قصر أجله في نفسه، وضغم6 على أمله بضرسه، وكانت الحرب أهون عليه من أمسه، ذلك الفارس إذا وقدت7 الحروب،   1 آباط جمع إبط كحمل وإبل: باطن المنكب. 2 درس وامحي. 3 الحمية والغضب. 4 ثقفه كسمعه: صادفه، والعلق: الدم، أو الشديد الحمرة، وصبيب: أي مصبوب. 5 أواصر جمع آصرة: وهي القرابة، وحبل صغير يشد به أسفل الخباء. 6 ضغمه كمنع: عضه. 7 وقدت النار "كوعد" توقدت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 واشتدت بالأنفس الكروب، وتداعوا للنزال، وتزاحفوا للقتال، وتخالسوا المهج1، واقتحموا بالسيوف اللجج"، قال: أحسنت والله يابن صوحان، إنك لسليل أقوام كرام، خطباء فصحاء، ما ورثت هذا عن كلالة2، زدني، قال: "نعم، الفارس كثير الحذر، مدير النظر، يلتفت بقلبه، ولا يدير خرزات صلبه3". قال: أحسنت والله يابن صوحان الوصف، فهل في مثل هذه الصفة من شعر؟ قال: نعم، لزهير بن جناب الكلبي4 يرثى ابنه عمرًا حيث يقول: فارس تُكلا الصحابة منه ... بحسام يمرُّ مرَّ الحريق5 لا تراه لدى الوغى في مجال ... يغفل الصرب لا، ولا في مضيق من يراه يخله في الحرب يوما ... أنه أخرق مضل الطريق6 في أبيات، فقال له ابن عباس: فأين أخواك منك يابن صوحان؟ صفهما لأعرف ورثكم، قال: أما زيد، فكما قال أخو غنيّ7:   1 المهج جمع مهجة: وهي الروح، وتخالسوها تبادلوا اختلاسها واستلابها. 2 تقول العرب: لم يرثه كلالة أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب واستحقاق، وقال الفرزدق: ورثتم قناة الملك غير كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم والكلالة: ما لم يكن من النسب لحا، وبنو العم الأباعد، وحكي عن أعرابي أنه قال: مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم، وكل وارث ليس بوالد للميت ولا ولد له فهو كلالة موروثه. 3 أي فقرات ظهره. 4 شاعر جاهلي، وهو أحد المعمرين. 5 كلأه: حفظه وحرسه. 6 الأخرق: الأحمق، أما قوله في أول البيت: "من يراه" فهو مثل: ألم يأتيك والأنباء تنمي ومثل: كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا ... إلخ، وقد قال النحويون في ذلك إن إثبات حرف العلة مع الجازم لغة، وقيل ضرورة، وقيل هو حرف إشباع، والحرف الأصلي محذوف للجازم. وعندي أنه ربما كان الأصل "من رآه" وعليه فلا محذور، مع استقامة وزن البيت. 7 هو كعب بن سعد الغنوي "شاعر جاهلي" والأبيات المذكورة من قصيدة له يرثي بها أخاه أبا المغوار وأولها: تقول سليمى ما لجسمك شاحبًا ... كأنك يحميك الطعام طبيب "انظر في الأمالي 2: 150، والعقد الفريد 2: 19". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فتى لا يبالي أن يكون بوجهه ... "إذا نال خلات الكرام" شحوب1 إذا ما تراءاه الرجال تحفظوا ... فلم ينطقوا العوراء وهو قريب2 حليف الندى، يدعو الندى فيجيبه ... قريبًا، ويدعوه الندى فيجيب3 يبيت الندى "يا أم عمرو" ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب4 كأن بيوت الحي "ما لم يكن بها" ... بسابس ما يلفى بهن غريب5 في أبيات، كان والله يابن عباس، عظيم المروة6، شريف الأخوة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش7 العروة، أليف الندوة8، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الدهر، ذاكرًا لله طرفي النهار وزلفًا9 من الليل، الجوع والشبع عنده سيان، لا ينافس في الدنيا، وأقل أصحابه من ينافس فيها، يطيل السكوت، ويحفظ الكلام، وإن نطق نطق بعقام10 يهرب منه الدعار11 الأشرار، ويألفه الأحرار الأخيار". قال ابن عباس: "ما ظنك برجل من أهل الجنة، رحم الله زيدًا، فأين كان عبد الله منه؟ "، قال: كان عبد الله سيدًا شجاعًا، مُؤلفًا12 مطاعًا، خيره وَسَاعٌ13، وشرُّه   1 خلات جمع خلة بالفتح: وهي الخصلة، وشحب لونه كجمع ونصر وكرم وعني شحوبًا: تغير من هزال أو جوع أو سفر. 2 العوراء: الكلمة القبيحة. 3 الندى: الجود. 4 المنقيات: ذوات النقي "بالكسر" وهو الشحم، ناقة منقية أي سمينة. 5 بسابس جمع بسبس كجعفر: وهو القفر الخالي "وفي الأصل بسائس وهو تصحيف". 6 مسهل عن المروءة. 7 يقال: رجل كميش الإزار: أي مشمر جاد، ورجل كميش: عزوم ماضٍ سريع في أموره. 8 الندوة والنادي والمنتدى والندي: مجلس القوم ومتحدثهم، وفي الأصل "البدرة" وأراه مصحفا، أو هو فعلة من البدو وهو الظهور، أي ذو مظهر حسن يؤلف ولا يمج. 9 جمع زلفة بالضم: وهي الطائفة من الليل. 10 داء عقام: لا يبرأ، أي نطق بقوارص من الكلم جارحة مؤلمة لا دواء لها. 11 جمع داعر وصف من الدعارة بفتح الدال وكسرها: وهي الخبث والفسق. 12 ألفته وآلفته: أنست به فهو مألوف ومؤلف. 13 على التشبيه بالفرس الوساع: وهو الجواد الواسع الخطو والذرع، والدفاع: السيل العظيم، والشيء العظيم يدفع به مثله "وفرس دفاع كشداد. إذا تدافع جريه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 دفاع، قَلْبِيّ النحيزة1، أحوذيّ2 الغريزة، لا ينهنهه3 منهنه عما أراده، ولا يركب من الأمر إلا عتاده4، سِمام عِدًا5، وباذِلُ قرى6، صعب المقادَة، جزل الرفادة7، أخو إخوان، وفتى فتيان، وهو كما قال البرجمي عامر بن سنان: سِمام عدًا بالنبل يقتل من رمى ... وبالسيف والرمح الردينيّ يشعب8 مهيب مفيد للنوال معود ... بفعل الندى والمكرمات مجرب في أبيات، فقال له ابن عباس: أنت يابن صوحان باقر9 علم العرب". "مروج الذهب 2: 80"   1 القلب: محض كل شيء، والنحيزة: الطبيعة، أي خالص الطبيعة صافيها. 2 الأحوذي: الخفيف الحاذق، والمشمر للأمور القاهر لها لا يشذ عليه شيء. 3 نهنهه: كفه وزجره. 4 العتاد: العدة. 5 سمام جمع سم مثلث السين، والعدا بالكسر والضم اسم جمع عدو أي هو للأعداء سم قاتل. 6 قرى الضيف "كرمى" قرى: أضافه، والقرى أيضًا: ما قري به الضيف. 7 رفده "كضربه" أعطاه ووصله، والرفادة في الأصل خرج كانت تخرجه قريش في كل موسم من أموالها، فيصنع به طعام للحاج، والمراد بها هنا العطية. 8 الرديني نسبة إلى ردينة امرأة سمهر، وكانا يقومان الرماح بخط هجر، ويشعب: أي يمزق ويصدع. 9 أصل البقر: الفتح والشق والتوسعة، وكان يقال لمحمد بن علي زين العابدين بن الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم محمد الباقر؛ لأنه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 133- صعصعة بن صوحان ورجل من بني فزارة : ووقف رجل من بني فزارة على صعصعة، فأسمعه كلامًا "منه": "بسطت لسانك يابن صوحان على الناس فتهيبوك، أما لئن شئت لأكونن لك لصاقًا1، فلا تنطق إلا جددت2 لسانك بأذرب3 من ظبة السيف، بعضب قوي، ولسان علي، ثم لا يكون لك في ذلك حل ولا ترحال" فقال صعصعة: "لو أجد   1 اللصاق: ما يلصق به. والمعنى لأكونن لك ملاصقًا ملازمًا. 2 جد الشيء من باب رد: قطعه. 3 أذرب: أحدّ، من ذرب كفرح صار حديدًا ماضيًا، والظبة: حد السيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 غرضًا1 منك لرميت، بل أرى شبحًا، ولا إخال مثالا إلا كسراب2 بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، أما لو كنت كفئًا لرميت حصائلك3 بأذرب من ذلق4 السنان، ولرشقتك بنبال، تردعك عن النضال، ولخطمتك بخطام5، يخزم منك موضع الزمام6". فاتصل الكلام بابن عباس، فاستضحك7 من الفزاري، وقال: "أما لو كلف أخو فزارة نفسه نقل الصخور من جبل شمام 8 إلى الهضاب، لكان أهون عليه من منازعة أخي عبد القيس، خاب أبوه، ما أجهله! يستجهل أخا عبد القيس وقواه المريرة9! ثم تمثل: صبت عليه ولم تنصب من أمم ... إن الشقاء على الأشقيْنَ مصبوب10 "مروج الذهب 2: 82"   1 الغرض: الهدف. 2 السراب: ما يرى نصف النهار كأنه ماء، والقيعة جمع قاع: وهو أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام، ويجمع أيضًا على قيع "بالكسر" وقيعان وأقواع وأقوع. 3 الحصائل جمع حصيلة، يقال: حصل الشيء تحصيلا والاسم الحصيلة، قال لبيد: وكل امرئ يوما سيعلم غيبه ... إذا حصلت عند الإله الحصائل والمعنى: لرميت ما حصلته من العلم والمعرفة. 4 ذلق السنان واللسان كفرح: ذرب فهو ذلق وأذلق، وذلق السنان من إضافة الصفة إلى الموصوف. 5 الخطام: كل ما وضع في أنف البعير ليقتاد به، وخطمه بالخطام جعله على أنفه، أو جزَّ أنفه ليضع عليه الخطام، وخطمه بالكلام قهره ومنعه حتى لا ينبس. 6 خزم البعير: جعل في جانب منخره الخزامة "ككتابة" والزمام: ما يزم به. 7 استضحك الرجل وتضاحك بمعنى. 8 جبل بالعالية. 9 أي القوية، يقال: رجل مرير أي قوي ذو مِرة "والمرة بالكسر القوة". 10 الأمم: القرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 134- رجل من آل صوحان يجي به 1 عبد الملك بن مروان وهو يخطب: وخطب عبد الملك بن مروان، فلما بلغ الغلظة2، قام إليه رجل من آل صوحان، فقال: "مهلا مهلا يا بني مروان، تأمرون ولا تأتمرون، وتَنْهَوْنَ ولا تُنْهَوْن، وتعظون ولا تتعظون   1 جبهه كقطعه: لقيه بما يكره. 2 وربما كان صوابها "العظة" أي مقام العظة والنصح بدليل قوله: "وتعظون ولا تتعظون". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ولا تتعظون، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم: اقتدوا بسيرتنا، فأنى وكيف؟ وما الحجة؟ وما المصير من الله؟ أنقتدي بسيرة الظلمة الفسقة، الجورة الخونة، الذين اتخذوا مال الله دولا1، وعبيده خولا2؟ وإن قلتم: اسمعوا نصيحتنا، وأطيعوا أمرنا، فكيف ينصح لغيره من يغش نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عند الله عدالته؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن سمعتموها. فعلام وليناكم أمرنا، وحكمناكم في دمائنا وأموالنا؟ أما علمتم أن فينا من هو أنطق منكم باللغات، وأفصح بالعظات؟ فتخلوا عنها3، وأطلقوا عقالها، وخلوا سبيلها، ينتدب4 إليها آل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين شردتموهم في البلاد، ومزقتموهم في كل وادٍ، بل تثبت في أيديكم لانقضاء المدة، وبلوغ المهلة، وعظم المحنة، إن لكل قائم قدرا لا يعدوه، ويوما لا يخطوه، وكتابا بعده يتلوه: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} تم الْتُمِسَ الرجلُ فلم يوجد "نهاية الأرب 7: 249".   1 جمع دولة بالضم: أي جعلوه متداولا بينهم. 2 الخول: ما أعطاك الله تعالى من النعم "محركة" والعبيد والإماء وغيرهم من الحاشية الواحد والجميع والذكر والأنثى، ويقال للواحد: خائل. 3 أي عن الخلافة 4 انتدب إليه: أسرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 135- وصف عقيل بن أبي طالب لآل صوحان : قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: "مَيِّزْ لي أصحاب علي وابدأ بآل صوحان، فإنهم مخاريق الكلام1"، قال:   1 مخاريق جمع مخراق بالكسر: وهو السيف، والسيد والمتصرف في الأمور، الذي لا يقع في أمر إلا خرج منه "والثور البري يسمى مخراقًا؛ لأن الكلاب تطلبه، فيفلت منها، وفلان مخراق حرب أي صاحب حروب يخف فيها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 "أما صعصعة فعظيم الشان، عضب اللسان1، قائد فرسان، قاتل أقران، يَرتُق2 ما فُتِقَ، ويفْتُق ما رُتِقَ، قليل النظير. وأما زيد وعبد الله فإنما نهران جاريان، يصب فيهما الخلجان3، ويغاث بهما البلدان، رجلا جد لا لعب معه، وأما بنو صوحان فكما قال الشاعر: إذا نزل العدو فإن عندي ... أسودًا تخْلِسُ الأُسْدَ النفوسا4 "مروج الذهب 2: 75"   1 العضب: القاطع. 2 الرتق: ضد الفتق. 3 الخليج: نهر في شق من النهر الأعظم. 4 خلس الشيء كضرب خلسًا: استلبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 136- وصية محمد الباقر 1 لعمر بن عبد العزيز: دخل أبو جعفر محمد الباقر بن علي زين العابدين، بن الحسين عليهم السلام، على عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال: يا أبا جعفر أوصني، قال: "أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولدًا، وأوسطهم أخًا، وكبيرهم أبًا، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبر أباك، وإذا صنعت معروفًا فَرَبِّهِ2". "الأمالي 2: 312"   1توفى سنة 113هـ. 2 أي أَدِمْه، يقال: رب بالمكان وأرب: أقام به ودام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 خطب الزبيريين وما يتصل بها عبد الله بن الزبير ومعاوية ... خطب الزبيريين وما يتصل بها 1 خطب عبد الله بن الزبير "قتل سنة 73هـ": عبد الله بن الزبير ومعاوية: دخل الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يومًا على معاوية، ومعه مولى له يقال له: ذكوان وعند معاوية جماعة من قريش، فيهم ابن الزبير، فرحب معاوية بالحسين، وأجلسه على سريره وقال: ترى هذا القاعد؟ "يعني ابن الزبير" فإنه ليدركه الحسد لبني عبد مناف2 فقال ابن الزبير لمعاوية: قد عرفنا فضل الحسين وقرابته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن إن شئت أعلمتك فضل الزبير على أبيك أبي سفيان فعلت، فتكلم ذكوان مولى الحسين بن علي، فقال:   1 تقدم لك في باب خطب بني هاشم وشيعتهم، خطب أمراء الكوفة من قبل ابن الزبير -انظر خطب عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وعبد الله بن مطيع في ص65-66-70-76-82-83. 2 عبد مناف جد يجمع بني هاشم وبني أمية، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ومعاوية هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأما عبد لله بن الزبير، فمن بني أسد أبوه الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 137- مقال ذكوان : "يابن الزبير: إن مولاي ما يمنعه من الكلام إلا أن يكون طلق اللسان، رابط الجنان، فإن نطق نطق بعلم، وإن صمت صمت بحلم، غير أنه كف الكلام، وسبق إلى السنام، فأقرت بفضله الكرام، وأنا الذي أقول: فيم الكلام لسابق في غاية ... والناس بين مقصر ومبلد1 إن الذي يجري لِيُدْرِكَ شأوَه ... يُنْمَى لغير مسود ومسدد2 بل كيف يدرك نور بدرٍ ساطع ... خير الأنام وفرع آل محمد فقال معاوية: صدق قولك يا ذكوان، أكثر الله في موالي الكرام مثلك، فقال ابن الزبير: إن أبا عبد الله3 سكت وتكلم مولاه، ولو تكلم لأجبناه، أو لكففنا عن جوابه إجلالا له. ولا جواب لهذا العبد. قال ذكوان: هذا العبد خير منك، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مولى القوم منهم"، فأنا مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنت ابن العوام بن خويلد، فنحن أكرم ولاء، وأحسن فعلا. قال ابن الزبير: إني لست أجيب هذا، فهات ما عندك   1 بلد تبليدا: لم يتجه لشيء، والفرس: لم يسبق، والسحابة: لم تمطر. 2 الشأو: الغاية، وينمى: ينسب. 3 كنية الحسين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 138- مقال معاوية : فقال معاوية: "قاتلك الله يابن الزبير! ما أعياك1 وأبغاك! أتفخر بين يدي أمير المؤمنين، وأبي عبد الله! إنك أنت المتعدي لطورك، الذي لا تعرف قدرك، فقس شبرك بفترك2   1 ما أعجزك. 2 الفتر: ما بين الإبهام وطرف السبابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ثم تَعَرَّفْ كيف تقع بين عرانين1 بني عبد مناف، أما والله لئن دفعت في بحور بني هاشم وبني عبد شمس، لتقطعنك بأمواجها، ثم لتوهين2 بك في أجاجها، فما بقاؤك في البحور إذا غمرتك، وفي الأمواج إذا بهرتك3؟ هناك تعرف نفسك، وتندم على ما كان من جرأتك، وتُمَسِّى4 ما أصبحت إليه من أمان، وقد حيل بين العير والنزوان5"، فأطرق ابن الزبير مليا، ثم رفع رأسه، فالتفت إلى من حوله، ثم قال:   1 جمع عرنين بكسر العين: وهو السيد الشريف "وفي الأصل: الأنف أو ما صلب من عظمه". 2 أوهاه: أسقطه، والأجاج: الملح المر. 3 بهره بهرا "بالفتح": غلبه. 4 مساه تمسية: قال له: كيف أمسيت، أو مساك الله بخير، والمراد: وتودع ما كنت فيه من أمان نادمًا آسفًا عليه، وربما كان الأصل: "وتمنى" بحذف إحدى التاءين أي وتتمنى، أو الأصل "ويتمسى" من تمسى: إذا تقطع أي يمحى ويندثر ما كنت فيه من أمان. 5 العير: الحمار وغلب على الوحشي، والنزوان: الوثوب. وهو مثل يضرب للقوي تخور قواه، وأول من قاله صخر بن عمرو أخو الخنساء، وذلك أنه غزا بني أسد، فاكتسح إبلهم، فجاءهم الصريخ فركبوا، فالتقوا، فطعن أبو ثور الأسدي صخرًا طعنة في جنبه، وجوى منها، فمرض حولا حتى مله أهله، فسمع امرأة تقول لامرأته سلمى: كيف بعلك؟ فقالت: لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى، لقد لقينا منه الأمرين، وفي رواية أخرى: فمرض زمانا حتى ملته امرأته، وكان يكرمها فمر بها رجل وهي قائمة، وكانت جميلة، فقال لها: يباع الكفل؟ فقالت: نعم عما قليل، وكان ذلك يسمعه صخر، فقال: أما والله لئن قدرت لأقدمنك قبلي، ثم قال لها: ناوليني السيف أنظر إليه، هل تقله يدي؟ فناولته، فإذا هو لا يقله، فقال: أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني فأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فلما طال به البلاء، وقد نتأت قطعة من جنبه في موضع الطعنة، قيل له لو قطعتها لرجونا أن تبرأ، فقال: شأنكم، وأشفق عليه قوم، فنهوه، فأبى، فأخذوا شفرة، فقطعوها، فمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وأمه هند آكلة الأكباد؟ وجدي الصديق، وجده المشدوخ1 ببدر، ورأس الكفر، وعمتي خديجة ذات الخَطَر2 والحسب، وعمته أم جميل حمالة الحطب؟ وجدتي صفية3 وجدته حمامة4؟ وزوج عمتي خير ولد آدم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزوج عمته شر ولد آدم أبو لهب، سيصلى نارًا ذات لهب؟ وخالتي عائشة أم المؤمنين، وخالته أشقى الأشقين؟ وأنا عبد الله، وهو معاوية".   1 هو جد معاوية لأمه عتبة بن ربيعة قتله علي يوم بدر، والمشدوخ: المكسور: أي المقتول. 2 القدر، أو المنزلة؛ وهي السيدة خديجة بنت خويلد الأسدية عمة أبيه، وزوج الرسول عليه الصلاة والسلام. 3 هي صفية بنت عبد المطلب أم الزبير وعمة الرسول عليه الصلاة والسلام. 4 روى ابن أبي الحديد "م1: ص157" قال: "لما ارتحل عقيل بن أبي طالب عن علي عليه السلام أتى معاوية، فكان في مجلسه يومًا وجلساء معاوية حوله، فقال: يا أبا يزيد: أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك، فقد وردت عليهما، قال: "أخبرك: مررت والله بعسكر أخي، فإذا ليل كَلَيْلِ رسول الله صلى الله عليه وآله ونهار كنهار رسول الله صلى الله عليه وآله، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس في القوم، ما رأيت إلا مصليًّا، ولا سمعت إلا قارئًا، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر برسول الله صلى الله عليه وآله ليلة العقبة" ثم قال: من هذا عن يمينك يا معاوية؟ قال: هذا عمرو بن العاص، قال: هذا الذي اختصم فيه ستة نفر، فغلب عليه جزار قريش، فمن الآخر؟ قال الضحاك بن قيس الفهري: قال: أما والله لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيوس "وكان يبيع عسب الفحول في الجاهلية، والعسب كعذب: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، أو ضرابه، أو ماؤه، وعسب الرجل كضرب: أعطاه الكراء على الضراب، وفي الحديث: "نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عسب الفحل فإن إعارة الفحل مندوب إليها" فمن هذا الآخر؟ قال: أبو موسى الأشعري، قال: هذا ابن السراقة، فلما رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه، علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءًا، فأحب أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء، فيذهب بذلك غضب جلسائه، قال: يا أبا يزيد ما تقول في؟ قال: دعني من هذا، قال: لتقولن، قال: أتعرف حمامة؟ قال: ومن حمامة يا أبا يزيد؟ قال: قد أخبرتك، ثم قام، فمضى، فأرسل معاوية إلى النسابة فدعاه، فقال: من حمامة؟ قال: وَلِي الأمان؟ قال: نعم، قال: حمامة جدتك أم أبي سفيان كانت بَغِيًّا في الجاهلية صاحبة راية، فقال معاوية لجلسائه: قد ساويتكم وزدت عليكم، فلا تغضبوا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 مقال آخر لمعاوية ... 140- مقال معاوية: فقال له معاوية: "ويحك يابن الزبير! كيف تصف نفسك بما وصفتها، والله ما لك في القديم من رياسة، ولا في الحديث من سياسة، ولقد قدناك وسُدناك قديمًا وحديثًا، لا تستطيع لذلك إنكارًا، ولا عنه فرارًا، وإن هؤلاء الحضور ليعلمون أن قريشًا قد اجتمعت يوم الفجار1 على رياسة حرب بن أمية، وأن أباك وأسرتك تحت رايته، راضون بإمارته، غير منكرين لفضله، ولا طامعين في عزله، إن أمر أطاعوا، وإن قال أنصَتُوا، فأنزل فينا القيادة، وعز الولاية، حتى بعث الله عَزَّ وَجَلَّ محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،   1 حرب الفجار: هي حرب هاجت بين قريش وكنانة، وبين هوازن "من قيس عيلان" وسببها أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق عكاظ في كل عام لطيمة "واللطيمة كصحيفة: العير التي تحمل الطيب والبز للتجارة" لتباع له هناك، ويشترى له بثمن ذلك أدم من أدم الطائف، وكان يرسل تلك اللطيمة في جوار رجل من أشراف العرب، فلما جهز اللطيمة كان عنده جماعة من العرب فيهم البراض بن قيس -وهو من بني كنانة، والبراض كشداد- وعروة الرحال بن عتبة -وهو من بني هوازن والرحال كشداد أيضًا- فقال، من يجيرها؟ قال البراض: أنا أجيرها على بني كنانة يعني قومه، فقال له النعمان: ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتهامة، فقال له عروة الرحال: أنا أجيرها لك على أهل الشيح والقيصوم من أهل نجد وتهامة، فقال البراض: أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ قال: وعلى الناس كلهم، فدفعها النعمان إلى عروة، فخرج بها، وتبعه البراض، وتربص به وقتله، فهاجت الحرب بين كنانة وهوازن، وعاونت قريش كنانة، وكان على كل قبيلة من قريش وكنانة سيدها، والقائد العام للجميع حرب بن أمية والد أبي سفيان، وقد قتل في هذه الحرب العوام بن خويلد والد الزبير، وقد حضرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله من العمر أربع عشرة سنة، وقيل خمس عشرة، وقيل عشرون، والفجار بمعنى المفاجرة كالقتال بمعنى المقاتلة، سمت قريش هذه الحرب فجارًا؛ لأنها كانت في الأشهر الحرم فقالوا: قد فجرنا إذ قاتلنا فيها أي فسقنا، وقيل إنها لم تكن في الشهر الحرام وإنما سببها كان في الشهر الحرام، وهو قتل البراض لعروة الرحال، هذا هو الفجار الرابع وهو الأكبر، وكان قبله ثلاثة أفجرة أخرى- انظر السيرة الحلبية 1: 122، والعقد الفريد 3: 91، وسيرة ابن هشام 1: 116، ومجمع الأمثال 2/ 260-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فانتخبه من خير خلقه، من أسرتي لا أسرتك، وبني أبي لا بني أبيك، فجحدته قريش أشد الجحود، وأنكرته أشد الإنكار، وجاهدته أشد الجهاد، إلا من عصم الله من قريش، فما ساد قريشًا وقادهم إلا أبو سفيان بن حرب، فكانت الفئتان تلتقيان، ورئيس الهدى منا، ورئيس الضلالة منا، فمهديكم تحت راية مهدينا، وضالكم تحت راية ضالنا، فنحن الأرباب، وأنتم الأذناب، حتى خلص الله أبا سفيان بن حرب بفضله من عظيم شركه، وعصمه بالإسلام، من عبادة الأصنام، فكان في الجاهلية عظيمًا شأنه، وفي الإسلام معروفًا مكانه، ولقد أُعْطِي يوم الفتح ما لم يُعطَ أحد من آبائك، وإن منادي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وكانت داره حرمًا، لا دارك ولا دار أبيك؛ وأما هند فكانت امرأة من قريش، في الجاهلية عظيمة الخطر، وفي الإسلام كريمة الخبر، وأما جدك الصديق؛ فبتصديق عبد مناف سمي صديقًا، لا بتصديق عبد العزى، وأما ما ذكرت من جدي المشدوخ ببدر، فلعمري لقد دعا إلى البراز هو وأخوه وابنه، فلو برزت إليه أنت وأبوك ما بارزوكم، ولا رأوكم لها أكفاء، كما قد طلب ذلك غيركم، فلم يقبلوهم، حتى برز إليهم أكفاؤهم من بني أبيهم، فقضى الله مناياهم بأيديهم، فنحن قُتِلنا، ونحن قَتَلنا، وما أنت وذاك؟ وأما عمتك أم المؤمنين فبنا شرفت، وسميت أم المؤمنين، وخالتك عائشة مثل ذلك، وأما صفية فهي أدنتك من الظل، ولولا هي لكنت ضاحيًا1، وأما ما ذكرت من ابن عمك وخال أبيك2 سيد الشهداء، فكذلك كانوا رحمهم الله، وفخرهم وإرثهم لي دونك، ولا فخر لك فيهم ولا إرث بينك وبينهم.   1 ضحا كسعى ورضى: أصابته الشمس، والظل: العز والمنعة، أي أن شرفهم جاء من مصاهرة العوام لبني هاشم، وزواجه بصفية بنت عبد المطلب. 2 ابن عمه: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام، وقد قتل يوم الدار، وخال أبيه هو حمزة بن عبد المطلب، وقتل يوم أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وأما قولك أنا عبد الله وهو معاوية، فقد علمت قريش أيُّنا أجود في الإزم1، وأحزم في القدم، وأمنع للحرم، لا والله ما أراك منتهيا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك، فقد طالعهم الذحول2، وقدم إليهم الخيول، وخدعتم أم المؤمنين، ولم تراقبوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ مددتم على نسائكم السجوف3، وأبرزتم زوجته للحتوف، ومقارعة السيوف، فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربًا، فلم ينجه ذلك أن طحنه أبو الحسين بكلكله طحن الحصيد4، بأيدي العبيد، وأما أنت فأفلتَّ بعد أن خمشتك5 براثينه، ونالتك مخاليبه، وايم الله ليقوِّمَنَّكَ بنو عبد مناف بثقافها6 أو لتصبحنّ منها صباح أبيك بوادي السباع7، وما كان أبو المدهن حده8، ولكنه كما قال الشاعر: تناول سرحانٌ فريسةَ ضيغمٍ ... فقضقضه بالكفّ منه وحطما9 "العقد الفريد 2: 113"   1 الأزمة "بالفتح ويحرك" الشدة، وجمعها إزم "كشمس عنب". 2 جمع ذحل "بالفتح" وهو الثأر، والعدواة، والحقد: أي كاشفهم بذلك. 3 جمع سجف "بالفتح ويكسر" الستر. 4 الحصيد: الزرع المحصود. 5 خمشه: خدشه. 6 الثقاف: ما تسوى به الرماح. 7 مقتل أبيه الزبير. 8 حده: بأسه، والمدهن: المغشوش، من أدهن أي غش، والمعنى أنه كان شديد البأس لم تشب بسالته شائبة خور ولكنه.. إلخ "وفي الأصل "المدهن خده" بالخاء وأراه مصحفًا". 9 السرحان: الذئب، والضيغم: الأسد، وقضقضه فتقضقض: كسره ودقه، والقضقضة: صوت كسر العظام. وفي الأصل: ففضفضه بالفاء، وهو تصحيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 141- عبد الله بن الزبير ومعاوية أيضًا: دخل عبد الله بن الزبير على معاوية فقال: "يا أمير المؤمنين، لا تدعن مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه1، ويضرب صفاتهم بمعوله، أما والله لولا مكانك، لكان أخف على رقابنا من فراشة، وأقل   1 المشاقص: جمع مشقص كمنبر، وهو النصل الطويل، أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 في أنفسنا من خشاشة1، وايم الله لئن ملك أعنة خيل تنقاد له، لتركبن منه طبقًا2 تخافه". فقال معاوية: "إن يطلب مروان هذا الأمر، فقد طمع فيه من هو دونه، وإن يتركه يتركه لمن فوقه، وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابة، ولا يذكركم عند ملمة، يسومكم خسفًا3، ويسوقكم عشفًا4" فقال ابن الزبير: "إذن والله يطلق عقال الحرب بكتائب تمور5 كرجل الجراد، حافاتها الأسل، لها دوي كدوي الريح، تتبع غطريفًا6 من قريش، لم تكن أمه راعية ثلة7". فقال معاوية: "أنا ابن هند، أطلقت عقال الحرب، فأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع8، وليس للآكل بعدي إلا الفلذة9، ولا للشارب إلا الرنق10". فسكت ابن الزبير. "شرح ابن أبي الحديد م4: ص493، والعقد الفريد 2: 115، والبيان والتبيين 2: 44"   1 الخشاشة: واحدة الخشاش بتثليث الخاء، وهي حشرات الأرض والعصافير ونحوها "وفي الأصل حشاشة وهو تصحيف". 2 الطبق: الحال ومنه قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} . 3 أي: يوليكم ذلا. 4 العسف: الظلم، وسلوك الطريق على غير هداية. 5 تمور: تضطرب. 6 الغطريف: السيد الشريف. 7 الثلة: جماعة الغنم أو الكثيرة منها. 8 عنفوان الشيء: أوله أو أول بهجته، والمكرع: المورد، مفعل من كرع في الماء أو في الإناء. 9 الفلذة: القطعة من اللحم. 10 ماء رنق كعدل وكتف وجبل: كدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 142- عبد الله بن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص : قدم عبد الله بن الزبير على معاوية وافدًا، فرحب به وأدناه، حتى أجلسه على سريره، ثم قال: ما حاجتك أبا خبيب1؟ فسأله أشياء، ثم قال له: سل غير ما سألت، قال: "نعم، المهاجرون والأنصار ترد عليهم فيئهم، وتحفظ وصية نبي الله فيهم، تقبل   1 هي كنية ابن الزبير، كني بابنه خبيب، وكان أسن ولده، ويكنى أيضًا أبا بكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 من محسنهم، وتتجاوز عن مسيئهم" فقال معاوية: "هيهات، هيهات؟ لا والله ما تأمن النعجة الذئب وقد أكل ألْيَتَها1". فقال ابن الزبير: "مهلا يا معاوية، فإن الشاة لتدر2 للحالب، وإن المدية في يده، وإن الرجل الأريب ليصانع ولده الذي خرج من صلبه، وما تدور الرحاء إلا بقطبها3، ولا تصلح القوس إلا بعجبها4" فقال: "يا أبا خبيب، لقد أجررت الطروقة قبل هباب الفحل5، هيهات! وهي لا تصطك لحيائها اصطكاك القروم السوامي6". فقال ابن الزبير: "العطن بعد العل، والعل بعد النهل7 ولا بد للرحاء من الثفال8 ثم نهض ابن الزبير"، فلما كان العشاء أخذت قريش مجالسها، وخرج معاوية على بني أمية، فوجد عمرو بن العاص فيهم، فقال: ويحكم يا بني أمية! أفيكم من يكفيني ابن الزبير؟ فقال عمرو: أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين قال: ما أظنك تفعل، قال: "بلى، والله لأربدن9 وجهه، ولأخرسن لسانه، ولأردنه ألين من خميلة10". فقال: دونك، فاعرض له إذا دخل، فدخل ابن الزبير -وكان قد بلغه كلام معاوية وعمرو- فجلس نصب عيني عمرو، فتحدثوا ساعة، ثم قال عمرو: وإني لنار ما يطاق اصطلاؤها ... لديَّ كلام معضل متفاقم11 فأطرق ابن الزبير ساعة ينكث في الأرض، ثم رفع رأسه وقال:   1 الألية: ما ركب العجز من شحم ولحم. 2 در اللبن وغيره من بابي ضرب وقتل، ودرت الناقة بلبنها أدرته. 3 قطب الرحا: ما تدور عليه، والرحاء ممدود الرحا. 4 العجب: مؤخر كل شيء. 5 ناقة طروقة الفحل: بلغت أن يضربها الفحل، وأجره رسنه: جعله يجره، وهب الفحل من الإبل وغيرها هبابًا وهبيبًا: أراد السفاد. 6 تصطك: تضطرب. والقروم: جمع قرم بالفتح وهو الفحل، والسوامي جمع سام: وصف من سما الفحل سماوة: تطاول على شوله "والشُّوَّل كركع جمع شائل وهي الناقة تشول بذنبها للقاح". 7 العطن: مبرك الإبل حول الحوض، والعل والعلل: الشرب الثاني، والنهل: الشرب الأول. 8 الثفال: جلد أو نحوه يبسط تحت الرحى ليقع عليه الطحين. 9 أي لأصيرنه أربد، من الرُّبدة بالضم: وهي لون إلى الغبرة. 10 الخميلة: القطيفة، وفي الأصل: "ولأوردنه" وهو تحريف. 11 تفاقم الأمر: عظم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وإني لبحر ما يسامَى عبابُه ... متى يلقَ بحري حرّ نارك تخمد فقال عمرو: والله يابن الزبير إنك ما علمتُ لمتجلبب جلابيب الفتنة، متأزر بوصائل1 التيه، تتعاطى الذّرى الشاهقة، والمعالي الباسقة، وما أنت من قريش في لباب جوهرها ولا مؤنق2 حسبها". فقال ابن الزبير: "أما ما ذكرت من تعاطي الذرى؛ فإنه طال بي إليها وسما ما لا يطول بك مثله، أنف حمي، وقلب ذكي، وصارم مشرفي، في تلبيد فارع3، وطريف مانع، إذ قدع بك انتفاخ سحرك4، ووجيب5 قلبك، وأما ما ذكرت من أني لست من قريش في لباب جوهرها، ومؤنق حسبها، فقد حضرتني وإياك الأكفاء، العالمون بي وبك، فاجعلهم بيني وبينك، فقال القوم: قد أنصفك يا عمرو. قال: قد فعلت، فقال ابن الزبير: "أما إذ أمكنني الله منك فلأربدن وجهك، ولأخرسن لسانك، ولترجعن في هذه الليلة، وكأن الذي بين منكبيك مشدود إلى عروق أخدعيك6، ثم قال: أقسمت عليكم يا معاشر قريش، أنا أفضل في دين الإسلام أم عمرو؟ فقالوا: اللهم أنت، قال: فأبي أفضل أم أبوه؟ قالوا: أبوك حواري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وابن عمته، قال: فأمي أفضل أم أمه؟ قالوا: أمك أسماء بنت أبي بكر الصديق، وذات النطاقين، قال: فعمتي أفضل أم عمته؟ قالوا: عمتك سلمى بنت العوام صاحبة رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من عمته، قال: فخالتي أفضل أم خالته؟ قالوا: خالتك عائشة أم المؤمنين، قال: فجدتي أفضل أم جدته؟ قالوا: جدتك صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: فجدي أفضل أم جده؟ قالوا: جدك أبو بكر الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: قضت الغطارف من قريش بيننا ... فاصبر لفضل خصامها وقضائها   1 الوصائل: جمع وصيلة، وهي ثوب مخطط يمان. 2 آنقني الشيء إيناقًا: أعجبني، فهو مؤنق وأنيق: أي حسن معجب. 3 فارع: عالٍ. 4 السحر ويحرك ويضم: الرئة، وانتفخ سحره: عدا طوره وجاوز قدره. 5 خفقان واضطراب. 6 الأخدعان: عرقان في موضع الحجامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وإذا جريت فلا تجارِ مبرزا ... بذَّ الجياد على احتفال جرائها1 أما والله يابن العاص، لو أن الذي أمرك بهذا واجهني بمثله لقصرت إليه من سامي بصره، ولتركته يتلجلج لسانه، وتضطرم النار في جوفه، ولقد استعان منك بغير وافٍ ولجأ إلى غير كافٍ" ثم قام فخرج. "شرح ابن أبي الحديد م4: ص493"   1 برز تبريزا: فاق أصحابه. وبذّ: فاق وغلب، واحتفل القوم: اجتمعوا، والجراء والمجاراة: مصدر جارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 143- خطبة ابن الزبير لما قتل الحسين عليه السلام : لما قتل الحسين عليه السلام، قام عبد الله بن الزبير في أهل مكة، وعظم مقتله، وعاب على أهل الكوفة خاصة، ولام أهل العراق عامة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أهل العراق غُدُرٌ فُجُر إلا قليلا، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينًا لينصروه ويولوه عليهم، فلما قدم عليهم ثاروا إليه، فقالوا له: إما أن تضع يدك في أيدينا، فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية سِلْمًا، فيُمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب، فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير -وإن كان الله عَزَّ وَجَلَّ لم يُطْلِع على الغيب أحدًا- أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله حسينًا، وأخزى قاتل حسين، لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم ما كان في مثله واعظ وناهٍ عنهم، ولكنه ما حُمَّ1نازلٌ، وإذا أراد الله أمرًا لن يُدفع. أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم، ونصدق قولهم، ونقبل لهم عهدًا؟ لا، ولا نراهم لذلك أهلا، أما والله لقد قتلوه، طويلا بالليل قيامُه، كثيرًا في النهار   1ما قُدِّر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 صيامُه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد "يعرض بيزيد" فسوف يلقون غيًّا1". فثار إليه أصحابه، فقالوا له: أيها الرجل أظهر بيعتك، فإنه لم يبقَ أحد، إذ هلك حسين ينازعك هذا الأمر، وقد كان يبايع الناس سرًّا، ويظهر أنه عائذ بالبيت. "تاريخ الطبري 6: 273".   1 أي شرًّا وخسرانًا، وكل شر عند العرب غيّ، وكل خير رشاد، وقيل: هو على حذف مضاف أي جزاء غي كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} ، والأثام: الإثم، أي يلق جزاء إثمه "والأثام أيضًا جزاء الإثم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 144- مناظرة ابن الزبير للخوارج : اجتمعت الخوارج حين ثار عبد الله بن الزبير بمكة "سنة 64" وسار إليه مسلم بن عقبة المري في جيش من أهل الشام، بعد أن غزا المدينة، وكان منه في وقعة الحرة ما كان، فقال لهم نافع بن الأزرق: اخرجوا بنا نأتِ البيت، ونلق هذا الرجل، فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو، وإن يكن على غير رأينا دافعنا عن البيت ما استطعنا، ونظرنا بعد ذلك في أمورنا، فخرجوا حتى قدموا على عبد الله بن الزبير، فسر بمقدمهم ونبأهم أنه على رأيهم، وأعطاهم الرضا من غير توقف ولا تفتيش، فقاتلوا معه حتى مات يزيد بن معاوية، وانصرف أهل الشام عن مكة. ثم إن القوم لقي بعضهم بعضًا فقالوا: إن هذا الذي صنعتم أمس بغير رأي ولا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على رأيكم، إنما كان أمس يقاتلكم هو وأبوه، ينادي يالثارات عثمان، ندخل إليه، فننظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وعمر، وبرئ من عثمان وعليّ، وكفَّرَ أباه وطلحة بايعناه، وإن تكن الأخرى، ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير وهو مبتذل1، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت على الصواب بايعناك، وإن كنت على غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين؟ قال: خيرًا. قالوا: فما تقول في عثمان الذي أحمى2 الحمى، وآوى الطريد3، وأظهر لأهل مصر شيئًا وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط4 رقاب الناس، وآثرهم بفيء المسلمين، وفي الذي بعده، الذي حَكَّمَ في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم، وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا عليًّا وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن5 في بيوتهن، وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة، فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفى6 عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق وإن أبيت إلا نصر رأيك الأول، وتصويب أبيك وصاحبه، والتحقيق بعثمان والتولي في السنين الست التي أحلت دمه، ونقضت أحكامه، وأفسدت إمامته، خذلك الله   1 المبتذل: لابس البذلة "بالكسر" أو المبذلة: وهي الثوب الخلق وما لا يصان من الثياب. 2 أحمى المكان: جعله حمى لا يقرب، وكان من المطاعن التي وجهت إلى عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه حمى الحمى عن المسلمين مع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلهم سواء في الماء والكلأ، ولما سئل في ذلك قال: إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة، وقد أطلقته الآن، وأنا أستغفر الله، وروى الواقدي أن عثمان كان يحمي الربذة والشرف والبقيع، فكان لا يدخل الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني أمية حتى كان آخر الزمان، كان يحمي الشرف لإبله وكانت ألف بعير ولإبل الحكم بن أبي العاص، ويحمي الربذة لإبل الصدقة. ويحمي البقيع لخيل المسلمين وخيله وخيل بني أمية. شرح ابن أبي الحديد م1: ص235. 3 هو الحكم بن أبي العاص، انظر ص104. 4 ممن ولاهم عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط ولاه الكوفة، وهو أخو عثمان لأمه. 5 من قرَّ بالمكان يقرُّ "بالكسر والفتح" قرارًا أي استقر أصله يقررن حذفت الأولى من الراءين ونقلت حركتها إلى القاف. 6 الزلفة والزلفى: القربة والمنزلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وانتصر منك بأيدينا، فقال ابن الزبير: إن الله أمر "وله العزة والقدرة" في مخاطبة أكفر الكافرين، وأعتى العتاة، بأرأف من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه صلى الله عليهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى". فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدوُّ الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنبًا! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين؟ " فإن كانا منهم دخلا في غمار1 المسلمين، وإن لم يكونا منهم لم تُحفِظُوني2 بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جَلَّ وعَزَّ قال للمؤمن في أبويه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، وقال جل ثناؤه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح3، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى أن يعرف كلٌّ صاحبه من عدوه، فروحوا4 إلي من عشيتكم هذه، أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى. فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلكم نجدة5 قال: هذا خروج منابذ6 لكم، فجلس على رفيع من الأرض، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى عليه نبيه، ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرته فيها، فجعلها كالماضية، وخبَّر أنه   1 بالضم ويفتح جماعتهم. 2 تغضبوني. 3 تبيين الأمر. 4 الرواح: العشي، وراح إلى القوم: ذهب إليهم رواحًا. 5 هو نجدة بن عامر الحنفي من كبار زعمائهم. 6 نابذه: كاشفه بالعداوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أو لا مصيبًا، ثم أعتبهم بعد ذلك محسنًا، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه، بعد أن ضمن لهم العتبى1 ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، حلف بالله أنه لم يكتبه، ولم يأمر به، وقد أمر الله عَزَّ وَجَلَّ بقبول اليمين ممن ليس له مثل سابقته، ومع ما اجتمع له من صهر رسول الله، ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه2، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين، لو حلف عليها لحلف على حقٍّ، فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرضَ" فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبُه صاحِبا رسول الله، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عن الله عَزَّ وَجَلَّ يوم أحد، لما قطعت إصبع طلحة: "سبقته إلى الجنة"، وقال: "أوجب طلحة 3 "، وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد قال: "ذاك يومٌ كله أو جله لطلحة". والزبير حواري رسول الله صلى اله عليه وسلم وصفوته، وقد ذَكَرَ أنهما في الجنة، فقال جَلَّ وَعَزَّ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعَوا فيه حقًّا، فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقهم له من السابقة مع نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومهما ذكرتموهما فقد بدأتم بأمكم عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فإن أَبَى آبٍ   1 العتبى: الرضا. 2 وذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبية اختار عثمان بن عفان رسولا من قبله إلى قريش، يعلمهم بمقصده، وأنه أتى مكة معتمرًا، فقالوا: إن محمدًا: لا يدخلها علينا عنوة أبدًا، ثم إنهم حبسوه، فشاع عند المسلمين أنه قتل، فقال عليه الصلاة والسلام حينما سمع بذلك: "لا نبرح حتى نناجزهم الحرب". ودعا المسلمين إلى البيعة على القتال، فبايعوه هناك تحت شجرة سميت بعد شجرة الرضوان. 3 الموجبة من الحسنات التي توجب الجنة. وأوجب: أتى بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 أن تكون له أمًّا نبذ اسم الإيمان عنه، وقد قال الله جل ذكره، وقوله الحق: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه. "الكامل للمبرد 2: 173، والعقد الفريد 1: 212، وتاريخ الطبري 7: 55". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 145- أبو صخر الهذلي وعبد الله بن الزبير: وروى أبو الفرج الأصبهاني قال: لما ظهر ابن الزبير بالحجاز، وغلب عليها بعد موت يزيد بن معاوية، وتشاغل بنو أمية بالحرب بينهم، في مَرْج راهط وغيره، دخل عليه أبو صخر الهذلي في هذيل، وقد جاءوه ليقبضوا عطاءهم، وكان عارفًا بهواه في بني أمية، فمنعه عطاءه، فقال: علام تمنعني حقًّا لي؟ وأنا امرؤ مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثًا، ولا أخرجت من طاعة يدًا. قال: عليك بني أمية، فاطلب عندهم عطاءك، قال: "إذن أجِدُهُم سِباطًا1 أكفهم، سمحة أنفسهم، بذلاء لأموالهم، وهابين لمجتديهم2 كريمة أعراقهم، شريفة أصولهم، زاكية فروعهم، قريبًا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسبهم وسببهم، ليسوا إذا نسبوا بأذناب ولا وشائظ3 ولا أتباع، ولا هم في قريش كفقعة القاع4، لهم السؤدَد في الجاهلية، والملك في الإسلام لا كمن لا يعد في عيرها ولا نفيرها5، ولا حكم آباؤه في نقيرها ولا قطميرها6 ليس   1 رجل سبط اليدين: سخيّ "وسبط كشمس". 2 المجتد: طالب الجدوى، وهي العطية. 3 وشائظ جمع وشيظة، يقال: هم وشيظة في قومهم أي حشو فيهم، وفي الأصل: "وسائط" وهو تصحيف. 4 الفقع "بالفتح والكسر" البيضاء الرخوة من الكمأة وجمعه فقعة كعتبة، والقاع: أرض سهلة مطمئنة، قد انفرجت عنها الجبال والآكام. ويضرب المثل بالفقع في الذل؛ لأنه لا يمتنع على من اجتناه، أو لأنه يوطأ بالأرجل. 5 أخذا من المثل وهو "لا في العير ولا في النفير" وأول من قاله أبو سفيان بن حرب، يضرب للرجل: يحط أمره، ويصغر قدره. وقد تقدم شرحه. 6 النقير: النكتة في ظهر النواة، والقطمير: القشرة الرقيقة بين النواة والتمرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 من أحلافها1 المطيَّبين، ولا من سادتها المطعِمين، ولا من جودائها2 الوهابين، ولا من هاشمها المنتخبين، ولا عبد شمسها المسودين، وكيف نقاتل الرءوس بالأذناب، وأين النصل من الجفن3 والسنان من الزج4، والذنابَى5 من القدامى6 وكيف يفضل الشحيح على الجواد، والسوقة على الملك؛ والجامع بخلا على المطعم فضلا؟ ". فغضب ابن الزبير حتى ارتعدت فرائصه7، وعرق جبينه، واهتز من قرنه إلى قدمه، وامتقع لونه، ثم قال له: يابن البوالة على عقبيها، ويا جلف8، يا جاهل، أما والله لولا الحرمات الثلاث: حرمة الإسلام، وحرمة الحرم، وحرمة الشهر الحرام، لأخذت الذي فيه عيناك، ثم أمر به إلى سجن "عارم" فحبس به مدة، ثم استوهبته هذيل، ومن له من قريش خئولة في هذيل، فأطلقه بعد سنة، وأقسم ألا يعطيه عطاء مع المسلمين أبدًا. فلما ولي عبد الملك، أمر له بما فاته من العطاء، ومثله صلة من ماله وكساء وحمله.   1 الأحلاف في قريش ست قبائل: عبد الدار، وكعب، وجمح، وسهم، ومخزوم، وعدي؛ لأنهم لما أراد بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجابة والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا، فوضعتها لأحلافهم وهم أسد، وزهرة، وتيم عند الكعبة، فغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفًا آخر مؤكدًا فسموا الأحلاف، وقوله المطيبين: لغمس أيديهم في الطيب. 2 جوداء: جمع جواد، وهو السخيّ، ويجمع أيضًا على أجواد وأجاود. 3 غمد السيف. 4 الحديدة في أسفل الرمح. 5 الذنب. 6 أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح. 7 جمع فريصة، وهي اللمة بين الجنب والكتف. 8 الجلف: الرجل الجافي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 146- خطبته وقد قدم عليه وفد العراق : قدم وفد من العراق على عبد الله بن الزبير، فأتوه في المسجد الحرام في يوم جمعة، فسلموا عليه، فسألهم عن مصعب أخيه، وعن سيرته فيهم، فقالوا: أحسن الناس سيرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وأقضاه بحق، وأعدله في حكم، فصلى عبد الله بالناس الجمعة، ثم صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين1 حتى إذا شابوا وشيبوني ... خلَّوْا عناني ثم سيبوني2 أيها الناس: "إني قد سألت هذا الوفد من أهل العراق، عن عاملهم مصعب بن الزبير، فأحسنوا الثناء عليه، وذكروا عنه ما أُحِبُّ، ألا إن مصعبًا اطّبَى3 القلوب، حتى ما تعدل به، والأهواء حتى ما تَحُول عنه، واستمال الألسن بثنائها؛ والقلوب بنصحها، والنفوس بمحبتها، فهو المحبوب في خاصته، المحمود في عامته، بما أطلق الله به لسانه من الخير، وبسط يده من البذل". ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م4: ص492؛ والأمالي 1: 286"   1 الغلوة: الغاية، وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه، ويقال هي قدر ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة. 2 تركوني. 3 اطبي: استمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 147- خطبته لما بلغه قتل مصعب : لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير "سنة 71هـ" وانتهى خبر مقتله إلى عبد الله بن الزبير، أضرب عن ذكره أيامًا، حتى تحدث به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر، فجلس عليه مليٍّا لا يتكلم، والكآبة على وجهه، وجبينه يرشح عرقًا، فقال رجل من قريش لرجل إلى جانبه: ما له لا يتكلم، أتراه يهاب المنطق؟ فوالله إنه للبيب الخطباء، قال: لعله يريد أن يذكر مقتل مصعب سيد العرب، فيشتد ذلك عليه، وغير ملوم، ثم تكلم، فقال: "الحمد لله الذي له الخلق والأمر، وملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. أما بعد: فإنه لم يُعِزَّ اللهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 من كان الباطلُ معه، وإن كان معه الأنام طرًّا1، ولم يُذِلَّ من كان الحق معه وإن كان مفرَدًا ضعيفًا؛ ألا وإنه قد أتانا خبرٌ من العراقِ بلد الغدر والشقاق، فساءنا وسرنا، أتانا أن مصعبًا قُتِلَ رحمة الله عليه ومغفرته؛ فأما الذي أحزننا من ذلك، فإن لفراقِ الحميم لذعةً ولوعةً يجدها حميمُه عند المصيبة، ثم يرعوِي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر، وكريم العزاء، وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له، وأنه عَزَّ وَجَلَّ جاعل لنا وله في ذلك الخيرة إن شاء الله تعالى. أسلمه الطغام2، الصم الآذان، أهل العراق، إسلام النَّعَمِ المُخَطَّة3، وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يقتل فقد قتل أبوه وعمه وأخوه4، وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله لا نموت حتف آنافنا5 ولكن قعصًا6 بالرماح،   1 جميعًا. 2 الأوغاد. 3 خطم البعير بالخطام: جعله على أنفه، والخطام ككتاب: ما وضع في أنف البعير ليقتاد به. 4 بعد أن اعتزل الزبير بن العوام أصحاب الجمل، انصرف إلى وادي السباع، وقد تبعه عمرو بن جرموز، فقتله في الصلاة، ويعني بعمه عبد الرحمن بن العوام بن خويلد، وقد استشهد يوم اليرموك، وفي رواية "وابن عمه" ويعني به عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام، وقد قتل يوم الدار "انظر أسد الغابة 3: 213". وأما أخوه فهو المنذر بن الزبير، وذلك أن جيش يزيد بعد أن أوقع بأهل المدينة في وقعة الحرة كما قدمنا، سار إلى مكة لغزو ابن الزبير، فقال لأخيه المنذر: ما لهذا الأمر ولدفع هؤلاء القوم غيري وغيرك -وكان أخوه المنذر ممن شهد الحرة. ثم لحق به- فجرد إليهم أخاه في الناس، فقاتلهم ساعة قتالا شديدا، ثم إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إلى المبارزة، فخرج إليه، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا، وكان مقتله سنة 64هـ -تاريخ الطبري 7: 14. 5 الحتف: الموت، ويقال: مات حتف أنفه: أي على فراشه من غير قتل، ولا ضرب، ولا غرق، ولا حرق، وخص الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه، أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض تخرج روحه من أنفه، والجريح من جراحته. 6 القعص: الموت الوحي "أي السريع كغني" ومات قعصا: أصابته ضربة، أو رمية فمات مكانه، وفي الكامل، وعيون الأخبار: "إنا والله ما نموت حبجا" وزاد الكامل "كميتة آل أبي العاص" والحبج محركة: انتفاخ بطن البعير من أكل لحاء العرفج "كجعفر"، وربما قتله ذلك، يعرض ببني مروان لكثرة أكلهم وإسرافهم في ملاذ الدنيا، وأنهم يموتون بالتخمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وموتا تحت ظلال السيوف، وليس كما يموت بنو مروان، والله ما قتل منهم رجل في زحف في جاهلية ولا إسلام قط؛ ألا وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها أخذ الأشر البطر1، وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرق المهين2. أقول قولي هذا وأسغفر الله لي ولكم" ثم نزل. "الأغاني 17: 166، شرح ابن أبي الحديد م1 ص320- م4 ص492، والعقد الفريد 2: ص150 و268، وتاريخ الطبري 7: 190، وعيون الأخبار م2: ص240، وتهذيب الكامل 1: 18، ومروج الذهب 2: 123".   1 الأشر: البطر. 2 من الخرق محركة وهو الدهش من خوف أو حياء، أو أن يبهت فاتحا عينيه ينظر، والمهين: الحقير، ويروى "بكاء الخرف المهتر" والخرف: من فسد عقله من الكبر، والمهتر: من ذهب عقله من كبر، أو مرض، أو حزن، من الهتر بالضم، وقد أهتر فهو مهتر "بضم الميم وفتح التاء": شاذ وقد قيل أهتر بالبناء للمجهول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 148- خطبة أخرى له : وقال الجاحظ: لما جاءه قتل أخيه مصعب، قام خطيبًا بعد خطبته الأولى، فقال: "إن مصعبًا قدَّم أيره، وأخر خيره، وتشاغل بنكاح فلانة وفلانة1 وترك حلْبة2 أهل الشام؛ حتى غشيته في داره، ولئن هلك مصعب إن في آل الزبير خلفًا منه". "البيان والتبيين 2: 47".   1 كان تحته عقيلتا قريش عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. 2 الحلبة: خيل تجتمع للسباق من كل أوب للنصرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 149- خطبته وقد بلغه قتل عمرو الأشدق : وروى الجاحظ أيضًا أنه لما بلغه قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد الأشدق، قام خطيبًا فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 "إن أبا ذِبَّان1، قَتَلَ لطيم الشيطان2، كذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون".   1 الذبان: الذباب، والعرب تكنو الأبخر "أبا دباب" وبعضهم يكنيه "أبا ذبان" وقد غلب ذلك على عبد الملك بن مروان، لفساد كان في فمه، وقيل: لأن لثته كانت تدمي، فيقع عليها الذباب". 2 هو عمرو بن سعيد الأشدق، سمي بذلك لميل كان في فمه، فقيل له من أجله: "لطيم الشيطان" قال الوزير الكاتب ابن عبدون في مرثيته المشهورة لدولة بني الأفطس بالأندلس التي مطلعها: "الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور ولم تدع لأبي الذبان قاضية ... ليس اللطيم لها عمرو بمنتصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 150- عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر : دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر، في اليوم الذي قتل فيه، وقد رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه: خذلني الناس حتى ولدي1 وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عزٍّ، أحب إلي من ضربة بسوط في ذلٍّ، قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي، قالت: يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها. فدنا منها وقبل رأسها، وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا،   1 وكان قد خرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخبيب فأخذا منه لأنفسهما أمانًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 ما رَكَنْتُ إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضبُ لله أن تستحل حرمُهُ، ولكنني أحببتُ أن أعلمَ رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمه، فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي -أنت أعلم بي- ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني، فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدَّمتني، وإن تقدَّمتُك ففي نفسي حرجٌ حتى أنظر إلام يصير أمرك، قال: يا أمه جزاك الله خيرًا! فلا تَدَعي الدعاء لي قبل وبعد، فقالت: لا أدعه أبدًا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق، ثم قالت: "اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين". ثم ودعها وخرج. "تاريخ الطبري 7: 202، والفخري 111، والعقد الفريد 2: 271، وبلاغات النساء ص130". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 151- خطبته يوم قتله : وخرج من عندها، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إن الموت قد تغشاكم سحابه، وأحقد بكم ربابه1، واجتمع بعد تفرق، وارجَحَنَّ بعد تمشق2، ورجس3 نحوكم رعده، وهو مفرغ عليكم ودقه4   1 الرباب: السحاب الأبيض. 2 ارجحن: مال من ثقله واهتز، وتمشق ثوبه: تمزق. 3 رجست السماء: رعدت شديدا وتمخضت. 4 الودق: المطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وقائدٌ إليكم البلايا، تتبعها المنايا، فاجعلوا السيوف لها غرضًا، واستعينوا عليها بالصبر". وتمثل بأبيات، ثم اقتحم يقاتل وهو يقول: قد جد أصحابك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب لها على ساق1 "العقد الفريد 2: 271"   1 هو من مشطور السريع الموقوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 152- خطبة أخرى : روى الطبري قال: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة 73هـ وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، صلى بأصحابه الفجر، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا آل الزبير: لو طبتم لي نفسًا عن أنفسكم، كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا1 في الله، لم تصبنا زبَّاءُ بتةً2، أما بعد يا آل الزبير: فلا يرعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطنًا قط إلا ارْتُثِثْتُ3فيه من القتل، وما أجد من دواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم؛ لا أعلم امرأ كسر سيفه، واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقة4، وليشغلْ كل امرئ قرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل5 الأول: أبى لابن سلمى أنه غير خالد ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما   1 أي استؤصلنا. 2 الزباء من الدواهي: الشديدة، ويقال: لا أفعله ألبتة وبتة، لكل أمر لا رجعة فيه. 3 ارتثثت "مبنيا للمجهول" حمل من المعركة رثيثً أي جريحا وبه رمق. 4 البارقة: السيوف. 5 الرعيل: القطعة من الخيل القليلة، أو مقدمتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 فلست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما احملوا على بركة الله" ثم قاتل حتى أثخن بالجراحات وقتل. "تاريخ الطبري 2: 204". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 153- خطبة مصعب بن الزبير : عث عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا واليًا على البصرة سنة 67هـ، فصعد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} "وأشار بيده نحو الشام" {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} "وأشار بيده نحو الحجاز" {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} "وأشار بيده نحو العراق". "البيان والتبيين 2: 159، والعقد الفريد 2: 158، وتاريخ الطبري 7: 146" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 خطب الأمويين خطباء البيت الأموى خطبته بالمدينة عام الجماعة ... خطب الأمويين، خطباء البيت الأموي: طب معاوية "توفي سنة 60هـ": 54 – خطبته بالمدينة عام الجماعة: قدم معاوية المدينة عام الجماعة "سنة 41هـ" فتلقاه رجال قريش، فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلى كعبك، فما رد عليهم شيئًا حتى صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة، ولقد رُضْتُ1 لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارًا شديدًا، وأردتها على سُنَيات2 عثمان، فأبت علي، فسلكت بها طريقًا لي ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة، فإن لم تجدوني خيركم، فإني خير لكم ولاية، والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفى به القائل بلسانه، فقد جعلت ذلك له دَبْرَ3 أذني،   1 من راض المهر: إذا ذَلَّلَه. 2 سنية مصغر سنة، والمراد حكم عثمان. 3 جعل كلامك دبر أذنه: لم يصغ إليه، ولم يعرج عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وتحت قدمي، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فاقبلوا مني بعضه، فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا جاد يثرى؛ وإذا قل أغنى، وإياكم والفتنة، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة" ثم نزل. "العقد الفريد 2: 139". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 155- خطبة أخرى له بالمدينة : وخطب، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: "أما بعد، أيها الناس، إنا قدمنا عليكم، وإنما قدمنا على صديق مستبشر، أو على عدو مستتر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، ولست واسعًا كل الناس، فإن كانت محمدة، فلا بد من مذمة، فلومًا هونًا إذ ذكر غفر، وإياكم والتي إن أخفيت أوْبَقَتْ، وإن ذكرت أوثقت" ثم نزل. "العقد الفريد 2: 140". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 156- خطبة له بالمدينة : وصعد منبر المدينة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يأهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقًا كخلق العراق، يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرئ منهم شيعة نفسه، فاقبلونا بما فينا، فإن ما رواءنا شر لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى فالرتق خير من الفتق، وفي كلٍّ بلاغ، ولا مقام على الرزية". "العقد الفريد 2: 140" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 157- خطبته حين ولى المغيرة بن شعبة الكوفة: ولما ولَّى معاوية المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة 4هـ دعاه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا1، وقد قال المتلمس: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما وقد يُجزِي2 الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني، وتصلح به رعيتي، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تَتَحَمَّ3 عن شتم علي وذمه، والترحم على عثمان، والاستغفار له، والعيب على أصحاب علي، والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه، والإدناء لهم، والاستماع منهم". فقال المغيرة: "قد جَرَّبْتُ وجُرِّبْتُ، وعملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي دفع ولا رفع، ولا وضع، فستبلو4 فتحمد، أو تذُمّ" قال: "بل نحمد إن شاء الله". "تاريخ الطبري 6: 141"   1 من أمثال العرب المشهورة: "إن العصا قرعت لذي الحلم" وهو مثل يضرب لمن إذا نُبِّه انتبه، وأول من قرعت له العصا عامر بن الظرب العدواني؛ وقيل: هو قيس بن خالد، وقيل: ربيعة بن مخاشن، وقيل: عمرو بن حمة الدوسي، وقيل عمرو بن مالك، ذكروا أن عامر بن الظرب كان أحد حكام العرب المشهورين: لا تعدل بفهمه فهما، ولا بحكمه حكما، فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه: إنه قد كبرت سني، وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي، وأخذت في غيره، فاقرعوا لي المجن بالعصا، وقال المتلمس يريده: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... البيت 2 يجزي مسهل عن يجزئ أي يغني، يقال: أجزأت عنك مجزأ فلان: أي أغنيت عنك مغناه. 3 احتمى وتحمى: امتنع. 4 أي تختبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 158- خطبة له في يوم صائف : وخطب الجمعة في يوم صائف شديد الحر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ خلقكم فلم ينسكم، ووعظكم فلم يهملكم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قوموا إلى صلاتكم "العقد الفريد 2: 140". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 159- آخر خطبة له : صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قبض على لحيته، وقال: "أيها الناس: إني من زرع قد استحصد1، وقد طالت عليكم إمرتي، حتى مللتكم ومللتموني، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، وإنه لا يأتيكم بعدي إلا من هو شرٌّ مني، كما لم يأتكم قبلي إلا من كان خيرًا مني، وإنه من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، اللهم إني قد أحببت لقاءك، فأحبب لقائي" ثم نزل، فما صعد المنبر حتى مات2. "الأمالي 2: 315، وتهذيب الكامل 1: 16"   1 استحصد الزرع وأحصد: حان أن يحصد. 2 سيرد عليك بقية خطبة بعد في موضعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 خطبته وقد حضرته الوفاة ... 160- خطبته وقد حضره الوفاة: ولما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك، قال: ويحك؟ ولم؟ قال: لا أدري، قال: فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم، وأذن للناس فدخلوا، فحمد الله وأثنى عليه، وأوجز ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 "أيها الناس: إنا قد أصبحنا في دهر عنود1، وزمن شديد2 يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد فيه الظالم عتوا، لا ننتفع بما علمناه، ولا نسأل عما جهلناه، ولا نتخوف قارعة3 حتى تحل بنا؛ فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده، ونضيض وقره4 ومنهم المصلت5 لسيفه، المجلب بخيله ورجله، المعلن بشره، قد أشرط نفسه، وأوبق دينه، لحطام ينتهزه6، أو مقتب7 يقوده، أو منبر يقرعه8، ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا، ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة للمعصية، ومنهم من قد أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن أمله. فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهاد، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى، وبقى رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نافر، وخائف منقمع9، وساكت مكعوم10، وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية11، وشملتهم الذلة، فهم بحر أجاج12، أفواههم ضامزة13، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا   1 جائر. من عند عن الطريق كنصر وسمع وكرم عنودا: إذا مال. 2 وفي نهج البلاغة: وزمن كنود وهو الكفور. 3 الداهية التي تقرع أي تصيب. 4 أي قلة ماله. 5 أصلت السيف: سله. 6 هيأها وأعدها "من الشرط "محركة" وهو العلامة" أي هيأها للفساد في الأرض. وأوبقه: أهلكه. والحطام: المال. وأصله ما تكسر من اليبيس. 7 المقنب من الخيل: بين الثلاثين إلى الأربعين أو زهاء ثلثمائة. 8 يعلوه. 9 مقهور. 10 من كعم البعير كمنع: شد فاه لئلا يعض أو يأكل، وفي البيان والتبيين معكوم، من عكم المتاع يعكمه: شده بثوب. 11 التقية: المداراة. 12 الأجاج: الملح. 13 ساكتة من ضمز كنصر وضرب: سكت ولم يتكلم. والبعير أمسك جرته في فيه ولم يجتر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 حتى قلوا، فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ1 وقراضة الجلمين، واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، فارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم". "البيان والتبيين 2: 28، والعقد الفريد 2: 141: ونهج البلاغة 1: 40 وإعجاز القرآن 213"   1 القرظ: ورق السلم أو ثمر السنط يدبغ به، والجلم: مقراض يجزُّ به الصوف. والقراضة: ما يسقط منه عند الجزّ. قال الجاحظ: "وفي هذه الخطبة أبقاك الله ضروب من العجب، منها أن هذا الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية، ومنها أن هذا المذهب -في تصنيف الناس، وفي الإخبار عنه، وعما هم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية والخوف- أشبه بكلام علي وبمعانيه، وبحاله منه بحال معاوية، ومنها أنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ولا يذهب مذاهب العباد، وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه، والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم". ونسبها الشريف الرضى إلى الإمام علي، وقال هي من كلامه الذي لا يشك فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 161- وصيته لابنه يزيد : لما حضرت معاوية الوفاة، ويزيد غائب، دعا معاوية مسلم بن عقبة المري، والضحاك بن قيس الفهري، فقال: أبلغا عني يزيد وقولا له: "يا بني، إني قد كفيتك الشد والترحال، ووطأت لك الأمور، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز، فإنهم أصلك وعترتك1، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعهده، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أهون عليك من سل مائة ألف سيف، ثم لا ندري علام أنت عليه منهم؟ ثم انظر أهل الشام، فاجعلهم الشعار2دون الدثار، فإن رابك من عدوك ربب، فارمهم3 بهم، فإن   1 عترة الرجل: عشيرته الأدنون. 2 الشعار: الثوب يلبس على شعر الجسد، والدثار: الذي يلبس فوق الشعار. 3 الضمير للعدو، وهو للواحد والجمع، والذكر والأنثى، وقد يثنى ويجمع ويؤنث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 أظفرك الله بهم، فاردد أهل الشام إلى بلادهم، ولا يقيموا في غير بلادهم، فيتأدبوا بغير أدبهم. وإني لست أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه1 الورع، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك؛ وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه فإن خرج وظفرت به، فاصفح عنه، فإن له رحمًا2 ماسة، وحقًّا عظيمًا، وقرابة من محمد صلوات الله عليه وسلامه؛ وأما ابن أبي بكر، فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، ليست له همة إلا في النساء واللهو؛ وأما ابن الزبير، فإنه خب ضب3، فإن ظفرت به فقطعه إربًا إربًا4. "أو قال" وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو وثب عليك، فظفرت به فقطعه إربًا إربًا، واحقن دماء قومك ما استطعت". "البيان والتبين 2: 66 وتاريخ الطبري 6: 179، العقد الفريد 2: 141-249 الفخري ص102"   1 وقذه: صرعه وغلبه، وتركه عليلا كأوقذه. 2 قرابة. 3 انظر تفسيرها في صفحة 141. 4 أي عضوا عضوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 خطب يزيد بن معاوية خطبته بعد موت معاوية ... خطب يزيد بن معاوية "توفي سنة 64هـ": 162- خطبته بعد موت معاوية: "الحمد لله الذي ما شاء صنع: من شاء أعطى، ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع، إن أمير المؤمنين كان حبلا من حبال الله، مده ما شاء أن يمده، ثم قطعه حين أراد أن يقطعه، وكان دون من قبله، وخيرًا ممن يأتي بعده، ولا أزكيه عند ربه وقد صار إليه، فإن يعف فبرحمته. وإن يعاقبه فبذنبه، وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا أشتغل1 بطلب علم، وعلى رسلكم، إذا كره الله شيئا غيّره، وإذا أحب شيئا يسّره". "العقد الفريد 2: 142-250، ومروج الذهب 2: 93، عيون الأخبار م2: ص238"   1 في العقد الفريد: ولا آسى على طلب علم، ولا أني عن طلب علم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 163- خطبة أخرى له : "الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله اصطفاه لوحيه، واختاره لرسالته، بكتاب فصله وفضله، وأعزّه وأكرمه، ونصره وحفظه، ضرب فيه الأمثال، وحلل فيه الحلال، وحرم فيه الحرام، وشرع فيه الدين؛ إعذارًا وإنذارًا لئلا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 للناس على الله حجة بعد الرسل، ويكون بلاغا لقوم عابدين1. أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدأ الأمور بعلمه، وإليه يصير معادها، وانقطاع مدتها، وتصرم دارها، ثم إني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة2، حفت بالشهوات، وراقت بالقليل، وأينعت بالفاني، وتحببت بالعاجل، لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجيعتها، أكالة غوالة غرارة، لا تبقى على حال، ولا يبقى لها حال. لن تعدو الدنيا إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} نسأل الله ربنا وإلهنا وخالقنا ومولانا أن يجعلنا وإياكم من فزع يومئذ آمنين، إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} . "العقد الفريد: 2: 142"   1 أي همهم العبادة. 2 ناضرة. 3 أي عنتكم "مشقتكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 164- خطبة معاوية بن يزيد 1 "توفي سنة 64": أمر معاوية بن يزيد بن معاوية بعد ولايته، فنودي بالشام: الصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني قد نظرت في أمركم، فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستة في الشورى   1 استخلف في شهر ربيع الأول سنة 64هـ، ولم يلبث في الخلافة إلا ثلاثة أشهر، وقيل أربعين يومًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 مثل ستة عمر فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم، فما كنت لأتزودها ميتًا، وما استمتعت بها حيًّا". ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس، وتغيب حتى مات1. "تاريخ الطبري 7: 34، والفخري ص107، ومروج الذهب 2: 97"   1 قيل: دس إليه، فسقي سُمًّا، وقال بعضهم: طعن، وتوفي وهو ابن ثلاث عشرة سنة وثمانية عشر يوما، وقيل، ابن إحدى وعشرين سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 165- وصية مروان بن الحكم لابنه عبد العزيز : ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على مصر، وقال له حين ودعه: "أرسل حكيمًا ولا توصه، أي بني انظر إلى عمالك فإن كان لهم عندك حقٌّ غدوةً فلا تؤخره إلى عشية، وأعطهم حقوقهم عند محلها، تستوجب بذلك الطاعة منهم، وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق، واستشر جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى، وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك، فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة، فإن أول من جعل السجن كان حليمًا ذا أناة، ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة، فليكونوا أصحابك وجلساءك، ثم اعرف منازلهم منك على غيرهم، على غير استرسال ولا انقباض، أقول هذا وأستخلف الله عليك". "العقد الفريد 1: 49" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 خطب عبد الملك بن مروان خطبته بمكة ... خطب عبد الملك بن مروان "توفى سنة 86هـ": 166- خطبته بمكة: خطب بمكة فقال في خطبته: "أيها الناس: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف "يريد عثمان بن عفان" ولا بالخليفة المداهن "يريد معاوية بن أبي سفيان" ولا بالخليفة المأفون1 "يريد يزيد بن معاوية" فمن قال برأسه كذا، قلنا له بسيفنا كذا". ثم نزل2. "العقد الفريد 2: 142 و263 والبيان والتبيين 2: 85".   1 المأفون: الضعيف الرأي والعقل. 2 قال أبو إسحق النظام: "أما والله لولا نسبك من هذا المستضعف وسببك من هذا المداهن لكنت منها أبعد من العَيُّوق "بفتح العين وتشديد الياء، نجم أحمر مضيء يتلو الثريا" والله ما أخذتها بوراثة، ولا سابقة، ولا قرابة، ولا بدعوى شورى، ولا بوصية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 167- خطبة له موجزة : وخطب على المنبر فقال: "أيها الناس إن الله حد حدودًا، وفرض فروضًا، فما زلتم تزدادون في الذنب، ونزداد في العقوبة، حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف". "العقد الفريد 2: 263". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 خطبته حين قتل عمر الأشدق بن سعيد بن العاص ... 168- خطبته حين قتل عمرا الأشدق بن سعيد بن العاص: 1 "ارموا بأبصاركم نحو أهل المعصية، واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة، ولا تكونوا أغفالا2 من حسن الاعتبار، فتنزل بكم جائحة3 السطوات، وتجوس خلالكم بوادر النقمات، وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة، فتجعلكم همدا رفاتا4، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتًا، فإياي من قول قائل، ورشقة جاهل، فإنما بيني وبينكم أن أسمع النغوة5، فأصمم تصميم الحسام المطرور6، وأصول صيال الحنق الموتور7، وإنما هي المصافحة والمكافحة، بظبات السيوف وأسنة الرماح، والمعاودة لكم بسوء الصباح، فتاب تائب، وهدل خائب8، والتوب مقبول، والإحسان مبذول،   1 وذلك أنه لما كانت الفتنة بعد موت معاوية الثاني، وانحاز الضحاك بن قيس الفهري عن مروان بن الحكم، واستمال الناس ودعا إلى ابن الزبير، التقى وعمرو بن سعيد الأشدق "وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف" فقال الأشدق لمروان: هل لك فيما أقوله لك؟ فهو خير لي ولك، فقال مروان: وما هو؟ قال: أدعو الناس إليك وآخذها لك على أن تكون لي من بعدك، فقال مروان: لا بل بعد خالد بن يزيد بن معاوية، فرضي الأشدق بذلك، ودعا الناس إلى بيعة مروان فأجابوا، وبايع مروان بعده لخالد بن يزيد، ولعمرو بن سعيد بعد خالد، ثم مات مروان وخلفه ابنه عبد الملك؛ ولما اعتزم عبد الملك أن يخرج إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير بنفسه قال له عمرو: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى شيء، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، فرجع إلى دمشق وحاصرها حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده، ففتح له، ثم إن عبد الملك احتال له حتى قتله سنة 69. 2 غبر: بقي، وأغفال جمع غفل كقفل. 3 الجوح والاجتياح: الإهلاك والاستئصال. 4 الهامد: البالي من كل شيء، والرفات: الحطام. 5 النغوة والنغية: أول الخبر قبل أن تستثبته. 6 المشحوذ، من الطر: وهو تحديد السكين وغيرها. 7 صاحب الوتر: وهو الثأر. 8 هدله يهدله كضربه: أرخاه، وهدل المشفر كفرح: استرخى أي ضعف الخائب وخار، ولعله حائب من الحوب بفتح الحاء وضمها وهو الإثم. حاب بكذا أثم حوبا أي ضعف الأثيم المذنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 لمن عرف رشده، وأبر حظه، فانظروا لأنفسكم، وأقبلوا على حظوظكم، وليكن أهل الطاعة يدًا على أهل الجهل من سفهائكم، واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها، ونفيس زينتها، فإنك من ذلك بين فضيلتين: عاجل الخفض والدعة، وآجل الجزاء والمثوبة، عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه1، وأمدكم بحسن معونته وحفظه، انهضوا رحمكم الله إلى قبض أعطياتكم، غير مقطوعة عنكم، ولا مكدرة عليكم". "صبح الأعشى 1: 218".   1 نزغ بينهم: أفسد وأغرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 169- خطبته لما دخل الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير : 1 لما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير سنة 71هـ دخل الكوفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: "أيها الناس إن الحرب صعبة مرة، وإن السلم أمن ومسرة، وقد زبنتنا الحرب وزبناها2 فعرفناها وألفناها، فنحن بنوها وهي أمنا. أيها الناس فاستقيموا على سبل الهدى، ودعوا الأهواء المردية، وتجنبوا فراق جماعات المسلمين، ولا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين وأنتم لا تعملون أعمالهم، ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا شرًّا، ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة، فمن شاء منكم أن يعود بعد لمثلها فليعد، فإنما مثلي ومثلكم كما قال قيس من رفاعة الأنصاري: من يصلَ ناري بلا ذنب ولا ترة ... يصلَ بنار كريم غير غدار3 أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهي وإنذار   1نسب القلقشندي هذه الخطبة إلى معاوية وذكر أنه خطبها بصفين "صبح الأعشى 1: 215" وعزاها القالي في الأمالي إلى عبد الملك بن مروان وهو ما نرجحه لما يدل عليه سياق الخطبة. 2 أي دفعتنا ودفعناها، والزبن: الدفع، ومنه اشتقاق الزبانية "جمع زبنية أو زبني بكسر الزاي وسكون الباء" لأنهم يدفعون أهل النار إلى النار ومنه أيضًا حرب زبون بفتح الزاي. 3 الترة والوتر: الثأر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خِزْيًا ظاهر العار لترجعن أحاديثا ملعَّنة ... لهو المقيم ولهو المدلج الساري1 من كان في نفسه حوجاء يطلبها ... عندي فإني له رهن بإصحار2 أقيم عوجته إن كان ذا عوج ... كما يقوِّمُ قدح النبعة الباري3 وصاحب الوتر ليس الدهر مدركه ... عندي، وإني لدرَّاك بأوتار "الأمالي 1: 12".   1 أدلج: سار من أول الليل، فإن سار من آخره فقد ادلج بالتشديد، والساري: الذي يسير بالليل. 2 الحوجاء: الحاجة. وقوله بأصحار: أي لا أستتر عنه، ولا أمتنع في الأماكن الحصينة، من أصحر القوم: برزوا إلى الصحراء. 3 العوج بالفتح في كل ما كان منتصبا مثل الإنسان والعصار والعود وشبهه، والعوج بالكسر: ما كان في بساط أو أرض معاش أو دين، قيل بالفتح مصدر وبالكسر اسم منه، والقدح: السهم قبل أن يراش وينصل، جمعه قداح، والنبعة واحدة النبع وهو شجر القسي والسهام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 170- خطبته عام حجه : وحج عبد الملك في بعض أعوامه، فأمر الناس بالعطاء، فخرجت بدرة1 مكتوب عليها من الصدقة، فأبى أهل المدينة قبولها، وقالوا: إنما كان عطاؤنا من الفيء، فقال عبد الملك وهو على المنبر: "يا معشر قريش، مثلنا ومثلكم أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة تحت صفاة2، فلما دنا الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حية تحمل دينارًا، فألقته إليهما، فقالا: إن هذا لمن كنز، فأقاما عليها ثلاثة أيام، كل يوم تخرج إليهما دينارا، فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه، فنهاه أخوه، وقال: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه   1 البدرة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار. 2 الصفاة: الحجر الصلد الضخم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وأخذ فأسا معه، ورصد الحية حتى خرجت، فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها، فثارت الحية، فقتلته، ورجعت إلى جحرها، فقام أخوه، فدفنه، وأقام حتى إذا كان من الغد خرجت الحية معصوبًا رأسها، ليس معها شيء، فقال لها: يا هذه إني والله ما رضيت ما أصابك، ولقد نهيت أخي عن ذلك، فهل لك أن نجعل الله بيننا أن لا تضريني ولا أضرك وترجعين إلى ما كنت عليه؟ قالت الحية: لا، قال: ولم ذلك؟ قالت: إني لأعلم أن نفسك لا تطيب لي أبدًا وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبدًا وأنا أذكر هذه الشجة1، وأنشدهم شعر النابغة: فقالت أرى قبرًا تراه مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاغره فيا معشر قريش وليكم عمر بن الخطاب، فكان فظا غليظا مضيقا عليكم، فسمعتم له وأطعتم، ثم وليكم عثمان فكان سهلا، فعدوتم عليه فقتلتموه، وبعثنا عليكم "مسلمًا"2 يوم الحرة فقتلناكم، فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تحبوننا أبدا، وأنتم تذكرون يوم الحرة، ونحن لا نحبكم أبدًا ونحن نذكر قتل عثمان". "مروج الذهب 2: 129".   1 راجع مجمع الأمثال للميداني 2: 6 في المثل: "كيف أعاودك وهذا أثر فاسك". 2 هو مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة، وذلك أن أهل المدينة كانوا كرهوا خلافة يزيد بن معاوية وخلعوه وحصروا من كان بها من بني أمية وأخافوهم، فوجه إليها مسلم بن عقبة، فحاصرها من جهة الحرة، "موضع بظاهر المدينة" ودخلها، ودعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، وقد أباح المدينة ثلاثا: فقتل، ونهب، وسبى، وقيل: إن الرجل من أهل المدينة بعد ذلك كان إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها، ويقول: لعلها افتضت في وقعة الحرة. "وكانت في ذي الحجة من سنة 63هـ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 171- خطبته وقد علم بخروج ابن الأشعث : ولما ورد إليه كتاب الحجاج ينبئه بخروج ابن الأشعث خرج إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 "إن أهل العراق طال عليهم عمري، فاستعجلوا قدري، اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك" ثم نزل. "تاريخ الطبري 8: 10". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 172- وصيته لبعض أمرائه : وأوصى عبد الملك أميرًَا سيره إلى أرض الروم، فقال: "أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا اتَّجَرَ، وإلا تحفظ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرًا من احتيال عدوك عليك". "العقد الفريد 1: 41". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 173- وصيته للشعبي : وروى المسعودي في مروج الذهب قال: ولما أفضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان، تاقت نفسه إلى محادثة الرجال والأشراف في أخبار الناس، فلم يجد من يصلح لمنادمته غير الشعبي، فلما حمل إليه ونادمه، قال له: "يا شعبي، لا تساعدني على ما قبح، ولا ترد علي الخطأ في مجلسي، ولا تكلفني جواب التشميت1 والتهنئة، ولا جواب السؤال والتعزية، ودع عنك "كيف أصبح الأمير، وكيف أمسى". وكلمني بقدر ما أستطعمك، واجعل بدل المدح لي صواب الاستماع مني، واعلم أن صواب الاستماع أكثر من صواب القول، وإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شيء، وأرني فهمك من طرفك وسمعك، ولا تجهد نفسك في نظر2   1 التشميت: الدعاء للعاطس. 2 في الأصل: "في نظرية صوابي" وأراه محرفا، والنظر: الانتظار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 صوابي، ولا تستدع بذلك الزيادة في كلامي، فإن أسوأ الناس حالا من استكد الملوك بالباطل، وإن أسوأ الناس حالا منهم من استخف بحقهم، واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الإحسان، ويسقط حق الحرمة. فإن الصمت في موضعه ربما كان أبلغ من النطق في موضعه وعند إصابته وفرصته". "مروج الذهب 2: 109". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 174- وصيته لأخيه عبد العزيز بن مروان : وأوصى عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز حين ولاه مصر فقال: "ابسط بشرك، وألن كنفك، وآثر الرفق في الأمور، فإنه أبلغ بك، وانظر حاجبك، فليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه، لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده، وإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ بالسلام، يأنسوا بك، وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مشكل، فاستظهر عليه بالمشاورة، فإنها تفتح مغاليق1 الأمور، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته، فإنك على العقوبة بعد التوقف عنه أقدر منك على ردها بعد إمضائها".   1 جمع مغلاق بكسر الميم: وهو ما يغلق به الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 175- وصيته لولده عند وفاته : نظر عبد الملك إلى ابنه الوليد وهو يبكي عليه عند رأسه، فقال: "يا هذا أحنين الحمامة؟ إذا أنا متُّ فشمرْ واتَّزِرْ، والبسْ جلد نمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك، فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ثم أقبل عبد الملك يذم الدنيا، قال: "إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لقليل، وإن كنا منك لفي غرور". ثم أقبل على جميع ولده فقال: "أوصيكم بتقوى الله، فإنها عصمة باقية، وجنة واقية، فالتقوى خير زاد، وأفضل في المعاد، وهي أحصن كهف، وليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، مع سلامة الصدور، والأخذ بجميل الأمور، وإياكم والبغي والتحاسد، فبهما هلك الملوك الماضون، وذوو العز المكين، يا بنيّ: أخوكم مسلمة نابُكم الذي تفرون1 عنه، ومِجَنِّكُم2 الذي تستجنون به، أصدروا عن رأيه، وأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم هذا الأمر، كونوا أولادا أبرارا، وفي الحروب أحرارا، وللمعروف منارا، وعليكم السلام". "مروج الذهب 2: 154".   1 فر الدابة: كشف عن أسنانها لينظر ما سنها. 2 المجن: الترس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 176- خطبة للوليد بن عبد الملك بعد دفن أبيه "توفي سنة 96هـ": لما رجع الوليد من دفن عبد الملك لم يدخل منزله حتى دخل المسجد، ونادى في الناس: الصلاة جامعة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس إنه لا مؤخر لما قدَّم الله، ولا مقدم لما أخر الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه، وحملة عرشه من الموت موت ولي هذه الأمة، ونحن نرجو أن يصير إلى منازل الأبرار، للذي كان عليه من الشدة على المريب، واللين على أهل الفضل والدين، مع ما أقام من منار الإسلام وأعلامه، وحج هذا البيت وغزو هذه الثغور، وشن الغارات على أعداء الله، فلم يكن فيها عاجزًا ولا وانيًا، ولا مفرطًا، فعليكم أيها الناس بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الجماعة أبعد، واعلموا أنه من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه". ثم نزل. "العقد الفريد 2: 142، وتاريخ الطبري 8: 59". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 177- خطبة لسليمان بن عبد الملك "توفي سنة 99هـ": "الحمد لله، ألا إن الدنيا دار غرور، ومنزل باطل، تضحك باكيًا، وتبكي ضاحكًا، وتخيف آمنًا، وتؤمن خائفًا، وتفقر مثريًا، وتثري مقترًا1 ميالة غرارة، لعّابة بأهلها، عباد الله، فاتخذوا كتاب الله إماما، وارتضوا به حكمًا، واجعلوه لكم قائدًا، فإنه ناسخ لما كان قبله، ولم ينسخه كتاب بعده، واعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان، كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس". "العقد الفريد 2: 143، وعيون الأخبار م2: ص247، والبيان والتبيين 1: 166"   1 من أقتر، أي افتقر. 2 تنفس الصبح: أسفر، وعسعس الليل: أقبل ظلامه "أو أدبر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 خطب عمر بن عبد العزيز أولى خطبه ... خطب عمر بن عبد العزيز "توفي سنة 101هـ": 178- أولى خطبه: قال العتبي: أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: "أيها الناس، أصلحوا سرائركم، تصلح لكم علانيتكم، وأصلحوا آخرتكم تصلح دنياك، وإن امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرِق في الموت". "العقد الفريد 2: 143، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص217". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 179- خطبة له بالمدينة : وفي سنة 87هـ ولَّى الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة، فلما قدمها صلى الظهر ودعا عشرة من فقهائها، فدخلوا عليه، فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأُحَرِّج1 اللهَ على من بلغه ذلك إلا بلَّغني". فخرجوا يجزونه خيرًا. "تاريخ الطبري 8: 61".   1 التحريج. التضييق، أي فأشدِّد عليه بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 180- خطبة أخرى: وروى المسعودي في مروج الذهب، أنه لما أفضى إليه الأمر، كان أول خطبة خطب الناس بها أن قال: "أيها الناس، إنما نحن من أصول قد مضت فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله؟ وإنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتضل1 فيهم المنايا، وهم فيها نصب المصائب، مع كل جرعة شرق2، وفي كل أكلة غصص، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر منكم يومًا من عمره إلا بهدم آخر من أجله". وأورد القالي في الأمالي هذه الخطبة بصورة أطول، وهي: "ما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فيما لا يرجى، وما الحيلة فيما سيزول؟ وإنما الشيء من أصله، فقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله؟ إنما الناس في الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نهب للمصائب، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، ولا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، فأين المهرب مما هو كائن؟، وإنما نتقلب في قدرة الطالب، ما أصغر المصيبة اليوم، مع عظيم الفائدة غدا، وأكبر خيبة الخائب فيه، والسلام". "مروج الذهب 2: 168، والأمالي 2: 102، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص213".   1 جمع غرض: وهو الهدف، وانتضلت: تناضلت وتبارت في الرمي. 2 شرق بريقه: غص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 181- خطبة أخرى: وروي أنه لما دفن سليمان بن عبد الملك، وخرج من قبره، سمع للأرض رجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين، قربت إليك لتركبها، فقال: ما لي ولها؟ نحوُّها عني، قربوا إلي بغلتي، فقربت إليه، فركبها. وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني، ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين، فسار، وسار معه الناس، حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فقال: "أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم". فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فَلِ أمرنا باليمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعًا، حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: "أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَفٌ، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أمر دنياه وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكرَ الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أبًا حيًّا لمعرق في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عَزَّ وَجَلَّ، ولا في نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدنيار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدًا باطلا، ولا أمنع أحدًا حقًّا، إني لست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 بخازن، ولكني أضع حيث أمرت، أيها الناس: إنه قد كان قبلي ولاة تجترون1 مودتهم، بأن تدفعوا بذلك ظلمهم عنكم، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. أقول قولي هذا، وأسغفر الله العظيم لي ولكم". "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص53-201، ولابن عبد الحكم ص39".   1 تجتذبون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 182- خطبة أخرى: وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر، وكان أول خطبة خطبها: حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يأيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه". فانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل، حتى يخالف قوله فعله. "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص196". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 183- خطبة أخرى: وصعد المنبر: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس، إنه ليس بعد نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وما حرم الله على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا إني لستُ بقاضٍ، لكني منفذ لله، ولست بمبتدع، ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله عَزَّ وَجَلَّ، ألا إني لست بخيركم، وإنما أنا رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملا، يأيها الناس: إن أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم". "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص56، وص198، ولابن عبد الحكم ص38، ومروج الذهب 2: 168". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 184- خطبة أخرى: وخطب فقال: "أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم. يأيها الناس، إنه من يقدر له رزق برأس جبل، أو بحضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب": "إعجاز القرآن ص124، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص198". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 185- خطبة أخرى: وخطب فقال: "إن الدنيا ليست بدار قرار، دارٌ كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل يخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة، بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. إنما الدنيا كفيء ظلال قَلَصَ1 فذهب، بينا ابن آدم في الدنيا منافس، وبها قرير عين،   1 الفيء: ما كان شمسًا، فينسخه الظل، وقلص الظل كضرب: انقبض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودياره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه1، إن الدنيا لا تسر بقدْرِ ما تضر، إنها تسر قليلا، وتجرّ حزنًا طويلا". "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 197 وص221".   1 المصانع: المباني من القصور والحصون، والمغنى: المنزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 186- خطبة له يوم عيد : وخطب يوم عيد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تلا ثلاث آيات من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ ثم قال: "يأيها الناس، إني وجدت هذا القلب لا يعبر عنه إلا اللسان، ولعمري -وإن لعمري مني لحقًّا1- لوددت أنه ليس من الناس عبد ابتلي بسعة، إلا نظر قطيعًا من ماله، يجعله في الفقراء والمساكين، واليتامى والأرامل، بدأت أنا بنفسي وأهل بيتي، ثم كان الناس بعد". ثم كان آخر كلمة تكلم بها حين نزل: "لولا سنة أحببتُها، أو بدعة أمتُّها، لم أبال أن لا أبقى في الدنيا إلا فواقًا2". "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص201".   1العمر بالفتح والضم: الحياة، والتزموا المفتوح في القسم خاصة تخفيفًا، لكثرة استعماله فيه. 2 الفواق كغراب ويفتح: ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 187- خطبة له : وخطب فقال: "أما بعد: أيها الناس، فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عنكم يوم القيامة، فإن من زافت1 به منيته، فقد قامت قيامته، لا يَسْتَعْتِبُ من سَيِّءٍ، ولا يزيد في حَسَن.   1 من زافت الحمامة: إذا نثرت جناحيها وذنبها وسحبتها على الأرض وفي رواية: "وافته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيًا، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصُح عليه الأعجميّ، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا، لا يرون الحق غيره". ثم قال: "إنه لحبيب إليّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها، ولا قوة إلا بالله". "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص40، ولابن الجوزي ص204". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 خطبة له 2 ... 188- خطبة أخرى: وصعد ذات يوم المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إنما يراد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشد من الجهل، ولا داء أخبث من الذنوب، ولاخوف أخوف من الموت". ثم نزل "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص207". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 خطبة له 3 ... 189- خطبة أخرى: وصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا1، والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إلي، ليس علي فيه دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي" اقرأ يا مزاحم -وكان مولاه- وقد جيء قبل ذلك بِسَفَطٍ فيه تلك الكتب، فقرأ مزاحم كتابًا منها، ثم ناوله   1 يريد آباءه وما ورثوه إياه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 عمر، وهو قاعد على المنبر وفي يده جَلَم1، فجعل يَقُصُهُ، واستأنف مزاحم كتابا آخر، فقرأه، ثم دفعه إلى عمر، فقصه، فما زال حتى نودي بصلاة الظهر. "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص198"   1 مقص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 190- خطبة له: وكان يخطب فيقول: "أيها الناس: من ألمَّ بذنب فليستغفر الله عَزَّ وَجَلَّ وليتُبْ، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها". "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص198". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 191- خطبة له: وخطب الناس بعد أن جمعهم فقال: "إني لم أجمعكم لأمر أحدثته، ولكني نظرت في أمر معادكم، وما أنتم إليه صائرون، فوجدت المصدق به أحقَّ"1، والمكذب به هالكًا" ثم نزل. "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم ص39".   1 أي أحق بثواب الله ونعيم جنته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 192- خطبة له: وخطب فقال: "أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . "العقد الفريد 2: 279". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 193- خطبة له: وخطب فقال: "إن لكل سفر زادًا لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه، فرغبوا ورهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسوا قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه، ولا يمسي بعد إصباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا، فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغترًا، فأصبح في حبائل خطوبها ومناياها أسيرًا، وإنما تقرُّ عين1 من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة، فأما من لا يبرأ من كلْم إلا أصابه جارح من ناحية أخرى، فكيف يفرح؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتَخْسَرَ صفقَتِي، وتَظْهَرَ عورتي، وتَبْدُوَ مسكنتي، في يوم يبدو فيه الغني والفقير، والموازين منصوبة، والجوارح ناطقة، فلقد عُنِيتُم بأمر لو عُنِيَتْ به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، أو الأرض لانفطرت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى إحداهما؟ ". "شرح ابن أبي الحديد م1: ص470، والعقد الفريد 2: 143، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص196".   1 قرت عينه: بردت وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 194- خطبة له: وروي أنه قال: "من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه، فاتقوا الله فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب، فالزموها، الرزق مقسوم، فلن يعدو1 المؤمن ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القنوع2 سعة، وبُلْغَةً، وكفافًا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهنم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن وكلٌّ أمواتٌ عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق3، وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله، وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه، ووجهه مفقود، وذكره منسي، وبابه مهجور كأن لم يخالط إخوان الحفاظ4، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا يُحقر فيه مثقال ذرة في الموازين". "تاريخ الطبري 8: 140، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 205".   1 وفي رواية: "فلن يغدر"، أغدره وغادره: تركه. 2 القنوع: الرضا بالقسم "وهو أيضًا السؤال والتذلل". 3 ساق المريض: شرع في نزع الروح. 4 أي المحافظة على وده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 195- خطبة له: وقال: "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه، فأعاذه مما انتزع منه الصبر، إلا كان ما أعاضه خيرًا مما انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَا بٍ} . "تاريخ الطبري 8: 141،وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص213". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 196- خطبة له: وحدث شبيب بن شيبة، عن أبي عبد الملك قال: كنت من حرس الخلفاء قبل عمر، فكنا نقوم لهم، ونبدؤهم بالسلام، فخرج علينا عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في يوم عيد، وعليه قميص كتان، وعمامة على قلنسوة لاطئة1، فمثلنا بين يديه، وسلمنا عليه، فقال: مه أنتم جماعة وأنا واحد، السلام علي، والرد عليكم، وسَلَّمَ فرددْنا، وقربت له دابته فأعرض عنها، ومشى ومشينا، حتى صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا، فردوا على فقرائهم، حتى نستوي نحن بهم، وأكون أنا أولهم"، ثم قال: "ما لي وللدنيا؟ أم ما لي ولها؟ وتكلم فأرق، حتى بكى الناس جميعًا، يمينًا وشمالا"، ثم قطع كلامه ونزل، فدنا منه رجاء بن حيوة، فقال له: يا أمير المؤمنين، كلمت الناس بما أرق قلوبهم وأبكاهم، ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه، فقال: يا رجاء إني أكره المباهاة". "العقد الفريد 2: 143".   1 لاطئة: لازقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 197- آخر خطبة له : وخطب بخناصرة1 خطبة لم يخطب بعدها حتى مات! رحمه الله تعالى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولم تُتركوا سدًى، وإن لكم معادًا يحكم الله فيه بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحُرِمَ الجنةَ التي عرضها السموات والأرض، واعلموا أن الأمان غدًا لمن خاف ربه، وباع قليلا بكثير   1 خناصرة: بلد بالشام من عمل حلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وفانيًا بباقٍ، ألا ترون أنكم في أسلاب1 الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون، كذلك حتى تُردوا إلى خير الوارثين، ثم أنتم في كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله، قد قضى نحبه2 وبلغ أجله، ثم تغيبونه في صدع3 من الأرض، ثم تدعونه غير مُوسَدٍ ولا مُمهَدٍ، قد خلع الأسبابَ، وفارقَ الأحبابَ، وواجه الحسابَ، مرتَهَنًا بعمله، غنيًّا عما ترك، فقيرًا إلى ما قَدَّمَ، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله لي ولكم، وما تبلغنا عن أحد منكم حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي، ولحمتي4 الذين يَلُونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم، وايم الله إني لو أردتُ غير هذا من عيش أو غضارة5 لكان اللسان مني ناطقا ذلولا، عالما بأسبابه، لكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دلَّ فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته"، ثم بكى، فتلقى دموع عينيه بطرف ردائه، ثم نزل، فلم يُرَ على تلك الأعواد حتى قبضه الله. "البيان والتبيين 2: 60، والعقد الفريد 2: 144، وتاريخ الطبري 8: 140، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص470؛ والأغاني 8: 152، وعيون الأخبار م2: ص246، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص222، ولابن عبد الحكم ص41 و136".   1 جمع سلب بالتحريك: وهو ما يسلب. 2 النحب: الأجل، والحاجة، والنذر. 3 شق. 4 اللحمة: القرابة. 5 الغضارة: النعمة، والسعة، والخصب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 خطبة عاشرا أخرى ... 198- خطبة أخرى وروى أن آخر خطبة خطبها رحمه الله: حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس. الحقو ببلادكم، فإني أنساكم عندي، وأذكركم ببلادكم، ألا وإني قد استعملت عليكم رجالا، لا أقول هم خياركم، ولكنهم خيرٌ ممن هم شرٌّ منهم، ألا فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي1، ألا وإني منعت نفسي وأهل بيتي هذا   1 أي يدخل علي بلا إذن، لا يحول بيني وبينه حاجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 المال، فإن ضننت به عليكم إني إذن لضنين، والله لولا أن أنعش1 سنة، أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فَواقا". "سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص210، ولابن عبد الحكم ص39"   1 نعشه كمنع وأنعشه: رفعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 199- كلامه في مرضِهِ الذي مات فيه: ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك في المرضة التي مات فيها، فقال له: يا أمير المؤمنين إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة1، ولا بد من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك، لكفيتك مئونتهم إن شاء الله" فقال عمر: أجلسوني. فأجلسوه، فقال: "الحمد لله، أبالله تخوفني يا مسلمة! أما ما ذكرت ن أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال، وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقًّا هو لهم، ولم أعطهم حقًّا هو لغيرهم؛ وأما ما سألتى من الوصاة إليك، أو إلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله، فجعل الله له من أمره يسرا، ورزقه من حيث لا يحتسب، ورجل غيّر وفجر، فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه، ادعوا لي بني، فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر غلامًا، فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه، حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم قال: "بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم! يا بني: إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله، يا بني مَيَّلْتُ2 رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا، وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان   1 فقراء جمع عائل من عال يعيل عيلة "بفتح العين" أي افتقر. 2 التمثيل بين الشيئين كالترجيح بينهما، تقول العرب: إني لأميل بين ذينك الأمرين، وأمايل بينهما أيهما آتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرًا من دخول أبيكم يومًا واحدًا في النار، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم" قالوا: فما احتاج أحد من أولاد عمر، ولا افتقر. "العقد الفريد 2: 280، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص280". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 200- مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج : خرج سنة مائة بالجزيرة شوذب الخارجي -واسمه بسطام من بني يشكر- فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: بلغني أنك خرجت غضبًا لله ولرسوله، ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك، نظرنا في أمرك، فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك، وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشيًّا اسمه عاصم، ورجلا من بني يشكر، فقدما على عمر بخناصرة، فأخبر بمكانهما، فقال: فتشوهما لا يكن معهما حديد وأدخلوهما، فلما دخلا قالا: السلام عليك، ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبراني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا؟ وما نقمتم علينا؟ فقال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرى العدل والإحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر، أعن رضا من الناس ومشورة، أم ابتززتم أمرهم؟ فقال عمر: ما سألتهم الولاية عليهم، ولا غلبتهم عليها، وعهد إلي رجل كان قبلي، فقمت ولم ينكره علي أحد، ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون الرضا بكل من عَدَلَ وأنصف، من كان من الناس، فاتركوني ذلك الرجل، فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم، فقالا: بيننا وبينك أمر، إن أنت أعطيتناه فنحن منك وأنت منا، وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك، فقال عمر: وما هو؟ قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها مظالم، وسلكت غير سبيلهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال، فالعنهم وتبرأ منهم، فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، فتكلم عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 "إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا ومتاعها، ولكنكم أردتم الآخرة، فأخطأتم سبيلها، إن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يبعث رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعانًا وقال إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال الله عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وقد سميت أعمالهم ظلمًا، وكفى بذلك ذمًا ونقصًا، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم، ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون؟ قال: أما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا؛ لأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الناس إلى الإيمان، فكان من أقرَّ به وبشرائعه قبل منه، فإن أحدَثَ حدثًا أُقِيمَ عليه الحد، فقال الخارجي: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده. قال عمر: فليس أحد منهم يقول: لا أعمل بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم، على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء قال عاصم: فابرأ ممن خالف عملك، وردَّ أحكامهم، قال عمر: أخبراني عن أبي بكر وعمر: أليسا من أسلافكما وممن تتوليان، وتشهدان لهما بالنجاة؟ قالا: اللهم نعم. قال: فهل علمتما أن أبا بكر حين قُبِضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارتدت العربُ، قاتلَهُم فسَفَكَ الدماء، وأَخَذَ الأموالَ، وسبى الذراري؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن عمر قام بعد أبي بكر، فردَّ تلك السبايا إلى عشائرِها بفدية؟ قالا: نعم، قال: فهل بَرِئَ عمرُ من أبي بكر، أو تبرءون أنتم من أحدٍ منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبراني عن أهل النهروان أليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلى، قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا كفوا أيديهم فلم يسفكوا دمًا، ولم يخيفوا آمنًا، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: نعم. قال: فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فُدَيك، اسْتَعْرَضُوا الناسَ يَقْتُلُونهم، ولقوا عبد الله بن خبّاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ابن الأرتّ، صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلوه، وقتلوا جاريته؟ ثم صَبَّحُوا حيًّا من أحياء العرب، فاستعرضوهم، فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يلقون الصبيان في قدور الإقط1 وهي تفور؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل ييرئ أهل البصرة من أهل الكوفة، وأهل الكوفة من أهل البصرة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرءون أنتم من إحدى الطائفتين؟ قالا: لا. قال: أرأيتم الدين واحدًا أم اثنين؟ قالا: بل واحدًا. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمرو، وتولى أحدهما صاحبه، وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة، وتولى بعضهم بعضًا، وقد اختلفوا في أعظم الأشياء، في الدماء والفروج والأموال، ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم؟ ويحكم! إنكم قومٌ جهال، أردتم أمرًا، فأخطأتموه، فأنتم تردون على الناس ما قبل منهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قالا: ما نحن كذلك. قال عمر: بل سوف تقرُّون بذلك الآن، هل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان، فدعاهم إلى خلع الأوثان، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأحرز ماله، ووجبت حرمته، وكانت له أسوة المسلمين؟ قالا: نعم. قال: أفلستم أنتم تلقَوْن من يخلع الأوثان، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فتستحلون دمه وماله، وتلقَوْن من ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان، فيأمن عندكم، وتحرمون دمه؟ فقال اليشكري: أرأيت رجلا ولي قومًا وأموالهم، فعدل فيها، ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله عَزَّ وَجَلَّ؟ أو تراه قد سلم؟ قال عمر: لا. قال: أفتسلّم هذا الأمر إلى يزيد2 من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق؟ قال: إنما ولاه غيري،   1 الأقط بفتح الهمزة وكسرها: شيء يتخذ من المخيض الغنمي. 2 هو يزيد بن عبد الملك، وقد ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز "سنة 101- سنة 105هـ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي، قال: أفترى ذلك من صنع من ولاه حقًّا؟ فبكى عمر وقال: أنظراني1 ثلاثًا فخرجا من عنده ثم عادا إليه، فقال عاصم: أشهد أنك على حقٍّ، فقال عمر لليشكري: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما وصفت، ولكن لا أقتات على المسلمين بأمر، أعرض عليهم ما قلت، وأعلم حجتهم، فأما عاصم فأقام عند عمر، فأمر له عمر بالعطاء، فتوفي بعد خمسة عشر يومًا، فكان عمر يقول: أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه، فأستغفر الله، فخاف بنو أمية أن يُخرج ما بأيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد من ولاية العهد، فوضعوا على عمر من سقاه سُمًّا، فلم يلبثْ بعد ذلك إلا ثلاثًا، حتى مرض ومات". "الكامل لابن الأثير 5: 17، ومروج الذهب 2: 171، والعقد الفريد 1: 216، وتاريخ الطبري 8: 131، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص 130، ولابن الجوزي 77".   1 أمهلاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 201- تأبينه ابنه عبد الملك : ولما دفن عمر بن عبد العزيز ابنه عبد الملك، وسوى عليه قبره بالأرض، وجعلوا على قبره خشبتين من زيتون، إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، استوى عمر قائمًا، وأحاط به الناس، فقال: "رحمك الله يا بني، فقد كنت برًّا بأبيك، والله ما زلت مذ وهبك الله لي بك مسرورًا، ولا والله ما كنت قط أشد سرورًا بك، ولا أرجى لحظي من الله فيك، منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه، فغفر الله لك ذنبك، وجازاك بأحسن عملك، وتجاوز عن سيئاتك، ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير، من شاهد أو غائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين". "البيان والتبيين 2: 182، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 264". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 202- خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد: 1 حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي، وإني لظلوم لها إن لم يرحمني الله، ولكن خرجت غضبا لله ودينه، داعيا إلى الله، وإلى سنة نبيه، لما هديت معالم الهدى، وأطفئ نور أهل التوقي، وظهر الجبار العنيد2، المستحل لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، الكافر بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفيئي3 في الحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته ألا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، حتى أراح الله منه العباد، وطهر منه البلاد، بحوله وقوته، لا بحولي وقوتي. أيها الناس: إن لكم علي ألا أضع حجرًا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى4 نهرًا، ولا أكنز مالا، ولا أعطيه زوجًا، ولا ولدًا، ولا أنقله من بلد إلى   1 قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة 126هـ، وكان قبل الخلافة منهمكا في اللهو، وشرب الخمر، وانتهاك حرمات الله، فلما أفضت إليه الخلافة، لم يزدد إلا انغماسًا في اللذات، واستهتارًا بالمعاصي، ذلك إلى ما ارتكبه من إغضاب أكابر أهله، والإساءة إليهم، وتنفيرهم، فاجتمعوا عليه مع أعيان رعيته، وهجموا عليه وقتلوه، وكان المتولي لذلك يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وقد ولي الخلافة بعده، وتوفي هلال ذي الحجة سنة 126. 2 يشير إلى ما حدث من الوليد بن يزيد من أنه استفتح فألا في المصحف فخرج: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، فنصبه غرضًا للنشاب، وأقبل يرميه حتى مزقه، وهو يقول: أتوعد كل جبار عنيد ... فهأنذاك جبار عنيد إذا لاقيت ربك يوم حشر ... فقل يارب مزقني الوليد 3 كفيئه وكفؤه بضم الكاف وكفاؤه بكسرها: مثله. 4 كرى النهر: استحدث حفره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 بلد، حتى أسدَّ فقر ذلك البلد وخصاصة1 أهله، فإن فَضَلَ فضلٌ، نقلته إلى البلد الذي يليه، ولا أُجَمِّرُكم2 في بعوثكم، فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويُّكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم، وأقطع به نسلهم، ولكم علي إدرارُ العطاء في كل سنة، والرزق في كل شهر، حتى يستوي بكم الحال، فيكون أفضلكم كأدناكم، فإن أنا وفيت لكم، فعليكم السمع والطاعة، وحسن المؤازرة والمكانفة3، وإن لم أفِ لكم، فعليكم أن تخلعوني إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحدًا يقوم مقامي، ممن يعرف بالصلاح، يعطيكم من نفسه مثل الذين أعطيتكم، فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من بايعه، ودخل في طاعته. أيها الناس: إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد، إنما الطاعة طاعة الله فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية فهو أهلٌ أن يُعصى ويُقتل، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم. "عيون الأخبار م2: ص248، والعقد الفرد 2: 144-291، البيان والتبيين 2: 69، الفخري ص120 وتاريخ الطبري 9: 26".   1 الفقر والحاجة. 2 جمر الجيش: حبسهم في أرض العدو ولم يقفلهم. 3 المعاونة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 203 وصية يزيد بن معاوية لسلم بن زياد حين ولاه : لم وَلَّى يزيدُ بن معاوية سلمَ بن زياد بن أبيه على خراسان قال له: "إن أباك كفى أخاه "يعني معاوية" عظيمًا، وقد استكفيتك صغيرًا، فلا تتكلن على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك، وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا أخلف منك أخلف مني فيك، وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه، وقد أتعبك أبوك، فلا تريحن نفسك، وكن لنفسك تكن لك، واذكر في يومك أحاديث غدك تسعد إن شاء الله تعالى". "البيان والتبيين 2: 76". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 خطب عتبة بن أبي سفيان خطبة له في تهدد أهل مصر ... خطب عتبة بن أبي سفيان 1 "توفي سنة 44هـ": 204- خطبة له في تهديد أهل مصر: بلغ عتبة بن أبي سفيان عن أهل مصر شيء فأغضبه، فقام فيهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "يأهل مصر، إياكم أن تكونوا للسيف حصيدًا2، فإن لله فيكم ذبيحا لعثمان، أرجو أن يوليني نُسْكه، إن الله جمعكم بأمير المؤمنين بعد الفرقة، فأعطى كل ذي حق حقه، وكان والله أذكركم إذا ذكر بخطة، وأصفحكم بعد المقدرة عن حقه، نعمة من الله فيكم، ونعمة3 منه عليكم، وقد بلغنا عنكم نجم4 قول، أظهره تقدم عفو منا، فلا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق، بإحياء الفتنة وإماتة السنن، فأطأكم لله وطأة، لا رمق5 معها، حتى تنكروا مني ما كنتم تعرفون، وتستخشنوا ما كنتم تستلينون، وأنا أشهد عليكم الذي يعلم خائنة الأعين6، وما تخفي الصدور". "العقد الفريد 2: 158"   1 ولاه أخوه معاوية مصر بعد وفاة عمرو بن العاص "وقد مات عمرو في شوال سنة 43" وأقام عتبة واليًا على مصر سنة واحدة وشهرًا واحدًا، وتوفي في ذي الحجة سنة 44 "هكذا في كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" وفي أسد الغابة في معرفة الصحابة: "أنه توفي سنة 44 وقيل سنة 43"، ولكني قرأت في تاريخ الطبري أن عتبة حج بالناس سنة 46، وقال أيضًا في حوادث سنة 47: "واختلفوا فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي: أقام الحج في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان. وقال غيره: بل الذي حج في هذه السنة عنبسة بن أبي سفيان". 2 أصله الزرع المحصود. 3 هكذا في الأصل وقد يكون "ومنة". 4 من نجم الشيء: إذا ظهر وطلع. 5 الرمق: بقية الحياة. 6 بمسارقتها النظر إلى المحرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 خطبة له في تقريعهم وتهددهم ... 205- خطبة له في تقريعهم وتهديدهم: وخطب أيضًا وقد بلغه عن أهل مصر أمور فقال: "يا حاملي ألأمِ أنوفٍ رُكِّبَتْ بين أعين، إنما قلمت أظفاري عنكم، ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم، إذ كان فسادُكم راجعًا عليكم، فأما إذا أبيتم إلا الطعن على الأمراء، والعتب على السلف والخلفاء، فوالله لأقطِّعنَّ بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت مستشري1 دائكم، وإلا فالسيف من ورائكم، فكم من عظة لنا قد صُمَّتْ عنها آذانُكم، وزجرةٍ منا قد مجتها قلوبكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية، ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسنى، إن صرتم إلى التي هي أبرُّ وأتقى". "صبح الأعشى 1: 216؛ والعقد الفريد 2: 159، والأمالي 1: 245".   1 استشرى الداء: عظم وتفاقم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 206- خطبة له فيهم وقد أرجفوا بموت معاوية : واحتبست كتب معاوية حتى أرجفَ أهلُ مصر بموته، ثم ورد كتابه بسلامته، فصعد عتبة المنبر، والكتاب في يده فقال: "يأهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات السيوف، حتى صرنا شجًى في لهواتكم، ما تسيغنا1 حلوقكم، وأقذاء في أعينكم، ما تطرف2 عليها جفونكم، أفحين اشتدت عرى الحق عليكم عَقْدًا، واسترخت عقد الباطل منكم حلا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم توهين3 السلطان، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به   1 هو ما اعترض في الحلق من عظم أو نحوه، واللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة المشرفة على الحق، وأساغه: ابتلعه. 2 جمع قذًى: وهو ما يقع في العين والشراب، وطرف بصره: أطبق أحد جفنيه على الآخر، وطرف بعينه: حرك جفنيها. 3 إضعاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 حديث؟ فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه، والعهد القريب منه، واعلمُوا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيرًا، وإن أسررتم شرًّا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله نتوكل وبه نستعين". "عيون الأخبار م2: ص239، والعقد الفريد 2: 159". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 207- خطبته فيهم وقد منعوا الخراج : وخطبهم وكانوا قد منعوا الخراج فقال: "يا أهل مصر، قد كنتم تعتذرون لبعض المنع منكم، ببعض الجور عليكم، فقد وليكم من يقول ويفعل، ويفعل ويقول، فإن رددتم ترادَّكم1 بيده، وإن استصعبتم ترادكم بسيفه، ثم رجا في الآخرة ما أمل في الأولى، إن البيعة متتابعة، فلنا عليكم السمع والطاعة، ولكم علينا العدل، فأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه، والله ما انطلقت بها ألسنتنا حتى عقدت عليها قلوبنا، ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم ناجزًا بناجز2، ومن حذَّر كمن بشَّر، فنادوه سمعًا وطاعة، فناداهم عدلا عدلا. "العقد الفريد 2: 159".   1 يقال: ترادا البيع: من الرد والفسخ، ومراده: ردكم. 2 الناجز والنجيز: الحاضر، ومن أمثالهم: ناجزا بناجز، أي حاضرا بحاضر، كقولك يدا بيد، وعاجلا بعاجل، وقالوا: أبيعكه الساعة ناجزا بناجز: أي معجلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 208- خطبته فيهم إذ طعنوا على الولاة : وقدم كتاب معاوية إلى عتبة بمصر أن قبلك قومًا يطعنون على الولاة ويعيبون السلف، فخطبهم فقال: "يأهل مصر: خفَّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذم الباطل وأنتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 تأتونه، كالحمار يحمل أسفارًا، أثقله حملها، ولم ينفعه علمها، وايم الله لا أداوي أدواءكم بالسيف ما صلحتم على السوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدرة، ولا أبطئ عن الأولى ما لم تسرعوا إلى الأخرى، فالزموا ما أمركم الله به تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وإياكم وقال ويقول، قبل أن يقال فعل ويفعل، وكونوا خير قوس سهمًا بهذا اليوم الذي ما قبله عقاب، ولا بعده عتاب. "العقد الفريد 2: 160، وعيون الأخبار م2: ص239، وأسد الغابة في معرفة الصحابة 3: 361". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 209- خطبته بمكة : وحج عتبة سنة إحدى وأربعين، والناس قريب عهدهم بالفتنة، فصلى بمكة الجمعة، ثم قال: "أيها الناس، إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء فيه الوزر، ونحن على طريق ما قصدنا له، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع من دوننا، ورب متمنٍّ حتفُهُ في أمنيته، فاقبلونا ما قبلنا العافية فيكم، وقبلناها منكم، وإياكم و"لو"، فإن "لو" قد أتعبت من كان قبلكم، ولن تريح من بعدكم، وأنا أسأل الله أن يعين كلا على كلّ". فصاح به أعرابي: أيها الخليفة، فقال: لست به ولم تبعد، فقال: يا أخاه، فقال: سمعت فقل، فقال: "تالله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم دوننا، فما أحقكم باستتمامه، وإن كان منا فما أولاكم بمكافأتنا، رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة، ويقرب إليكم بالخئولة، وقد كثر عياله1، ووطئه زمانه، وبه فقر، وفيه أجر، وعنده شكر" فقال عتبة: "أستغفر الله   1 العيال جمع عيل كجيد: وهو من يلزم الإنفاق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 منكم، وأستعينه عليكم، وقد أمرنا لك بغناك، فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك". "الأمالي 1: 240، والعقد الفريد 2: 159-81، والبيان والتبيين 3: 230". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 210- خطبته في علته التي مات فيها: ولما اشتكى شكاته التي مات فيها تحامل إلى المنبر، فقال: "يأهل مصر لا غنى عن الرب، ولا مهرب من ذنب، إنه قد تقدمت مني إليكم عقوبات كنت أرجو يومئذ الأجر فيها، وأنا أخاف اليوم الوزر منها، فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي، فأصلحتكم بفسادي، وأنا أستغفر الله منكم، وأتوب إليه فيكم، فقد خفت ما كنت أرجو نفعًا عليه، ورجوت ما كنت أخاف اغتيالا به، وقد شقي من هلك بين رحمة الله وعفوه، والسلام عليكم، سلام من لا ترونه عائدًا إليكم"، فلم يعد. "العقد الفريد 2: 159". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 211 وصيته لمؤدب ولده : وقال لعبد الصمد مؤدب ولده: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه، فيملوه، ولا تتركهم منه، فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، وتَهَدَّدْهُمْ بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء، وجنبهم محادثة النساء، وروهم سير الحكماء، واستزدني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 بزيادتك إياهم أزدك، وإياك أن تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك، وزد في تأديبهم أزدك في برِّي إن شاء الله تعالى". "البيان والتبيين 2: 35، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1: 139". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 212- وصية سعيد بن العاص 1 لبنيه: لما ولد لسعيد بن العاص ابنه عمرو وترعرع2، تفرس فيه النجابة، وكان يفضله على ولده، فجمع بنيه، وكانوا يومئذ أكثر من خمسة عشر رجلا، ولم يدع عمرا معهم، وقال: "يا بني، قد عرفتم خبرة الوالد بولده، وإن أخاكم عمرًا، لذو همة واعدة3، يسمو جده، ويبعد صيته4، وتشتد شكيمته5، وإني آمركم إن نزل بي من الموت ما لا محيص عنه، أن تظاهروه وتؤازروه وتعزروه، فإنكم إن فعلتم ذلك يتألف بكم الكرام، ويخسأ6 عنكم اللئام، ويلبسكم عزًّا لا تنهجه7 الأيام". فقالوا جميعا: "إنك تؤثره علينا، وتحابيه دوننا" فقال: "سأوريكم ما ستره   1 هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقد تقدم لك أن عثمان استعمله على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وولاه معاوية المدينة، فكان يوليه إذ عزل مروان بن الحكم عن المدينة ويولي مروان إذ عزله، ومات سنة 57 وقيل سنة 58 وقيل سنة 59هـ. 2 شب وانتقل عن حد الصغر. 3 من قولهم شجرة واعدة: إذا ظهر لرائيها أن قد حان إثمارها، وأرض واعدة: إذا رُجِي خيرها من النبت، وظهر لرائيها أن قد قرب إمكان المرعى بها، وفرس واعد: يعدك جريا بعد جري، وسحاب واعد كأنه وعد بالمطر، ويوم واعد يعد بالحر أوبالبرد أوله. 4 الصيت "بالكسر" والصات والصوت "بالفتح": الذكر الحسن. 5 الشكيمة: الأنفة، وفي اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس. وهو مثل يضرب للصرامة في الأمور والمضاء فيها. 6 أي يبعد ويطرد. من خسأ الكلب كمنع: طرده، وخسأ هو بنفسه: بَعُدَ. 7 أي لا تبليه. أنهج الثوب ونهجه "كمنعه": أخلقه وأبلاه، ونهج الثوب مثلثه الهاء، وأنهج: بلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 البغي عنكم" وصرفهم، ثم أمهلهم حتى ظن أن قد ذهلوا عما كان، وراهق1 عمرو البلوغ، واستدعاهم دون عمرو، فلما حضروا قال: "يا بني، ألم تروا إلى أخيكم عمرو؟ فإنه لا يزال يلحف2 في مسألتي مالي، فأحش عيله3 لصغره، وَأُحَسِّبُهُ4 بالشيء دون الشيء من مالي إلى أن استثبت أن أمه باغيته5 على ذلك، فزجرتها فلم تكفف، وهذا مخرجه الآن من عندي، جاء يسألني الصمصامة6، كأن لا ولد لي غيره، وقد عزمت على أن أقسم مالي فيكم دونه، لتعلم أمه من يكيد"، فقالوا كلهم: يا أبانا هذا عملك بإيثارك له علينا، واختصاصك إياه دوننا، فقال: "يا بني، والله ما آثرته دونكم بشيء من مالي قط، ولا كان ما قلته لكم إلا اختلافا تساهلت فيه لما أملته من صلاح أمركم"، ثم قال لهم: ادخلوا المخدع7، فدخلوا المخدع، ثم أرسل إلى عمرو فأحضره، فلما حضر قال:   1 راهق الغلام: قارب الحلم "بضمتين". 2 يلح. 3 العيل والعيلة: الافتقار والفاقة، وأحش: أي أقطع وأمحو، من حش الحشيش "كرد": قطعه، وحش فلانا: أصلح من حاله، "وفي الأصل فأحسن بالنون أي اجعل فقره حسنًا وأزبل قبحه بعطائي إياه والأول أحسن". 4 حَسَّبَهُ "بالتشديد" وأحسبه: أطعمه وسقاه حتى شبع وروي. 5 بغاه الشيء: أعانه على طلبه "ولا مانع أن يكون الأصل "أن أمه باعثته على ذلك". 6 الصمصامة: سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان قد صار إلى سعيد بن العاص، وذلك أن خالد بن الوليد لما غزا بني زبيد حين ارتدوا، وكان خالد بن سعيد بن العاص "عم سعيد المذكور" من جملة أمرائه، أوقع بهم وأسر ريحانة أخت عمرو بن معد يكرب، ففداها خالد وأثابه عمرو الصمصامة، ولم يزل ذلك السيف عند آل سعيد بن العاص حتى اشتراه منهم الخليفة المهدي العباسي بخمسين ألف درهم، ووهبه المهدي لابنه الهادي فدعا به بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، وأذن للشعراء، فلما دخلوا أمرهم أن يقولوا في السيف شعرًا، فبذهم ابن يامين البصري، فأعطاه الهادي السيف والجائزة، ففرقها على الشعراء، وقال: دخلتم معي، وحرمتم من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي، واشترى منه السيف بخمسين ألفا، ثم وصل إلى المتوكل، فدفعه إلى غلامه باغزا التركي، فقتله به، ومن عند باغزا انقطع خبره. "اقرأ خبر الصمصامة في سرح العيون، ص312، والأغاني 14: 26، وأنباء نجباء الأبناء ص103 ومروج الذهب 2: 262". 7 المخدع بضم الميم وكسرها: الخرافة -بيت صغير يحرز فيه الشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 "يا بني: إني عليك حدب1 مشفق، لصغر سنك، ونفاسة2 إخوتك على مكانك مني، وإني لا آمن بغتة الأجل، ولى كنز ادخرته لك دون إخوتك، وها أنا مطلعك عليه، فاكتم أمره". فقال: "يا أبت، طال عمرك، وعلا أمرك، إني لأرجو أن يحسن الله عنك الدفاع، ويطيل بك الامتاع، فأما ما ذكرته من شأن الكنز، فما يعجبني أن أقطع دون إخوتي أمرًا، وأزرع في صدورهم غمرًا3". فقال: "انصرف يا بني، فداك أبوك، فوالله ما لي من كنز، ولكني أردت أن أبلو رأيك في إخوتك وبني أبيك" فانطلق عمرو، وخرج إخوته من المخدع، فاعتذروا إلى أبيهم، وأعطوه موثقهم على اتباع مشورته. "أنباء نجباء الأبناء ص100.   1 متعطف شفيق. 2 نفس عليه يخبر "كفرح" حسد، ونفس عليه الشيء نفاسة لم يره أهلا له. 3 الغمر محركة والغمر بكسر الغين: الحقد والضغن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 خطب عمرو بن سعيد الأشدق خطبة له بالمدينة ... خطب عمرو بن سعيد الأشدق 1 "قتل سنة 69هـ"213: خطبة له بالمدينة: قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميرًا، فخرج إلى منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقعد عليه وغمض عينيه وعليه جبة خزّ قرمز2، ومطرف3 خزّ قرمز، وعمامة خزّ قرمز، فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجابًا بها، ففتح عينيه، فإذا الناس ينظرون إليه، فقال: "ما بالكم يأهل المدينة ترفعون إلي أبصاركم، كأنكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم؟ أغركم أنكم فعلتم ما فعلتم، فعفونا عنكم، أما إنه لو أثبتم4 بالأولى ما كانت الثانية، أغركم أنكم قتلتم عثمان، فوافقتم ثائرنا5 منا رفيقا، قد فني غضبه، وبقي حلمه، اغتنموا أنفسكم، فقد والله ملكناكم بالشباب المقتبل البعيد الأمل، الطويل   1 لقب بالأشدق لفصاحته، والأشدق في الأصل: من عظمت أشداقه "جمع شدق بالكسر ويفتح وهو جانب الفم" مشتق من الشدق "بفتحتين وهو سعة الشدق" وكانوا يتشادقون في الكلام، ويمتدحون في الخطيب سعة الفم والشدقين، وقالوا: خطيب أشدق: أي بليغ، وقال شاعرهم في عمرو بن سعيد هذا: تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبا لك أشدق وقال آخرون: بل كان أفقم مائل الذقن "والفقم بالتحريك: تقدم الثنايا العليا فلا تقع على السفلى" وقد ولي لمعاوية مكة، ولابنه يزيد مكة والمدينة، وكان له الفضل في نيل مروان بن الحكم الخلافة، وقد قدمنا لك خبر مقتله. 2 القرمز: صبغ أحمر. 3 المطرف: رداء من خز مربع ذو أعلام. 4 الثواب: الجزاء. 5 الثائر: الآخذ بالثأر؛ ووافقتم: أي وجدتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الأجل، حين فرغ من الصغر ودخل في الكبر، حليم حديد1، لين شديد، رقيق كثيف، رفيق عنيف، حين اشتد عظمه، واعتدل جسمه، ورمى الدهر ببصره واستقبله بأشره، فهو إن عض نهس2، وإن سطا فرس3، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا4، ولا يمشي السمَّهى5" فما بقي بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر حتى قصمه الله. "العقد الفريد 2: 157".   1 رجل حديد يكون في اللسن والفهم والغضب، وحد عليه: غضب. 2 نهس اللحم: أخذه بمقدم أسنانه ونتفه. 3 فرس فريسته: دق عنقها. 4 يشير إلى المثل المشهور: "إن العصا قرعت لذي الحلم"، وقد سبق شرحه في ص184. 5 السمهى والسميهى: الباطل والكذب يقال: ذهب في السميهى أي في الباطل: وجرى فلان السمهى: أي جرى إلى غير أمر يعرفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 214- خطبة له بمكة : واستعمل سعيد بن العاص -وهو والٍ على المدينة- ابنه عمرو بن سعيد واليًا على مكة، فلما قدم لم يلقه قرشي ولا أموي إلا أن يكون الحارث بن نوفل، فلما لقيه قال له: يا حار، ما الذي منع قومك أن يلقوني كما لقيتني؟ قال: ما منعهم من ذلك إلا ما استقبلتني به، والله ما كنيتني، ولا أتممت اسمي، وإنما أنهاك عن التشذر1 على أكفائك، فإن ذلك لا يرفعك عليهم، ولا يضعهم لك، قال: والله ما أسأت الموعظة، ولا أتهمك على النصيحة، وإن الذي رأيت مني لخلق2، فلما دخل مكة قام على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، معشر أهل مكة فإنا سكنَّاها غبطة، وخرجنا عنها رغبة، ولذلك كنا إذا رفعت لنا اللهوة3 بعد اللهوة أخذنا أسناها، ونزلنا أعلاها، ثم شرج4 أمر   1 تذر: توعد وتهدد وتغضب وتسرع إلى الأمر، والمراد هنا التكبر. 2 الخَلق: البالي، والمراد أنه لا يعود إليه. 3 اللهوة بالضم والفتح: العطية أو أفضل العطايا وأجزلها. 4 من الشرج بالتحريك: وهو انشقاق القوس. قوس شريّج: فيها شق، والمراد حدث ونجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 بين أمرين، فَقَتَلْنا وقُتِلْنا، فوالله ما نَزَعْنا ولا نُزِعَ عنا، حتى شرب الدمُ دمًا، وأكل اللحم لحمًا، وقرع العظمُ عظمًا، فولي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برسالة الله إياه، واختياره له، ثم ولي أبو بكر لسابقته وفضله، ثم ولي عمر، ثم أُجِيلَت قداحٌ نُزِعن من شعابٍ1 جولَةَ سعةٍ، ففاز بحظيِّها2 أصلها وأعتقها، فكنا بعض قداحها، ثم شرج أمر بين أمرين فَقَتَلْنا وقُتِلْنا، فوالله ما نَزَعْنا ولا نُزِعَ عنا، حتى شرب الدمُ دمًا، وأكل اللحمُ لحمًا، وقرع العظمُ عظمًا، وعاد الحرامُ حلالا، وأسكت كل ذي حس عن ضرب مهند عركًا عركًا، وعسفًا عسفًا، وخزًا ونهسًا، حتى طابوا عن حقنا نفسًا، والله ما أعطَوه عن هوادة، ولا رضُوا فيه بالقضاء، أصبحوا يقولون: حقنا غلبنا عليه، فجزيناه هذا بهذا، وهذا في هذا. يأهل مكة: أنفسكم أنفسكم، وسفهاءكم سفهاءكم، فإن معي سوطًا نكالا، وسيفًا وبالا3، وكل منصوب على أهله"، ثم نزل. "العقد الفريد 2: 157.   1 الشعاب جمع شعبة بالضم: وهي ما بين الغصنين وطرف الغصن. يشير إلى أصحاب الشورى الستة. 2 الحظي: ذو الحظوة أي المكانة. 3 أي سوطا ذا نكال. وسيفا ذا وبال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 215- ملاحاة الوليد بن عقبة معه في مجلس معاوية : تلاحى1 الوليد بن عقبة، وعمرو بن سعيد بن العاص في مجلس معاوية، فتكلم الوليد، فقال له عمرو: كَذَبْتَ أو كُذِبْتَ2، فقال له الوليد: اسكت يا طليق اللسان، نزوع الحياة، ويا ألأم أهل بيته، فلعمري لقد بلغ بك البخل الغاية الشائنة المذلة لأهلها، فساءت خلائقك لبخلك، فمنعت الحقوق، ولزمت العقوق، فأنت غير مشيد البنيان، ولا رفيع المكان، فقال له عمرو: والله إن قريشًا لتعلم أني غير حلو المذاقة، ولا لذيذ   1 تنازع. 2 كذب الرجل: أخبر بالكذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الملاكة1، وإني لكالشجا2 في الحلق، ولقد علمت أني ساكن الليل، داهية النهار، لا أتبع الأفياء، ولا أنتمي إلى غير أبي، ولا يجهل حسبي، حام لحقائق الذمار3، غير هيوب عند الوعيد، ولا خائف رعديد4، فلم تعير بالبخل وقد جبلت عليه، فلعمري لقد أورثتك الضرورة لؤمًا، والبخل فحشًا، فقطعت رحمك، وجرت في قضيتك، وأضعت حق من وليت أمره، فلست ترجى للعظائم، ولا تعرف بالمكارم، ولا تستعف عن المحارم، لم تقدر على التوقير، ولم يحكم منك التدبير، فأفحم الوليد؛ فقال معاوية -وساءه ذلك: كفا لا أبا لكما، لا يرتفع بكما القول إلى ما لا نريد، ثم أنشأ عمرو يقول: وليد إذا ما كنت في القوم جالسًا ... فكن ساكنا منك الوقار على بال ولا يبدرن الدهر من فيك منطق ... بلا نظر قد كان منك وإغفال5 "الأمالي 2: 40".   1 اللوك: أهون المضغ أو مضغ صلب. 2 ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه. 3 ما تجب حمايته. 4 جبان. 5 يبدر: يفرط ويسبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 216- خطبته حين غلب على دمشق : ولما غلب على دمشق، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر، إلا زعم أن له جنة ونارًا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله؛ وأنه ليس إلي من ذلك شيء، غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية". "تاريخ الطبري 7: 176". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 217- خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان : روى أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك فقال: لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فما ذاك؟ قال: إن خيلي مرت به، فعبث بها، وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل على عبد الملك، والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها وأصغره، وكان عبد الملك مطرقًا، فرفع رأسه، وقال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فقال خالد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} . فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني؟ والله لقد دخل أمس علي، فما أقام لسانه لحنا، فقال خالد: أفعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن، فإن أخاه سليمان، فقال خالد: وإن كان عبد الله يلحن، فإن أخاه خالد، فالتفت الوليد إلى خالد، وقال له: اسكت ويحك يا خالد! فوالله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين: ثم التفت إلى الوليد فقال له: ويحك: فمن صاحب العير والنفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير، وجدي عتبة صاحب النفير1؟ ولكن لو قلت: غنيمات وحبيلات والطائف، ورحم الله عثمان لقلنا: صدقت2". "شرح ابن أبي الحديد م1: ص11، وتهذيب الكامل 1: 302 ومجمع الأمثال 2: 115".   1 انظر ص147 2 وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما طرد الحكم بن أبي العاص "جد عبد الملك" إلى الطائف -انظر ص104- أقام بها، فكان يرعى غنيمات اتخذها يشرب من لبنها، ويأوى إلى حبيلة "مصغر حبلة كفرصة: وهي الكرمة" وقوله: رحم الله عثمان: أي لرده إياه، وقد أبى أبو بكر وعمر أن يرداه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 218- خالد بن عبد الله بن أسيد 1 وعبد الملك بن مروان: جلس يومًا عبد الملك بن مروان، وعند رأسه خالد بن عبد الله بن أسيد، وعند رجليه أمية بن عبد الله بن أسيد، وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه فقال: "هذا والله التوفير، وهذه الأمانة، لا ما فعل هذا، "وأشار إلى خالد" استعملته على العراق، فاستعمل كل مُلِطٍّ2 فاسق، فأدوا إليه العشرة واحدًا، وأدى إلي من العشرة واحدًا، واستعملت هذا على خراسان "وأشار إلى أمية3" فأهدى إلي بِرْذَوْنَيْنِ حَطِمَيْنِ4، فإن استعملتكم ضيعتم، وإن عزلتكم قلتم: استخف بنا، وقطع أرحامنا". فقال خالد بن عبد الله: "استعملتني على العراق، وأهله رجلان: سامع مطيع مناصح، وعدو مبغض مكاشح5، فأما السامع المطيع المناصح فإنا جزيناه، ليزداد ودا إلى وده؛ وأما المبغض المكاشح، فإنا داريناه ضغنه، وسللنا حقده، وكثرنا لك المودة في صدور رعيتك، وإن هذا جبى الأموال، وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال، فيوشك أن تنبت البغضاء فلا أموال ولا رجال". فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك: "هذا والله ما قال خالد". "العقد الفريد 2: 117".   1 هو خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وقد ولاه عبد الملك بن مروان بعد قتل مصعب بن الزبير على البصرة وأعمالها سنة 71هـ، وعزله عنها سنة 74، وولاها أخاه بشر بن مروان، وكان على ولاية الكوفة، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه. 2 لط حقه وألطه: جحده. 3 هو أمية بن عبد الله أخو خالد هذا، ولاه عبد الملك على خراسان، حتى كانت سنة 78 فعزله، وجمع سلطانه الحجاج، فبعث المهلب بن أبي صفرة إليها. 4 فرس حطم ككتف: إذا هزل وأسن، فضعف، وتهدم. 5 الكاشح: الذي يضمر لك العدواة، كشح له بالعداوة وكاشحه بمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 219- نصيحة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان : ورأى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رجلا يشتم رجلا، وآخر يسمع منه، فقال للمستمع: "نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن الكلام به، فإن السامع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه، فأفرغه في وعائك، ولو رُدَّتْ كلمة جاهل في فيه، لسعد رَادُّها، كما شقي قائلها". "البيان والتبيين 2: 160". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 220- تأديب معاوية لجلسائه : أذن معاوية للأحنف بن قيس -وقد وافى معاوية محمد بن الأشعث- فقدمه عليه، فوجد1 من ذلك محمد بن الأشعث، وأذن له، فدخل، فجعل بين معاوية والأحنف، فقال معاوية: "إنا والله ما أذنا له قبلك، إلا ليجلس إلينا دونك، وما رأيت أحدًا يرفع نفسه فوق قدرها، إلا من ذلة يجدها، وقد فعلت فعل من أحسَّ من نفسه ذلا وضعة، وإنا كما نملك أموركم، نملك تأديبكم، فأريدوا منا ما نريده منكم، فإنه أبقى لكم، وإلا قصرناكم كرها، فكان أشد عليكم وأعنف بكم". "البيان والتبيين 3: 220"   1 وجد: غضب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 221- كلام معاوية وقد سقطت ثنيتاه : ولما سقطت ثنيتا معاوية لف وجهه بعمامة، ثم خرج إلى الناس، فقال: "لئن ابتليت لقد ابتلى الصالحون قبلي، وإني لأرجو أن أكون منهم، ولئن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، ولئن سقط عضوان مني، لما بقي أكثر، ولو أتى على نفسي لما كان لي عليه خيار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فرحم الله عبدا دعا بالعافية، فوالله لئن كان عتب عليَّ بعض خاصتكم، لقد كنت حدبًا1 على عامتكم". "البيان والتبيين 3: 221".   1 أي عطوفًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 222- تقريع عبد الملك بن مروان لأحد عماله : وروى الجاحظ قال: "قال أبو الحسن: كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة، كثير التعاهد لولاته، فبلغه أن عاملا من عماله قبل هدية، فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل عليه قال: "أقبلت هدية منذ وليتك؟ " قال: "يا أمير المؤمنين، بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال" قال: "أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم، قال: لئن كنت قبلت ولم تعوض، إنك للئيم، ولئن أنلت مهديك لا من مالك، أو استكفيته ما لم يكن يستكفاه، إنك لجائر خان، ولئن كان مذهبك أن تعوض المهدي إليك من مالك، وقبلت ما اتهمك به عند من استكفاك، وبسط لسان عائبك، وأطمع فيك أهل عملك إنك لجاهل، وما فيمن أتى أمرًا لم يخل فيه من دناءة، أو خيانة، أو جهل مصطنع، نَحِّياه عن عمله". "البيان والتبيين 3: 230". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 طلب معاوية البيعة ليزيد مدخل ... طلب معاوية البيعة ليزيد: لما كانت سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهدًا مفتعلا، فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطي الأقارب، ويداني الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس. فقال لعبد الله بن الزبير: "ما ترى في بيعة يزيد؟ " قال: "يا أمير المؤمنين، إني أناديك ولا أناجيك1، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل أن تتقدم، وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم" فضحك معاوية وقال: "ثعلب رواغ! تعلمت السِّجَاعة2 عند الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك". ثم التفت إلى الأحنف بن قيس، فقال: "ما ترى في بيعة يزيد؟ ". قال: "نخافكم إن صدقناكم، ونخاف الله إن كذبنا". فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم3، وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية، وقال له: "ما ترى في بيعة يزيد؟ "، فقال: يا أمير المؤمنين ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إلي رشدًا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسطا في الحسب، وإن الله سائل كل راعٍ عن رعيته، فاتق الله،   1 ناجيته: ساررته. 2 وفي العقد "الشجاعة" وهو تصحيف، ولم أجد "سجاعة" في كتب اللغة، وإنما الذي فيها هو "سجع" كشمس مصدر سجع كقطع، وأرى أنها سجاعة ككتابة، وقد ورد في كلام المبرد: "فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضربا من السجاعة لأمور تكون.. الخ". 3 هكذا ورد في العقد الفريد، وفي مروج الذهب: أن وفود تلك الوفود كان سنة تسع وخمسين، والمفهوم مما ورد في الإمامة والسياسة أن وفودها كان قبل سنة 50، وفي حياة الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كما يتبين لك مما سيرد بعد "وقد توفي الحسن سنة 49، أو سنة 50 أو سنة 51". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وانظر من تُولِّي أمر أمة محمد" فأخذ معاوية بهر1 حتى تنفس الصعداء2، وذلك في يومٍ شاتٍ، ثم قال: "يا محمد: إنك امرؤ ناصح، قلت برأيك، ولم يكن عليك إلا ذاك. قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحب إلي من أبنائهم، اخرج عني". ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فاحمد الله تعالى، واذكر يزيد، وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته من بعدي. فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة3 وحسن القضاء، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السلمي، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك، وأن يصدقوا قوله، ويدعوه إلى يزيد. وجلس معاوية في أصحابه، وأذن للوفود، فدخلوا عليه، فخطبهم، فلما فرغ من بعض موعظته، وهؤلاء النفر في المجلس قد قعدوا للكلام قام الضحاك بن قيس، فاستأذن، فأذن له.   1 البهر بالفتح: العجب. 2 تنفس طويل. 3 أي أسأله أن يختار لنا الأفضل؛ خاره على غيره خيرة بكسر الخاء مع سكون الياء وفتحها: فضله وخار الله له في الأمر: جعل له فيه الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 223- خطبة الضحاك بن قيس الفهري: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به، إنا قد بلونا1 الجماعة والألفة، فوجدناها أحقنَ للدماء، وآمنَ للسبل، وخيرًا في العاقبة والآجلة، ولا خير لنا أن نترك سدى،   1خبرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 والأيام عوج1 رواجع، والأنفس يغدى عليها ويراح، والله يقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} . ولسنا ندري ما يختلف به العصران2، وأنت يا أمير المؤمنين ميت، كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه؛ نسأل الله تعالى بك المتاع، وقد رأينا من دعة يزيد ابن أمير المؤمنين، وحسن مذهبه، وقصد3 سيرته، ويمن نقيبته4، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين، والشبه بأمير المؤمنين، في عقله وسياسته وشيمته المرضية، ما دعانا إلى الرضا به في أمورنا، والقنوع به في الولاية علينا، فليوله أمير المؤمنين -أكرمه الله- عهده، وليجعله لنا ملجأ ومفزعًا بعده، نأوي إليه إن كان كَوْن5، فإنه ليس أحد أحق بها منه، فاعزم على ذلك، عزم الله لك في رشدك، ووفقك في أمورنا".   1 بمعنى رواجع جمع عائجة اسم فاعل من عاج إذا رجع: أي أن الأيام تعوج على الإنسان تسلبه ما أعطي من الحياة ومتع العيش. 2 العصر: اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس والغداة. 3 القصد: استقامة الطريق. 4 النقيبة: النفس، وهي أيضًا العقل، والمشورة، ونفاذ الرأي، والطبيعة. 5 أي إن حدث حدث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 224- خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي : ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان مختلفة أهواؤه، قد احدودبت علينا سيساؤه1، واقطوطبت2 علينا أدواؤه، وأناخت علينا أنباؤه، ونحن نشير   1 السيساء: منتظم فقار الظهر، وحمله على سيساء الحق أي على حده، والعرب تضربه مثلا لشدة الأمر، قال الشاعر: لقد حملت قيس بن عيلان حربنا ... على يابس السيساء محدودب الظهر يقول: حملناهم على مركب صعب كسيساء الحمار، أي حملناهم على ما لا يثبت على مثله. 2 اقطوطب: افعوعل من قطب، وقطب القوم: اجتمعوا، وقطب بين عينيه: جمع، والمراد: اجتمعت وتراكمت علينا أدواؤه، ولم أجد كلمة "اقطوطب" في كتب اللغة، وإنما الذي فيها "اقطوطى" أي قارب في مشيه إسراعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 عليك بالرشاد، وندعوك إلى السداد، وأنت يا أمير المؤمنين أحسننا نظرًا، وأثبتنا1 بصرًا، ويزيد ابن أمير المؤمنين قد عرفنا سيرته، وبلونا علانيته، ورضينا ولايته، وزادنا بذلك انبساطًا، وبه اغتباطًا2، مع ما منحه الله من الشبه بأمير المؤمنين، والمحبة في المسلمين، فاعزم على ذلك، ولا تضق به ذرعًا3، فالله تعالى يقيم به الأود4، ويردع به الألد5، ويؤمن به السبل، ويجمع به الشمل، ويعظم به الأجر، ويحسن به الذخر". ثم جلس.   1 لعله: "وأثقبنا". 2 بسط فلانًا فانبسط: سره، والاغتباط: المسرة. 3 ضاق بالأمر ذرعًا: ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا. 4 الاعوجاج. 5 الألد: الخصم الشحيح الذي لا يريغ إلى الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 225- خطبة ثور بن معن السلمي: فقام ثور بن معن السلمي، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان، صاحبه مشاغب1، وظله ذاهب2، مكتوب علينا فيه الشقاء والسعادة، وأنت يا أمير المؤمين ميت، نسأل الله بك المتاع، ويزيد ابن أمير المؤمنين أقدمنا شرفًا، وأبذلنا عُرفًا3، وقد دعانا إلى الرضا به، والقنوع بولايته، والحرص عليه، والاختيار له، ما قد عرفنا من صدق لسانه ووفائه، وحسن بلائه. فاجعله لنا بعدك خلفًا، فإنه أوسعنا كنفًا4، وأقدمنا سلفًا، وهو رتق لما فتق، وزمام لما شعث5، ونكال لمن فارق ونافق، وسلم لمن واظب، وحافظ للحق، أسأل الله لأمير المؤمنين أفضل البقاء والسعادة، والخيرة فيما أراد، والتوطن في البلاد، وصلاح أمر جميع العباد. ثم جلس.   1 صاحبه يعني به معاوية، أي يشاغبه المشاغبون، اسم مفعول من الشغب: وهو تهييج الشر. 2 كناية عن دنو أجله. 3 المعروف. 4 الكنف: الظل والجانب. 5 شعث الأمر، كفرح شعثا: انتشر وتفرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 226- خطبة عبد الله بن عصام الأشعري: فقام عبد الله بن عصام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إنا قد أصبحنا في دنيا منقضية، وأهواء منجذمة1، نخاف حدها، وننتظر جدها، شديد منحدرها، كثير وعرها، شامخة مراقبها2، ثابتة مراتبها، صعبة مراكبها، فالموت يا أمير المؤمنين وراءك ووراء العباد، لا يخلد في الدنيا أحد، ولا يبقى لنا أمد3، وأنت يا أمير المؤمنين مسئول عن رعيتك، ومأخوذ بولايتك، وأنت أنظر الجماعة، وأعلى عينًا بحسن الرأي لأهل الطاعة، وقد هُدِيتَ ليزيد في أكمل الأمور، وأفضلها رأيًا، وأجمعها رضًا، فاقطع بيزيد قالة4 الكلام، ونخوة5 المبطل، وشعث المنافق، واكبت6 به الباذخ7 المعادي، فإن ذلك ألم للشعث، وأسهل للوعث8، فاعزم على ذلك، ولا تترامى بكل الظنون"   1 جذمه فانجذم: قطعه. 2 المراقب: جمع مرقب "كجعفر" المكان المشرف، يقف عليه الرقيب. 3 الأمد: الغاية والمنتهى. 4 قالة: جمع قائل، أو مصدر قال كالقول، والقال، والقيل. 5 الكبر والعظمة. 6 كبته: صرعه وأخزاه، ورد العدو بغيظه، وأذله. 7 بذخ كفرح ونصر: تكبر وعلا، وشرف باذخ: عالٍ. 8 وعث الطريق من بابي تعب وقرب: إذا شق على السالك، فهو وعث "بسكون العين وكسرها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 227- خطبة عبد الله بن مسعدة الفزاري: ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إن الله قد آثرك بخلافته، واختصك بكرامته، وجعلك عصمة لأوليائه، وذا نكاية لأعدائه، فأصبحت بأنعمه جذلا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ولما حَمَّلك محتملا، يكشف الله تعالى بك العمى1، ويهدي بك العدا، ويزيد ابن أمير المؤمنين أحسن الناس برعيتك رأفة وأحقهم بالخلافة بعدك، قد ساس الأمور وأحكمته الدهور، ليس بالصغير الفهيه2، ولا بالكبير السفيه، قد احتجن3 المكارم وارتجي لحمل العظائم، وأشد الناس في العدو نكاية، وأحسنهم صنعا في الولاية، وأنت أغنى بأمرك، وأحفظ لوصيتك، وأحرز لنفسك، أسأل الله لأمير المؤمنين العافية في غير جهد4، والنعمة في غير تغيير".   1 العمى هنا: ذهاب بصر القلب. 2 الفهيه والفه: العيي، فهه كفرح فهاهة. 3 احتجن المال: ضمه واحتواه. 4 المشقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 228- خطبة عمرو بن سعيد الأشدق : فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق: قم يا أبا أمية، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع، إن استضعفتم إلى حلمه وسعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم، جَذَعٌ1 قارِحٌ2،سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع ففاز سهمه، فهو خلف أمير المؤمنين، ولا خلف منه". فقال له معاوية: "اجلس أبا أمية. فلقد أوسعت وأحسنت". قال معاوية: "أوكلكم قد أجمع على هذا رأيه؟ " فقالوا: "كلنا قد أجمع رأيه على ما ذكرنا". قال: "فأين الأحنف؟ " فأجابه، قال: "ألا تتكلم؟ " فقام الأحنف.   1 الجذع: الشاب الحدث. 2 أي شديد مجرب، وهو في الأصل وصف للفرس، قرح الفرس قروحًا: إذا ألقى أقصى أسنانه "وله أربع أسنان يتحول من بعضها إلى بعض، يكون جذعًا -وذلك إذا كان في السنة الثانية- ثم ثَنِيًّا "بفتح فكسر مع تشديد الياء" -في السنة الثالثة- ثم رَبَاعِيًا "بفتح أوله وثانيه وتخفيف الياء"- إذا سقطت رباعيته، ونبت مكانها سن، وذلك إذا استتم الرابعة -ثم قارحًا- إذا سقطت السن التي تلي رباعيته ونبت مكانها نابه، وهو قارحه الذي صار به قارحًا، وليس بعد القروح سقوط سن، ولا نبات سن، وذلك إذا استتم الخامسة ودخل السادسة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 229- خطبة الأحنف بن قيس : فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين، إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف1، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، فإن توله عهدك، فعن غير كبر مفنٍ، أو مرض مضنٍ، وقد حلبت الدهور2، وجربت الأمور، فاعرف من تسند إليه عهدك، ومن توليه الأمر من بعدك، واعصِ رأي من يأمرك، ولا يقدر لك، ويشير عليك ولا ينظر لك، وأنت أنظر للجماعة، وأعلم باستقامة الطاعة، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن3 حيًّا".   1 مستأنف. 2 هكذا في مروج الذهب. وفي الإمامة والسياسة: "وقد حلبت الدهر أشطره" وأصله من حلب شطري الناقة "بفتح الشين" ولها شطران: قادمان وآخران "بكسر الخاء" والشطر كل خلفين من أخلافها، والخلف "بكسر الخاء" لها كالضرع للبقرة، وهو مثل يضرب للمجرب، وأشطره بدل من الدهر منصوب. 3 هذا وما ورد في كلام الضحاك والأحنف بعد، يدل على أن تلك الخطب كانت في حياة الحسن بن عليّ كما أشرنا إليه قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 230- خطبة الضحاك بن قيس : فغضب الضحاك بن قيس، فقام الثانية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين، إن أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراقُ، يرون الحق على أهوائهم1، كأنما ينظرون   1 أي على أغراضهم وميولهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 بأقفائهم، اختالوا جهلا وبطرًا. لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة، اتخذوا إبليس لهم ربًّا، واتخذهم إبليس حزبًا، فمن يقاربوه لا يسروه، ومن يفارقوه لا يضروه. فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة، ولا يحجب غيرُ الذكرِ العَصَبَةَ. فوطنوا أنفسكم يأهل العراق على المناصحة لإمامكم. وكاتب نبيكم1 وصهره2، يسلم لكم العاجل، وتربحوا من الآجل".   1 وكان معاوية من كتاب الوحي. 2 وكانت أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 231- خطبة الأحنف بن قيس: ثم قام الأحنف بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أمير المؤمنين: إنا قد فررنا1 عنك قريشًا، فوجدناك أكرمها زندًا، وأشدها عقدًا، وأوفاها عهدًا، وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة2 ولم تظهر عليها قعصًا3، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الأمر من بعدك، فإن تفِ فأنت أهلُ الوفاء، وإن تغدر4 تعلم والله أن وراء الحسن خيولا جيادًا، وأذرعًا شدادًا، وسيوفًا حدادًا، إن تدنُ له شبرًا من غدرٍ، تجد وراءه باعًا من نصر، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليًّا وحسنًا منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها، لبين جوانحهم، وايم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من عليٍّ".   1 فر الدابة: كشف عن أسنانها لينظر ما سنها، وفر عن الأمر: بحث عنه. 2 فتح البلد عنوة: أي قهرًا. 3 مات قعصًا: أصابته ضربة أو رمية، فمات مكانه. 4 غدره وغدر به كنصر وضرب وسمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 232- خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي: ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أصلح الله أمير المؤمنين، إن رأي الناس مختلف، وكثير منهم منحرف، لا يدعون أحدًا على رشاد، ولا يجيبون داعيًا إلى سداد، مجانبون لرأي الخلفاء، مخالفون لهم في السنة والقضاء، وقد وقفت ليزيد في أحسن القضية، وأرضاها لحمل الرعية، فإذا خار الله لك فاعزم، ثم اقطع قالة الكلام، فإن يزيد أعظمنا حلمًا وعلمًا، وأوسعنا كنفًا، وخيرنا سلفًا، قد أحكمته التجارب، وقصدت به سبل المذاهب، فلا يصرفنك عن بيعته صارف، ولا يقفن بك دونها واقف، ممن هو شاسع1 عاصٍ، ينوص2 للفتنة كل مناص، لسانه ملتوٍ، وفي صدره داءٌ دويّ، إن قال فشرُّ قائل، وإن سكت فداءٌ غائلٌ3، قد عرفنا من هم أولئك، وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق، والتكلف للتفريق، فاجْلُ ببيعته عنا الغمة، واجمع به شمل الأمة، ولا تحد عنه إذا هديت له، ولا تنبش عنه إذ وفقت له، فإن ذلك الرأي لنا ولك، والحق علينا وعليك. أسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك بمنه".   1 من شسع المنزل كمنع: بعد. 2 ناص مناصًا: تحرك. 3 من غاله: أي أهلكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 233- خطبة معاوية : فقام معاوية، فقال: "أيها الناس: إن لإبليس من الناس إخوانًا وخلانًا، بهم يستعد، وإياهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعًا أوجفوا1، وإن استغنى عنهم أرجفوا2،   1 أسرعوا، وجف البعير والفرس وجيفا: عدا، وأوجفته: إذا أعديته، قال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي ما أعملتم. 2 أرجف القوم: خاضوا في أخبار الفتن ونحوها، قال تعالى: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 ثم يلقحون1 الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيابون مرتابون، إن لووا عروة أمر حنفوا، وإن دُعُوا إلى غيٍّ أسرفوا، وليسوا أولئك بمنتهين ولا بمقلعين ولا متعظين، حتى تصيبهم صواعق2 خزي وبيل، وتحل بهم قوارع3 أمر جليل، تجتث4 أصولهم كاجتثاث أصول الفقع، فأولى لأولئك ثم أولى، فإنا قد قدمنا وأنذرنا، إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر5".   1 في الأصل "يلحقون" وهو تحريف، وصوابه: "يلقحون" من ألقح الناقة والنخلة. 2 جمع صاعقة: وهي الموت وكل عذاب مهلك. وأرض وبيلة: وخيمة المرتع. 3 جمع قارعة، وهي الداهية الفاجئة. قال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} . 4 تقتلع، والفقع بالفتح ويكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة. 5 النذر: الإنذار. قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي إنذاري، وفي الإمامة والسياسة عقب هذه الخطبة: "فدعا معاوية الضحاك، فولاه الكوفة، ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 234- خطبة يزيد بن المقنع : ثم قام يزيد بن المقنع، فقال: "أمير المؤمنين هذا -وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا -وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا -وأشار إلى سيفه"، فقال معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 235- خطبة الأحنف : ثم تكلم الأحنف بن قيس، فقال: "يا أمير المؤمنين: أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة، فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 منه غير ذلك، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين، وأنت تعلم من هما، وإلى ما هما، وإنما علينا أن نقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} . قال صاحب العقد: فتفرق الناس، ولم يذكروا إلا كلام الأحنف، ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية، فقال رجلٌ وقد دُعِيَ إلى البيعة: "اللهم إني أعوذ بك من شرِّ معاوية" فقال له معاوية: "تعوذ من شر نفسك، فإنه أشد عليك وبايع" فقال: "إني أبايع وأنا كاره للبيعة"، فقال له معاوية: بايع أيها الرجل، فإن الله يقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . أما ابن قتيبة فيقول: قالوا: فاستخار اللهَ معاويةُ، وأعرض عن ذكر البيعة، حتى قدم المدينة سنة خمسين، فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه ألا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر، فلما جلسوا تكلم معاوية فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 236- خطبة معاوية: "الحمد لله الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيرًا، كما أنعم علينا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد، فإني قد كبر سني، ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن أُدعى فأجيب، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي بزيد، ورأيته لكم رضًا، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر حسنًا وحسينًا إلا أنهما أولاد أبيهما، على حسنِ رأيي فيهما، وشديدِ محبتي لهما، فردُوا على أمير المؤمنين خيرًا، يرحمكم الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 237- خطبة عبد الله بن عباس : فتكلم عبد الله بن عباس فقال: "الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده، واستوجب علينا الشكر على آلائه، وحسن بلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وصلى الله على محمد وآل محمد. أما بعد: فإنك قد تكلمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإن الله جلَّ ثناؤه، وتقدست أسماؤه، اختار محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرسالته، واختاره لوحيه، وشرفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرف به، وأولاهم بالأمر أخصهم به، وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها، فإنه إنما اختار محمدًا بعلمه، وهو العليم الخبير، وأستغفر الله لي ولكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 238- خطبة عبد الله بن جعفر : فقام عبد الله بن جعفر فقال: "الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه، نحمده على إلهامنا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدًا صَمَدًا1، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى اله عليه وسلم. أما بعد: فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن: فـ {أُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وإن أخذ فيها بسنة رسول الله، فأولوا رسول الله، وإن أخذ بسنة الشيخين أبي بكر وعمر، فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وايم الله لو وَلُوه بعد نبيهم، لوضعوا الأمر موضعه، لحقه وصدقه، ولأطيع الله، وعُصِيَ الشيطان، وما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية، فإنك قد صرت راعيًا ونحن رعية، فانظر لرعيتك، فإنك مسئول عنها غدًا،   1 الصمد: السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج: أي يقصد، صمده من باب نصر: قصده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وأما ما ذكرت من ابنَيْ عمي، وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم، فقل أو دع، وأستغفر الله لي ولكم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 239- خطبة عبد الله بن الزبير : فتكلم عبد الله بن الزبير فقال: "الحمد لله الذي عرفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنِيَّة، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتق الله يا معاوية، وأنصف من نفسك، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صل الله عليه وسلم، وعليٌّ خلَّف حسنًا وحسينًا، وأنت تعلم من هما، وما هما، فاتق الله يا معاوية، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 240- خطبة عبد الله بن عمر "المتوفي سنة 74هـ": فتكلم عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله الذي أكرمنا بدينه، وشرفنا بنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أما بعد: فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية، ولا قيصرية، ولا كسروية، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشوى، إلا على أن الخلافة ليست شرطًا مشروطًا، وإنما هي في قريش خاصة، لمن كان لها أهلا، ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم، من كان أتقى وأرضى، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها، واعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئًا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 241- خطبة معاوية: فتكلم معاوية فقال: "قد قلت وقلتم، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحب إلي من أبنائهم، ومع أن ابني إن قاولتموه1 وجد مقالا، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما مضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَّى الناس أبا بكر وعمر، من غير مَعْدِن الملك ولا الخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يابن الزبير وأنت يابن عمر منها، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله". ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئًا من صلاتهم وأعطياتهم2، ثم انصرف راجعًا إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين. قال ابن قتيبة: ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله "سنة 51" إلا يسيرًا حتى بايع ليزيد بالشام، وكتب ببيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه بذلك، وأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة، ثم يبايعوا ليزيد، فلما قرأ كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش، وكتب إلى معاوية: إن قومك قد أبو إجابتك إلى بيعتك ابنك، فأرني رأيك، فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله، ويخبره أنه قد وَلَّى المدينة سعيد بن العاص، فخرج مروان مغاضبًا في أهل بيته وأخواله من بني كنانة حتى أتى دمشق، ودخل على معاوية، فسلم عليه بالخلافة، ثم قال:   1 قاول: فاعل من القول، كحادث وخاطب وكالم. 2 أعطيات: جمع أعطية، وهو جمع عطاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 242- خطبة مروان بن الحكم : "إن الله عظيم خطره، لا يقدر1 قادر قدره، خلق من خلقه عبادًا، جعلهم لدعائم دينه أوتادًا. هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر2 بهم الظُّلَم، وألف بهم الدين، وشدد بهم اليقين، ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا، يعرفون ذلك في سالف زمامنا، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا، وعلى من خالف عنها أعوانا، يشد بنا العضد، ويقام بنا الأود، ونستشار في القضية، ونستأمر3 في أمر الرعية، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستحيرة4، ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمة الضلال، وتحلس5 بأسوأ الرحال، يؤكل جزورها6، وتمتق أحلابها7، فما لنا لا نستأمر في رضاعها، ونحن فطامها وأولاد فطامها، وايم الله لولا عهود مؤكدة، ومواثيق معقدة8، لأقمت أود وليها، فأقم الأمر يابن أبي سفيان، واعدل عن تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظراء، وأن لهم على مناوأتك وزراء". فغضب معاوية من كلامه غضبًا شديدًا، ثم كظم غيظه بحلمه، وأخد بيد مروان، ثم قال:   1 قدره من بابي قصر وضرب وقدره تقديرًا: عظمه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه. 2 سفر الصبح وأسفر: أضاء وأشرق، أو هو متعد من سفرت الحرب أي ولت، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها، فالمعنى كشف بهم الظلم. 3 الاستئمار: المشاورة. 4 في الأصل "مستخيرة" أي مستخير صاحبها، من استخار الله في أمره: طلب أن يجعل له فيه الخير، وأرى أنها "مستحير" بالحاء: أي مستحير صاحبها أي متحير، من استحار: إذا نظر إلى الشيء، فغشي عليه، ولم يهتد لسبيله، ويؤيد هذا قوله بعد: "ذات وجوه مستديرة" أي مستغلقة مبهمة ليست مستقيمة. 5 حلس البعير كضربه: غشاه بحلس "بكسر الحاء" وهو كساء على ظهر البعير تحت البرذعة، وفي الأصل: "وتجلس بأسوأ الرجال" بجيمين وهو تصحيف". 6 الجزور: البعير، أو خاص بالناقة المجزورة. 7 امتق الفصيل ما في الضرع شربه كله، والأحلاب جمع حلب "بفتحتين" وهو اللبن المحلوب. 8 اسم مفعول من عقد بالتشديد مضعف عقد الحبل والبيع والعهد: إذا شده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 243- خطبة معاوية: "إن الله قد جعل لكل شيء أصلا، وجعل لكل خير أهلا، ثم جعلك في الكرم مني محتدا1، والعزيز مني والدا، اختِرْتَ من قروم2ٍ قادة، ثم استُلِلْتَ سيد سادة، فأنت ابن ينابيع الكرم، فمرحبا بك وأهلا من ابن عم، ذكرت خلفاء مفقودين، شهداء صديقين، كانوا كما نعتَّ، وكنت لهم كما ذكرتَ، وقد أصبحنا في أمور مستحيرة، ذات وجوه مستديرة، وبك والله يابن العم نرجو استقامة أودها، وذلولة3 صعوبتها، وسفور ظلمتها، حتى يتطأطأ4 جسيمها، ويركب بك عظيمها، فأنت نظير أمير المؤمنين، وعدته في كل شديدة وعضده، والثاني بعد ولي عهده، فقد وليتك قومك، وأعظمت في الخراج سهمك، وأنا مجيزٌ وَفْدَكَ، ومحسنٌ رَفْدَكَ5، وعلى أمير المؤمنين غناك، والنزول عند رضاك6".   1 المحتد: الأصل. 2 جمع قرم بالفتح: وهو السيد. 3 هكذا في الأصل، وفي كتب اللغة: "الذل بالكسر والضم اللين وهو ضد الصعوبة، ذل فهو ذلول، يكون في الإنسان والدابة". 4 طأطأ رأسه: خفضه فتطأطأ. 5 الرفد: العطاء والصلة. 6 قال المسعودي: "وجعله ولي عهد يزيد: ورده إلى المدينة، ثم إنه عزله عنها، وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يفِ لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد"، وقال ابن قتيبة: "فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 244- مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر : وروى أن مروان لما ورد عليه كتاب معاوية، قرأه على أهل المدينة وقال: "إن أمير المؤمنين قد كبُر سِنُهُ، ودقَّ عظمُهُ، وقد خاف أن يأتيه أمر الله تعالى، فيدع الناس كالغنم لا راعي لها، وقد أحب أن يُعْلِمَ عَلَمًا، ويقيم إمامًا"، فقالوا: وفق الله أمير المؤمنين وسدده، ليفعل، فكتب بذلك إلى معاوية، فكتب إليه أن سَمِّ يزيد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فقرأ الكتاب عليهم وسمى يزيد، وخطبهم، فحضهم على الطاعة، وحذرهم الفتنة، ودعاهم إلى بيعة يزيد وقال: سنة أبي بكر الهادية المهدية، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: "كذبت والله يا مروان، وكذب معاوية معك، إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة، وبايع لرجل من بني عدي رضي دينه وأمانته، واختاره لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يكون ذلك، لا تحدثوا علينا سنة الروم، كلما مات هرقل قام مكانه هرقل، فقال مروان: "أيها الناس: إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي 1} ، فقال له عبد الرحمن:   1 أخرج: أبعث، قال صاحب الأمالي: "فسمعت ذلك عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فقالت: ألابن الصديق يقول هذا؟ استروني فستروها، فقالت: كذبت والله يا مروان إن ذلك لرجل معروف نسبه"، وقال المفسرون في هذه الآية: "والمراد "بالذي قال" الجنس القائل ذلك القول، وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه، المكذب بالبعث، وعن قتادة: نعت عبد سوء: عاق لوالديه، فاجر لربه، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام، فأفف بهما، وقال: ابعثوا إليَّ جدعان بن عمرو، وعثمان بن عمرو -وهما من أجداده- حتى أسألهما عما يقول محمد، ويشهد ببطلانه أن المراد بـ "الذي قال" جنس القائلين ذلك، وأن قوله: {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} هم أصحاب النار، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إنكار نزولها فيه، وحين كتب معاوية إلى مروان أن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: يأيها الناس هو الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} ... فسمعت عائشة، فغضبت، وقالت: "والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، أما أنت يا مروان، فأشهد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله" أ. هـ. "وقولها: فضض كجبل ويروى كعتق وغراب أي قطعة منها". وجاء في السيرة الحلبية "1: 302": "عن الواقدي، استأذن الحكم بن أبي العاص على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرف صوته، فقال: "ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منهم -وقليل ما هم- ذوو مكر وخديعة، يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق"، وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتي إليه بمروان لما ولد، فقال: هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون" وعن جبير بن مطعم: كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر الحكم بن أبي العاص، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ويل لأمتي مما في صلب هذا". وجاء في أسد الغابة في ترجمته: "ذكره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، في هجائه لعبد الرحمن بن الحكم، فقال: إن اللعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلجا مجنونا وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع حلمه وإغضائه على ما يكره، ما فعل به ذلك إلا لأمر عظيم"، وجاء في الفخرى ص108 "ورويت أحاديث وأخبار في لعنة الحكم بن أبي العاص، ولعنة من في صلبه، وضعفها قوم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 "يابن الزرقاء1، أفينا تتأول القرآن؟ " وتكلم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وأنكروا بيعة يزيد، وتفرق الناس، فكتب مروان إلى معاوية بذلك. قال ابن قتيبة: قدم معاوية المدينة حاجًّا، ثم أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عباس فحضرا، وابتدأ معاوية فقال:   1 في الفخرى ص108 "وكان من أراد ذم مروان وعيبه يقول له يابن الزرقاء" قالوا: وكانت الزرقاء جدتهم من ذوات الرايات التي يستدل بها على بيوت البغايا في الجاهلية، فلذلك كانوا يذمون بها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 245- خطبة معاوية: "أما بعد: فالحمد لله ولي النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله، المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا، وأن محمدًا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة، لينذرهم بقرآن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، فأدى عن الله، وصدع1 بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعز أولياءه، وقمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه، وقد ترك من الدنيا ما بُذِلَ له، واختار منها الترك لما سُخِّرَ له، زهادة واختيارًا لله، وأنفة واقتدارًا على الصبر، وبغيًا لما يدوم ويبقى، وهذه صفة الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خلفه رجلان محفوظان، وثالث مشكوك، وبين ذلك خوض طالما عالجناه، مشاهدة   1 قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي شق جماعاتهم، بالتوحيد أو اجهر بالقرآن، أو أظهر أو احكم بالحق وافصل بالأمر، أو اقصد بما تؤمر، أو افرق به بين الحق والباطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 ومكافحة، ومعاينة وسماعًا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية، من سد الخلل، ولَمِّ الصدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة، ما أعياني مثله عندكما، وعند غيركما، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصم1 الصلاب، وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة، قدم على الصديق والفاروق، ومن دونهما من أكابر الصحابة، وأوائل المهاجرين، يوم غزوة ذات السلاسل2، من لم يقارب القوم، ولم يعاندهم3، برتبة في قرابة موصولة، ولا سنة مذكورة، فقادهم الرجل بأمره، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئه، وقال ولم يُقَلْ معه، وفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة، فمهلا بني عبد المطلب، فإنا وأنتم شِعْبَا نفعٍ وجِدّ، وما زلتُ أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما، فرُدَّا على ذي رحم مستعتب، ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما". فتيسر ابن عباس للكلام، ونصب يده للمخاطبة، فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر، فأمسك ابن عباس، فقام الحسين:   1 الصم جمع أصم: وهو الحجر الصلب المصمت. 2 غزوة ذات السلاسل، وهي وراء وادي القرى من أرض بني عذرة: غزاها سرية عمرو بن العاص سنة ثمانٍ للهجرة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه يستنفر العرب إلى الشأم، فلما كان على ماء بأرض جذام، يقال له: السلسل -وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل- خاف، فبعث إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمده، فبعث إليه رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا، فخرج أبو عبيدة، حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو: إنما جئت مددًا لي، قال أبو عبيدة: لا، ولكني على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت عليه -وكان أبو عبيدة رجلا لينًا سهلا، هينًا عليه أمر الدنيا- فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لي: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك، قال: فإني الأمير عليك، وأنت مدد لي، قال: فدونك، فصلى عمرو بالناس. 3 المعاندة: المفارقة، أي ولم يمتز عليهم برتبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 246- خطبة الحسين : فحمد الله، وصلى على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "أما بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل -وإن أطنب- في صفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جميعٍ جزءًا، قد فهمتُ ما ألبستَ1 به الخلفَ بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من إيجاز الصفة، والتَّنَكُّبِ عن استبلاغ البيعة، وهيهاتَ هيهاتَ يا معاوية! فضحَ الصبحُ فحمةَ الدُّجَى، وبهرتِ2 الشمسُ أنوارَ السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجرت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد، من اكتماله وسياسته لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبًا، أو تنعت غائبًا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه3 الكلاب المتهارشة4 عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات5 ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرًا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور، وحَنَقًا في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضةٌ، فتقدِم على عمل محفوظ. في يوم مشهود، ولاتَ حين مناصٍ، ورأيتك عَرَّضْتَ بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثًا، ولقد -لعمر الله- أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام   1 ألبسه: غطاه. 2 يقال: بهر القمر كمنع: غلب ضوءه الكواكب، والسرج جمع سراج: وهو المصباح. 3 استقراء الأشياء: تتبع أفرادها. 4 المهارشة: تحريش بعضها على بعض. 5 جمع قينة: وهي الجارية المغنية أو أعم، والمعازف: الآلات التي يضرب بها كالعود، جمع معزف كمنبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول عليه الصلاة والسلام، فأذعن للحجة بذلك، ورده الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية، من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك1، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة، بصحبة الرسول وبيعته له وما صار لعمرٍو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه وعدُّوا عليه أفعاله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا جرم2 معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري". فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحوال، وأولاها بالمجتمَعِ عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعًا، وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرفٍ مفتونٍ؟ تريد أن تلبس الناس شبهة، يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك، إن هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم". فنظر معاوية إلى ابن عباس، فقال: ما هذا يابن عباس، ولما عندك أدهى وأمرّ! فقال ابن عباس: لعمر الله، إنها لذرية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحد أصحاب الكساء3، ومن البيت المطهر، فالْهَ عما تريد، فإن لك في الناس مقنعًا، حتى يحكم الله بأمره، وهو خير الحاكمين، فقال معاوية: أعود4 الحلم التحلم، وخيرُه التحلمُ عن الأهل، انصرفا في حفظ الله. ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، فجلسوا.   1 مسهل عن هنأ، يقال: هنأه الطعام: إذا ساغ ولذ، أي فهنيئًا لك ما نلت من الخلافة. 2 لا جرم: قال الفراء "هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقًّا، فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب بها عن القسم، ألا تراهم يقولون: "لا جرم لآتينك". 3 انظر ص32. 4 أعود: أنفع، والعائدة: المنفعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 247- خطبة معاوية: فحمد الله، وأثنى عليه معاوية، ثم قال: "يا عبد الله بن عمر: قد كنت تحدثنا أنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وأن لك الدنيا وما فيها، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملئهم1، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وَكَّدَ الناسُ بيعتهم في أعناقهم. وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم". ثم سكت.   1 الملأ: الجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 248- خطبة عبد الله بن عمر: فتكلم عبد الله بن عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: يا معاوية، لقد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدًا، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم، وأنت تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وأفرق مَلأهم، وأسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس، فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد". فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلاف، ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر، فقال له عبد الرحمن: إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى، أو لأعيدنها جَذَعَة، ثم قام ليخرج، فتعلق معاوية بطرف ردائه، ثم قال: على رسلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 اللهم اكفنيه بما شئت، لا تظهرن لأهل الشام، فإني أخشى عليك منهم، ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثم قال له: أنت ثعلب رواغ، كلما خرجت من جحر انجحرت1 في آخر، أنت أَلَّبْتَ2 هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع؟ أنطيعك أم نطيعه، إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه، فكثر كلامه وكلام ابن الزبير، حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلا قاتلا نفسك، ولكأني بك قد تخبَّطْتَ في الحبالة، ثم أمرهم بالانصراف، واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج، ثم خرج، فأمر المنادي أن ينادي في الناس، أن يجتمعوا لأمر جامع، فاجتمع الناس في المسجد، وقعد هؤلاء حول المنبر.   1 أي دخلت، جحر الضب كمنع: دخل الجحر، وجحر فلان الضب: أدخله فيه، فانجحر. 2 التأليب: التحريض والإفساد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 249- خطبة معاوية فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر يزيد وفضله وقراءته للقرآن، ثم قال: "يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة1 إلا بعثت إليها ببيعته، فبايع الناس جميعًا وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلتُ: بيضتُهُ2، وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة، منهم من كان أجدر أن يصلَه. ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له". فقام الحسين فقال: "والله لقد تركتَ مَن هو خيرٌ منه أبًا وأمًّا ونفسًا"! فقال معاوية: "كأنك تريد نفسك؟ " فقال الحسين: "نعم. أصلحكَ اللهُ"! فقال معاوية: "إذن أخبرك، أما قولك: خيرٌ منه أُمًّا، فلعمري أمك خيرٌ من أمه، ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش، لكان نساء قريش أفضلهن، فكيف وهي ابنةُ رسول الله صلى   1 المدرة: المدينة. 2 جماعته وأصله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 الله عليه وسلم، ثم فاطمة في دينها وسابقتها؟ فأمك لعمر الله خير من أمه1، وأما أبوك فقد حاكم أباه إلى الله، فقضى لأبيه على أبيك". فقال الحسين: "حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل". فقال معاوية: "وأما ما ذكرت من أنك خيرٌ من يزيدَ نفسًا، فيزيدُ والله خيرٌ لأمةِ محمدٍ منك". فقال الحسينُ: "هذا هو الإفك والزور! يزيدُ شاربُ الخمرِ، ومشتري اللهو خيرٌ مني! " فقال معاوية: "مهلا عن شتمِ ابنِ عمك؛ فإنك لو ذُكِرْتَ عنده بسوء لم يشتمك"، ثم التفتَ معاويةُ إلى الناس. وقال: "أيها الناس: قد علمتم أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعتُهُ بيعةَ هدًى، فَعَمِلَ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلفَ عمرَ، فعمل عمرُ بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفرٍ اختارَهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصنع عمرُ ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظرًا للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد، لما وقع الناس فيه من الاختلاف. ونظرًا لهم بعين الإنصاف". وروي من طريق آخر: أن معاويةَ لما خرج إلى المدينة ودنا منها، استقبله أهلها، فيهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر، فَسَبَّهُ وقال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا"؛ فلما دخل الحسينُ عليه قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، بَدَنةٌ2 يترقرق دمُها والله مُهَرِيقُه"؛ فلما دخل ابن الزبير قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، ضبُّ تلعة3، مدخلُ رأسِه تحت ذنَبِهِ"؛ فلما دخل عبد الله بن عمر قال: "لا مرحبًا بك ولا أهلا، وسَبَّهُ"، فقال:   1 وأم يزيد هي ميسون بنت بحدل الكلبية. 2 البدنة: من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة، للذكر والأنثى. 3 التلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 "إني لست بأهل لهذه المقالة" قال: "بلى، ولما هو شرٌّ منها" فدخل معاوية المدينة وأقام بها، وخرج هؤلاء الرهط معتمرين، فلما كان وقت الحج خرج معاوية حاجًّا، فأقبل بعضهم على بعض، فقالوا: لعله قد ندم، فأقبلوا يستقبلونه، فلما دخل ابن عمر، قال: "مرحبًا بصاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن الفاروق، هاتوا لأبي عبد الرحمن دابة"، وقال لابن أبي بكر: "مرحبًا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق، هاتوا له دابة"، وقال لابن الزبير: "مرحبًا بابن حواريّ رسول الله صلى الله عله وسلم وابن عمته، هاتوا له دابة"، وقال للحسين: "مرحبًا بابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيد شباب المسلمين، قربوا لأبي عبد الله دابة، وجعلت ألطافُهُ1 تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس، ويحسن إذنهم وشفاعتهم وحملهم على الدواب، وخرج حتى أتى مكة، فقضى حجة، ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت، وأمر بالمنبر فقرب من الكعبة، ثم أرسل إليهم، فاجتمعوا، وقال بعضهم لبعض: من يكلمه؟ فأقبلوا على الحسين فأبى، فقالوا لابن الزبير: هات، فأنت صاحبنا، قال: على أن تعطوني عهد الله أن لا أقول شيئًا إلا تابعتموني عليه، قالوا: لك ذلك، فأخذ عهودهم رجلا رجلا، فدخلوا عليه، فرحب بهم، وقال: قد علمتم نظري لكم، وتعطفي عليكم، وصلتي أرحامكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم، وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: أجيبوني، فسكتوا، فقال: لابن الزبير: هات؛ فأنت صاحبهم، قال:   1 الألطاف: جمع لطفة بالتحريك، وهي الهدية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 250- خطبة عبد الله بن الزبير: "نخيرك بين إحدى ثلاث، أيها أخذت فهي لك رغبة، وفيها خيار؛ إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قبضه الله ولم يستخلفْ أحدًا، فرأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم، وإن شئت فما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا، وإن شئت، فما صنع عمر، جعلها شورى في ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم، وترك ولده وأهل بيته، وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا". فقال معاوية: هل غير هذا؟ قال: لا، ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابن الزبير، فقال معاوية: "إني أتقدم إليكم، وقد أعذرَ من أنذرَ، إني قائمٌ قائلٌ مقالة، فإياكم أن تعترضوا علي حتى أتمها، فإن صدقتُ فعليَّ صدقي، وإن كذبتُ فعليَّ كذبي، وأقسم بالله لئن ردَّ عليَّ رجلٌ منكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمتُهُ، حتى يُضرَب رأسُه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يبقي إلا عليها، وأمر أن يقوم على رأسِ كلِّ رجلٍ منهم رجلان بسيفيهما، فإن تكلم بكلمة يردُّ بها عليه قولَه قتلاه، وخرجَ وأخرجهم معه، حتى رقِيَ المنبرَ، وحفَّ به أهلُ الشام، واجتمع الناسُ، فقام خطيبًا فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 251- خطبة معاوية: قال بعد حمد الله، والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار1، قالوا: إن حسينًا، وابن أبي بكر، وابن عمر، وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نبرم أمرًا دونهم، ولا نقضي أمرًا إلا عن مشورتهم، وإني دعوتهم، فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا، وسلموا، وأطاعوا". قال أهل الشام: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ ائذن لنا، فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية، فقال معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناسُ إلى قريشٍ بالشرِّ،   1 العوار: مثلثة: العيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وأحلى دماءهم عندهم، أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد، ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوا ثم قربت رواحله، فركب ومضى، فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم: لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم. قالوا: لم نفعل. قالوا: بلى قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟ قالوا: خفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم. "العقد الفريد 2: 247-157، الإمامة والسياسة 1: 121، ومروج الذهب 2: 69، والأمالي 2: 73، وذيل الأمالي ص177، وعيون الأخبار م2 ص210، 1: 95 والبيان والتبيين 1: 163-164". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 تهنئة وتعزية : 252- خطبة عبد الله بن همام السلولي : لما توفي معاوية واستخلف يزيد ابنه "سنة 60" اجتمع الناس على بابه، ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية، حتى أتى عبد الله بن همام السلولي، فدخل عليه، فقال: "يا أمير المؤمنين، آجرك الله على الرزية، وبارك لك في العطية، وأعانك على الرعية، فلقد رزئت عظيمًا، وأعطيت جسيمًا، فاشكر الله على ما أعطيت، واصبر له على ما رزيت، فقد فقدت خليفة الله، ومنحت خلافة الله، ففارقت جليلا، ووهبت جزيلا، إذ قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، ووليت الرياسة، فأعطيت السياسة، فأوردك الله موارد السرور، ووفقك لصالح الأمور، وأنشد: فاصبر يزيدُ فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا1 لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا أصبحت والِيَ أمر الناس كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نُعيتَ ولا نسمعْ بمنعاكا2 "وعبد الله بن همام هو أول من فتح الباب في الجمع بين تهنئة وتعزية، فولجه الناس، كما روي من غير وجه". "زهر الآداب 1: 61، ونهاية الأرب 5: 215، وتهذيب الكامل 1: 16، والعقد الفريد 2: 35-141-250، ومروج الذهب 2: 93، والبيان والتبيين 2: 66".   1 أصفاه: آثره. 2 هو أبو ليلى معاوية بن يزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 253- خطبة عطاء بن أبي صيفي الثقفي : وروى المسعودي أن يزيد بعد موت أبيه أذن للناس، فدخلوا عليه لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه، فقام عطاء بن أبي صيفي، فقال: "السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أصبحت وقد رزئت خليفة الله وأعطيت خلافة الله، ومنحت هبة الله، وقد قضى معاوية نحبه، فغفر الله له ذنبه، وأعطيت بعده الرياسة، ووليت السياسة، فاحتسب1 عند الله أعظم الرزية، واحمده علي أفضل العطية". "مروج الذهب 2: 93، والبيان والتبيين 2: 102،تهذيب الكامل 1: 16، وصبح الأعشى 9: 278، "والعقد الفريد 2: 35".   1 احتسب به أجرًا عند الله: اعتده ينوي به وجه الله "واحتسب ابنه إذا مات كبيرًا، فإن مات صغيرًا قيل: افترطه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 254- خطبة عبد الله بن مازن : ثم قام عبد الله بن مازن، فقال: "السلام عليك يا أمير المؤمنين، رزئت خير الآباء وسميت خير الأسماء، ومنحت أفضل الأشياء، فهناك الله بالعطية، وأعانك على الرعية، فقد أصبحت قريش مفجوعة ببعد ساستها، مسرورة بما أحسن الله إليها من الخلافة بك، والعقب من بعده، ثم أنشأ يقول: الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك فيأبى الله إلا سوقها ... إليك، حتى قلدوك طوقها ثم قام عبد الله بن همام فخطب خطبته السالفة. "مروج الذهب 2: 93" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 255- خطبة غيلان بن مسلمة الثقفي : وروى الجاحظ: أنه لما توفي عبد الملك، وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه، فأقبل غيلان بن مسلمة الثقفي، فسلم عليه، ثم قال: "يا أمير المؤمنين، أصبحت قد رزئت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء، فعظم الله لك على الرزية الصبر، وأعطاك في ذلك نوافل1 الأجر، وأعانك على حسن الولاية والشكر، ثم قضى عبد الملك2 بخير القضية، وأنزله بأشرف المنازل المرضية، وأعانك من بعده على الرعية". "البيان والتبيين 2: 103".   1 النافلة في الصلاة وغيرها: الزيادة. 2 أي قضى على عبد الملك بإسقاط الجار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 خطب ولاة الأمويين وقوادهم خطبته بفارس وقد كتب إليه معاويه يتهدده ... خطب ولاة الأمويين وقوادهم خطب زياد بن أبيه المتوفى سنة 53: 256- خطبته بفارس وقد كتب إليه معاوية يتهدده: كان الإمام علي عليه السلام ولى زيادًا فارس -أو بعض أعمال فارس- فضبطها ضبطًا صالحًا، وجبى خراجها وحماها، فلما قُتِل الإمام بقي زيادٌ في عمله، وخاف معاوية جانبه، وعلم صعوبة ناحيته، وأشفق من ممالأته الحسن بن علي، عليه السلام، فكتب إليه يتهدده1، فغضب زياد غضبًا شديدًا، وجمع الناس، وصعد المنبر، فحمد الله، ثم قال: "العجب من ابن آكلة الأكباد2، وقاتلة أسد الله، ومظهر الخلاف، ومسرِّ النفاق، ورئيس الأحزاب، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله، كتب إلي يرعد ويبرق3   1 ومما ورد في كتابه إليه قوله: "أمس عبد، واليوم أمير! خطة ما ارتقاها مثلك يابن سمية، وإذا أتاك كتابي هذا، خذ الناس بالطاعة والبيعة، وأسرع الإجابة، فإنك إن تفعل فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك بأضعف ريش؛ ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسمًا مبرورًا أن لا أوتي بك إلا في زمارة، تمشي حافيًا من أرض فارس إلى الشأم، حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدًا، وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه". 2 هي هند أم معاوية، وذلك أنها بعد انتهاء غزوة أحد بقرت بطن حمزة بن عبد المطلب عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذت كبده لتأكلها، فلاكتها ثم أرسلتها، وكان قد قتله وحشي مولى جبير بن مطعم، دعاه سيده، وقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة بعمي طعيمة فأنت حر. 3 رعد الرجل وبرق "كنصر" وأرعد وأبرق: تهدد وتوعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 عن سحابة جفل1 لا ماء فيها، وعما قليل تصيرها الرياح قزعًا2، والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة، أفمن إشفاق علي تنذر وتعذر؟ كلا، ولكن ذهب إلى غير مذهب، وقعقع3 لمن رَوِيَ بين صواعق تهامة4، كيف أرهبه وبيني وبينه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين والأنصار؟ والله لو أذن فيه أو ندبني إليه، لأرينه الكواكب نهارًا، ولأسعطنه5 ماء الخردل دونه، الكلام اليوم، والجمع غدًا، والمشورة بعد ذلك إن شاء الله" ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م4 ص68، وتاريخ الطبري 6: 97".   1 الجفل: السحاب هراق ماءه ومضى. 2 القزع: قطع من السحاب رقيقة. 3 القعقعة: صوت الرعد، وتحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت؛ ومنه "ما يقعقع له بالشنان" وسيأتي تفسيره في خطبة الحجاج. 4 روي: ارتوى، والمراد نشأ وترعرع بينهما، ولعله "ربي" وذكروا أنه لما نصب الحجاج المجانيق لقتال عبد الله بن الزبير، وأظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق، ففزع الناس وأمسكوا عن القتال، فقام فيهم الحجاج، فقال: "أيها الناس لا يهولنكم هذا فإني أن الحجاج بن يوسف، وقد أصحرت لربي، فلو ركبنا عظيما لحال بيننا وبينه، ولكنها جبال تهامة لم تزل الصواعق تنزل بها". 5 سعطه الدواء كمنعه ونصره وأسمطه إياه: أدخله في أنفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 257- خطبته وقد بعث معاوية إليه المغيرة بن شعبة يستقدمه : وكتب إلى معاوية يرد عليه ردًّا شديد اللهجة1، فغم ذلك معاوية وأحزنه، وأوفد إليه المغيرة بن شعبة بكتاب يتلطف به فيه ويستدنيه منه، ويستلحقه بنسب أبيه   1 ونص كتابه إليه: "أما بعد، فقد وصل إليَّ كتابك يا معاوية، وفهمت ما فيه، فوجدتك كالغريق يغطيه الموج، فيتشبث بالطحلب، ويتملق بأرجل الضفادع طمعًا في الحياة، إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حادَّ الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا. فأما سبك لي فلولا حلمٌ ينهاني عنك، وخوفي أن أُدعَى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء. وأما تعبيرك لي بسمية، فإن كنت ابن سمية فأنت ابن حمامة. وأما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي، فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟ فامض الآن لطيتك، واجهد جهدك، فلست أنزل إلا بحيث تكره، ولا أجتهد إلا فيما يسوءك، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه، الظالع إليه والسلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 أبي سفيان1، وجعل المغيرة يترفق به، وينصح له أن يصل حبله بحبله، ولا يقطع رحمه، فتريث زياد يومين أو ثلاثة يروي في أمره، ثم جمع الناس، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم، ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم، فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان، وفكرت فيهم، فوجدتهم كالأضاحي. في كل عيد يذبحون، ولقد أفنى هذان اليومان: يوم الجمل وصفين ما ينيف على مائة ألف، كلهم يزعم أنه طالب حق، وتابع إمام، وعلى بصيرة من أمره، فإن كان الأمر هكذا، فالقاتل والمقتول في الجنة، كلا: ليس كذلك ولكن أشكل الأمر، والتبس على القوم، وإني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ، فكيف لامرئ بسلامة دينه، وقد نظرت في أمر الناس، فوجدت أحمد العاقبتين العافية، وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته، فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله" ثم نزل. وكتب إلى معاوية يستوثق منه2، فأعطاه معاوية جميع ما سأله، وكتب إليه بخط يده ما وثق به، فدخل إليه الشام، فقربه وأدناه، وأقره على ولايته، ثم استعمله على العراق. "شرح ابن أبي الحديد م4: 69"   1 وكانت ديباجة كتابه إليه: "من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان" وفيه يقول: "وحملك سوء ظنك بي، وبغضك لي على أن عققت قرابتي، وقطعت رحمي، وبتت نسبي وحرمتني، كأنك لست أخي، وليس صخر بن حرب أباك وأبي! " وفي آخره يقول: "فإن أحببت جانبي ووثقت بي، فإمرة بإمرة؛ وإن كرهت جانبي، ولم تثق بقولي، ففعل جميل، لا عَلَيّ ولا لي والسلام". 2 وفي كتابه يقول: "إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح، ونية حسنة، وأردت بذلك برًّا، فستزرع في قلبي مودة وقبولا، وإن كنت إنما أردت مكيدة ومكرًا وفساد نية، فإن النفس تأبى ما فيه العطب، ولقد قمت يوم قرأت كتابك مقامًا يعيا به الخطيب المدره، فتركت من حضر، لا أهل ورد، ولا صدر، كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل، وأنا على أمثال ذلك قدير". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 258- خطبته وقد استلحقه معاوية: ولما أراد معاوية استلحاق زياد، وقد قدم عليه الشام، جمع الناس وصعد المنبر، وأصعد زيادًا معه؛ فأجلسه بين يديه على المرقاة1 التي تحت مرقاته، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد، فمن كان عنده شهادة فليقم بها"، فقام ناس، فشهدوا أنه ابن أبي سفيان، وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته2؛ فلما انقضى كلام معاوية ومناشدته، قام زياد وأنصت الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:   1 المرقاة بفتح الميم وتكسر: الدرجة. 2 فقام أبو مريم السلولي – وكان خمارًا في الجاهلية فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان: قدم علينا الطائف، فأتاني؛ فاشتريت له لحمًا وخمرًا وطعامًا؛ فلما أكل قال: يا أبا مريم، أصب لي بغيًّا؛ فخرجت فأتيت سمية، فقلت لها: إن أبا سفيان من قد عرفت شرفه وجوده وقد أمرني أن أصيب له بغيًّا، فهل لك؟ فقالت: نعم يجيء الآن عبيد بغنمه –وكان راعيًا- فإذا تعشى ووضع رأسه أتيته؛ فرجعت إلى أبي سفيان فقلت لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة سمية، فقال: ائتني بها على ذفرها وقذرها، فقال له زياد: مهلًا يا أبا مريم؛ إنما بعثت شاهدًا، ولم تبعث شاتمًا، فقال أبو مريم: لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليَّ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت، والله لقد أخذ بكم درعها، وأغلقت الباب عليهما، فلم ألبث أن خرج على يمسح جبينه، فقلت: مه يا أبا سفيان، فقال: ما أصبت مثلها يا أبا مريم لولا استرخاء من ثدييها، وذفر في إبطيها" -والدفر بالتحريك ويسكن: النتن، والذفر بالتحريك: كل ريح ذكية من طيب أو نتن أو يخص برائحة الإبط المنتنة- وكانت أمه سمية قد وهبها أبو الخير بن عمرو الكندي الحارث بن كلدة -وكان طبيبًا يعالجه- فولدت له على فراشه نافعًا، ثم ولدت أبا بكرة؛ فأنكر لونه، وقيل له إن جاريتك بغيٌّ، فانتفى من أبي بكرة ومن نافع، وزوجها عبيدًا وكان عبدًا لابنته، فولدت على فراشه زيادًا. وذكروا أن عمر بن الخطاب كان قد بعث زيادًا في إصلاح فساد واقع باليمن؛ فلما رجع من وجهته خطب عند عمر خطبة لم يسمع بمثلها، وهو غلام حدث، وأبو سفيان حاضر، وعليٌّ عليه السلام، وعمرو بن العاص، فقال عمرو: لله أبو هذا الغلام لو كان قرشيًّا لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: أما والله = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 "أيها الناس: هذا أمر لم أشهد أوله، ولا علم لي بآخره، وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم، وشهدت الشهود بما سمعتم؛ فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس، وحفظ منا ما ضيعوا، فأما عبيد فإنما هو والد مبرور، أو ربيب1 مشكور" ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد 4: ص70، والعقد الفريد 2: 151، 3: 3، ومروج الذهب 2: 56، وذيل الأمالي ص189"   = إنه لقرشيّ، ولو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك، فقال: ومن أبوه؟ قال: أنا والله وضعته في رحم أمه، قال: فهلا تستلحقه، قال: أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي". ومن كتاب لعلي عليه السلام إلى زياد، وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه: "وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس، ونزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها نسب، ولا يستحق بها إرث" فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة، ولم تزل في نفسه حتى نسب، ولا يستحق بها إرث" فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها ورب الكعبة، ولم تزل في نفسه حتى ادعاء معاوية، وكان يقال له: زياد بن عبيد، وزياد بن أبيه، وزياد ابن سمية، وزياد ابن أمه، ولما استلحق قال له أكثر الناس: زياد بن أبي سفيان، قال الطبري: توفي سنة 44 استلحق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل". 1 الربيب هنا: زوج الأم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 خطبته حين ولى البصرة ... 259- خطته حين ولي البصرة "وهي البتراء" وقدم زياد البصرة "غرة جمادى الأولى سنة 45هـ" واليًا لمعاوية بن أبي سفيان، وضم إليه خراسان وسجستان، والفسق بالبصرة كثير فاش ظاهر؛ فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها، وقيل بل قال: "الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه. اللهم كما زدتنا نعمًا فألهمنا شكرًا" أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء1، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم2، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا   1هذا الوصف توكيد للمبالغة، ومثله: وتد واتد، وهمج هامج، وليلة ليلاء، ويوم أيوم "أي شديد، أو آخر يوم في الشهر". 2 عقلاؤكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي1 الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت2 عينَه الدنيا، وسدت مسامعُه الشهواتُ، واختار الفانيةَ على الباقيةِ، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدثَ الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم للضعيف يُقهر ويؤخذ مالُه، هذه المواخير3 المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعددُ غيرُ قليل، ألم يكن منكم نُهاةٌ، تمنعُ الغُوَاةَ4 عن دَلَج5 الليل، وغارةِ النهار؟ قربتم القرابة، وباعدتم الدين! تعتذرون بغير العذر، وتغضون على المختلس، كل امرئ منكم يذب6 عن سفيه، صنيعَ من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادًا، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء؛ فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم7 الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم، كُنُوسًا في مكانسِ الرِّيب8 حرامٌ عليَّ الطعام والشراب، حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف،   1 الدائم. 2 طرف عينه: أصابها بشيء فدمعت، وطرف بصره: أطبق أحد جفنيه على الآخر، وطرفه عنه كضربه: صرفه ورده. 3 جمع ماخور وهو بيت الريبة معرب أو عربي من مخرت السفينة لتردد الناس إليه. 4 جمع ناه، وغواة جمع غاو. 5 السير من أول الليل، وقد أدلجوا، فإن ساروا من آخره فادلجوا بالتشديد. 6 يدفع. 7 جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه. روى الشعبي قال: "لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة ونزل، سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون، فقال: ما هذا؟ قالوا: إن البلد مفتون، وإن المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق، فيقال لها: نادي ثلاثة أصوات، فإن أجابك أحد، وإلا فلا لوم علينا فيما نصنع! ". 8 كنوس جمع كانس: أي مستتر كقعود وجلوس جمع قاعد وجالس، وأصله من كنس الظبي كضرب: دخل في كناسه "ككتاب" وهو مستتره من الشجر، ويجمع كانس أيضًا على كنس "كركع" ومنه الجواري الكنس "وهي الخنس" وهي الكواكب السيارة، أو النجوم الخمسة: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد؛ لأنها تكنس في المغيب كالظباء في الكنس "ككتب"، أو هي كل النحوم لأنها تبدو ليلًا وتختفي نهارًا "وخنوسها أنها تغيب كما يخنس الشيطان إذا ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ" ومكانس الريب: مكامنها المستترة جمع مكنس كمجلس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي1 بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه، فيقول: "انج سعد فقد هلك سعيد2" أو تستقيم لي قناتكم، إن كذب المنبر بلقاء3 مشهورة، فإذا تعلقتم علَيّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي4، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها5 في، واعلموا أن عندي أمثالها، من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه6 فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبرُ الكوفة ويرجعُ إليكم7، وإياي ودعوى الجاهلية8، فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعتُ لسانه، وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غَرَّقَ قومًا غرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نقب   1 الولي: السيد، والمولى هنا: العبد. 2 سعد وسعيد هما ابنا ضبة بن أدّ خرجا في طلب إبل لأبيهما؛ فوجدها سعد فردها وقتل سعيد "فكان ضبة إذا رأى سوادًا تحت الليل قال: سعد أم سعيد؟. 3 من البلق بالتحريك: وهو ارتفاع التحجيل في الفرس إلى الفخذين "والتحجيل: بياض في قوائم الفرس"، والفرس البلقاء مشهورة لتميزها عما سواها ببلقها. 4 في الطبري "قال الشعبي: فوالله ما تعلقنا عليه بكذبة، ولا وعدنا خيرًا ولا شرًّا إلا أنفذه". 5 عُدُّوها من عيوبي، واغتمزه: طعن عليه. 6 في الطبري: "وكان زياد أول من شدَّ أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس بالطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس في سلطانه خوفًا شديدًا، حتى أمن الناس بعضهم بعضًا، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة؛ فلا يعرض له أحد، حتى يأتيه صاحبه؛ فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسة لم يُرَ مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحدًا قبل، وكان يقول: "لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه". 7 في الطبري: "استعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن؛ فأمهل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر إلى الكوفة، وكان يؤخر العشاء حتى يكون آخر من يصلي، ثم يصلي، يأمر رجلًا يقرأ سورة البقرة ومثلها، يرتل القرآن؛ فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنسانًا يبلغ الخريبة "كجنينة موضع بالبصرة يسمى البصيرة الصغرى"، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج، ولا يرى إنسانًا إلا قتله فأخذ ليلة أعرابيًّا، فأتى به زيادًا، فقال: هل سمعت النداء؟ قال: لا والله، قدمت بحلوبة لي، وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير، قال: أظنك والله صادقًا، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة، ثم أمر به فضربت عنقه". 8 قولهم: يا لفلان، والغرض مناصرة العصبية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 بيتًا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه حيًّا فيه، فكفوا عني أيدكم وألسنتكم، أكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف1 ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوام إحن2؛ فجعلت ذلك دَبْرَ أذني3 وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنًا فليزدد إحسانًا، ومن كان منكم مسيئًا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلُّ من بغضي لم أكشف له قناعًا، ولم أهتك له سترًا، حتى يبدي لي صفحته4، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيُسرُّ، ومسرورٌ بقدومنا سيبتئس. أيها الناس: إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا5؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت عنه، فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا عطاء ولا رزقًا عن إبانة6، ولا مجمرًا7 لكم بعثًا، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرًّا لكم. أسأل الله أن يعين كلا على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر، فأنفذوه على   1 أي تخالف ما اجتمع عليه عامة القوم. 2 جمع إحنة: وهي الحقد والضغينة. 3 أي خلف أذني، وقد اقتبسها من كلام معاوية كما مر بك. 4 أي يجاهرني بالعدواة. 5 ملكنا، والفيء: ما كان شمسا فينسخه الظل، والخراج، أي ندفع عنكم بظل الله ونعمته التي وهبنا، أو ندفع عنكم بما صار في أيدينا من أموال الخراج. 6 وقته وموعده. 7 جمر الجند: حبسهم في أرض العدو ولم يقفلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 أذلاله1، وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة؛ فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي". فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال: "أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب"، فقال له: "كذبت ذاك نبي الله داود صلوات الله عليه؛ فقام الأحنف بن قيس، فقال: "إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلى" فقال له زياد: صدقت، فقام أبو بلال مرداس2 بن أدية وهو يهمس ويقول: أنبأنا الله بغير ما قلت. قال الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر، فسمعها زياد، فقال: "إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضًا". "البيان والتبيين 2: 29، والعقد الفريد 2: 150، وصبح الأعشى 1: 216، وتاريخ الطبري 6: 124، والكامل لابن الأثير 3: 226، وشرح ابن أبي الحديد م4: ص57، وعيون الأخبار م2: ص241، وذيل الأمالي 188".   1 أي وجوهه وطرقه جمع ذل بالكسر. وذل الطريق: محجته، وأمور الله جارية على أذلالها أي مجاريها. 2 وهو من رؤساء الخوارج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 260- خطبته بالكوفة وقد ضمت إليه : ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة سنة 50هـ، ضم معاوية الكوفة إلى زياد؛ فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة1، فاستخلف على البصرة، وشخص إلى الكوفة فأتاها، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة   1 وكان يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حق، وأن حقكم طالما دفع الباطل، فأتيتكم في أهل بيتي؛ فالحمد لله الذي رفع مني ما وضع الناس، وحفظ مني ما ضيعوا، حتى فرغ من الخطبة1". "تاريخ الطبري 6: 131"   1 قال الطبري: فحصب على المنبر، "أي رمى بالحصباء وهي الحصى" فجلس حتى أمسكوا، ثم دعا قومًا من خاصته، وأمرهم فأخذوا أبواب المسجد، ثم قال: ليأخذ كل رجل منكم جليسه، ولا يقولن لا أدري من جليسي، ثم أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد، فدعاهم أربعة أربعة، يحلفون بالله ما منا من حصبك، فمن حلف خلاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حتى صار إلى ثلاثين، ويقال بل كانوا ثمانين فقطع أيديهم على المكان"؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 261- خطبة أخرى له بالكوفة وروى الطبري أيضًا قال: "فجمعت الكوفة والبصرة لزياد بن أبي سفيان، فأقبل حتى دخل القصر بالكوفة ثم صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإنا قد جُرِّبنا وجَرَّبنا، وسُسْنا وساسنا السائسون، فوجدنا هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله، بالطاعة اللينة المشبه سرُّها بعلانيتها، وغيبُ أهلها بشاهدِهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لينٌ في غير ضعف، وشدةٌ في غير عنف، وإني والله لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته على أذلاله، وليس من كذبةٍ الشاهد عليها من الله والناس أكبر من كذبةِ إمامٍ على المنبر، ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرَّظهم، وذكر قَتَلَته ولعنهم". "تاريخ الطبري 6: 142" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 262- خطبته بالكوفة يتهدد الشيعة وكان زياد قد ولَّى الكوفة عمرو بن الحريث، ورجع إلى البصرة؛ فبلغه أن حجر بن عدي يجتمع إليه شيعةُ علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 حصبوا عمر بن الحريث؛ فشخص إلى الكوفة، حتى دخلها، فأتى القصر، ثم خرج فصمد المنبر، وعليه قباء سندس، ومطرف خزّ أخضر قد فرق شعره، وحجرٌ جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن غِبَّ البغيّ والغيّ وخيمٌ، إن هؤلاء جموا1 فأشروا، وأَمِنُونِي فاجترءوا عليّ، وايم الله لئن لم تستقيموا لأدواينكم بدوائكم، وقال: ما أنا بشيء إن لم أمنع باحة2 الكوفة من حجر، وأدعه نكالًا لمن بعده، ويل أمك يا حجر، سقط العَشَاء بك على سرحان3". "تاريخ الطبري 6: 143"   1 من جم الماء جمومًا: كثر واجتمع. 2 الباحة: الساحة. 3 هو مثل: وأصله أن رجلًا خرج يلتمس العَشاء؛ فوقع على ذئب فأكله، يضرب في طلب الحاجة يؤدي بصاحبها إلى التلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 263- خطبة أخرى له : وخطب زياد فقال: "استوصوا بثلاثة منكم خيرًا: الشريف والعالم والشيخ؛ فوالله لا يأتيني شيخ بشاب قد استخف به إلا أوجعته، ولا يأتيني عالمٌ بجاهل استخف به إلا نكلت به، ولا يأتيني شريفٌ بوضيع استخف به إلا انتقمت له منه". "البيان والتيين 2: 73، والعقد الفريد 2: 151: شرح ابن أبي الحديد م4 ص74" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 خطبة ثالثة له ... 264- خطبة أخرى: وخطب على المنبر فقال: "أيها الناس: لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا، فإن الشاعر يقول: اعمل بقولي وإن قصرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 265- وصية لزياد : وروى الجاحظ عن عمرو بن عبيد أنه قال: كتب عبد الملك بن مروان وصية زياد، وأمر الناس بحفظها وتدبر معانيها وهي: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل لعباده عقولًا عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم بها على طاعته؛ فالناس بين محسن بنعمة الله عليه، ومسيء بخذلان الله إياه، ولله النعمة على المحسن، والحجة على المسيء، فما أولى من نمَّت عليه النعمة في نفسه ورأى العبرة في غيره بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله، فيعطي ما عليه منها، ولا يتكثر بما ليس له منها، فإن الدنيا دارُ فناء، ولا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله، فأحذركم الله الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرته العَجَزَةُ، قبل أن تصيروا إلى الدار التي صاروا إليها، فلا تقدرون على توبة، وليس لكم منها أَوبة، وأنا أستخلف الله عليكم، وأستخلفه منكم". قال الجاحظ: وقد روي هذا الكلام عن الحجاج، وزياد أحق به منه. "البيان والتبيين 1: 206" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 266- ما كان يقوله لمن ولاه عملًا: وكان زيادًا إذا ولى رجلًا عملًا قال له: "خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروفٌ رأس سَنَتِك، وأنك تصير إلى أربع خلال؛ فاختر لنفسك، إنا إن وجدناك أمينًا ضعيفًا، استبدلنا بك لضعفك، وسلَّمَتْك من معرتِنا أمانتُك، وإن وجدناك قويًّا خائنًا استهنا وتك، وأوجعنا ظهرك ثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين؛ جمعنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أمينًا قويًّا؛ زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا عقبك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 267- خطبة الضحاك بن قيس الفهري بالكوفة " قتل سنة 64هـ": 1 وخطب الضحاكُ بن قيس الفهري على منبر الكوفة – وقد كان بَلَغَه أن قومًا من أهلها يشتمون عثمان ويبرءون منه، فقال: "بلغني أن رجالًا منكم ضُلالًا يشتمون أئمة الهدى، ويعيبون أسلافنا الصالحين، أما والذي ليس له نِدٌّ ولا شريكٌ، لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم؛ لأضعن فيكم سيف زياد، ثم لا تجدونني ضعيف السورة2، ولا كليل الشفرة3، أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم4؛ فكنت أول من غزاها في الإسلام، وشرب من ماء الثعلبية   1 ولاه معاوية الكوفة سنة 55 إلى سنة 58 ثم جعله على شرطته، ولما مات معاوية الثاني بايعه أهل دمشق على أن يصلي بهم، ويقيم لهم أمرهم، حتى يجتمع أمر الأمة، وكان يهوى ابن الزبير، ويمنعه من إظهار ذلك أن بني أمية كانوا بحضرته، وكان يعمل في ذلك سرًّا، ثم نشبت الحرب بينه وبين مروان بن الحكم في مرج راهط، ودارت الدائرة على جيش الضحاك وقتل منتصف ذي الحجة سنة 64هـ. 2 سورة السلطان: سطوته واعتداؤه. 3 الشفرة: حد السيف، وكليل: غير قاطع. 4 وكان ذلك سنة 39 هـ، دعاه معاوية، وقال: سِرْ حتى تمرَّ بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت؛ فمن وجدته من الأعراب في طاعة علِيٍّ فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلًا فأغر عليها؛ فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف؛ فأقبل الضحاك فنهب الأموال، وقتل من لقي من الأعراب ومر بالثعلبية؛ فأغار على مسالح عليٍّ وأخذ أمتعتهم، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة، فأتى عمرو بن عميس بن مسعود -وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود- وكان في خيل لعليٍّ، وأمامه أهله، وهو يريد الحجّ؛ فقتله وقتل ناسًا من أصحابه، فلما بلغ ذلك عليًّا سرح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف؛ فلم يزل مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر فواقعه، فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلًا، وقتل من أصحاب حجر رجلان، وحجز الليل بينهم؛ فهرب الضحاك وأصحابه؛ فلما أصبحوا لم يجدوا لهم أثرًا -شرح ابن أبي الحديد م1: ص154، وتاريخ الطبري 6: 78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ومن شاطئ الفرات، أعاقب من شئتُ، وأعفو عمن شئتُ، لقد ذَعَرتُ المخدرات في خدورهن، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي؛ فاتقوا الله يا أهل العراق، أنا الضحاك بن قيس، أنا أبو أنيس، أنا قاتل عمرو بن عميس". فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد، فقال: "صدق الأمير، وأحسن القول! ما أعرفنا والله بما ذكرتَ! ولقد لقيناك بغربيّ تدمر فوجدناك شجاعًا مجرِّبًا صبورًا1! ". ثم جلس، وقال: أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم؟ وايم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه؛ فسكت الضحاك قليلا، وكأنه خَزِيَ واستحيا، ثم قال: نعم، كان ذلك اليوم بأَخَرَة2 -بكلام ثقيل- ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد 1: 155"   1 هذا المقول تهكم به كما ترى. 2 يقال: جاء أخرة وبأخرة بالتحريك: أي آخر كل شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 268- خطبته عند موت معاوية : ولما مات معاوية "سنة 60هـ" خرج الضحاك بن قيس الفهري -وكان صاحب شرطته- حتى صعد المنبر، وأكفان معاوية على يديه تلوح؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن معاوية كان عمود العرب، وحد العرب، قطع الله عَزَّ وَجَلَّ به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثم هو في البرزخ1 إلى يوم القيامة؛ فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحصرْ عند الأولى2". "تاريخ الطبري 6: 182، والعقد الفريد 2: 250"   1 البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل البرزخ. 2 وفي العقد "فمن أراد حضوره صلاة الظهر فليحضره". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 269- خطبة النعمان بن بشير بالكوفة "قتل سنة 64هـ": 1 خطب النعمان بن بشير على منبر الكوفة، فقال: "يا أهل الكوفة: إني والله ما وجدت مثلي ومثلكم إلا الضبع والثعلب، أتيا الضب في جحره؛ فقالا: أبا الحسل2. قال: أجبتكما. قالا: جئناك نختصم. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت الضبع: فتحت عيني. قال: فعل النساء فعلت. قالت: فلقطت تمرة. قال: حلوًا اجتنيت قالت: فاختطفها ثمالة3. قال: لنفسه بغى الخير. قالت: فلطمته لطمة قال: حقًّا قضيت. قالت؛ فلطمني أخرى. قال: كان حرًّا فانتصر. قالت: فاقضِ الآن بيننا. قال: حَدِّثْ حديثين امرأة، فإن لم تفهم فأربعة4". "العقد الفريد 1: 269-2: 158، ومجمع الأمثال للميداني 2: 13"   1 ولي الكوفة وحمص لمعاوية ويزيد، وكان هواه معها، وميله إليهما؛ فلما مات معاوية بن يزيد دعا الناس إلى بيعة عبد الله بن الزبير بالشام، وكان أول من خالف من أمراء الأجناد -وكان واليًا على حمص- وانضم إلى الضحاك بن قيس الفهري، أمده بجيش من أهل حمص عليه شرحبيل بن ذي الكلاع ونشبت الحرب بين الضحاك وبين مروان بن الحكم في مرج راهط، ودارت الدائرة على جيش الضحاك وقتل كما قدمنا؛ فلما بلغ الخبر النعمان بن بشير خرج عن حمص هاربًا ليلًا ومعه امرأته وولده وثقله، فسار ليلته جمعاء متحيرًا لا يدري أين يأخذ، فاتبعه خالد بن عدي الكلاعي فيمن خف معه من أهل حمص، فلحقه وقتله وبعث برأسه إلى مروان، وكان قتله في ذي الحجة سنة 64هـ. 2 أبو حسل وأبو حسيل: كنية الضب، وفي مجمع الأمثال أن المتخاصمين: الأرنب والثعلب. 3 ثعالة: اسم الثعلب الذكر والأنثى. 4 وقد ذهبت أقوال الضب كلها أمثالًا. قال الميداني في شرح المثل الأخير "1: 130": "أي زده وأراد بالحديثين حديثًا واحدًا تكرره مرتين؛ فكأنك حدثتها بحديثين. والمعنى كرر لها الحديث لأنها أضعف فهما، فإن لم تفهم فاجعلهما أربعة، وقال أبو سعيد: فإن لم تفهم بعد الأربعة فالمربعة "والمربعة كمكنسة: العصا" ويروى، فأربع "أمر من ربع كمنع" أي كُفّ، تضرب في سوء السمع والإجابة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 270- خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه بين يدي معاوية "قتل سنة 67هـ": قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلالك زياد، جعل يتصدى منه بخلوة، ليسبر من رأيه ما كره أن يُشْرَكَ في علمه؛ فاستأذن عليه بعد انصداع الطلاب، واشتغال الخاصة، وافتراق العامة، وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه، ففطن معاوية لما أراد، فبعث إلى ابنه يزيد وإلى مروان بن الحكم وإلى سعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، وعمرو بن العاص، فلما أخذوا مجالسهم أذن له، فسلم ووقف واجمًا يتصفح وجوه القوم. ثم قال: "صريح العقوق مكاتمة الأدنَيْنَ، لا خير في اختصاص وإن وَفَر، أحمد الله إليكم على الآلاء1، وأستعينه على اللأواء2، وأستهديه من عمى مجهد، وأستعينه على عدو مرصد3، وأشهد أن لا إله إلا الله المنقذ بالأمين الصادق من شفا جرف هار4، ومن بَدٍّ غارٍ5، وصلوات الله على الزكي نبي الرحمة، ونذير الأمة، وقائد الهدى، أما بعد يا أمير المؤمنين: فقد عسف بنا ظنٌ فرَّع6، وفذعٌ7 صدَّع، حتى طمع السحيقُ8، وبئس الرفيقُ، ودبَّ الوشاةُ بموت زياد، فكلهم مستحقِر9   1 النعم. 2 الشدة. 3 أرصدت له: أعددت. 4 الشفا: حرف كل شيء، والجرف كعتق وقفل: ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض، وهار الجرف: انصدع ولم يسقط فهو هار كقاض، وهو مقلوب من هائر، فإذا سقط فقد انهار وتهور. 5 البد: التعب، والغاري: الملازم الشامل، من غرا السمن قلبه لزق به وغطاه. 6 فرّع بين القوم وفرق بمعنى واحد: أي أن هذا الظن فرق بيننا وبينك فجافيتنا. 7 هي في الأصل "فرع" وأراها محرفة عن قذع وهي التي تناسب المقام. قذعه قذعا "بالسكون" رماه بالفحش وسوء القول كأقذعه، والقذع محركة: الخنا والفحش والقذر، وصدع: شقق وفرق: أي أن مارمانا به الوشاة لديك من سوء القول فرق بيننا وبينك. 8 البعيد. 9 في الأصل هكذا بمعنى محتقر، أي محتقر لنا لمعاداته إيانا، وأنه لا يبالي بمعاداتنا لما نابنا من الضعف بموت زياد، وربما كان "متحفز للعداوة" أي متوثب مستوفز أو "مسحنفر للعداوة" من اسحنفر: إذا مضى مسرعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 للعداوة، وقد قلص الآزرة1، وشمر عن عطافه2 ليقول: مضى زياد بما استلحق به، ودل على الأناة3 من مستلحقه؛ فليت أمير المؤمنين سلم في دعته4، وأسلم5 زيادًا في ضيعته؛ فكان ترب6 عامته، وأحد رعيته، فلا تشخص7 إليه عين ناظرة، ولا إصبع مشير، ولا تندلق8 عليه ألسنٌ كلمته حيًّا، ونَبَشَته ميتًا؛ فإن تكن يا أمير المؤمنين حابيت زيادًا بأول رفات، ودعوة أموات، فقد حاباك زياد بحد هصور، وعزم جسور، حتى لانت شكائم الشرِس، وذلت صعبة الأشوس9، وبذل لك يا أمير المؤمنين يمينه ويساره، تأخذ بهما المنيع، وتقهر بهما البديع، حتى مضى والله يغفر له، فإن يكن أخذ بحق أنزله منازل الأقربين، فإن لنا بعده ما كان له، بدالة الرحم، وقرابة الحميم؛ فما لنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء10، ونشتف النضار11؟ ولك من خيرنا أكمله، وعليك من حوبنا12 أثقله، وقد شهد القوم، وما ساءني قربهم ليقروا حقًّا، ويردوا باطلًا؛ فإن للحق منارًا واضحًا. وسبيلًا قصدًا13. فقل يا أمير المؤمنين بأي أمريك شئت، فما نأرِزُ14 على غير جُحْرِنا، ولا نستكثر بغير حقنا، وأستغفر الله لي ولكم".   1 الآزرة والأزر بضمتين: جمع إزار، وهو الملحفة. 2 العطاف: الرداء، وجمعه عطف بضمتين، وأعطفة، وكذا المعطف بالكسر، وهو مثل إزار، ومئزر، ولحاف، وملحف. 3 في الأصل "الأنية" وأراه محرفا عن "الأناة" وهي الحلم. 4 الدعة: الخفض. 5 أسلمه: خذله، أي فليته ترك زيادًا ضائع النسب مغمورًا ولم يستلحقه. 6 الترب: من ولد معك: أي فكان تربًا لأحد عامة الناس، ولم يكن تربًا لك فلا يقدر له قدر. 7 أي فلا ترتفع. 8 اندلق السيل: اندفع، والسيف انسل بلا سل أو شق جفنه فخرج منه، وكلمته: جرحته وآذته. 9 وصف من الشوس بالتحريك، وهو النظر بمؤخر العين تكبرًا، أو تغيظًا. 10 الضراء: الشجر الملتف في الوادي، يقال توارى الصيد منه في ضراء، وفلان يمشي الضراء: إذا مشي مستخفيًا فيما يواري من الشجر. 11 اشتف ما في الإناء: شربه كله، والنضار: الذهب أو الفضة، والمراد: نمنع منه، ولا نمكن من أخذه، أي يحال بيننا وبين الولاية. 12 الحوب بضم الحاء وفتحها: الإثم، أي وعليك من آثامنا التي ارتكبناها في سبيل تأييد سلطانك أثقلها. وفي بعض النسخ: "من جوابنا" أي من جوابنا حين يسألنا المولى عما أتينا من أخذ الناس بالعسف والإرهاق لتمكين ملكك. 13 القصد: استقامة الطريق. 14 من أرزت الحية: أي لاذت بجحرها ورجعت إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 271- رد معاوية على ابن زياد : فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب، فتصفحهم بلحظه رجلًا رجلًا وهو مبتسم، ثم اتجه تلقاءه، وعقد حبوته1، وحسر عن يده، وجعل يومي بها، ثم قال معاوية: "الحمد لله على ما نحن فيه، فكل خير منه. وأشهد أن لا إله إلا الله؛ فكل شيء خاضع له، وأن محمدًا عبده ورسوله، دلَّ على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يأتوا بمثله؛ فهو خاتم النبيين، ومصدق المرسلين، وحجة رب العالمين، صلوات الله عليه وبركاته؛ أما بعد: فرب خير مستور، وشرٍّ مذكور، وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به، والحظ المُرْغِب لمن فاز به، فيهما التفاضل وفيهما التغابن، وقد صفقت2 يداي في أبيك صفقة ذي الخلة من رواضع الفُصْلان، عَامَلَ اصطناعي3 له بالكفر لما أوليته؛ فما رميتُ به إلا انتصلَ4، ولا انتضيتُهُ5 إلا غلق جفنه، ولزَّت6 لسعتُهُ، ولا قلت إلا عانَدَ، ولا قمت إلا قعد، حتى اخترمه7 الموت، وقد أوقع بختره8، ودل على حقده، وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل، والتبس به الزلل؛ فأخذ مني بحظ الغفلة، وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء،   1 احتبى بالثوب: اشتمل، أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها، والاسم: الحبوة، وحسر: كشف. 2 صفق له بالبيع، وصفق يده، وعلى يده صفقا وصقة: ضرب يده على يده، وذلك عند وجوب البيع. والفصلان جمع فصيل: وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، والحلة: الحاجة. 3 اصطنعه لنفسه: اختاره لخاصة أمر استكفاه إياه. 4 انتصل السهم: سقط نصله. 5 انتضى السيف: استله، والجفن: غمد السيف. 6 لزّه: طعنه. 7 أهلكه. 8 الختر: الغدر والخديعة، أو أقبح الغدر، وأوقع به: أهلكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 فما برحت هنات1 أبيك تحطب في حبل القطيعة؛ حتى انتكث2 المُبرَم، وانحل عقد الوداد، فيا لها توبةً تُؤتَنَف3 من حوبة أورثت ندمًا، أسمع بها الهاتف، وشاعت للشامت؛ فليهنأ4 الواشم ما به احتقر، وأراك تحمد من أبيك جِدًّا وجسورًا5 هما أوفيا به على شرف التقحم6، وغبط النعمة، فدعهما فقد أذكرتنا منه ما زهدنا فيك من بعده، وبها مشيت الضراء، واشتففت النضار، فاذهب، إليكَ، فأنت نجلُ الدَّغَل7، ونثر النَّغَل8، والأجر شرٌّ".   1 أعماله وسيئاته جمع هنة. 2 انحل وانتفض. 3 تؤتنف: تستأنف، والحوبة: الإثم والذنب. 4 من هنأه الطعام: أي ساغ ولذ، والواشم فاعل من الوشم، وشم يَدَه: إذا غرزها بإبرة ثم ذر عليها النيلج، والمراد به هنا المعادي -والوشيمة: العداوة- أي فهنيئا لأعدائه الذين حقروه ونالوا من عرضه؛ فهو أهل لما قيل فيه: "يرد معاوية بذلك على قول عبيد الله قبل "ولا تندلق عليه ألسنٌ كلمته حيًّا، ونبشته ميتًا". 5 الجسور: الجسارة. 6 تقحمت به دابته: ندت به وربما طوحت به في وهدة أو وقصت به، والقحمة كغرقة: الورطة والمهلكة، والمراد التعرض للهلاك. 7 الدخل والفساد. 8 نغل الأديم نغلًا: فسد في الدباغ، والجرح فسد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 272- مقال يزيد بن معاوية : فقال يزيد: "يا أمير المؤمنين إن للشاهد غيرَ حكم الغائب، وقد حضرك زيادٌ، وله مواطنُ معدودة بخير، لا يفسدها التظني1، ولا تغيرها التهم، وأهلوه أهلوك التحقوا بك، وتوسطوا شأنك؛ فسافرت به الركبان، وسمعت به أهل البلدان، حتى اعتقده الجاهل، وشك فيه العالم، فلا تتحجر2 يا أمير المؤمنين ما قد اتسع، وكثرت فيه الشهادات، وأعانك عليه قوم آخرون". فانحرف معاوية إلى من معه، فقال: هذا وقذ3 نفسه ببيعته، وطعن في إمرته، يعلم ذلك كما أعلمه، يا للرجال من آل أبي سفيان! لقد حكموا وبذهم4 يزيد وحده،   1 التظني: إعمال الظن، وأصله التظنن. 2 أي فلا تضيق. تحجر عليه: ضيق، وتحجر ما وسعه الله: حرمه وضيقه، وفي الحديث: "لقد تحجرت واسعًا" أي ضيقت ما وسعه الله، وفي الأصل: فلا يتحجر" وهو تصحيف. 3 في الأصل "وفد" ولعله وقذ، يقال وقذه: أي غلبه وسكنه. 4 فاقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ثم نظر إلى عبيد الله، فقال: يابن أخي، إني لأعرف بك من أبيك، وكأني بك في غمرة لا يخطوها1 السابح؛ فالزم ابن عمك، فإن لما قال حقًّا، فخرجوا ولزم عبيد الله يزيد يرد مجلسه، ويطأ عقبه أيامًا، حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليًا عليها2.   1 في الأصل "لا يخطرها" وأراه "لا يخطوها". 2 قال الطبري: "ولى معاوية عبيد الله بن زياد البصرة سنة 55هـ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 273- وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه عند موته : 1 روى الطبري قال: لما كان المهلب بن أبي صفرة بزاغول من مرو الروذ "من خراسان" أصابتها الشوصة2 "وقوم يقولون الشوكة3" فدعا حبيبًا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا. قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تُنْسِئُ4 في الأجل، وتثري المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، تباذلوا وتواصلوا تحابوا، واجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم، إن بني الأم يختلفون؛ فكيف ببني العلات5؟ وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب، وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقَّه، فكفى بِغُدُوِّ   1 سترد خطبه إن شاء الله في باب "خطب الخوارج وما يتصل بها" وذكر الطبري أنه توفي سنة 82هـ، وابن خلكان أنه توفي سنة 83هـ، وكان الحجاج قد ولاه بعد فراغه من حرب الأزارقة على خراسان، فوردها واليًا عليها سنة 79هـ ولم يزل واليًا عليها حتى أدركته الوفاة هناك. 2 الشَّوصة بالفتح وقد تضم الشين: وجع في البطن. 3 الشوكة: حمرة تعلو الجسد. 4تؤخر وتطيل. 5 بنو العلات: بنو أمهات شتى من رجل واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب، واصطنعوا العرب؛ فإن الرجل من العرب تَعِدُه العِدَةَ فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده؟ وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه، قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن وأدب الصالحين. وإياكم والخِفَّةَ وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبًا على الجند، حتى يقدم بهم على يزيد؛ فلا تخالفوا يزيد" فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه. "تاريخ الطبري 8: 19، ونهاية الأرب 7: 249، والبيان والتبيين 2: 98". وعهد إلى ولده يزيد؛ فكان من جملة ما قال له: "يا بُنَيَّ، استعقِلْ الحاجبَ، واستظرف الكاتبَ، فإن حاجبَ الرجلِ وجهُهُ، وكاتبه لسانه"، وكان يقول لبنيه: "يا بَنِيّ أحسْنُ ثيابِكُم ما كان على غيرِكُم". ومن كلماته المأثورة قوله: "الحياة خيرٌ من الموت، والثناءُ الحسنُ خيرٌ من الحياة، ولو أعطيت ما لم يعطه أحدٌ لأحببتُ أن تكون لي أذنٌ أسمع بها ما يقال في غدٍّ إذا مِتُّ"، وقوله: "عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بإفضاله". "وفيات الأعيان 2: 146، وسرح العيون 137". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 خطب الحجاج بن يوسف الثقفي خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير ... خطب الحجاج بن يوسف الثقفي "المتوفى سنة 95هـ": 274- خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير "سنة 73هـ": لما قتل الحجاجُ عبدَ الله بن الزبير، ارتجتْ مكةُ بالبكاء، فصعد المنبر، فقال: "ألا إن ابن الزبير كان من أحبارِ1 هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها، وخلع طاعة الله، واستكنَّ بحرم الله، ولو كان شيء مانعًا للعصاة، لمنع آدم حرمة الجنة؛ لأن الله تعالى خلقَه بيده، وأسجدَ له ملائكتَه، وأباحَه جنتَه؛ فلما عصاه أخرجه منها بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة". "سرح العيون ص122 وتاريخ ابن عساكر 4: 50"   1 جمع حبر: بفتح الحاء وكسرها، وهو العالم أو الصالح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 275- خطبته بعد قتل ابن الزبير : وصعد الحجاج بعد قتله ابن الزبير متثلمًا؛ فحط اللثام عنه ثم قال: "موجُ ليلٍ التطم، وانجلى بضوء صبحُه، يا أهل الحجاز، كيف رأيتموني؟ ألم أكشف ظلمة الجور، وطُخْيَة1الباطل بنور الحق؟ والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مشفق، وعطفة رحم، ووصلَ قرابة؛ فإياكم أن تزلوا عن سَنَنٍ أقمناكم عليه،   1 الطخية: الظلمة، ويثلث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 فأقطع عنكم ما وصلته لكم، بالصارم البتار، وأقيم من أَوَدِكُم ما يُقِيم المثقف من أود1 القناة بالنار" ثم نزل وهو يقول: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا "مواسم الأدب 2: 123"   1 مقوم الرماح والأود: الاعوجاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 276- خطبته حين ولي العراق "سنة 75هـ": 1 حَدَّثَ عبدُ الملك بن عمير الليثي قال: بينا نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مَوَاليه؛ إذ أتى آتٍ، فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرًا على العراق؛ فإذا به قد دخل المسجدَ معتمًا بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدًا سيفًا، متنكبًا2 قوسًا، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قَبَّحَ اللهُ بني أمية؛ حيث تستعمل مثل هذا على العراق! حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى ننظر3؛ فلما رأى عيون الناس إليه، حسر اللثام عن فيه، ونهض فقال: "أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفونني4   1 ويروى: أنه خرج يريد العراق واليًا عليها في اثني عشر راكبًا على النجائب، حتى دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج فهموا به. 2 تنكب قوسه: ألقاها على منكبه. 3 قال ابن نباتة "فلما سمعوا هذه الخطبة -وكان بعضهم قد أخذ حصى أراد أن يحصبه به- تساقط من أيديهم حزنًا ورعبًا". 4 البيت لسحيم بن وثيل الرياحي؛ قاله الحجاج متمثلًا، وقوله "أنا ابن جلا" أي الواضح الأمر المنكشفه؛ وقيل ابن جلا الصبح، لأنه يجلو الظلمة. وهو مثل يضرب للمشهور المتعالم، أي أنا الظاهر الذي لا يخفى وكل أحد يعرفني، ولم ينون جلا لأنه أراد الفعل؛ فحكي على ما كان عليه قبل التسمية كقول الشاعر: والله ما زيد بنام صاحبه ... ولا مخالط الليان جانبه وتقديره أنا ابن الذي يقال له جلا الأمور وكشفها. وقال بعضهم: ابن جلا -وابن أجلى- رجل بعينه، قال في اللسان: "وكان ابن جلا هذا صاحب فتك يطلع في الغارات من ثنية الجبل على أهلها "والثنايا جمع ثنية: وهي الطريق في الجبل، أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، والعمامة: المغفر والبيضة قال ثعلب: العمامة تلبس في الحرب وتوضع في السلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 ثم قال: يا أهل الكوفة، أما والله إني لأحمل الشرَّ بحمله، وأحذوه بنعلِهِ، وأجزِيه بمثلِه، وإني لأرى أبصارًا طامحة، وأعناقًا متطاولة، ورءوسًا قد أينعت وحان قطافُها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بن العمائم واللحى تترقرق، ثم قال: هذا أوان الشد فاشتدي زِيَم ... قد لفها الليلُ بسواق حُطَم ليس براعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهرِ وَضَم1 ثم قال: قد لفها الليلُ بعصلبي ... أروع خراج من الدَّوِّيّ مهاجرٍ ليس بأعرابيّ2 ثم قال: قد شمرت عن ساقها فشُدُّوا ... وجدتِ الحربُ بكم فجِدُّوا والقوس فيها وترٌ عُرُدُّ ... مثل ذراع البَكْرَ أو أشَدُّ لابد مما ليس منه بُدُّ3   1 الشعر لرويشد بن وميض المنبري والشد: العدو، وزيم: اسم فرس أو ناقة، وقيل اسم للحرب، والحطم: الراعي الظلومُ للماشية يهشمُ بعضها ببعض؛ فلا يبقى من السير شيئًا وقد ضرب المثل برعاة الغنم في الحمق فقيل: "أحمقُ من راعي ضأن ثمانين" قال الجاحظ في البيان والتبيين 1: 139 "فأما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف يكون ذلك صوابًا؟ وقد رعى الغنم عدة من جلة الأنبياءِ عليهم السلام" والوضم: كل ما قطع عليه اللحم. 2 العصلبي: الشديد القوي، والأروع: الذكي، أو من يعجبك بشجاعته، والدو والدوية والداوية ويخفف: الفلاة المتسعة التي تسمع لها دويًّا بالليل؛ "وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل، تنفسح أصواتها فيها، وتقول جهلةُ الأعرابِ: إن ذلك عزيفُ الجنِّ" أي: خراج من كل غماء شديدة، وهجر الرجل: خرج من البدو إلى المدن، والأعرابيُّ بطبيعته غِرٌّ ساذج ليس في تجربته كأهل المدن. وسيرد عليك إن شاء الله في الجزء الثالث في خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة: "إني لست أتاويًّا أعلَّم، ولا بدويًّا أفهَّم". 3 حد به الأمر: اشتد، وعرد: أي شديد، والبكر: الفتيُّ من الإبل، ولا بد من كذا: أي لا محيد عنه. "19 -جمهرة خطب العرب- ثان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 إني والله يا أهل العراق، ومعدن الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، ما يقعقع لي بالشنان1، ولا يغمز جانبيّ كتغماز التين، ولقد فُرِرْتُ2 عن ذكاء، وفُتِّشْتُ عن تجربة، وجريت إلى الغاية القصوى، وإن أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- نثر كنانته3، بين يديه، فعجم4 عيدانها، فوجدني أمرَّها عودًا، وأصلبها مكسرًا5 فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم6 في الفتن، واضطجعتم في مراقد الضلال، وسننتم سنن الغِيّ، أما والله لألحونكم7 لحو العصا، ولأقرعنك قرع المروة8، ولأعصبنكم عصب السلمة9، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل10؛ فإنكم لكأهل قرية {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وإني والله لا أعدُ إلا وفيتُ، ولا أهم إلا أمضيتُ، ولا أخلَقُ إلا فَرَيْتُ11؛ فإياي وهذه الشفعاء، والزرافات12 والجماعات، وقالًا وقيلًا13، وما تقول؟ وفيم أنتم وذاك؟   1 القعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت مثل السلاح وغيره، والشنان: جمع شَنّ بالفتح، وهو القربة البالية، وهم يحركونها إذا أرادوا حث الإبل على السير لتفزع فتسرع: مثل يضرب لمن لا يُرَوِّعُهُ ما لا حقيقة له، وقد تمثل به معاوية من قبله. 2 فر الدابة: فتح حنكها وكشف أسنانها لينظر سنها، وفر عن الأمر: بحث عنه. 3 الكنانة: جعبة السهام. وفي رواية: "كب كنانته" أي قلبها. 4 عجم العود: عضه ليعرف صلابته من خوره. 5 وفي رواية "وأصلبها عمودًا". 6 أوضع إيضاعًا: أسرع في سيره كوضع. 7 لحا العصا: قشر، وفي رواية: "لحو العود". 8 المرو: حجارة بيض براقة توري النار. 9 السلمة: شجر كثير الشوك. قال الجاحظ في البيان والتبيين "لأن الأشجار تعصب أغصانها، ثم تخبط بالعصى لسقوط الورق وهشيم العيدان" "3: 21". 10 قال الجاحظ أيضًا: "3: 27" "وهي تضرب عند الهرب، وعند الخلاط، وعند الحوض أشد الضرب" وقال الحارث بن صخر: بضرب يزيل الهام عن سكناته ... كما ذيد عن ماء الحياض الغرائب 11 أخلق: أقدر، وفريت: قطعت. 12 الشفعاء جمع شفيع، وكانوا يجتمعون إلى السلطان فيشفعون في أصحاب الجرائم؛ فنهاهم عن ذلك، والزرافات جع زرافة بفتح الزاي وضمها: الجماعة من الناس. 13 القول في الخير، والقال، والقالة في الشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 أما والله لتستقيمُن على طريق الحق، أو لأدعن لكل رجل منكم شغلًا في جسده، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم1، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة2، وإني أقسم بالله لا أجد رجلًا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا سفكت دمه، وأنهبت3 ماله، وهدمت منزله". "الكامل للمبرد 1: 181، والبيان والتبيين 2: 164، والعقد الفريد 2: 153- 3: 7، وتاريخ الطبري 7: 210، وصبح الأعشى 1: 218، وعيون الأخبار م2: ص244، ومروج الذهب 2: 132، ومعاهد التنصيص 1: 115، والكامل لابن الأثير 4: 156، وسرح العيون 116، وتاريخ ابن عساكر 4: 53".   1 أعطيات جمع أعطية، وهي جمع عطاء. 2 قائد الجيوش الذي حارب الخوارج الأزارقة، وفل شوكتهم، وسيأتي. 3 جعلته نهبًا يغار عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 277- خطبته وقد سمع تكبيرًا في السوق: فلما كان اليوم الثالث خرج من القصر؛ فسمع تكبيرًا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى عليه نبيه، ثم قال: "يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، وبني اللكيعة1، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفَقْع بالقَرْقَر2، إني سمعت تكبيرًا لا يراد الله به، وإنما يراد به الشيطان3، ألا إنها عجاجة تحتها قصف4، وإنما مثلي ومثلكم ما قال عمرو بن براق الهمداني: وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا ال همدان ظالم!   1اللئيمة. 2 القرقر: أرض مطمئنة لينة، والفقع ويكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة، ويقال للذليل: هو أذل من فقع بقرقر؛ لأنه لا يمتنع على من اجتناه؛ أو لأنه يوطأ بالأرجل. 3 وفي رواية: "إني سمعت تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب؛ ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب". 4 العجاج: الغبار، والقصف: شدة الريح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفًا حميًا تجتنبك المظالم أما والله لا تقرع عصًا عصًا إلا جعلتها كأمس الدابر1". "البيان والتيين 2: 69-1: 209، والعقد الفريد 2: 152، وإعجاز القرآن 124، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114، وتاريخ الطبري 7: 212، وتهذيب الكامل 1: 19"   1 وفي رواية الطبري خاصة: "ألا يربع رجل منكم على ظلعه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه؛ فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالًا لما قبلها، وأدبًا لما بعدها" - يربع "كيمنع" يقف وينتظر، والظلع "كشمس": الغمز في المشي، ويقال: اربع على ظلعك، أي إنك ضعيف، فانته عما لا تطيقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 278- خطبته وقد قدم البصرة : وخطب لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم فقال: "أيها الناس: من أعياه داؤه؛ فعندي دواؤه، ومن استطال أجله؛ فعلي أن أعجله، ومن ثقل عليه رأسه، وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره، قصرت عليه باقيه، إن للشيطان طيفًا، وللسلطان سيفًا؛ فمن سقمت سريرتُهُ، صحت عقوبتُه، ومن وضعَه ذنبُه، رفعَه صلبُه، ومن لم تسعْهُ العافية، لم تضقْ عنه الهلكةُ، ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه بسفك دمه، إني أنذر ثم لا أنظر1، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو؛ إنما أفسدكم ترنيق2 ولاتكم، ومن استرخى لببه3، ساء أدبه، إن الحزم والعزم سلباني سوطي4، وأبدلاني به سيفي، فقائمه في يدي، ونجاده5 في عنقي، وذبابه6 قلادة لمن عصاني، والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه، إلا ضربت عنقه". "نهاية الأرب 7: 244 صبح الأعشى 1: 220 وسرح العيون 122".   1 أنظره: أمهله. 2 الترنيق: الضعف في الأمر "وفي البدن والبصر أيضًا". 3 اللبب: ما يشد في صدر الدابة ليمنع استئخار الرحل، والمراد أن الهوادة واللين تفسد أدب الرعية. 4 هكذا في نهاية الأرب، وفي صبح الأعشى: "سكنا في وسطي" والأول أصح، أي أنه رأى من الحزم والعزم: المبالغة في استعمال الشدة والقوة في التأديب؛ فطرح السوط، واستبدل به ما هو أشد منه وهو السيف. 5 النجاد: علاقة السيف. 6 ذباب السيف: حده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 279- خطبته بعد وقعة دير الجماجم : 1 وخطب أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم فقال: "يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم، فخالط اللحم والدم والعصب، والمسامع والأطراف، والأعضاء2 والشغاف3، ثم أفضى إلى المخاخ4 والأصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض وفرخ، فحاشكم نفاقًا وشقاقًا، وأشعركم خلافًا، اتخذتموه دليلًا تتبعونه، وقائدًا تطيعونه، ومؤامرًا5 تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز6؟.   1 وقعة دير الجماجم: هي وقعة نشبت بين الحجاج وبين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قرب الكوفة سنة 83هـ هزم فيها ابن الشعث؛ وذلك أن عبيد الله بن أبي بكرة عامل الحجاج على سجستان كان قد غزا رتبيل ملك الترك، وأوغل في بلاده فأصيبوا، وهلك أكثرهم، فوجه الحجاج إلى رتبيل ابن الأشعث على رأس جيش عظيم لمحاربته؛ فسار إليه وامتلك بعض بلاده، وكان يرى أن يتدرج في الفتح، فينتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم، ولا يتوغل في بلادهم؛ لكيلا يعرض جيشه للدمار والهلكة، وكتب إلى الحجاج بذلك؛ فأبى عليه الحجاج، وكتب إليه يضعف رأيه ويأمره بالوغول في أرضهم وإلا عزله، وكان من جراء ذلك أن بايع الجند ابن الأشعث على خلع الحجاج وقتاله ثم خلع عبد الملك بن مروان، وسار ابن الأشعث بهم من سجستان إلى العراق، وتجهز الحجاج للقائه؛ فسار بأهل الشام حتى نزل تستر "مدينة بالأهواز"؛ فانهزمت مقدمته، فرجع إلى البصرة حتى نزل الزاوية "موضع قرب البصرة" ودارت رحى الحرب بين الفريقين فهزم أهل العراق أهل الشام؛ فجثا الحجاج على ركبتيه وانتضى نحو شبر من سيفه، واستعد للقاء الموت كريمًا فقويت بذلك قلوبُ جنده واستبسلوا حتى كان لهم النصر. وانهزم ابن الأشعث؛ فأقبل نحو الكوفة، حتى هزم هزيمة منكرة بدير الجماجم وتبدد أمره، وفر إلى فارس حتى نزل مدينة بست؛ فسمع رتبيل بمقدمه فأنزله عنده وأكرمه فكتب الحجاج إلى رتبيل يأمره أن يبعث إليه بابن الأشعث ويتوعده إن لم يفعل؛ فأراد رتبيل أن يرسله إليه، فقتل ابن الأشعث نفسه بأن ألقى نفسه من فوق قصر، فمات فاحتز رتبيل رأسه، وبعث به على الحجاج سنة 85هـ. 2 في العقد الفريد "والأعضاد". 3 الشغاف: غلاف القلب أو حبته. 4 رواية نهاية الأرب "المخاخ" وهو الوارد في كتب اللغة: مخ يجمع على مخاخ ومخخة "كعنبة"، أما سائر المصادر التي روت هذه الخطبة؛ فترويها "الأمخاخ"، وهو ما لم أره في كتب اللغة. وقد روت جميع المصادر "الأصماخ" بهذا النص، والذي في كتب اللغة: "الصماخ من الأذن: الخرق الباطن الذي يفضي على الرأس جمعه أصمخة وصمائخ، ومثل الصماخ الأصموخ كعصفور، وجمعه أصاميخ؛ فصواب الكلمة "الصمائخ" أو "الأصاميخ". 5 آمره في كذا مؤامرة: شاوره. 6 يشير إلى وقعة "تستر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي، وأنتم تتسللون لواذًا1، وتنهزمون سراعًا؟ ثم يوم الزاوية، وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم؛ إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها2، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي3 الشيخ على بنيه، حتى عضكم4 السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم! بها كانت المعارك والملاحم5، بضرب يزيل الهام6، عن مقيله7، ويذهل الخليل عن خليله، يا أهل العراق، والكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات8، والنزوات9 بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم10 وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة، هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم11 خالع، إلا تبعتموه وآويتموه، ونصرتموه وزكيتموه؟ يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟ يا أهل العراق: ألم تنهكم المواعظ، ألم تزجركم الوقائع؟ ". ثم التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر، فقال: "يا أهل الشام؛ إنما أنا لكم كالظليم12 الرامح عن فراخه، ينفي عنها المدر13، ويباعد عنها الحجر، ويكنها   1 أي يلوذ بعضهم ببعض: لاوذ لواذًا وملاوذة. 2 أعطان جمع عطن كسبب: مبرك الإبل حول الحوض كالمعطن، ونوازع: أي مشتاقة. 3 لا يلوي على أحد؛ أي لا يقف ولا ينتظر. 4 في نهاية الأرب "عظكم" بالظاء: عظته الحرب كعضته بالضاد. 5 جمع ملحمة وهي الوقعة العظيمة القتل. 6 جمع هامة، وهي الرأس. 7 موضعه، أي الأعناق، قال الشاعر: بضرب بالسيوف رءوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقيل 8 جمع خترة، والختر كشمس: الغدر والخديعة أو أقبح الغدر. 9 جمع نزوة، من نزا نزوانا: أي وثب. 10 غل كنصر غلولًا: خان. 11 استعضده: سأله أن يعضده. 12 ذكر النعام، والرامح، أي المدافع، من رمحه: أي طعنه بالرمح. 13 قطع الطين اليابس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 من المطر، ويحميها من الضباب1، ويحرسها من الذئاب، يا أهل الشام؛ أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والحذاء". "البيان والتبيين 2: 71، ونهاية الأرب 7: 245، والعقد الفريد 2: 152، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114، ومروج الذهب 2: 135 – وتاريخ ابن عساكر 4: 55".   1 جمع ضب، وهو حيوان كالوزغة والحرباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 280- خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشام : وخطب فقال: "يا أهل الكوفة، إن الفتنة تلقح بالنجوى1، وتنتج بالشكوى، وتحصد بالسيف؛ أما والله إن أبغضتموني لا تضروني، وإن أحببتموني لا تنفعوني، ما أنا بالمستوحش لعداوتكم، ولا المستريح إلى مودتكم، زعمتم أني ساحر، وقد قال الله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ} . وقد أفلحت، وزعمتم أني أعلم الاسم الأكبر؛ فلم تقاتلون من يعلم ما تعلمون؟ ". ثم التفت إلى أهل الشام فقال: "لأزواجكم أطيب من المسك، ولأبناؤكم آنس بالقلب من الولد، وما أنتم إلا كما قال أخو بني ذبيان: إذا حاولت في أسد فجورًا ... فإني لست منك ولست مني هم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النسار وهم مجني2 ثم قال: "بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م1: ص115"   1النجوى: المسارة. 2 استلأم: لبس اللأمة، وهي الدرع، النسار: ماء لبني عامر له يوم، والمجن: الترس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 281- خطبة له بالبصرة : وخطب بالبصرة، فقال: قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ؛ فهذه لله، وفيها مثوبة1، وقال:   1 ثواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} ، وهذه لعبد الله، وخليفة الله، وحبيب الله، عبد الملك بن مروان؛ أما والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد، فأخذوا في باب غيره1؛ لكانت دماؤهم لي حلالًا من الله، ولو قتل ربيعة ومضر لكان لي حلالًا. "عذيري2 من أهل هذه الحميراء، يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول: يكون إلى أن يقع هذا خير3، والله لأجعلنهم كالرسم4 الدائر وكالمس الغابر، عذيري من عبد هذيل يقرأ القرآن كأنه رَجَز الأعراب، أما والله لو أدركته لضربت عنقه -يعني عبد الله بن مسعود5-، عذيري من سليمان بن داود، يقول لربه: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} كان والله -فيما علمت- عبدًا حسودًا بخيلًا". "مروج الذهب 2: 143 والعقد الفريد 2: 152".   1 وفي مروج الذهب: "لو أمر الناس أن يدخلوا في هذا الشعب؛ فدخلوا في غيره" والشعب بالكسر: مسيل الماء في بطن الأرض؛ والطريق في الجبل. 2 العذير: العاذر والنصير؛ والحال التي تحاولها تعذر عليها. 3 وفي مروج الذهب: يلقي أحدهم الحجر إلى الأرض ويقول: إلى أن يبلغها يكون فرج الله". 4 الرسم الأثر، أو بقيته. والدائر: الدارس الممحو. 5 هو من بني هذيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 282- خطبة أخرى له بالبصرة : حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله كفانا مئونة الدنيا، وأمرنا بطلب الآخرة؛ فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يعلمون، وشراركم لا يتوبون؟ ما لي أراكم تحرصون على ما كفيتم، وتضيعون ما به أمرتم؟ إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء؛ ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس، الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرًا1، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا2؛ ألا وإن الدنيا عَرَضٌ حاضر، يأكل منها البر والفاجر؛ ألا وإن الآخرة أجل مستأخر، يحكم فيها ملك قادر   1 أي هجرًا له وتركًا، ومعناه أنهم لا يقرءونه، ولا يتلونه. 2 الدبر من كل شيء: عقبه ومؤخره، أي ولا يأتون الصلاة إلا في آخر وقتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ألا فاعلموا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشرَّ كله بحذافيره في النار، ألا وإن {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، وأستغفر الله لي ولكم1. "العقد الفريد 2: 153".   1 وذكر صاحب العقد أيضًا هذه الخطبة من قوله: "ألا وإن الدنيا عرضٌ حاضرٌ" إلى آخرها وعزاها إلى شداد بن أوس الطائي. انظر العقد الفريد 2: 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 283- خطبته في أهل العراق يصارحهم بالكراهية : وخطب أهل العراق، فقال: "يا أهل العراق: إني لم أجد دواء أدوى لدائكم، من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب، وفرحة القفل1؛ فإنها تعقب راحة، وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم، ولا الراحة بكم، وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، وأنا والله لرؤيتكم أكره، ولولا ما أرد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم، ما حملت نفسي مقاساتكم، والصبر على النظر إليكم، والله أسأل حسن العون عليكم"، ثم نزل. "العقد الفريد 2: 153"   1 الرجوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 284- خطبة أخرى : وخطب أهل العراق، فقال: "يا أهل العراق، بلغني أنكم تروون عن نبيكم أنه قال: من ملك على عشر رقاب من المسلمين، جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور. وايم الله إني لأحب إلي أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولًا، من أن أحشر معكم مطلقًا". "العقد الفريد: 3: 17". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 285- خطبته لما مات عبد الملك بن مروان: ولما مات عبد الملك بن مروان، قام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نعى نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نفسه فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ؛ فمات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون، منهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان الشهيد المظلوم، ثم تبعهم معاوية، ثم وليكم البازل1 الذكر، الذي جربته الأمور، وأحكمته التجارب، مع الفقه وقراءة القرآن، والمروءة الظاهرة، واللين لأهل الحق، والوطء لأهل الزيغ؛ فكان رابعًا من الولاة المهديين الراشدين، اختار الله له ما عنده، وألحقه بهم، وعهد إلى شبهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته، فاسمعوا له وأطيعوه. أيها الناس، إياكم والزيغ، فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله، ورأيتم سيرتي فيكم، وعرفت خلافكم وطيبكم، على معرفتي بكم، ولو علمت أن أحدًا أقوى عليكم مني، أو أعرف بكم ما وليتكم؛ فإياي وإياكم، من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غمًا" ثم نزل. "العقد الفريد 2: 154"   1 الرجل الكامل في تجربته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 286- خطبته حين أراد الحج : وأراد الحجاج أن يحج؛ فاستخلف محمدًا ولده على أهل العراق، ثم خطب فقال: "يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني محمدًا، هذا وما كنتم له بأهل، وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 صلى الله وسلم في الأنصار، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وإني أمرته ألا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم؛ ألا وإنكم ستقولون بعدي مقالة ما يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي: ألا وإنكم ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة، ألا وإني معجل لكم الإجابة: لا أحسن الله الخلافة عليكم" ثم نزل. "عيون الأخبار م2: ص245، والعقد الفريد 2: 153-3: 18، والبيان والتبيين 1: 206، ومروج الذهب 2: 144، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص114". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 287- خطبته لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد في يوم واحد : قال صاحب العقد: فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج؛ فلما كان بالعشي أتاه بريد من اليمن بوفاة محمدٍ أخيه، ففرح أهل العراق، وقالوا: انقطع ظهر الحجاج وهيض1 جناحه، فخرج فصعد المنبر، ثم خطب الناس، فقال: "أيها الناس: محمدانِ في يوم واحد! أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا، لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة، وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى، والجديد أن يبلى، والحيّ مني ومنكم أن يموت، وأن تدال2 الأرضُ منا كما أدلنا منها؛ فتأكل من لحومنا، وتشرب من دمائنا، كما مشينا على ظهرها، وأكلنا من ثمارها، وشربنا من مائها، ثم نكون كما قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 3 ثم تمثل بهذين البيتين:   1 هاض العظم: كسره بعد الجبور. 2 أدال الله منه: نصره عليه. 3 الصور: القرن يُنفخ فيه، وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق، وقيل هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، والبسر بالضم: التمر قبل إرطابه" أي نفخ في صور الموتى الأرواح. وقرأ الحسن: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ". والأجداث جمع جدث كسيب وهو القبر، ونسل كضرب ونصر: أسرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 عزائي نبيُّ الله من كل ميت ... وحسبي ثواب الله من كل هالك إذا ما لقيت الله عني راضيًا ... فإن سرور النفس فيما هنالك "العقد الفريد 2: 154-3: 18، وسرح العيون ص122" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 288- خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته : ومرض الحجاج ففرح أهل العراق، وأرجفوا بموته؛ فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال: "إن طائفة من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نزغ1 الشيطان بينهم فقالوا: مات الحجاج، ومات الحجاج فمه؟ وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يسرني ألا أموتَ، وأن لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رَضِيَ بالتخليد إلا لأهون خلقِهِ عليه إبليس، قال: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} ، ولقد دعا الله العبد الصالح، فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فأعطاه ذلك إلا البقاء، فما عسى أن يكون أيها الرجل؟ وكلكم ذلك الرجل، كأني والله بكل حيٍّ منكم ميتًا، وبكل رطب يابسًا، ونقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولًا، في ذراعٍ عرضًا، وأكلت الأرض لحمَه، ومصتْ صديدَه، وانصرفَ الحبيبُ من ولده يقسم الخبيث من ماله، إن الذين يعقلون يعلمون ما أقول"، ثم نزل. "عيون الأخبار م2: ص244، والعقد الفريد 2: 154، 3: 17، وسرح العيون 122، ومروج الذهب 2: 142، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص115".   1 نزغ: أفسد وأغرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 289- خطبه الوعظية : وخطب الحجاج يومًا فقال: "أيها الناس، قد أصبحتم في أجل منقوص، وعمل محفوظ، رُبَّ دائبٍ مضيع، وساعٍ لغيره، والموتُ في أعناقكم، والنارُ بين أيديكم، والجنةُ أمامكم، خذوا من أنفسكم لأنفسكم، ومن غناكم لفقركم، ومما في أيديكم لما بين أيديكم؛ فكأن ما قد مضى من الدنيا لم يكن، وكأن الأموات لم يكونوا أحياء، وكل ما ترونه فإنه ذاهب، هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك، هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة، وخزائنهم السائرة بين أيديهم، وقصورهم المشيدة، ثم طلعت على قبورهم، أين الملوك الأولون، أين الجبابرة المتكبرون؟ المحاسب الله، والصراط منصوب، وجهنم تزفر1 وتتوقد، وأهل الجنة ينعمون، في روضة يحبرون2، جعلنا الله وإياكم من الذين {إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} . فكان الحسن البصري رحمه الله يقول: "ألا تعجبون من هذا الفاجر؟ يرقى عتبات المنبر، فيتكلم بكلام الأنبياء، وينزل فيفتك فتك الجبارين، يوافق الله في قوله ويخالفه في فعله". "شرح ابن أبي الحديد م1 ص150".   1 زفرت النار كضرب: سمع لتوقدها صوت. 2 أحبره: سره، والحبور: السرور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 290- خطبة ثانية: وقال مالك بن دينار: غدوت إلى الجمعة؛ فجلست قريبًا من المنبر، فصعد الحجاج، ثم قال: "امرؤ حاسب نفسه، امرؤ راقب ربه، امرؤ زوَّر1 عمله، امرؤ فكر فيما يقرؤه غدًا في صحيفته، ويراه في ميزانه، امرؤ كان عند همِّه آمرًا، وعند هواه زاجرًا، امرؤ أخذ بعنان قلبه، كما يأخذ الرجل بخطام جمله، فإن قاده إلى حقٍّ تبعه، وإن قاده إلى معصية الله كفَّه، إننا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء، وإنما ننتقل من دار إلى دار". "عيون الأخبار م2: ص521، العقد الفريد 2: 152، والبيان والتبيين 2: 88، شرح ابن أبي الحديد م1: ص150". 291- خطبة ثالثة: وخطب يومًا، فقال: أيها الناس، اقدَعُوا2 هذه الأنفس؛ فإنها أسْألُ3 شيء إذا أعطيت، وأعصى4 شيء إذا سئلت، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطامًا وزمامًا فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله؛ فإني رأيت الصبر عن محارم الله، أيسر من الصبر على عذاب الله5". "شرح ابن أبي الحديد م: ص150، وسرح العيون 121، وعيون الأخبار م2: ص247، والبيان والتبيين 1: 206، وتهذيب الكامل 1: 19".   1 زوره: حسنه. 2 قدعه كمنعه وأقدعه: كفه وكبحه. 3 وفي عيون الأخبار: "أيها الناس، احفظوا فروجكم، وخذوا الأنفس بضميرها؛ فإنها أسوك شيء ... " وأسوك: أضعف، من ساك الرجل سواكًا: سار سيرًا ضعيفًا. 4 وفي رواية "وأعطى شيء وهو تحريف. 5 قال ابن أبي الحديد: "وأكثر الناس يروون هذا الكلام عن عَلِيٍّ عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 292- خطبة رابعة: وخطب فقال: "اللهم أرني الغيَّ غيًّا فأجتنبه، وأرني الهدى هدًى فأتبعه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالًا بعيدًا، والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء". "العقد الفريد 2: 152، والبيان والتبيين 2: 69، 1: 206، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص150، وسرح العيون ص122". 293- خطبة خامسة: ومن كلامه: "إنَّ امرأ أتت عليه ساعة من عمره، لم يذكر فيها ربه، ويستغفر ربه من ذنبه، ويفكر في معاده، لجدير أن يطول حزنُه، ويتضاعف أسفُه، إنّ الله كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء؛ فلا بقاء لما كُتب عليه الفناء، ولا فناء لما كُتب عليه البقاء، فلا يغرنكم شاهد1 الدنيا، عن غائب الآخرة، واقهرُوا طول الأمل، بقصر الأجل2". "شرح ابن الحديد م1: ص150، ومروج الذهب 2: 148، والبيان والتبيين: 2: 99، سرح العيون 121، وتهذيب الكامل 1: 19".   1 أي حاضرها. 2 قال الشعبي: سمعت الحجاج يقول بكلام ما سبقه إليه أحد؛ سمعته يقول: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ كتب على الدنيا الفناء ... إلخ"، وروى الجاحظ عن أبي عبد الله الثقفي عن عمه قال سمعت الحسن البصري يقول: لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج، قلت: وإن كلام الحجاج ليقذك؟ قال: نعم، سمعته على هذه الأعواد يقول: "إنّ امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرتُه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 خطب قتيبة بن مسلم الباهلى خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو ... خطب قتيبة بن مسلم الباهلي "قتل سنة 96هـ": 294- خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو "طُخارستان": قدم قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان واليًا عليها من قبل الحجاج1 سنة 86؛ فلما تهيأ لغزو أخرون وشومان -وهما من بلاد طخارستان2- خطب الناس وحثهم على الجهاد فقال: "إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقمًا3 ووعد نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ، ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ 4 فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حيٌّ مرزوق، فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ   1 ولي قتيبة خراسان بعد يزيد بن المهلب، وغزا بلاد ما وراء النهر، وافتتح بخارى، وسمرقند، وخوارزم، ووصل في فتوحه إلى كشغر من بلاد الصين، وقتل سنة 96هـ. 2 ناحية كبيرة شرقي خراسان على نهر جيحون، وقد ضبطها ابن خلكان هكذا -انظر وفيات الأعيان 1: 90 في ترجمة بشار بن برد- وضبطها ياقوت في معجم البلدان بفتح الطاء. 3 وقمه: قهره وأذله. 4 مجاعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فتنجَّزوا موعود ربكم، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر، وأمضى ألم، وإياكم والهوينى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 295- خطبته وقد تهيأ لغزو بلاد السُّغْد: ولما صالح قتيبة أهل خوارزم، وسار إلى السغد1 سنة 93هـ خطب الناس؛ فقال: "إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقتٍ الغزُو فيه ممكنٌ، وهذه السغد شاغرة2 برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا ما كنا صالحنا عليه طَرْخُون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} ، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير3 وقريظة4، وقال الله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} . "تاريخ الطبري 8: 85"   1 وكان قتيبة حين فتح بخارى سنة 90هـ، وأوقع بأهلها، هابه أهل السغد، وهي بين نهري سيحون وجيحون، وكانت قصبتها سمرقند، وهي بالسين، وربما قيلت بالصاد" وأتاه طرخون ملك السغد، وسأله الصلح على فدية يؤديها إليه، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالحه، ثم نقضوا عهودهم. 2 شغر الكلب كمنع: رفع إحدى رجليه ليبول. 3 بنو النضير: حي من يهود خيبر، وكان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهود يأمن بها كل فريق الآخر؛ ولكنهم لم يفوا بها حسدًا منهم وبغيًا، فبينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه في ديارهم؛ إذ ائتمر جماعة منهم على قتله بأن يلقي عليه أحدهم صخرة من علو، فاطلع عليه الصلاة والسلام على قصدهم، فرجع، فأرسل إليهم يأمرهم بالجلاء، لما تقدم منهم من الغدر، فتهيئوا للرحيل، فأرسل إليهم إخوانهم المنافقون يقولون: لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم، فسار عليه الصلاة والسلام لقتالهم، وتحصن بنو النضير في حصونهم، وظنوا أنها مانعتهم من الله؛ فحاصرهم ست ليال؛ ثم أمر بقطع نخيلهم كي يسلموا؛ فقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فسالوه أن يجليهم ويكف عن دمائهم؛ وأن لهم ما حملت الإبلُ من أموالهم إلا آلة الحرب ففعل؛ وصار اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم؛ لئلا يسكنها المسلمون. 4 كان يهود بني قريظة يساكنون المسلمين في المدينة؛ فانتهزوا فرصة اشتغال المسلمين بصد جموع الأحزاب -في غزوة الخندق- ونقضوا عهودهم معهم؛ وذلك أن حيي بن أخطب سيد بني النضير الذين = "20 -جمهرة خطب العرب- ثان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 296- خطبته وقد سارت إليه جيوش الشاش وفرغانة : وأتى قتيبة السغد فحصرها شهرًا، وخاف أهلها طول الحصار؛ فكتبوا إلى ملك الشاش وفرغانة1 "إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب، فإن وُصِلَ إلينا كنتم أضعفَ وأذلَّ، فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها. فجمعوا جموعهم، وولوا عليهم ابنًا لخاقان2، وساروا وقد أجمعوا أن يُبيِّتوا عسكر قتيبة، ونمى ذلك إليه، فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس، وخطبهم فقال: "إن عدوكم قد رأوا بلاء3 الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم4، كل ذلك يفلجكم5 الله عليهم، فأجمَعُوا على أن يحتالوا غِرّتكم وبَيَاتَكم، واختاروا دهاقينهم6 وملوكهم، وأنتم دهاقينُ العرب وفرسانُهم، وقد   = أجلوا عن ديارهم؛ توجه إلى كعب بن أسد القرظي؛ فحسن له نقض العهد؛ ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين؛ فاشتد وجل المسلمين؛ وزلزوا زلزالا شديدًا؛ وأرسل الله على الأعداء ريحًا باردة في ليلة مظلمة وجنودًا لم يروها، فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح: وكفى الله المؤمنين شرَّ الأحزاب، ولم يعتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن سار إلى بني قريظة، فتحصنوا بحصونهم؛ وحاصرهم المسلمون خمسًا وعشرين ليلة؛ فلما ضاقوا بالحصار ذرعًا؛ طلبوا أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير؛ من الجلاء بالأموال وترك السلاح؛ فأبى الرسول إلا أن ينزلوا على حكمه ففعلوا؛ فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله؛ إنهم كانوا موالينا دون الخزرج؛ وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع؛ وكانوا حلفاء الخزرج؛ فنزلوا على حكمه؛ فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى؛ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فذاك إلى سعد بن معاذ -وكان جريحًا من سهم أصيب به في غزوة الخندق- وأرسل من يأتي به؛ فقال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال؛ وتقسم الأموال؛ وتسبى النساء والذراري، فقال عليه الصلاة والسلام: فقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد؟ ثم أمر بتنفيذ الحكم؛ فنفذ فيهم. 1 الشاش وفرغانة: كورتان وراء نهر سيحون متاخمتان للصين. 2 خاقان: اسم لكل ملك من ملوك الترك؛ وقد خقَّنوه على أنفسهم: أي رأَّسُوه "بالتشديد". 3 أي نعمته. 4 كاثروهم فكثروهم: غالبوهم فغلبوهم. 5 أي ينصركم عليهم؛ ويظفركم بهم. 6 جمع دهقان بكسر الدال وضمها: زعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم. معرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فضلكم الله بدينه؛ فأبلوا1 لله بلاء حسنًا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم". "تاريخ الطبري 8: 87"   1 الإبلاء: الإنعام والإحسان، يقال: أبليت عنده بلاء حسنًا، وأبلاه الله بلاء حسنًا، وأبليته معروفًا. والمعنى: فاصدقوا القتال، وقدموا معروفًا تبغون به ثواب الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 297- خطبه حين دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك : وقام بخراسان حين خَلَع سليمان بن عبد الملك1، ودعا الناس إلى خلعه فقال للناس: "إني قد جمعتكم من عين التمر2، وفيض البحر؛ فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية3؛ فكتب إلى أمير المؤمنين: إن خراج خراسان لا يقوم4 بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد5 فدوَّم 6 بكم ثلاث سنين، لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية؛ لم يَجْبِ فيئًا، ولم ينكأ7 عدوا، ثم جاءكم بنوه بعده، يزيد فحلٌ تَبَارَى إليه النساء؛ وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هَبَنّقة القيسي8" فلم يُجِبْهُ أحدٌ فغضب، فقال:   1 وسبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يجعل ابنه عبد العزيز ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فبايعه على خلع سليمان الحجاج وقتيبة، ثم مات الوليد وقام سليمان بن عبد الملك، فخافه قتيبة وخشى أن يولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان. 2 بلد على الفرات قرب الكوفة. 3 هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس، وكان عاملًا عليها لعبد الملك بن مروان حتى كانت سنة 78 فعزله وجمع سلطانه للحجاج فبعث المهلب إليها. 4 في الأصل "لا يقيم" وهو تحريف أو لايقيم مطبخي. 5 أبو سعيد: كنية المهلب بن أبي صفرة. 6 من دومت الكلاب: أي أمعنت في المسير: وفي رواية أخرى "فدوخ بكم البلاد" وستأتي. 7 نكأ العدو ونكاه نكاية: قتل وجرح. 8 هو يزيد بن ثروان هبنقة ذو الودعات، ويكنى أبا نافع أحد بني قيس بن ثعلبة، يضرب به المثل في الحمق فيقال: "أحمق من هبنقة" وله نوادر في الحمق، منها أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف وهو ذو لحية طويلة؛ فسئل في ذلك، فقال: لأعرف بها نفسي، ولئلا أضل؛ فبات ذات ليلة، وأخذ أخوه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 "لا أعزَّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة، ولا أقول أهل العالية. يا أوباش1 الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب2. يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ3 والكذب والبخل، بأي يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم بيوم سلمكم؟ فوالله لأنا أعزُّ منكم يا أصحاب مسيلمة. يا بني ذميم، ولا أقول تميم. ياأهل الخور4 والقصف5 والغدر: كنتم تسمُّون الغدر في الجاهلية "كيسان6" يا أصحاب سجاح7، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النخل8 أعنة الخيل، يا معشر الأزد، تبدلتم بقُلُوسِ9 السفن، أعنة الخيل والحصن10، إن هذا لبدعة في الإسلام، والأعراب، وما الأعراب؟ لعنة الله على الأعراب، يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم11،   = قلادته فتقلدها؛ فلما أصبح، ورأى القلادة في عنق أخيه، قال يا أخي: أنت أنا فمن أنا؟ ومنها: أنه ضل له بعير؛ فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له، فقيل له فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟ ومنها: أنه اختصمت الطفاوة وبنو راسب في رجل ادعاه هؤلاء وهؤلاء، ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا؛ فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم هبنقة، فقصوا عليه قصتهم، فقال: الحكم عندي في ذلك أن يذهب به إلى نهر البصرة، فيلقى فيه، فإن كان راسبيًا رسب فيه، وإن كان طفاويًا طفا، فقال الرجل: لا أريد أكون من أحد هذين الحيين. وقول قتيبة: "إنما خليفتكم هبنقة" ذلك لأن هبنقة كان يحسن إلى السمان من إبله، فيرعيها في العشب وينحي المهازيل، فقيل له: ويحك! ما تصنع؟ فقال: إنما أكرم ما أكرم الله، وأهين ما أهان الله، وكذلك كان سليمان يعطي الأغنياء، ولا يعطي الققراء ويقول: "أصلح ما أصلح الله، وأفسد ما أفسد الله" -انظر مجمع الأمثال 1: 146، والبيان والتبيين 1: 126-. 1 الأوباش: السفلة، جمع وبش كسبب. 2 الطريق والجهة. 3 الفخر والكبر. 4 الضعف. 5 اللهو. 6 كيسان: علم للغدر. 7 هي سجاح بنت الحارث ادعت النبوة بعد موت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجزيرة في بني تغلب. 8 أبر النخل أبرًا: أصلحه. القلوس جمع قلس كشمس: وهو حبل ضخم من ليف أو خوص أو غيرهما من قلوس سفن البحر. 10 جمع حصان. 11 من نبات البادية زهره مرٌّ جدًّا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 ومنابت القلقل1، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان2؛ حتى إذا جمعتكم كما يُجمع قَزَع الخريف3 قلتم: كيت وكيت، أما والله إني لابن أبيه4 وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة، إنّ حول الصلِّيان الزمزمة5، يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان، كأني بأمير مزجاء6، وحكمٍ قد جاءكم؛ فغلبكم على فيئكم وأطلالكم، إن هاهنا نارًا، ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى، قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات، إن الشأم أبٌ مكفور، حتى متى ينبطح أهل الشأم بأفنيتكم وظلال دياركم؟ يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقيّ الأم، عراقيّ الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من المن والعافية، قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم؛ فالظعينة7 تخرج من مروٍ إلى بَلْخ بغير جِوار، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه الشكر والمزيد". ثم نزل. "تاريخ الطبري 8: 105" وورد كلام قتيبة في هذا الصدد في العقد الفريد، والبيان والتبيين في ثلاث خطب هذا نصها:   1 نبت له حب أسود حسن الشم. 2 هي جزيرة في الخليج الفارسي بين عمان والبحرين. 3 القزع: كل شيء يكون قطعًا متفرقة "ومنه قيل لقطع السحاب في السماء قًزًع" وخرقت الثمار أخرقها كنصر: اجتنيتها، والثمر مخروف وخريف، وفي كلام سيدنا علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه "كما يجتمع قًزًع الخريف". 4 أي ابن أبي. 5 الصليان: نبت من أفضل المرعى يختل "يجز" للخيل التي لا تفارق الحي، والزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم، يعني صوت الفرس "بالتحريك" إذا رآه، وأصلها صوت المجوس عند أكلهم -يتراطنون على الكل، وهم صموت لا يستعملون لسانا، ولا شفة؛ لكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها، فيفهم بعضها عن بعض- وهو مثل يضرب للرجل يحوم حول الشيء ولا يظهر مرامه. والمعنى في المثل: أن ما تسمع من الأصوات والجلب، لطلب ما يؤكل ويتمتع به. قال الميداني: ويروى وحول الصلبان الزمزمة" الصلبان جمع صليب، والزمزمة: صوت عابديها. 6 هو مزجاء للمطي أي كثير الإزجاء لها، زجاها وأزجاها: ساقها ودفعها: والمراد أنه قاس ظلوم. 7 الظعينة: المرأة ما دامت في الهودج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 298- خطبة أخرى: قام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك؛ فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أتدرون من تبايعون؟ إنما تبايعون يزيد بن ثروان -يعني هبنقة القيسي- كأني بأمير مزجاء، وحكم قد أتاكم، يحكم في أموالكم ودمائكم وفروجكم وأبشاركم1 ثم قال: الأعراب وما الأعراب؟ لعنة الله على الأعراب، جمعتكم كما يجمع قزع الخريف2 من منابت الشيح والقيصوم، ومنابت القلقل، وجزيرة ابن كاران، تركبون البقر، وتأكلون الهبيد3، فحملتكم على الخيل، وألبستكم السلاح، حتى منع الله بكم البلاد، وأفاء بكم الفيء" قالوا: مرنا بأمرك قال: غُرُّوا غيري. "العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 101" 299- خطبة ثالثة: وخطب مرة أخرى، فقال: "يا أهل العراق، ألست أعلم الناس بكم؟ أما هذا الحي من أهل العالية؛ فنعم الصدقة، وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعِلْجةٌ4 بظراء، لا تجمع رجليها، وأما هذا الحي عبد القيس فما ضرب العير بذنبه، وأما هذا الحي من الأزد، فًعُلُوج5 خلق الله وأنباطه6، وايم الله لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم، وأما هذا الحي من تميم؛ فإنهم كانوا يسمُّون الغدرً في الجاهلية كيسان". "العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 67"   1 أبشار جمع بشر: وهو جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. 2 في العقد الفريد: "كما يجمع فرخ الحريق" وفي البيان والتبيين والطبري "قرع الخريف" والصواب ما ذكرنا. 3 الحنظل. 4 مؤنث العلج: وهو حمار الوحش السمين القوي. وأمه بظراء: طويلة البظر كشمس، وهو ما بين شفرى الرحم. 5 جمع علج "بالكسر" وهو الرجل من كفار العجم. 6 جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق ثم اسعمل في أخلاط الناس وعوامهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 300- خطبة رابعة: وخطب مرة أخرى، فقال: "يا أهل خراسان، قد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية؛ فكان كاسمه أمية الرأي، وأمية الدين، فكتب إلى خليفته: إنّ خراج خراسان وسجستان، لو كان في مطبخه لم يًكْفٍه، ثم أتاكم بعده أبو سعيد، فدوخ بكم البلاد، لا تدرون أفي طاعة الله أنتم أم في معصيته، ثم لم يجبِ فيئًا، ولم ينكأ عدوًّا، ثم أتاكم بنوه بعده، مثل أطباء1 الكلبة؛ منهم ابن الرحمة2، حصان يضرب في عانةٍ3، ولقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده، ثم أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد، وأمن لكم السبل، حتى إن الظعينة لتخرج من مروٍ إلى سمرقند في غير جوار". "العقد الفريد 2: 155، والبيان والتبيين 2: 67"   1 جمع طبي كقفل. والطبي: لذات الخف والظلف كالثدي للمرأة. 2 يريد به يزيد بن المهلب. 3 العانة: الأتان، والقطيع من حمر الوحش، والمراد بها النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 301- كلمات حكيمة لقتيبة بن مسلم : وخرجت خارجة بخراسان؛ فقيل لقتيبة بن مسلم: لو وجهت إليهم وكيع بن أبي سود1، قال: وكان وكيع رجلًا عظيم الكبر، في أنفه خنزوانة2، وفي رأسه نعرة3؛ وإنما أنفه في أسلوب4، ومن عظم كبرُه اشتد عجبُه، ومن أُعْجِبَ برأيه لم يشاور كفيًّا، ولم يؤامر5 نصيحًا. ومن تفرد بالنظر لم يكمل له الصواب، ومن تبجح6 بالانفراد، وفخر بالاستبداد، كان من الصواب بعيدًا، ومن الخذلان قريبًا، والخطأ مع الجماعة، خير من الصواب مع الفرقة؛ وإن كانت الجماعة لا تخطئ، والفرقة لا تصيب، ومن تكبر على عدوه حقره، وإذا حقره تهاون بأمره، ومن تهاون بخصمه، ووثق بفضل قوته قل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عثاره، وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب؛ إلا كان منكوبًا؛ فلا والله حتى يكون عدوه عنده، وخصمه فما تغلب   1 هو وكيع بن أبي سود التميمي، أحد الأبطال البواسل، كان مع قتيبة في فتح بخارى، وأبلى في القتال بلاء محمودًا -انظر خبره في الطبري 8: 68- وولاه الناس أمرهم حين ثاروا بقتيبة وقتلوه. 2 الخنزوان، والخنزوانة، والخنزوانية: الكبر، يقال: هو ذو خنزوانات. 3 النعرة: الخيلاء والكبر. 4 الأسلوب: الشموخ في الأنف، ويقال: إن أنفه لفي أسلوب إذا كان متكبرًا، قال الراجز: أنوفهم ملفخر في أسلوب ... وشعر الأستاه في الجيوب "وهو في معنى المثل المشهور: أنف في السماء واست في الماء، والجَيوب كصبور: الأرض، والأستاه جمع سته كشمس وسبب وهو الأست، وقوله: ملفخر أصله: من الفخر، ونظيره قول جميل بثينة: وما أنس ملأ شياء لا أنس قولها ... "وقد قربت نضوى" أمصر تريد؟ أي من الأشياء، وقول قطري بن الفجاءة: غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم أي على الماء". 5 الكفيّ: الكافي، ويؤامر: يشاور. 6 تبجح به: افتخر وتباهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 عليه، أسمع من فَرَس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأحذر من عقعق1، وأشد إقدامًا من الأسد، وأوثب من الفهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأغدر من ذئب، وأسخى من لافظة2، وأشح من صبي، وأجمع من ذرة3، وأحرس من كلب، وأصبر من ضب؛ فإن النفس تسمح من العناية على قدر الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب". "جمهرة الأمثال 1: 117" ومن كلماته البليغة قوله حين قدم خراسان: ٍ"من كان في يديه شيء من مال عبد الله بن خازم4 فلينبذه، وإن كان في فيه فليلفظه، وإن كان في صدره فلينفثه" فعجب الناس من حسن ما فصل وقسم. "البيان والتبيين 2: 54"   1 العقعق: نوع من الغربان، وهو ذو لونين: أبيض وأسود طويل الذنب، يشبه صوته العين والقاف -ولذا سمي عقعقًا- وقيل لأنه يعق فراخه؛ فيتركهم بلا طعام، وجميع الغربان يفعل ذلك، وقد ضربوا به المثل في الحذر، فقالوا: "أحذر من عقعق" -انظر جمهرة الأمثال- كما قالوا: "أحذر من غراب" وقالوا أيضًا: "ألص من عقعق" لأن في طبعه شدة الاختطاف لما يراه من الحلي، وقالوا: "أحمق من عقعق"؛ لأنه كالنعامة التي تضيع بيضها وأفراخها، وتشتغل ببيض غيرها، وإياها عني هدبة بقوله: كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحًا انظر حياة الحيوان الكبرى الدميري 2: 209، ومجمع الأمثال. 2 رواه الميداني: "أسمح من لافظة"، وقال: قد اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هي العنز التي تشلي الحلب- أشلى دابته: أراها المخلاة لتأتيه، وأشلاها: دعاها للحلب- فتجيء لافظة بجرتها فرحًا بالحلب. وقال بعضهم: هي الحمامة؛ لأنها تخرج ما في بطنها لفرخها، وقال بعضهم: هي الديك؛ لأنه يأخذ الحبة بمنقاره فلا يأكلها، ولكن يلقيها إلى الدجاجة، والهاء فيها للمبالغة هاهنا، وقال بعضهم: هي الرحى لأنها تلفظ ما تطحنه أي تقذف، وقال بعضهم: هي البحر لأنه يلفظ بالدرة، قال الشاعر: تجود فتجزل قبل السؤال ... وكفك أسمح من لافظة 3 الذر: صغار النمل، وفي كلام عمر بن عبد العزيز: قاتل الله زيادًا جمع لهم "أي لأهل العراق" كما تجمع الذرة، وحاطهم كما تحوط الأم البرة"، وقال الشاعر: تجمع للوارث جمعًا كما ... تجمع في قريتها الذر 4 وكان من أمره أنه لما مات يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، وثب أهل خراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، وغلب عبد الله بن خازم على خراسان، ثم كتب إليه عبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله بن الزبير –وقيل قبله- يدعوه إلى الدخول في طاعته على أن يطعمه خراسان عشر سنين، فأبى وحلف ألا يعطيه طاعة أبدًا، وكان ابن خازم يقاتل بجير بن ورفاء الصريمي بأبرشهر، وخليفته على مرو بكير بن وشاح، فكتب عبد الملك إلى بكير بعهده على خراسان، ووعده ومناه، فدعا إلى عبد الملك، وأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير، فيجتمع عليه أهل مرو وأهل أبرشهر، فترك بجيرًا وأقبل إلى مروٍ، فاتبعه بجير فلحقه، ودارت بينهما الحرب فقُتل ابن خازم في المعركة- انظر تاريخ الطبر 7: ص44، وص196. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 302- خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس : لما دانت بلاد المغرب لموسى بن نصير -وكان واليًا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك- طمح بصره إلى فتح بلاد الأندلس؛ فبعث مولاه طارق بن زياد على جيش جله من البربر سنة 92هـ فعبر بهم البحر، ونمى خبره إلى لذريق ملك القوط؛ فأقبل لمحاربته بجيش جرار، وخاف طارق أن يستحوذ الرعب على جنده لقلتهم، فأحرق السفن التي أقلتهم، حتى يقطع من قلوبهم كل أمل في العودة، وقام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثهم على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، فقال: "أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق1 والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب2 اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وقواته موفورة، وأنتم لا وزر3 لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم؛ فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة4 هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة5،   1 أي الصدق في القتال، والصدق: الشدة، يقال صدقه القتال. 2 جمع مأدبة بالفتح والضم: وهي طعام صنع لدعوة أو عرس. 3 لا ملجأ. 4 أي مبارزته. 5 النجوة: ما ارتفع من الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس، أربأ1 فيها بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلًا، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلًا؛ فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور2 الحسان، من بنات اليونان، الرافلات3 في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان4، المقصورات5 في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُزْبانًا6، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا7 وأختانًا8، ثقة منه بارتياحكم للطعان، وإسماحكم9 بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصًا لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين. واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين، حامل بنفسي على طاغية القوم لُذَرِيق؛ فقاتِلُه إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتم أمره، ولن يعوزكم بطلٌ عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون". "نفخ الطيب 1: 112، ووفيات الأعيان 2: 135".   1 ربأ بنفسه: علا بها وارتفع، أي أتنحى عن مشاركتكم. 2 جمع حوراء، من الحور بالتحريك: وهو شدة سواد العين وبياضها. 3 رفلت: جرت ذيلها وتبخترت، أو خطرت بيدها. 4 الذهب. 5 المخدورات: المخبوءات. 6 جمع عزيب. والعزيب والعزب والأعزب: من لا زوجة له. 7 جمع صهر: كحمل، وهو زوج بنت الرجل وزوج أخته. 8 جمع ختن كسبب، وهو الصهر، أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ. 9 سمح وأسمح: جاد وكرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 303- نص آخر لخطبة طارق : وروى ابن قتيبة هذه الخطبة في الإمامة والسياسة بصورة أخرى، قال: لما بلغ طارقًا دنو لُذريق، قام في أصحابه؛ فحمد الله، ثم حض الناس على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، وبسط لهم في آمالهم، ثم قال: "أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم؛ فليس ثم والله إلا الصدق والصبر؛ فإنهما لا يغلبان، وهما جندان منصوران، ولا تضر معهما قلة، ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة، أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، ألا وإني عامد إلى طاغيتهم، بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه، وأقتل دونه، فإن قتلت فلا تهنوا1 ولا تحزنوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. وتولوا الدبر لعدوكم، فتبددوا بين قتيل وأسير. وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة، من المهنة والذلة، وما قد حل لكم من ثواب الشهادة؛ فإنكم إن تُفَلُّوا2 "والله معكم ومعيذكم" تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدًا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه، فاحملوا بحملتي". "الإمامة والسياسة 2: 53".   1 فلا تضعفوا. 2 إن تغلبوا وتهزموا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 304- خطبة عثمان بن حيان المري بالمدينة: وولى الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيان المري المدينة سنة 94هـ، وقد خطب على المنبر فقال بعد حمد الله: "أيها الناس: إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين، في قديم الدهر وحديثه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وقد ضوى1 إليكم من يزيدكم خبالًا: أهل العراق، هم أهل الشقاق والنفاق، هم والله عش النفاق، وبيضته التي تفلقت عنه، والله ما جربت عراقيًّا قط؛ إلا وجدت أفضلهم عند نفسه، الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداءٌ لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم؛ فإني والله لا أوتى بأحد آوى أحدًا منهم أو أكراه منزلًا، أو أنزله؛ إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله2. ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب، وهو مجتهد على ما يصلح رعيته، جعل يمر عليه من يريد الجهاد؛ فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي. إني رأيت العراق داء عضالًا، وبها فرخ الشيطان، والله لقد أعضلوا بي3، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولم؟ وسرعة وَجِيفٍ4 في الفتنة؛ فإذا خُبِرُوا عند السيوف، لم يخبر منهم طائل5، لم يصلحوا على عثمان، فلقي منهم الأمرين6، وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقضوا عُرا الإسلام عُروة عُروة، وأنغلوا7 البلدان، والله إني لأتقربُ إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم، ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية، فدامَجَهُم8 فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجلُ الناس9 جلدًا،   1 ضوى كرمى: انضم ولجأ، والخبال: الفساد. 2 ولم يترك بالمدينة أحدًا من أهل العراق، تاجرًا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا، وحبس بعضهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف. 3 عضل به الأمر وأعضل: اشتد، وأعضله أيضًا. 4 وجف يجف وجيفًا: اضطرب. والوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل. 5 الطائل والطائلة والطول: الفضل والقدرة. 6 الأمران: الفقر والهرم، وهو كناية عن اشتداد الأمر. 7 أفسدوا، من تغل الأديم كفرح: فسد في الدباغ، وأفغله: أفسده. 8 المدامجة مثل المداجاة ودامجه عليه: وافقه. 9 يريد الحجاج بن يوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 فبسط عليهم السيف وأخافهم؛ فاستقاموا له، أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم. أيها الناس: إنا والله ما رأينا شعارًا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسًا1 قط شرًّا من الخوف؛ فالزموا الطاعة، فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف، والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعَضُوا على النواجذ؛ فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم، إنكم في فضول كلام غيرُه ألزمُ لكم، فدعوا عيب الولاة؛ فإن الأمر إنما يُنْقَضُ شيئًا شيئًا حتى تكون الفتنة، وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد". "تاريخ الطبري 7: 92"   1 الحلس: بساط البيت، وكساء على ظهر البعير تحت رحله، والمراد: ما رأينا مركبًا شرًّا من الخوف، وفلان حلسٌ من أحلاسِ البيت: الذي لا يبرح البيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 305- وصية يزيد بن المهلب لابنه مخلد "قتل سنة 102هـ": ولما ولي يزيد بن المهلب خراسان في عهد سليمان بن عبد الملك، فتح جرجان1 وطبرستان2 "سنة 98"، وقد أوصى ابنه مخلدًا حين استخلفه على جرجان؛ فقال: "يا بُني، إني قد استخلفتك على هذه البلاد، فانظر هذا الحي من اليمن، فكن لهم كما قال الشاعر: إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فَرِشْ واصطنع عند الذين بهم ترمي3 وانظر هذا الحي من ربيعة؛ فإنهم شيعتك وأنصارك، فاقضِ حقوقهم، وانظر هذا   1 في الجنوب الشرقي من بحر قزوين. 2جنوبي بحر قزوين. 3 راش السهم يريشه: ألزق عليه الريش، وراش الصديق: أطعمه وسقاه وكساه وأصلح حاله ونفعه، واصطنع عنده صنيعة: اتخذها، والبيت لأبي دؤاد الإيادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 الحي من تميم؛ فأمطرهم1، ولا تُزْهَ2 لهم، ولا تُدْنِهم فيطمعوا، ولا تقصهم فيقطعوا، وانظر هذا الحي من قيس؛ فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية، ومناصفوهم المنابر في الإسلام، ورضاهم منك البِشْرُ. يا بني: إن لأبيك صنائع فلا تفسدها، فإنه كفى بالمرء نقصًا أن يهدم ما بنى أبوه، وإياك والدماء؛ فإنها لا بقية معها، وإياك وشتم الأعراض، فإن الحرَّ لا يُرْضِهِ عن عرضه عوضٌ، وإياك وضرب الأبشار، فإنه عار باق، ووتر مطلوب، واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة، ولا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه؛ فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها، وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه، احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم، وإذا كتبت كتابًا فأكثر النظر فيه، وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عني وعنك، فإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع سره، وأستودعك الله، فلا بد للمودّع أن يسكت، وللمشيّع أن يرجع، وما عفَّ من المنطق، وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك، وكذلك سلك هذا المسلك المحمود". "شرح ابن أبي الحديد م4: ص155، وبلوغ الأرب 3: 173"   1 مطرتهم السماء: أصابتهم بالمطر، ومطرهم بخير: أصابهم وما مطر منه خيرًا -وبخير- أي ما أصابه منه خير. 2 الزهو: الكبر والتيه، زهى كعنى، وكدعا قليلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 306- نصيحة عمر بن هبيرة لبعض بنيه : وقال عمر بن هبيرة1 يؤدب بعض بنيه: "لا تكونن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير2، وتجنب ارتجال الكلام، ولا تشر على مستبد، ولا على وغد، ولا على متلوِّن، ولا على لَجُوج، وخَفِ الله في موافقة هوى المستشير؛ فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة". وقال: "من كثر كلامه كثر سَقَطُهُ، ومن ساء خُلُقُه قلَّ صديقُهُ". "البيان والتبيين 2: 98"   1 هو عمر بن هبيرة الفزاري، وكان عاملًا على الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، وولي العراق "وأضيفت إليه خراسان" ليزيد بن عبد الملك. 2 كل شيء أعجلته عن إدراكه فهو فطير -والعجين الفطير: ضد الخمير: أي الذي لم يختمر- "وكان عبد الله بن وهب الراسبي أمير الخوارج يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري -والدبري بالتحريك وتسكن الباء: الذي يعرض من بعد وقوع الشيء- ولا تقل دبري بضمتين فإنه من لحن المحدثين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 خطب خالد بن عبد الله القسرى خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة ... خطب خالد بن عبد الله القسري 1 "توفي سنة 126هـ": 307- خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة: خطب خالد بن عبد الله القسري بمكة، فقال: "يا أيها الناس، إنكم بأعظم بلاد الله حرمة، وهي التي اختار الله من البلدان فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه، من استطاع إليه سبيلًا، أيها الناس: فعليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات؛ فإني والله ما أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا، ولا تقولوا كَيْتَ وكَيْتَ، إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قومًا من أهل الخلاف يَقْدَمُون عليكم، ويقيمون في بلادكم؛ فإياكم أن تنزلوا أحدًا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدًا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة والطاعة، فإن الفرقة هو البلاء العظيم". وسُمِعَ يومًا يقول: "والله لو أعلم أن هذه الوحشَ التي تأمن في الحرم لو نطقت   1 ولاه الوليد بن عبد الملك مكة سنة 89هـ، وولي العراق في عهد هشام بن عبد الملك، وكانت أمه نصرانية، قالوا وكان يتهم في دينه، وهو من خطباء العرب المعدودين المشهورين بالفصاحة والبلاغة، توفي سنة 126هـ. "21 –جمهرة خطب العرب- ثان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 لم نقر بالطاعة، لأخرجتها من الحرم، إنه لا يسكن حرم الله وأمنه مخالف للجماعة زارٍ1 عليهم". "تاريخ الطبري 8: 80".   1 زرى عليه: عابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 308- خطبة أخرى يشيد فيها بفضل الوليد : ومن غُلُوِّه أنه خطب على منبر مكة؛ فقال: "أيها الناس، أيهما أعظم؟ أخليفة الرجل على أهله، أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقى ربه، فسقاه ملحًا أُجاجًا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبًا فراتًا1" يعني بئرًا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين: ثنية طوى، وثنية الحجون2؛ فكان ينقل ماؤها، فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم، ليعرف فضله على زمزم". "تاريخ الطبري 8: 67، وسرح العيون ص205 والأغاني 19: 60"   1 ماء أجاج: ملح مر، والفرات: الماء العذب جدًا. 2 ذو طوى مثلث الطاء وينون: موضع قرب مكة، والحجون: جبل مشرف بمكة. وفي سرح العيون أنه قال: "قد جئتكم بماء العاذبة، لا تشبه ماء أم الخنافس" يعني زمزم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 309- خطبته بمكة في الحجاج : وصعد خالد المنبر في يوم جمعة -وهو على مكة- فذكر الحجاج فحمد طاعته، وأثنى عليه خيرًا؛ فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك، يأمره فيه بشتم الحجاج ونشر عيوبه، وإظهار البراءة منه فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن إبليس كان مَلَكًا من الملائكة، وكان يُظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلًا، وكان الله قد علم من غشه وخبثه ما خفي على ملائكته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم؛ فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه، وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلًا، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي علينا؛ فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين، فلعنه، فالعنوه لعنه الله" ثم نزل. "العقد الفريد 2: 158-3: 11" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 310- خطبة له في الحث على مكارم الأخلاق : وقام على المنبر بواسط، فحمد الله، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "أيها الناس، نافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذمًّا، ولا تعتدّوا بالمعروف ما لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها؛ فالله أحسن لها جزاء، وأجزل عليها عطاء. واعلموا أن حوائج الناس إليكم، نعمة من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحولوها نقمًا. واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجرًا، وأورث ذكرًا، ولو رأيتم المعروف رجلًا رأيتموه حسنًا جميلًا يسرُّ الناظرين، ولو رأيتم البخل رجلًا رأيتموه مشوهًا قبيحًا تنفر عنه القلوب، وتغضي عنه الأبصار. أيها الناس، إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوًا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطِبْ حرثُه، لم يزكُ1 نبتُه، والأصول عن مغارسها تنمو، وبأصولها تسمو. أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم". "صبح الأعشى 1: 223، ونهاية الأرب 7: 255، وسرح العيون ص205"   1 لم ينم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 311- خطبة له يوم عيد : خطب فذكر الله وجلاله، ثم قال: "كنتَ كذلك ما شئتَ أن تكون، لا يَعلمُ كيف أنتَ إلا أنتَ، ثم ارتأيتَ أن تخلُقَ الخلقَ؛ فماذا جئتَ به من عجائب صُنعك؟ والكبيرُ والصغيرُ مِن خلقِكَ، والظاهرُ والباطنُ من ذَرِّكَ، مِن صُنوف أفواجِهِ1، وأفراده وأزواجه، كيف أدمجتَ2 قوائمَ الذَّرَّة والبعوضة، إلى ما هو أعظم من ذلك، من الأشباح، التي امتزجت بالأرواح". "عيون الأخبار م2: ص246"   ٍـ 1 جمع فوج كشمس، وهو الجماعة. 2 من أدمج الحبل: أحكم فتله في رقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 312- قوله وقد سقطت جرادة على ثوبه : وكان خالد إذا تكلم يظن الناس أنه يصنع الكلام، لعذوبة لفظه، وبلاغة منطقه؛ فبينا هو يخطب يومًا إذ سقطت جرادة على ثوبه، فقال: "سبحان مَنِ الجرادةُ من خَلْقه، أدمجَ قوائمها، وطوَّفها جَنَاحَهَا، ووشَّى1 جلدها، وسلطها على ما هو أعظم منها". "عيون الأخبار م2: ص247، والعقد الفريد 2: 163"   1نقش ونمنم وزيّن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 313- خطبة يوسف بن عمر الثقفي 4 "قتل سنة 127هـ": قام خطيبًا، فقال: اتقوا الله عباد الله، فكم من مؤمِّلٍ أملًا لا يبلغه، وجامعٍ مالًا لا يأكله، ومانعٍ عما سوف يتركه، ولعله من باطلٍ جَمَعَه، ومن حقٍّ مَنَعَه، أصابه حرامًا، وأورثه   1 هو ابن ابن عم الحجاج، ولاه هشام بن عبد الملك اليمن سنة 106هـ، ثم ولاه العراق سنة 120هـ بعد عزل خالد بن عبد الله القسري، وقتل سنة 127هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 عدوا، فاحتمل إصره1، وباء بوزره، وورد على ربه آسفًا لاهفًا، قد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين". "العقد الفريد 2: 158، والبيان والتبيين 2: 71، ونهاية الأرب 7: 255"   1 الإصر: الذنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 314- خطبة يوسف بن عمر : ولما قتل يوسف بن عمر زيد بن عليٍّ سنة 122هـ أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر فقال: "يا أهل المدرة الخبيثة: إني والله ما تقرَن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، ولا أخوَّفُ بالذئب، هيهات! حُبيتُ بالساعد الأشدّ. أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق، ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم، أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه؛ فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله إلا حكيم بن شريك المحاربي، ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم، ولو أذن لقتلتُ مقاتلتكم وسبيت ذراريكم". "تاريخ الطبري 8: 278" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 خطب الفتن والأحداث خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصارى ... خطب الفتن والأحداث فتنة المدينة ووقعة الحرة: 315- خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصاري: وقد علم بقدوم جيش الشأم إلى المدينة "قتل سنة 63هـ" لما كره أهل المدينة خلافة يزيد بن معاوية، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الأنصاري على خَلْعِهِ، ووثبوا على من كان بالمدينة من بني أمية وحصروهم وأخافوهم، وجه إليهم يزيد جيشًا من أهل الشام بقيادة مسلم بن عقبة المرّيّ ونمى إليهم خبر مقدمه عليهم؛ فجمعهم عبد الله بن حنظلة، فقال: "تبايعونني على الموت؛ وإلا فلا حاجة في بيعتكم" فبايعوه على المنبر: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إنما خرجتم غضبًا لدينكم، فأبلوا إلى الله بلاءً حسنًا، ليوجب لكم به الجنة ومغفرتَه، ويحل بكم رضوانَه، واستعدوا بأحسن عدتكم، وتأهبوا بأكمل أهبتكم فقد أُخبرت بأن القوم نزلوا بذي خُشُب1 ومعهم مروان بن الحكم، واللهُ إن شاءَ مُهْلِكُهُ بنقضِهِ العهدَ والميثاقَ عند منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2".   1 ذو خشب: وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة. 2 وذلك أن أهل المدينة كانوا قد أخرجوا مروان بن الحكم وكبراء بني أمية عن المدينة، وحَلَّفُوهم عند منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لئن لقوا جيش يزيد ليردونهم عنهم إن استطاعوا؛ فإن لم يستطيعوا مضوا إلى الشام، ولم يرجعوا معهم، فحَلَفُوا لهم على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 فتصايح الناس، وجعلوا ينالون منه ويسبونه، فقال لهم: "إن الشتم ليس بشيء، نَصْدُقُهم اللقاءَ، واللهِ ما صَدَقَ قومٌ قطُّ إلا نُصِرُوا"، ثم رَفَعَ يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إنا بك واثقون، وعليك متوكلون، وإليك ألجأنا ظهورنا" ثم نزل. "الإمامة والسياسة 1: 154" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 316- خطبة مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشأم : وأقبل مسلمٌ بجيشه إلى المدينة؛ فحاصَرَها من جهة الحرة1، ودعا أهلها إلى الطاعة ومراجعة الحقِّ، وأجلهم ثلاثًا فلم يُذعِنوا لقوله، ونشبت الحرب بين الفريقين، وحملت خيل ابن حنظلة على أهل الشام فانكشفوا، وقتل صاحب رايتهم، فأخذ مسلم الراية، ونادى: "يا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم؟ وأن يُعِزُّوا به نصرَ إمامهم؟ قبح الله قتالكم منذ اليوم، ما أَوْجَعَه لقبي، وأغيظه لنفسي! أما واللهِ ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، تَرَّحَ2 اللهُ وجوهَكم إن لم تعتبوا3". "تاريخ الطبري 7: 9"   1 الحرة: أرضٌ بظاهر المدينة بها حجارة سودٌ كبيرة. 2 ترح ترحا كفرح فرحا: حزن، وترحه تتريحًا أحزنه. 3 أعتبه: أعطاه العتبى "كقربى" وهي الرضا، أي إن لم ترضوني بصدقكم القتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 317- خطبة مسلم يحرضهم : ثم إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو ابن حنظلة ورجاله حتى دنوا منه، وأخذ مسلم يسير في أهل الشام ويحرضهم، ويقول: "يا أهل الشأم، إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها، ولا أكثرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 عددًا، ولا أوسعها بلدًا، ولم يخصصكم الله بالذى خصكم به من النصر على عدوكم، وحسن المنزلة عند أئمتكم؛ إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا؛ فغير الله بهم، فتموا1 على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة، يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج2". "تاريخ الطبري 7: 9"   1 تم على الأمر وتمم عليه كضرب: أي استمر عليه. 2 الفلج: الظفر والنصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 318- خطبة ابن حنظلة يحرض أصحابه : وقام عبد الله بن حنظلة في أصحابه حين رآهم قد أقبلوا يمشون تحت راياتهم؛ فقال: "يا هؤلاء: إن عدوكم قد أصابوا وجه القتال الذى ينبغي أن تقاتلوهم به، وإني قد ظننت ألا تلبثوا إلا ساعة، حتى يفصل الله بينكم وبينهم، وإما لكم وإما عليكم، أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة! والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخظ منه على هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، إن لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم، فاغتنموها؛ فوالله ما كلما أردتموها وجدتموها". ودارت الدائرة على أهل المدينة، وقتل ابن حنظلة فيمن قتل، ودخل مسلم المدينة1 وكانت وقعة الحرة في ذي الحجة سنة 63هـ. "تاريخ الطبرى 7: 10".   1 انظر ص 195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 اضطراب الأمر بعد موت يزيد : 319- خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه : قام عبيد الله بن زياد بن أبيه خطيبًا بعد موت يزيد ين معاوية -وهو يومئذ أمير العراق- فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "يا أهل البصرة، انسبوني؛ فوالله ما مُهاجَرُ أبي إلا إليكم، وما مولدي إلا فيكم، وما أنا إلا رجلٌ منكم، ولقد وليتكم وما أحصَى ديوان مقاتِلتِكم إلا سبعين ألف مقاتل، ولقد أحصَى اليوم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفًا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفًا، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفًا1، وما تركت لكم ذا ظنة2 أخافه عليكم، إلا وهو في سجنكم هذا، وإن أمير المؤمنين: يزيد بن معاوية قد توفي وقد اختلف أهل الشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددًا، وأعرضُه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادًا؛ فاختاروا لأنفسكم رجلًا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، يجاهد عدوكم، وينصف مظلومكم من ظالمكم، ويكف سفهاءكم، ويجبي لكم فيئكم، ويقسمه فيما بينكم، فأنا أول راضٍ من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترتضونه، دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم3   1 وفي البيان والتبيين: "والله لقد وليكم أبي وما مقاتلتُكم إلا أربعون ألفًا؛ فبلغ بها ثمانين ألفًا، وما ذريتكم إلا ثمانون ألفًا، وقد بلغ بها عشرين ومائة ألف، وأنتم أوسع الناس بلادًا، وأكثره جنودًا وأبعد مقادًا، وأغنى الناس عن الناس..إلخ". 2 الظنة: التهمة. 3 الجديلة: الطريقة، وقال: ما زال على جديلة واحدة، أي على حال واحدة، وطريقة واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغني الناس عنكم". فقامت خطباء أهل البصرة، فقالوا: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا واللهِ ما نعلم أحدًا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك، فقال: لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا عليه، وأبى عليهم، حتى كرروا ذلك عليه ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه. فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بالحيطان وباب الدار، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نُوَلِّيه أمرنا في الفرقة! وأقام عبيد الله أميرًا غير كثير، حتى جعل سلطانُه يضعف، ويأمر بالأمر فلا يُقضى، ويرى الرأي فيُرد عليه، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه. "تاريخ الطبري 7: 18، والبيان والتبيين 2: 65، ومروج الذهب 2: 105" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 320- خطبة أخرى له : وبلغه أن سلمة بن ذؤيب يدعو الناس إلى ابن الزبير؛ فأمر فنودي: الصلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أول أمره وأمرهم، وما قد كان دعاهم إلى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وقال: "وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم ما قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي1، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف". فقال الأحنف بن قيس والناس جميعًا نحن نأتيك بسلمة، فأتوه فإذا جمعه قد كثف وإذا الفتق قد اتسع على الراتق، وامتنع عليهم، فقعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه.   1 طلبتك: ما طلبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وروي أنه قال في خطبته: "يا أهل البصرة، والله لقد لبسنا الخز واليمنة1 واللين من الثياب، حتى لقد أجمَّنا2 ذلك، وأجمته جلودنا؛ فما بنا إلى أن نعقبها الحديد؟ يا أهل البصرة، والله لو اجتمعتم على ذنبِ عيرٍ لتكسروه ما كسرتموه". "تاريخ الطبري 7: 20"   1 اليمنة: برد يمني. 2 أجمه: أراحه، وأصله من أجم الفرس: تركه فلم يركبه فعفه من تعبه، والجمام بالفتح: الراحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 321- خطبة عمرو بن حريث : ولما بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد -وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث- بعث وافدين من قبله إلى الكوفة: عمرو بن مسمع، وسعد بن القرحاء1 التميمي، ليعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة، ويسألانهم البيعة لابن زياد، حتى يصطلح الناس، فجمع الناس عمرو بن حريث، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم، يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم، ويصلح به ذات بينكم؛ فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشد ما أتياكم".   1القرحاء في الأصل: الروضة في وسطها نور أبيض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 322- خطبة عمرو بن مسمع : فقام عمرو بن مسمع؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر أهل البصرة، واجتماع رأيهم على تأمير عبيد الله بن زياد؛ حتى يرى الناس رأيهم، فيمن يولون عليهم وقال: "قد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم، فيكون أميرنا وأميركم واحدًا؛ فإنما الكوفة من البصرة، والبصرة من الكوفة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وقام ابن القرحاء، فتكلم نحوا من كلام صاحبه؛ فقام يزيد بن الحارث الشيباني فحصبهما أول الناس، ثم حصبهما الناس بعد، ثم قال: أنحن نبايع لابن مرجانة؟ لا ولا كرامة! ورجع الوفد إلى البصرة، فأعلم الناس الخبر، فقالوا: أهل الكوفة يخلعونه، وأنتم تولونه وتبايعونه؟ فوثب به الناس؛ فاستجار بمسعود بن عمرو الأزدي فأجاره ومنعه، ثم خرج إلى الشام في خفارة رجال من الأزد وبكر بن وائل. "تاريخ الطبري 7: 30" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 323- خطبة الأحنف بن قيس واستخلف ابن زياد مسعود بن عمرو الأزدي على البصرة، فقالت بنو تميم وقيس: لا نولى إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: قد استخلفني، فلا أدع ذلك أبدًا، وبينما هو على المنبر يبايع من أتاه، إذا رماه رجل من الخوارج فقتله، فخرجت الأزد إلى الخوارج، فقتلوا منهم وجرحوا، وطردوهم عن البصرة، وجاءهم الناس، فقالوا لهم: تعلمون أن بني تميم يزعمون أنهم قتلوا مسعود بن عمرو؟ فبعثت الأزد تسأل عن ذلك، فإذا أناس منهم يقولونه، فاجتمعت الأزد عند ذلك، وازدلفوا إلى بني تميم، وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد بكر بن وائل، فالتقى القوم، واقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة، فقالت لهم بنو تميم: اللهَ اللهَ يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم، بيننا وبينكم القرآن، ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا، فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينة، فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا، ولا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا ذلك، فنحن نَدِي صاحبكم بمائة ألف درهم، فاصطلحوا، فأتاهم الأحنفُ بن قيس، فقال: "يا معشر الأزد: أنتم جيرتنا في الدار، وإخوتنا عند القتال، وقد أتيناكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 324- خطبة روح بن زنباع الجذامي بالمدينة: 1 لما نَمَى هلاك يزيد بن معاوية إلى الحصين بن نمير، وهو على حرب ابن الزبير   1 هو روح بن زنباع سيد جذام -إحدى قبائل اليمن- وقد خلفه مسلم بن عقبة المري، على المدينة بعد فراغه من قتال أهلها -في وقعة الحرة- وشخوصه إلى مكة لقتال ابن الزبير -وقد نزل الموت بمسلم في الطريق، وولي أمر الجيش الحصين بن نمير- ولما كانت الفتنة بعد موت معاوية الثاني، دعا حسان بن مالك بن بحدل الكلبي -وكان على فلسطين والأردن- روح بن زنباع فاستخلفه على فلسطين، ونزل هو الأردن فوثب نائل بن قيس الجذامي على روح، فأخرجه من فلسطين، وبايع لابن الزبير. "الطبري ج7: ص13، 34، والأغاني 17: 111"، وكان لروح اليد الطولى في ظفر مروان بن الحكم بالخلافة، قال صاحب العقد "ج2: ص259" لما مات معاوية بن يزيد بايع أهل الشام كلهم ابن الزبير إلا أهل الأردن، وبايع أهل مصر أيضًا ابن الزبير، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام؛ فلما رأى ذلك رجال بني أمية وناس من أشراف الشام ووجوهم منهم روح بن زنباع وغيره، قال بعضهم لبعض: إن الملك كان فينا أهل الشام، فانتقل عنا إلى الحجاز لا نرضى بذلك، هل لكم أن تأخذوا رجلًا منا فينظر في هذا الأمر؟ فقال: استخيروا الله، فأتوا عمرو بن سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر، فرأوه حدثًا، فجاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فقالوا له: ارفع أسك لهذا الأمر، فرأوه حدثًا حريصًا على هذا الأمر؛ فلما خرجوا من عنده قالوا: هذا حديث فأتوا مروان بن الحكم، فقالوا: يا أبا عبد الملك ارفع رأسك لهذا الأمر، فقال: استخيروا الله، واسألوه أن يختار لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرها وأعدلا، فقال له روح بن زنباع: إن معي أربعمائة من جذام، فأنا آمرهم أن يتقدموا في المسجد غدًا، ومُرْ أنت ابنك عبد العزيز أن يخطب الناس ويدعوهم إليك؛ فإذا فعل ذلك تنادوا من جانب المسجد: صدقت صدقت! فينظر الناس أن أمرهم واحد، فلما اجتمع الناس قام عبد العزيز فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما أحد أولى بهذا الأمر من مروان، كبير قريش وسيدها، والذي نفسي بيده لقد شاب شعر ذراعيه من الكبر"؛ فقال الجذاميون: صدقت صدقت! قال خالد بن يزيد: أمر دُبِّرَ بليل! فبايعوا مروان بن الحكم أهـ. ومن أجل ذلك كان روح أثيرًا عند عبد الملك بن مروان "كما يقول المبرد في الكامل 2: 122"، ويقول ابن نباتة في سرح العيون ص113: "وكان روح بمنزلة نائب عبد الملك" ويقول صاحب العقد: "وكان روح بن زنباع وزير عبد الملك" -2: 70، 3: 6- قال ابن طباطبا في الفخرى ص136: "والوزارة لم تتمهد قواعدها إلا في دولة بني العباس فأما قبل ذلك؛ فلم تكن مقننة القواعد؛ بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجى والآراء الصائبة، فكل منهم يجري مجرى وزير؛ فلما ملك بنو العباس تقررت قوانين الوزارة، وسمي الوزير وزيرًا، وكان قبل ذلك يسمى كاتبًا أو مشيرًا، وأول وزير وُزِّرَ لأول خليفة عباسي حفص بن سليمان أبو سلمة الخلال وزير السفاح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 بمكة- انصرف بجيشه إلى الشأم؛ فلما صاروا إلى المدينة، جعل أهلها يهتفون1 بهم، ويتوعدونهم، ويذكرون قتلاهم بالحرة، فلما أكثروا من ذلك وخافوا الفتنة وهَيْجَها، صعد روح بن زنباع الجذامي على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكان في ذلك الجيش- فقال: "يا أهل المدينة: ما هذا الإبعاد2 الذي توعدوننا؟ إنا والله ما دعوناكم إلى "كلب" لمبايعة رجل منهم، ولا إلى رجل من "بَلْقَيْن"3 ولا إلى رجل من "لَخْم" أو "جُذَام" ولا غيرهم من العرب، ولكن دعوناكم إلى هذا الحي من قريش -يعني بني أمية- ثم إلى طاعة يزيد بن معاوية، وعلى طاعته قاتلناكم، فإيانا توعدون؟ أما والله إنا لأبناء الطعن والطاعون، وفضلات الموت والمنون، فما شئتم"4، ومضى القوم إلى الشأم. "مروج الذهب 2: 104، والبيان والتبيين 1: 208"   1 يصيحون. 2 يقال: وعده خيرًا وبه، ووعده شرًّا وبه – ومن هذا قوله تعالى: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير وعد وفي الشر أوعد، وقالوا أوعده خيرًا وشرًّا بالألف أيضًا، وأدخلوا الباء مع الألف في الشر خاصة؛ فقالوا أوعده بالسجن ونحوه. 3 أصله بنو القين كما قالوا: بلحارث في بني الحارث، وبلعنبر في بني العنبر. قال المبرد في الكامل 2: 183 "وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة؛ فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك "بنو" لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك من بلحارث وبلعنبر وبلهجيم" أي بني الهجيم كزبير. 4 وروى الجاحظ أن روحًا خطب هذه الخطبة يدعو إلى بيعة يزيد بن معاوية، وفي آخرها يقول: "وعندنا إن أجبتم وأطعتم من المعونة والفائدة ما شئتم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 خطبة الأحنف بن قيس ... في رحالكم، لإطفاء حشيشتكم1، وسل سخيمتكم2، ولكم الحكم مرسلًا3، فقولوا، على أحلامنا وأموالنا؛ فإنه لا يتعاظمنا4 ذهاب شيء من أموالنا كان فيه صلاح بيننا"، فقالوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قال: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا5" وروى الجاحظ وابن عبد ربه هذه الخطبة بصورة أخرى، وها هي ذي: قال بعد حمد الله والثناء عليه: "يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الصِّهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو، واللهِ لأزدُ البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشأم، فإن استشرف شنآنُكم6، وأبى حسدُ صدوركم، ففي أموالنا، وسعة أحلامنا، لنا ولكم سعة". "تاريخ الطبري 8: 31، والبيان والتبيين 2: 68، والعقد الفريد 2: 157"   1 أي ناركم الموقدة. من حش النار: أوقدها، فهي فعيلة بمعنى مفعولة "وإن كانت لم ترد في كتب اللغة بهذا المعنى، لكن القياس لا يمنعها، والوارد: الحشيشة طاقة الكلأ". 2 السخيمة: الحقد. 3 أي مطلقًا كما تشاءون. 4 تعاظمه: عظم عليه. 5 واجتمع أهل البصرة على أن يجعلوا عليهم منهم أميرًا يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام، فجعلوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر شهرًا ثم جعلوا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ببة- فصلى بهم شهرين، ثم قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر من قبل ابن الزبير، فمكث شهرًا، ثم قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقياع، ثم مصعب بن الزبير، أما أهل الكوفة؛ فإنهم لما ردوا وفد البصرة ولوا عليهم عامر بن مسعود القرشي، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الأنصاري من قبل ابن الزبير كما تقدم. 6 استشرف: انتصب، أي زاد واستحكم، والشنآن: البغض والكراهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 325- خطبته يؤيد مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة : ولما اجتمع الرأي على البيعة لمروان بن الحكم، قام روح بن زنباع، فحمد الله وأثنى علي، ثم قال: "أيها الناس: إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب، وصحبته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف؛ وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره؛ فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير: حواريّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وهو بعد كما تذكرون في قِدَمِه وفضله، ولكن ابن الزبير منافق، قد خلع خليفتين: يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين، وليس صاحب أمر أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنافق؛ وأما مروان بن الحكم، فوالله ما كان في الإسلام صَدْعٌ قطُّ، إلا كان مروان ممن يَشْعَبُ1 ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار2، والذي قاتل عليَّ بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبوا3 الصغير -يعني بالكبير مروان بن الحكم، وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية-". فأجمع رأي الناس على البيعة لمروان. ثم لخالد بن يزيد من بعده، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد. "تاريخ الطبري 7: 38"   1 يصلح. 2 يوم تسور الثوار عليه داره وقتلوه. 3 ينتظروه حتى يشب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 326- خطبة الغضبان بن القبعثرى يحضّ على قتل الحجاج: لما هلك بشر بن مروان، وولي الحجاج العراق، بلغ ذلك أهل العراق، فقام الغضبان بن القبعثرى الشيباني بالمسجد الجامع بالكوفة خطيبًا، حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "يا أهل العراق، ويا أهل الكوفة، إن عبد الملك قد ولى عليكم من لا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم، الظلوم الغشوم1 الحجاج، ألا وإن لكم من عبد الملك منزلة، بما كان منكم من خذلان مصعب2 وقتله؛ فاعترضوا هذا الخبيث في الطريق فاقتلوه، فإن ذلك لا يعد منكم خلعًا، إنه متى يعلُ على متن منبركم، وصدر سريركم، وقاعة قصركم، ثم قتلتموه عُدَّ خلعًا، فأطيعوني وتغدوا به، قبل أن يتعشى بكم". فقال له أهل الكوفة: "جبنت يا غضبان، بل ننتظر سيرته، فإن رأينا منكرًا غيرناه" قال: ستعلمون. فلما قدم الحجاج الكوفة بلغته مقالته، فأمر به، فأقام في حبسه ثلاث سنين. "مروج الذهب 2: 146"   1 الظلوم. 2 وذلك أن مصعب بن الزبير لما كان على العراق حج سنة 71، فقدم على أخيه عبد الله بن الزبير، ومعه وجوه أهل العراق، وسأله أن يعطيهم، فأبى وقبض يده، فلما حرمهم ابن الزبير ما عنده فسدت قلوبهم، فراسلوا عبد الملك بن مروان، حتى خرج إلى مصعب وقاتله، فما هو إلا أن التقوا حتى حولوا وجوههم، وصاروا إلى عبد الملك، وبقي مصعبٌ في شرذمة قليلة، فجاءه عبيد الله بن ظبيان -وكان مع مصعب- فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع عبيد الله السيف ليضرب مصعبًا؛ فبدره مصعبٌ فضربه بالسيف على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعبًا بالسيف فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك بن مروان، فلما نظر إلى رأس مصعب خرَّ ساجدًا. قال عبيد الله بن ظبيان -وكان من فتاك العرب- ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان، إذ أتيته برأس مصعب فخر ساجدًا، أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد. "22 -جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 327- خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة : وقدم مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس: إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، إن عملت بما أمرني به؛ فأنا أسعد الناس، وإن لم أفعل فنفسي أوبقت، وحظَّ نفسي ضيعتُ، ألا إني جالس لكم العصرين فارفعوا إليَّ حوائجكم، وأشيروا عليّ بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوَكم خيرًا ما استطعت" ثم نزل. "تاريخ الطبري 7: 259" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 خطبة أخرى لمطرف بن المغيرة بن شعبة ... 328- خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة: وفي سنة 77هـ خرج المطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج وخلع عبد الملك بن مروان -وكان الحجاج قد استعمله على المدائن- وجمع إليه رءوس أصحابه فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله ثم قال لهم: "أما بعد -فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف؛ فمن أحب منكم صحبتي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين، يرتضون لأنفسهم من أحبوا". "تاريخ الطبري 7: 262". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 329- خطبة سعيد بن المجالد : خرج الجزل بن سعيد في طلب الخوارج الشبيبية وأقبل حتى انتهى إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره وخندق عليه، وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرًا فقام فيهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم، أنتم في طلب هذه الأعاريب العُجْف منذ شهرين وهم قد خرّبوا بلادكم، وكسروا خراجكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها؛ إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم، اخرجوا على اسم الله إليهم" فخرج وأخرج الناس معه. "تاريخ الطبري 7: 229" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 فتنة ابن الأشعت مدخل ... فتنة ابن الأشعث: جهز الحجاجُ عشرين ألف رجلٍ من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة لمحاربة رتبيل ملك الترك1، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ابن قيس الكندي، فخرج بهم حتى قدم سجستان "سنة 80هـ" فجمع أهلها حين قدمها وخطبهم فقال:   1 انظر ص293. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 330- خطبة ابن الأشعث بسجستان : صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولّاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس". "تاريخ الطبري 8: 4" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 331- خطبته يعرض على الجند رأي الحجاج: فلما حاز من أرض رتبيل أرضًا عظيمة، وملأ يديه من الغنائم والأسلاب، حبس الناس عن الوغول في أرضه، وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم، حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 ننتقصهم في كل عام من أرضهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله، وكتب إلى الحجاج بذلك. فورد عليه كتاب الحجاج يضعف رأيه، ويأمره بالوغول في أرضهم، ويتهدده بالعزل إن لم يفعل؛ فدعا ابن الأشعث الناس إليه. فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم مُحِبّ، ولكم -في كل ما يحيط بكم نفعه- ناظرٌ، وقد كان من رأى فيما بينكم وبين عدوكم رأي، استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولي التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأيا. ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحًا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج؛ فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس؛ وإنما أنا رجل منكم، أمضي إذا مضيتم، وآبي إذا أبتيم". فثار إليه الناس، فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع. "تاريخ الطبري 8: 8" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 332- خطبة عامر بن واثلة الكناني: فقام عامر بن واثلة الكناني -وكان أول متكلم يومئذ، وكان شاعرًا خطيبًا- فقال بعد أن حمد الله، وأثنى عليه: "أما بعد: فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول؛ إذ قال لأخيه: "احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك". إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم، فيقحمكم بلادًا كثيرة اللهوب1 واللصوب2؛ فإن ظفرتم فغنمتم   1 اللهوب جمع لهب كحمل، وهو مهواة ما بين كل جبلين، أو الصدع في الجبل، أو الشعب الصغير فيه "والشعب كحمل: الطريق في الجبل". 2 جمع لصب كحمل أيضًا، وهو الشعب الصغير في الجبل أضيق من اللهب وأوسع من الشعب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أكل البلاد، وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج، وبايعوا عبد الرحمن؛ فإني أشهدكم أني أول خالع". فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله. "تاريخ الطبري 8: 8" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 333- خطبة عبد المؤمن بن شبث بن ربعي ّ: وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيًا، فقال: "عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج، جعل هذه البلاد بلادكم ما يقيم، وجمركم تجمير فرعون الجنود؛ فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أر أو يموتَ أكثركم، بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم، فانفوه عن بلادكم"، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه. "تاريخ الطبري 8: 8" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 334- خطبة ابن الأشعث بالمربد : ولما كانت الحرب بينه وبين الحجاج بالمربد1 خطب الناس، فقال: "أيها الناس: إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنبِ الوزغة2 تضرب به يمينًا وشمالًا، فما تلبث إلا أن تموت3". "البيان والتبيين 2: 87، وتهذيب الكامل 1: 21"   1 موضع بالبصرة. 2 الوزغة: سام أبرص، سميت بها لخفتها وسرعة حركتها. 3 قال الجاحظ: فمر به رجل من بني قشير فقال: "قبح الله هذا ورأيه" يأمر أصحابه بقلة الاحتراس ويعدهم الأضاليل، ويمنيهم الباطل" وناس كثيرون يرون أن ابن الأشعث هو المحسن دون القشيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 335- خطبته حين أراد عبد الملك أن يترضّى أهل العراق: ولما نزل ابن الأشعث بدير الجماجم، واجتمع أهل الكوفة، وأهل البصرة، وأهل الثغور والمسالح1 بدير الجماجم والقراء من أهل المِصْرَين، واجتمعوا جميعًا على حرب الحجاج، جمعهم عليه بغضُهم وكراهيتُم له، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل؛ ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم، واشتد القتال بين الفريقين، بعث عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله وأخاه محمدًا، وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم، كما تجري على أهل الشام، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد من العراق شاء، يكون عليه واليًا ما دام حيًّا، وكان عبد الملك واليًا؛ فعرضا ذلك على أهل العراق، فقالوا: نرجع العشية، فاجتمعوا عند ابن الأشعث؛ فلم يبق قائد، ولا رأس قوم، ولا فارس إلا أتاه. فحمد الله ابن الأشعث، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فقد أعطيم أمرًا، انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة، وإنكم اليوم على النصف، وإن كانوا اعتدوا بالزاوية؛ فأنتم تعتدون عليهم بيوم تُسْتَر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم، وأنتم أعزاءُ أقوياءُ، والقوم لكم هائبون، وأنتم لهم منتقصون، فلا واللهِ لا زلتم عليهم أجرئاء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدًا ما بقيتم". فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم؛ فأصبحوا في الأزل2 والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيع، والمادة القريبة لا واللهِ لا نقبل، فأعادوا خلع عبد الملك ثانية، وكان ما كان مما أسلفنا لك ذكره. "تاريخ الطبري 8: 15"   1 جمع مسلحة بالفتح، وهي الثغر. 2 الضيق والشدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 336- عامر الشعبي والحجاج : وكان عامر الشعبي1 ممن خرج مع ابن الأشعث؛ فلما أتي الحجاج بأسرى الجماجم، أتي فيهم بالشعبي موثقًا -وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلى سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه- قال الشعبي: فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه، فقال: إنا لله يا شعبي! لما بين دفتيك من العلم، وليس اليوم بيوم شفاعة. قلت له: فما المخرج؟ قال: بؤ2 للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، وبالحَرَى أن تنجوَ، ثم لقيني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد؛ فلما دخلت على الحجاج قال لي: وأنت يا شعبي ممن ألب علينا مع ابن الأشعث؟ اشهد على نفسك بالكفر. قلت: "أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل3، وأجدب بنا الجناب، واستحلَسَنا4 الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء" قال: صدقت والله ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم، خلُّوا سبيل الشيخ. "مروج الذهب 2: 144، والعقد الفريد 1: 151-3: 12"   1 هو أبو عمرو عامر بن شراحبيل "بفتح الشين" الشعبي "نسبة إلى شعب، وهو بطن من همدان" وهو كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم، توفي سنة 105هـ، وكانت أمه من سبي جلولاء. 2 ارجع. 3 نبا منزله به: لم يوافقه. 4 أي لم يفارقنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 ولتسبن الحجاج، أو لأضربن عنقك، قال: أيها الأمير؛ إنما أنا رسول! قال: هو ما أقول لك، فقام وخطب وخلع عبد الملك، وشتم الحجاج، وأقام هناك؛ فلما انصرف ابن الأشعث مهزومًا، كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليهما، يأمرهم ألا يمر بهم أحد من قبل ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيرًا إليه، وأخذ ابن القرية فيمن أخذ. فلما أدخل على الحجاج، قال: أخبرني عما أسألك؟ قال: سلني عما شئت، قال: أخبرني عن أهل العراق، قال: أعلم الناس بحق وباطل، قال: فأهل الحجاز، قال: أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم فيها، قال: فأهل الشام، قال: أطوع الناس لخلفائهم، قال: فأهل مصر، قال: عبيد لمن غلب، قال: فأهل البحرين، قال: نَبَط1 استعرَبوا، قال: فأهل عمان، قال: عَرَبٌ استنبَطُوا، قال: فأهل الموصل، قال: أشجعُ فرسان، وأقتلُ للأقران، قال: فأهل اليمن، قال: أهل سمعٍ وطاعة، ولزومٍ للجماعة، قال: فأهل اليمامة، قال: أهل جفاء، واختلاف أهواء، وأصبر عند اللقاء، قال: فأهل فارس، قال: أهل بأسٍ شديد، وشرٍّ عتيد، وريف2 كبير، وقرى يسير، قال: أخبرني عن العرب، قال: سلني، قال: قريش قال: أعظمها أحلامًا، وأكرمها مقامًا، قال: فبنو عامر بن صعصعة، قال: أطولها رماحًا وأكرمها صباحًا، قال: فبنو سليم، قال: أعظمها مجالس، وأكرمها محابس3، قال: فثقيف، قال: أكرمها جدودًا، وأكثرها وفودًا قال: فبنو زبيد، قال: أزلمها للرايات، وأدركها للترات4، قال: فقضاعة، قال: أعظمها أخطارًا، وأكرمها نجارًا5، وأبعدها آثارًا قال: فالأنصار، قال: أثبتها مقامًا، وأحسنها إسلامًا، وأكرمها أيامًا، قال: فتميم، قال: أظهرها جلدًا، وأثراها عددًا،   1 النبط: جيل من الناس، كانوا ينزلون سواد العراق. 2 الريف: أرض فيها زرع وخصب. 3 المحابس: جمع محبس كمقعه، وهو الشجاعة. 4 الترات جمع ترة: وهي الثأر. 5 النجار: الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 قال: فبكر بن وائل، قال: أثبتها صفوفًا، وأحدها سيوفًا، قال: فعبد القيس، قال: أسبقها إلى الغايات، وأصبرها تحت الرايات، قال: فبنو أسد، قال: أهل عَدَ وجَلَد، وعُسْر ونَكَد، قال: فلخم، قال: ملوك، وفيهم نوك1، قال: فجذام، قال: يوقدون الحرب ويسعرونها2، ويلقحونها ثم يمرونها3، قال: فبنو الحارث قال: رعاة للقديم، وحماة عن الحريم، قال: فعكّ، قال: ليوث جاهدة، في قلوب فاسدة، قال: فتغلب، قال: يصدقون -إذا لقوا- ضربًا، ويسعرون للأعداء حربًا، قال: فغسان، قال: أكرم العرب أحسابًا، وأثبتها أنسابًا، قال: فأيّ العرب في الجاهلية كانت أمنع من أن تضام؟ قال قريش، كانوا أهل رهوة4 لا يستطاع ارتقاؤها، وهضبة لا يرام انتزاؤها5، في بلدة حمى الله ذِمارها، ومنع جارها، قال: فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية، قال: كانت العرب تقول: حِمْيَر أربابُ الملْك، وكندة لُباب الملوك، ومَذْحِج أهل الطعان، وهمدان أحلاس6 الخيل، والأزد آساد الناس، قال: فأخبرني عن الأرضين، قال: سلني، قال: الهند، قال: بحرها درّ، وجبلها ياقوت، وشجرها عُود، وورقها عِطر، وأهلها طَغَام، كقطع الحمام7، قال: فخراسان، قال: ماؤها جامد، وعدوها جاحد، قال: فعُمان، قال: حرُّها شديد، وصيدها عتيد، قال: فالبحرين، قال: كُناسة بين المصْرَين، قال: فاليمن، قال: أصل العرب، وأهل البيوتات والحسب، قال: فمكة، قال: رجالها علماء جفاة، ونساؤها كِسَاءُ عُرَاةٍ، قال: فالمدينة، قال: رسخ العلم فيها، وظهر منها، قال: فالبصرة، قال: شتاؤها جليدٌ،   1 النوك بالضم والفتح: الحمق. 2 سعر الحرب كمنع، وأسعرها: أوقدها 3 مرى الناقة كرمى: مسح ضرعها لتدر. 4 الرهوة: المكان المرتفع "والمنخفض أيضًا، ضد". 5 أي اعتلاؤها نزا نزوًا ونزوانًا: وثب، وانتزى: افتعل من النزوة، وفي حديث وائل بن حجر: "إن هذا انتزى على أرضي فأخذها". 6 كناية عن إدامتهم ركوبها. 7 الطغام: أوغاد الناس ورذال الطير، والقطع بالكسر: اسم ما قطع من الشيء، ويقال: ثوب قطع وأقطاع أي مقطوع، أو هو قُطع بالضم جمع قطيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح، قال: فالكوفة، قال: ارتفعت عن حر البحر، وسفلت عن برد الشام؛ فطاب ليلها، وكثر خيرها، قال: فواسط، قال: جنة، بين حماة وكَنَّة، قال: وما حماتها وكنتها1؟ قال: البصرة والكوفة يحْسِدانها، وما ضرّها، ودجلةُ والزابُ2 ويتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال: فالشام، قال: عروس، بين نسوة جلوس، قال: ثكلتك أمك يابن القرِّية، لولا اتباعك لأهل العراق! وقد كنت أنهاك عنهم أن تتبعهم؛ فتأخذ من نفاقهم، ثم دعا بالسيف، وأومأ إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية: ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن رَكْبٌ وُقُوف، يكنَّ مثلًا بعدِي، قال: هات، قال: لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ولكل حليم هفوة، قال الحجاج: ليس هذا وقت المزاح، يا غلام أوجب جَرْحه، فضُرِبَ عنقه. وقيل إنه لما أراد قتله قال له: العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العربُ، أصلح الله الأمير، قال: فا آفة الحلم؟ قال: الغضب، قال: فما آفة العقل: قال: العجب، قال: فما آفة العلم؟ قال: النسيان، قال: فما آفة السخاء؟ قال: المنّ عند البلاء3، قال: فما آفة الكرام؟ قال: مجاورة اللئام، قال فما آفة الشجاعة؟ قال: البغْي، قال: فما آفة العبادة؟ قال: الفترة، قال: فما آفة الذهن؟ قال: حديث النفس قال: فما آفة الحديث؟ قال: الكذب، قال: فما آفة المال؟ قال: سوء التدبير، قال فما آفة الكامل من الرجال؟ قال: العدم، قال: فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال: أصلح الله الأمير، لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه، قال: امتلأت شقاقًا، وأظهرت نفاقًا، اضربوا عنقه؛ فلما رآه قتيلًا ندم، وكان قتله سنة 84هـ.   1 الكنة: امرأة الابن أو الأخ. 2 الزاب الأسفل، والزاب الأعلى: نهيران يصبان في دجلة. 3 الإبلاء: الإنعام والإحسان بلوت الرجل، وأبليت عنده بلاء حسنًا، وأبلاه الله بلاء حسنًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وفي رواية أخرى أنه لما دخل على الحجاج، قال له: يابن القرية، ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: "أصلح الله الأمير، ثلاثة حروف؛ كأنهن ركب وقوف، دنيا وآخرة ومعروف، قال: اخرج مما قلت، قال: "أفعل، أما الدنيا فمالٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وأما الآخرة فميزانٌ عادل، ومشهد ليس فيه باطل، وأما المعروف فإن كان عليّ اعترفت وإن كان لي اغترفت1" قال: أما لي فاعترف بالسيف إذا وقع بك، قال: "أصلح الله الأمير، أقلني عثرتي وأسغني ريقي؛ فإنه لابد للجواد من كبوة، وللسيف من نبوة، وللحليم من هفوة2؟ قال: كلا والله حتى أوردك جهنم، ألست القائل برسْتَقَاباذ: تغدَّوا الجدْيَ قبل أن يتعشاكم؟ قال: فأرحني فإني أجد حرَّها، قال: قدِّمه يا حرسي فاضرب عنقه؛ فلما نظر إليه يتشحط3 في دمه، قال: لو كنا تركنا ابن القرية، حتى نسمع من كلامه! ثم أمر به فأخرج فرمي به4. "وفيات الأعيان 1: 83، والبيان والتبيين 1: 189، وتاريخ الطبري 8: 37"   1 أي وأعطيت الناس منه. 2 وفي رواية: "فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة" والهبوة: الغبرة. 3 يضطرب. 4 وروى أبو الفرج الأصبهاني أنه قيل: "ثلاثة لم يكونوا قط، ولا عرفوا: ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم، وابن القرِّية، ومجنون بني عامر" انظر الأغاني 1 ص163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 338- كلمة لابن القرية : وقال ابن القرية: الناس ثلاثة: عاقل، وأحمق، وفاجر: فالعاقل الدين شريعته والحلم طبيعته، والرأي الحسن سجيته، إن سئل أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع العلم وعى، وإن حدث روى؛ وأما الأحمق: فإن تكلم عجل، وإن حدث وَهِلَ1، وإن استنزل عن رأيه نزل، فإن حُمِلَ على القبيح حَمَلَ؛ وأما الفاجر فإن ائتمنتَه خَانَكَ، وإن حدثتَه شانك، وإن وثقِتَ به لم يرعك، وإن استُكتِم لم يكتم، وإن عُلّم لم يعلم، وإن حُدِّث لم يفهم، وإن فُقِّه لم يفقْه". "زهر الآداب 2: 86"   1 ضعف وفزع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فتنة يزيد بن المهلب : 339- أيوب بن سليمان بن عبد الملك يسأل عمه الوليد أن يؤمن يزيد بن المهلب : 1 لما فرَّ يزيدُ بن المهلب من سجن الحجاج وعذابِهِ "سنة 90هـ في خلافة الوليد بن عبد الملك" نزل على أخيه سليمان متعوذًا به، وكتب سليمان إلى الوليد يطلب له الأمان؛ فكتب إليه يقسم أنه لا يؤمنه حتى يبعث به إليه؛ فأرسل ابنه أيوب معه، وكتب معه كتابًا، فلما دخل به على عمه، قال: "يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك، لاتخفر2 ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا، لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك". "تاريخ الطبري 8: 73"   1 وخبرُ ذلك أن الحجاج كان وفد على عبد الملك، فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن في هذا الدير شيخًا من أهل الكتب عالمًا، فدعا به وسأله: أتعلم ما إلي، من يليه بعدي؟ قال: رجلٌ يقال له يزيد، فوقع في نفسه أنه يزيدُ بن المهلب؛ إذ كان لا يرى من هو أهل لذلك سواه، وكان يكرهه لما يرى فيه من النجابة، ويخشى منه، وكان قد ولاه خراسان بعد وفاة أبيه سنة 82، فكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب، ويتهمهم بأنهم زبيرية الهوى، ويخوفه غدرهم، وما زال به حتى أجابه إلى ما سأل؛ فعزل يزيد سنة 85، وولى مكانه قتيبة بن مسلم، وفي سنة 87 حبس الحجاج يزيد وإخوته وعذبهم وأغرمهم، وكان يزيد يصبر صبرًا حسنًا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رُمِيَ بنشابة، فثبت نصلها في ساقه؛ فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه "أي تغمز شديدًا" فلما فعل به ذلك صاح -وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج- فلا سمعت صياح أخيها صاحت وناحت فطلقها، ثم إن يزيد وإخوته أعملوا الحيلة في الفرار من سجن الحجاج "سنة 90" ولحقوا بسليمان بن عبد الملك مستجيرين به، وكتب الحجاج إلى الوليد: إن آل المهلب خانوا مال الله، وهربوا مني، ولحقوا بسليمان، واستشفع سليمان أخاه الوليد، وما زال به حتى شفعه فيه، فلما ولي الخلافة سليمان سنة 96 ولى يزيد أمر العراق، ثم ولاه خراسان سنة 97. 2 خفر به كضرب، وأخرفه: نقض عهده وغدره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 340- خطبة يزيد بين يدي الوليد : وتكلم يزيد، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "يا أمير المؤمنين، إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء؛ فمن ينس ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم، والطعن في أعين أعدائكم، في المواطن العظام، في المشارق والمغارب، ما إن المنة علنا فيها عظيمة". فأمنه الوليد وكفَّ عنه. "تاريخ الطبري 8: 74" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 341- خطبة مخلد بن يزيد بن المهلب بين يدي عمر بن عبد العزيز : ولما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد بن المهلب1، أقبل ابنه مخلد من خراسان، ودخل على الخليفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:   1 وسبب ذلك: أن يزيد بن المهلب لما فتح جرجان وطبرستان سنة 98، كتب بالفتح إلى سليمان بن عبد الملك، وفي كتابه يقول: "وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين، بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة، ستة آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله"، وقد قال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة: لا تكتب بتسمية مال؛ فإنك من ذلك بين أمرين، إما استكثره فأمرك بحمله، وإما سخت نفسه لك به فسوغكه فتكلفت الهدية؛ فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقله؛ فكأني بك قد استغرقت ما سميت، ولم يقع منه موقعًا، ويبقى المال الذي سميت مخلدًا عندهم عليك في دواوينهم، فإن ولي والٍ بعده = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 "إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها؛ فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ؟ أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل" فقال عمر: لا؛ إلا أن تحمل جميع ما نسأله إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينة فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه، فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال". "تاريخ الطبري 8: 132"   = أخذك به، وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه؛ فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالفتح، وسله القدوم، فتشافهه بما أحببت مشافهة وتقصر، فإنك إن تقصر عما أحببت أحرى من أن تكثر، فأبى يزيد وأمضى الكتاب؛ فلما ولي عمر بن عبد العزيز "سنة 99" -وكان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم- دعا يزيد وسأله عن تلك الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك؛ فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به "والتسميع: إزالة الخمول بنشر الذكر"، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت به، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله، وأد ما قبلك؛ فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، ولم يزل يزيد في محبسه، حتى بلغه مرضُ عمر، فأخذ يعمل للهرب مخافة يزيد بن عبد الملك؛ لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل "إذ كانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له ابنه الوليد" وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب، ليقطعن منه طابقًا "بفتح الباء وكسرها أي عضوا" فخشى ذلك فهرب من السجن سنة 101، ومات عمرُ وأفضت الخلافة إلى يزيد بن عبد الملك ولحق ابن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها "وهو عدي بن أرطأة الفزاري" فحبسه وخلع يزيد، فسير إليه الخليفة العباس بن الوليد بن عبد الملك، ومسلمة بن عبد الملك لحربه فقتل ابن المهلب في أسناء المعركة سنة 102هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 342- خطبة يزيد بن المهلب يحرض أصحابه على القتال وقد سير يزيد بن عبد الملك العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك لقتاله: قام في أصحابه فحرضهم ورغبهم في القتال، فكان فيما قال: "إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيتهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية1 على هامهم ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء -يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة ثمود2 -يعني العباس بن الوليد- "وكان العباس أزرق3 أحمر، كانت أمه رومية" والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه، حتى كلمته فيه؛ فأقره على نسبه، فبلغني أنه ليس همهما إلا التماسي في الأرض، والله لو جاءوا بأهل الأرض جميعًا، وليس إلا أنا، ما برحت العَرْصة4 حتى تكون لي أو لهم"، قالوا: نخاف أن تُعَنِّينا5   1 المشرفية: سيوف منسوبة إلى مشارف الشام، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، والهام: جمع هامة، وهي الرأس. 2 هو قدار "كشجاع" بن سالف، ويلقب بأحمر، قال زهير في وصف الحرب: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم "قال الأصمعي: أخطأ زهير في هذا؛ لأن عاقر الناقة ليس من عاد؛ وإنما هو من ثمود، وقال المبرد: لا غلط، لأن ثمود يقال لهم عاد الآخرة، ويقال لقوم هود عاد الأولى" ويضرب به المثل في الشؤم، فيقال: "أشأم من أحمر عاد" لأن الله أهلك بفعله ثمود، وذلك أنهم قالوا لنبيهم صالح حين دعاهم إلى الإيمان: يا صالح إن كنت صادقًا فأظهر لنا من هذه الصخرة ناقة، وصفوها له، فأخرجها الله بإذنه من الصخرة {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} ؛ فآمن بعضهم عند ظهور هذه الآية، ثم قال لهم: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} . "والشرب: النصيب من الماء". 3 أي أزرق العينين. 4 العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. 5 عنَّاه: أتعبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 كما عنَّانا عبد الرحمن بن محمد1، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار2 وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله؟ "، ثم نزل. "تاريخ الطبري 8: 152"   1 هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث السالف الذكر. 2 ما يلزمك حفظه وحمايته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 343- خطبة أخرى له من هنا أبدأ: ورويت له خطبة أخرى في هذا الغرض، وهاكها: عن خالد بن صفوان قال: خطبنا يزيد بن المهلب بواسط، حمد الله، وأثنى عليه، وصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: "أيها الناس: إني أسمع قول الرعاع، قد جاء العباس، قد جاء مسلمة، قد جاء أهل الشام! وما أهل الشام إلا تسعة أسياف، منها سبعة معي، واثنان علي، وما مسلمة إلا جرادة صفراء، وأما العباس فنسطوس1 بن نسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة2 وجرامقة وجراجمة3، وأقباط وأنباط4، وأخلاط من الناس؛ إنما أقبل إليكم الفلاحون والأوباش كأشلاء5 اللحم، والله ما لقوا قطّ حدًّا كحدكم، ولا حديدَ كحديدكم، أعيروني سواعدكم ساعة من نهار تصفقون بها خراطيمهم6؛ فإنما هي غدوة أو روحة، حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين". "البيان والتبيين 1: 160، العقد الفريد 2: 155، ومروج الذهب 2: 177"   1 هو في العقد، ومروج الذهب بالباء، وفي البيان والتبيين بالنون، وليس من ألفاظ العربية، وأقول: هو إما علم رومي، فهو يشير إلى أصل العباس بن الوليد إذ كانت أمه رومية، أو محرف عن "نسطوري بن نسطوري" أي نصراني نسطوري من النساطرة إحدى فرق المسيحية نسبة إلى نسطوريوس صاحب المذهب، وكان أسقفا بالقسطنطينية. توفي حول سنة 450م. 2 البرابرة: جبل بالمغرب، والصقالبة: جيل بلادهم تتاخم بلاد الخزر "شمالي بحر الخزر، وهو بحر قزوين" أي جنوبي الروسيا. 3 الجرامقة: قوم من العجم صاروا بالموصل في أوائل الإسلام، والجراجمة: قوم من العجم بالجزيرة، أو نبط الشام. 4 أنباط: جمع نبط كجبل وقد تقدم. 5 أشلاء: جمع شلو كحمل، وهو العضو وكل مسلوخ أكل منه شيء، وبقيت منه بقية. 6 صفقه بالسيف: ضربه، والخراطيم: جمع خرطوم، وهو الأنف. "23 -جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 344- خطبة ثالثة له : وقال مقاتل: سمعت يزيد بن المهلب يخطب بواسط، فقال: "يا أهل العراق، يا أهل السبق والسباق، ومكارم الأخلاق، وإن أهل الشام في أفواههم لقمة دسمة، قد رتبت1 لها الأشداق، وقاموا لا على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمراء والجدال، فالبسوا لهم جلود النمور2". "البيان والتبيين 1: 218"   1 رتبت: أي ثبتت ولم تتحرك "وذلك لامتلاء الأفواه". 2 أي تنكروا لهم، واستعدوا لمناضلتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 345- خطبة الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب : وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة، يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرحهم إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عنه، وكان يقول في تلك الأيام: "أيها الناس: الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضًا على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير، ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم يكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء، وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلى المجهول الخفي، والمعروف التقي؛ فمن كان منكم خفيًّا فليلزم الحقَّ، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفًا، وكفى له به من الدنيا خلفًا؛ ومن كان منكم معروفًا شريفًا، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا -إرادة الله بذلك- فواهًا لهذا، ما أسعدَه وأرشدَه، وأعظمَ أجرَه، وأهدَى سبيلَه! فهذا غدًّا -يعني يوم القيامة- القرير عينًا، الكريم عند الله مآبًا". "تاريخ الطبري 8: 153" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 346- خطبة مروان بن المهلب : فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب، قام خطيبًا كما يقوم؛ فأمر الناس بالجِدِّ والاحتشاد ثم قال لهم: "قد بلغني أن هذا الشيخَ الضالَّ المرائي -ولم يسمِّه- يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خُصِّ داره قصبةً؛ لظل يرعف1 أنفُه، أينكرُ علينا، وعلى أهل مصرِنا، أن نطلب خيرَنا، وأن نُنكرَ مظلمتَنا؟ أما والله ليكفَّنَّ عن ذكرنا، وعن جمعه إلينا سُقّاط الأُبُلّة2، وعلوج فراتِ البصرة، قومًا ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحدٍنا منا، أو لأنْحِيَنَّ عليه مِبْرَدًا خشنًا". فلما بلغ ذلك الحسن، قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه؛ فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: قد خالفتكم إذن إلى ما نهيتكم عنه، آمركم ألا يقتل بعضكم مع غيري، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضًا دوني؟ فبلغ ذلك مروان بن المهلب، فاشتدَّ عليهم وأخافهم، وطلبهم حتى تفرقوا، ولم يَدَعِ الحسنُ كلامَه ذلك، وكفَّ عنه مروان. "تاريخ الطبري 8: 513"   1 رعف: خرج من أنفه الدم. 2 جمع ساقط: وهو اللئيم في حسبه ونفسه، والأبلة: موضع بالبصرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 خطب الأحنف بن قيس التميمي : 1 347- الأحنف ومعاوية : كان الأحنف بن قيس، قد شهد مع الإمام علي، كرم الله وجهه، وقعة صفين؛ فلما استقر الأمر لمعاوية، دخل عليه يومًا، فقال له معاوية: "والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة2 في قلبي إلى يوم القيامة". فقال له الأحنف: "يا أمير المؤمنين لم تَرُدَّ الأمور على أعقابها؟ أما والله إن القلوبَ التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوفَ التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت بشبرٍ من غدر، لتمدن باعًا من ختر3، ولئن شئت لتستصفين كدرَ قلوبنا بصفو حلمك"، قال معاوية: فإني أفعل ثم قام وخرج، وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين: من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ قال: هذا الذي إذا غضب، غضب لغضبه مائة ألف من بني تميم، لا يدرون فيم غضب. "وفيات الأعيان لابن خلكان 1: 230، ونهاية الأرب 7: 237، والعقد الفريد 2: 118"   1 هو أبو بحر الضحاك بن قيس سيد بني تميم، والمضروب به المثل في الحلم، وهو من سادات التابعين؛ أدرك عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يصحبه؛ وشهد بعض فتوح خراسان في زمن عمر وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْها؛ وشهد مع علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقعة صفين؛ ولم يشهد وقعة الجمل مع أحد الفريقين؛ وبقي إلى زمن مصعب بن الزبير؛ فخرج معه إلى الكوفة؛ فمات بها سنة 67هـ "وقيل له الأحنف؛ لأنه كان أحنف الرجل -مائلها- يطأ على وحشبها". 2 الخزازة: وجع في القلب من غيظ ونحوه. 3 الباع: قدر مد اليدين، والختر: أقبح الغدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 348- الأحنف ومعاوية أيضًا: جلس معاوية يومًا، وعنده وجوه الناس وفيهم الأحنف، فدخل رجل من أهل الشام، فقام خطيبًا؛ فكان آخر كلامه أن لعن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فأطرق الناس وتكلم الأحنف، فقال: "يا أمير المؤمنين: إن هذا القائل ما قال آنفًا، لو علم أن رضاك في لعن المرسلين لَلَعَنَهُمْ، فاتَّقِ اللهَ، ودعْ عليًّا، فقد لقي اللهَ، وأفرد في حفرته، وخلا بعمله، وكان والله -ما عَلِمنا- المبرَّزَ بشقِّهِ1، الطاهر في خُلُقِهِ، الميمونَ النقيبة2 العظيمَ المصيبة". قال معاوية: "يا أحنف، لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وايم الله لتصعدن المنبرَ فلتلعننه طائعًا أو كارهًا" فقال الأحنف: "إن تعفني فهو خيرٌ، وإن تجبرني على ذلك؛ فوالله لا تجري به شفتاي"، فقال معاوية: قم فاصعد. قال: "أما والله لأنصفنك في القول والفعل"، قال معاوية: وما أنت قائل إن أنصفتني؟ "، قال: "أصعد فأحمد الله، وأثني عليه وأصلي على نبيه، ثم أقول: "أيها الناس: إن معاوية أمرني أن ألعن عليًّا؛ ألا وإن عليًّا ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادعى كل واحد أنه مبغِيٌّ عليه وعلى فئته؛ فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله"! ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغِيَ منهما على صاحبه، والفئةَ الباغيةَ على المبغِيِّ عليها، اللهم العنْهُم لعنًا كبيرًا، أمنوا، رحمكم الله"، يا معاوية لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه حرفًا، ولو كان فيه ذهابُ نفسِي. فقال معاوية: "إذن نعفيك يا أبا بحر". "نهاية الأرب 7: 237، والعقد الفريد 2: 118"   1 الشق: الجانب، ورواية العقد "المبرز سيفه" وبرز تبريزًا: فاق أصحابه فضلًا أو شجاعة. 2 النقبية: النفس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 349- قوله في مدح الولد : ودخل الأحنف على معاوية، ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابًا به، فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: "يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرة أعيننا1، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف منا لمن بعدنا؛ فكن لهم أرضًا ذليلة، وسماء ظليلة، إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتهم2، لا تمنعهم رفدك3، فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك". فقال: لله درك يا أبا بحر! هم كما وصفت "الأمالي 2: 43"   1 قرت عينه: بردت، وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه. 2 استعتبه: طلب إليه العتبى "أي الرضا" وأعتبه: أعطاه العتبى. 3 الرفد: العطاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 350- شفاعته لدى مصعب بن الزبير : وأتى مصعب بن الزبير يكلمه في قوم حبسهم، فقال: "أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا في باطل؛ فالحق يخرجهم، وإن كانوا حبسوا في حق، فالعفو يسعهم" فخلاهم1. "نهايةالأرب 7: 238"   1 وفي وفيات الأهيان لابن خلكان 1: 244، أن هذا القول للشعبي كلم به عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 351- نصيحته لقومه : وقال بخراسان: "يا بني تميم تحابوا تجتمع كلمتكم، وتباذلوا تعتدل أموركم، وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم، يصلح لكم دينكم ولا تغلوا1 يسلم لكم جهادكم". "نهاية الأرب 7: 239، والبيان والتبيين 2: 46".   1 أي لا تخونوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 352- خطبته في قوم كانوا عنده : وحدث رجل من بني تميم قال: حضرت مجلس الأحنف بن قيس، وعنده قوم مجتمعون في أمر لهم؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن الكرم يمنعُ الحُرَم1، ما أقربَ النقمةَ من أهلِ البغِي، لا خيرَ في لذة تُعْقِبُ ندمًا، لن يهلك من قَصَدَ2، ولن يفتقِرَ من زهد، رُبَّ هزل قد عاد جِدًّا، من أمن الزمان خانَه، ومن تعظَّم عليه أهانَه، دعُوا المزاحَ؛ فإنه يُورِثُ3 الضغائنَ، وخيرُ القولِ ما صَدَّقَهُ الفعلُ، احتملوا لمن أدلَّ عليكم، واقبلوا عذرَ من اعتذرَ إليكم. أطعْ أخاك وإن عصاك، وَصِلْهُ وإن جفاك، أنصفْ من نفسِك قبل أن يُنتصفَ منك، وإياكم ومشاورةَ النساء، واعلم أن كفر النعمةِ لؤمٌ، وصحبةَ الجاهلِ شؤمٌ، ومن الكرم الوفاء بالذمم، ما أقبح القطيعةَ بعد الصلة، والجفاءَ بعد اللَّطَف5، والعداوةَ بعد الود! لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل، واعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك6؛ فأنفق في حق، ولا تكونن خازنا لغيرِك، وإذا كان الغدرُ في الناس موجودًا، فالثقة بكل أحد عجز، اعرف الحقد لمن عرفه لك، واعلم أن قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل". "الأمالي 2: 22"   1 الحُرم: جمع حرمة بالضم، وهي ما لا يحل انتهاكه. 2 القصد والاقتصاد: ضد الإفراط 3 التأريث: إيقاد النار. 4 تدلل. 5 اللطف: اسم من اللطف بالضم. 6 آخرتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 353- كلمات حكيمة للأحنف : قال: فيَّ ثلاثُ خصالٍ ما أقولهن إلا ليعتبرَ معتبرٌ: ما دخلت بين اثنين قط حتى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء -يعني الملوك- ما لم أدعَ إليه، وما حللت حبوتي1 إلى ما يقوم الناس إليه". وقال: "ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة2؟ الخُلُق السجيحُ3 والكفُّ عن القبيح، ألا أخبركم بأدوء الداء؟ الخلق الدنيّ، واللسان البذيّ"، وقال: "ما خان شريف، ولا كذب عاقل، ولا اغتاب مؤمن". وقال: "ما ادخرتِ الآباءُ للأبناء، ولا أبقتِ الموتى للأحياء، أفضل من اصطناع معروف عند ذوي الأحساب والآداب"، وقال: "كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئًا عُرِف به". وسمع رجلًا يقول: ما أبالي أمدحت أم ذممت. فقال له: "لقد استرحت من حيث تعب الكرام"، وقال: "جنبوا مجلسنا ذكر الطعام والنساء، فإني لأبغض الرجلَ يكون وصافًا فرجه وبطنه، وإن المروءة أن يترك الرجل الطعامَ وهو يشتهيه". وكان يقول: إذا عجب الناس من حلمه: إني لأجد ما تجدون ولكني صبور". وكان يقول: "وجدت الحلم أنصر لي من الرجال". وقال: "الكذوب لا حيلة له، والحسود لا راحة له، والبخيل لا مروءة له، والملول لا وفاء له، ولا يسود سيء الأخلاق، ومن المروءة إذا كان الرجل بخيلا أن يكتم ذلك ويتجمل". وقال: "أربع من كن فيه كان كاملًا، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو عقل يسدده، أو حسب يصونه، أو حياء يقناه4". وقال: "المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده،   1 احتبى الرجل: جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها، والاسم: الحبوة بالفتح ويضم. 2 رزأه مرزئة: أصاب منه خيًرا، والشيء نقصه: أي دون أن تغرموا في سبيلها مالًا. 3 اللين: السهل. 4 قني الحياء كرضي ورمى: لزمه كأقنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وشيطان يفتنه؛ وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله وقال: "لأن أُدعَى من بعيد، أحبُّ إلي من أن أُقصَى من قريب". وكان يقول: "إياك وصدر المجلس، وإن صدرك صاحبه؛ فإنه مجلس قلعة1". وقال: "من لم يصبر على كلمة سمع كلمات". وقال: "رب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشد منه". وقال: "من كثر كلامه كثر سقطه ومن طال صمته كثرت سلامته، وقال: "ثلاث لا أناة فيهن عندي". قيل: "وما هن يا أبا بحر؟ ". قال: المبادرة بالعمل الصالح، وإخراج ميتك، وأن تنكح الكفء أيمك2". وكان يقول: "لأفعى تحكك في ناحية بيتي، أحب إلي من أيم رددت عنها كفئًا". "وفيات الأعيان 1: 231، ومجمع الأمثال للميداني 1: 148؛ والأمالي 1: 236، والبيان والتبيين 2: ص37، 58، 101، 104، 105"   1 مجلس قلعة: يحتاج صاحبه إلى أن يقوم مرة بعد مرة. 2 الأيم: من لا زوج، لها بكرًا أو ثيبًا قال الجاحظ: وكان يقال: "ما بعد الصواب إلا الخطاء؛ وما بعد منعهن من الأكفاء، إلا بذلهن للسفلة والغوغاء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 354- صفية بنت هشام المنقرية تؤبن الأحنف : وروي أنه لما حملت جنازة الأحنف، ودلي في قبره، أقبلت ابنة عمه صفية بنت هشام المنقرية على نجيب لها مختصرة1، فوقفت على قبره، فقالت: "لله درك من مُجَنٍّ في جُنَن2، ومدرجٍ3 في كفن! إنا لله وإنا إليه راجعون!   1 النجيب: الجمل السريع الخفيف في السير القوي؛ واختصر: أمسك المخصرة "والمخصر كمكنسة: عصا يمسكها الخطيب يشير بها إذا خطب"، وتخصَّر بالقضيب أيضًا: أمسكه. وفي رواية الجاحظ: "وقامت فرغانة بنت أوس بن حجر على قبر الأحنف بن قيس وهي على راحلة فقالت .... "؛ وفي رواية أبي علي القالي: "جاءت امراة من قومه من بني منقر عليها قبول من النساء؛ فوقفت على قبره فقالت ... "، والقبول بالفتح ويضم: الحسن. 2من أجنه: إذا ستره؛ والجنن: جمع جنة كقبة، وهي الوقاية؛ والجنن كسبب: القبر والكفن. 3 مطوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 نسأل الله الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يوسع لك في قبرك، وأن يغفر لك يوم حشرك، وأن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الرشاد دليلك، ثم أقبلت بوجهها على الناس، فقال: "معشر الناس، إن أولياء الله في بلاده شهود على عباده، وإنا قائلون حقًّا، ومُثْنُونَ صدقًا، وهو أهلٌ لحسن الثناء، وطيب الدعاء؛ أما والذي كنت من أجله في عدة، ومن المضمار1 إلى غاية، ومن الحياة إلى نهاية، الذي رفع عملك، عند انقضاء أجلك، لقد عشت حميدًا مودودًا، ولقد مت فقيدًا سعيدًا، وإن كنت لعظيم السلم، فاضل الحلم، صحيح الأديم2، منيع الحريم، واري الزناد، رفيع العماد، وإن كنت في المحافل لشريفًا، وعلى الأرامل لعطوفًا، وفي العشيرة مسودًا، وإلى الخلفاء موفدًا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين". ثم انصرفت. "ذيل الأمالي ص28، وبلاغات النساء ص55، والبيان والتبيين 2: 160"   1 في الأمالي: "ومن الضمان"؛ وفي بلاغات النساء: "ومن الضمار" وأرى أن صوابه "ومن المضمار" لقوله بعد: "إلى غاية". 2 الأديم: الجلد؛ والمراد صحيح العرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 خطب الوفود وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية ... خطب الوفود وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء الوافدون على معاوية: 355- وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية: دخل الأحنف بن قيس على معاوية وافدًا لأهل البصرة، ودخل معه النمر بن قطبة، وعلى النمر عباءة قطوانية1، وعلى الأحنف مدرعة2 صوف وشملة3؛ فلما مثلا بين يدي معاوية اقتحمتهما4 عينُه، فقال النمر: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها، فأومأ إليه فجلس، ثم أقبل على الأحنف، فقال: ثم مه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أهل البصرة عدد يسير، وعظم كسير، مع تتابع من المُحُول5، واتصال من الذُّحُول6؛ فالمكثر فيها قد أطرق، والمقل قد أملق، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهل العسير، ويصفح عن الذحول، ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء، ليكشف البلاء، ويزيل اللأواء7، وإن السيد من يعم ولا يخص، ومن يدعو الجفلى8 ولا يدعو النقرى، إن أُحسِن إليه شَكَرَ،   1 نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة منه الأكسية. 2 المدرعة: ثوب ولا يكون إلا من صوف. 3 الشمل: كساء دون القطيفة يشتمل به. 4 ازدرتهما. 5 جمع محل كشمس: وهو القحط والجدب. 6 جمع ذحل كشمس أيضًا: وهو الثأرز 7 الشدة: 8 الدعوة العامة: والنقرى: الدعوى الخاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وإن أُسِيء إليه غَفَرَ، ثم يكون من وراء ذلك لرعيته عمادًا، يدفع عنهم الملمات، ويكشف عنهم المعضلات"؛ فقال له معاوية: ها هنا يا أبا بحر، ثم تلا: "ولتعرفنهم في لحن القول1". "زهر الآداب 1: 57"   1 أي في معناه وفحواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 356- وفد أهل العراق على معاوية وفيهم الأحنف : ولما قدم وفد أهل العراق على معاوية، وفيهم الأحنف، خرج الآذن، فقال: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم ألا يتكلم أحد إلا لنفسه؛ فلما وصلوا إليه قال الأحنف: "لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن دافة1 دفت، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، ونابتة نبتت، وكلهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره"، فقال: حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الغائب والشاهد. "نهاية الأرب 7: 237، والبيان والتبيين 2: 43"   1الدافة: الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد، يقال: دفت علينا من بني فلان دافة، والدافة أيضًا: قوم من الأعراب يريدون المصر، والدافة: الجيش يدفون نحو العدو أي يدبون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وفد أهل العراق على معاوية ومعهم زياد وفيهم الأحنف : وفد أهل العراق على معاوية، ومعهم زياد بن أبيه، وفيهم الأحنف بن قيس، فقال زياد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 خطبة زياد ... 357- خطبة ياد: "يا أمير المؤمنين: أشخصت إليك أقوامًا الرغبةُ، وأقعدَ عنك آخرينَ العذرُ؛ فقد جعل اللهُ تعالى في سعةِ فضلك ما يجبرُ به المتخلَّفُ، ويكافأ به الشاخصُ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 358- خطبة معاوية : فقال معاوية: "مرحبًا بكم يا معشر العرب، أما والله لئن فرقت بينكم الدعوة، لقد جمعتكم الرحم، إن الله اختاركم من الناس ليختارنا منكم، ثم حفظ عليكم نسبكم بأن تخير لكم بلادًا يجتاز عليها المنازل، حتى صفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها، فصونوا أخلاقكم، ولا تدنسوا أنسابكم وأعراضكم، فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه، والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 359- خطبة الأحنف بن قيس : فقال الأحنف: "والله يا أمير المؤمنين ما نعدم منكم قائلًا جزيلًا1، ورأيًا أصيلًا، ووعدًا جميلًا، وإن أخاك زيادًا لمتبع آثارك فينا، فنستمتع الله بالأمير والمأمور؛ فإنكم كما قال زهير -فإنه ألقى على المداحين فصول القول-: وما يكُ من خير أتوه فإنما ... توارثه آباءُ آبائهم قبلُ وهل ينبت الخطَّيَّ إلا وشيجُه ... وتغرس إلا في منابتها النخلُ"2 "زهر الآداب 1: 58"   1 الجزيل: العاقل الأصيل الرأي. 2 الخطي: الرمح، نسبة إلى الخط: مرفأ السفن بالبحرين تنسب إليه الرماح لأنها تباع به لا أنه منبتها، والوشيج، شجر الرماح جمع وشيجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 360- وفد العراق على معاوية وفيهم دغفل النسابة : قدم وفد العراق على معاوية، وفيهم دغفل1؛ فقال له معاوية: يا دغفل أخبرني عن ابني نزار: ربيعة ومضر، أيهما كان أعز جاهلية وعالمية؟ فقال: يا أمير المؤمنين مضر بن نزار كان أعز جاهلية وعالمية. قال معاوية: وأي مضر كان أعز؟ قال:   1هو دغفل بن حنظلة النسابة من بني شيبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 بنو النضر بن كنانة، كانوا أكثر العرب أمجادًا، وأرفعهم عمادًا وأعظمهم رمادًا. قال: فأي بني كنانة كان بعدهم أعزّ؟ قال: بنو مالك بن كنانة، كانوا يعلون من ساماهم، ويكفون من ناوأهم، ويصدقون من عاداهم. قال: فمن بعدهم؟ قال: بنو الحرب بن عبد مناة بن كنانة، كانوا أعزّ بنيه وأمنعهم، وأجودهم وأنفعهم. قال: ثم من بعدهم؟ قال: بنو بكر بن عبد مناة، كان بأسهم مرهوبًا، وعدوهم منكوبًا، وثأرهم مطلوبًا. قال: فأخبرني عن مالك بن عبد مناة بن كنانة، وعن مرة وعامر ابني عبد مناة. قال: كانا أشرافًا كرامًا، وليس للقوم أكفاء ولا نظراء. قال: فأخبرني عن بني أسد؟ قال: كانوا يطعمون السديف1، ويكرمون الضيوف، ويضربون في الزحوف2، قال: فأخبرني عن هذيل، قال: كانوا قليلًا أكياس3، أهل منعة وباس، ينتصفون من الناس، قال: فأخبرني عن بني ضبة؟ قال: كانوا جمرة من جمرات العرب الأربع4، لا يُصطَلَى بنارهم، ولا يفاتون بثارهم، قال: فأخبرني عن مزينة، قال: كانوا في الجاهلية أهل منعة، وفي الإسلام أهل دِعَة. قال: فأخبرني عن تميم، قال: كانوا أعزّ العرب قديمًا، وأكثرها عظيمًا، وأمنعها حريمًا، قال: فأخبرني عن قيس، قال: كانوا لا يفرحون إذا أُدِيلوا5، ولا يجزعون إذا ابتلوا، ولا يبخلون إذا سئلوا، قال: فأخبرني عن أشرافهم في الجاهلية، قال: غطفان بن سعد وعامر بن صعصعة وسليم بن منصور؛ فأما غطفان فكانوا كرامًا سادة، وللخميس6   1 شحم السنام. 2 مصدر زحف أو جمع زحف كشمس وهو الجيش يزحفون إلى العدو. 3 جمع كيس: وهو العاقل. 4 قال صاحب العقد: "جمرات العرب، هم بنو نمير بن عامر بن صعصعة، وبنو الحارث بن كعب، وبنو ضبة بن أد بن طانجة، وبنو عبس بن بغيض، وإنما قيل لهذه القبائل جمرات؛ لأنها تجعت في أنفسها، ولم يدخلوا معهم غيرهم، والتجمير: التجميع، ومنه قيل: جمرة العقبة لاجتماع الحصى فيها، ومنه قيل: لا تجمروا المسلين فتفنوهم، وتفتنوا نساءهم، يعني لا تجمعوهم في المغازي.. إلخ"- العقد 2: 57. 5 أداله الله من عدوه: نصره عليه. 6 الخميس: الجيش. سمي بذلك لأنه خمس فرق: المقدمة، والقلب، والميمنة، والميسرة، والمؤخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 قادةٌ، وعن البَيْض ذادَةٌ1؛ وأما بنو عامر فكثيرٌ سادتهم، مخشيةٌ سَطوتُهم، ظاهرة نجدتُهم؛ وأما بنو سليم فكانوا يدركون الثار، ويمنعون الجار، ويعظمون2 النار، قال: فأخبرني عن قومك بكر بن وائل واصدقْني، قال: كانوا أهل عز قاهر، وشرف ظاهر، ومجد فاخر، قال: فأخبرني عن إخوتهم تغلب، قال: كانوا أسودًا تُرهب، وسمامًا3 لا تُقرب، وأبطالًا لا تكذب، قال: فأخبرني كم أُدِيلوا عليكم في قتلكم كليبًا؟ قال: أربعين سنة، لا ننتصف منهم في موطن نلقاهم فيه، حتى كان يوم التحاليق، يوم الحارث من عُباد بعد قِتلة ابنه بجير، وكان أرسله في الصلح بين القوم فقتله مهلهل، وقال: بُؤْ بشِسْعِ4 نعلِ كليب، فقال الغلام: إن رضيَت بهذا بنو بكر رضيتُ؛ فبلغ الحارث، فقال: نعم القتيل قتيلًا إن أصلح الله به بين بكر وتغلب وباء بكليب، فقيل له: إنما قال مهلهل ما قال "الكلمة5"، فتشمر الحرث للحرب، وأمرنا بحلق رءوسنا أجمعين، وهو يوم التحاليق، وله خبر طول، وقال: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال6 لم أكن من جناتها -علم الله- ... وإني بحرها اليوم صالي قربا مربط النعامة مني ... إن بيع الكرام بالشسع غالي فأدلنا عليهم يومئذ؛ فلم نزل منهم ممتنعين إلى يومنا هذا. قال: فمن ذهب يذكر ذلك اليوم؟ قال: الحارث بن عباد، أسر مهلهلًا في ذلك اليوم، وقال له: دلني على مهلهل بن ربيعة، قال: مالي إن دللتك عليه؟ قال: أطلقك، قال: على الوفاء؟ قال: نعم، قال له: أنا مهلهل، قال: ويحك! دُلَّني على كفءٍ كريم، قال: امرؤ القيس7   1 البيضة: حوزة كل شيء وساحة القوم، وبيضة الدار: وسطها. 2 كناية عن الكرم. 3 جمع سم مثلث السين. 4 الشسع: سير يشد به النعل. 5 هي قوله "بؤ بشسع نعل كليب". 6 النعامة: اسم فرسه، ولقحت الناقة: قبلت اللقاح وحالت حيالًا: لم تلقح سنة، أو سنتين أو سنوات. 7 هو امرؤ القيس بن أبان التغلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 وأشار بيده إليه عن قرب؛ فأطلقه الحارث، وانطلق إلى امرئ القيس فقتله، وبكر كلها صبرت وأبلت فحسن بلاؤها؛ إلا ما كان من ابني لُجَيم: حذيفة وعِجْل، ويشكر بن بكر، فإن سعد بن مالك بن ضبيعة جد طرفة بن العبد، هجاهم في ذلك اليوم، فقال: إن لجيمًا عجزت كلها ... أن يرفدوني فارسًا واحدا1 ويشكر العام على خترها ... لم يسمع الناس لهم حامدا2 وقال فيهم أيضًا: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا3 إنا وإخوتنا غدًا ... كثمود حجر يوم طاحو4 بالمشرفية لا نفرّ ... ولا نباح ولن تباحوا5 من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح6 فقال معاوية: أنت والله يا دغفل أعلم الناس قاطبة بأخبار العرب". "ذيل الأمالي 26"   1 الإرفاد: الإعانة والإعطاء. 2 الختر: الغدر أو أقبحه. 3 أراهط: جمع الجمع لرهط. 4 الحجر: واد بين المدينة والشام: مساكن ثمود قوم صالح. 5 مشارف الشام: قرى من أرض العرب تدنوا من الريف منها السيوف المشرفية. وفي ذيل الأمالي "ولا نباح ولن نباحوا" بالنون، وقد أصلحته "ولن تباحوا" بالتاء على الالتفات من التكلم إلى الخطاب، أي ولن تباحوا يا قوم ما دمنا لكم حماة، وقال مصحح الأمالي: "ولن نباحوا" كذا في الأصل، ولعل هنا تحريفًا، ووجه الكلام "كمن يباح". 6 قولهم لا براح كقولهم لا ريب، ويجوز رفعه فتكون لا بمنزلة ليس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 361- دغفل وجماعة من الأنصار : ووقف جماعة من الأنصار على دغفل بعد ما كفّ؛ فسلموا عليه، فقال: من القوم؟ قالوا: سادة اليمن، فقال: "أمن أهل مجدها القديم، وشرفها العميم، كندة؟ قالوا: لا، قال: "فأنتم الطوال قصبًا، والممحصون نسبًا، بنو عبد المدان؟ " قالوا: لا، قال: "فأنتم أقودها للزحوف، وأخرقها للصفوف، وأضربها بالسيوف، رهط عمر بن معد يكرب؟ " قالوا: لا، قال: "فأنتم أحضرها قراء1، وأطيبها فناء، وأشدها لقاء، رهط حاتم بن عبد الله؟ " قالوا: لا، قال: فأنتم الغارسون للنخل، والمطعمون في المحل2، والقائلون بالعدل، الأنصار؟ " قالوا: نعم. "الأمالي 2: 287"   1 قرى الضيف كرمى قِرًى بالكسر، والقصر: وقراه بالفتح والمد: أضافه. 2 المحلّ: الجدب والشدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 دغفل أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان ... 362- وفد أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان: قال عبد الملك بن مروان يومًا لجلسائه: خبروني عن حي من أحياء العرب، فيهم أشد الناس، وأسخى الناس، وأخطب الناس، وأطوع الناس في قومه، وأحلم الناس، وأحضرهم جوابًا. قالوا: يا أمير المؤمنين ما نعرف هذه القبيلة؛ ولكن ينبغي لها أن تكون في قريش، قال: لا، قالوا: ففي حمير وملوكها، قال: لا، قالوا: ففي مضر، قال: لا، قال مصقلة بن رقية العبدي: فهي إذن في ربيعة، ونحن هم، قال: نعم، قال جلساؤه: ما نعرف هذا في عبد القيس إلا أن تخبرنا به يا أمير المؤمنين، قال: نعم. أما أشد الناس؛ فحكيم بن جبل، كان مع علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 فقطعت ساقه؛ فضمها إليه، حتى مرَّ به الذي قطعها، فرماه بها فجدله1 عن دابته، ثم جثا إليه فقتله واتكأ عليه، فمر به الناس، فقالوا له: يا حكيم، من قطع ساقك؟ قال: وسادى2 هذا، وأنشأ يقول: يا ساق لا تراعي ... إن معي ذراعي أحمي بها كراعي3 وأما أسخى الناس فعبد الله بن سوار، استعمله معاوية على السند؛ فسار إليها في أربعة آلاف من الجند، وكانت توقد معه نار حيثما سار، فيطعم الناس، فبينما هو ذات يوم إذ أبصر نارًا، فقال: ما هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير، اعتل بعض أصحابنا، فاشتهى خبيصًا4، فعملنا له، فأمر خبازه ألا يطعم الناس إلا الخبيص، حتى صاحوا وقالوا: أصلح الله الأمير، ردنا إلى الخبز واللحم، فسمي مطعم الخبيص. وأما أطوع الناس في قومه؛ فالجارود بن بشر بن العلاء؛ فإنه لما قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدت العرب، خطب قومه؛ فقال: "أيها الناس: إن كان محمد قد مات، فإن الله حي لا يموت، فاستمسكوا بدينكم، فمن ذهب له في هذه الردة دينار أودرهم أو بعير أو شاة، فله عليَّ مِثْلاه" فما خالفه منهم رجل. وأما أحضر الناس جوابًا، فصعصة بن صوحان، دخل على معاوية في وفد أهل العراق، فقال معاوية: مرحبًا بكم يا أهل العراق، قدمتم أرض الله المقدسة، منها المنشر، وإليها المحشر، قدمتم على خير أمير يَبَرُّ كبيرَكم، ويرحمُ صغيرَكم، ولو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماءَ عقلاءَ؛ فأشار الناس إلى صعصعة فقام: فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال:   1 جدله: صرعه على الجدالة "كسحابة" وهي الأرض. 2 الوساد: المتكأ، والمخدة كالوسادة ويثلث. 3 لا تراعي: لا تفزعي، والكراع: جماعة الخيل. 4 الخبيص: نقى الدقيق يخلط بالعمل، والخبيصة: أخص منه، وخبص الحلواء كضرب، وخبصها: بالتشديد خلطها وعملها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 "أما قولك يا معاوية: إنا قدمنا الأرض المقدسة؛ فلعمري، ما الأرض تقدس الناس، ولا يقدس الناسَ إلا أعمالهُم، وأما قولك: منها المنشرُ، وإليها المحشرُ، فلعمري، ما ينفعُ قربُها، ولا يضرُّ بُعدُها مؤمنًا، وأما قولك: لو أن الناسَ كلَّهم ولدُ أبي سفيان لكانوا حلماءَ عقلاءَ؛ فقد وَلَدَهُم خيرٌ من أبي سفيان آدمُ صلوات الله عليه، فمنهم الحليمُ والسفيهُ، والجاهلُ والعالمُ". وأما أحلمُ الناس، فإن ولد عبد القيس قدموا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقاتهم وفيهم الأشج1، ففَرَّقَها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أول عطاء فَرَّقَه في أصحابه، ثم قال: يا أشجُّ ادنُ مني؛ فَدَنَا منه، فقال: "إن فيك خلتين يحبهما الله: الأناة، والحلم" وكفى برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاهدًا، ويقال: إن الأشج لم يغضبْ قطُّ2. "العقد الفريد 2: 56"   1 هو عبد الله بن عوف الأشجّ. 2 هذا المقال يزيد على العنوان الذي عنونته به، وقد أردت من ذلك استيفاء حديث عبد الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 263- وفود العرب ومعاوية : عن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، قال: عقمتِ النساءُ أن يلدنَ مثل عمِّي! شهدته يومًا، وقد قدمت عليه وفود العرب، فقضى حوائجهم، وأحسن جوائزهم؛ فلما دخلوا عليه ليشكروه، سبقهم إلى الشكر، فقال لهم: "جزاكم الله يا معشر العرب عن قريش أفضل الجزاء، بتقدمكم إياهم في الحرب، وتقديمكم لهم في السلم، وحقنكم دمائهم بسفكِها منكم، أما والله لا يُؤثِر عليكم غيرَكم منهم حازمٌ كريمٌ، ولا يرغبُ عنكم منهم إلا عاجزٌ لئيمٌ، شجرةٌ قامت على ساق، فتفرع أعلاها، واجتمع أصلُها، عَضَدَ الله من عَضَدَها، فيالها كلمةً لو اجتمعت! وأيدٍ لو ائتلفت! ولكن كيف بإصلاح ما يريد الله إفسادَه؟ ". "العقد الفريد 2: 41" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 364- وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية : وفد عبد العزيز1 بن زرارة على معاوية، وهو سيد أهل الكوفة؛ فلما أذن له وقف بين يديه، وقال: "يا أمير المؤمنين: لم أزل أَهُزُّ ذوائب2 الرحال إليك، إذا لم أجِد معولًا إلا عليك، أمتطي الليل بعد النهار، وأسم المجاهلَ بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، والمجتهد يعذر، وإذا بلغتُك فَقَطْنِي4"، فقال معاوية: احْطُطْ عن راحلتك رَحْلَها. وروى الجاحظ هذا القول بصورة أخرى، فقال: "ولما وصل عبد العزيز بن زرارة إلى معاوية قال: "يا أمير المؤمنين، لم أزل أتسدل بالمعروف عليك، وأمتطي النهار إليك؛ فإذا ألوى5 بي الليل، فقبض البصر، وعفَّى الأثر، أقام بدني، وسافر أملي، والنفس تلوم، والاجتهاد يعذر، وإذ بلغتك فَقَطْنِي". وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة6، فهلك هناك، فكتب يزيد إلى أبيه معاوية بذلك، فقالت معاوية لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب، قال زرارة: يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك؟ قال: بل ابنك، قال: للموت ما تلد الوالدة. "العقد الفريد 1: 118، وصبح الأعشى 1: 257، والبيان والتبيين 2: 37، والأمالي 1: 201"   1 في صبح الأعشى "عبد العزى" وفي الأمالي: "قال رجل لعبد الملك بن مروان.. إلخ". 2 جمع ذؤابة: وهي الجلدة المعلقة على آخرة الرحل، وفي صبح الأعشى "ذوائب الرجاء". 3 وسمه بسمة: علمه بعلامة. 4 فحسبي. 5 المراد جنَّ عليَّ، وأحدقتْ بي ظلمتُه، يقال: ألوى به: ذهب به، وألوت به العنقاء: طارت به، وألوى بما في الإناء: استأثر به. 6 الصائفة: غزوة الروم؛ لأنهم كانوا يغزون صيفًا لمكان البرد والثلج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وفود زيد بن منية على معاوية ... 365- وفود زيد ابن مُنْيَة على معاوية: قدم زيد ابن منية على معاوية من البصرة، "وهو أخو يَعْلَى ابن منية1 صاحب جمل عائشة، ومتولّي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة، وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج ابنة يعلى ابن منية"؛ فلما دخل على معاوية شكا إليه دينًا لَزِمَه، فقال: يا كعب أعطه ثلاثين ألفًا، فلما ولَّى قال: وليومِ الجملِ ثلاثين ألفًا أخرى، ثم قال له: الحق بصهرك، "يعني عتبة، وكان يومئذ عامل مصر" فقدم عليه مصر، فقال: "إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف، ألبس أردية الليل مرة، وأخوض في لجج السراب2 أخرى، موقرًا3 من حسن الظن بك، وهاربًا من دهر فطم4، ودين لزم5، بعد غنًى جدعنا به أنوف الحاسدين؛ فلم أجد إلا إليك مهربًا، وعليك معولًا"، فقال عتبة: "مرحبًا بك وأهلًا، إن الدهر أعاركم غِنًى وخلطكم بنا، ثم استرد ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منا ما لا ضيقة6 معه، وأنا واضع يدي ويدك بيد الله"؛ فأعطاه ستين ألفًا كما أعطاه معاوية. "العقد الفريد 1: 118، وصبح الأعشى 1: 257".   1 في صبح الأعشى والعقد "منبه" بالباء وهو تصحيف والصواب "منية" وهو اسم أمه، واسم أبيه أمية، والتصحيح من تاريخ الكامل لابن الأثير. وكان يعلى عاملًا لعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على اليمن؛ فلما ولي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الخلافة عزله، وولى على اليمن عبيد الله بن عباس، فانصرف يعلى إلى مكة ومعه مال كثير، وانضم إلى السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها في قتال عليٍّ في وقعة الجمل. 2 السراب: ما تراه نصف النهار كأنه ماء. 3 محملًا من الوقر بالكسر: وهو الحمل الثقيل أو أعم، وأوقر الدابة إيقارًا. 4 يروى بالفاء والقاف، فطمه وقطمه: قطعه، وضبط في صبح الأعشى بالقاف، وبالطاء المكسورة وصف من قطم كفرح: اشتهى اللحم أو غيره. 5 وفي صبح الأعشى: "ودين أزم" وأزم كضرب وفرح: عض بالفم كله شديدًا. 6 الضيقة: الفقر وسوء الحال، ويفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 366- وفود ضرار بن حمزة الصدائي على معاوية: دخل ضرار بن حمزة الصدائي1 "وكان من خواص علي كرم الله وجهه" على معاوية وافدًا؛ فقال له: يا ضرار، صف لي عليًّا، قال: أعفِني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، قال: "أما إذ لا بد من وصفه؛ فكان والله بعيد المدى2، شديد القوى، يقول فضلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يُقَلِّبُ كفِّه، ويخاطب نفسه، يعجبُه من اللباس ما قَصُرَ، ومن الطعام ما خَشُنَ، كان فينا كأحدِنا، يجيبُنا إذا سألناه، ويُنبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين ويحب المساكين؛ لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيفُ من عدله. وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله3، وغارت نجومُه، وقد مثل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململُ تململَ السليم4، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غَيْرِي، ألي تعرضتِ، أم إليَّ تشوفتِ؟ هيهاتَ هيهاتَ! قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها؛ فعمرك قصيرٌ، وخَطَرُك5 حقيرٌ، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق! " فبكى معاويةُ وقال: رحم الله أبا الحسن، فلقد كان كذلك، فكيف حزنُك عليه يا ضرار؟ قال: حُزْنُ من ذُبِحَ واحدُها في حِجْرِها. "الأمالي 2: 149، ومروج الذهب 2: 47، وشرح ابن أبي الحديد م4: ص276، وزهر الآداب 1: 47"   1 صُدَاء كغراب: حي باليمن. 2 الغاية. 3 السدول: جمع سدل بالضم والكسر، وهو الستر. 4 السليم: الملدوغ، وسُمِّيَ بذلك تفاؤلا له بالسلامة، كما تسمى البيداء مفازة: تفاؤلًا بالفوز. 5 الخطر: القدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الوافدات على معاوية : 367- وفود سودة بنت عمارة على معاوية : وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان؛ فاستأذنت عليه فأذن لها، لما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال لها: أنت القائلة لأخيك يوم صفين؟: شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليًّا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخو النبي محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان فَقُدِ الجيوشَ وسر أمام لوائه ... قدمًا بأبيضَ صارم وسنان1 قالت: إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق، أو اعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك؟ قالت: حب علي عليه السلام، واتباع الحق، قال: فوالله ما أرى عليك من أثر عليٍّ شيئًا، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى، وتذكار ما قد نُسِيَ، قال: هيهات! ما مثل مقام أخيك ينسي، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك، قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام ذليل المكان؛ ولكن كما قالت الخنساء: وإن صخرًا لتأتمُ الهداةُ به ... كأنه علم في رأسه نار2   1 القدم: الشجاع؛ وفي بلاغات النساء: "فقه الحتوف وسر أمام لوائه". 2 العلم: الجبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 قال: صدقت، لقد كان كذلك، فقالت: مات الرأس وبتر الذنب، وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي؛ مما استعفيت منه، قال: قد فعلت، قولي حاجتك، قالت: يا أمير المؤمنين، إنك أصبحت للناس سيدًا، ولأمورهم متقلدًا، والله سائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس1 البقر، ويسومنا2 الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، هذا ابن أرطأة3 قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عزٌّ ومنعة؛ فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أحملك على قَتَبٍ4 أشرس فأردَّكِ إليه، ينفذ فيك حكمَه، فأطرقتْ تبكي، ثم أنشأت تقول: صلى الإله على روحٍ تَضَمَّنَه ... قبرٌ فأصبح فيه العدلُ مدفونا قد حالفَ الحقَّ لا يبغِي به ثمنًا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا قال: ومن ذلك؟ قالت: عليّ بن أبي طالب، رحمه الله تعالى، قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟ قالت: أتيته يومًا في رجل ولاه صدقاتنا؛ فكان بيننا وبينه ما بين الغث5 والسمين، فوجدته قائمًا يصلي، فانفتل من الصلاة، ثم قال برأفة   1الدوس والدياس والدياسة: الوطء بالرجل. 2 يكلفنا. 3 هو بسر بن أرطأة، وقيل ابن أبي أرطأة، وكان معاوية في أيام عليٍّ سيره إلى الحجاز واليمن ليقتل شيعة عليٍّ ويأخذ البيعةَ له؛ فسار إلى المدينة، ففعل بها أفعالًا شنيعة، وسار إلى اليمن؛ وكان عليها عبيدَ الله بن العباس من قبل عليٍّ، فهرب عبيدُ الله فَنَزَلَها بسر، وذبح عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله وهما صغيران بين يدي أمهما عائشة بنت عبد المدان؛ فأصابها من ذلك حزنٌ عظيمٌ؛ فأنشأت تقول: يا من أحسن بني اللذين هما ... كالدرتينِ تشظَّى عنهما الصدفُ يا من أحس بني اللذين هما ... سمعِي وقلبي؛ فقلبي اليوم مختطف يا من أحس بني اللذين هما ... مخ العظام؛ فمخي اليوم مزدهف 4 القتب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير، والمراد به هنا البعير لوصفه بالأشرس ففيه مجاز؛ أو الأشرس: الخشن الغليظ. 5 الغث: المهزول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وتعطف: ألكِ حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل؛ فبكى ثم رفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم إنك أنت الشاهد عليَّ وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب، فكتب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ 1 وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا 2 فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ، إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتى يأتي من يقبضه منك والسلام". فأخذته منه والله ما خَزَمَه بِخِزام، ولا ختمه بختام3 فقرأته، فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها، والعدل عليها؛ فقالت: أليّ خاصة، أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم، إن لم يكن عدلًا شاملًا، وإلا يسعني ما يسع قومي، قال: هيهات! لَمَّظَكم4 ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئًا ما تفطمون، وغرَّكم قوله: فلو كنت بوابًا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام وقوله: ناديت همدان والأبواب مُغْلَقَةٌ ... ومثل همدان سَنَّى فتحة الباب5 كالهندواني لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب6 اكتبوا لها ولقومها. "العقد الفريد 1: 129، وبلاغات النساء ص35"   1 القسط: العدل. 2 عثا يعثوا عثوا: أفسد 3 الخزام جمع خزامة بالكسر، وهي في الأصل: حلقة تجعل في أحد جانب منخري البعير، وحزامة النعل: سير رقيق يخزم بين الشراكين. الختام: الطين يختم به على الشيء، "والخاتم: ما يوضع على الطينة". 4 التلمظ: التذوق، وأن يحرك الإنسان لسانه في فمه بعد الأكل، يتتبع به بقية من الطعام بين أسنانه، ويخرجه فيمسح به شفتيه، واسم ما بقي في الفم اللُّماظة بالضم، ويقال: لمظ فلانًا "بالتشديد" لماظة: أي شيئًا يتلمظه، ولمظه من حقه شيئًا: أعطاه "والعامة تبدل الظاء ضادًا". 5 سناه تسنية: سهله وفتحه. 6 سيف هندواني بكسر الهاء، ويجوز ضمها إتباعا للدال منسرب إلى الهند، ووجاب من وجب القلب وجيبًا إذا خفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 368- وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية : حبس مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، في خلافة معاوية، غلامًا من بني ليث في جناية جناها؛ فأتته جدة الغلام، وهي أم سنان بنت خيثمة1 المذحجية؛ فكلمته في الغلام فأغلظ لها مروان، فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه فانتسبت فعرفها، فقال لها: مرحبًا بك يا بنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا، وقد عهدتك تشتميننا2 وتحضين علينا عدوَّنا؟ قالت: إن لبني عبد مناف أخلاقًا طاهرة، وأعلامًا ظاهرة، وأحلامًا وافرة، لا يجهلون بعد علم، ولا يسفهون بعد حلم، ولا ينتقمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت، قال: صدقت، نحن كذلك، فكيف قولك؟ عَزَبَ الرقادُ، فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد3 يا آل مذحج لا مقامَ فشمروا ... إن العدوَّ لآل أحمد يقصد هذا عليٌّ كالهلال تحفُّه ... وسط السماء من الكواكب أسعُد4 خير الخلائق وابن عم محمد ... إن يهدكم بالنور منه تهتدوا ما زال مذ شهد الحروب مظفرا ... والنصر فوق لوائه ما يفقد قالت: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفًا بعده؛ فقال رجل من جلسائه. كيف يا أمير المؤمنين؟ وهي القائلة: إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحق تعرف هاديًا مهديّا فاذهب -عليك صلاة ربك- ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريّا5   1 في صبح الأعشى "جشمية"، وهو تحريف: وتحريره: ما ذكرنا. 2 وفي بلاغات النساء: "تشنئين قربى" أي تبغضين. 3 عزب: بعد. 4 سعود النجوم عشرة: سعد بلع "بضم ففتح" وسعد الأخبية، وسعد الذابح، وسعد السعود، وهذه الأربعة من منازل القمر، وسعد ناشرة، وسعد الملك، وسعد البهام ككتاب، وسعد الهمام كشجاع، وسعد البارع، وسعد مطر وهذه الستة ليست من المنازل. 5 ضرب من الحمام والجمع قمارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 قد كنت بعد محمد خلفًا كما ... أوصى إليك بنا، فكنت وفيّا واليوم لا خلفٌ يؤمل بعده ... هيهات نأمل بعده إنسيّا قالت: يا أمير المؤمنين لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقق فيك ما ظنناه، لحظك الأوفر، والله ما أورثك الشنآنُ1 في قلوب المسلمين إلا هؤلاء؛ فأدحض مقالتهم، وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربًا، ومن المؤمنين حبًّا، قال: وإنك لتقولين ذلك؟ قالت: يا سبحان الله، والله ما مثلك من مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا، وضمير قلوبنا، كان والله عليٌّ أحبَّ إلينا منك، وأنت أحب إلينا من غيرك قال: ممن؟ قالت: من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبم استحققتُ ذلك عندك؟ قالت بسعة حلمك، وكريم عفوك، قال: وإنهما يطمعان في ذلك؟ قالت: هما والله لك من الرأي على مثل ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله تعالى2. قال: والله لقد قاربت، فما حاجتك؟ قالت: يا أمير المؤمنين إن مروان تَبَنَّكَ3 بالمدينة تبنك من لا يريد منها البراح، لا يحكم بعدلٍ. ولا يقضي بسنةٍ، يتتبع عثراتِ المسلمين، ويكشف عوراتِ المؤمنين، حبس ابن ابني؛ فأتيتُه، فقال: كيت وكيت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمر من الصبر، ثم رجعت إلى نفسي باللائمة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه، أتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرًا، وعليه معديًا4، قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه. قالت: يا أمير المؤمنين، وأنَّى لي بالرجعة، وقد نفد زادي، وكلت راحلتي، فأمر لها براحلة موطأة، وخمسة آلاف درهم. "العقد الفريد 1: 131، وصبح الأعشى 1: 257، وبلاغات النساء ص67"   1 البغض. 2 تريد أنهما يأملان الخلافة بعدك كما كنت تأملها بعد عثمان. 3 تبنك به: أقام. 4 أعداه عليه: نصره، وأعانه، وقواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 369- وفود بكارة الهلالية على معاوية : استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة، فدخلت عليه، كانت امرأة قد أسنت، وعشي1 بصرها، وضعفت قوتها، ترعش بين خادمين لها، فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام، وقال: كيف أنت ياخالة؟ فقالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: غيرك الدهر، قالت: كذلك هو ذو غير2، من عاش كبر، ومن مات قبر، قال عمرو بن العاص: هي والله القائلة يا أمير المؤمنين: يا زيدُ دونك فاحتقر من دارنا ... سيفًا حسامًا في التراب دفينا قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونًا قال مروان: وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين: أترى ابن هند للخلافة مالكًا! ... هيهاتَ، ذاك -وإن أراد- بعيدُ مَنَّتْكَ نفسُك في الخلاء ضلالة ... أغراك عمرو للشقا وسعيد قال سعيد بن العاص هي والله القائلة: قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى ... فوق المنابر من أمية خاطبا فالله أخر مدتي فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا في كل يوم للزمان خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائبا ثم سكت القوم؛ فقالت بكارة: نبحتني كلابُك يا أمير المؤمنين واعتورتني، فقصُر محجني3، وكثر عجبي، وعشي بصري، وأنا والله قائلة ما قالوا، لا أدفع ذلك بتكذيب، وما خفي عليك مني أكثر، فامض لشأنك، فلا خير في العيش بعد   1 ضعف. 2 ذو أحداث. 3 تناولني وتداولتني، والمحجن: العصا المعطوفة الرأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 أمير المؤمنين، فضحك معاوية وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك، قالت: أما الآن فلا. وقيل: إنه قد قضى حوائجها وردها إلى بلدها. "العقد الفريد 1: / 130، وبلاغات النساء ص39" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 370- وفود أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية : دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية وهي عجوز كبير؛ فلما رآها معاوية قال: مرحبًا بك وأهلًا يا عمة، فكيف كنتِ بعدنا؟ فقالت: "يابن أخي، لقد كفرتَ يد النعمة، وأسأتَ لابن عمِك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير بلاء كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام، ولقد كفرتم بما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأتعس الله منكم الجدود1، وأضرع2 منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله، ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المنصور؛ فوليتم علينا من بعده -وتحتجون بقرابتكم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر- فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنزلة هارون من موسى3؛ فغايتنا الجنة، وغايتكم النار". فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالّة، وأقصري من قولك، وغضي   1 جمع جد: وهو الحظ. 2 أذل، وفي بلاغات النساء "وأصعر". 3 ورواية بلاغات النساء: "فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظًّا، ونصيبًا وقدرًا، حتى قبض الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مغفورًا ذنبه، مرفوعًا درجته، شريفًا عند الله مرضيًّا، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هرون من موسى حيث يقول: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} ولم يجمع بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شملٌ، ولم يسهل لنا وعرٌ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 من طَرْفك قالت: ومن أنت، لا أمَّ لك؟ قال: عمرو بن العاص، قالت: يابن اللخناء1 النابغة تتكلم، وأمك كانت أَشْهَرَ امرأة تغنِّي بمكة، وآخَذَهُنّ لأجرة! ارْبَع على ظَلْعِك، واعنَ بشأنِ نفسك؛ فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك خمسة2 نفر من قريش، كلهم يزعم أنه أبوك؛ فسئلت أمك عنهم، فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به، فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل، فلحقت به، ولقد رأيت أمك أيام مِنًى بمكة مع كل عبدٍ عاهر3، فَأْتَمَّ بهم فإنكَ بهم أشبَهُ. فقال مروان: كفى أيتها العجوزُ، وأقصرِي لما جئت له، ساخ بصرُك مع ذهاب عقلِك، فلا تجوز شهادتُك، فقالت: وأنت أيضًا يابن الزرقاء تتكلم؟ فوالله لأنت إلى سفيانِ بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم، وإنك لَشَبْهُه في زرقة عينيك، وحمرة شعرِك، مع قصرِ قامته، وظاهرِ دمامته4، ولقد رأيتُ الحكمَ مادّ5 القامة، ظاهر الإمّة6، سبط7 الشعر، وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرسِ الضامر من الأتان المُقْرِب8؛ فاسأل أمك تخبرك بشأن أبيك إن صدقتْ، ثم التفتتْ إلى معاوية، فقالت: والله ما جَرَّأَ علي هؤلاء غيرُك، وإن أمَّكَ لَلْقائلُة يومَ أحدٍ في قتل حمزةَ رحمة الله عليه: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحربُ بعد الحرب ذاتُ سُعر9 ما كان عن عتبَةَ لي من صَبْر ... أبي وعمي وأخي وصهري10   1 رجل ألخنُ وأمة لخناءُ: لم يختنا، ولخن السقاءُ، وغيرُه كفرح: أنتن، والجوزة فسدتْ، ومن شتم العرب "يابن اللخناء" كأنهم يقولون يا دنيء الأصل أو يا لئيم الأمِّ، والنابغةُ أمُّ عمرو، وقد تقدمت- انظر ص25. 2 وفي بلاغات النساء "ستة". 3 فاجر. 4 الدمامة: القبح. 5 ممتدها. 6 الإمة بالكسر ويضم: الشأن والنعمة والهيئة. 7 طويله. 8 الأتان: الحمارة، والمقرب التي قرب ولادها فيكون بطنها كبيرًا. 9 السعر بالفتح مصدر سعر الحرب: أي أوقدها، وبالضم: الجنون. 10 قتلوا أربعتهم يوم بدر: أبوها عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -قيل اشترك في قتله علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب- وعمها شيبة بن ربيعة -قتله حمزة- وأخوها الوليد بن عتبة -قتله علي- وابن زوجها حنظلة بن أبي سفيان -وليست هند أمه، قيل اشترك في قتله حمزة، وعلي، وزيد بن حارثة-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 شفيتَ وحشيُّ غليل صدري ... شفيت نفسي وقضيت نذري1 فشكرُ وحشيٍّ علي دهري ... حتى تَرِمَّ أعظمي في قبري2 فأجبتها: يا بنت جبار عظيم الكفر ... خزيت في بدر وغير بدر صبحك الله قبيل الفجر ... بالهاشميين الطوال الزهر3 بكل قطاع حسامٍ يفري ... حمزة ليثي، وعليٌّ صقري فقال معاوية لمروان وعمرو: ويلكما! أنتما ءضتماني لها، وأسمعتماني ما أكره، ثم قال لها: يا عمة اقصدي قصد حاجتك، ودعي عنك أساطير النساء، قالت تأمر لي بألفي دينار، وألفي دنيار، وألفي دينار، قال: ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟ قالت: أشتري بها عينًا خرخارة4 في أرض خوارة5، تكون لولد الحارث بن عبد المطلب, قال نعم الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟ قالت: أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم، قال: نعم الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار؟ قالت: أستعين بها على عسر المدينة، وزيارة بيت الله الحرام، قال: نعم الموضع وضعتها، هي لك نَعْمٌ وكرامة6، ثم قال: أما والله لو كان عليٌّ ما أمر لك بها، قالت: صدقت، إن عليًّا أدى الأمانة، وعمل بأمر الله، وأخذ به، وأنت ضيعتَ أمانتك، وخنتَ الله في ماله، فأعطيت مال الله من لا يستحقه، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبينها؛ فلم تأخذ بها، ودعانا "أي عليٌّ" إلى أخذ حقنا، الذي فرض   1 وحشي: غلام جبير بن مطعم قاتل حمزة يوم أحد. 2 رم العظمُ كضرب وأرم: بلي فهو رميم. 3 الزهر: الحسان البيض الوجوه. 4 الخرخار: الماء الجاري، أي عين ماء جارية. 5 المراد أرض سهلة تصلح للزراعة، من قولهم: خوار العنان، أي سهل المعطف، كثير الجري. 6 يقال: نعم عين ونعمة ونعام بفتحهن، ونعمى ونعامى ونعام ونعم ونعمة بضمهن، ونعمة ونعام بكسرهما: أي أفعل ذلك إنعامًا لعينك وإكرامًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الله لنا فشُغِلَ بحربِك عن وضع الأمور مواضعَها، وما سألتك شيئًا فتمن به؛ إنما سألتك من حقنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقنا، أتذكر عليًّا؟ فض الله فاك1، وأجهد بلاءك، ثم علا بكاؤها وجعلت تندب عليًّا؛ فأمر لها بستة آلاف دينار، وقال لها: يا عمة: أنفقي هذه فيما تحبين، فإذا احتجت فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك2 ومعونتك، إن شاء الله. "العقد الفريد 1: 134، بلاغات النساء ص32"   1 تدعو عليه: أي نثر الله أسنانك. 2 الصفد: العطاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 371- أم البراء بنت صفوان ومعاوية : استأذنت أم البراء بنت صفوان على معاوية فأذن لها؛ فدخلت عليه وعليها ثلاثة دروع1 "برود" تسحبها ذراعًا، قد لاثت2 على رأسها كورًا كالمنسف، فسلمت وجلست، فقال لها معاوية: كيف أنت يا بنة صفوان؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال: كيف حالك؟ قالت ضَعُفْتُ بعد جلد، وكسِلت بعد نشاط، قال: شتان بينك اليوم وحين تقولين: يا زيد دونك صارمًا ذا رونق ... عضب المهزة ليس بالخوار3 أسرج جوادك مسرعًا ومشمرًا ... للحرب غير معرد لفرار4 أجِب الإمامَ وذبَّ تحت لوائه ... والقَ العدو بصارمٍ بتار يا ليتني أصبحت لست قعيدة ... فأذب عنه عساكرَ الفجارِ قالت: قد كان ذلك، ومثلك من عفا، والله تعالى يقول: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} قال: هيهات، أما والله لو عاد لعدتِ؛ ولكنه   1 درع المرأة: قميصها "مذكر" ودرع الحديد مؤنث وقد يذكر. 2 اللوث: عصب العمامة، والكور: لوث العمامة وإدارتها، والمنسف: ما ينفض به الحب، شيء طويل منصوب الصدر أعلاه مرتفع. 3 العضب: السيف القاطع، والخوار من خار: إذا ضعف وكل. 4 عرد تعريدًا، وعرد كسمع: هرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 اخترم1 منك، قالت: أجل، والله إني لعلى بينة من ربي، وهدى من أمري، قال: كيف كان قولك حين قتل؟ قالت: أنسيته، قال بعض جلسائه: هو والله حين تقول: يا للرجال لعُظْم هَوْل مصيبة ... فَدَحَت فليس مصابها بالحائل2 الشمس كاسفة لفقد إمامنا ... خير الخلائق والإمام العادل يا خير من ركب المَطِيَّ ومن مشى ... فوق التراب لمحتف أو ناعل حاشا النبي لقد هددت قواءنا ... فالحق أصبح خاضعًا للباطل3 فقال معاوية: قاتلك الله! فما تركت مقالا لقائل، اذكري حاجتك، قالت: أما الآن فلا، وقامت فعثرت؛ فقالت: تعس شانئ عليٍّ4، فقال: زعمت أن لا، قالت: هو كما علمت؛ فلما كان من الغد بَعَثَ إليها بجائزة، وقال: إذا ضيعت الحلم، فمن يحفظه؟ "صبح الأعشى 1: 261 بلاغات النساء ص78"   1 هلك. 2 المتحول: المتغير. 3 جمع القوة قوى، وإنما قالت قواء بالمد للضرورة. 4 أي مبغضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 372- دارمية الحجونية ومعاوية : وحج معاوية سنة من سنيه، فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون1، يقال لها: دارمية الحجونية، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها، فبعث إليها، فجيء بها، فقال: ما حالك يابنة حامٍ؟ فقالت: لست لحامٍ إن عبتني، إنما أنا امرأة من بني كنانة، ثمتَ من بني أبيك، قال: صدقت، أتدرين لم بعثتُ إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: بعثت إليك لأسألك: علام أحببتِ عليًّا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك،   1 الحجون: جبل بمعلاة مكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 قالت: "أما إذ أبيت؛ فإني أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك1 ما ليس لك بحق؛ وواليت عليًّا على ما عقد له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الولاء2، وعلى حبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين؛ وعاديتك على سفكك الدماء، وشقك العصا، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى". قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك، قالت: يا هذا بهند3 والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي، قال معاوية: يا هذه اربعي4، فإنا لم نقل إلا خيرًا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى5 رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها، فرجعت وسكنت، فقال لها: يا هذه هل رأيت عليًّا؟ قالت: إي والله لقد رأيته، قال: فكيف رأيته؟ قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك، قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلوب من العمى، كما يجلو الزيت الطست من الصدأ، قال. صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت. أو تفعل إذا سألتك؟ قال. نعم، قالت. تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها، قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر، قال: فإن أعطيتك ذلك، فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: ماءٌ ولا كَصَدّاء6،   1 الطلبة: الطلب. 2 تشير إلى قوله: "اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه". 3 هي أمه هند بنت عتبة. 4 ربع: وقف وانتظر وتحبس. 5 ارتوى. 6 صداء: عين لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها. ويروى عن ابنة هانئ بن قبيصة: أنه لما قتل لقيط بن زرارة "من دارم" تزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطًا، فقال لها ذات مرة: ما استحسنت من لقيط؟ قالت: كل أموره حسن، ولكني أحدثك أنه خرج إلى الصيد مرة وقد ابتنى بي، فرجع إليّ، وبقميصه نضح من دماء صيد، والمسك يضوع من أعطافه، ورائحة الشراب من فيه، فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني مت ثمة، ففعل زوجها مثل ذلك ثم ضمها، وقال لها: أين أنا من لقيط؟ قالت: ماء ولا كصداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ومرعى ولا كالسعدان1، وفتى ولا كمالك2، سبحان الله أو دونه، فأنشأ معاوية يقول: إذا لم أعد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم خذيها هنيئًا، واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم ثم قال: أما والله لو كان عليٌّ حيًّا ما أعطاك منها شيئًا، قالت: لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين. "العقد الفريد 1: 132 وصبح الأعشى 1: 259 وبلاغات النساء ص67".   1 السعدان: نبت ذو شوك، وهو من أفضل مراعي الإبل، ولا تحسن على نبت حسنها عليه، وأول من قال ذلك الخنساء بنت عمرو بن الشريد، وذلك أنها أقبلت من الموسم؛ فوجدت الناس مجتمعين على هند بنت عتبة بن ربيعة؛ ففرجت عنها وهي تنشدهم مراثي في أهل بيتها؛ فلما دنت منها قالت: على من تبكين؟ قالت: أبكي سادة مضوا؛ قالت: فأنشديني بعض ما قلت؛ فأنشدتها، فقالت الخنساء: مرعى ولا كالسعدان ثم أنشدتها ما رثت به أخاها صخرًا، وقيل: إن المثل لامرأة من طيء كان تزوجها امرؤ القيس بن حجر الكندي وكان مفركًا "بفتح الراء تبغضه النساء" فقال لها: أين أنا من زوجك الأول؟ فقالت: مرعى ولا كالسعدان. 2 قاله متمم بن نويرة في أخيه مالك لما قتل في الردة. والأمثال الثلاثة تضرب للشيء يفضل على أقرانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 373- شداد بن أوس ومعاوية : وأمر معاوية شداد بن أوس الطائي أن يتنقّص عليًّا، فقام فقال: "الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده، وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا خلقِه، على ذلك مضى أولهم، وعليه يمضي آخرهم، أيها الناس: إن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه، وإن السامع العاصي لله لا حجة له. وإن الله إذا أراد بالعباد صلاحًا عَمِلَ عليهم صلحاؤهم، وقضى بينهم فقهاؤهم، وملك المال سمحاؤهم، وإذا أراد بهم شرًّا، عَمِلَ عليهم سفهاؤهم، وقضى فيهم جهلاؤهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وملك المال بخلاؤهم، وإن من صلاح الولاة أن يصلح قرناؤها، ونصح لك يا معاوية من أسخطك بالحق، وغشك من أرضاك بالباطل". قال: اجلس رحمك الله قد أمرنا لك بمال، قال: "إن كان من مالك الذي تعهدت جمعه مخافة تبعته، فأصبته حلالا، وأنفقته إفضالا، فنعم، وإن كان مما شاركك فيه المسلمون، فاحتجنته1 دونهم، فأصبته اقترافًا، وأنفقته إسرافًا، فإن الله يقول في كتابه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} . "البيان والتبيين 3: 220" وروي أن معاوية قال له: "يا شداد، أنا أفضل، أم عليٌّ؟ وأينا أحب إليك؟ "، فقال: "علي أقدم هجرة، وأكثر مع رسول الله إلى الخير سابقة، وأشجع منك قلبًا، وأسلم منك نفسًا، وأما الحب، فقد مضى عليٌّ، فأنت اليوم عند الناس أرجى منه". "عيون الأخبار م2: ص211"   1 احتجن المال: ضمه واحتواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 374- معاوية ورجل من أهل سبأ : وقال معاوية لرجل من أهل سبأ: "ما كان أجهل قومك، حين ملكوا عليهم امرأة"، فقال: "بل قومك أجهل، قالوا حين دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحق، وأراهم البينات: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، ألا قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له! ". "البيان والتبيين 3: 220". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 375- حديث معاوية مع عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان : سأل معاوية بعد الاستقامة1 عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان فقال له: كيف علمك بقومك؟ قال: كعلمي بنفسي، قال: ما تقول في مُرَاد؟ قال: مدركوا الأوتار، وحماة الذمار، ومحرزو الخطار2، قال: فما تقول في النخع؟ قال: مانعو السرب3، ومسعرو الحرب، وكاشفو الكرب، قال: وما تقول في بني الحارث بن كعب؟ قال: فراجو اللكاك، وفرسان العراك، ولزاز الضكاك، تراك4 تراك، قال: فما تقول في سعد العشيرة؟ قال: مانعو الضيم، وبانو الريم، وشافو الغيم5 قال: ما تقول في جعفيٍّ؟ قال: فرسان الصباح6، ومعلمو الرماح، ومبارزو الرياح، قال: ما تقول في بني زبيد؟ قال: كماة أنجاد7، سادات أمجاد، وُقُرٌ عند الذياد8 صُبُرٌ عند الطراد، قال: ما تقول في جنب؟ قال: كفاة يمنعون عن الحريم، ويفرجون عن الكظيم9، قال: فما تقول في صداء؟ قال: سمام الأعداء،   1 أي بعد استقامة الأمر له: عام الجماعة. 2 جمع وتر: وهو الثأر؛ والذمار: ما يلزمك حفظه وحمايته؛ والخطار: جمع خطر بالتحريك، وهو السبق يتراهن عليه. 3 السرب: ما رعي من المال. 4 اللكاك: الزحام؛ ومثلها الضكاك؛ ولزه كرده: شده وألصقه واللزاز ككتاب: خشبة يلز بها الباب؛ وفلان لزاز العظائم: أي يلز بها ويقرن ليذللها ومنه قول بيد: إنا إذا التقت المجامع لم يزل ... منا لزاز عظيمة جشامها وتراك: اسم فعل بمعنى اترك، والأمر هنا للتعظيم، أي دع هؤلاء ولا تتحدث بشأنهم، فإنهم في أسمى مكان. 5 الريم: الدرجة والفضل والزيادة، والغيم: العطش. 6 الغارة. 7 ضبط في الأمالي بفتح الزاي، وهو خطأ، زبيد كزبير: بطن من مذحج، رهط عمرو بن معد يكرب وكأمير: بلد باليمن، وكماة جمع كمي: وهو الشجاع أو لابس السلاح، والأنجاد جمع نجد كشهم وكتف ورجل: الشجاع الماضي فيما يعجز غيره. 8 وقر جمع وقور، وصبر جمع صبور، والذياد والذود: الدفع. 9 الكظيم والمكظوم: المكروب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 ومساعير الهيجاء1، قال: فما تقول في رهاء؟ قال: ينهنهون2 عادية الفوارس، ويرِدُون الموت ورد الخوامس3 قال: أنت أعلم بقومك. "الأمالي 1: 160".   1 الهيجاء: الحرب، وهو مسعر حرب "كدرهم" أي موقد نارها. 2 يكفون. 3 الخمس بالكسر: أن ترعى الإبل ثلاثة أيام، وترد الرابع، وهي إبل خوامس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 376- حديث الخيار بن أوفى النهدي مع معاوية : دخل الخيار بن أوفى النهدي على معاوية، فقال له: يا خيار كيف تجدك، وما صنع بك الدهر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، صدع الدهر قناتي، وأثكلني لداتي1 وأوهى عمادي، وشيب سوادي، وأسرع في تلادي2، ولقد عشت زمنًا أُصْبِي الكَعاب3، وأسُرّ الأصحاب، وأجيد الضراب4، فبان ذلك عني، ودنا الموتُ مني، وأنشأ يقول: غبرتُ زمانًا يرهبُ القرن جانبي ... كأني شنيمٌ باسلُ القلب خادر5 يخاف عدوي صولتي ويهابني ... ويكرمني قرني وجاري المجاورُ وتصبي الكعاب لمَّتي وشمائلي ... كأني غصن ناعم النبت ناضر6 فبان شبابي واعترتني رثية ... كأني قناةٌ أَطَّرَتها المآطر7 أدبُّ إذا رمت القيام كأنني ... لدى المشي قرم قيده متقاصر8 وقصر الفتى شيب وموت كلاهما ... له سائق يسعى بذاك وناظر وكيف يلذُ العيشُ من ليس زائلا ... رهين أمور ليس فيها مصادر   1 اللدة: من ولد معك. 2 التلاد: المال القديم. 3 كعب ثدي الجارية: نهد، وهي كاعب وكعاب. 4 ضرب الفحل ضرابا: نكح. 5 القرن: كفؤك في الشجاعة أو عام. والشتيم: الأسد العابس، والخدر: أجمة الأسد. ومنه أسد خادر. 6 اللمة: الشعر المجاوز شحمة الأذن. 7 الرثية: وجع المفاصل واليدين والرجلين. والأطر والتأطير: عطف الشيء، وتأطر الرمح: تثنى واعوج. 8 القرم: الفحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 فقال معاوية: أحسنت القول! واعلم أن لها مصادر، فنسأل الله أن يجعلنا من الصادرين بخير، فقد أوردْنا أنفسنا موارد نرغب إلى الله أن يصدرنا عنها وهو راضٍ. "الأمالي 2: 94". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 377- حديث عرابة بن أوس بن حارثة مع معاوية : قال معاوية لعرابة بن أوس بن حارثة الأنصاري: بأي شيء سدت قومك يا عرابة؟ قال: أخبرك يا معاوية بأني كنت لهم كما كان حاتم لقومه، قال: وكيف كان؟ فأنشده: وأصبحت في أمر العشيرة كلها ... كذي الحلم يرضى ما يقول ويعرف وذاك لأني لا أعادي سراتهم ... ولا عن أخي ضرائهم أتنكف1 وإني لأعطي سائلي، ولربما ... أكلف ما لا أستطيع فَأَكْلَفُ وإني لمذمومٌ إذا قيل: حاتم ... نبا نبوة إن الكريم يعنف ووالله إني لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم، وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه، فقال معاوية: لقد صدق الشماخ حيث يقول فيك: رأيت عَرَابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين "الأمالي 1: 277".   1 أي أمتنع منه وآنف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 378- سعيد بن عثمان بن عفان ومعاوية : دخل سعيد بن عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه على معاوية، وابنه يزيد إلى جانبه؛ فقال له: "ائتمنك أبي واصطنعك، حتى بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى، فما جازيت أبي بآلائه، حتى قدمت هذا علي، وجعلت له الأمر دوني -وأومأ إلى يزيد- والله لأبي خير من أبيه، وأمي خير من أمه، ولأنا خير منه"؛ فقال معاوية: "أما ما ذكرت يابن أخي من تواتر آلائكم علي، وتظاهر نعمائكم لدي، فقد كان ذلك، ووجب علي المكافأة والمجازاة، وكان شكري إياه أن طلبت بدمه، حتى كابدت أهوال البلاء، وغشيت عساكر المنايا، إلى أن شفيت حزازات الصدور، وتجلت تلك الأمور، ولست لنفسي باللائم في التشمير، ولا الزاري1 عليها في التقصير، وذكرت أن أباك خير من أبي هذا -وأشار بيده إلى يزيد- فصدقت، لعمر الله لعثمان خير من معاوية، أكرم كريمًا وأفضل قديمًا، وأقرب على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمًا، وذكرت أن أمك خير من أمه؛ فلعمري إن امرأة من قريش خير من امرأة من بني كلب، وذكرت أنك خير من يزيد، فوالله يا بن أخي ما يسرني أن الغوطة2 عليها رجال مثل يزيد. فقال له يزيد: "مه يا أمير المؤمنين، ابن أخيك اسعمل الدالة عليك، واستعتبك لنفسه، واستزاد منك فزده، وأجمل له في ردك، واحلم على نفسك وَوَلِّهِ خراسان بشافعتي، وأعنه بمال يظهر به موروثه"، فولاه معاوية خراسان، وأجازه بمائة ألف درهم فكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد. "صبح الأعشى 1: 256 والإمامة والسياسة 1: 139"   1 زرى عليه: عابه. 2 مدينة دمشق أو كورتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 379- مصقلة بن هبيرة ومعاوية : مرض معاوية مرضًا شديدًا، فأرجف به مصقلة بن هبيرة، وساعده قوم على ذلك ثم تماثل1، وهم في إرجافهم، فحمل زياد مصقلة إلى معاوية، وكتب إليه أنه يجمع مُرّاقًا من مراق العراق، فيرجفون بأمير المؤمنين، وقد حملته إليه ليرى رأيه فيهن فقدم مصقلة، وجلس معاوية للناس؛ فلما دخل عليه قال: ادن مني، فدنا منه، فأخذ بيده فجذبه فسقط مصقلة، فقال معاوية: أَبْقَى الحوادثُ من خَليـ ... لِكَ مثلَ جَنْدَلَةِ المَراجِمْ2 صُلْبًا إذا خَارَ الرّجا ... لُ أَبَلّ مُمْتَنِعَ الشّكائِمْ قد رَامَني الأعداءُ قَبْـ ... لكَ فامتنعتُ عَنِ المظالمْ3 فقال مصقلة: "يا أمير المؤمنين، قد أبقى الله منك ما هو أعظم من ذلك بطشًا وحلمًا راجحًا، وكلأ ومرعًى لأوليائك، وسُمًّا ناقعًا لأعدائك، كانت الجاهلية فكان أبوه سيد المشركين، وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين" وقام، فوصله معاوية، وأذن له في الانصراف إلى الكوفة، فقيل له: كيف تركت معاوية؟ فقال: زعمتم أنه كبر وضعف، والله لقد غمزني غمزة كاد يحطمني، وجذبني جذبة كاد يكسر عضوًا مني. "زهر الآداب 1: 57 والآمالي 2: 315"   1 تماثل العليل: قارب البرء. 2 الجندل: الحجارة، والواحدة جندلة. 3 الأبلّ: الممتنع، والألد: الجدل، والشكائم جمع شكيمة: وهي من اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس، وفلان شديد الشكيمة: أنفٌ أبيٌّ لا ينقاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 380- روح بن زنباع ومعاوية : وولّى معاوية روح بن زنباع، فعتب عليه في جناية، فكتب إليه بالقدوم، فلما قدم أمر بضربه بالسياط، فلما أقيم ليضرب قال: "نشدت الله يا أمير المؤمنين أن تهدم مني ركنًا أنت بنيته، أو أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها أو تشمت بي عدوًا أنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وقمته1، وأسألك بالله إلا أتى حلمك وعفوك دون إفساد صنائعك"، فقال معاوية: "إذا اللهُ سَنَّى عقدَ أمرٍ تَيَسَّرَا" خَلُّوا سبيله. "الأمالي 2: 259، وزهر الآداب 2: 194"   1 وقمه: قهره وأذله. وفي زهر الآداب: "كبته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 381- مخاصمة أبي الأسود الدؤلي وامرأته بين يدي زياد بن أبيه: جرى بين أبي الأسود الدؤلي وبين امرأته كلام، في ابن كان لها منه، وأراد أخذه منها، فسار إلى زياد وهو والي البصرة. فقالت المرأة: "أصلح الله الأمير، هذا ابني، كان بطني وعاءه، وحجري فناءه، وثديي سقاءه1، أكلؤه2 إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام، حتى إذا استوفى فصاله3، وكملت خصاله، واستوكعت4 أوصاله، وأملت نفعه ورجوت دفعه، أراد أن يأخذه مني كرهًا5، فآدني6 أيها الأميرن فقد رام قهري. وأراد قسري7". فقال أبو الأسود: "أصلحك الله، هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وأنظر في أوده، وأمنحه علمي، وألهمه حلمي، حتى يكمل عقله، ويستحكم فتله". فقالت المرأة: "صدق أصلحك الله، حمله خِفًّا8، وحملته ثِقْلًا، ووضعَه شهوة، ووضعتُه كرهًا". قال له زياد: اردد على المرأة ولدها، فهي أحق به منك، ودعني من سجعك أو قال: "إنها امرأة عاقلة يا أبا الأسود، فادفع ابنها إليها، فأخلقْ أن تحسنَ أدبَه". "الأمالي 2: 14، وأمالي السيد المرتضى 1: 214"   1 السقاء: جلد السخلة يكون الماء واللبن. 2 أرعاه. 3 فطامه. 4 اشتدت ومتنت. 5 الإباء والمشقة بالفتح ولاضم، أو بالفتح: ما أكرهك غيرُك عليه، وبالضم ما أكرهتَ نفسك عليه. 6 آداه على فلان: أعداء وأعانه. 7 الإكراه. 8 الخف: الخفيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 382- صورة أخرى : وروى أحمد بن أبي طاهر طيفور هذا الخبر بصورة أطول وهاكها: قال أبو محمد القشيريّ: كان أبو الأسود الدؤلي من أكبر الناس عند معاوية بن أبي سفيان، وأقربهم مجلسًا، وكان لا ينطق إلا بعقل، ولا يتكلم إلا بعد فهم؛ فبينا هو ذات يوم جالس، وعنده وجوه قريش وأشراف العرب، إذ أقبلت امرأة الأبي الأسود الدؤلي، حتى حاذت معاوية، وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ إن الله جعلك خليفة في البلاد، ورقيبًا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت بك الشجر، وتؤلف بك الأهواء، ويأمن بك الخائف، ويردع بك الجانف1، فأنت الخليفة المصطفى، والإمام المرتضى، فأسأل الله لك النعمة في غير تغيير، والعافية من غير تعذير2. قد ألجأني إليك يا أمير المؤمنين أمر ضاق علي فيه المنهج، وتفاقم علي منه المخرج، لأمر كرهت عاره3، لما خشيت إظهاره، فلينصفني أمير المؤمنين من الخصم؛ فإني أعوذ بِعقْوَته4 من العار الوبيل، والأمر الجليل، الذي يشتد على الحرائر، ذوات البعول الأجائر5، فقال لها معاوية: ومن بعلك هذا الذي تصفين من أمره المنكر، ومن فعله المشهَّر6؟ فقالت: هو أبو الأسود الدؤلي، فالتفت إليه فقال: يا أبا الأسود: ما تقول هذه المرأة؟ فقال أبو الأسود: هي تقول من الحق بعضًا، ولن يستطيع أحد عليها نقصًا؛ أما ما ذكرتْ من طلاقها فهو حق، وأنا مخبر أمير المؤمنين عنه بالصدق، والله يا أمير المؤمنين ما طلقتها عن ريبة   1 المائل: الجائر. 2 أي من غير نقص، من عذر في الأمر تعذيرًا: إذا قصر ولم يجتهد "أو من غير تشويه، من عذر الشيء: لطخه بالعذرة كفرحة". 3 تكنى بذلك عن طلاقها. 4 العقوة: ما حول الدار. 5 البعول والبعولة: جمع بعل وهو بعل وهو الزوج، والأجائر: جمع أجور، أفعل تفضيل من جار. 6 شهره كمنعه، وشهّره بالتشديد: أظهره في شنعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 ظهرت، ولا لأي هفوة حضرت؛ ولكني كرهت شمائلها، فقطعتُ عني حبائلها، فقال معاوية: وأي شمائلها يا أبا الأسود كرهتَ؟ قال: يا أمير المؤمنين: إنك مهيجها علي بجواب عتيد1، ولسان شديد، فقال معاوية: لا بد لك من محاورتها، فارددْ عليها قولها عند مراجعتها، فقال أبو الأسود: "يا أمير المؤمنين، إنها كثيرة الصخب، دائمة الذرب2، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، مسيئة إلى الجار، مظهرة للعار، إن رأت خيرًا كتمته، وإن رأت شرًّا أذاعته"، قالت: "والله لولا مكان أمير المؤمنين، وحضور من حضره من المسلمين، لرددت عليك بوادر كلامك، بنوافذ أقرع بها كل سهامك3، وإن كان لا يجمل بالمرأة الحرة أن تشتم بعلًا، ولا أن تظهر لأحد جهلًا"، فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته، فقالت: "يا أمير المؤمنين، ما علمته إلا سئولًا جهولًا، ملحًا بخيلًا4، إن قال فشرُّ قائل، وإن سكتَ فذو دغائل5، ليثٌ حين يأمن، وثعلبٌ حين يخاف، شحيحٌ حين يضاف6، إن ذكر الجودُ انقمعَ7، لما يعرِف من قِصَرِ رشائه8، ولؤم آبائه، ضيفُه جائعٌ، وجارُه ضائعٌ، لا يحفظُ جارًا ولا يحمى ذمارًا، ولا يدرك نارًا، أكرم الناس عليه من أهانَه، وأهونهم عليه من أكرمَه"، فقال معاوية: سبحان الله لما تأتي به هذه المرأة من السجع! فقال   1 حاضر مهيأ. 2 الصخب: شدة الصوت، والذب: حدة اللسان وبذاءته. 3 البوادر: جمع بادرة، وهي ما يبدو من حدتك في الغضب من قول أو فعل، بنوافذ أي بحجج نافذة ماضية، وكَلَّ السيفُ وغيرُه فهو كَلٌّ وكليلٌ: لم يقطع. 4 وكان أبو الأسود معروفًا بالبخل. ومن طريف ما يروى عنه أن رجلًا قال له: "أنت والله ظرف لفظ، وظرف علم، ووعاء حل، غير أنك بخيل" فقال: "وما خير ظرف لا يمسك ما فيه؟ " وسلم عليه أعرابي يومًا، فقال أبو الأسود: كلمة مقولة؛ فقال له: أتأذن في الدخول؟ قال: وراءك أوسع لك، قال: فهل عندك شيء؟ قال: نعم، قال: أطعمني، قال: عيالي أحق منك، قال: ما رأيت ألأم منك! قال: نسيت نفسك. "أمال المرتضى 1: 214". 5 دغائل: جمع دغيلة كسفينة. والدغيلة والدغل بالتحريك: دخل في الأمر مفسد. 6 ضافه يضيفه: نزل عليه ضيفًا. 7 انقمع: دخل البيت مستخفيًا. 8 الرشاء في الأصل الحبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 أبو الأسود: أصلح الله أمير المؤمنين، إنها مطلقة، ومن أكثر كلامًا من مطلقة؟ فقال لها معاوية: إذا كان رواحًا1 فتعاليْ أفصل بينك وبينه بالقضاء. فلما كان الرواح جاءت ومعها ابنها قد احتضنته؛ فلما رآها أبو الأسود قام إليها لينتزع ابنه منها، فقال له معاوية: يا أبا الأسود، لا تعجل المرأة أن تنطق بحجتها، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحق بحمل ابني منها، فقال له معاوية: يا أبا الأسود دعها تقل، فقال: "يا أمير المؤمنين، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه"، فقالت: "صدق والله يا أمير المؤمنين: حمله خِفًّا، وحملته ثِقْلًا، ووضعَه شهوة ووضعتُه كرهًا، إن بطني لوعاؤه، وإن ثديي لسقاؤه، وإن حجري لفناؤه، فقال معاوية: سبحان الله لما تأتين به! فقال أبو الأسود: إنها تقول الأبيات من الشعر فتجيدها، فقال معاوية: إنها قد غلبتك في الكلام، فتكلف لها أبياتا لعلك تغلبها؛ فأنشأ أبو الأسود يقول: مرحبًا بالتي تجورُ علينا ... ثم سهلًا بالحامل المحمول أغلقت بابها علي وقالت: ... إن خير النساء ذات البعول شغلت نفسها علي فراغًا ... هل سمعتم بالفارغ المشغول؟ فأجابته وهي تقول: ليس من قال بالصواب وبالحـ ... ق كمن جار عن منار السبيل كان ثديي سقاءه حين يضحى ... ثم حجري فناؤه بالأصيل لست أبغي بواحدي يا ابن حرب ... بدلًا ما علمته والخليل2 فأجابها معاوية: ليس من غذاء حينًا صغيرًا ... وسقاه من ثديه بخذول   1 أي إذا كان الوقت رواحًا، والرواح: العشي. 2 أي أقسم بخليل الله وهو سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 هي أولى به وأقرب رحمًا ... من أبيه بالوحي والتنزيل1 أمه ما حنت عليه وقامت ... هي أولى بحمل هذا الضئيل2 فقضى لها معاوية عليه، واحتملت ابنها وانصرفت. "بلاغات النساء ص53"   1 الرحم: الرحمة والرقة والتعطف. 2 في الأصل: "أم ما حنت عليه.." وهو تحريف؛ إذ يختل وزن البيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 383- وفد أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير : لما قدم الأحنف في وجوه أهل البصرة، إلى عبد الله بن الزبير، تكلم أبو حاضر الأسيدي -وكان خطيبًا جميلًا- فقال له عبد الله بن الزبير: اسكت فوالله لوددت أن لي بكل عشرة من أهل العراق رجلًا من أهل الشام، صرف الدينار بالدرهم، قال: "يا أمير المؤمنين: إن لنا ولك مثلًا، أفتأذن في ذكره؟ " قال: "مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام قول الأعشى؛ حيث يقول: علقتها عَرَضًا وعلقت رَجلًا ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل1 أحبك أهل العراق، وأحببت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك بن مروان". "البيان والتبيين 1: 164"   1علق فلان امرأة "بالبناء للمجهول مشددًا": أحبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 384- كلام خطيب الأزد بين يدي عبد الملك بن مروان : بعث الحجاج خطباء من الأحماس1 إلى عبد الملك بن مروان، فتكلموا؛ فلما انتهى الكلام إل خطيب الأزد، قام فقال: قد علمت العرب أنا حي فعال، ولسنا بحي مقال، وأنا نجزي بفعلنا عند أحسن   1 الحمس كقفل: الأمكنة الصلبة جمع أحمس، ولقب به قريش، وكنانة، وجديلة، ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم، أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة، وأحماس العرب: مَن أمهاتُهم مِن قريش، وكانوا يتشددون في دينهم، وكانوا شجعان العرب لا يطاقون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 قولهم، إن السيوف لتعرف أكفنا، وإن الموت ليستعذب أرواحنا، وقد علمت الحرب الزبون، أنا نقرعُ جماحها، ونحلبُ صراها1" ثم جلس2. "الأمالي 2: 259"   1 الصرى: بقية اللبن. 2 وفي رواية الجاحظ: "قالوا: ولما قدمت خطباء نزار عند معاوية؛ فذهبت في الخطب كل مذهب، قام صبرة بن شيبان فقال: "يا أمير المؤمنين: إنا حي فعال، ولسنا حي مقال، ونحن نبلغ بفعالنا أكثر من مقال غيرنا "البيان والتيين 1: 164"، وروى المبرد في الكامل هذا القول عن صبرة أيضًا –انظر تهذيب الكامل 1: 16، وقد تقدم لك أن صبرة بن شيمان من الأزد – انظر الجزء الأول ص436. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 385- سؤال عبد الملك للعجاج وما أجاب به : ودخل العجاج1 على عبد الملك بن مروان، فقال: يا عجاج: بلغني أنك لا تقدر على الهجاء، فقال: يا أمير المؤمنين، من قدر على تشييد الأبنية، أمكنه إخراب الأخبية، قال: فما يمنعك من ذلك؟ قال: إن لنا عزًّا يمنعنا من أن نظلَم، وإن لنا حلمًا يمنعنا من أن نظلِم، فعلام الهجاء؟ فقال: لكلماتك أشعر من شعرك! فأنى لك عزٌّ يمنعك من أن تُظلَم؟ قال: الأدبُ البارعُ، والفهمُ الناصعُ، قال: فما الحلم الذي يمنعك من أن تظلِم؟ قال: الأدب المستطرف، والطبع التالد، قال: يا عجاج لقد أصبحت حكيمًا. قال: وما يمنعني وأنا بحيُّ2 أمير المؤمنين؟ ". "الأمالي 2: 49، وزهر الآداب 2: 264"   1هو العجاج بن رؤبة راجز مجيد مشهور، مات سنة 90هـ. 2 مسار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 386- وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير، استخص إبراهيم بن محمد بن طلحة، فقربه وعظم منزله، فلم تزل تلك حاله عنده، حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان، فخرج معه معادلا، لا يقصر له في بِرٍّ وإعظام، حتى حضر به عبد الملك، فلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام، إلا أن قال له: "قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له بها نظيرًا في الفضل والأدب، والمروءة، وحسن المذهب، مع قرابة الرحم، ووجوب الحق، وعظم قدر الأبوة، وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة، وحسن المؤازرة. وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة، وقد أحضرته بابك، ليسهل عليه إذنك، وتعرف له ما عرَّفتك". فقال: أذكرتنا رحمًا قريبة، وحقًّا واجبًا، يا غلام: ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة، فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه، ثم قال له: يابن طلحة، إن أبا محمد "الحجاج" ذكَّرنا ما لم نعرفك به من الفضل والأدب، والمروءة، وحسن المذهب، مع قرابة الرحم، ووجوب الحق، وعظم قدر الأبوة، وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة، وحسن المؤازرة، فلا تدعن حاجة في خاصة نفسك وعامتك إلا ذكرتها. فقال: يا أمير المؤمنين، إن أول الحوائج، وأحق ما قدم بين يدي الأمور، ما كان لله فيه رضًا، ولحق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أداء، ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة، وعندي نصيحة لا أجد بدًّا من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خالٍ، فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي، قال: أدون أبي محمد؟ قال: نعم، دون أبي محمد، قال عبد الملك: للحجاج قم، فلما خطرف1 الستر أقبل على إبراهيم، فقال: يابن طلحة قل نصيحتك، قال: بالله يا أمير المؤمنين لقد عهدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه، وبعده من الحق وقربه من الباطل، فوليته الحرمين، وهما ما هما وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار، والموالي الأخيار، يسومهم الخسف2 ويحكم فيهم بغير السنة، بعد الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حرمهم، ويطؤهم بطغام أهل الشام، ورعاع لا روية لهم في إقامة حق، ولا في إزاحة باطل، ثم تظن أن ذلك ينجيك من عذاب الله؟ فكيف بك إذا جاثاك محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غدًا للخصومة بين يدي الله تعالى؟ أما والله إنك لن تنجو هناك إلا بحجة تضمن لك   1 المراد أرخي، من خطرف جلد المرأة: إذا استرخى. 2 يوليهم الذل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 النجاة، فاربع على نفسك أو دع، وكان عبد الملك متكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: كذبت ومنت1 فيما جئت به! ولقد ظن بك الحجاج ظنًّا لم نجده فيك، وقد يظن الخير بغير أهله، قم فأنت المائن الحاسد! قال: فقمت والله ما أبصر شيئًا، فلما خطرف الستر لحقني لا حق، فقال للحاجب: امنع هذا من الخروج، وأذن للحجاج، فدخل فلبث مليًّا، ولا أشكُّ أنهما في أمري، ثم خرج الإذن لي، فدخلت، فلا كشف لي الستر، إذ أنا بالحجاج خارج، فاعتنقني، وقبل ما بين عيني، وقال: أما إذا جزى الله المتواخِيَيْن خيرًا فضل تواصلهما، فجزاك الله عني أفضل الجزاء فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظريك، ولأعلين كعبك، ولأتبعن الرجال غبار قدميك، قال: فقلت في نفسي إنه ليسخر بي، فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني مجلسي الأول، ثم قال: يابن طلحة: هل أعلمت الحجاج بما جرى أو شاركك أحد في نصيحتك؟ فقلت: لا والله، ولا أعلم أحدًا أظهر يدًا عندي من الحجاج، ولو كنت محابيًا أحدًا بديني لكان هو، ولكنِّي آثرتُ الله ورسوله والمسلمين، قال: قد علمت أنك لم ترد الدنيا، ولو أردتها لكانت لك في الحجاج، ولكن أردتَ الله والدار الآخرة، وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالا لهما، ووليته العراقين وما هنالك من الأمور، التي لا يدحضها إلا مثله، وإنما قلت له ذلك ليؤدي ما يلزمه من ذمامك، فإنك غير ذام لصحبته مع يدك عنده، فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه. "العقد الفريد 1: 121، وسرح العيون ص119"   1 مان مينا: كذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 387- قدوم الحجاج مع أشراف المصرين على عبد الملك : لما فرغ الحجاج من دير الجماجم، وقدم على عبد الملك ومعه أشراف أهل المصرين -البصرة والكوفة- أدخلهم عليه؛ فبينما هم عنده، إذ تذاكروا البلدان، فقال محمد بن عمير بن عطارد: "أصلح الله الأمير، إن الكوفة أرض ارتفعت عن البصرة وحرها وغمقها1، وسفلت عن الشام ووبائها، وجاورها الفرات؛ فعذب ماؤها، وطاب ثمرها"، فقال خالد بن صفوان الأهتمي: "أصلح الله الأمير، نحن أوسع منهم برية، وأسرع منهم في السرية2، وأكثر منهم قنْدًا3، وعاجًا، وساجًا4، وناسًا5، ماؤها صفو، وخيرنا عفو، لا يخرج من عندنا إلا قائدٌ وسائقٌ وناعقٌ6"؛ فقال الحجاج: "أصلح الله أمير المؤمنين! إني بالبلدين خبيرٌ، وقد وطئتهما جميعًا"، فقال له: قل فأنت عندنا مصدق، فقال: "أما البصرة فعجوز شمطاء، دفراء، بخراء، أوتيتْ من كل حلي وزينة؛ وأما الكوفة، فشابة حسناء جميلة، لا حلي لها ولا زينة". فقال عبد الملك: فضلت الكوفة على البصرة. "مروج الذهب 2: 148" وروى الجاحظ قال: قال خالد بن صفوان7 -وسئل عن الكوفة والبصرة-: "نحن منابتنا قصب، وأنهارنا عجب، وسماؤنا رطب8، وأرضنا ذهب".   1 الغمق: ركوب الندى الأرض، أرض غمقة كفرحة: ذات ندى وثقل، أو قريبة من المياه، وفي الأصل: "وعمقها" وهو تصحيف. 2 السرية: من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، أو أربعمائة، والمراد في النهوض للقتال. 3 القند: عسل قصب السكر. 4 الساج: خشب أسود رزين، يجلب من الهند، ولا تكاد الأرض تبليه، وهو يشبه الآبنوس. 5 في الأصل: "وباسا" بالياء، وأراه بالنون. 6 يريد بالسائق: الأمير، وبالناعق: الخطيب. 7 أي يصف البصرة، وكذا ما بعده. 8 السماء: كل ما علاك، يشير إلى كثرة النخيل في مشان البصرة، "مشان كسحاب: قرية قريبة منها"، وأن التمر لكثرته ووفرته يظللهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وقال الأحنف: "نحن أبعد منكم سريّة، وأعظم منكم تجريّة1، وأكثر منكم ذريّة، وأغذى منكم بريّة". وقال أبو بكر الهذلي: "نحن أكثر منكم ساجًا، وعاجًا، وديباجًا، وخراجًا، ونهرًا عجاجًا2". "البيان والتبيين 2: 46"   1 تجر كنصر تجرًا وتجارة: اتجر، وأرى أن "تجربة" مصدر صناعي لتجر يريد أن أهل البصرة أعظم وأطول باعًا من أهل الكوفة في التجارة؛ لأن البصرة ثغر على الخليج الفارسي؛ فهي متصلة ببلاد الهند والشرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 388- وفود مالك بن بشير على الحجاج بقتل الأزارقة : لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة: صاحب الأزارقة، بعث إلى مالك بن بشير؛ فقال له: إني موفدك إلى الحجاج، فسر؛ فإنما هو رجل مثلك، وبعث إليه بجائزة فردها، وقال: إنما الجائزة بعد الاستحقاق وتوجه؛ فلما دخل على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير، قال: ملك وبشارة! كيف تركت المهلب؟ قال: أدرك ما أمل، وأمن من خاف، قال: كيف هو لجنده؟ قال: والد رءوف، قال: فكيف رضاهم عنه؟ قال: وسعهم بالفضل، وأقنعهم بالعدل، قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم؟ قال: نلقاهم بحدنا فنطمع فيهم، ويلقوننا بجدهم فيطمعون فينا، قال: كذلك الجد إذا لقي الجد قال: فما حال قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه. قال: فما منعكم من اتباعه؟ قال: رأينا المقام من ورائه خيرًا من اتباعه، قال: فأخبرني عن ولد المهلب، قال: أعباء القتال بالليل، حماة السرح1 بالنهار، قال: أيهم أفضل؟ قال ذلك إلى أبيهم، قال: لتقولن، قال: هم كحلقة مضروة لا يعرف طرفاها، قال: أقسمت عليك هل روأت2 في هذا الكلام؟ قال: ما أطلع الله على غيبه أحدًا، فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله الكلام المطبوع، لا الكلام المصنوع. "العقد الفريد 1: 122، ومروج الذهب 2: 148"   1 السرح في الأصل: المال السائم. 2 روأ في الأمر: نظر فيه وتعقبه، ولم يعجل بجواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 389- وفود كعب الأشقري على الحجاج : أوفد المهلب بن أبي صفرة كعب بن معدان الأشقري -ومعه مرة بن تليد الأزدي- إلى الحجاج بعد هزيمة الأزارقة، وقتل أميرهم عبد ربه الصغير؛ فلما دخلا عليه بدر كعب فأنشده قصيدته التي مطلعها: يا حفص إني عداني عنكم السفر. ... وقد سرت فآذى عيني السهر فقال له الحجاج أشاعر أم خطيب؟ قال: كلاهما، ثم أقبل عليه، فقال له: أخبرني عن بني المهلب، قال: "المغيرة فارسهم وسيدهم، نار ذاكية1، وصعدة2 عالية، وكفى بيزيد فارسًا شجاعًا، ليث غاب، وبحر جم عباب، وجوادهم وسخيهم قبيصة، ليث المغار3،وحامي الذمار، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك؛ فكيف لا يفر من الموت الحاضر، والأسد الخادر؟ وعبد الملك سم ناقع، وسيف قاطع، وحبيب الموت الزعاف، إنما هو طود شامخ، وفخر باذخ4، وأبو عيينة البطل الهمام، والسيف الحسام، وكفاك بالمفضل نجدة، ليث هدار، وبحر موار5، ومحمد ليث غاب، وحسام ضراب، قال: فكيف كانوا فيكم؟ قال: كانوا حماة السرح نهارًا، فإذا أَلْيَلُوا6 ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة: لا يُدرى أين طرفها، قال: فكيف كان لكم المهلب وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا برُّ الولد، قال: فكيف جماعة الناس؟ قال: على أحسن حال، أدركوا ما رجوا، وأمنوا مما خافوا، وأرضاهم العدل، وأغناهم النفل7، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عَفَوْنا، وإذا أخذُوا يئسنا منهم،   1 ذكت النار: اشتد لهبها. 2 الصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك. 3 أغار على العدو إغارة ومغارًا. 4 الطود: الجبل، وباذخ: عالٍ. 5 مار: ماج واضطرب. 6 أليلوا وألالوا: دخلوا في الليل. 7 الغنيمة والهبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم، فقال الحجاج: إن العاقبة للمتقين، قال: كيف أفلتكم قطري؟ قال: كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى الذي نحب، قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان الحد عندنا آثر من الفل1، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله؛ فقال: هكذا تكون والله الرجال، المهلب كان أعلم بك حيث وجهك، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وحمله على فرس، وأوفده على عبد الملك بن مروان؛ فأمر له بعشرة آلاف أخرى. "الكامل للمبرد 2: 232، والأغاني 13: 55، وشرح ابن أبي الحديد م1 ص405، وزهر الآداب 3: 93".   1 القوم المنهزمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 390- سليك بن سلكة والحجاج : دخل على الحجاج سليك بن سلكة1، فقال: "أصلح الله الأمير! أعرني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف عني حزبك؛ فإن سمعت خطأ أو زللًا فدونك والعقوبة، فقال: قل، فقال: عصى عاصٍ من عُرْض العشيرة، فَحُلِّق على اسمي، وهُدِمت داري، وحُرِمتُ عطائي، قال: هيهات، أما سمعت قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وربما ... تعدي الصحاحُ مبارِكُ الجُرْب2 ولرب مأخوذ بذنب عَشِيرِه ... ونجا المقارف صاحب الذنب   1 هو غير سليك ابن سلكة الذي ضرب به المثل في العدو، فقيل: "أعدى من السليك"؛ فإن سليكًا العداء جاهليٌّ، "وهو سليك بن عمرو التميميّ، والسلكة أمه، وهي أمةٌ سوداء، وكان أحد صعاليك العرب ولصوصهم العدائين لا يلحقون، ولا تتعلق بهم الخيل إذا عدوا، وهم: السليك ابن السلكة، والشنفرى، وتأبط شرًّا، وعمرو بن براق، ونفيل بن براقة"، قال صاحب القاموس في مادة غرب: "وأغربة العرب سودانهم، والأغربة في الجاهلية: عنترة، وخفاف بن ندبة، وأبو عمير بن الحباب، وسليك ابن السلكة، وهشام بن عقبة بن أبي معيط، إلا أنه مخضرم قد ولي في الإسلام.. إلخ"، وقال ابن نباته في سرح العيون "وهو جاهلي قديم" -انظر ترجمته في سرح العيون ص80 والأغاني 18: 133. 2 في الأصل "جانيك من يجني عليك وقد" على أن العروض حذاء كالضربب وهو صحيح؛ ولكني رأيت العروض في البيت الذي يليه تامة، فوضعت "وربما" بدل "وقد" للمشاكلة بين العروضين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 قال أصلح الله الأمير، سمعت الله قال غير هذا، قال: وما ذاك؟ قال: قال: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} . قال الحجاج: علي بيزيد بن أبي مسلم1؛ فأتي به فمثُل بين يديه، فقال: فكك لهذا عن اسمه، واصكك2 له بعطائه، وابن له منزله، ومر مناديًا ينادي في الناس، صدق الله، وكذب الشاعر. "العقد الفريد 3: 6"   1 كاتب الحجاج. 2 صك له كقتل: كتب له صكًا، وهو الكتاب الذي يكتب في المعاملات: "الشيك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 391- جامع المحاربي والحجاج : شكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق. وتنقم مذهبهم، وتسخط طريقتهم، قال له جامع المحاربي -وكان شيخًا صالحًا خطيبًا لسنًا-: "أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك، ولا لبلدك، ولا لذات نفسك، دع ما يبعدهم منك، إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك، تعطها ممن فوقك، ولكن إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: "إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف"، فقال "أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار"، فقال الحجاج: "الخيار يومئذ لله"، قال: "أجل؛ ولكن لا تدر لمن يجعله الله"، فغضب الحجاج وقال: "الخيار يومئذ لله"، قال: "أجل، ولكن لا تدري لمن يجعله الله"، فغضب الحجاج وقال: "يا هناه1 إنك من محارب"، فقال جامع: وللحرب سمينًا، وكان محاربًا ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا   1 هن: كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان؛ فإذا ناديت مذكرًا بغير التصريح باسمه قلت: يا هن أقبل، وقد تزاد ألف، والهاء في آخره في النداء خاصة، فيقال يا هناه أقبل، أي يا فلان، وهذه الهاء تصير تاء في الوصل، وتضم على تقدير أنها آخر الاسم وتكسر لاجتماع الساكنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 فقال الحجاج: "والله لهممت أن أخلع لسانك، فأضرب به وجهك"، فقال جامع: "إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله" قال: أجل وسكن، وشغل الحجاج ببعض الأمر؛ فانسل جامع، فمر بين صفوف خيل الشام، حتى جاوز إلى خيل أهل العراق- وكان الحجاج لا يخلِطهم فأبصر كبكبة1 فيها جماعة من بكر العراق، وتميم العراق، وأزد العراق، وقيس العراق؛ فلما رأوه اشرأبوا إليه، وبلغهم خروجه، فقالوا له: ما عندك؟ دافع الله لنا عن نفسك، فقال: ويحكم! عموه بالخلع كما يعمكم بالعدواة، ودعوا التعاديَ ما عاداكم؛ فإذا ظفرتم به تراجعتم وتعاقبتم، أيها التميمي: هو أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي: هو أعدى لك من التغلبي، وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم؟ " وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث. "البيان والتبيين 2: 68، والعقد الفريد 2: 151 - 1: 152، وعيون الأخبار م2 ص: 212، وزهر الآداب 3: 230".   1 الكبكبة: الجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 392- ليلى الأخيلية والحجاج : عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص قال: كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد بن العاص إذا دخل على الحجاج، فدخل يومًا، فدخلت إليهما، وليس عند الحجاج أحد إلا عنبسة، فأقعدني، فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئًا فجاءني به، ثم جيء بطبق آخر، حتى كثرت الأطباق، وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء، حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهما، ثم جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها، فدخلت؛ فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه، حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض، فجاءت حتى قعدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 بين يديه، فنظرت فإذا امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية؛ فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى، ما أتى بك؟ فقالت: "إخلاف النجوم1، وقالة الغيوم، وكلب البرد2، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد3" فقال لها: صفي لنا الفجاج4، فقالت: "الفجاج مغبرَّة والأرض مقشعرَّة، والمبرك5 معتلّ، وذو العيال مختلّ6، والهالك للقلّ7، والناس مسنتون8، رحمة الله يرجون، أصابتنا سنون مجحفة مبلطة9، لم تدع لنا هبعًا ولا ربعًا10، ولا عافطة ولا نافطة11، أذهبتِ الأموال، ومزقتِ الرجال، وأهلكتِ العيال"، ثم قالت: إني قلتُ في الأمير قولًا، قال: هاتي، فأنشأت تقول: أحجاجُ لا يفلل سلاحك، إنها الـ ... منايا بكف الله حيث تراها12 أحجاجُ لا تعطِ العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة ... تنبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث مال حشاها13   1 أي أخلفت النجوم التي يكون بها المطر؛ فلم تأت بمطر. 2 كلب البرد: شدته، وأصل الكلب: السعار "بالضم" الذي يصيب الكلاب والذئاب. 3 الرفد "بالفتح": المعونة، مصدر رفده كضربه: أعانه وأعطاه، وبالكسر: العطاء والصلة. 4 الفجاج: بالفتح، وهو الطريق الواسع بين جبلين. 5 أرادت به الإبل الباركة فيه. 6 مختل: محتاج من الخلة بالفتح وهي الحاجة. 7 القل: أي هالك من أجل القلة. 8 أي مقحطون، والسنة: القحط. 9 مجحفة: قاشرة، ومبلطة: ملزقة بالبلاط، والبلاط: الأرض الملساء، والحجارة التي تفرش في الدار، وأبلط الرجل فهو مبلط: إذا لزق بالأرض. 10 الهيع: الفصيل ينتج في الصيف "في آخر النتاج" والربع: الفصيل ينتج في الربيع "وهو أول النتاج". 11العافطة: الضائنة "النعجة"، من العفط، وهو الضرط، عفطت كضرب، ضرطت، فهي عافطة، والعفط أيضًا: نثير الضأن، تنثر بأنوفها كما ينثر الحمار، والنافطة العنز، من النفط، نفطت العنز كضرب نثرت بأنفها، أو عطست، فهي نافطة، أو لأنها تنفط ببولها أي تدفعه دفعًا، أو النافطة إتباع العافطة، أو العافطة الأمة الراعية، والنافطة الشاة. 12 السلاح مذكر ويؤنث كما في هذا البيت. 13 السجال: جمع سجل كشمس، وهو الدلو العظيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها1 أعد لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها2 فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجفء ثراها3 قال: فلما قالت هذا البيت، قال الحجاج: قاتلها الله! والله ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد، فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبدًا، ثم التفت إليها فقال: حسبك! قالت: إني قد قلت أكثر من هذا قال: حسبك ويحك! حسبك، ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان قل له: اقطع لسانها، فذهب بها، فقال له: يقول لك الأمير: اقطع لسانها، فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه، فقالت: ثكتك أمك! أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة، فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضبًا، وهم بقطع لسانه، وقال: ارددها؛ فلما دخلت عليه، قالت: كاد وأمانة الله يقطع مِقْوَلِي! ثم أنشأت تقول: حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفَرُ الصَّمَدُ4 حجاجُ أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نورٌ في الدجَى يَقِدُ5 ثم أقبل الحجاج على جلسائه، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير؛ إلا أنا لم نر قط أفصح لسانًا، ولا أحسن محاورة، ولا أملح وجهًا، ولا أرصن شعرًا منها، فقال: هذه ليلي الأخيلية، والتي مات توبةُ الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، قالت: نعم أيها الأمير هو الذي يقول: وهل تبكِيَنْ ليلى إذا متُّ قبلها ... وقام على قبري النساءُ النوائح؟   1 الرز: الصوت تسمعه من بعيد. 2 الصرى: بقية اللبن. 3 العون جمع عوان كسحاب، وهي التى كان لها زوج. 4 الصمد: الذى يصمد أي يقصد في قضاء الحوائج. 5 لقحت: أصله من لقحت الناقة أي قبلت اللقاح، والشهاب: شعلة من نار ساطعة، ويقد يتوقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافح1 وأغبط من ليلى بما لا أناله ... بلى كل ما قرت به العين طائح ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح2 لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح3 فقال: زيدينا من شعره يا ليلى، قالت: هو الذي يقول: حمامة بطن الوادييْن ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها4 أبيني لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت في خضراء غض نضيرها وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها5 وأشرِفُ بالقور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها6 يقول رجال: لا يضيرك نأيها ... بلى، كل ما شف النفوس يضيرها بلى، قد يضير العين أن تكثر البكا ... ويمنع منها نومها وسرورها وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها فقال الحجاج: يا ليلى، ما الذي رابه من سفورك؟ فقالت: أيها الأمير، كان يلم بي كثيرًا، فأرسل إلي يومًا: إني آتيك، وفطن الحيّ، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت عن وجهي، فعلم أن ذلك لشر، فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك!   1 سافح: منصب 2 الجندل: الحجارة، والصفائح: حجارة القبر العراض. 3 زقا: صاح، والصدى -وهو الهامة- طائر يخرج من رأس المقتول، تزعم الأعراب أن روح القتيل تخرج؛ فتصير هامة إذا لم يدرك بثأره؛ فتصيح على قبره: اسقوني اسقوني حتى يُثأر به، وهذا مثل يراد به تحريض ولي القتيل على طلب دمه، فجعله جهلة الأعراب حقيقة. 4 الغوادي: جمع غادية، وهي السحابة تنشأ غدوة. 5 بسر كدخل: عبس وكلح. 6 القور: جمع قارة، وهي الجبيل الصغير، المنقطع عن الجبال، واليفاع: التل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 فهل رأيت منه شيئًا تكرهينه؟ فقالت: لا والله الذي أساله أن يصلحك، إنه قال مرة قولًا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر؛ فأنشأت أقول: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل فلا والله الذي أسأله أن يصلحك، ما رأيت منه شيئًا، حتى فرق الموت بيني وبينه، قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له؛ فأوصى ابن عم له، إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك: عفا الله عنها، هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها؟ وأنا أقول: وعنه عفا ربي وأحسن حاله ... فعزت علينا حاجة لا ينالها قال: ثم مه؟ قالت: ثم لم يلبث أن مات؛ فأتانا نعيُه، فقال: أنشدينا بعض مراثيك فيه، فأنشدت: لتبك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شئون العبرة المتحدر1 قال لها: فأنشدينا، فأنشدته: كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفصحن الحصى بالكراكر2 فلما فرغت من القصيدة، قال محصن الفقعسي: -وكان من جلساء الحجاج-   1 الشئون: جمع شأن، وهو مجرى الدمع إلى العين وكتب مصحح الأمالي قال: "قوله المتحدر كذا في النسخ، وكتب بهامش بعضها لعله المتحادر بالألف قبل الدال، لتستقيم القافية، وفي هامش بعض النسخ بعد البيت الآتي: فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالًا دون جار مجاور" اهـ. 2 القلائص جمع قلوص كصبور، وهي الناقة الشابة، أو الباقية على السير، يفحصن: يقلبن، من فحص المطر التراب قلبه، وفصح القطا التراب: اتخذ فيه أفحوصًا وهو مجثمه، والكراكر: جمع كركرة بالكسر، وهي زور البعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 من الذي تقول هذه هذا فيه؟ فوالله إني لأظنها كاذبة؛ فنظرت إليه، ثم قالت: أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسَرَّهُ أن لا تكون في داره عذراء إلا هي حامل منه، فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عنه غنيًّا، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطيْ، قالت: أعطِ؛ فمثلُك أعطى فأحسَنَ، قال: لك عشرون، قالت: زد فمثلُك زاد فأجمَلَ، قال: لك أربعون، قالت: زد؛ فمثلُك زاد فأكمَلَ، قال: لك ثمانون، قالت: زِد، فمثلُك زاد فتمم، قال: لك مائة، واعلمي أنها غنم، قالت: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جودًا، وأمجد مجدًا، وأوى زندًا، من أن تجعلها غنمًا، قال: فما هي؟ ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة من الإبل برعاتها، فأمر لها بها، ثم قال: ألك حاجة بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي، قال: قد فعلت، وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هاربًا عائذًا بعبد الملك، فاتبعته إلى الشام، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان، فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة، فماتت بقومس1، ويقال بحلوان. "الأمالي 1: 86، وزهر الآداب 3: 265"   1 قومس: صقع كبير بين خراسان وبلاد الجبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 393- الغضبان بن القبعثري والحجاج: ورد على الحجاج كتاب من عبد الملك، يأمره أن يبعث إليه بثلاثين جارية، عشرًا من النجائب، وعشرًا من قَعَد النكاح، وعشرًا من ذوات الأحلام؛ فلما نظر إلى الكتاب لم يدر ما وصفه من الجواري؛ فعرضه على أصحابه فلم يعرفوه، فقال له بعضهم: أصلح الله الأمير، ينبغي أن يعرف هذا من كان في أوليه بدويًّا، فله معرفة أهل البدو، ثم غزا فله معرفة أهل الغزو، ثم شرب الشراب؛ فله بذاء أهل الشراب، قال: وأين هذا؟ قيل: في حبسك، قال: ومن هو؟ قيل الغضبان الشيباني، فأُحضِر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 فلما مثل بين يديه، قال: أنت القائل لأهل الكوفة يتغدون بي قبل أن أتعشى بهم1؟ قال: أصلح الله الأمير: ما نفعت من قالها، ولا ضرت من قيلت فيه، قال: إن أمير المؤمنين كتب إلي كتابًا لم أدر ما فيه؛ فهل عندك شيء منه؟ قال: يقرأ علي؛ فقرئ عليه، قال: هذا بَيِّنٌ. قال: وما هو؟ قال: "أما النجيبة من النساء: فالتي عظمت هامتها، وطال عنقها، وبعد ما بين منكبيها وثدييها، واتسعت راحتها، وتخنت ركبتها؛ فهذه إذا جاءت بالولد جاءت به كالليث؛ وأما قعد النكاح؛ فهن ذوات الأعجاز، منكسرات الثدي، كثيرات اللحم يقرب بعضهن من بعض، فأولئك يشنين القَرِم2 ويرْ وِبن الظمآن؛ وأما ذوات الأحلام، فبنات خمس وثلاثين إلى الأربعين3. قال الحجاج: أخبرني بشرِّ النساء، قال: أصلح الله الأمير: شرهن الصغيرة النقبة4، الحديدة الركبة، السريعة الوثبة، الواسطة5 في نساء الحي، التي إذا غضبت غضب لها مائة، وإذا سمعت كلمة قالت لا والله لا أنتهي حتى أقرها قرارها، التي في بطنها جارية، ويتبعها جارية، وفي حجرها جارية، قال الحجاج: على هذه لعنة الله، ثم قال: ويحك، فأخبرني بخير النساء، قال: خيرهن القريبة القامة من السماء الكثيرة الأخذ من الأرض، الودود الولود، التي في بطنها غلام، وفي حجرها غلام، ويتبعها غلام، قال: ويحك فأخبرني بشر الرجال، قال: شرهم السنوط الربوط6، المحمود في حرم الحي، الذي إذا سقط لإحداهن دلو في بئر انحط عليه حتى يخرجه،   1 انظر خطبته في ص337. 2 القرم محركة: شدة شهوة اللحم، وكثر حتى قيل في الشوق إلى الحبيب. 3 هنا سطر أسقطناه؛ فلينظره في الأصل من شاء. 4 الوجه. 5 وسطهم "كوعد": جلس وسطهم، كتوسطهم. 6 السنوط: الذي لا شعر في وجهه البتة "الكوسج" كجعفر، وفي الأصل "السيوط" بالياء، ولم أجده في كتب اللغة؛ وإنما الذي فيها من هذه المادة: "أسبط بالأرض: لصق" فالوصف منه "مسبط" ومعناه على هذا: الكسل المتقاعد عن السعي، والربوط، يريد به الملازم لبيته الذي لا يخرج منه للتصرف والعمل كأنه قد ربط نفسه فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 فهن زينة الخير، ويقلن عافى الله فلانًا، قال: على هذا لعنة الله، فأخبرني بخير الرجال؟ قال: خيرهم الذي يقول فيه الشماخ التغلبي: فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج1 فتى يملأ الشيزى ويُروي سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج2 فقال له: حسبك، كم حبسنا عطاءك؟ قال: ثلاث سنين، فأمر له بها وخلى سبيله. "مروج الذهب 2: 147"   1 الداخل. 2 الشيزي: خشب أسود تتخذ منه القصاع، يكني عن كرمه، والمدجج: الشاكّ في السلاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 394- ابن القرّية يعدد مساوئ المزاح: وقال الحجاج بن يوسف لابن القرّية: ما زالت الحكماء تكره المزاح وتنهى عنه، فقال: "المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوله فرح وآخره ترح، المزاح نقائض السفهاء كالشعر نقائض الشعراء، والمزاح يوغر صدر الصديق، وينفر الرفيق، والمزاح يبدي السرائر؛ لأنه يظهر المعاير، والمزاح يسقط المروءة، ويبدي الخنا، لم يجرَّ المزاح خيرًا وكثيرًا ما جرَّ شرًّا، الغالب بالمزاح واتر، والمغلوب به ثائر، والمزاح يجلب الشتم صغيرُه، والحربَ كبيرُه، وليس بعد الحرب إلا عفو بعد قدرة"، فقال الحجاج: "حسبك، الموت خيرٌ من عفوٍ معه قدرة". "زهر الآداب 2: 85" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 395- يزيد بن أبي مسلم وسليمان بن عبد الملك : لما ولي سليمان بن عبد الملك، أتي بيزيد بن أبي مسلم: مولى الحجاج، في جامعة1، وكان رجلًا دميمًا تقتحمه2 العين؛ فلما رآه سليمان قال: لعن الله امرأ أجرك رسنك3، وولى مثلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رأيتني والأمر عني مدبر، ولو رأيتني والأمر علي مقبل، لاستعظمت من أمري ما استصغرت، ولاستجللت ما استحقرت، فقال له سليمان: "أين ترى الحجاج، أيهوي في النار، أم قد استقر في قعرها؟ "، فقال: "يا أمير المؤمنين: لا تقل هذا، إن الحجاج قمع لكم الأعداء، ووطأ لكم المنابر، وزرع لكم الهيبة في قلوب الناس، وبعد فإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك، وشمال أخيك الوليد، فضعه من النار حيث شئت"، فصاح سليمان: اخرج إلى لعنة الله، ثم التفت إلى جلسائه، فقال: قبحه الله ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن المكافأة، أطلقوا سبيله. "أمالي السيد المرتضى 1: 215، والعقد الفريد 1: 150، ومروج الذهب 2: 164، والبيان والتبيين 1: 210"   1 الجامعة: القيد. 2 تزدريه. 3 الرسن: الحبل، وأجره رسنه: تركه يصنع ما شاء، يعني الحجاج، وكان سليمان يكتب إلى الحجاج في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك كتبًا فلا ينظر له فيها، فحقد عليه، وكتب إليه كتابًا شديد اللهجة، وفيه يقول "وايم الله لئن أمكنني الله منك لأدوسنك دوسة تلين منها فرائصك، ولأجعلنك شريدًا في الجبال، تلوذ بأطراف الشمال" ويقول: فرويدك حتى تنظر كيف يكون مصيرك إن كانت بي وبك مدة أتعلق بها "فرد عليه الحجاج بكتاب يقول فيه: "ولعمري إنك لصبي حديث السن تعذر بقلة عقلك، وحداثة سنك، ويرقب فيك غيرك" ويقول: "جمعت أمورًا دلاك فيها الشيطان على أسوأ أمرك؛ فكان الجفاء من خليقتك، والحمق من طبيعتك، وأقبل الشيطان بك وأدبر ... إلخ" انظر العقد الفريد ج3 ص16، وقد مات الحجاج قبل أن يتولى سليمان الخلافة بسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 396- وفود العراق على سليمان بن عبد الملك : وقدمت وفود العراق على سليمان بن عد الملك بعد ما استخلف؛ فأمرهم بشتم الحجاج، فقاموا يشتمونه، فقال بعضهم: "إن عدو الله الحجاج كان عبدًا زبابًا1، قنور بن قنور2 لا نسب له في العرب" قال سليمان: أي شتم هذا! إن عدو الله   1 بائع زبيب، قيل إنه كان يبيع الزبيب بالطائف، وذكروا أنه كان أول أمره يعلم الصبيان مع أبيه بالطائف -ويسمى كليبًا- وفيه يقول الشاعر: أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر؟ رغيف له فلك دائر ... وآخر كالقمر الأزهر "يشير إلى خبز المعلمين؛ فإنه مختلف في الصغر والكبر على قدر بيوت الصبيان" ويقول آخر: فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدًا من عبيد إياد زمان هو العبد المقر بذله ... يروح صبيان القرى ويغادي "راحهم وروحهم: ذهب إليهم رواحًا"، ثم صار دباغًا، كما يدل على ذلك هجاء كعب الأشقري له، وذلك أن المهلب بن أبي صفرة لما أطال قتال الأزارقة، كتب إليه الحجاج يستبطئه ويضعفه ويعجزه في تأخير مناجزتهم؛ فقال المهلب لرسوله: قل له: إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم على أن أديرها كما أرى؛ فإن أمكنتني الفرصة انتهزتها، وإن لم تمكني فأنا أدبر ذلك بما يصلحه، وإن أردت مني أن أعمل برأيك وأنت غائب، فإن كان صوابًا فلك، وإن كان خطأ فعلي، ابعث من رأيت مكاني" وقام كعب الأشقري إلى المهلب، فأنشده بحضرة رسول الحجاج أبياتًا من: إن ابن يوسف غره من غزوكم ... خفض المقام بجانب الأمصار لو شاهد الصفين حين تلاقيا ... ضاقت عليه رحيبة الأقطار ورأى معاودة الدباغ غنيمة ... أزمان كان محالف الإقتار فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه، فأعلم المهلب كعبًا بذلك، وأوفده إلى عبد الملك من ليلته، وكتب إليه يستوهبه منه، فقدم كعب على عبد الملك واستنشده فأعجبه ما سمع منه، فأوفده إلى الحجاج، وكتب إليه يقسم عليه أن يعفو عنه؛ فلما دخل عليه قال: إيه يا كعب، "ورأى معاودة الدباغ غنيمة"! فقال له: أيها الأمير، والله لقد وددت في بعض ما شاهدته في تلك الحروب وأزماتها، وما يوردناه المهلب من خطرها، أن أنجو منها، وأكون حجامًا، أو حائكًا، فقال له الحجاج أولى لك، لولا قسمُ أمير المؤمنين لما نفعك ما أسمع، فالحق بصاحبه، وبعض الرواة ينكر هذا القول، ويقول: هذه من أكاذيب الشعراء: -انظر الأغاني ج13 ص57، وسر العيون ص112، والعقد الفريد 3: 6. 2 القنور: الشرس الصعب من كل شيء، وكسنور: العبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 الحجاج كتب إلي: "إنما أنت نقطة من مداد، فإن رأيت في ما رأى أبوك وأخوك كنت لك كما كنت لهما؛ وإلا فأنا الحجاج وأنت النقط’، فإن شئت محوتك، وإن شت أثبتك" فالعنوه لعنه الله، فأقبل الناس يلعنونه، فقام ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فقال: "يا أمير المؤمنين، إنا نخبرك عن عدو الله بعلم" قال: هات، قال: "كان عدو الله يتزين تزين المومسة1، ويصعد المنبر فيتكلم بكلام الأخيار، فإذا نزل عمل عمل الفراعنة، وأكذب في حديثه من الدجال"، فقال سليمان لرجاء بن حيوة: "هذا وأبيك الشتم، لا ما تأتي به السفلة2". "البيان والتبيين 1: 211"   1 امرأة مومس ومومسة: فاجرة، أو مجاهرة بالفجور "من الومس كوعد: وهو احتكاك الشيء بالشيء حتى يتجرد؛ وأومست: أمكنت من الومس". 2 سفلة الناس كنقمة وفرحة: أسافلهم وغوغاؤهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 397- كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك : حج سليمان بن عبد الملك؛ فلما قدِمَ المدينة للزيارة بعث إلى أبي حازم الأعرج، وعنده ابن شهاب؛ فلما دخل قال: تكلم يا أبا حازم. قال: فيم أتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: في المخرج من هذا الأمر قال: يسير إن أنت فعلته قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلها، ولا تضعها إلا في أهلها قال: ومن يقوى على ذلك؟ قال: من قلده الله من أمر الرعية ما قلدك، قال: عظني أبا حازم قال: اعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج من يديك بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم أشر علي، قال إنما أنت سوق، فما نفق1عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر أيهما شئت قال: مالك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أخزيتني، وليس عندك ما أرجوك له، ولا عندي   1 راج. "27 -جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 ما أخافك عليه: قال: فارفع إلينا حاجتك. قال: قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت. "العقد الفريد 1: 306، والبيان والتبيين 3: 72" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 398- أبو حازم وسليمان بن عبد الملك أيضًا: ودخل عليه أبو حازم الأعرج، فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم دنياكم، وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب، قال: فأخبرني، كيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن؛ فكالغائب يأتي أهله مسرورًا؟ وأما المسيء فكالعبد الآبق1 يأتي مولاه محزونًا، قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي القول أعدل؟ قال: كلمة حق عند من تخاف وترجو، قال: فأي الناس أعقل، قال: من عمل بطاعة الله، قال: فأي الناس أجهل؟ قال: من باع آخرته بدنيا غيره، قال: عظني وأوجز، قال: يا أمير المؤمنين، نزه ربك، وعظمه أن يراك حيث نهاك، أو يفقد حيث أمرك؛ فبكى سليمان بكاء شديدًا، فقال له بعض جلسائه: أسرفت ويحك على أمير المؤمنين، فقال له أبو حازم: اسكت فإن الله عز وجل أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، ثم خرج فلما صار إلى منزله بعث إليه سليمان بمال، فرده وقال للرسول: قل له: والله يا أمير المؤمنين ما أرضاه لك، فكيف أرضاه لنفسي؟ "مروج الذهب 2: 164، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص147"   1 الآبق: الهارب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 399- وفد أهل الحجاز عند عمر بن عبد العزيز : لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ قدم عليه وفود أهل كل بلد، فتقدم إليه وفد أهل الحجاز؛ فاشرأب منهم غلام للكلام، فقال عمر: مهلًا يا غلام، ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلًا يا أمير المؤمنين؛ إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانًا لافظًا، وقلبًا حافظًا؛ فقد استجاد له الحلية، ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أحق بمجلسك منك، فقال عمر: صدقت، تكلم، فهذا السحر الحلال، فقال: يا أمير المؤمنين، نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة1، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي من بك علينا، لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، لأنا قد أمنا في أيامك ما خفنا وأدركنا ما طلبنا، فقال: عظنا يا غلام وأوجز، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناسا غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم، وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك، وحسن ثناء الناس عليك، فتزل قدمك، فنظر عمر في سن الغلام، فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة2، فأنشأ عمر يقول: تعلم فليس المرء يولد عالمًا ... وليس أخو علم كمن هو جاهل وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل "مروج الذهب 2: 169، وزهر الآداب 1: 9"   1 رزأه ماله كجعل وعلم: أصاب منه شيئًا، ورزأه مرزئة: أصاب منه خيرًا، أي لسنا وافدين للعطاء. 2 وفي زهر الآداب: "فسأل عمر عن سن الغلام فقيل عشر سنين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 400- خالد بن صفوان يعزي عمر بن عبد العزيز ويهنئه : وعزى خالد بن صفوان عمر بن عبد العزيز وهنأه بالخلافة، فقال: "الحمد لله الذي من على الخلق بك، والحمد لله الذي جعل موتكم رحمة، وخلافتكم عصمة، ومصائبكم أسوة، وجعلكم قدوة" "زهر الآداب 3: 347" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 401- خطبة عبد الله بن الأهتم : دخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- مع العامة؛ فلم يفجأ عمر إلا وهو ماثل بين يديه يتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الله خلق الخلق، غنيًا عن طاعتهم، آمنًا من معصيتهم، والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون، والعرب بشر تلك المنازل، أهل الوتر وأهل المدر، تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاغة1 عيشتها، ميتهم في النار، وحبهم أعمى، مع ما لا يحصى من المرغوب عنه، والمزهود فيه؛ فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته، بعث إليهم رسولًا منهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ؛ فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه، ولقبوه في اسمه2، ومعه كتاب من الله لا يرحل إلا بأمره ولا ينزل إلا بإذنه، واضطروه إلى بطن غار؛ فلما أمر بالعزيمة أسفر لأمر الله لونه، فأفلج3 الله حجته، وأعلى كلمته، وأظهر دعوته، ففارق الدنيا نقيًا، صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قام بعده أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فسلك سنته وأخذ سبيله، وارتدت العرب فلم يقبل منهم بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الذي كان قابلًا منهم،   1 الرفاغة والرفاغية: سعة للعيش والخصب. 2 فوصفوه بأنه ساحر، وكذاب، وكاهن، وشاعر. 3 نصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 فانتضى السيوف من أغمادها، وأوقد النيران من شعلها، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل؛ فلم يبرح يفصل أوصالهم، ويُسقِي الأرض دماءهم، حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه، وقررهم بالذي نفروا منه، وقد كان أصاب من مال الله بكرًا1 يرتوي عليه، وحبشية ترضع ولدًا له، فرأى ذلك غصة عند موته في حلقه؛ فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وبرئ إليهم منه، وفارق الدنيا نقيًا تقيًا، على منهاج صاحبه، رضي الله عنه. ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمصر الأمصار؛ وخلط الشدة باللين، فحسر عن ذراعيه، وشمر عن ساقيه، وأعد للأمور أقرانها2، وللحرب آلتها؛ فلما أصابه قِنّ3 المغيرة بن شعبة، أمر ابن عباس يسأل الناس: هل يثبتون قاتله؟ فلما قيل له قن المغيرة، استهل4 بحمد الله أن لا يكون أصابه ذو حق في الفيء، فيستحل دمه بما استحل من حقه، وقد كان أصاب من مال الله بضعًا وثمانين ألفًا، فكسر بها رباعه5، وكره بها كفالة أهله وولده، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده، وفارق الدنيا نقيًا تقيًا على منهاج صاحبه، رضي الله تعالى عنهما، ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظُلَّع6، ثم إنك يا عمر ابن الدنيا، ولدتك ملوكها، وألقمتك ثديها؛ فلما وليتها ألقيتها حيث ألقاها الله؛ فالحمد له الذي جلا بك حوبتها7، وكشف بك كربتها، امض ولا تلتفت؛ فإنه لا يذل على الحق شيء، ولا يعز على الباطل شيء، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات"، ولما أن قال: "ثم إنا والله اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع" سكت الناس كلهم إلا هشامًا فإنه قال: "كذبت". "البيان والتبيين 2: 59. والعقد الفريد 2: 143. وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص109 وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص136".   1 الفتي من الإبل. 2 أسبابها التي تقاد بها، جمع قرن كسبب: وهو الحبل يجمع به البعيران. 3 القن: عبد ملك هو وأبوه، أو الذي ولد عندك ولا تستطيع إخراجه عنك. 4 صاح. 5 الرباع جمع ربع كشمس: وهو الدار. 6 جمع ظالع: وهو المتهم والمائل، وأصله من ظلع البعير كمنع: غمز في مشيه. 7 الحوبة: الهم والحاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 402- مقام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز : قام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز، فقال: "إنما الدنيا سوق من الأسواق؛ فمنها خرج الناس بما ينفعهم وبما يضرهم، وكم نقوم قد غرهم مثل الذي أصبحنا فيه، حتى أتاهم الموت فاستوعبهم، فخرجوا من الدنيا مرملين1، لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة، ولا لما كرهوا جنة، واقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم؛ فانظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت، فقدمه بين يديك حى تخرج إليه، وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت، فابتغ به البدل، حيث يجوز البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على غيرك، ترجو جوازها عنك. يا أمير المؤمنين، افتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم". "عيون الخبار م2 ص343، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص134"   1 أرمل: نفد زاده وافتقر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 403- وفد أهل الحجاز على هشام بن عبد الملك : وفد أهل الحجاز من قريش على هشام بن عبد الملك بن مروان، وفيهم محمد ابن أبي الجهم1 بن حذيفة العدوي، وكان أعظمهم قدرا، وأكبرهم سنا، وأفضلهم رأيًا وحلمًا، فقام متوكئًا على عصا، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن خطباء قريش قد قالت فيك فأطنبت، وأثنت عليك فأحسنت، ووالله ما بلغ قائلهم قدرك، ولا أحصى مثنيهم فضلك، أفتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم، قال: أفأوجز أم أطنب؟ قال: بل أوجز، قال: "تولاك الله أمير المؤمنين   1 في الأمالي "إسماعيل بن أبي الجهم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 بالحسنى، وزينك بالتقوى، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي حوائج أفأذكرها؟ قال: هاتها، قال: كبرت سني، وضعفت قواي، واشتدت حاجتي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري، وينفي فقري"، قال: يا ابن أبي الجهم، وما الذي يجبر كسرك، وينفي فقرك؟ قال: ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار، فأطرق هشام طويلا، ثم قال: هيهات يا بن أبي الجهم، بيت المال لا يحتمل ما سألت! فقال: أما إن الأمر لواحد؛ ولكن الله آثرك لمجلسك، فإن تعطنا فحقنا أديت، وإن تمنعنا نسأل الذي بيده ما حويت، إن الله جعل العطاء محبة، والمنع مبغضة، ولأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك، قال: فألف دينار لماذا؟ قال: أقضي بها دينًا قد حم1 قضاؤه، وفدحني2 حمله، وأرهقني3 أهله، قال: نعم المسلك أسلكتها، دينًا قضيت، وأمانة أديت، وألف دينار لماذا؟ قال: أزوج بها من أدرك من ولدي، فأشد بهم عضدي ويكثر بهم عددي قال: ولا بأس أغضضت طرفًا، وحصنت فرجا، وأمرت4 نسلًا، وألف دينار لماذا؟ قال: أشتري بها أرضًا يعيش بها ولدي، وأستعين بفضلها على نوائب دهري، وتكون ذخرًا لمن بعدي، قال: ولا بأس، أردت ذخرًا، ورجوت أجرًا، ووصلت رحما، قد أمرنا لك بما سألت، قال: فالمحمود الله على ذلك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين والرحم خيرا، وخرج، فقال هشام: تالله ما رأيت رجلا ألطف في سؤال، ولا أرفق في مقال من هذا، هكذا فليكن القرشي، وإنا لنعرف الحق إذا نزل، ونكره الإسراف والبخل، وما نعطي تبذيرًا، ولا نمنع تقتيرًا، وما نحن إلا خزان الله في بلاده، وأمناؤه على عباده، فإن أذن أعطينا، وإذا منع أبينا؛ ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق، ما جبهنا5 قائلًا، ولا رددنا سائلًا، فنسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا، فإنه يبسط الرزق لمن يشاء   1 حم الأمر: قضي وقدر. 2 أثقلني. 3 الإرهاق: أن تحمل الإنسان على ما لا يطيقه. 4 كثرت. 5 جبهه كمنعه: لقيه بما يكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 ويقدر1، إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد تكلمت فأبلغت، وما بلغ في كلامه ما قصصت، فقال: إنه مبتدي، وليس المبتدي كالمقتدي. "صبح الأعشى 1: 264، والأمالي 1: 147، والعقد الفريد 2: 285"   1 يقبض ويضيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 404- مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام : قال خالد بن صفوان: وفدت على هشام فوجدته قد بدأ يشرب الدهن؛ وذلك في عام باكر وسميه، وتتابع وليه1، وأخذت الأرض زخرفها، فهي كالزرابي2 المبثوثة، والقباطي3 المنشوة، وثراها كالكافور، ولو وضعت به بضعة4 لم تُترب5، وقد ضربت له سرادقات حبر6، بعث بها إليه يوسف بن عمر من اليمن، تتلألأ كالعقيان7؛ فأرسل إلي، فدخلت عليه، ولم أنزل واقفًا، ثم نظر إلي كالمستنطق لي؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، أتم الله عليك نعمه، ودفع عنك نقمه، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشدًا، وعاقبة ما يئول إليه حمدًا، وأخلصه لك بالتقى، وكثرة لك بالنما ولا كدر عليك منه ما صفا، ولا خالط سروره بالردى؛ فلقد أصبحت للمؤمنين ثقة ومستراحًا، إليك يقصدون في مظالمه، ويفزعون في أمورهم، هذا مقام زين الله به ذكري، وأطاب به بشري8، إذ أراني وجه أمير المؤمنين، ولا أرى لمقامي هذا شيئًا هو أفضل من أن أنبه أمير المؤمنين لفضل نعمة الله عليه، ليحمد الله على ما أعطاه،   1 الوسمي: مطر الربيع الأول، سمي بذلك لأنه يسمُ الأرض، والولي: المطر بعد الوسمي 2 جمع زربى بالكسر ويضم: النمارق والبسط، أو كل ما بسط واتكئ عليه "والنمارق: الوسائد الصغيرة". 3 قباطي بضم الأول مع تشديد الآخر، وقباطي بفتح الأول مع تخفيف الآخر جمع قبطية بالضم على غير قياس، وقد تكسر: ثياب كتان بيض رقاق كانت تعمل في مصر. 4 البضعة وقد تكسر: القطعة من اللحم. 5 أتربه وتربه: جعل عليه التراب. 6 حبر جمع حبرة كعتبة: ضرب من برود اليمن. 7 العقيان: الذهب. 8 النشر: الرائحة الطيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ولا شيء أحضر من حديث سلف لملك من ملوك العجم، إن أذن لي فيه حدثته به، قال: هات، قلت: "كان رجل من ملوك الأعاجم جمع له فتاء1 السن، وصحة الطباع، وسعة الملك، وكثرة المال، وذلك بالخورنق؛ فأشرف يومًا، فنظر ما حوله، فقال لمن حضره: هل علمتم أحدًا أوتي مثل الذي أوتيت؟ فقال رجل من بقايا حملة الحجة: إن أذنت لي تكلمت. قال: قل، فقال: أرأيت ما جمع لك، أشيء هو لك، لم يزل ولا يزول، أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه، وصار إليك، وكذلك يزول عنك؟ قال: لا بل شيء كان لمن قبلن فزال عنه، وصار إلي، وكذلك يزول عني، قال: فسررت شيء تذهب لذته، وتبقى تبعته، تكون فيه قليلًا، وترتهن به طويلًا؟ فبكى وقال: أين المهرب؟ قال إلى أحد أمرين: إما أن تقيم في ملك؛ فتعمل فيه بطاعة ربك، وإما أن تلقي عليك أمساحًا2، ثم تلحق بجبل، تعبد فيه ربك. حتى يأتي عليك أجلك، قال: فمالي إذا أنا فعلت ذلك؟ قال: حياة لا تموت، وشباب لا يهرم، وصحة لا تسقم، وملك جديد لا يبلى، قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي، فإني مختار أحد الرأيين، فإن اخترت ما أنا فيه، كنت وزيرًا لا يعصى، وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد، كنت رفيقا لا يخالف، فقرع عليه عند السحر بابه، فإذا هو قد وضع تاجه، وخلع أطماره، ولبس أمساحه، وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل، حتى أتاهما أجلهما"، وأنشده قول عدي بن زيد: وتفكر رب الخورنق ... إذ أصبح يومًا وللهدى تفكير سره حاله وكثرة ... ما يملك والبحر معرضًا والسدير3 فارعوى قلبه، فقال: ... وما غبطة حي إلى الممات يصير؟ 4 فبكى هشام وقام ودخل، فقال لي حاجبه: لقد كسبت نفسك شرا، دعاك أمير المؤمنين   1 الفتاء كسماء: الشباب. 2 الأمساح جمع مسح كحمل: وهو الكساء من شعر كثوب الرهبان. 3 معرضًا: من أعرض الشيء إذا ظهر وبرز. 4 الغبطة: المسرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 لتحدثه وتلهيه، وقد عرفت علته، فما زدت على أن نعيت إليه نفسه؛ فأقمت أيامًا أتوقع الشر، ثم أتاني حاجبه، قال: قد أمر لك بجائزة، وأذن لك في الانصراف. "عيون الأخبار م2: ص341؛ الأغاني 2: 33" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 405- خالد بن صفوان يصف جريرًا والفرزدق والأخطل: قال هشام بن عبد الملك لشيبة بن عقال -وعنده جرير والفرزدق والأخطل، وهو يومئذ أمير- ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم، في غير خير ولا بر ولا نفع، أيهم أشعر؟ فقال شيبة: "أما جرير فيغرف من بحر، وأما الفرزدق فينحت من صخر، وأما الأخطل فيجيد المدح والفخ"، فقال هشام: ما فسرت لنا شيئًا نحصله، فقال: ما عندي غير ما قلت. فقال لخالد بن صفوان: صفهم لنا يابن الأهتم؛ فقال: "أما أعظمهم فخرًا، وأبعدهم ذكرًا، وأحسنهم عذرا، وأسيرهم مثلًا، وأقلهم غزلًا، وأحلاهم عللًا، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر1، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر سال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق؛ وأما أحسنهم نعتًا، وأمدحهم بيتًا، وأقلهم فوتًا، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع، فالأخطل؛ وأما أغزرهم بحرًا، وأرقهم شعرا، وأهتكهم لعدوه سترًا، الأغر الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق، فجرير، وكلهم ذكي الفؤاد، رفيع العماد، واري الزناد". فقال له مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين، ولا رأينا الآخرين، وأشهد أنك أحسنهم وصفا، وألينهم عطفًا، وأعفهم مقالًا، وأكرمهم فعلًا". فقال خالد: "أتم الله عليكم نعمه، وأجزل لديكم قسمه، وآنس بكم الغربة،   1 وفي رواية زهر الآداب: "إذا ذعر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وفرج بكم الكربة، وأنت والله ما علمت أيها الأمير كريم الغراس، عالم بالناس، جواد في المحل1، بسام في البذل، حليم عند الطيش، في ذروة قريش، ولباب عبد شمس، ويومك خير من أمس". فضحك هشام وقال: "ما رأيت كتخلصك يابن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم، حتى أرضيتهم جميعا، وسلمت منهم". "الأغاني 7: 69، وزهر الآداب 2: 263"   1 القحط والجدب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 406- خالد بن صفوان وبلال بن أبي بردة : قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي: كان بلال بن أبي بردة1 جلدًا حين ابتلي، أحضره يوسف بن عمر في قيوده، لبعض الأمر، وهم بالحيرة؛ فقام خالد بن صفوان، فقال ليوسف: "أيها الأمير، إن عدو الله بلالًا ضربني وحبسني، ولم أفارق جماعة، ولا خلعت يدًا من طاعة"، ثم التفت إلى بلال فقال: "الحمد لله الذي أزال سلطانك، وهد أركانك، وأزال جمالك، وغير حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفًا بالشريف، مظهرًا للعصبية2". فقال بلال: "يا خالد، إنما استطلت علي بثلاث، هن معك علي، الأمير مقبل عليك، وهو عني معرض؛ وأنت مطلق، وأنا مأسور؛ وأنت في طينتك وأنا غريب"، فأفحمه. وكان سبب ضرب بلال خالدًا في ولايته، أن بلالًا مر بخالد في موكب عظيم، فقال خالد: سحابة صيف عن قليل تقشع3، فسمعه بلال، فقال: والله لا تقشع أو يصببك منها شؤبوب4 برد، وأمر بضربه وحبسه. "زهر الآداب 3: 190"   1 هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري 2 وكان أصله من العرب اليمانين. 3 تنكشف وتتفرق. 4 الشؤبوب: الدفعة من المطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 407- خطبة الكميت بن زيد بين يدي هشام يستعطفه : روى صاحب العقد قال: كان الكميت بن زيد الأسدي يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية؛ فطلبه هشام، فهرب منه عشرين سنة1، لا يستقر به القرار، من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام حاجة في كل يوم يقضيها له، ولا يرده فيها؛ فلما خرج مسلمة يومًا إلى بعض صيوده، أتى الناس يسلمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد: قف بالديار وقوف زائر ... وتأن إنك غير صاغر2 حتى انتهى إلى قوله: يا مسلم بن أبي الوليد ... لميتٍ إن شئت ناشر3 علقت حبالي من حبا ... لك ذمة الجار المجاور فالآن صرت إلى أمية، ... والأمور إلى المصاير والآن كنت به المصيب ... كمهتد، بالأمس حائر فقال مسلمة: سبحان الله! من هذا الهندكي4 الجلحاب5، الذي أقبل من أخريات الناس، فبدأ بالسلام، ثم أما بعد، ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت بن زيد، فأعجب به لفصاحته وبلاغته، فسأله مسلمة عن خبره، وما كان فيه طول غيبته، فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه، فضمن له مسلمة أمانه، وتوجه به حتى أدخله على هشام -وهشام لا يعرفه- فقال الكميت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته،   1 يلاحظ أن مدة خلافة هشام كانت عشرين سنة من سنة 105-إلى سنة 125هـ. 2 صاغر: ذليل. 3 نشره وأنشره: أحياه. 4 رجل هندكي: من أهل الهند، "وهو هنا على التشبيه". 5 الجلحاب: الشيخ الكبير، والضخم الأجلح، "والأجلح: الذي انحسر الشعر عن جانبي رأسه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 الحمد لله، قال هشام: نعم. الحمد لله، ما هذا؟ قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، الذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، جعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته، أحمده حمد من علم يقينًا، وأبصر مستبينًا، وأشهد له بما شهد به لنفسه "قائمًا بالقسط1" وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه العربي، ورسولُه الأميّ، أرسله والناس في هفوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار أبهة2 الضلال؛ فبلغ عن الله ما أمر به، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، وعَبَدَ ربَّه، حتى أتاه اليقين، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم إني يا أمير المؤمنين، تهت في حيرة، وحرت في سكرة، ادلأم3 بي خطرها، وأهاب4 بي داعيها، وأجابني غاويها، فاقطوطيت5 إلى الضلالة، وتسكعت6 في الظلمة والجهالة، جائرًا عن الحق، قائلًا بغير صدق؛ فهذا مقام العائذ7، ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد طول العمى، يا أمير المؤمنين كم من عاثر أقلتم عثرته، ومجترم8 عفوتم عن جرمه". فقال له هشام -وأيقن أنه الكميت- ويحك! من سن لك الغواية، وأهاب بك في العماية9؟ قال: الذي أخرج أبي آدم من الجنة: فنسي ولم يجد له عزمًا، وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحابًا متفرقًا، فلفقت10 بعضه إلى بعض، حتى التحم فاستحكم هدرُ11 رعده، وتلألؤ برقه، فنزل الأرض فرويت، واخضلت12   1 العدل. 2 الأبهة: العظمة والبهجة والكبر. 3 ادلأم الليل: ادلهم أي اسود وأظلم، وفي الأصل "اذلأم" وهو تصحيف. 4 أي دعاني؛ وفي الأصل "وأهب" وهو تحريف، "ويقال أيضا هببت به أي دعوته لينزو". 5 اقطوطى: قارب في مشيه إسراعًا. 6 تسكع: مشى مشيًا متعسفًا لا يدري أين يأخذ من بلاد الله، وتحير. 7 اللاجئ: المستجير. 8 جرم فلان وأجرم واجترم: أذنب. 9 العماية: الغواية. 10 من لفق الثوب كضرب: ضم شقة إلى أخرى فخاطها. 11 من هدر البعير كضرب هدرًا وهديرًا: صوت؛ وفي الأصل "هدار" وهو تحريف. 12 ابتلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 واخضرت، وأسقيت، فروي ظمآنها، وامتلأ عطشانها؛ فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين، أضاء الله بك الظلمة الداجية1 بعد العموس2 فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم3، فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا احمرت الحدق، وعضت المغافير4 بالهام، عز بأسك، واستربط جأشك5، مسعار هتان، وكاف6 بصير بالأعداء، مغري الخيل بالنكراء7، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب، وحلم مصيب؛ فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء، وتمم عليه النعماء، ودفع به الأعداء"، فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة. وروى صاحب الأغاني خطبة الكميت8 فقال:   1 المظلمة. 2 في الأصل: "الغموس" بالغين؛ وهو تحريف، والصواب "العموس" من عمس ككرم وفرح عماسة وعموسًا: اشتد واسود وأظلم. 3 أشعر الخوف والهم قلبي: لزق به، وكل ما ألزقته بشيء: أشعرته به. 4 المغفر كمنبر، وبهاء؛ وككتابة: زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة؛ أو حلق يتقنع بها المتسلح. 5 أي صار رابطًا من ربط جأشه رباطة "بالكسر" اشتد قلبه. 6 فلان مسعر حرب ومسعار: أي موقد نار الحرب، ومطر هتان: هطال، ووكاف كذلك، وهما كناية عن الجود. 7 النكراء: الأمر الشديد. 8 وكان سبب غضب هشام على الكميت: أن حكيم بن عباس الكلبي كان ولعًا بهجاء مضر والكميت مضري؛ فكانت شعراء مضر تهجوه ويجيبهم، وكان الكميت يقول هو والله أشعر منكم، قالوا فأجب الرجل، قال إن خالد بن عبد الله القسري- والي العراق وهو يمني- محسن إليّ؛ فلا أقدر أن أرد عليه، قالوا فاسمع بأذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء، وأنشدوه ذلك فحمي الكميت لعشيرته؛ فقال قصيدته المذهبة؛ وبلغ ذلك خالد! فقال والله لأقتلنه، ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن؛ وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب؛ فرواهن الهاشميات -وهي قصائد قالها الكميت في مدح بني هاشم، وكان معروفًا بالتشيع لهم مشهورًا بذلك، وتعد هذه القصائد من جيد شعره ومختاره وهي مطبوعة مشهورة- ودسهن مع نخاس إلى هشام بن عبد الملك؛ فاشتراهن جميعًا، فلما أنس بهن استنطقهن، فرأى فصاحة وأدبًا، فاستقرأهن القرآن فقرأن واستنشدهن الشعر، فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميات؛ فقال: ويلكن! من قائل هذا الشعر؟ قلن الكميت بني زيد الأسدي، قال وفي أي بلد = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 حمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: "أما بعد: فإني كنت أتدهدى، في غمرة،1 وأعوم في بحر غواية، أخنى علي خطلها، واستفزني وهلها2، فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعًا عن الحق، جائرًا عن القصد، أقول الباطل ضلالًا، وأفوه بالبهتان وبالًا، وهذا مقام العائذ، مبصر الهدى، ورافض العماية؛ فاغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة3 بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعف عن الجرمة4"، ثم قال: كم قال قائلكم لعًا ... لك عند عثرته لعاثر5 وغفرتم لذوي الذنوب ... من الأكابر والأصاغر   = هو؟ قلن: في العراق ثم في الكوفة؛ فكتب إلى خالد عامله بالعراق: ابعث إلي برأس الكميت، فبعث إليه خالد في الليل؛ فأخذه وأودعه السجن، وعزم لينفذن أمر الخليفة فيهن وأعمل الكميت الحيلة في الفرار؛ فبعث إلى زوجه حبى "بضم ففتح الباء المشددة"؛ فلما دخلت عليه لبس ثيابها، وتنقب نقابها، وأقامها مكانه، وخرج متنكرًا، وظل متواريًا مدة، حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه، خرج ليلًا في جماعة من بني أسد، وما زال يسير حتى بلغ الشام؛ واستجار بمسلمة بن عبد الملك؛ فأجاره واحتال له في عفو الخليفة عنه، فقال له: إن معاوية بن هشام مات قريبًا؛ وقد جزع عليه جزعًا شديدًا، فإذا كان الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا: هذا استجار بقبر أبينا، ونحن أحقُّ من أجاره؛ فأصبح هشام على عادته متطلعًا من قصره إلى القبر، فقال: من هذا؟ قالوا: لعله مستجير بالقبر؛ فقال: يجاز من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له، فقيل: فإنه الكميت، قال: يحضر أعنف إحضار؛ فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر، وهم يقولون: يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا، وقد مات ومات حظُه من الدنيا، فاجعله هبة له ولنا؛ ولا تفضحنا فيمن استجار به، فبكى هشام حتى انتحب؛ ثم أقبل على الكميت؛ فقال له: يا كميت: أنت القائل كذا وكذا -مما أورده في هاشمياته؟ - فقال: لا والله؛ ولا أتان من أتن الحجاز وحشية؛ ثم خطب بين يديه يستعطفه، فعفا عنه وأجازه، وتوفي الكميت سنة 126هـ. 1 دهدى الحجر فتدهدى: دحرجه، كدهده، والغمرة: الانهماك في الباطل، والشدة. 2 الوهل: الضعف والفزع. 3 الحوبة: الإثم. 4 الجرمة ككلمة: الجريمة. 5 يقال للعاثر: لعا لك، وهو دعاء له بأن ينتعش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 أبني أمية: إنكم ... أهل الوسائل والأوامر ثقتي لكل ملمة ... وعشيرتي دون العشائر أنتم معادن للخلافة ... كابرًا من بعد كابر بالتسعة المتتابعين ... خلائفًا وبخير عاشر1 وإلى القيامة لا تزال ... لشافع منكم وواتر ثم قطع الإنشاد، وعاد إلى خطبته فقال: "إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته2، ومناط المنتجعين بحبله، من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلًا عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين، فقال له: ويلك يا كميت! من زين لك الغواية، ودلاك في العماية؟ قال: الذي أخرج أبانا من الجنة، وأنساه العهد؛ فلم يجد له عزمًا" فرضي عنه، وأمر له بجائزة "العقد الفريد 1: 154، والأغاني 15: 113"   1 هشام بن عبد الملك هو عاشر خلفاء بني أمية. 2 الصباحة: الجمال، صبح ككرم فهو صبيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 408- مخاصمة عدي بن أرطأة لامرأته عند شريح القاضي: دخل عدي بن أرطأة على شريح1القاضي يخاصم امرأة له؛ فقال: السلام عليكم، قال: وعليكم، قال: استمع مني، قال: قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: من مكان سحيق، قال: وإني قدمت إلى بلدكم هذا، قال: خير مقدم، قال: وإني تزوجت امرأة، قال: بالرفاء2 والبنين، قال: وإنها ولدت غلامًا، قال: ليهنك الفارس، قال: وقد كنت شرطت لها صداقها، قال: الشرط أملك، قال:   1هو أبو أمية شريح بن الحارث الكندي، كان من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، وقد أقام قاضيًا خمسًا وسبعين سنة، وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا فطنة وذكاء، ومعرفة، وعقل، وإصابة، توفي سنة 87هـ، وهو ابن مائة سنة، وقيل ابن مائة وعشرين. 2 أي بالالتئام وجمع الشمل، رفأ الثوب كمنع: لأم خرقه، وضم بعضه إلى بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وقد أردت الخروج بها إلى بلدي، قال: الرجل أحق بأهله، قال: ناقض بيننا. قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال بشهادة ابن أخت خالتك. "البيان والتبيين 3: 234، ووفيات الأعيان 1: 224" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 409- كلمة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان : وقد تشاح بنو هاشم، وبنو أمية في ميراث بينهم عن سفيان بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان قال: وقع ميراث بين بني هاشم وبين بني أمية، تشاحوا فيه، وتضايقوا؛ فلما تفرقوا أقبل علينا أبونا عمرو، فقال: "يا بني: إن لقريش درجًا تزل عنها أقدام الرجال، وأفعالًا تخشع لها رقاب الأموال، وغايات تقصر عنها الجياد المسومة1، وألسنا تك عنها الشفار المشحوذة ولو اختلفت الدنيا ما تزينت إلا بهم، ولو كانت لهم ضاقت بسعة أخلاقهم، ثم إنه ليخيل إلى أن منهم ناسًا تخلقوا بأخلاق العوام؛ فصار لهم رفق في اللؤم، وخرق2 في الحر، ولو أمكنهم لقاسموا الطير في أرزاقها، إن خافوا مكروها تعجلوا له الفقر، وإن عجلت لهم نعمة أخروا عليها الشكر، أولئك أنضاء3 الفكر، وعجزة حملة الشكر" "الأمالي 2: 238، والعقد الفريد 2: 40"   1 الخيل المسومة: المرسلة وعليها ركبانها، أو المعلمة، أي التي جعل عليها سومة "بالضم" أي سمة وعلامة، أو المرعية. 2 كقفل وسبب: ضد الرفق، وأن لا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور. 3 جمع نضو كحمل: وهو المهزول. "28 –جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 410- خطبة دينار : وكان سماك بن عبيد العبسي في حصار نهاوند "سنة 21هـ" أسر رجلًا من أهلها يسمى دينار فأتى -حذيفة بن اليمان فصالحه على الخراج- فنسبت إليها ماه. وكان يواصل سماكا ويهدي له ويوافي الكوفة؛ كلما كان عمله إلى عامل الكوفة فقدم الكوفة في إمارة معاوية فقام في الناس بالكوفة فقال: "يا معشر أهل الكوفة: أنتم أول ما مررتم بنا، كنتم خيار الناس، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان؛ ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل وخِب1 وغدر وضيق، ولم يكن فيكم واحدة منهن، فرمقتكم فإذا ذلك في مولديكم؛ فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز". "تاريخ الطبري 4: 245"   1 الخب: الخداع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 411- رجل يمدح خالد بن عبد الله القسري : وقال رجل لخالد بن عبد الله القسري: "والله إنك لتبذل ما جل، وتجبر ما انفل، وتكثر ما قل، ففضلك بديع، ورأيك جميع، تحفظ ما شذ، وتؤلف ما ند". "زهر الآداب 3: 167" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 خطب الخوارج وما يتصل بها : 412- خطبة حيان بن ظبيان السلمي: روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: كان حيان بن ظبيان السلمي يرى رأي الخوارج -وكان ممن ارتُثّ1 يوم النهروان؛ فعفا عنه علي عليه السلام، في الأربعمائة الذين كان عفا عنهم، من المرتثين يوم النهر- فكان في أهله وعشيرته: لبث شهرا أو نحوه، ثم إنه خرج إلى الري، في رجال كانوا يرون ذلك الرأي؛ فلم يزالوا مقيمين بالري حتى بلغهم قتل علي كرم الله وجهه، دعا أصحابه أولئك، وكانوا بضعة عشر رجلًا، فأتوه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الإخوان من المسلمين: إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم أخا مراد قعد لقتل علي بن أبي طالب عند أغباش2 الصبح، مقابل السدة3 التي في المسجد مسجد الجماعة؛ فلم يبرح راكدًا ينتظر خروجه، حتى خرج عليه حين أقام المقيم الصلاة: صلاة الصبح، فشد عليه، فضرب رأسه بالسيف، فلم يبق إلا ليلتين حتى مات". فقال سالم بن ربيعة العبسي: لا يقطع الله يمينًا علت قَذَالَه4 بالسيف؛ فأخذ القوم يحمدون الله على قتله عليه السلام، ورضي الله عنه ولا رضي عنهم ولا رحمهم، ثم إن حيان بن ظبيان قال لأصحابه:   1 ارتث: حمل من المعركة رثيثا، أي جريحا وبه رمق. 2 أغباش جمع غبش بالتحريك: وهو ظلمة آخر الليل. 3 السدة: باب الدار، وهي هنا ما يبقى من الطاق المسدود. 4 القذال: جماع مؤخر الرأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 "إنه والله ما يبقى على الدهر باق، وما يلبث الليالي والأيام، والسنون والشهور على ابن آدم، حتى تذيقه الموت، فيفارق الأخوان الصالحين، ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة، ولم تزل ضارة لمن كانت له هما وشجنًا1، فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا، فلنأت إخواننا، فلندعهم إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب؛ فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، وثأرنا2 الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفى الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا، ولنا بأسلافنا أسوة". فقالوا له: كلنا قائل ما ذكرت، وحامد رأيك الذي رأيت، فرد بنا المصر، فإنا معك راضون بهداك وأمرك، فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة، حتى نزلها، فلم يزل بها حتى قدم معاوية، وبعث المغيرة بن شعبة واليا على الكوفة. "تاريخ الطبري 6: 99"   1 الشجن: الهم والحزن. 2 الثأر: قاتل حميمك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 ائتمار الخوارج مدخل ... ائتمار الخوارج: ثم إن الخوارج في أيام المغيرة فزعوا إلى ثلاثة نفر منهم: المستورد بن علفة التيمي، وحيان بن ظبيان السلمي، ومعاذ بن جوبن بن حصين الطائي؛ فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان، فتشاوروا فمين يولون عليهم، فقال لهم المستورد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 413- مقال المستورد بن علفة : "يا أيها المسلمون والمؤمنون، أراكم الله ما تحبون، وعزل عنكم ما تكرهون، ولو عليكم من أحببتم؛ فوالذي يعلم خائنة الأعين1 وما تخفي الصدور، ما أبالي من كان الوالي علي منكم، وما شرف الدنيا نريد، وما إلى البقاء فيها من سبيل، وما نريد إلا الخلود في دار الخلود".   1 بمسارقتها النظر إلى المحرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 414- مقال حيان بن ظبيان : فقال حيان بن ظبيان: "أما أنا فلا حاجة لي فيها، وأنا بك وبكل امرئ من إخواني راض؛ فانظروا من شئتم منكم فسموه، فأنا أول من يبايعه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 415- مقال معاذ بن جوين : فقال لهم معاذ بن جوين: "إذا قلتما أنتما هذا، وأنتما سيد المسلمين، وذوا أنسابهم، في صلاحكما ودينكما وقدركما؛ فمن يرأس المسلمين؟ وليس كلكم يصلح لهذا الأمر؛ وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين -إذا كانوا سواء في الفضل- أبصرهم بالحرب، وأفقههم في الدين، وأشدهم اضطلاعًا1 بما حمل، وأنتما بحمد الله ممن يُرتضَى لهذا الأمر؛ فليتوله أحدكما": قالا: فتوله أنت: فقد رضيناك، فأنت -والحمد لله- الكامل في دينك ورأيك، فقال لهما: أنتما أسن مني؛ فليتوله أحدكما، فقال حينئذ جماعة من حضر: قد رضينا بكم أيها الثلاثة، فولوا أيكم أحببتم، وكانت خاتمة ذلك النقاش أن بايعوا المستورد، واتعدوا أن يتجهزوا ويستعدوا، ثم يخرجوا هلال شعبان سنة 43هـ "تاريخ الطبري 6: 100"   1 أي قوة على حمله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 416- خطبة المغيرة بن شعبة أمير الكوفة يحذر أهلها من إيواء الخوراج ونصرتهم: ونمى إلى المغيرة بن شعبة أن الخوارج خارجة عليه؛ فقام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وإني والله لقد خشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم؛ فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم الله لقد خشيت أن لا أجد بدًا من أن يعصب الحليم التقي، بذنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 السفيه الجاهل، فكفوا أيها الناس سفهاءكم، قبل أن يشمل البلاء عوامكم، وقد ذكر لي أن رجالًا منكم يريد أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف، وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم، وجعلتهم نكالًا لمن بعدهم؛ فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار". ثم نزل، وبعث إلى رؤساء الناس فدعاهم، ثم قال لهم: "إنه قد كان من الأمر ما قد علمتم، وقد قلت ما قد سمعتم؛ فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه؛ وإلا فوالذي لا إله غيره لأتحولن عما كنتم تعرفون، إلى ما تنكرون وعما تحبون إلى ما تكرهون، فلا يلم لائم إلا نفسه، وقد أعذر من أنذر". فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم، فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه يريد أن يهيج فتنة، أو يفارق جماعة، وجاء صعصعة بن صوحان، فقام في عبد القيس، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 417- خطبة صعصعة بن صوحان : "يا معشر عباد الله: إن الله -وله الحمد كثيرًا- لما قسم الفضل بين المسلمين خصكم منه بأحسن القسم؛ فأجبتم إلى دين الله، الذي اختاره الله لنفسه، وارتضاه لملائكته ورسله، ثم أقمتم عليه حتى قبض الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم اختلف الناس بعده، فثبتت طائفة، وارتدت طائفة، وأدهنت طائفة، وتربصت طائفة، فلزمتم دين الله إيمانًا به وبرسوله، وقاتلتم المرتدين، حتى قام الدين، وأهلك الله الظالمين؛ فلم يزل الله يزيدكم بذلك خيرًا في كل شيء، وعلى كل حال، حتى اختلف الأمة بينها، فقالت طائفة: نريد طلحة والزبير وعائشة، وقالت طائفة: نريد أهل المغرب1، وقالت.   1 أي معاوية، وكان واليا على الشأم، وهي بالنسبة للعراق في المغرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 طائفة: نريد عبد الله بن وهب الراسبي: راسب الأزد، وقلتم أنتم: لا نريد إلا أهل البيت، الذين ابتدأنا الله من قبلهم بالكرامة، تسديدًا من الله لكم وتوفيقًا؛ فلم تزالوا على الحق لازمين له، آخذين به، حتى أهلك الله بكم، وبمن كان على مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر، "وسكت عن ذكر أهل الشام لأن السلطان كان حينئذ سلطانهم"، ولا قوم أعدى لله ولكم، ولأهل بيت نبيك، ولجماعة المسلمين، من هذه المارقة الخاطئة، الذين فارقوا إمامنا1. واستحلوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر؛ فإياكم أن تؤووهم في دوركم، أو تكتموا عليهم، فإنه ليس ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم، وقد والله ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي، وأنا باحث عن ذلك وسائل، فإن كان حكي لي ذلك حقًا، تقربت إلى الله تعالى بدمائهم، فإن دماءهم حلال، ثم قال: يا معشر عبد القيس: إن ولاتنا هؤلاء هم أعرف شيء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلًا، إنهم أسرع شيء إليكم وإلى أمثالكم". وأقبل أصحاب المستورد يأتونه، فليس منهم رجل إلا يخبره بما قام به المغيرة بن شعبة في الناس، وبما جاءهم رؤساؤهم وقاموا فيهم، وقالوا له: اخرج بنا فوالله ما نأمن أن نؤخذ في عشائرنا، فخرج بهم من الكوفة، ووجه المغيرة لقتالهم معقل بن قيس الرياحي؛ فلما علم المستورد بمسير معقل إليه جمع أصحابه. "تاريخ الطبري 6: 106"   1 أي عليًا عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 418- خطبة المستورد : فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن هذا الخرف معقل بن قيس قد وجه إليكم، وهو من السبئية1 المفترين الكاذبين، وهو لله ولكم عدو؛ فأشيروا علي برأيكم" فقال له بعضهم: والله ما خرجنا نريد إلا الله، وجهاد من عادى الله، وقد جاءونا فأين نذهب عنهم؟ بل نقيم حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير الحاكمين، وقالت طائفة أخرى: بل نعتزل ونتنحى، ندعو الناس ونحتج عليهم بالدعاء. فقال: "يا معشر المسلمين: إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا، ولا ذكرها، ولا فخرها، ولا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وأضعاف ما يتنافس فيه منها بقبال2 نعلي وما خرجت إلا التماس الشهادة، وأن يهديني الله إلى الكرامة، بهوان بعض أهل الضلالة؛ وإني قد نظرت فيما استشرتكم فيه؛ فرأيت أن لا أقيم لهم حتى يقدموا علي، وهم حامون متوافرون، ولكن رأيت أن أسير حتى أمعن؛ فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا في طلبنا، فتقطعوا وتبددوا، فعلى تلك الحال ينبغي لنا قتالهم، فاخرجوا بنا على اسم الله عز وجل".   1 السبئية: أتباع عبد الله بن سبأ، وهو يهودي من صنعاء، أسلم زمن عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، وغلا في علي، وزعم أنه نبي. ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله، ودعا إلى ذلك قومًا من غواة الكوفة وأتى قوم منهم إلى علي فقالوا له: أنت هو، قال: ومن هو؟ قالوا: أنت الله، فاستعظم الأمر، وأمر بنار فأججت في حفرتين، وأحرقهم بها، فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار: الآن صح عندنا أنه الله؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا الله، ثم إن عليًا خاف من إحراق الباقين منهم شماتة أهل الشام، وخاف اختلاف أصحابه عليه، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن؛ فلما بلغه مقتل علي قال: لو أتيتمونا بدماغه سبعين مرة ما صدقنا موته، وزعم أن المقتول لم يكن عليًا، وإنما كان شيطانًا تصور للناس في صورة علي، وأن عليًا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى بن مريم، ومن ابن سبأ انشعبت أصناف الغلاة. 2 قبال النعل: زمام بين الأصبع الوسطى والتي تليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 فخرجوا فمضوا على شاطئ دجلة؛ فعبروه ومضوا في أرض جوخى، حتى بلغوا المذار فأقاموا فيها، وأقبل معقل بن قيس، فأقام بالمدائن ثلاثا، ثم جمع أصحابه، فقال: "تاريخ الطبري 6: 110" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 419- خطبة معقل بن قيس : "إن هؤلاء المارقة الضلال إنما خرجوا فذهبوا على وجوههم، إرادة أن تتعجلوا في آثارهم؛ فتتقطعوا وتتبددوا، ولا تلحقوا بهم إلا وقد تعبتم ونصبتم1، وإنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله" فخرج في آثارهم حتى لحقهم بالمذار مقيمين. ودارت بينهما رحى الحرب بشدة، ودعا المستورد معقلًا للمبارزة فتبارزا، وطعنه المستورد حتى خرج سنان الرمح من ظهره، وضربه معقل بالسيف حتى خالط سيفه أم الدماغ؛ فوقع ميتًا، وقتل معقل، وشد أصحابه على الخوارج، فما لبثوهم أن قتلوهم. "تاريخ الطبري 6: 111"   1 تعبتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 420- كلمات حكيمة للمستورد : كان المستورد يقول: إذا أفضيت بسري إلي صديقي فأفشاه لم ألمه؛ لأني كنت أولى بحفظه، ويقول: لا تفش إلى أحد سرًّا وإن كان مخلصًا إلا على جهة المشاورة، ويقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك، منك على حقن دمك، ويقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب، ويقول: المال غير باق عليك؛ فاشتر من الحمد ما يبقي عليك، ويقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد1، وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت. "الكامل للمبرد2: 155، وشرح ابن أبي الحديد م1 ص453".   1 أي من المولى الكريم جل وعلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 ائتمار الخوارج ثانية : 421- خطبة حيان بن ظبيان : فلما كانت سنة 58هـ، جمع حيان بن ظبيان السلمي أصحابه إليه، ثم إنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال لهم: "أما بعد، فإن الله عز وجل كتب علينا الجهاد؛ فمنا من قضى نحبه1، ومنا من ينتظر، وأولئك الأبرار الفائزون بفضلهم، ومن يكن منا من ينتظر فهو من سلفنا القاضين نحبهم، السابقين بإحسان؛ فمن كان منكم يريد الله وثوابه، فليسلك سبيل أصحابه وإخوانه، يؤته الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، والله مع المحسنين".   1 النحب: الأجل والنذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 422- خطبة معاذ بن جوين : قال معاذ بن جوبن الطائي: "يا أهل الإسلام: إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة، وإنكار الجور، كان لنا به عند الله عذر؛ لكان تركه أيسر علينا وأخف من ركوبه، ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا، وقد جعل لنا القلوب والأسماع، حتى ننكر الظلم، ونغير الجور، ونجاهد الظالمين". ثم قال ابسط يدك نبايعك؛ فبايعه، وبايعه القوم، فضربوا على يد حيان فبايعوه، وذلك في إمارة عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي1".   1 وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 ثم إن القوم اجتمعوا بعد ذلك بأيام إلى منزل معاذ بن جوين؛ فقال لهم حيان: عباد الله، أشيروا برأيكم، أين تأمرونني أن أخرج؟ فقال معاذ: إني أرى أن تسير بنا إلى حلوان1 حتى ننزلها؛ فإنها كورة بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر -يعني بالثغر الري- فمن كان يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبل والسواد2 لحق بنا.   1 بلد بفارس. 2 أي سواد العراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 423- رد حيان بن ظبيان : فقال له حيان: "عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، لعمري لا يتركونكم حتى يجتمعوا إليكم؛ ولكن قد رأيت أن أخرج معكم في جانب الكوفة والسبخة، أو زرارة3 والحيرة، ثم نقاتلهم حتى نلحق بربنا؛ فإني والله لقد علمت أنكم لا تقدرون -وأنتم دون المائة رجل- أن تهزموا عدوكم، ولا أن يشتد نكايتكم فيهم؛ ولكن متى علم الله أنكم قد أجهدتم أنفسكم في جهاد عدوه وعدوكم، كان لكم به العذر، وخرجتم من الإثم" قالوا: رأينا رأيك.   1 محلة بالكوفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 434- مقال عتريس بن عرقوب : فقال لهم عتريس بن عرقوب: ولكن لا أرى رأي جماعتكم؛ فانظروا في رأي لكم، إني لا إخالكم تجهلون معرفتي بالحرب، وتجربتي للأمور، فقالوا له: أجل، أنت كما ذكرت، فما رأيك؟ قال: ما أرى أن تخرجوا على الناس بالمصر، إنكم قليل في كثير، والله ما تزيدون على أن تحرزوهم1 أنفسكم، وتقروا أعينهم بقتلكم، وليس هكذا تكون المكايدة، إذا آثرتم أن تخرجوا على قومكم، فكيدوا عدوكم.   1 أي تملكوهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 ما يضرهم" قالوا: فما الرأي؟ قال: تسيرون إلى الكورة التي أشار بنزولها معاذ بن جوين، يعني حلوان، أو تسيرون بنا إلى عين التمر، فنقيم بها؛ فإذا سمع بنا إخواننا أتونا من كل جانب وأوب1".   1 الأوب: الطريق والجهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 425- رد حيان : فقال له حيان: "إنك والله لو سرت بنا أنت وجميع أصحابك نحو أحد هذين الوجهين، ما اطمأننتم به حتى يلحق بكم خيول أهل المصر؛ فأنى تشفون أنفسكم؟ فوالله ما عدتكم بالكثيرة، التي ينبغي أن تطمعوا معها بالنصر في الدنيا على الظالمين المعتدين؛ فاخرجوا بجانب من مصركم هذا، فقاتلوا عن أمر الله من خالف طاعة الله، ولا تربصوا ولا تنتظروا؛ فإنكم إنما تبادرون بذلك إلى الجنة، وتخرجون أنفسكم بذلك من الفتنة" قالوا: أما إذا كان لا بد لنا، فإنا لن نخالفك، فاخرج حيث أحببت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 426- خطبة حيان : ثم إن أصحاب حيان بن ظبيان اجتمعوا إليه؛ فقال لهم: يا قوم: إن الله قد جمعكم لخير، وعلى خير، والله الذي لا إله غيره ما سررت بشيء قط في الدنيا بعد ما أسلمت سروري لمخرجي هذا على الظلمة الأثمة؛ فوالله ما أحب أن الدنيا بحذافيرها لي، وأن الله حرمني في مخرجي هذا الشهادة، وإني قد رأيت أن نخرج حتى ننزل جانب دار جرير فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم". فقال عتريس بن عرقوب: أما أن نقاتلهم في جوف المصر؛ فإنه يقاتلنا الرجال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وتصعد النساء والصبيان والإماء فيرموننا بالحجارة، فقال لهم رجل منهم: انزلوا بنا إذن من وراء المصر الجسر -وهو موضع زرارة؛ وإنما بنيت زرارة بعد ذلك إلا أبياتًا يسيرة كانت منها قبل ذلك- فقال لهم معاذ بن جوين: لا بل سيروا بنا فلننزل بانقيا1؛ فما أسرع ما يأتيكم عدوكم؛ فإذا كان ذلك استقبلنا القوم بوجوهنا، وجعلنا البيوت في ظهورها، فقاتلناهم من وجه واحد، فخرجوا؛ فبعث إليهم جيش، فَقُتِلُوا جميعًا. "تاريخ الطبري 6: 172"   1 بانقيا: ناحية من نواحي الكوفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 خطبة مسلم بن عويس حين خرج لقتال الأزارقة ... 427- خطبة مسلم بن عبيس حين خرج لقتال الأزارقة: لما ملك نافع بن الأزرق -زعيم الأزارقة1- بلاد الأهواز، وفشا عماله في السواد ارتاع لذلك أهل البصرة؛ فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم إن ظفروا به كفعلهم في سوادكم؛ فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل أمير البصرة؛ فسأله أن يؤمر عليهم فاختار لهم مسلم بن عبيس، وكان دَيِّنًا شجاعًا، فأمره عليهم وشيعه.   1 قدمنا لك في مناظرة عبد الله بن الزبير للخوارج" أن الخوارج كانا قد مضوا إلى مكة سنة 64 ليمنعوا الحرم من جيش يزيد، وناصروا ابن الزبير، وقاتلوا معه، ثم ناظروه: فلم يرقهم ما سمعوا منه، فتفرقوا عنه، وصارت طائفة كبيرة منهم إلى البصرة، وبايعوا نافع بن الأزرق الحنفي، وسموه أمير المؤمنين، وخرج بهم إلى الأهواز؛ فغلبوا عليها وعلى ما وراءها من أرض فارس وكرمان، ونسبوا إليه فقيل لهم: الأزارقة، وهذه الفرقة من أشد فرق الخوارج بأسًا، وأصلبها عودًا، وأكثرها عددًا وأحفلها حوادث وأنباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: "إني ما خرجت لامتيار1 ذهب ولا فضة، وإني لأحارب قومًا إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم؛ فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع". فلما صاروا "بدولاب" خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل في المعركة ابن عبيس وابن الأزرق سنة 65هـ. "الكامل المبرد 2: 180"   1 أي لجلب، وأصله من امتار لأهله: جلب لهم الميرة بالكسر، وهي الطعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 خطب المهلب بن أبي صفرة : 428- خطبته في حث جنده على قتال الأزارقة : وكان المهلب بن أبي صفرة -وهو على قتال الأزارقة- يأمر أصحابه بالتحرز ويخوفهم البيات، وإن بعد منهم العدو، ويقول: "احذروا أن تكادوا كما تكيدون، ولا تقولوا هزمنا وغلبنا؛ فإن القوم خائفون وجلون، والضرورة تفتح باب الحيلة، ثم قام فيهم خطيبًا فقال: "يا أيها الناس، إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم، وسفكوا دماءكم فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه؛ فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله1، والمعصيّ المخالف   1 هو أخو عمر بن عبيد الله بن معمر الذي ولاه ابن الزبير البصرة "تولاها بعد عبد الله بن الحارث بن نوفل" وولى عثمان محاربة الأزارقة بعد مسلم بن عبيس؛ فخرج إليهم في اثني عشر ألفًا؛ فلما عبروا إليهم دجيلًا نهض إليهم الخوارج -وذلك قبيل الظهر- فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى؟ فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء؛ فقال: لا جرم، والله لا أتغذى حتى أناجزهم؛ فقال له حارث: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف: فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم أهل العراق إلا جبنًا، وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب؟ أنت والله بغير هذا أعلم "يعرض له بالشراب" فغضب حارثة فاعتزل وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس؛ فأجلت الحرب عنه قتيلًا، وانهزم الناس، وتولى حربهم بعده حارثة بن بدر فهزموه أيضًا؛ فهرب يركض حتى أتى دجيل؛ فركب سفينة هو وجماعة من أصحابه، وأتاه رجل من بني تميم، وعليه سلاحه، والخوارج وراءه؛ فصاح به: يا حارث ليس مثلي ضيع، فقال للملاح: قرب؛ فقرب إلي جرف؛ فطفر بسلاحه في السفينة، فساخت بالقوم جميعًا، فماتوا غرقًا، وتوجه الخوارج نحو البصرة، فضج الناس، وخافوهم خوفًا شديدًا، واختاروا لقتالهم المهلب بن أبي صفرة؛ فولاه القباع "وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والي البصرة من قبل ابن الزبير بعد عمر بن عبيد الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 حارثة بن بدر؛ فقتلوا جميعًا وقتلوا؛ فالفوهم بجد وحد فإنما هم مهنتكم1 وعبيدكم، وعار عليكم، ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم، ويطئوا حريمكم". "الكامل للمبرد 2: 189؛ وشرح ابن أبي الحديد م1 ص: 385"   1 جمع ماهن، وهو العبد والخادم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 429- خطبة أخرى له في جنده : وخطب أصحابه، وقد مال الخوارج بأجمعهم على العسكر، وانهزم الناس بسولاف فقال: "والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف، والطمع والطبع1 {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ 2 فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} "الكامل للمبرد 2: 191، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص386"   1 الشين والعيب. 2 القرح ويضم: عض السلاح ونحوه مما يخرج بالبدن، أو بالفتح: الآثار، وبالضم: الألم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 430- نص آخر : وروى الطبري خطبة المهلب في أصحابه يوم هزموا فقال: ثم إن الخوارج شدت على الناس بأجمعها شدة منكرة؛ فأجفل الناس، وانصابوا1 منهزمين لا تلوي2 أم على ولد؛ حتى بلغ البصرة هزيمة الناس! وخافوا السباء3، وأسرع المهلب حتى سبقهم إلى مكان يفاع4، في جانب عن سنن المنهزمين، ثم إنه نادى الناس: إلي إلي عباد الله؛ فثاب إليه جماعة من قومه؛ فاجتمع إليه منهم نحو من ثلاثة آلاف؛ فلما نظر إلى من قد اجتمع رضي جماعتهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:   1 انصاع: انفتل راجعًا مسرعًا. 2 مر لا يلوي على أحد: أي لا يقف ولا ينتظر. 3 السبي. 4 اليفاع: ما ارتفع من الأرض. "29 -جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 "أما بعد: فإن الله ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، إني لجماعتكم لراض، وإنكم لأنتم أهل الصبر وفرسان أهل المصر، وما أحب أن أحدًا ممن انهزم معكم؛ فإنهم لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا1، عزمت على كل امرئ منكم لما أخذ عشرة أحجار2، ثم امشوا بنا نحو عسكرهم؛ فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم؛ فوالله إني لأرجو ألا ترجع إليهم خيلهم، حتى تستبيحوا عسكرهم، وتقتلوا أميرهم". "تاريخ الطبري 7: 88"   1 فسادًا. 2 وفي الكامل للمبرد: وقال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي فيها حجارة وارموا بها في وقت الغفلة؛ فإنها تصد الفارس، وتصرع الراجل، وقال رجل من الخوارج: أتانا بأحجار ليقتلنا بها وهل تقتل الأبطال ويحك بالحجر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغيرة ... 431- خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغير: ولما كتب إليه مصعب بن الزبير أن اقدم علي، واستخلف ابنك المغيرة، جمع الناس فقال له: "إني قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم: رقة ورحمة، وابن كبيركم: طاعة وبرًا وتبجيلًا، وأخو مثله: مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فوالله ما أردت صوابًا قط إلا سبقني إليه" ثم مضى إلى مصعب. "الكامل للمبرد 2: 198، ونهاية الأرب 7: 249، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص389". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 خطبة الزبير بن على في الأزارقة ... 432- خطبة الزبير بن علي في الأزراقة: وكان نافع بن الأزرق قبل قتله استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي، وقتل ابن الماحوز يوم سلى وسلبرى1، فاجتمعت الخوارج بأرجان؛ فبايعوا الزبير بن علي السليطي، فرأى فيهم انكسارًا شديدًا، وضعفًا بينًا، فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل عليهم فقال: "إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين، فما صار إليه خير مما خلف، وقد أصبتم منهم مسلم ابن عبيس، وربيعا الأجذم2، والحجاج بن باب وحارثة بن بدر، وأشجبتم المهلب، وقتلتم أخاه المعارك3، والحجاج بن باب، وحارثة بن بدر، وأشجبتم المهلب، وقتلتم أخاه المعاك3، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصًا، ويوم سولاف4 كان لهم عقوبة ونكالًا؛ فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، والعاقبة للمتقين". "الكامل للمبرد 2: 196، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص388"   1 مجموع اللفظين موضع واحد بالأهواز قرب جند يسابور، وقعت فيها وقعة بين الخوارج والمهلب، وقتل فيها ابن الماحوز رئيس الخوارج، وفي ذلك يقول رجل منهم: بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وجرحى لم توسد خدودها 2 كان مسلم بن عبيس تقدم إلى أصحابه "يوم دولاب" فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم؛ فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية؛ فلم يقاتلهم نيفًا وعشرين يومًا حتى قتل، ثم أخذها الحجاج بن باب الحميري، فلم يزل يقاتلهم زهاء شهر حتى قتل أيضًا، التقى هو وعمران بن الحارث الراسبي فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين. 3 وكان ابن المحاوز وجه بعض جيشه إلى نهر تيري؛ وبها المعارك بن أبي صفرة؛ فقتلوه وصلبوه، فنمى الخبر إلى المهلب، فوجه ابنه المغيرة، فدخل نهر تيري، استنزله ودفنه وسكن الناس، واستخلف بها ورجع إلى أبيه. 4 وفي ذلك اليوم يقول رجل من الخوارج: وكائن تركنا يوم سولاف منهم ... أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 433- خطبة عتاب بن ورقاء الرياحي وقد طال عليه الحصار : وانحط الزبير بن علي على أصفهان1؛ فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن؛ فلما طال به الحصار، وأصابه الجهد الشديد، دعا أصحابه؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: أيها الناس ما نتظرون وقد أصابكم من الجهد ما قد ترون؟ فوالله إن2 بقي مع هذا الحصار إلا أن يموت أحدكم على فراشه؛ فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو، فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه، فاتقوا الله؛ فوالله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء من أنتم منه، ولقد حاربتموه مرارًا فانتصفتم منهم اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم، وبكم حياة وقوة، قبل أن لا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل أن لا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته؛ فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فوالله إني لأرجو إن صدقتموهم أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم. فلما أصبح الغد صلى بهم الصبح، ثم خرج إلى الخوارج، وهم غارُّون؛ فلم يشعروا بهم حتى غشوهم، فقاتلوهم بجد لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقًا، وقتلوا رئيسهم الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج. ثم أدار الخوارج بينهم، فولوا عليهم قطري بن الفجاءة المازني وبايعوه "تاريخ الطبري 7: 166، والكامل للمبرد 2: 202، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص391"   1 أصبهان: بفتح الهمزة والباء، وقد تكسر همزتها، وقد تبدل باؤها فاء. 2 إن هنا نافية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 434- نصيحة عرهم العدوي لخالد بن عبد الله : ولما بعث خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد1 أخاه عبد العزيز لقتال الأزارقة2 قام إليه عرهم أخو بني العدوية، فقال: "أصلح الله الأمير، إن هذا الحي من تميم تئط3 بقريش منهم رحم دارسة ماسة، وإن الأزارقة ذؤبان العرب وسباعها، وليس صاحبهم إلا المباكر المناكر، المحرب4 المجرب، الذي أرضعته الحرب بلبانها، وجرسته5 وضرسته، وذلك أخو الأزد المهلب بن أبي صفرة، والله إن غثك أحب إلينا من سمينه؛ ولكني أخاف عدوات الدهر وغدره، وليس المجرب كمن لا يعلم، ولا الناصح المشفق، كالغاش المتهم"، قال له خالد: اسكت، ما أنت وذا؟ وقد هزمت الأزارفة عبد العزيز، وأحدوا امرأته6 وفر عنها. "ذيل الأمالي ص33"   1 كان والي البصرة وأعمالها من قبل عبد الملك بن مروان من سنة 71 إلى سنة74 "انظر ص233". 2 قال أبو العباس المبرد في الكامل "2: 207": "ومضى قطري إلى كرمان؛ فانصرف خالد إلى البصرة، فأقام قطري بكرمان أشهرًا، ثم عمد لفارس، وخرج خالد إلى الأهواز، وندب للناس رجلًا فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: "ذهب المهلب بحظ هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة" فولى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة، ومضى عبد العزيز في ثلاثين ألفًا؛ فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: "يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب فسيعلمون! " إلى أن قال: فناهضهم عبد العزيز، فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة فاتبعهم، فقال له الناس: لا تتبعهم فإنا على غير تعبية، فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم، والناس ينهونه ويأبى وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا وراءهم خرج عليهم الكمين، وانحاز عبد العزيز، واتبعهم الخوارج يقتلونهم كيف شاءوا". 3 أصله من أط الرحل أطيطا: صوت. 4 من حرب السنان: حدده. 5 التجريس: التحكيم والتجربة، وضرسته الحرب تضريسًا: جربته وأحكمته أيضًا. 6 وكان عبد العزيز قد خرج بامرأته أم حفص بنت المنذر بن الجارود؛ فسبى الخوارج النساء يومئذ وكانت أم حفص ممن سبين، قال ابن عبد ربه في العقد الفريد "2: 75": "فأقاموها = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 435- خطبة قطري بن الفجاءة: 1 وصعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة2، حفت3 بالشهوات، وراقت4 بالقليل، وتحببت بالعاجلة5، وحليت6 بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها 7، ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة، خوانة غدارة، وحائلة8 زائلة، ونافذة9 بائدة، أكالة غوالة10، بدالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا عنها، أن تكون كما قال الله تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ   = في السوق حاسرة بادية المحاسن، فاعترضوها وقلبوها، وكانت من أكمل الناس كمالًا وحسنًا، فتزايدت فيها العرب والموالي، حتى بلغوها تسعين ألفًا؛ فأقبل رجل من الخوارج من عبد القيس من خلفها، فضرب عنقها، فأخذوه ورفعوه إلى قطري بن الفجاءة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا استهلك تسعين ألفًا من بيت المال، وقتل أمة من إماء المؤمنين: فقال له: ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت هؤلاء قد تنازعوا عليها؛ حتى ارتفعت الأصوات؛ واحمرت الحدق؛ فلم يبق إلا الخبط بالسيوف؛ فرأيت أن تسعين ألفًا في جنب ما خشيت من الفتنة بين المسلمين هينة، فقال قطري: خلوا عنه، عين من عيون الله أصابتها" اهـ. 1 أورد الشريف الرضي رحمه الله هذه الخطبة في نهج البلاغة؛ وعزاها إلى الإمام علي كرم الله وجهه وكذلك القضاعي في دستور معالم الحكم؛ وقال ابن أبي الحديد في شرحه "2: ص242": "وهذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في البيان والتبيين؛ ورواها لقطري بن الفجاءة؛ والناس يروونها لأمير المؤمنين عليه السلام، وقد رأيتها في كتاب الموثق لأبي عبيد الله المزبان، مروية لأمير المؤمنين عليه السلام وهي بكلام أمير المؤمنين أشبه وليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام؛ فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره، وقد لقي قطري أكثرهم". 2 أي ناضرة، من خضر الزرع كفرح؛ فهو أخضر وخضر وهو من كلام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انظر خطبته في الجزء الأول ص151: 3 أي أطافت بها الشهوات. 4 أعجبت أهلها بمتاع قليل ليس بدائم. 5 أي وتحببت إليهم باللذة العاجلة، "والنفس مولعة بحب العاجل". 6 حليت المرأة فهي حال وحالية كتحلت. وفي رواية: "ونحلت". 7 الحبرة: السرور. وفي رواية: "لا تقوم نضرتها"؛ لا تقوم: لا تثبت. والنضرة: النعمة والغي والحسن. 8 أي متحولة متغيرة من حال يحول. وفي رواية "خاتلة" أي خادعة. 9 أي هالكة فانية من نفد ينفد كفرح. 10 أي مهلكة من غاله يغوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 السماء؛ فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيمًا1 تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرًا"، مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة؛ إلا أعقبته بعدها عبر، ولم يلق من سرائها بطنًا، إلا منحته من ضرائها ظهرًا2، ولم تطله غيثة3 رخاء، إلا هطل4 عليه مزنة بلاء، وحري إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له خاذلة منكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى5، أمر عليه منها جانب وأوبى6، وإن آتت امرأ من غضارتها7 ورفاهتها نعمًا، أرهقته من نوائبها تعبًا، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن؛ إلا أصبح منها على قوادم8 خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية، فانٍ ما عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منه استكثر مما يوبقه9، ويطيل حزنه، ويبكي عينيه، كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته10، وذي اختيال11 فيها قد خدعته، وكم من   1 الهشيم: ما تهشم وتحطم، وتذروه: أي تطيره. 2 كنى بالبطن والظهر عن إقبالها عليه وإدبارها عنه؛ لأن الملاقي لك بالصدر ملاق بالوجه؛ فهو مقبل عليك، والمعطيك ظهره مدبر عنك. 3 طله السحاب يطله: إذا أمطره مطرًا قليلًا، وربما كانت "غيثة" مصحفة عن "غبية" والغبية بفتح الغين: المطرة غير الكثيرة، وفي رواية "ديمة" والديمة بالكسر: مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق. 4 هطلت السماء كجلس هطلًا: تتابع مطرها، وفي رواية: "هتنت" هتنت السماء كجلس أيضًا هتنًا: انصبت، أو هو فوق الهطل، والمزنة: السحابة أو ذات الماء. 5 أي صار عذبًا حلوا. 6 أمر: صار مرا وأوبى: مسهل عن أوبأ، أي صار وبئًا، وبئت الأرض كفرح وكرم وعني، وأوبأت: صارت كثيرة الوباء، وهو الطاعون أو كل مرض عام. 7 الضارة: النعمة والسعة والخصب، وأرهقه: حمله على ما لا يطيقه، وفي رواية: "لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا" والرغب بالتحريك ما ترغب فيه، وفي رواية: "فإن أتت امرأ من غصونها ورقًا"، وفي رواية: "وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعمًا، أرهقته من نوائبها غمًا". 8 القوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح، الواحدة قادمة، وخص الخوف بالقوادم لأنها مقاديم الريش، والراكب عليها بعرض سقوط قريب. 9 يهلكه. 10 وفي رواية: "وذي حكم ثنته إليها قد صرعته". 11 الاختيال: الكبر والعجب والأبهة: العظمة، والبهجة والكبر والنخوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرًا، وذي نخوة قد ردته ذليلًا، وكم من ذي تاج قد كبته1 لليدين والفم، سلطانها دول؛ وعيشها رنق وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام2 وأسبابها رمام3، وقطاعها سلع4، حبها بمرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعتها بعرض اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب5، مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} . ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارًا، وأوضح منكم آثارًا، وأعد عديدًا، وأكثف جنودًا، وأعتد عتادًا6، وأطول عمادًا، تعبدوا7 للدنيا أي عبد! وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار! فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب8؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح9، وضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالمصائب10، وقد رأيتم تنكرها.   1 صرعته وقلبته. 2 رفق الماء كفرح ونصر: كدر، فهو رنق كعدل وكتف وجبل، وأجاج: ملح مر، وسمام جمع سم مثلث السين. 3 أسباب جمع سبب: وهو الحبل، ورمام: بالية، حبل أرمام، ورمام: أي بال. 4 السلع: شج مر، أو سم: أو ضرب من الصبر، أو بقلة خبيثة الطعم. 5 مسلوب، من حربه حربا كطلبه طلبًا: سلب ماله فهو محروب وحريب، وفي رواية: "وجارها محروب". 6 العتاد: العدة، وقد عتد ككرم عتادًا فهو عتيد: أي حاضر مهيأ معد، وفي رواية: "وأعند عنودًا" من عند عن الطريق كنصر وسمع وكرم عنودا: أي مال، وفي رواية: "وأشد عقودًا". 7 أي استعبدتهم الدنيا، تعبده اتخذه عبدًا. 8 أي بشأن وأمر. 9 الفوادح: النوائب المثقلة، من فدحه الدين إذا أثقله، وفي رواية: "وأوهقتهم" أي جعلتهم في الوهق بفتح الهاء وتسكينها: وهو حبل كالطول. 10 وفي رواية: "وعقرتهم بالفجائع"، وفي رواية "وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم"، عفرتهم للمناخر: ألصقت أنوفهم بالعفر "كسيب ويسكن"، وهو التراب والمناخر جمع منخر بفتح الميم والخاء، وبكسرهما، وبضمها وكمجلس: الأنف، والمناسم جمع منسم كمجلس وهو خف البعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 لمن دان1 لها، وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد، إلى آخر المسند2، هل زودتهم إلا السغب3،وأحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله جل ذكره: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ فبئست الدار لمن لم يتهمها، ولم يكن فيها على وجل منها. فاعلموا -وأنتم تعلمون- أنكم تاركوها لا بد؛ فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو وقد قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} 4، واتعظوا فيها بالذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانًا، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون5 ضيفانا، وجعل لهم من الصريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جبران6؛ فهم حيرة لا يجيبون داعيًا، ولا يمنعون ضيمًا، ولا يبالون مندبة7، إن أخصبوا8 لم يفرحوا، وإن قحطوا9 لم يقنطوا، جمع وهم آحاد، وجبرة وهم آباد، متناهون لا يزورون ولا يزارون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء   1 أي خضع لها وذل، وفي رواية: "لمن رادها" أي طلبها: رودًا، وأخلد إليها: مال. 2 المسند: الدهر، وفي رواية "إلى آخر الأمد". 3 الجوع، وفي رواية: "الشقاء" والضنك: الضيق. 4 نزلت في عاد قوم هود، الريع: المرتفع من الأرض، آية: أي أبنية وقصور يفتخرون بها، ويعثبون بالفقراء، ويتطاولون عليهم من أجلها، والمصانع: المباني من القصور والحصون. 5 وفي رواية "فلا يرعون" أي فلا يرعاهم أحد. 6 الأكنان جمع كن بالكسر: وهو وقاء كل شيء وستره. والضريح: القبر أو الشق وسطه، وفي رواية: "وجعل لهم من الصفيح أجنان" والأجنان جمع جنن كسبب: وهو القبر، والصفيح: الحجارة العراض، والرفات: العظام البالية. 7 المندبة: الندب على الميت. 8 وفي رواية: "إن جيدوا" من جادهم الغيث إذا أمطروا. 9 قحط الناس كمنع، وقحطوا وأقحطوا مبنيين لمجهول "قليلتان"، وبكل روي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 قد ماتت أحقادهم، لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دفعهم، وكما قال الله تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ، استبدلوا بظهر الأرض بطنًا، وبالسعة ضيقًا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، ففارقوها كما دخلوها، حفاة عراة فرادى؛ غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد، يقول الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فاحذروا ما حذركم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا الله وإياكم بطاعته ورزقنا وإياكم أداء حقه". "البيان والتبيين 1: 63. وصبح الأعشى 1: 223. والعقد الفريد 2: 160. وعيون الأخبار م2: ص250. ونهاية الأرب 7: 250. ونهج البلاغة 1: 122. دستور معالم الحكم ص51" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 436- خطبة عبد ربه الصغير : ولما دبت عقارب الخلاف بين الأزارقة، ولعبت بهم يد الشقاق، خلعوا قطري بن الفجاءة، وولوا عبد ربه الصغير، فانفصل إلى عبد ربه أكثر من1 الشطر، ونشبت الحرب بينه وبين المهلب؛ فأجلت الوقعة عنه قتيلًا، وقد جمع أصحابه في الليلة التي قتل في صبيحتها، فقال: "يا معشر المهاجرين: إن قطريًا وعبيدة2 هربًا طلب البقاء، ولا سبيل إليه؛ فالقوا عدوكم، فإن غلبوكم على الحياة، فلا يغلبنكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا، يهبها لكم في الآخرة". "الكامل للمبرد 2: 231، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص405"   1 أما قطري فقد ارتحل ومن معه إلى طبرستان فوجه الحجاج إليه جيشًا عليه سفيان بن الأبرد فقاتلوه، وتفرق عنه أصحابه وقتل سنة 78هـ وبقتله انتهت حروب الأزارقة. 2 هو عبيدة بن هلال اليشكري من كبراء الأزارقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 437- خطبة صالح بن مسرح : 1 وروى الطبري في تاريخه قال: كان صالح بن مسرح يرى رأى الصفرية2، وكان رجلًا ناسكًا مخبتًا3، مصفر الوجه، صاحب عبادة، وكان بدارًا4 وأرض الوصل والجزيرة، له أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم، وكان قصصه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، اللهم إنا لا نعدل بك، ولا نحفد5 إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير، ونشهد أن محمدًا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين، وجاهد المشركين، حتى توفاه الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أوصيكم بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله،   1 هو صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وهو زعيم فرقة من الخوارج الصفرية، تسمى: "الصالحية" نسبة إليه: وقد خرج على بني أمية سنة 76هـ؛ فبعث إليه محمد بن مروان أمير الجزيرة جيشًا بقيادة عدي بن عدي بن عميرة فهزمه صالح ونزل عسكره وحوى ما فيه، وبعث محمد بن مروان إليهم جيشًا آخر فقاتلهم؛ فخرجوا من أرض الجزيرة إلى الموصل، فسرح إليهم الحجاج جيشًا يقوده الحارث بن عميرة فحاربهم وقتل في المعركة صالح. 2 الصفرية: فرقة من الفرق الرئيسية للخوارج، وهم أصحاب زياد بن الأصفر، وقيل نسبوا إلى عبد الله بن صفار، وقيل لأنهم نهكتهم العبادة أو لخلوهم من الدين وليس هذا موضع تفصيل عقائدهم. 3 أخبت لله: خشع وتواضع. 4 دارا: بلد بين نصيبين وماردين من أرض الجزيرة. 5 حفد كضرب: خف وأسرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت تخيف العبد من ربه، حتى يجأر1 إليه ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} ، وإن حب المؤمنين للسبب الذي ينال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين؛ ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم؛ فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم، وفقههم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولي الأمر من بعده التقي الصديق، على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله رحمه الله، واستخلف عمر فولاه الله أمر هذه الرعية؛ فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يحنق في الحق على جرته2، ولم يخف في الله لومة لائم؛ حتى لحق به رحمة الله عليه، وولي من بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزر المحرم؛ فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب؛ فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن3 وأدهن، فنحن من علي وأشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم -غير ما ترجم الظنون- فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبناكم وحلائلكم ودنياكم،   1 جأر إليه كمنع: رفع صوته بالدعاء، وتضرع واستغاث. 2 أحنق الصلب: لزق بالبطن. والجرة: ما يخرجه البعير من جوفه ويمضغه، كنى بذلك عن عدم إضماره الحقد والدغل. 3 ركن إليه: مال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم؛ ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون". "تاريخ الطبري 7: 217، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص409" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 438- خطبة أخرى له : وروى الطبري أيضًا قال: "بينا أصحاب صالح يختلفون إليه؛ إذ قال لهم ذات يوم: ما أدري ما تنتظرون؟ وحتى متى أنتم مقيمون؟ هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدا عن الحق، وجرأة على الرب، فاستعدوا، وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق، مثل الذي تريدون؛ فيأتوكم فنلتقي، وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون". "تاريخ الطبري7 7: 218، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص409" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 439- خطبة أخرى : وقال لأصحابه ليلة خرج: "اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قومًا يريدونكم وينصبون1 لكم؛ فإنكم إنما خرجتم غضبا لله؛ حيث انتهكت محارمه؟ وعثي في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فلا تعيبوا على قوم ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون،   1 أي يعادونكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 أنتم عنه مسئولون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق1؛ فابدءوا بها فشدوا عليها، فاحملوا أرجلكم، وتقووا بها على عدوكم". "تاريخ الطبري 7: 22، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص410"   1 الرستاق. يستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم، "معرب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 440- خطبة زائدة بن قدامة : وخلف على رياسة الخوارج الصفرية بعد مقتل صالح بن مسرح أحد أصحابه، وهو شبيب بن يزيد الشيباني؛ فكتب الحجاج لقتاله الكتائب، وكان أميرها في بعض الوقعات زائدة بن قدامة، وجاء شبيب حتى وقف مقابل القوم، فخرج زائدة يسير بين الميمنة والميسرة، يحرض الناس ويقول: "عباد الله، إنكم الطيبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون، فاصبروا جعلت لكم الفداء إنها حملتان أو ثلاث، ثم هو النصر ليس دونه شيء؛ ألا ترونهم والله لا يكونون مائتي رجل؟ إنما هم أكلة رأس، وهم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة، وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم"؛ فما برح يقاتلهم مقبلًا غير مدبر، حتى قتل. "تاريخ الطبري 7: 235، شرح ابن أبي الحديد م1: ص415" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 441- خطبة الحجاج بن يوسف : ولما هزم شبيب الجيش الذي كان الحجاج وجهه إليه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، أقبل نحو المدائن، وبلغ ذلك الحجاج؛ فقام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 "أيها الناس: والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم، أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع، وأصبر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم -يعني جند الشأم-". فقام إليه الناس من كل جانب؛ فقالوا: نحن نقاتلهم، ونعتب الأمير، فليندُ بنا الأمير إليهم، فإنا حيث سره. "تاريخ الطبري 7: 243، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص418" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 422- خطبة أخرى للحجاج : وبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه -وكان مع المهلب- ووجهه في جيش لقتال شبيب، وخطب الناس حين وجهه فقال: "يا أهل الكوفة اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلًا قد وليناه من أعمالنا؛ ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن، كفعلكم في المواطن التي كانت، لأولينكم كنفًا خشنًا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل"، ثم نزل. "تاريخ الطبري 7: 245" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 443- خطبة شبيب بن يزيد الشيباني : وعرض شبيب أصحابه بالمدائن؛ فكانوا ألف رجل، فخطبهم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "يا معشر المسلمين: إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان، وأكثر من ذلك قليلًا، وأنقص منه قليلًا، وأنتم اليوم مئون ومئون، ألا إني مصلي الظهر، ثم سائر بكم إن شاء الله". "تاريخ الطبري 7: 246، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص419" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 444- خطبة عتاب بن ورقاء : ولما تواقف الفريقان للقتال، جعل عتاب يسير فيما بين الميمنة إلى الميسرة، يمر بأهل راية راية؛ فيحثهم على تقوى الله ويأمرهم بالصبر، ويقص عليهم قصصًا كثيرًا منه قوله: "يا أهل الإسلام: إن أعظم الناس نصيبًا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين؛ ألا ترون أنه يقول: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ؛ فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي، ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه؟ لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله؛ فهم شرار أهل الأرض، وكلاب أهل النار". فلم يجبه أحد، فقال: أين القصاص يقصون على الناس ويحرضونهم؟ فلم يتكلم أحد، فقال: أين من يروي شعر عنترة فيحرك الناس؟ فلم يجبه أحد، ولا رد عليه كلمة، فقال: إنا لله! والله لكأني بكم وقد فررتم عن عتاب بن ورقاء، وتركتموه تسفِي في استه الريح، وحمل عليه شبيب فتفرق عنه كثير من أصحابه وخذلوه، وثبت في عصابة قليلة صبرت معه، وقاتل حتى قتل. "تاريخ الطبري 7: 246، وشرح ابن أبي الحديد م1 ص420" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 445- خطبة الحجاج : ولما رأى الحجاج عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم، كتب إلى عبد الملك يستمده، فبعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبي، في أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين، ودخلا فيمن معهما من أهل الشأم الكوفة، فشدوا للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبرها، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 "أما بعد: يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة، فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملًا، ومن لم يكن شهد قتال عتاب بن ورقاء1". "تاريخ الطبري 7: 248، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص420"   1 ولم تنِ همة شبيب عن القتال، وقد هاجم الكوفة ودخلها، ونهض الحجاج لمدافعته، فشتت جموعه فانصرف عن الكوفة، وأتبعه الحجاج جيشًا عليه سفيان بن الأبرد فالتقيا على جسر ديل، وحمي بينهما وطيس القتال حتى جنَّ الليل، فقال شبيب لأصحابه: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم، فعبروا أمامه وزل حافر فرسه عن حرف السفينة، فسقط في الماء، وكان هلاكه سنة 77هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 446- خطبة عبد الله بن يحيى الإباضي: 2 لما استولى عبد الله بن يحيى الكندي على بلاد اليمن سنة 129، خطب الناس، فحمد الله جل وعز، وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووعظ وذكر وحذر، ثم قال: "إنا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وسنة نبيه، وإجابة من دعا إليها، الإسلام ديننا، ومحمد نبينا، والكعبة قبلتنا، والقرآن إمامنا، رضينا بالحلال حلال، لا نبغي به بديلًا، ولا نشتري به ثمنًا قليلًا، وحرمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا، ولا حول   1 هو عبد الله بن يحيى الكندي، وكان من حضرموت، وكان مجتهدًا عابدًا من رؤساء الخوارج الإباضية: "والإباضية فرقة من فرق الخوارج الرئيسية تنسب إلى زعيمها عبد الله بن إباض -بكسر الهمزة-" وقد خرج ابن يحيى باليمن في أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ إذ رأى جورًا ظاهرًا وخسفًا شديدًا، وسيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابه إنه لا يحل لنا المقام على ما نرى ولا الصبر عليه، وكتب إلى جماعة من الإباضية بالبصرة، وغيرها يشاورهم في الخروج فوافقوه، وشخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي، وبلخ بن عقبة المسعودي في رجال من الإباضية فحرضوه على الخروج، وكثر جمعه وسموه طالب الحق، وتوجه إلى صنعاء سنة 129 "وكان عامل مروان على صنعاء القاسم بن عمر" فجرت بينه وبين ابن يحيى حروب ومناوشات كانت النصرة فيها لابن يحيى، فدخل صنعاء، وأحرز ما فيها من الخزائن والأموال. "30 -جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 ولا قوة إلا بالله، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول، من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شرب الخمر فهو كافر، ومن شك في أنه كافر فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بينات، وآيات محكمات، وآثار مقتدى بها، ونشهد أن الله صادق فيما وعد، عدل فيما حكم، وندعو إلى توحيد الرب، واليقين بالوعيد والوعد، وأداء الفرائض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والولاية لأهل ولاية الله، والعداوة لأعداء الله. أيها الناس: إن من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل عن الهدى، ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى، يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء، فما نسيهم ربهم، وما كان ربك نسيًا. أوصيكم بتقوى الله، وحسن القيام على ما وكلكم الله بالقيام به؛ فأبلوا لله بلاء حسنًا في أمره وذكره، أقول قولي هذا، وأسغفر الله لي ولكم". "الأغاني 20: 98، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص455" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 خطب أبي حمزة الشاري: 447- خطبته حين دخل المدينة : ولما دخل أبو حمزة المدينة1 سنة 130، رقي المنبر؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وقال "يا أهل المدينة: سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم -لعمر الله- فيهم القول، قلتم والله ما فيهم الذي يعلم، أخذوا المال من غير حله، فوضعوه في غير حقه، وجاروا في الحكم، فحكموا بغير ما أنزل الله، واستأثروا بفيئنا؛ فجعلوه دولة بين الأغنياء   1 بعد أن استولى عبد الله بن يحيى على اليمن سنة 129، أقام بصنعاء أشهرا يحسن السيرة في الناس ويلين جانبه لهم، ويكف الأذى عنهم فكثر جمعه وأتته الشراة من كل جانب "والشراة كقضاة جمع شار كقاض وهم الخوارج، من شرى يشري كرمي: أي باع، سموا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله: أي بعناها ووهبناها، أخذا من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أو لقولهم: شرينا الآخرة بالدنيا، أي اشتريناها"؛ فلما كان وقت الحج وجه ابن يحيى أبا حمزة "وهو المختار بن عوف الأزدي ثم السلمي من أهل البصرة" إلى مكة؛ فأقبل إليها يوم التروية "وهو ثامن ذي الحجة" وعليها وعلى المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، فكره عبد الواحد قتالهم، ثم خلى مكة لهم، فدخلها أبو حمزة بغير قتال، ومضى عبد الواحد إلى المدينة؛ فجهز جيشًا لقتالهم أمر عليه عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، فسار حتى نزل قديدا "وقديد كزبير" وبلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه؛ فاستخلف على مكة، وشخص إليهم، وبعث إليهم يسألهم أن يكفوا عنهم، ويقول لهم: خلوا سبيلنا إلى الشام لنسير إلى من ظلمكم، وجار في الحكم عليكم، ولا تجعلوا حدنا بكم، فإنا لا نريد قتالكم، فشتمهم أهل المدينة وقالوا: يا أعداء الله: أنحن نخليكم وندعكم تفسدون في الأرض؟ فقال الخوارج: يا أعداء الله أنحن نفسد في الأرض؟ إنما خرجنا لنكف أهل الفساد، ونقاتل من قاتلنا، واستأثر بالفيء، فانظروا لأنفسكم، واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة؛ فإنه لا طاعة لمن عصى الله، فادخلوا في السلم، وعاونوا أهل الحق، فأبوا عليهم، ونشب القتال بينهم، فهزمهم أبو حمزة هزيمة لم يبق بعدها منهم باقية، وقد بلغت قتلى قديد ألفين ومائتين وثلاثين رجلًا، منهم من قريش أربعمائة وخمسون، ودخل أبو حمزة المدينة لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة 130هـ، وهرب عبد الواحد بن سليمان إلى الشام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 منهم، وجعلوا مقاسمنا وحقوقنا في مهور النساء؛ وفروج الإماء1، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم، وجاروا في الحكم، فحكموا بغير ما أنزل الله نناشدهم الله أن يتنحوا عنا وعنكم، ليختار المسلمون لأنفسهم، فقلتم: لا يفعلون، فقلنا لكم، تعالوا نحن وأنتم نقاتلهم، فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا وفيكم كتاب الله وسنة نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلتم: لا نقوى على ذلك، فقلنا لكم: فخلوا بيننا وبينهم، فإن نظفر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونقسم فيئكم بينكم؛ فأبيتم وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم وقتلناكم، فأبعدكم الله وأسحقكم". "تاريخ الطبري 9: 107، والأغاني 20: 103، وشرح ابن أبي الحديد 1: ص458؛ والعقد الفريد 2: 162"   1 وفي رواية: "وسألناكم، هل يقتلون بالظن؟ فقلتم: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم: نعم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 448- خطبة أخرى له : وروي أنه لما دخل المدينة قام فخطب، فقال في خطبته: "يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة بثماركم، وكتبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم؛ فكتب إليكم بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم، فزاد الغني غنى، وزاد الفقير فقرا، فقلتم: جزاك الله خيرا، فلا جزاكم الله خيرًا، ولا جزاه خيرًا. "تاريخ الطبري 9: 108، والغاني 20: 103، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص458" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون صحابه ... 449- خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه: 1 وبلغ أبا حمزة أن أهل المدينة يعيبون أصحابه، لحداثة أسنانهم، وخفة أحلامهم، فصعد المنبر، وعليه كساء غليظ، وهو متنكب قوسًا عربية، فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، ثم قال: "يا أهل المدينة، قد بلغتني مقالتكم لأصحابي، ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم، لأحسنت أدبكم، ويحكم! إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزل عليه الكتاب، وبين له فيه السنن، وشرع له فيه الشرائع، وبين له فيه ما يأتي وما يذر، فلم يكن يتقدم إلا بأمر الله، ولا يحجم إلا عن أمر الله، حتى قبضه الله إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد أدى الذي عليه، وعلم المسلمين معالم دينهم، ولم يدعهم من أمرهم في شبهة، وولى أبا بكر صلاتهم؛ فولاه المسلمون أمر دنياهم، حين ولاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر دينهم؛ فعمل بالكتاب والسنة، وقاتل أهل الردة، وشمر في أمر الله، حتى قبضه الله إليه، والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ومغفرته، ثم ولي بعده عمر بن الخطاب فسار بسيرة صاحبه، وعمل بالكتاب والسنة، وجند الأجناد، ومصر الأمصار، وجبى الفيء، وفرض الأعطية، وشمر عن ساقه، وحسر عن ذراعه، وجلد في الخمر ثمانين، وجمع الناس في شهر رمضان2، وغزا العدو في بلادهم، وفتح المدائن والحصون، حتى قبضه الله إليه، والأمة عنه راضوان، رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته، ثم ولي من بعده عثمان بن عفان؛ فسار ست سنين بسيرة صاحبيه -وكان دونهما- ثم سار في الست الأواخر بما أحبط به الأوائل، واضطرب حبل الدين بعدها؛ فطلبها3 كل امرئ   1 روى الجاحظ أن هذه الخطبة كانت بمكة، وذكر أن اسم أبي حمزة "يحيى بن المختار". 2 أي لصلاة القيام، وفي رواية: "وقام في شهر رمضان". 3 أي الخلافة، يشير إلى تطلع طلحة والزبير إليها، وطمع معاوية فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 لنفسه، وأسر كل رجل منهم سريرة أبداها الله عنه، حق مضوا على ذلك، ثم ولي علي بن أبي طالب؛ فلم يبلغ من الحق قصدا، ولم يرفع له منارًا، ثم مضى لسبيله: ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن لعينه1، وجلف من الأعراب، وبقية من الأحزاب، مؤلف طليق؛ فسفك الدم الحرام، واتخذ عباد الله خولًا2، ومال الله دولًا3، وبغى دينه عوجًا ودغلًا4، وأحل الفرج الحرام، وعمل بما يشتهيه، حتى مضى لسبيله؛ فالعنوه لعنه الله، ثم ولي بعده ابنه يزيد، يزيد الخمور، ويزيد الصقور، ويزيد الفهود، ويزيد الصيود، ويزيد القرود5،   1 انظر ص23، 24. 2 عبيدًا. 3 جمع دولة بالضم: أي متداولًا بين عشيرته دون سائر المسلمين. 4 الدغل: الفساد كالدخل. 5 روى المسعودي في مروج الذهب -ج2: ص94- قال: "وكان يزيد صاحب طرب، وجوارح، وكلاب، وقرود؛ وفهود؛ ومنادمة على الشراب؛ وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد -وذلك بعد قتل الحسين- فأقبل على ساقيه، فقال: اسقني شربة تروي مشاشي ... ثم صل فاسق مثلها ابن زياد صاحب السر والأمانة عندي ... ولتسديد مغنمي وجهادي "والمشاش كغراب: النفس والطبيعة"، ثم أمر المغنين فغنوا، وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنى بأبي قيس؛ يحضره مجلس منادمته؛ ويطرح له متكأ، وكان قردًا خبيثًا، وكان يحمله على أتان وحشية؛ قد ريضت وذلك لذلك يسرج ولجام، ويسابق بها الخيل يوم الحلبة؛ فجاء في بعض الأيام سابقًا فتناول القصبة، ودخل الحجرة قبل الخيل، وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مشهر "مخطط" وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق "أي مصبغة بمثل الشقائق" وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان فقال في ذلك بعض شعراء الشام في ذلك اليوم: تمسك أبا قيس بفضل عنانها ... فليس عليها إن سقطت ضمان ألا من رأى القرد الذي سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان! وروى ابن طباطبا في الفخرى ص49 قال: "كان يزيد بن معاوية أشد الناس كلفًا بالصيد لا يزال لاهيًا به، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب، والجلال المنسوجة منه "الجلال بالكسر جمع جل بالضم والفتح: ما تلبسه الدابة لتصان به" ويهب لكل كلب عبدا يخدمه، قيل إن عبيد الله بن زياد أخذ من بعض = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 الفاسق في بطنه، المأبون1 في فرجه؛ فخالف القرآن، واتبع الكهان، ونادم القرد، وعمل بما يشتهيه، حتى مضى على ذلك لعنه الله، وفعل به وفعل، ثم ولى مروان بن الحكم، طريد لعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وابن لعينه، فاسق في بطنه وفرجه، فالعنوه والعنوا آباءه. ثم تداولها بنو مروان بعده، أهل بيت اللعنة، طرداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، وقوم من الطلقاء، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا التابعين بإحسان؛ فأكلوا مال الله أكلًا، ولعبوا بدين الله لعبًا، واتخذوا عباد الله عبيدًا، يورث ذلك الأكبر منهم الأصغر، فيا لها أمة! ما أضيعها وأضعفها! والحمد لله رب العالمين، ثم مضوا على ذلك من سيء أعمالهم، واستخفافهم بكتاب الله تعالى، قد نبذوه وراء ظهورهم لعنهم الله، فالعنوهم كما يستحقون، وقد ولي منهم عمر بن عبد العزيز؛ فبلغ ولم يكد وعجز عن الذي أظهره حتى مضى لسبيله -ولم يذكره بخبر ولا شر-. ثم ولي يزيد بن عبد الملك، غلام ضعيف سفيه، غير مأمون على شيء من أمور المسلمين، لم يبلغ أشده2، ولم يؤنس رشده، وقد قال الله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ   = أهل الكوفة أربعمائة ألف دينار جباية وجعلها في خزائن بيت المال؛ فرحل ذلك الرجل من الكوفة، وقصد دمشق ليشكو حاله إلى يزيد، وكانت دمشق في تلك الأيام فيها سرير الملك -فلما وصل إلى ظاهر دمشق سأل عن يزيد فعرفوه أنه في الصيد، فكره أن يدخل دمشق، وليس يزيد حاضرا فيها؛ فضرب مخيمه ظاهر المدينة، وأقام به ينتظر عود يزيد من الصيد؛ فبينما هو في بعض الأيام جالس في خيمته، لم يشعر إلا بكلبة قد دخلت عليه، وفي قوائمها الأساور من الذهب، وعليها جل يساوي مبلغًا كبيرًا، وقد بلغ منها العطش والتعب، وكادت تموت، فعلم أنها ليزيد وأنها قد شذت منه، فقام إليها وقدم لها ماء وتعهدها بنفسه، فما شعر إلا بشاب حسن الصورة على فرس جميل، وعليه زي الملوك؛ وقد علته غبرة، فقام إليه، وسلم عليه، فقال له أرأيت كلبة عابرة بهذا الموضع؟ فقال: نعم يا مولانا، ها هي في الخيمة، قد شربت ماء واستراحت وقد كانت على غاية من العطش والتعب، فلما سمع يزيد كلامه نزل ودخل الخيمة، ونظر إلى الكلبة وقد استراحت، فجذب بحبلها ليخرج، فشكا الرجل إليه حاله وعرفه ما أخذ منه ابن زياد، فطلب دواة وكتب إليه برد ماله وخلعة سنية، وأخذ الكلبة وخرج، فرد الرجل من ساعته إلى الكوفة، ولم يدخل دمشق. 1 أبنه بشيء كنصر وضرب: اتهمه، فهو مأبون، بخير أو شر، فإن أطلقت فقلت مأبون فهو للشر والأبنة كعقدة: العيب. 2 بلغ أشده: أي قوته، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، وقد اختلفت المؤرخون في مقدار سن يزيد؛ فقيل إنه توفي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقيل ابن سبع وثلاثين، وكانت ولايته أربع سنين وشهرًا، والمراد أنه لم يبلغ أشده لسفهه وعكوفه على اللذات والشهوات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ 1} فأمر أمة محمد في أحكامها وفروجها ودمائها أعظم عند الله من مال اليتيم، وإن كان عند الله عظيمًا، غلام مأبون في بطنه وفرجه، يشرب الحرام، ويأكل الحرام، ويلبس الحرام، يلبس بردتين قد حبكتا له، وقومنا على أهلهما بألف دينار، وأكثر وأقل، قد أخذت2 من غير حلها، وصرفت في غير وجهها، بعد أن ضربت فيها الأبشار3، وحلقت فيها الأشعار، وهتكت فيها الأستار، واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح، ولا لنبي مرسل، ثم يجلس حبابة عن يمينه، وسلامة عن شماله، تغنيانه بمزامير الشيطان، ويشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها؛ حتى إذا أخذت منه مأخذها، خالطت روحه ولحمه ودمه، وغلبت سورتها على عقله، مزق حلتيه، ثم التفت إليهما فقال: أتأذنان لي أن أطير4؟ نعم، فطر إلى لعنة الله، وحريق ناره، وأليم عذابه، طر إلى حيث لا يردك الله.   1 الآية الكريمة في اليتامى، وأولها: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ.. ..} . 2 أي الدنانير. 3 فيها: أي في تحصيلها. والأبشار: جمع بشر، وهو جمع بشرة: ظاهر الجلد، والمراد ضرب الناس في جباية الأموال. 4 ذكر ذلك ابن طباطبا في الفخرى ص117 قال: "كان يزيد بن عبد الملك خليع بني أمية شغف بجاريتين اسم إحداهما سلامة، والأخرى حبابة فقطع معهما زمانه، قالوا: فغنت يومًا حبابة: بين التراقي واللهاة حرارة ... ما تطمئن ولا تسوغ فتبرد فأهوى يزيد ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة، فقال: والله لأطيرن، قالت: فعلى من تدع الأمة؟ قال: عليك وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: "سخنت عينك فما أسخنك" وروى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني "ج13 ص148" قال: "كانت حبابة مولدة من مولدات المدينة، حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء؛ وقد قال يزيد بن عبد الملك: ما تقر عيني بما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة وحبابة؛ فأرسل فاشتريتا له؛ فلما اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال القائل: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينًا بالإياب المسافر وذكروا أن مسلمة بن عبد الملك أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناء والشراب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور، والوفود بابك، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 ثم ذكر بني أمية وأعمالهم وسيرهم فقال: "أصابوا إمرة ضائعة، وقومًا طغامًا جهالًا، لا يقومون لله بحق، ولا يفرقون بين الضلالة والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم؛ فملكوا الأمر، وتسلطوا فيه تسلط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويأخذون بالظنة، ويعطلون الحدود بالشفاعات، ويأمنون الخونة، ويقصون ذوي الأمانة، ويأخذون الفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بين الله أهلها؛ فجعلهم ثمانية أصناف، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ   = وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم، فقال: صدقت والله وأعتبه، وهم بترك الشراب، ولم يدخل على حبابة أيامًا، فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتا في ذلك، وقالت له: إن رددته عن رأيه، فلك ألف دينار، فقال: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلدا بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني ... ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا وإني وإن فندت في طلب الغنى ... لأعلم أني لست في الحب أوحدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفندا ومكث يزيد جمعة لا يريد حبابة، ولا يدعو بها؛ فلما كان يوم الجمعة، قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلمين؛ فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته والعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه، وقال: مه لا تفعلي، ثم غنت: فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي: فعدل إليها، وقال: صدقت والله، فقبح الله من لامني فيك، يا غلام مر مسلمة أن يصلي بالناس، وأقام معها يشرب وتغنيه، وعاود ما كان فيه، ثم قال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص؛ فأحضره ثم أنشده قصيدة مدحه فيها، فقال له: ارفع حوائجك، فكتب إليه في نحو أربعين ألف درهم من دين وغيره، فأمر له بها، انظر أيضًا تاريخ الطبري 8: 179، ومروج الذهب ج2: ص175، ومما ذكره المسعودي: أن حبابة اعتلت فأقام يزيد أيامًا لا يظهر للناس، ثم ماتت، فأقام أياما لا يدفنها حتى جيفت فقيل له: إن الناس يتحدثون بجزعك وإن الخلافة تجل عن ذلك، فدفنها وأقام على قبرها، فقال: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو النفس لا بالتجلد ثم أقام بعدها أيامًا قلائل ومات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ 1} فأقبل صنف تاسع ليس منها، فأخذ كلها: تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله، فالعنوهم لعنهم الله. وأما إخواننا من هذه الشيعة -وليسوا بإخواننا في الدين؛ لكني سمعت الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فإنها فرقة تظاهر بكتاب الله، وأعلنت الفرية على الله، لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا تفتيش عن حقيقة الصواب، قد قلدوا أمورهم أهواءهم، وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه، وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم، غيًا كان أو رشدًا، ضلالة أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموتى2، ويؤمنون بالبعث قبل الساعة، ويدعون علم الغيب لمخلوق، لا يعلم أحدهم ما في بيته؛ بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه، أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها ويعملون إذا ولوا بها، يصرون على الفتنة ولا يعرفون المخرج منها؛ جفاة في دينهم،   1 الصدقات: الزكاة. العاملين عليها: الساعين في تحصيلها وجمعها. والمؤلفة قلوبهم: الذين أسلموا ونيتهم ضعيفة في الإسلام؛ فتستألف قلوبهم. وفي الرقاب: أي وفي فك رقاب المكاتبين، يعاونون بشيء منها. والغارمين: أي المدينين لأنفسهم في غير معصية، ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء. 2 كان بعض الشيعة يعتقدون في أئمتهم الذين ماتوا، أنهم أحياء لم يموتوا؛ إلا أنهم غائبون عن أعين الناس؛ فالشيعة الكيسانية يقولون إن محمد بن الحنفية رضي الله عنه لم يمت، وإنه في جبل رضوى "بالحجاز" بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، وإنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورا، وفيه يقول كثير من أبيات: يغيب ولا يرى فيهم زمانًا ... برضوى عنده عسل وماء انظر الملل والنحل للشهرستاني 1: 155 والفصل لابن حزم 4: 137 والفرق بين الفرق ص28 والاثنا عشرية "وهي إحدى فرقتي الشيعة الإمامية؛ سموا بذلك لوقوفهم عند الإمام الثاني عشر، وهو محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالمهدي المنتظر" يزعمون أنه دخل في سرداب بسُرّ من رأى، وغاب هنالك، وأنه يخرج في آخر الزمان؛ فيملأ الأرض عدلًا وهم ينتظرونه -ويسمونه المنتظر لذلك- ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب وقد قدموا مركبًا فيهتفون باسمه، ويدعونه للخروج؛ حتى تشتبك النجوم، ثم ينفضون ويرجئون الأم إلى الليلة الآتية -انظر مقدمة ابن خلدون ص220- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 قليلة عقولهم1، قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة، قاتلهم الله أنى يؤفكون2. فأي هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون، أم بأي مذاهبهم تقتدون؟ وقد بلغني أنكم تنتقصون أصحابي! قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله المذكورون في الخير إلا شبابًا أحداثًا؟ أما والله إني لعالم تتابعكم فيما يضركم في معادكم، ولولا اشتغالي بغيركم عنكم ما تركت الأخذ فوق أيديكم شباب والله مكتهلون3 في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء4 عبادة، وأطلاح سهر5، باعوا أنفسًا تموت غدًا، بأنفس لا تموت أبدًا، قد نظر الله إليهم في جوف الليل، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقًا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة، كأن زفير جهنم بين أذنيه، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم وجباههم، ووصلوا كلال6 الليل بكلال النهار، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم، من طول القيام، وكثرة الصيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، حتى إذا رأوا سهام العدو وقد فوقت7، ورماحهم وقد أشرعت8، وسيوفهم وقد انتضبت9، وبرقت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ولم يستخفوا بوعيد الله لوعيد   1 وفي البيان والتبيين "جفاة عن القرآن؛ أتباع كهان". 2 أفكه عنه كضرب: صرفه وقلب رأيه. 3 أي قد أحرزوا رزانة الكهول وسداد رأيهم. 4 جمع نضو كحمل، وهو المهزول. 5 جمع طلح وهو كنضو وزنًا ومعنى 6 الكلال: التعب والإعياء. 7 فوق السهم: جعل له فوقا "بالضم" وهو موضع الوتر من السهم؛ أي أعدت الرمي. 8 سددت. 9 استلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 الكتيبة، ولقوا شبًا1 الأسنة، وشائك السهام، وظبات السيوف بنحورهم، ووجوهم وصدورهم، فمضى الشاب منهم قدما، حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، واختضبت محاسن وجهه بالدماء، وعفر2 جبينه بالثرى، وانحطت عليه طير السماء، وتمرقته سباع الأرض؛ فطوبى لهم وحسن مآب؛ فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من يد قد أبينت عن ساعدها، طالما اعتمد عليها صاحبها راكعًا وساجدًا، وكم من وجه رقيق، وجبين عتيق3، قد فلق بعمد الحديد، ثم بكى، وقال: آه، آه على فراق الإخوان، رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحهم الجنان". "الأغاني 20: 105، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص459، والبيان والتبيين 2: 61، والعقد الفريد 2: 161"   1 جمع شباة: وهي حد كل شيء؛ والظبات: جمع ظبة؛ وهي حد السيف. 2 أصابه العفر: وهو التراب. 3 كريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 450- خطبة أخرى : ورقي المنبر؛ فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بتقوى الله وطاعته، والعمل بكتابه، وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلة الرحم، وتعظيم ما صغرت الجبابرة من حق الله، وتصغير ما عظمت من الباطل، وإماتة ما أحيوا من الجور، وإحياء ما أماتوا من الحقوق، وأن يطاع الله، ويعصى العباد في طاعته؛ فالطاعة لله ولأهل طاعة الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ندعو إلى كتاب الله وسنة نبيه، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله1بها، تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا   1قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 ولا بطرًا، ولا عبثًا، ولا لهوًا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا؛ ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أطفئت، ومعالم العدل قد عطلت، وكثر الادعاء في الدين وعمل بالهوى، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا1 يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن؛ فأجبنا داعي الله ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز2 في الأرض؛ فأقبلنا من قبائل شتى، النفر3 منا على بعير واحد، عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافًا واحدًا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، وأصبحنا والله جميعًا بنعمته إخوانًا، وعلى الدين أعوانًا، ثم لقيَنَا رجالُكم بقُدَيْد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان، وحكم مروان وآل مروان؛ فشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد! ثم أقبلوا يهرعون ويزفون4، قد ضرب الشيطان بجرانه5، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم إبليس ظنه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحالنا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون. وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم6 الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، ويشف صدور قوم مؤمنين، يا أهل المدينة إن أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، يا أهل المدينة: الناس منا ونحن منهم؛ إلا مشركًا عابد وثن، أو كافرًا من أهل الكتاب، أو إمامًا جائرًا أو شادًا على عضده، يا أهل المدينة: من زعم أن الله تعالى كلف نفسًا فوق طاقها، أو سألها ما لم يؤتها، فهو لله عدو ولنا حرب7". "تاريخ الطبري 9: 108"، الأغاني 20: 104،وشرح ابن أبي الحديد م1 ص458، والعقد الفريد 2: 161"   1 يريد عبد الله بن يحيى الكندي. 2 أي لا يعجز الله بالهرب منه فيفوته. 3 النفر: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة. 4 زف الظليم وغيره كضرب زفًا وزفيفًا وزفوفًا، وأزف: أسرع. 5 جران البعير: مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره: أي استولى عليهم. 6 أسحته: استأصله. 7 روي أنه قال عقب ذلك: "يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله تعالى في كتابه على القوي، على حبه الضعيف؛ فجاء تاسع، ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذ جميعها لنفسه مكابرًا محاربًا لربه، ما تقولون فيه وفيمن عاونه على فعله؟ يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي ... إلخ" وقد حذفته هنا لوروده في الخطبة السالفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 451- خطبة له في سب أهل المدينة وتقريعهم : وخطب المدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أهل المدينة: مالي رأيت رسم الدبن فيكم قيًا، وآثاره دراسة، لا تقبلون عظته ولا تفقهون من أهله حجة، قد بليت فيكم حدته، وانطمست عنكم سنته، ترون معروفه منكرًا، والمنكر من غيره معروفًا، إذا انكشفت لكم العبر، وأوضحت لكم النذر1، عميت عنها أبصاركم، وصمت عنها أسماعكم، ساهين في غمرة، لا هي في غفلة، تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، وتنقبص عن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم، مستأنسة بالجهل، كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفوقًا، تحملون قلوبًا في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة، أو لم تلن لكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، يا أهل المدينة، ما تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم، إن الله قد جعل لكل شيء سببًا غالبًا ينقاد له، ويطيع أمره، وجعل القلوب غالبة على الأبدان؛ فإذا مالت القلوب ميلًا، كانت الأبدان لها تبعًا، وإن القلوب لا تلين أهلها إلا بصحتها، ولا يصححها إلا المعرفة بالله، وقوة النية، ونفاذ البصيرة، ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم، لاستعملت في طاعة الله أبدانكم، يا أهل المدينة: داركم دار الهجرة، ومثوى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نبت به داره، وضاق به قراره، وآذاه الأعداء وتجهمت2 له، فنقله الله إليكم، بل إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم، متوازرين مع الحق على الباطل، مختارين الآجل على العاجل، يصبرون للضراء رجاء ثوابها، فنصروا الله، وجاهدوا في سبيله، وآووا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصروه، واتبعوا النور   1 النذر: جمع نذير، وهو المنذر. 2 تجهمه وتجهم له: استقبله بوجه كريه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 الذي أنزل معه، وآثروا الله على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة1. قال الله تعالى لأمثالهم ولمن اهتدى بهداهم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وأنتم أبناؤهم ومن بقي من خلفهم، تتركون أن تقتدوا بهم، أو تأخذوا بسنتهم، عمي القلوب، صم الآذان، اتبعتم الهوى؛ فأرداكم عن الهدى وأسهاكم؛ فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجرون، ولا تعظكم فتعتبرون، ولا توقظكم فتستيقظون، لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم، ما سرتم بسيرتهم، ولا حفظتم وصيتهم، ولا احتذيتم مثالهم، لو شقت عنهم قبورهم، فعرضت عليهم أعمالكم، لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم! ". "الأغاني 20: 105، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص458" وجاء في رواية العقد الفريد: "يا أهل المدينة: أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، إنكم أطعتم قراءكم وفقهاءكم فاختانوكم2 عن كتاب غير ذي عوج، بتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين؛ فأصبحتم عن الحق ناكبين3، أمواتًا غير أحياء وما تشعرون، يا أهل المدينة: يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ما أصح أصلكم، وأسقم فرعكم! كان آباؤكم أهل اليقين، وأهل المعرفة بالدين، والبصائر النافذة، والقلوب الواعية، وأنتم أهل الضلالة والجهلة، استعبدتكم الدنيا فأدلتكم، والأماني فأضلتكم فتح الله لكم باب الدين فسددتموه، وأغلق عنكم باب الدنيا ففتحتموه، سراع إلى الفتنة، بطاء عن السنة، عمي عن البرهان، صم عن العرفان، عبيد الطمع، حلفاء الجزع، نعم ما ورَّثكم آباؤكم لو حفظتموه، وبئس ما تورثون أبناءكم إن تمسكوا به، نصر الله آباءكم على الحق، وخذلكم على الباطل، كان عدد آبائكم قليلًا طيبًا، وعددكم كثير   1 الخصاصة: الفقر. 2 خانوكم. 3 أي عادلين عنه منصرفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 خبيث، اتبعتم الهوى؛ فأرداكم، واللهو فأسهاكم، ومواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون، وتعبركم1 فلا تعتبرون". "العقد الفريد 2: 161"   1 المراد: تعظكم، من العبر؛ ولم أجده في كتب اللغة بهذا المعنى؛ وإنما الذي فيها: "عبر الدراهم: وزنها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 خطبة ثالثة ... 452- خطبة أخرى: وخطب فقال: "أما بعد؛ فإنك في ناشئ فتنة1 وقائد ضلالة، قد طال جثومها، واشتد عليك غمومها، وتلونت2 مصايد عدو الله فيها، وما نصب من الشرك لأهل الغفلة عما في عواقبها3، فلن يهد عمودها، ولن ينزع أوتادها، إلا الذي بيده ملك الأشياء، وهو الله الرحمن الرحيم، ألا وإن لله بقايا من عباده لم يتحيروا في ظلمها، ولم يشايعوا أهلها على شبَهها، مصابيح النور في أفواههم تزهو، وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق، بكروا منهج السبيل، وقاموا على العلم4 الأعظم، هم خصماء الشيطان الرجيم، بهم يصلح الله البلاد، ويدفع عن العباد؛ فطوبى لهم وللمستصبحين5 بنورهم، وأسأل الله أن يجعلنا منهم6". "العقد الفريد 2: 162"   1 من إضافة الصفة للموصوف أي في فتنة ناشئة، أي حية شابة. 2 تعددت وصارت ذات ألوان: أي نصب العدو لنا المصايد، ودبر المكايد للإيقاع بنا. 3 أي ولسنا منهم.. 4 العلم: الجبل، والمراد أنهم لا يستخفون في دعوتهم. 5 أي المستضيئين. 6 ذكر الجاحظ هذه الخطبة، وقال: ذهب عني إسنادها؛ وهي لأبي حمزة كما في العقد الفريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 453- خطبته حين خرج من المدينة : وخطب حين خرج من المدينة، لقتال جيش مروان1 فقال: "يا أهل المدينة: إنا خارجون لحرب مروان، فإن نظهر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم، ونقسم بينكم فيئكم، وإن يكن ما تمنون لنا: فسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ". "تاريخ الطبري 9: 110، والأغاني 20: 110 وشرح ابن أبي الحديد م1: ص461"   1 وذلك أن مروان بن محمد جهز جيشًا من أهل الشأم؛ واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية، وأمره أن يمضي فيقاتلهم، فإن هو ظفر بهم مضى حتى يبلغ اليمن، ويقاتل عبد الله بن يحيى؛ فسار إليهم، وخرج أبو حمزة للقائه، فقاتلهم ابن عطية حتى قتلهم، وقتل أبا حمزة؛ وبعث برأسه إلى مروان، وصلبه هو وكبار أصحابه "سنة 130" ولم يزالوا مصلبين حتى أفضى الأمر إلى بني العباس، ثم سار ابن عطية إلى اليمن، فقاتل عبد الله بن يحيى وقتله، وبعث برأسه إلى مروان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 454- عمران بن حطان والحجاج : ولما ظفر الحجاج بعمران1 بن حطان الشاري. قال: اضربوا عنق ابن الفاجرة، فقال عمران: لبئس ما أدبك أهلك يا حجاج! كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به؟ أبعد الموت منزلة أصانعك عليها؟ فأطرق الحجاج استحياء وقال: خلوا عنه؛ فخرج إلى أصحابه، فقالوا: والله ما أطلقك إلا الله، فارجع إلى حربه معنا، فقال: هيهات! غل يدًا مطلقها، وأسر رقبة معتقها. "زهر الآداب 3: 178"   1 كان رأس القعد من الخوارج الصفرية وخطيبهم وشاعرهم. "31 -جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 الخطب الوعظية والوصايا : 455- خطبة سحبان بن زفر الوائلي 1 "توفي سنة 54هـ": خطب فقال: "إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، أيها الناس: فخذوا من دار ممركم لدار مقركم، ولا تهتكوا أسراركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم ولغيرها خلقتم، إن الرجل إذا هلك، قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة ما قدم لله؟ قدموا بعضا يكون لكم، ولا تخلفوا كلا يكون عليكم". "سرح العيون ص95"   1 هو سحبان بن زفر الوائلي، وقد ضرب به المثل في الفصاحة والبيان، فقيل: "أخطب من سحبان وائل" ومع ذلك لم يؤثر عنه إلا هذه الخطبة الموجزة، على أنها تعزى إلى الإمام علي -انظر نهج البلاغة 1/ 260- وذكر المبرد في الكامل عن الأصمعي أن أعرابيا خطبها بالبادية -تهذيب الكامل 1: 28- وكذا ذكر أبو علي القالي -في الأمالي 1: 258 –وابن عبد ربه -في العقد الفريد 2: 164- وأبو الفضل الميداني -في مجمع الأمثال 1: 318، وابن قتيبة في عيون الأخبار م2: ص253- والحصري -في زهر الآداب 2: 4- قال ابن أبي الحديد: "وأكثر الناس على أن هذا الكلام لأمير المؤمنين علي عليه السلام، ويجوز أن يكون الأعرابي حفظه، فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم"- م3: ص2. وقد روى ابن نباتة في سرح العيون أنه قدم على معاوية وفد من خراسان؛ فيهم سعيد بن عثمان بن عفان، فطلب سحبان فلم يوجد في منزله، فاقتضب من ناحية اقتضابا، وأدخل عليه، فتكلم منذ صلاة الظهر إلى أن قامت صلاة العصر، ما تنحنح، ولا سعل، ولا توقف، ولا ابتدأ في معنى، فخرج منه، وقد بقي عليه منه شيء، فما زالت تلك حاله حتى أشار معاوية بيده؛ فأشار إليه سبحان أن لا تقطع كلامي، فقال معاوية: الصلاة، قال: هي أمامك: نحن في صلاة وتحميد، ووعد ووعيد، فقال معاوية: أنت أخطب العرب، فقال سحبان: "والعجم والجن والإنس" ا. هـ، ولعل هذه الإطالة هي التي عاقت الرواة عن حفظ ما يقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 456- خطبة معاوية : وخطب معاوية بدمشق، فقال: أيها الناس: سافروا بأبصاركم في كر الجديدين1، ثم ارجعوها كليلة عن بلوغ الأمل، فإن الماضي عظة للباقي، ولا تجعلوا الغرور سبيل العجز عن الجد، فتنقطع حجتكم في موقفٍ اللهُ سائلُكم فيه، ومحاسبُكم فيما أسلفتم، أيها الناس: أمس شاهد فاحذروه، واليوم مؤدب فاعرفوه، وغدًا رسول فأكرموه". "مواسم الأدب 2: 116"   1 الجديدان: الليل والنهار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 457- خطبة عبد الملك بن مروان : وخطب عبد الملك بن مروان، فقال: "أيها الناس: اعملوا لله رغبة ورهبة، فإنكم نبات نعمته، وحصيد نقمته، ولا تغرس لكم الآمال، إلا ما تجتنيه الآجال، وأقلوا الرغبة فيما يورث العطب، فكل ما تزرعه العاجلة، تقلعه الآجلة، واحذروا الجديدين، فهما يكران عليكم، إن عقبى من بقي لحوق بمن مضى، وعلى أثر من سلف، يمضي من خلف، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . "مواسم الأدب 2: 118". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 خطبة لعمر بن عبد العزيز ... 458- خطبة لعمرو بن عبد العزيز: 1 قال أبو العباس المبرد: حُدِّثت في بعض الأسانيد أن عمر بن عبد العزيز قال في خطبة له: "أيها الناس: إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، ونَوَّر قلبه، أيها الناس: إن أباكم قد أخرج من الجنة بذنب واحد، وإن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل". "تهذيب الكامل 1: 27".   1 هذه الخطبة مختلف في قائلها أيضًا، فقد عزاها إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما ترى الميداني في مجمع الأمثال "2: 277" الشطر الأول منها، وعزاه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 كلام الحسن البصرى خطبه له ... كلام الحسن البصري "المتوفى سنة 110هـ": 459- خطبة له: قال الحسن البصري رحمه الله1: "يابن آدم: بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا. يابن آدم: إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه، الثواء2 ههنا قليل، والبقاء هناك طويل، أمتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أمتكم، وقد أُسرِعَ بخياركم، فماذا تنتظرون؟ المعاينة؟ فكأن قد، هيهات هيهات! ذهبت الدنيا بحاليها3، وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم. فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة! أما إنه والله لا أمة بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم، أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما ينتظر بأولكم أن يلحقه آخركم، من رأى محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له علم، فشمر إليه4، فالوحاء الوحاء5   1 هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، من سادات التابعين وأورع العباد والمتنسكين وإمام أهل العلم والرأي في عصره، وأستاذ واصل بن عطاء شيخ المعتزلة. 2 الإقامة. 3 أي بزمنها الحالي، من حليت المرأة كرضي فهي حال وحالية: لبست الحلي، والمعنى ذهبت بزخرفها الذي تزينت به للناس فأضلتهم وأغوتهم، وهي في نسخة: "يحال بمالها" وفي أخرى: بحال بالها" وهو تحريف. 4 وفي نسخة: "فمما إليه". 5 الوحاء ويمد: العجلة والإسراع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 والنجاء النجاء، علام تعرجون؟ أُتِيتُم ورب الكعبة! قد أُسرِعَ بخياركم: وأنتم كل يوم ترذلون1، فماذا تنتظرون؟ إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا عليه الصلاة والسلام على علم منه، اختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابه، وكان صفوته من خلقه، ورسوله إلى عباده ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض2، وآتاه منها قوتا وبلغة، ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . فرغب أقوام عن عيشه، وسخطوا ما رضي له ربه، فأبعدهم الله وأسحقهم3. يابن آدم: طإ الأرض بقدمك، فإنها عن قليل قبرك، واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، رحم الله رجلا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، فقد أبصر أقوام ولم يصبروا، فذهب الجزع بقلوبهم، ولم يدركوا ما طلبوا، ولم يرجعوا إلى ما فارقوا. يابن آدم: اذكر قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} . عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك، خذوا صفا الدنيا، وذروا كدرها، فليس الصفو ما عاد كدرا، ولا الكدر ما عاد صفوا، دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، ظهر الجفاء وقلت العلماء، وعفت5 السنة، وشاعت البدعة، لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة العين، وجلاء الصدور، ولقد رأيت أقواما كانوا -من حسناتهم أن ترد عليهم- أشفق6 منكم -من سيئاتكم أن تعذبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم الله عليكم منها، ما لي أسمع حسيسًا، ولا أرى   1 أي تصيرون أرذالا جمع رذل: وهو الدون الخسيس. 2 أي موضعا ساميا. 3 أي أبعدهم، وفي نسخة: "وسحقهم" أي أهلكهم. 4 أي عمله يحمله في عنقه، والتعبير به لما كانوا يتيمنون ويتشاءمون بالطائر السانح والبارح، استعير لما هو سبب الخير والشر. 5 محيت. 6 أخوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 أنيسًا، ذهب الناس وبقي النسناس1، لو تكاشفتم ما تدافنتم، تهاديتم الأطباق، ولم تتهادوا النصائح، قال ابن الخطاب: "رحم الله امرأ أهدى إلينا مساوينا" أعدوا الجواب، فإنكم مسئولون، المؤمن من لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكنه أخذه من قبل ربه، إن هذا الحق قد جهد أهله، وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته، فمن حمد الدنيا ذم الآخرة، وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه. يابن آدم: الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقه العمل. "البيان والتبيين 3: 68 وعيون الأخبار م2 ص344، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص469".   1 في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ذهب الناس وبقي النسناس" قيل: فما النسناس؟ قال: "الذين يتشبهون بالناس، وليسوا من الناس" ولهم في تفسير النسناس كلام كثير، منه: أنهم خلق على صورة الناس خالفوهم في أشياء، وليسوا منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 460- خطبة أخرى : وكان إذا قرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ 1} قال: عم ألهاكم؟ عن دار الخلود، وجنة لا تبيد2، هذا والله فضح القوم، وهتك الستر، وأبدى العوار3، تنفق مثل دينك في شهواتك سرفًا، وتمنع في حق الله درهمًا! ستعلم يا لكع4، الناس ثلاثة: مؤمن، وكافر، ومنافق؛ فأما المؤمن: فقد ألجمه الخوف وقومه ذكر العرض؛ وأما الكافر: فقد قمعه السيف، وشرده الخوف، فأذعن بالجزية، وسمح بالصربية؛ وأما المنافق: ففي الحجرات والطرقات، يسرون غير ما يعلنون، ويضمرون غير ما يظهرون، فاعتبروا إنكارهم ربهم، بأعمالهم الخبيثة، ويلك؟ قتلت وليه، ثم تتمنى عليه جنته؟ ". "البيان والتبيين 3-69"   1 التباهي بالكثرة. 2 لا تفنى. 3 العوار مثلث العين: العيب. 4 اللكع: اللئيم والأحمق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 461- خطبة أخرى: وكان يقول: "رحم الله رجلا خلا بكتاب الله، فعرض عليه نفسه، فإن وافقه حمد ربه، وسأله الزيادة من فضله، وإن خالفه أعتب وأناب، وراجع من قريب، رحم الله رجلا وعظ أخاه وأهله فقال: "يا أهلي: صلاتكم صلاتكم، زكاتكم زكاتكم، جيرانكم جيرانكم، إخوانكم إخوانكم، مساكينكم مساكينكم، لعل الله يرحمكم، فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبد من عباده، فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} . يابن آدم: كيف تكون مسلما ولم يسلم منك جارك، وكيف تكون مؤمنا ولم يأمنك الناس؟ ". "البيان والتبيين 3: 69". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 462- خطبة أخرى: وكان يقول: "لا يستحق أحد حقيقة الإيمان، حتى لا يعيب الناس بعيب هو فيه ولا يأمر بإصلاح عيوبهم، حتى يبدأ بإصلاح ذلك من نفسه، فإنه إذا فعل ذلك لم يصلح عيبا إلا وجد في نفسه عيبا آخر ينبغي له أن يصلحه، فإذا فعل ذلك شغل بخاصة نفسه عن عيب غيره، وإنك ناظر إلى عملك بوزن خيره وشره، فلا تحقرن شيئا من الخير وإن صغر؛ فإنك إذا رأيته سرك مكانه، ولا تحقرن شيئًا من الشر وإن صغر؛ فإنك إذا رأيته ساءك مكانه". "البيان والتبيين 3: 70". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 463- خطبة أخرى: وكان يقول: "رحم الله عبدا كسب طيبا، وأنفق قصدا، وقدم فضلا، وجهوا هذه الفضول1 حيث وجهها الله، وضعوها حيث أمر الله، إن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم، ويؤثرون بالفضل، ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها، فلا والله ما وجد ذو لب فيها فرحا، فإياكم وهذه السبل المتفرقة، التي جماعها الضلالة، وميعادها النار، أدركت من صدر هذه الأمة قوما كانوا إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم، يفترشون خدودهم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة سرتهم، وسألوا الله أن يتقبلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفرها لهم، يابن آدم: إن كان لا يغنيك ما يكفيك، يابن آدم: لا تعمل شيئًا من الحق رياء، ولا تتركه حياء". "البيان والتبيين 3: 70".   1 جمع فضل: وهو الزيادة من المال وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 464- خطبة أخرى: وكان يقول: "إن العلماء كانوا قد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا، وكانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا، ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم لأهل العلم رغبة في علمهم، فأصبح اليوم أهل العلم يبذلون علمهم لأهل الدنيا رغبة في دنياهم، فرغب أهل الدنيا بدنياهم عنهم، وزهدوا في علمهم، لما رأوا من سوء موضعه عندهم"، وكان يقول: لا أذهب إلى من يواري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 غنًى غناه، ويبدي لي فقره، ويغلق دوني بابه، ويمنعني ما عنده، وأدع من يفتح لي بابه، ويبدي لي غناه، ويدعوني إلى ما عنده". "البيان والتبيين 3: 71". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 465- خطبة أخرى: وكان يقول: "يابن آدم، لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، مؤمن مهتم، وعلج اغتم، وأعرابي لا فقه له، ومنافق مكذب، ودنياوي1 مترف، نعق بهم ناعق فاتبعوه، فراش نار2، وذبان طمع، والذي نفس الحسن بيده، ما أصبح في هذه القرية مؤمن إلا أصبح مهموما حزينا، وليس لمؤمن راحة دون لقاء الله، الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه، أي قوم: إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم، فسارعوا إلى ربكم، فإنه ليس لمؤمن راحة دون الجنة، ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همه". "البيان والتبيين 3: 70".   1 نسبة إلى دنيا. 2 أي هم كالفراش يتهافت على النار يحسبها نافعة له فتحرقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 466- خطبة أخرى: وقال في يوم فطر -وقد رأى الناس وهيئاتهم-: إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله أن لو كشف الغطاء، لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته، عن ترجيل1 شعر، أو تجديد ثوب". "البيان والتبيين 3: 71، وتهذيب الكامل 1: 29، وزهر الآداب 2: 203".   1 وفي رواية الكامل للمبرد: "ترطيل بالطاء، والترطيل: تليين الشعر بالدهن وتكسيره وإرخاؤه وإرساله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 467- مقام الحسن البصري عند عمر بن هبيرة: لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق -وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك- استدعى الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والشعبي، سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله، استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أمره، أعرف في تنفيذه الهلكة، فأخاف إن أطعته غضب الله، وإن عصيته لم آمن سطوته، فما ترون:؟ فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه تقية، وكان ابن هبيرة لا يستشِفي دون أن يسمع قول الحسن، فقال: قل ما عندك يا أبا سعيد، فقال: "يابن هبيرة: خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله؛ إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكا، فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك، إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك، يابن هبيرة: إن تعص الله، فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وفي رواية أخرى قال: "أقول والله إنه يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك، إلى ضيق قبرك، فلا يغني عنك ابن عبد الملك شيئا، وإني لأرجو أن الله عز وجل سيعصمك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، فاتق الله أيها الأمير، فإنك لا تأمن أن ينظر الله إليك، وأنت على أقبح ما تكون عليه من طاعة يزيد، نظرة يمقتك بها، فيغلق عنك باب الرحمة، واعلم أني أخوفك ما خوفك الله سبحانه حين يقول: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} ، وإذا كنت مع الله عز وجل في طاعته كفاك بوائق1 يزيد، وإن كنت مع يزيد على معصية الله وكلك الله إلى يزيد حين لا يغني عنك شيئًا".   1 جمع بائقة وهي الداهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 فبكى عمر بن هبيرة بكاء شديدا، ثم أجازهم، وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي لابن سيرين: سفسفنا1 له، فسفسف لنا. "وفيات الأعيان 1: 128، الحسن البصري لابن الجوزي ص52، مروج الذهب 2: 178، عيون الأخبار م2: ص343، شرح ابن أبي الحديد م4: ص59، أمالي السيد المرتضى 1: 110".   1 سفسف عمله: لم يبالغ في إحكامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 468- مقام الحسن عند النضر بن عمرو : وأحضر النضر بن عمرو -وكان واليا على البصرة- الحسن البصري يوما، فقال: يا أبا سعيد إن الله عز وجل خلق الدنيا وما فيها من رياشها1، وبهجتها، وزينتها لعباده، وقال عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، وقال عز من قائل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فقال الحسن: "أيها الرجل: اتق الله في نفسك، وإياك والأماني التي ترجحت2 فيها فتهلك، إن أحدا لم يعط خيرًا من خير الدنيا، ولا من خير الآخرة بأمنيته، وإنما هي داران، من عمل في هذه أدرك تلك، ونال في هذه ما قدر له منها، ومن أهمل نفسه خسرهما جميعا، إن الله سبحانه اختار محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه، وبعثه برسالته ورحمته، وجعله رسولا إلى كافة خلقه، وأنزل عليه كتابا مهيمنا، وحد له في الدنيا حدودا، وجعل له فيها أجلا، ثم قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وأمرنا أن نأخذ بأمره، ونهتدي بهديه، وأن نسلك طريقته، ونعمل بسنته، فما بلغنا إليه فبفضله ورحمته، وما قصرنا عنه فعلينا أن نستعين ونستغفر، فذلك باب مخرجنا، فأما الأماني فلا خير فيها، ولا في أحد من أهلها":   1الرياش: اللباس الفاخر والمال والخصب والمعاش. 2 أي ملت إليها، من ترجحت به الأرجوحة: مالت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 فقال النضر: والله يا أبا سعيد إنا على ما فينا لنحب ربنا، فقال الحسن: "لقد قال ذلك قوم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى عليه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل سبحانه اتباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علما للمحبة، وأكذب من خالف ذلك، فاتق الله أيها الرجل في نفسك، وايم الله لقد رأيت أقواما كانوا قبلك في مكانك، يعلون المنابر، وتهتز لهم المراكب ويجرون الذيول بطرا ورياء الناس، يبنون المدر1، ويؤثرون الأثر2، ويتنافسون في الثياب، أخرجوا من سلطانهم، وسلبوا ما جمعوا من دنياهم، وقدموا على ربهم، ونزلوا على أعمالهم، فالويل لهم يوم التغابن3، ويا ويحهم {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . "الحسن البصري لابن الجوزي ص50".   1 المدر: قطع الطين اليابسة؛ والمراد يبنون القصور. 2 استأثر على أصحابه: اختار لنفسه أشياء حسنة واستبد بها، والاسم: الأثرة بالتحريك، والأثرة بالضم والكسر، والجمع أثر كفرصة وفرص. 3 غبنه في البيع يغبنه، والتغابن: أن يغبن بعض القوم بعضًا، وسمي يوم القيامة يوم التغابن لأن أهل الجنة تغبن أهل النار بأخذ منازلهم في الجنة لو آمنوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 469- مقام آخر له عند النضر : ودخل عليه يوما آخر فقال: "أيها الأمير أيدك الله، إن أخاك من نصحك في دينك، وبصرك عيوبك، وهداك إلى مراشدك، وإن عدوك من غرك ومنَّاك، أيها الأمير اتق الله؛ فإنك أصبحت مخالفا للقوم في الهدى والسيرة، والعلانية والسريرة، وأنت مع ذلك تتمنى الأماني، وترجح في طلب العذر، والناس أصلحك الله طالبان، فطالب دنيا، وطالب آخرة، وايم الله لقد أدرك طالب الآخرة واستراح، وتعب الآخر واخترم1،   1هلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 فاحذر أيها الأمير أن تشقى بطلب الفاني، وترك الباقي، فتكون من النادمين، واعلم أن حكيمًا قال: أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها نعوذ بالله من الحور بعد الكور1، ومن الضلالة بعد الهدى، لقد حُدِّثت أيها الأمير عن بعض الصالحين أنه كان يقول: "كفى بالمرء خيانة أن يكون للخونة أمينًا، وعلى أعمالهم معينًا". "الحسن البصري لابن الجوزي ص51".   1 الحور: النقصان، والكور: الزيادة، وهو حديث شريف: "نعوذ بالله من الحور بعد الكور" أي من النقصان بعد الزيادة؛ وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها: وأصله من كور العمامة وهو لفها وجمعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 470- مقال الحسن حين رأى دار الحجاج التي بناها بواسط: وروي أن الحجاج بنى دارًا بواسط1، وأحضر الحسن ليراها، فلما دخلها قال: "الحمد لله: إن الملوك ليرون لأنفسهم عزا، وإنا لنرى فيهم كل يوم عبرا، يعمد أحدهم إلى قصر فيشيده، وإلى فرش فينجده2، وإلى ملابس ومراكب فيحسنها، ثم يحف به ذباب طمع، وفراش نار، وأصحاب سوء، فيقول: انظروا ما صنعت! فقد رأينا أيها المغرور، فكان ماذا يا أفسق الفاسقين؟ أما أهل السموات فقد مقتوك، وأما أهل الأرض فقد لعنوك، بنيت دار الفناء، وخربت دار البقاء، وغُرِرْتَ في دار الغرور، لتذل في دار الحبور، ثم خرج وهو يقول: إن الله سبحانه أخذ عهده على العلماء، لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه". وبلغ الحجاج ما قال، فاشتد غضبه، وجمع أهل الشام، فقال: يا أهل الشام أيشتمني عبد من عبيد أهل البصرة وأنتم حضور فلا تنكرون! ثم أمر بإحضاره فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع، حتى دخل على الحجاج، فقال: يا أبا سعيد، أما كان لإمارتي عليك حق، حين قلت ما قلت؟ فقال: يرحمك الله أيها الأمير، إن من خوفك حتى   1 واسط: مدينة بالعراق من الجنوب بين دجلة والفرات، بناها الحجاج ومات بها. 2 التنجيد: التزيين، والنجاد: الذي يعالج الفرش والوسائد ويخيطها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 تبلغ أمنك أرفق بك وأحب فيك ممن أمنك حتى تبلغ الخوف، وما أردت الذي سبق إلى وهمك، والأمران بيدك: العفو والعقوبة، فافعل الأولى بك، وعلى الله فتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، فاستحيا الحجاج منه، واعتذر إليه وأكرمه وحباه. وفي رواية أخرى: "فلما دخل، قال له الحجاج: ههنا، فأجلسه قريبا منه، وقال: ما تقول في علي وعثمان؟ قال: أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك، قال فرعون لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} علم علي وعثمان عند الله قال: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ودعا بغالية1 وعلف بها لحيته، فلما خرج تبعه الحاجب فقال له: ما الذي كنت قلت حين دخلت عليه؟ قال: قلت: "يا عُدَّتِي عند كُربتي، ويا صاحبي عند شِدَّتِي، ويا ولي نعمتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب، ارزقني مودته، واصرف عني أذاه" ففعل ربي عز وجل. "الحسن البصري لابن الجوزي ص53، والمنية والأمل لابن يحيى المرتضى ص14، وأمالي السيد المرتضى 1: 12".   1 طيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 471- صفة الإمام العادل : 1 لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى الحسن أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن رحمه الله: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد2 كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة3 كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد   1 أوردت هذا الكتاب هنا، والكتابين التاليين له لانتظامها في سلك الوصايا. 2 هداية ورشاد. 3 اسم من الإنصاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر1، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارا، ويعلمهم كبارا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة، البرة الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشاكيته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده، والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله، واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له، ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مَهَل، قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد   1 مثلث القاف: البرد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا1 ولا ذمة، فتبوء بأوزارك، وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك، وأثقالا مع أثقالك، ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك، لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غدا، وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت2 الوجوده للحي القيوم، إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلُكَ3 شفقةً ونصحًا، فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه، يسقيه الأدوية الكريهة، لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته". "العقد الفريد 1: 12، الحسن البصري لابن الجوزي ص56".   1 عهدا. 2 خضعت وذلت. 3 لم أقصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 472- موعظته لعمر بن عبد العزيز : وكتب إليه عمر بن عبد العزيز رحمهما الله: اكتب إلي يا أبا سعيد بموعظة، فأوجز، فكتب إليه: "أما بعد يا أمير المؤمنين: فكأن الذي كان لم يكن، وكأن الذي هو كائن قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر، وإن أذاقك تعجيل مرارته، فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، وحسن عاقبته، وأن الهوى، وإن أذاقك طعم حلاوته، فلبئس ما أعقبك من مرارته، وسوء عاقبته، واعلم يا أمير المؤمنين أن الفائز من حرص على السلامة في دار الإقامة، وفاز بالرحمة فأدخل الجنة". "الحسن البصري لابن الجوزي ص54". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 473- موعظته لعمر بن عبد العزيز أيضا : وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: اكتب إلي يا أبا سعيد بذم الدنيا، فكتب إليه: "أما بعد يا أمير المؤمنين: فإن الدنيا دار ظعن1 وانتقال، وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها؛ فإن الراغب فيها تارك، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها، إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق، وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه، ويرغب فيه من يجهله، وفيه والله حتفه؛ فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه، يحتمي قليلا، مخافة ما يكره طويلا، الصبر على لأوائها2، أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها ولم يغتر بزينتها، فإنها غدارة ختالة3 خداعة، قد تعرضت بآمالها، وتزينت لخطابها، فهي كالعروس؛ العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة4، وهي -والذي بعث محمدا بالحق- لأزواجها قاتلة، فاتق يا أمير المؤمنين صرعتها، واحذر عثرتها، فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والفناء. واعلم يا أمير المؤمنين، أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله وحذر ما حذره، وقدر من دار الفناء إلى دار البقاء، فعند الموت يأتيه اليقين؛ الدنيا والله يا أمير المؤمنين دار عقوبة، لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء، لما يرجو من   1 ارتحال. 2 شدتها. 3 خداعة. 4 من الوله بالتحريك: وهو ذهاب العقل من شدة الوجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار، والدنيا وايم الله يا أمير المؤمنين حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام، وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا" ولما وصل كتابه إلى عمر، بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده، وقال: يرحم الله الحسن؛ فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله هو من مشفق ما أنصحه! وواعظ ما أصدقه وأفصحه!. "الحسن البصري لابن الجوزي ص54، وسيرة ابن عبد العزيز لابن الجوزي ص121". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 474- كلمات حكيمة للحسن البصري: وقال: احذر من نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك. أيها الناس: إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، الصبر صبران: صبر عند المصيبة، وصبر عن المعصية، فمن قدر على ذلك فقد نال أفضل الصبرين. أفضل الجهاد جهاد الهوى لا تكن ممن يجمع علم العلماء وحِكَم الحكماء ويجري في الحق مجرى السفهاء، من خاف الله أخاف الله سبحانه منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء، لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت، والمرض، والفقر، وإنه بعد ذلك لوثاب. احذروا العابد الجاهل، والعالم الفاسق، فإن فيهما فتنة لكل مفتون. ترك الخطيئة أهون من معالجة التوبة. لا تكن شاة الراعي أعقل منك، تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة. المؤمن تلقاه الزمانَ بعد الزمان، بأمر واحد، ووجه واحد، ونصيحة واحدة، وإنما يتبدل المنافق ليستأكل كل قوم. المؤمن صدق قوله فعله، وسره علانيته، ومشهده مغيبه. لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت الفكرة من عمله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 والذكر من شأنه، والمحاسبة من همته، ولا يزال بشر ما استعمل التسويف، واتبع الهوى، وأكثر الغفلة، ورجح في الأماني، الحق مر لا يصبر عليه إلا من عرف حسن العاقبة، ومن رجا الثواب خاف العقاب، حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور1، واقدعوا2 هذه النفوس، فإنها طلعة3، وإنكم إلا تزعوها4 تنزع بكم إلى شر غاية، يابن آدم: نهارك ضيفك، فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك، وكذلك ليلك، إنما أنت أيها الإنسان عدد، فإذا مضى لك يوم فقد مضى بعضك، وقيل له: يا أبا سعيد من أشد الناس صراخًا يوم القيامة؟ فقال: رجل رزق نعمة، فاستعان بها على معصية الله، وكان يقول: لو قمت الليل حتى ينحني ظهرك، وصمت النهار حتى يسقم جسمك، لم ينفعك ذلك إلا بورع صادق. وسمع رجلا يكثر الكلام، فقال: يابن أخي أمسك عليك لسانك فقد قيل: ما شيء أحق بسجن من لسان. وكان يقول: لو لم يكن من شؤم الشراب إلا أنه جاء إلى أحب خلق الله إلى الله فأفسده، لكان ينبغي للعاقل أن يتركه "يعني العقل" ويقول: ما أطال أحد الأمل إلا أساء العمل، وما أساء العمل إلا ذلَّ. وقال: "يا عجبا لقوم قد أمروا بالزاد، وأوذنوا بالرحيل، وأقام أولهم على آخرهم، فليت شعري! ما الذي ينتظرون؟ وقال: اجعل الدنيا كالقنطرة: تجوز عليها، ولا تعمرها، وقال: ليس العجب ممن عطب كيف عطب، إنما العجب ممن نجا كيف نجا"، وقال: "من أخلاق المؤمن قوة في دين، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، ورحمة للمجهود، وإعطاء في حق، وبر في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال". "الحسن البصري لابن الجوزي في مواضع متفرقة، والبيان والتبيين 3: 76-83، أمالي السيد المرتضى 1: 110-11. وتهذيب الكامل 1: 29. وزهر الآداب 1: 178، 2: 205".   1 دثور القلوب: امحاء الذكر منها. 2 كفوها واكبحوها. 3 نفس طلعة: تكثر التطلع إلى الشيء، وفي رواية: "فإنها طامحة". 4 وزعه كوضع: كفه، وفي رواية: "ممنعوها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 475- خطبة واصل بن عطاء 1 المنزوعة الراء: الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يئوده2 حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدله اصطناعا، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب3 لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذلَّ كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة، وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلها تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وعلا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبيه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعصَى فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصحة طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصته4 وصفيه، ابتثعه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته5، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيا على سنته، موفيا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد، وعلى آل محمد   1 هو أبو حذيفة واصل بن عطاء شيخ المعتزلين، وأحد الأئمة المتكلمين، وكان يلثغ بالراء، يجعلها غينا، فاستطاع بمهارته أن يخلص منها كلامه، خطب يوما عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق سنة 126 شبيب بن شيبة، وخالد بن صفوان، والفضل بن عيسى، ثم قفاهم واصل، فارتجل هذه الخطبة وعراها من حرف الراء، وأبدع في القول: ففضل عبد الله خطبة واصل ... وضوعف في قسم الصلات له الشكد "والشكد بالضم: العطاء" وتوفي واصل سنة 131هـ. 2 يثقله، آده أودا "كنصر" بلغ منه المجهود. 3 لا راد له. 4 هذ الشيء خالصة لك: أي خاصة. 5 المألكة: بضم اللام وتفتح: الرسالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد. أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، وأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت من جنح إليها، واعتمد عليها! أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سُمًّا، أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد، قبضتهم بمحملها1، وطحنتهم بكلكلها2، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العزة ذلا، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم نبسا، فتزودوا عافاكم الله، فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين، كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فأنصتوا له، واسمعوا لعلكم تفلحون، أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، ثم قال:   1 المحمل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان، والمراد احتوت عليهم. 2 الكلكل: الصدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم، وأدخلنا وإياكم جنات النعيم. "مفتاح الأفكار ص270". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 476- وصية عبد الملك بن مروان لبني أمية: وقال عبد الملك بن مروان: "يا بني أمية: ابذلوا نداكم، وكفوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، فإن خير المال ما أفاد حمدًا، أو نفى ذمًّا، ولا يقولن أحدكم: ابدأ بمن تعول، فإنما الناس عيال الله، قد تكفل الله بأرزاقهم، فمن وسع أخلف الله عليه، ومن ضيق ضيق الله عليه". "الأمالي 2: 32". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 477- وصية عبد الله بن شداد لابنه : 1 لما حضرت عبد الله بن شداد الوفاة، دعا ابنا له يقال له محمد، فقال: "يا بني، إني أرى داعي الموت لا يقلع، وأرى من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع2، وإني موصيك بوصية فاحفظها، عليك بتقوى الله العظيم، وليكن أولى الأمور بك شكر الله، وحسن النية في السر والعلانية، فإن الشكور يزداد، والتقوى خير زاد، وكن كما قال الحطيئة: ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد وتقوى الله خير الزاد ذخرًا ... وعند الله للأتقى مزيد وما لا بد أن يأتي قريب ... ولكن الذي يمضي بعيد   1 هو عبد الله بن شداد بن الهادي، واسمه أسامة الليثي، خرج مع القراء في فتنة ابن الأشعث على الحجاج، قيل: إنه غرق بدجيل، وقيل: هلك هو وعبد الرحمن بن أبي ليلى في الجماجم، اقتحم بهما فرساهما الماء فذهبا. 2 يشتاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 ثم قال: أي بني، لا تزهدن في معروف، فإن الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب، على الشاهد والغائب، فكم من راغب أصبح مطلوبا ما لديه، واعلم أن الزمان ذو ألوان، ومن يصحب الزمان ير الهوان، وكن أي بني كما قال أبو الأسود الدؤلي: وعد من الرحمن فضلا ونعمة ... عليك، إذا ما جاء للعرف طالب1 وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده ... يكن هينا ثقلا على من يصاحب فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالبا ... فإنك لا تدري متى أنت راغب رأيت التِوا هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب2 ثم قال: أي بني، كن جوادا بالمال في موضع الحق، بخيلا بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر، وإن أحمد بخل الحرّ الضنّ3 بمكتوم السر، وكن كما قال قيس بن الخطيم الأنصاري: أجود بمكنون التلاد وإنني ... بسرك عمن سالني لضنين4 إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... بنث، وتكثير الحديث قمين5 وعندي له يوما إذا ما ائتمنتني ... مكان بسوداء الفؤاد مكين6 ثم قال: أي بني، وإن غلبت يوما على المال، فلا تدع الحيلة على حال، فإن الكريم يحتال، والدني عيال7، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا، أقل   1 العرف: المعروف. 2 التوا أصله التواء؛ قصره؛ لضرورة الشعر، التوى به الزمان: اعوج. 3 الضن بالكسر والضنانة بالفتح: البخل. 4 سال يسال من باب خاف لغة في سأل المهموز، وليس مسهلا للوزن كما ظن بعضهم. 5 نث الحديث: أفشاه، وقين: جدير، وقطع همزة الإثنين؛ للضرورة. 6 سوداء الفؤاد؛ وسويداؤه، وسواده، وأسوده: حيته. 7 العيال جمع عيل كجيد: وهو ما يلزم الإنفاق عليه، ويكون اسما للواحد "كما استعمله هنا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ما تكون في الباطن مالا، فإن الكريم من كرمت طبيعته، وظهرت عند الإنفاد1 نعمته، وكن كما قال ابن خذاق العبدي2: وجدت أبي قد اورثه أبوه ... خلالا قد تعد من المعالي3 فأكرم ما تكون علي نفسي ... إذا ما قل في الأزمات مالي فتحسن سيرتي وأصون عرضي ... ويجمل عند أهل الرأي حالي وإن نلت الغنى لم أغلُ فيه ... ولم أخصص بجفوتي الموالي4 ثم قال: أي بني، وإن سمعت كلمة من حاسد، فكن كأنك لست بالشاهد، فإنك إن أمضيتها حيالها5، رجع العيب على من قالها، وكان يقال: الأريب العاقل، هو الفطن المتغافل، وكن كما قال حاتم الطائي: وما من شيمتي شتم ابن عمي ... وما أنا مخلف من يرتجيني وكلمة حاسد في غير جرم ... سمعت فقلت مري فانفذيني6 فعابوها علي ولم تسؤني ... ولم يعرق لها يوما جبيني وذو اللونين يلقاني طليقا ... وليس إذا تغيب يأتليني7 سمعت بعيبه فصفحت عنه ... محافظة على حسبي وديني ثم قال: أي بني، لا تؤاخ امرأ حتى تعاشره، وتتفقد موارده ومصادره، فإذا استطعت العشرة، ورضيت الخبرة8، فواخه على إقالة العثرة؛ والمواساة في العسرة، وكن كما قال المقنع الكندي: ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد   1 الفقر. 2 هو يزيد بن خذاق شاعر قديم. 3 ينقل حركة الهمزة من أورثه إلى الدال من قد. 4 الموالي جمع مولى: هو هنا القريب. 5 قعد حياله وبحياله: بإزائه، أي إن تركتها تجري في مجراها. 6 نفذهم: جازهم. 7 ائتلى: قصر، أي لا يقصر في نهشي عرضي. 8 الخبر والخبرة بكسر الحاء فيهما، ويضمان: العلم بالشيء كالاختيار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 فإذا ظفرت بذي اللبابة والتقى ... فبه اليدين "قرير عين" فاشدد1 وإذا رأيت "ولا محالة" زلة ... فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد ثم قال: أي بني، إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تشطط2، فإنه قد كان يقال: أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما، وكن كما قال هدبة بن الخشرم العذري: وكن مغفلا للحلم واصفح عن الخنا ... فإنك راءٍ ما حييت وسامع3 وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع4 وأبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت راجع وعليك بصحبة الأخيار، وصدق الحديث، وإياك وصحبة الأشرار، فإنه عار، وكن كما قال الشاعر: اصحب الأخيار وارغب فيهم ... رب من صاحبته مثل الجرب ودع الناس فلا تشتمهم ... وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب إن من شاتم وغدا كالذي ... يشتري الصفر بأعيان الذهب5 واصدق الناس إذا حدثتهم ... ودع الناس فمن شاء كذب "الأمالي 2: 204، والبيان والتبيين 2: 57، 138"   1 لب من باب تعب، وفي لغة كقرب مع الفتح في المضارع لبابة: أي صار ذا لب بالضم وهو العقل. 2 شط في حكمه، وأشط: جار. 3 المعقل: الملجأ، والخنا: الفحش. 4 نزع عن الشيء: انتهى عنه. 5 الصفر كقفل، وكسر الصاد لغة: النحاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 478- وصية أسماء بن خارجة لابنته : 1 زوج أسماء بن خارجة الفزاري بنته هندا من الحجاج بن يوسف، فلما كانت ليلة أراد البناء بها، قال لها أسماء: "يا بنية، إن الأمهات يؤدبن البنات، وإن أمك هلكت وأنت صغيرة، فعليك بأطيب الطيب؛ الماء، وأحسن الحسن؛ الكحل، وإياك وكثرة المعاتبة، فإنها قطيعة للود، وإياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق، وكوني لزوجك أَمَة، يكن لك عبدا، واعلمي أني القائل لأمك: خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب2 ولا تنقريني نقرة الدف مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغيب فإني وجدت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب "الأغاني 18: 128، والبيان والتبيين 2: 45".   1 أورد الجاحظ هذه الوصية بصورة أوجز، وذكر أنها وصية عبد الله بن جعفر لابنته. 2 السورة: الحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 479- رجل ينصح لهشام بن عبد الملك : وخرج الزهري يوما من عند هشام بن عبد الملك، فقال: ما رأيت كاليوم، ولا سمعت كأربع كلمات، تكلم بهن رجل عند هشام، دخل عليه فقال: "يا أمير المؤمنين، احفظ عني أربع كلمات، فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيتك". قال: وما هن؟ قال: "لا تعد عدة لا تثق من نفسك إنجازها، ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرًا، واعلم أن للأعمال جزاء، فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات، فكن على حذر". قال عيسى بن دأب: فحدثت بهذا الحديث المهدي، وفي يده لقمة قد رفعها إلى فيه، فأمسكها، وقال: ويحك! أعد علي، فقلت: يا أمير المؤمنين أسغ1، لقمتك، فقال: حديثك أعجب إلي. "زهر الآداب 3: 180".   1 ابتلع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 480- وصية عبد الحميد بن يحيى الكاتب للكتاب : كتب عبد الحميد بن يحيى الكاتب1 رسالة إلى الكتاب يوصيهم فيها، قال "أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات، إلى أسباب معايشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية، بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلادهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه2 من النعمة عليكم. وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب، إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، أن يكون حليمًا في موضع الحلم، فهيمًا في موضع الحكم، مقدامًا في موضع الإقدام، محجامًا في موضع الإحجام، مؤثرًا للعفاف، والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار، وفيا عند   1 هو عبد الحميد بن يحيى العامري، كاتب دولة مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين، قتله السفاح سنة 132هـ. 2 أسيغه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمته، فإن لم يحكمه، أخذ منه بمقدار يكتفي به، يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده1، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته، فتنافسوا، يا معشر الكتاب، في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربي؛ فإنها ثقاف2 ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط، فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها3، ودنيها، وسفساف4 الأمور ومحاقرها؛ فإنها مدلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءات، واربئوا5 بأنفسكم عن السعاية والنميمة، وما فيه أهل الجهالات، وإياكم والكبر والصلف والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة، وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه، حتى يرجع إليه حاله، ويثوب6 إليه أمره، وإن أقعد أحدكم الكِبَرُ عن مكبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا7 بفضل تجربته وقدم معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه، أحفظ منه على ولده وأخيه، فإن عرضت في الشغل محمدة، فلا يضيفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة، فليحملها.   1 العتاد: العدة. 2 الثقاف في الأصل: ما تسوى به الرماح. 3 رفيعها. 4 الرديء من كل شيء. 5 ربأ: علا وارتفع. 6 يرجع. 7 تقووا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 هو من دونه، وليحذر السقطة والزلة، والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشر الكتاب، أسرع منه إلى القراء، وهو لكم أفسد منه لها. فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل، يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه؛ فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه، وشكره، واحتماله، وصبره، ونصيحته، وكتمان سره، وتدبير أمره، ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه. فاستشعروا ذلكم -وفقكم الله من أنفسكم- في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان، والسراء والضراء؛ فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة، فإذا ولي الرجل منكم، أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر؛ فليراقب الله عز وجل، وليؤثر طاعته، وليكن على الضعيف رفيقا، وللمظلوم منصفا، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله، ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مكرمًا، وللفيء موفرا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألفا، وعن إيذائهم متخلفًا، وليكن في مجلسه متواضعًا حليمًا، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقًا، وإذا صحب أحدكم رجلًا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها؛ أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح، بألطف حيلة، وأجمل وسيلة، وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرًا بسياستها، التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحًا1 لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبًا2 اتقاها من قبل يديها، وإن خاف منها شرودًا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونًا قمع برفق هواها في طريقها، فإن استمرت غطفها يسيرًا؛ فيسلس له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم، وخدمهم وداخلهم. والكاتب بفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوره   1 رمحه الفرس كمنع: رفسه. 2 شب الفرس كضرب ونصر: رفع يديه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته، أولى بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم أوده، من سائس البهيمة التي لا تحير1 جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها؛ ألا فأمعنوا رحمكم الله في النظر، وأعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة، والاستثقال والجفوة، ويصير2 منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله تعالى. ولا يجاوزن الرجل منكم -في هيئة مجلسه، وملبسه، ومركبه، ومطعمه، ومشربه، وبنائه3 وخدمه وغير ذلك من فنون أمره– قدر حقه؛ فإنكم -مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم- خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير، واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف، وسوء عاقبة الترف؛ فإنهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب، ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتاب، وأرباب الآداب، وللأمور أشباه، وبعضها دليل على بعض؛ فاستدلوا على مؤتنف4 أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة. واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهي الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته؛ فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه؛ فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للتشاغل عن إكثاره،   1 لا ترد. 2 تأمنوا؛ مجزوم في جواب الأمر، أو بعبارة أخرى جواب لشرط محذوف مع فعل الشرط أي إن تعملوا ... تأمنوا؛ ومن ثم يجوز في "ويصير" ثلاثة أوجه الجزم، والنصب والرفع كما هو مشهور. فقول بعضهم: "ولعل ثبوت الياء قبل الراء من زيادة الناسخ" مردود. 3 بنى على أهله، وبها بناء، وابتنى: زفها. 4 مبتدأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وليضرع إلى الله في صلة توفيقه، وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه؛ فإنه إن ظن منكم ظان، أو قال قائل: إن الذي برز من جميل صنعته، وقوة حركته؛ إنما هو بفضل حيلته، وحسن تدبيره، فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف. ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور، وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته؛ فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعُجْب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه، وأحمد في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه، من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا تكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره، وحمد الله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته. وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: "من يلزم النصيحة1 يلزمه العمل" وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه، بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل؛ فلذلك جعلته آخره، وتممته به، تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة، بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده؛ فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". "صبح الأعشى 1: 85"   1 في نسخة: "الصحة"، وذكر الجاحظ في البيان والتبيين "2: 46" أن هذا القول من كلام الأحنف السائر في أيدي الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 الصراع بين الأموية والعباسية : 481- خطبة قحطبة بن شبيب الطائي : 1 لما دخل أبو مسلم الخراساني زعيم الدعوة العباسية مدينة مرو سنة 130هـ هرب منها نصر بن سيار -أمير خراسان من قبل مروان بن محمد الأموي- ثم سار إلى نباته ابن حنظلة: عامل جرجان2؛ فوجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب في جيش لقتاله3، وقدم قحطبة؛ فنزل بإزاء نباتة، وأهل الشام في عدة لم ير الناس مثلها، فلما رآهم أهل خراسان هابوهم، حتى تكلموا بذلك وأظهروه، وبلغ قحطبة، فقام فيهم خطيبًا، فقال: "يأهل خراسان: هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم وحسن سيرتهم؛ حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم وسلط عليهم أذل أمة، كانت في الأرض عندهم؛ فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقوا أولادهم، فكانوا بذلك يحكمون بالعدل، ويوفون بالعهد، وينصرون   1 هو أحد النقباء الاثني عشر الذين اختارهم محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة 103، أو 104، وكان قدم على أبي مسلم خراسان منصرفًا من عند إبراهيم الإمام، ومعه لواؤه الذي عقده له إبراهيم. 2 من قبل يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراق. 3 وكان قحطبة قبل ذلك قد تعبأ لقتال تميم بن نصر بن سيار ثم زحف إليه فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل معه مقتلة عظيمة واستبيح عسكرهم، ثم توجه إلى نيسابور، وكان نصر بن سيار نزل بها، فبلغه ذلك، فارتحل هاربا، وتفرق عنه أصحابه؛ فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، ونزل في آخر أمره ساوة بين همدان والري، فمات بها كمدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 المظلوم، ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلطكم عليهم، لينتقم منهم بكم، ليكونوا أشد عقوبة؛ لأنكم طلبتموهم بالثأر، وقد عهد إلي الإمام1 أنكم تلقونهم في مثل هذه العدة، فينصركم الله عز وجل عليهم، فتهزمونهم وتقتلونهم". وقد قرئ على قحطبة كتاب أبي مسلم: "من أبي مسلم إلى قحطبة، بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فناهض عدوك، فإن الله عز وجل ناصرك، فإذا ظهرت عليهم، فأثخن في القتل" فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة 130هـ في يوم الجمعة، فقال قحطبة:   1 هو إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان نصر بن سيار حين أظهر أبو مسلم الدعوة العباسية في خراسان وقويت شوكته. كتب إلى مروان يعلمه بحال أبي مسلم ومن معه، وأن الذي تدعو الدعاة إليه هو إبراهيم الإمام؛ فأرسل مروان إلى عامل البلقاء "في أطراف الشام" أن يسير إل الحميمة "كجهينة" حيث يقيم إبراهيم فيشده وثاقا، فحمل إلى مروان فحبسه في حران ثم قتله في سجنه، ولما قبض على إبراهيم الإمام خاف أخواه السفاح والمنصور وجماعة من أقاربه، فهربوا إلى الكوفة، فأخلى لهم أبو سلمة الخلال دارا بالكوفة، وكتم أمرهم حتى وصل أبو مسلم بالجنود من خراسان إلى الكوفة، ودخل على بني العباس، وسلم على السفاح بالخلافة، وبويع بها سنة 132هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 482- خطبة أخرى له "يا أهل خراسان: إن هذا يوم قد فضله الله تبارك وتعالى على سائر الأيام، والعمل فيه مضاعف، وهذا شهر عظيم، فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عز وجل، وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم، فالقوه بجد واحتساب، فإن الله مع الصابرين" ثم ناهضهم فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فانهزم أهل الشام، وقتل منهم عشرة آلاف، وقتل نباتة، وبعث قحطبة برأسه ورأس ابنه حية إلى أبي مسلم. "تاريخ الطبري 9: 106" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 استدراك على الجزء الأول خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان ... استدراك على الجزء الأول- سقطت هذه الخطبة سهوا في أثناء الطبع فأوردناها هنا: خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان: كانت السيدة عائشة خرجت إلى مكة للحج وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة؛ فلما كانت بسفر أنبئت بمقتل عثمان، فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه، واجتمع إليها الناس فقالت: "أيها الناس: إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلمًا بالأمس، ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها؛ فلما لم يجدوا حجة ولا عذرًا بادروا بالعدوان؛ فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، والله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من درنه، إذ ماصوه1 كما يماص الثوب بالماء. "الكامل لابن الأثير 3: 102"   1 الموص: غسل لين والدلك باليد. سقط من هامش ص "30" ما يأتي: جاء في مقال الحسن بن علي رضي الله عنهما للمغيرة بن شعبة ص30: "وإن حد الله في الزنا لثابت، ولقد درأ عمر عنك حقًّا الله سائله عنه". وخبر ذلك أن المغيرة بن شعبة كان عاملًا على البصرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاتهمه أبو بكرة -أخو زياد- هو ونفر معه بأنه زنى بأم جميل بنت الأفقم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فعزل المغيرة وولى مكانه أبا موسى الأشعري -وكان ذلك سنة 17هـ- وارتحل المغيرة وأبو بكرة ومن معه حتى قدموا على عمر؛ فجمع بينهم وبين المغيرة، وقد أقسم بين يدي عمر أنه ما أتى إلا امرأته، وكان الشهود عليه: أبا بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن كلدة؛ وزيادًا؛ فبدأ عمر بأبي بكرة، فشهد عليه أنه زنى بأم جميل، وشهد شبل ونافع بمثل ذلك، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، إذ سأله هل تعرف المرأة؟ قال: لا؛ ولكن أشبهها، فنحاه وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد، وقرأ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، فقال المغيرة: اشفني من الأعبد فقال: اسكت، أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك. اقرأ القصة في تاريخ الطبري 4: 207. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 الفهارس * ... انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله: الباب الرابع في خطب ووصايا العصر العباسي الأول. فهرس الجزء الثاني من جمهرة خطب العرب الباب الثالث الخطب والوصايا في العصر الأموي: رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 7 خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها خطب الحسن بن علي رضي الله عنه 7 1 خطبة الحسن بن علي بعد وفاة أبيه تعبئة الجيوش لقتال معاوية 9 2 خطبة الحسن بن علي في الحث على الجهاد 9 3 مقال عدي بن حاتم 10 4 خطبة الحسن وقد جنح إلى مصالحة معاوية 11 5 خطبته يبرر مصالحته لمعاوية 12 6 خطبته في الصلح بينه وبين معاوية 12 7 خطبة له بعد الصلح 14 8 خطبة لمعاوية في أهل الكوفة 14 9 رد الحسن بن علي على معاوية حين نال منه ومن أبيه 15 10 خطبة سليمان بن صرد في استنكار الصلح 16 11 خطبة الحسن يرد على مستنكري الصلح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 17 12 خطبة له في عهد خلافته 18 13 أخرى له 19 مخاصمة ومهاجاة بين الحسن بن علي، وبين عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، بحضرة معاوية 21 14 مقال عمرو بن العاص 21 15 مقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط 21 46 مقال عتبة بن أبي سفيان 22 16 مقال المغيرة بن شعبة 22 18 رد الحسن بن علي عليهم 31 19 رثاء محمد بن الحنفية لأخيه الحسن رضي الله عنهما مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه تأبيه عن بيعة يزيد وخروجه إلى مكة 35 20 نصيحة محمد بن الحنفية للحسين رضي الله عنهما بعثة مسلم بن عقيل إلى الكوفة 37 21 خطبة عابس بن أبي شبيب الشاكري 37 22 خطبة النعمان بن بشير 38 23 خطبة عبيد الله بن زياد 39 24 خطبة أخرى له 39 25 خطبة كثير بن شهاب 40 26 خطبة عبيد الله بن زياد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية خروج الحسين رضي الله عنه إلى الكوفة 42 27 نصيحة ابن عباس له 44 28 نصيحة أبي بكر عبد الرحمن المخزومي له 45 29 خطبة عبيد الله بن زياد 46 30 خطبة للحسين رضي الله عنه 46 31 خطبة أخرى له 47 32 خطبة أخرى له 47 33 خطبة زهير بن القين البجلي 48 34 خطبة للحسيين أيضًا 49 35 خطبته ليلة قتله 50 36 رد أهل بيته عليه 50 37 رد أصحابه 51 38 خطبته غداة يوم قتله 51 39 دعاؤه وقد صبحته الخيل 52 40 خطبته وقد دنا منه القوم 52 41 خطبة أخرى 54 42 خطبة زهير بن القين 56 43 خطبة الحر بن يزيد طلب التوابين بدم الحسين رضي الله عنه 58 44 خطبة المسيب بن نجبة الفزاري 59 45 خطبة رفاعة بن شداد 60 46 خطبة سليمان بن صرد 61 47 خطبة خالد بن سعد بن نفيل 62 48 خطبة سعد بن حذيفة بن اليمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 62 49 خطبة عبد الله بن الحنظل الطائي 63 50 خطبة عبيد الله بن عبد الله المري 65 51 خطبة عبد الله بن يزيد الأنصاري 66 52 خطبة إبراهيم بن محمد بن طلحة. 66 53 رد المسيب بن نجبة. 67 54 رد عبد الله بن وال التيمي 68 55 خطبة سليمان بن صرد 68 56 خطبة صخير بن حذيفة بن هلال 68 57 ما أشار به عبد الله بن سعد 69 58 رأي ابن صرد 70 59 خطبة عبد الله بن يزيد 70 60 خطبة سليمان بن صرد 71 61 خطبة أخرى له 72 62 خطبة أخرى له 73 63 خطبة عبد الملك بن مروان 74 طلب المختار بن أبي عبيد الثقفي بدم الحسين رضي الله عنه 74 64 خطبته حين قدم الكوفة 75 65 ما كان يردده على زائريه في سجنه 76 66 خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة 77 67 رد السائب بن مالك 78 68 خطبة عبد الرحمن بن شريح 78 69 خطبة أخرى له 79 70 خطبة محمد بن الحنفية 79 71 خطبة المختار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 80 72 خطبة عبد الرحمن بن شريح 81 73 خطبة المختار في دار إبراهيم بن الأشتر 82 74 خطبة يزيد بن أنس الأسدي 82 75 خطبة عبد الله بن مطيع 83 76 تحريض ابن الأشتر أصحابه 83 77 خطبة ابن مطيع وهو محصور 84 78 خطبة المختار بعد هرب ابن مطيع 85 79 خطبة المختار وقد استنصره ابن الحنفية 87 80 خطبة المختار وقد شيع ابن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد 90 82 خطبة محمد بن الحنفية يرد على عبد الله بن الزبير قد تنقص الإمام 91 83 عبد الله بن عباس ومعاوية عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا 94 84 مقال معاوية 95 85 مقال ابن عباس عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا 95 86 مقال معاوية لابن عباس 96 87 مقال ابن عباس عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا 97 88 مقال معاوية لبني هاشم 97 89 مقال ابن عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا 98 90 مقال معاوية 99 91 مقال ابن عباس 99 92 عبد الله بن عباس ومعاوية أيضًا 100 93 عبد الله بن عباس وعتبة بن أبي سفيان مخاصمة بين عبد الله بن عباس وبين معاوية وأصحابه 101 94 جواب ابن عباس 102 95 مقال عمرو بن العاص 102 96 جواب ابن عباس 103 97 مقال مروان بن الحكم 104 98 جواب ابن عباس 105 99 مقال زياد 105 100 جواب ابن عباس 106 101 مقال عبد الرحمن بن أم الحكم 106 102 جواب ابن عباس 107 103 مقال المغيرة بن شعبة 107 104 جواب ابن عباس 108 105 مقال يزيد بن معاوية 109 106 جواب ابن عباس 109 107 مقال معاوية 109 108 جواب ابن عباس عبد الله بن عباس، وعمرو بن العاص 111 109 مقال ابن عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 112 110 رد ابن العاص 113 111 عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص أيضًا 114 112 عمرو بن العاص وابن عباس 114 113 مفاخرة عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس ابن عباس وابن الزبير في مجلس مروان بن الحكم 119 114 مقال ابن الزبير 120 115 مقال ابن عباس 120 116 خطبة عبد الله بن عباس يرد على ابن الزبير وقد عاب بني هاشم 123 117 خطبة ابن الزبير يتنقص ابن عباس 125 118 رد ابن عباس عليه 127 119 عبد الله بن جعفر، وعمرو بن العاص 129 120 الحسن بن علي، وعمرو بن العاص 130 121 الحسن بن علي، ومروان بن الحكم 131 122 عقيل بن أبي طالب ومعاوية 134 123 خطبة السيدة أم كلثوم بنت علي في أهل الكوفة بعد مقتل الحسين عليهم السلام 136 124 خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام بين يدي يزيد 139 125 رثاء الحسين لأخيه الحسن عليهما السلام 140 126 عبد الله بن هاشم بن عتبة وعمر بن العاص في مجلس معاوية 145 127 عبد الله بن هاشم في مجلس معاوية قيس بن سعد بن عبادة ومعاوية 145 128 مقال معاوية 146 129 رد قيس بن سعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 146 130 معاوية وصعصعة بن صوحان وعبد الله بن الكواء 148 131 صعصعة بن صوحان ومعاوية 150 132 صعصعة بن صوحان وعبد الله ابن عباس 154 133 صعصعة بن صوحان ورجل من بني فزارة 155 134 رجل من آل صوحان يجبه عبد الملك بن مروان وهو يخطب 156 135 وصف عقيل بن أبي طالب لآل صوحان 157 136 وصية محمد الباقر لعمر بن عبد العزيز خطب الزبيريين وما يتصل بها خطب عبد الله بن الزبير عبد الله بن الزبير ومعاوية 159 137 مقال ذكوان مولى الحسين 159 138 مقال معاوية 160 139 مقال ابن الزبير 162 140 مقال معاوية 164 141 عبد الله بن الزبير ومعاوية أيضًا 165 142 عبد الله بن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص 168 143 خطبة ابن الزبير لما قتل الحسين عليه السلام 169 144 مناظرة ابن الزبير للخوارج 173 145 أبو صخر الهذلي وعبد الله بن الزبير 174 146 خطبته وقد قدم عليه أهل العراق 175 147 خطبته لما بلغه قتل مصعب 177 148 خطبة أخرى له 177 149 خطبته وقد بلغه قتل عمرو الأشدق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 178 150 عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر 179 151 خطبته يوم قتله 180 152 خطبة أخرى 181 153 خطبة مصعب بن الزبير خطب الأمويين خطباء البيت الأموي 182 154 خطبته بالمدينة عام الجماعة 183 155 خطبة أخرى له بالمدينة 183 156 خطبة له بالمدينة 184 157 خطبته حين ولى المغيرة بن شعبة الكوفة 185 158 خطبة له في يوم صائف 185 159 آخر خطبة له 185 160 خطبته وقد حضرته الوفاة 187 161 وصيته لابنه يزيد خطب يزيد بن معاوية 189 162 خطبته بعد موت معاوية 189 163 خطبة أخرى له 190 164 خطبة معاوية بن يزيد 191 165 وصية مروان بن الحكم لابنه عبد العزيز خطب عبد الملك بن مروان 192 166 خطبته بمكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 192 167 خطبة له موجزة 193 168 خطبته حين قتل عمرو الأشدق بن سعيد بن العاص 194 169 خطبته لما دخل الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير 195 170 خطبته عام حجة 196 171 خطبته وقد علم بخروج ابن الأشعث 197 172 وصية لبعض أمرائه 197 173 وصية للشعبي 198 174 وصية لأخيه عبد العزيز بن مروان 198 175 وصية لولده عند وفاته 199 176 خطبة للوليد بن عبد الملك 200 177 خطبة لسليمان بن عبد الملك خطب عمر بن عبد العزيز 201 178 أولى خطبه 201 179 خطبة له بالمدينة 202 180 خطبة أخرى 203 181 خطبة أخرى 204 182 خطبة أخرى 204 183 خطبة أخرى 205 184 خطبة أخرى 205 185 خطبة أخرى 206 186 خطبة له يوم عيد 206 187 خطبة أخرى 207 188 خطبة أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 207 189 خطبة أخرى 208 190 خطبة أخرى 208 191 خطبة أخرى 208 192 خطبة أخرى 209 193 خطبة أخرى 210 194 خطبة أخرى 210 195 خطبة أخرى 211 197 آخر خطبة له 212 198 نص آخر 213 199 كلامه في مرضه الذي مات فيه 214 200 مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج 217 201 تأبينه ابنه عبد الملك 218 202 خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد 219 203 وصية يزيد بن معاوية لسلم بن زياد حين ولاه خطب عتبة بن أبي سفيان 220 204 خطبة له في تهدد أهل مصر 221 205 خطبة له في تقريعهم وتهددهم 221 206 خطبة له فيهم وقد أرجفوا بموت معاوية 222 207 خطبته فيهم وقد منعوا الخراج 222 208 خطبته فيهم إذا طعنوا على الولاة 223 209 خطبته بمكة 224 210 خطبته في علته التي مات فيها 224 211 وصيته لمؤدب ولده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 225 212 وصية سعيد بن العاص لبنيه خطب عمرو بن سعيد الأشدق 228 213 خطبة له بالمدينة 229 214 خطبة له بمكة 230 215 ملاحاة الوليد بن عقبة معه في مجلس معاوية 231 216 خطبته حين غلب على دمشق 232 217 خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان 233 218 خالد بن عبد الله بن أسيد وعبد الملك بن مروان 234 219 نصيحة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان 234 220 تأديب معاوية لجلسائه 234 221 كلام معاوية وقد سقطت ثنيتاه 235 222 تقريع عبد الملك بن مروان لأحد عماله طلب معاوية البيعة ليزيد 237 223 خطبة الضحاك بن قيس الفهري 238 224 خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي 239 225 خطبة ثور بن معن السلمي 240 226 خطبة عبد الله بن عصام الأشعري 240 227 خطبة عبد الله بن مسعدة الفزاري 241 228 خطبة عمرو بن سعيد الأشدق 242 229 خطبة الأحنف بن قيس 242 230 خطبة الضحاك بن قيس 243 231 خطبة الأحنف بن قيس 244 232 خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 244 233 خطبة معاوية 245 234 خطبة يزيد بن المقنع 245 235 خطبة الأحنف 246 236 خطبة معاوية 247 237 خطبة عبد الله بن عباس 248 238 خطبة عبد الله بن جعفر 248 239 خطبة عبد الله بن الزبير 249 240 خطبة عبد الله بن عمر 250 242 خطبة مروان بن الحكم 251 243 خطبة معاوية 251 244 مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر 253 245 خطبة معاوية 255 246 خطبة الحسين 257 247 خطبة معاوية 257 248 خطبة عبد الله بن عمر 258 249 خطبة معاوية 260 250 خطبة عبد الله بن الزبير 261 251 خطبة معاوية تهنئته وتعزية 263 252 خطبة عبد الله بن همام السلولي 264 253 خطبة عطاء بن أبي صيفي الثقفي 264 254 خطبة عبد الله بن مازن 265 255 خطبة غيلان بن مسلمة الثقفي "34 –جمهرة خطب العرب- ثان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية خطب ولاة الأمويين وقوادهم خطب زياد بن أبيه 266 256 خطبته بفارس وقد كتب إليه معاوية يتهدده 267 257 خطبته وقد بعث معاوية إليه المغيرة بن شعبة يستقدمه 269 258 خطبته وقد استلحقه معاوية 270 259 خطبته حين ولي البصرة "وهي البتراء" 274 260 خطبته بالكوفة وقد ضمت إليه 275 261 خطبته خطبة أخرى له بالكوفة 275 262 خطبته بالكوفة يتهدد الشيعة 276 263 خطبة أخرى له 276 264 خطبة أخرى له 277 265 وصية لزياد 277 266 ما كان يقوله لمن ولاه عملا 278 267 خطبة الضحاك بن قيس الفهري بالكوفة 279 268 خطبته عند موت معاوية 280 269 خطبة النعمان بن بشير بالكوفة 281 270 خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه بين يدي معاوية 283 271 رد معاوية على ابن زياد 284 272 مقال يزيد بن معاوية 285 273 وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه خطب الحجاج بن يوسف الثقفي 287 274 خطبة بمكة بعد مقتل ابن الزبير 287 275 خطبته بعد قتل ابن الزبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 288 276 خطبته حين ولى العراق 291 277 خطبته وقد سمع تكبيرا في السوق 292 278 خطبته وقد قام قدم البصرة 293 279 خطبته بعد وقعة دير الجماجم 295 280 خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشام 295 281 خطبة له بالبصرة 296 282 خطبة أخرى له بالبصرة 297 283 خطبته في أهل العراق يصارحهم بالكراهية 297 284 خطبة أخرى 298 285 خطبته لما مات عبد الملك بن مروان 298 286 خطبته حين أراد الحج 299 287 خطبته لما أصيب بولده وأخيه محمد في يوم واحد 300 288 خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته 301 289 خطبة له في الوعظ 302 290 خطبة أخرى 302 291 خطبة أخرى 303 292 خطبة أخرى 303 293 خطبة أخرى خطب قتيبة بن مسلم الباهلي 304 294 خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو طخارستان 305 295 خطبته " وقد تهيأ لغزو بلاد السغد 306 296 خطبته " وقد سارت إليه جيوش الشاش وفرغانة 307 297 خطبته " حين دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك 310 298 خطبة أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 310 299 خطبة أخرى 311 300 خطبة أخرى 312 301 كلمات حكيمة لقتيبة بن مسلم 314 302 خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس 316 303 نص آخر لخطبة طارق 316 304 خطبة عثمان بن حيان المري 318 305 وصية يزيد بن المهلب لابنة مخلد 320 306 نصيحة عمر بن هبيرة لبعض بنيه خطب خالد بن عبد الله القسري 321 307 خطبه بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة 322 308 خطبة أخرى يشيد فيها بفضل الوليد 322 309 خطبته بمكة في الحجاج 323 310 خطبته " في الحث على مكارم الأخلاق 324 312 قوله وقد سقطت جرادة على ثوبه 324 313 خطبة يوسف بن عمر النفقي 325 314 خطبة له خطب الفتن والأحداث: فتنة المدينة ووقعة الحرة: 326 315 خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصاري 327 316 خطبة " مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشام 327 317 خطبة " مسلم يحرضهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 328 318 خطبة ابن حنظلة يحرض أصحابه اضطراب الأمر بعد موت يزيد 329 319 خطبة عبيد الله بن زياد بن أبية 330 320 خطبة " أخرى له 331 321 خطبة " عمرو بن حريث 331 322 خطبة " عمرو بن مسمع 332 323 خطبة " خطبة الأحنف بن قيس 334 324 خطبة " روح بن زنباع الجذامي بالمدينة 336 325 خطبته يؤيد مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة 337 336 خطبة الغضبان بن القبعثرى يحض على قتل الحجاج 338 327 خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة 338 328 خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة 329 329 خطبة سعيد بن المجالد فتنة ابن الأشعث 340 330 خطبته يعرض على الجند رأي الحجاج 341 332 خطبة عامر بن واثلة الكناني 342 333 خطبة " عبد المؤمن بن شيث بن ربعي 342 334 خطبة " ابن الأشعث بالمربد 343 335 خطبته حين أراد عبد الملك أن يترضى أهل العراق 344 336 عامر الشعبي والحجاج 344 337 أيوب بن القرية والحجاج 348 338 كلمة لابن القرية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية فتنة يزيد بن المهلب 349 339 خطبة أيوب بن سليمان بن عبد الملك 350 340 خطبة " يزيد بين يدي الوليد 350 341 خطبة " مخلد بن يزيد بن المهلب بين يدي عمر بن عبد العزيز 352 342 خطبة " يزيد بن المهلب يحرض أصحابه على القتال 353 343 خطبة " أخرى له 354 344 خطبة 354 345 خطبة " الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب 355 346 خطبة " مروان بن المهلب خطب الأحنف بن قيس التميمي 356 347 الأحنف ومعاوية 357 348 الأحنف ومعاوية أيضًا 358 349 قوله في مدح الولد 358 350 شفاعته لدى مصعب بن الزبير 358 351 نصيحته لقومه 359 352 خطبته في قوم كانوا عنده 360 353 كلمات حكيمة للأحنف 361 354 صفية بنت هشام المنقرية تؤبن الأحنف خطب الوفود، وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء الوافدون على معاوية 363 355 وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية 364 356 وفد أهل العراق على معاوية، وفيهم الأحنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 364 357 خطبة زياد 365 358 خطبة " معاوية 365 359 خطبة " الأحنف بن قيس 365 310 وفد العراق على معاوية وفيهم دغفل النسابة 369 361 دغفل وجماعة من الأنصار 369 362 وفد أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان 371 363 وفود العرب ومعاوية 372 364 وفود " عبد العزيز بن زرارة على معاوية 373 365 وفود " زيد بن منية على معاوية 374 366 وفود " ضرار بن حمزة الصدائي على معاوية الوافدات على معاوية 375 367 وفود سودة بنت عمارة على معاوية 378 368 وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية 380 369 وفود بكارة الهلالية على معاوية 381 370 وفود أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية 384 371 أم البراء بنت صفوان ومعاوية 385 372 دارمية الحجونية ومعاوية 387 373 شداد بن أوس ومعاوية 388 374 معاوية ورجل من أهل سبأ 389 375 حديث معاوية مع عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان 390 376 حديث الخيار بن أوفى النهدي مع معاوية 391 377 حديث عرابة بن أوس بن حارثة مع معاوية 392 378 سعيد بن عثمان بن عفان ومعاوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 393 379 مصقلة بن هبيرة ومعاوية 393 380 روح بن زنباع ومعاوية 394 381 مخاصمة أبي الأسود الدؤلي وامرأته بين يدي زياد بن أبيه 395 382 صورة أخرى 398 383 وفد أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير 398 384 كلام خطيب الأزد بين يدي عبد الملك بن مروان 399 385 سؤال عبد الملك للعجاج وما أجابه به 399 386 وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان 402 387 قدوم الحجاج مع أشراف المصريين على عبد الملك 403 388 وفود مالك بن بشير على الحجاج بقتل الأزارقة 404 389 وفود كعب الأشقري على الحجاج 405 390 وفود سليك بن سلكة والحجاج 406 391 وفود جامع المحاربي والحجاج 407 392 وفود ليلى الأخيلية والحجاج 412 393 وفود الغضبان بن القبعثري والحجاج 414 394 وفود ابن القرية يعدد مساوئ المزاح 415 395 يزيد بن مسلم وسليمان بن عبد الملك 416 396 وفود العراق على سليمان بن عبد الملك 417 397 كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك 418 398 أبو حازم وسليمان بن عبد الملك أيضًا 419 399 وفد أهل الحجاز عند عمر بن عبد العزيز 420 400 خالد بن صفوان يعزى عمر بن عبدا لعزيز ويهنئه 420 401 خطبة عبد الله بن الأهتم 422 402 مقام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز 422 403 وفد أهل الحجاز على هشام بن عبد الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 424 404 مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام 426 405 خالد بن صفوان يصف جريرا والفرزدق والأخطل 427 406 خالد بن صفوان وبلال بن أبي بردة 428 407 خطبة الكميت بن زيد بين يدي هشام يستعطفه 432 408 خاصمة عدي بن أرطأة لامرأته عند شريح القاضي 433 409 كلمة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان 434 410 خطبة دينار 434 411 رجل يمدح خالد بن عبد الله القسري 435 خطب الخوارج وما يتصل بها 435 412 خطبة حيان بن ظبيان السلمي 437 ائتمار الخوارج 437 413 مقال المستورد بن علقة 437 414 مقال حيان بن ظبيان 438 415 مقال معاذ بن جوين 438 416 خطبة المغيرة بن شعبة 439 417 خطبة صعصعة بن صوحان 441 418 خطبة المستورد بن علقة 442 419 خطبة معقل بن قيس الرياحي 442 420 كلمات حكيمة للمستورد 443 ائتمار الخوارج ثانية 443 421 خطبة حيان بن ظبيان 443 422 خطبة معاذ بن جوين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 444 423 رد حيان بن ظبيان 444 424 مقال عتريس بن عرقوب 445 425 رد حيان 445 426 خطبة حيان 446 427 خطبة مسلم بن عبيس حين خرج لقتال الأزارقة 248 خطب المهلب بن أبي صفرة 448 428 خطبته في حث جنده على قتال الأزارقة 449 429 خطب أخرى له في جنده 449 430 نص آخر 450 431 خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغيرة 451 432 خطبة الزبير بن علي في الأزارقة 452 433 خطبة عتاب بن ورقاء الرياحي وقد طال عليه الحصار 453 434 نصيحة عرهم العدوي لخالد بن عبد الله 454 435 خطبة قطري بن الفجاءة 458 436 خطبة عبد ربه الصغير 459 437 خطبة صالح بن مسرح 460 438 خطبة أخرى له 461 439 خطبة أخرى له 462 440 خطبة زائدة بن قدامة 462 441 خطبة الحجاج بن يوسف 463 442 خطبة أخرى للحجاج 463 443 خطبة شبيب بن يزيد الشيباني 464 444 خطبة عتاب بن ورقاء 464 445 خطبة الحجاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 465 446 خطبة عبد الله بن يحيى الإباضي خطب أبي حمزة الشاري 467 447 خطبته حين دخل المدينة 468 448 خطبة أخرى له 469 449 خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه 476 450 خطبة أخرى 478 451 خطبة في سب أهل المدينة وتقريعهم 480 452 خطبة أخرى 481 453 خطبته حين خرج من المدينة 481 454 عمران بن خطان والحجاج الخطب الوعظية والوصايا 482 455 خطبة سحبان بن زفر الوائلي 483 456 خطبة معاوية 483 457 خطبة عبد الملك بن مروان 484 458 خطبة لعمر بن عبد العزيز كلام الحسن البصري 485 459 خطبة له 487 460 خطبة أخرى 488 461 خطبة أخرى 488 462 خطبة أخرى 489 463 خطبة أخرى خطبة 489 464 خطبة أخرى 490 465 خطبة أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 490 466 خطبة أخرى 491 467 مقام الحسن البصري عند عمر بن هبيرة 492 468 مقام الحسن البصري عند النضر بن عمرو 493 469 مقام آخر له عند النضر 494 470 مقال الحسن حين رأى دار الحجاج التي بناها بواسط 495 471 صفة الإمام العادل 497 472 موعظته لعمر بن عبد العزيز 498 473 موعظته لعمر بن عبد العزيز أيضًا 499 474 كلمات حكيمة للحسن البصري 501 475 خطبة واصل بن عطاء 503 476 وصية عبد الملك بن مروان لبني أمية 503 477 وصية عبد الله بن شداد لابنه 507 478 وصية أسماء بن خارجة لابنته 508 480 وصية عبد الحميد بن يحيى الكاتب للكتاب الصراع بين الأموية والعباسية 509 481 خطبة قحطبة بن شبيب الطائي 510 482 خطبة أخرى له استدراك على الجزء الأول 511 483 خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 فهرس أعلام الخطباء مرتب بترتيب الحروف الهجائية مع إتباع اسم كل خطيب بأرقام الصفحات التي وردت فيها خطبه "أ" إبراهيم بن الأشتر: 83 إبراهيم بن محمد بن طلحة: 66-399 أبو الأسود الدؤلي: 394 أبو بكر بن عبد الرحمن: 44 أبو بكر الهذلي: 402 أبو حازم الأعرج: 417-418 أبو حاضر الأسيدي: 398 أبو حمزة الشاري: 467-468-469-476-478-480-481 أبو صخر الهذلي: 173 الأحنف بن قيس: 242-343-345-332-356-357-358-359- 360- 363-364 أروى بنت الحارث بن عبد المطلب: 381 أسماء بن خارجة: 507 أم البراء بنت صفوان: 384 أم سنان بنت خيثمة: 378 السيدة أم كلثوم بنت علي رضي الله عنها 134 أيوب بن سليان بن عبد الملك: 349 أيوب بن القرية: 344-348-444 "ب" بكارة الهلالية: 380 بلال بن أبي بردة: 416 "ث" ثور بن معن السلمي: 239 "ج" جامع المحاربي: 406 "ح" الحجاج بن يوسف الثقفي: 287-288-291-292-293-295-296-297- 298-299-300-301-302-303-402-462-463 -464 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 الحر بن يزيد: 56 الحسن البصري: 485-487-488-489-490-491 -492-493-494-495-497-498-499 الحسن بن علي رضي الله عنه: 7-9-10-11-12-14-16-17-18-22-129-130 الحسين بن علي رضي الله عنه: 45-46-47-48-49-51-52-139-255 "خ" خالد بن سعد بن نفيل: 61 خالد بن صفوان 401-402-420-424-426-427 خالد بن عبد الله بن أسيد: 233 خالد بن عبد الله القسري: 321-322-323-324 خالد بن يزيد: 323 الخيار بن أوفى النهدي: 390 "د" دارمية الحجونية: 385 دغفل بن حنظلة: 365-369 دينار: 434 "ذ" ذكوان: 159 "ر" رفاعة بن شداد: 59 روح بن زنباع: 334-336-393 "ز" زائدة بن قدامة: 462 الزبير بن علي: 451 زهير بن القين البجلي: 47-54- زياد بن أبيه 105-266-267-269-270-274-275-276-364 زيد ابن منية: 373 السيدة زينب بنت علي رضي الله عنها: 136 "س" السائب بن مالك: 77 حبان بن زفر: 482 سعد بن حذيفة بن اليمان: 62 سعيد بن العاص: 225 سعيد بن عثمان بن عفان: 392 سعيد بن المجالد: 339 سليك بن السلكة: 405 سليمان بن صرد: 15-60-68-69-70-71-72 سليمان بن عبد الملك: 200 سودة بنت عمارة: 375 "ش" شبيب بن يزيد الشيباني: 463 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 شداد بن أوس الطائي: 387 شريح القاضي: 433 "ص" صالح بن مسرح: 459-461 صخير بن حذيفة بن هلال: 68 صعصعة بن صوحان: 146-148-150-154-369-439 صفية بنت هشام المنقرية: 361 "ض" الضحاك بن قيس: 237-242-278-279 ضرار بن حمزة الصدائي: 374 "ط" طارق بن زياد: 314-316 "ع" السيدة عائشة رضي الله عنها: 511 عابس بن أبي شبيب: 37 عامر الشعبي: 344 عامر بن واثلة الكناني: 341 عبد الحميد بن يحيى: 508 عبد ربه الصغير: 458 عبد الرحمن بن أبي بكر: 251 عبد الرحمن ابن أم الحكم: 106 عبد الرحمن بن شريح: 78 عبد الرحمن بن عثمان: 238-244 عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: 340-342-343 عبد العزيز بن زرارة: 372 بد العزيز بن مروان: 420 عبد الله بن الأهتم: 420 عبد الله بن جعفر: 127-247 عبد الله بن جعفر: 127-247 عبد الله بن الحنظل: 62 عبد الله بن حنظلة الأنصاري: 326-328 عبد الله بن الزبير: 114-119-123-160-164-165-168- 196-173-174-175-177-178-179 -180-248-260 عبد الله بن سعد: 68 عبد الله بن شداد: 503 عبد الله بن عباس: 42-91-95-99-100-101-102- 104- 105-106-107-109-111-113-114- 120-125-247 عبد الله بن عبد الحجر: 389 عبد الله بن عصام: 240 عبد الله بن عمر: 248-257 عبد الله بن الكواء: 146 عبد الله بن مازن: 264 عبد الله بن مسعدة: 240 عبد الله بن مطيع: 76-82-83 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 عبد الله بن هاشم: 140-145 عبد الله بن همام السلولي: 263 عبد الله بن وال التيمي: 67 عبد الله بن يحيى الأباضي: 465 عبد الله بن يزيد الأنصاري: 65-70 عبد المؤمن بن شبث بن ربعي: 342 عبد الملك بن مروان: 73-192-193-194-195-196- 197-198-235-483-503 عبيد الله بن زياد بن أبيه: 38-39-40-45-281-239 عبيد الله بن عبد الله المري: 63 عتاب بن ورقاء الرياحي: 452-464 عتبة بن أبي سفيان: 22-220-221-222-223-224 عتريس بن عرقوب: 444 عثمان بن حيان المري: 316 العجاج بن رؤبة: 399 عدي بن حاتم: 9 عدي بن أرطأة: 432 عرابة بن أوس بن حارثة: 391 عرهم العدوي: 453 عطاء بن أبي صيفي: 264 عقيل بن أبي طالب: 131-156 عمر بن عبد الرحمن: 45 عمر بن عبد العزيز: 201-202-203-204-205-206-207- 208-209-210-211-212-213-214- 217-484 عمر بن هبيرة: 320 عمرو بن حريث: 331 عمرو بن سعيد الأشدق: 228-229-230-231-241 عمرو بن العاص: 21-102-112-113-114-140-165 عمرو بن عتبة بن أبي سفيان: 234-433 عمرو بن مسمع: 331 عمران بن حطان: 481 "غ" الغضبان بن القبعثرى: 337-412 غيلان بن مسلمة الثقفي: 265 "ق" قتيبة بن مسلم: 304-305-306-307-310-311-312 قحطبة بن شبيب الطائي: 509-510 قطري بن الفجاءة: 454 قيس بن سعد بن عبادة: 146 "ك" كثير بن شهاب: 39 كعب بن معدان الأشقري: 404 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 الكميت بن زيد الأسدي: 428 "ل" ليلى الأخيلية: 407 "م" مالك بن بشير: 403 محمد بن أبي الجهم العدوي: 423 محمد الباقر: 157 محمد بن الحنفية: 31-35-90 محمد بن عمير بن عطارد: 401 محمد بن كعب القرظي: 423 المختار بن أبي عبيد الثقفي: 74-75-81-84-85-87-88 مخلد بن يزيد بن المهلب: 350 مروان بن الحكم 103-191-250 مروان بن المهلب: 355 المستورد بن علفة: 437-144-442 مسلم بن عبيس: 446 مسلم بن عقبة: 327 المسيب بن نجبة 58-66 مصعب بن الزبير: 181 مصقلة بن هبيرة: 293 طرف بن المغيرة: 338 معاذ بن جوين: 438-443 معاوية بن أبي سفيان: 14-94-95-97-98-109- 145-146-159-162-164-165- 182-183-184-187-234-244- 246-249-251-253-257-258- 261-382-365-371-388-483 معاوية بن يزيد: 190 معقل بن قيس: 442 المغيرة بن شعبة: 22-107-438 المهلب بن أبي صفرة: 285-448-449-450 "ن" النعمان بن بشير: 37-280 "و" واصل بن عطاء: 501 الوليد بن عبد الملك: 199 الوليد بن عقبة: 21-230 "ي" يزيد بن أبي مسلم: 415 زيد بن أنس الأسدي: 82 يزيد بن معاوية: 108-189-219-284 يزيد بن المقنع: 245 يزيد بن المهلب: 318-350-352-353-354 يزيد بن الوليد: 218 يوسف بن عمر الثقفي: 324-325 تم فهرس أعلام الخطباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 المجلد الثالث مقدمة ... تصدير الطبعة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك اللهم وفقتني إلى إتمام ما بدأت، فلك الشكر والمنة في البدء والنهاية وأصلي وأسلم على خاتم رسلك، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وبعد: فهذا ثالث الأجزاء من "جمهرة خطب العرب" في خطب العصر العباسي الأول، وهو على نسق سابقيه ضبطًا وتحريرًا، وشرحًا وتعليقًا، ويليه ذيل الجمهرة، في خمسة أبواب من الخطب: الباب الأول: في خطب الأندلسيين والمغاربة. الباب الثاني: في خطب ووصايا مجهول عصرها أو قائلها. الباب الثالث: في نثر الأعراب. الباب الرابع: في خطب النكاح. الباب الخامس: في خطب من أرتج عليهم، ونوادر طريفة لبعض الخطباء. وبذا تم ما قصدت إلى جمعه في هذا المؤلف، وإني أبتهل إلى المولى القدير أن يحقق ما رجوته من استفادة قارئيه به، وأن يسدد جميعًا إلى سبيل الرشاد، إنه الكبير المتعال. أحمد زكي صفوت. حرر بالقاهرة في ذي القعدة سنة 1352هـ. مارس سنة 1934م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 فهرس مآخذ الخطب في هذا الجزء الأمالي: لأبي علي القالي: الجزء الأول – الثاني – ذيل الأمالي الأغاني: لأبي الفرج الأصبهاني: الجزء التاسع صبح الأعشى: لأبي العباس القلقشندي: الجزء الأول – التاسع نهاية الأرب: لشهاب الدين النويري: الجزء السادس عيون الأخبار: لابن قتيبة الدينوري: المجلد الثاني الكامل: لأبي العباس المبرد: الجزء الأول العقد الفريد: لابن عبد ربه: الجزء الأول – الثاني – الثالث زهر الآداب: لابن إسحاق الحصري: الجزء الأول – الثاني – الثالث البيان والتبيين: للجاحظ: الجزء الأول – الثاني – الثالث شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد: المجلد الأول – الثاني أمالي السيد المرتضى: المجلد الأول – الرابع مجمع الأمثال: لأبي الفضل الميداني: المجلد الأول تاريخ الأمم والملوك: لابن جرير الطبري: المجلد التاسع – العاشر تاريخ الكامل: لابن الأثير: المجلد السادس مروج الذهب: للمسعودي: المجلد الثاني وفيات الأعيان: لابن خلكان: المجلد الأول – الثاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 مواسم الأدب: للسيد جعفر البيتي العلوي: الجزء الثاني الصناعتين: لأبي هلال العسكري مقدمة ابن خلدون المنية والأمل: لأحمد بن يحيى المرتضى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الباب الرابع: الخطب والوصايا في العصر العباسي خطبة أبي العباس السفاح ... الباب الرابع: الخطب والوصايا: في العصر العباسي الأول: 1- حطبة أبي العباس السفاح وقد بويع بالخلافة: "توفي سنة 136 هـ. صعد أبو العباس1 السفاح المنبر حين بويع له بالخلافة، فقام في أعلاه، وصعد عمه داود بن علي فقام دونه، وتكلم أبو العباس، فقال: "الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرفه، وعظمه، واختار لنا وأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه2 وحصنه والقوام به، والذابين عنه، والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله صلى الله   1 هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أول الخلفاء العباسيين، بويع بالخلافة سنة 132هـ. 2 الكهف: الوزر والملجأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 عليه وسلم وقرابته، وأنشأنا من آبائه أنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته1، جعله من أنفسنا عزيزًا عليه ما عنتنا2، حريصًا علينا، بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابًا يتلى عليهم، فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ 3 أ َهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، وقال {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وقال: {مَا أَفَاء َ4 اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} ، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء5 والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا، وفضلًا علينا، والله ذو الفضل العظيم. وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا6 أحق بالرياسة والخلافة منا، فشاهت7 وجوههم! بم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم! وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وأتم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر، ومواساة في دينهم ودنياهم، إخوانًا على سرر متقابلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعد أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها،   1 النبع في الأصل: شجر للقسي والسهام. 2 العنت بالتحريك: دخول المشقة على الإنسان. 3 القذر، وكل ما استقذر من العمل. 4 ما أعاده عليه أي صبره له. 5 الغنيمة. 6 يريد العلويين. 7 شاه وجهه شوها بالفتح: قبح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 ووضعوها مواضعها، أعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا1 منها، ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى2 الله لهم حينًا حتى آسفوه3، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نصرنا والقيام بأمرنا، ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يأهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يئنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير4". وكان موعوكًا فاشتد به الوعك5، فجلس على المنبر، وصعد داود بن علي، فقام دونه على مراقي6 المنبر، فقال: "تاريخ الطبري 9: 125، وشرح ابن أبي الحديد م 2: ص 213".   1 جياعًا جمع خميص من خمص البطن مثلثة الميم أي خلا، والمخمصة: المجاعة، وهو خمصان بالضم، وخميص الحشا: ضامر البطن. 2 أمهلهم. 3 أغضبوه. 4 أباره: أهلكه. 5 الوعك: أذى الحمى ووجعها، وألم من شدة التعب. 6 جمع مرقاة بفتح الميم وكسرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 2- خطبة داود بن علي : "الحمد لله شكرًا شكرًا شكرًا، الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أيها الناس: الآن أقشعت1 حنادس الدنيا، وانكشف   1 قشعت الريح السحاب: كشفته كأقشعته فأقشع وانقشع وتقشع، والحنادس جمع حندس بكسر الحاء والدال وهو الظلمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى النزعة1. ورجع الحق إلى نصابه2، في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم العطف عليكم. أيها الناس: إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا، ولا عقيانًا3 ولا نحقر نهرًا، ولا نبني قصرًا، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا4 من أموركم، وبهظنا من شئونكم، ولقد كانت أموركم ترمضنا5 ونحن على فرشنا، ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم، وخرقكم بكم، واستدلالهم بكم، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة تبارك وتعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة العباس رحمه الله أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبًّا تبًّا لبني حرب بن أمية وبني مروان، وآثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد، التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار6، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلًا باستدراج الله، وأمنًا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعدًا للقوم الظالمين، وأدالنا7 الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، وأرسل لعدو الله في عنانه، حتى عثر في فضل خطامه، فظن عدو الله أن لن يقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه، وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه   1 جمع نازع: وهو الرامي يشد الوتر إليه ليضع فيه السهم، وصار الأمر إلى النزاعة أي قام بإصلاحه أهل الأناة، وعاد السهم إلى النزعة: رجع الحق إلى أهله. 2 أصله. 3 ذهبًا. 4 كرثه الغم كضرب ونصر: اشتد عليه كأكرثه. 5 أرمضه: أوجعه وأحرقه، وأرمض الحر القوم: اشتد عليهم فآذاهم. 6 جمع إصر كحمل وهو الذنب. 7 نصرنا عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 ونقمته، ما أمات باطله، وحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزنا، ورد إلينا حقنا وإرثنا. أيها الناس، إن أمير المؤمنين – نصره الله نصرًا عزيزًا– إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، أنه كره1 أن يخلط بكلام الجمعة غيره، إنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر2 فيه شدة الوعك، وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن، وخليفة الشيطان، المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، بإبدال الدين، وانتهاك حريم المسلمين، الشاب3 المتكهل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى، ومناهج التقوى" –فعج الناس له بالدعاء- ثم قال: "يأهل الكوفة: إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج4 بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله ما كنتم به تنتظرون، وإليه تتشوفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشأم، ونقل إليكم السلطان وعز الإسلام، ومن عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة5، فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإن الأمر أمركم، فإن لكل أهل بيت مصرًا، وإنكم مصرنا، ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمير المومنين عبد الله بن محمد –وأشار بيده إلى أبي العباس– فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا". "تاريخ الطبري 9: 126، وشرح ابن أبي الحديد م 2: ص 213".   1 أي؛ لأنه كره. 2 اسحنفر الخطيب: اتسع في كلامه. 3 كانت سنه حين ولي الخلافة 28 سنة إذ ولد سنة 104هـ. 4 نصر. 5 آل الملك رعيته إبالا: ساسهم. وآل على القوم إيالًا وإيالة: ولي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 3- خطبة داود بن علي وقد أرتج على السفاح : وروى أنه لما قام أبو العباس في أول خلافته على المنبر، قام بوجه كورقة المصحف فاستحيا فلم يتكلم، فنهض داود بن علي حتى صعد المنبر، فقال المنصور: فقلت في نفسي: شيخنا وكبيرنا ويدعو إلى نفسه، فلا يختلف عليه اثنان، فانتضيت سيفي، وغطيته بثوبي1، وقلت: إن فعل ناجزته، فلما رقى عتبا استقبل الناس بوجهه دون أبي العباس، ثم قال: "أيها الناس، إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله، ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق2 المقال، وحسبكم بكتاب الله ممتثلًا3 فيكم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة عليكم، والله –قسما برا لا أريد به إلا الله- ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا، فليظن ظانكم، وليهمس هامسكم" قال أبو جعفر: ثم نزل، وشمت4 سيفى. "عيون الأخبار م 2: ص 252، وشرح ابن أبي الحديد م 2: ص213، مواسم الأدب 2: 144".   1 في عيون الأخبار: "وغطيت ثوبي" وهو تحريف. 2 شقق الكلام: أخرجه أحسن مخرج. 3 امتثل طريقته: تبعها فلم يعدها. 4 شام سيفه يشيمه: غمده "واستله أيضًا: ضد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 4- خطبة أخرى له: وروى السيد المرتضى في أماليه قال: أراد أبو العباس السفاح يومًا أن يتكلم بأمر من الأمور بعد ما أفضت الخلافة إليه –وكان فيه حياء مفرط- فأرتج عليه، فقال داود بن علي بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أيها الناس، إن أمير المؤمنين الذي قلده الله سياسة رعيته، عقل من لسانه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 عندما يعهد من بيانه، لكل مرتق بهر1، حتى تنفسه العادات، فأبشروا بنعمة الله في صلاح دينكم، ورغد عيشكم". "أمالي السيد المرتضى 4: 19".   1البهر: انقطاع النفس من الإعياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 5- خطبة أخرى للسفاح بالكوفة : وخطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} والله لا أعدكم شيئًا إلا وفيت بالوعد والوعيد، ولأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة، ولأغمدن السيف إلا في إقامة حد، أو بلوغ حق، ولأعطينكم حتى أرى العطية ضياعا، إن أهل بيت اللعنة والشجرة1 الملعونة في القرآن، كانوا لكم أعداء، لا يرجعون معكم من حالة إلا إلى ما هو أشد منها، ولا يلي عليكم منهم والٍ إلا تمنية من كان قبله، وإن كان لاخير في جميعهم، منعوكم الصلاة في أوقاتها، وطالبوكم بأدائها في غير وقتها، وأخذوا المقبل بالمدبر2، والجار بالجار، وسلطوا شراركم على خياركم، فقد محق الله جورهم، وأزهق باطلهم، بأهل بيت نبيكم، فما نؤخر لكم عطاء، ولا نضيع لأحد منكم حقًّا، ولا نجمركم في بعث، ولا نخاطر بكم في قتال، ولا نبذلكم دون أنفسنا، والله على ما نقول وكيل بالوفاء والاجتهاد، وعليكم بالسمع والطاعة" ثم نزل. "شرح ابن أبي الحديد م 2: ص213".   1 هي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، جعلها الله فتنة للمشركين إذ قالوا: إن النار تحرق الشجرة فكيف تنبته. 2 انظر قول زياد بن أبيه في خطبته البتراء الجزء الثاني ص272. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 6- خطبة السفاح بالشام حين قتل مروان : ولما قتل مروان بن محمد –آخر خلفاء بني أمية– خطب السفاح، فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 نكص بكم يأهل الشام آل حرب وآل مروان، يتسكعون1 بكم الظلم، ويتهورون بكم مداحض2 الزلق، يطئون بكم حرم الله3 وحرم رسوله4، ماذا يقول زعماؤكم غدًا؟ يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} إذن يقول الله عز وجل: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أما أمير المؤمنين فقد ائتنف5 بكم التوبة، واغتفر لكم الزلة، وبسط لكم الإقالة6، وعاد بفضله على نقصكم، وبحلمه على جهلكم، فليفرخ روعكم7، ولتطمئن به داركم، وليقطع مصارع أوائلكم، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} . "العقد الفريد 2: 145".   1 تسكع: مشى مشيا متعسفا. 2 جمع مدحضة: وهي المزلة. 3 يشير إلى ما كان من مقاتلة الحجاج عبد الله بن الزبير بمكة، ورميه الكعبة بالمنجنيق في عهد عبد الملك بن مروان. 4 يشير إلى وقعة الحرة وما أحدثه جيش مسلم بن عقبة المري بالمدينة على عهد يزيد بن معاوية. 5 استأنف وابتدأ. 6 أقال عثرته: رفعه من سقوطه. 7 الروع: بالضم القلب، أو موضع الفزع منه والروع بالفتح: الفزع، وأفرخت البيضة: خرج الفرخ منها، أي ليخرج الروع عن روعكم ولتهدءوا وتطمئنوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 7- خطبة عيسى بن علي حين قتل مروان : وخطب عيسى بن علي –عم السفاح- لما قتل مروان، فقال: "الحمد لله الذي لا يفوته من طلب، ولا يعجزه من هرب، خدعت والله الأشقر نفسه، إذ ظن أن الله ممهله، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون} ، فحتى متى، وإلى متى؟ أما والله لقد كرهتهم العيدان1 التي افترعوها، وأمسكت السماء درها2، والأرض ريعها3، وقحل الضرع4، وجفز الفنيق5، وأسمل6   1 أي أعواد المنابر، وافترعوها: أي علوها. 2 مطرها. 3 الريع: النماء والزيادة. 4 قحل: يبس جلده على عظمه. 5 الفنيق: الفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله ولا يركب، والجفز: كشمس السرعة في المشي، ولم تذكر كتب اللغة ضبط فعله، وجاء في اللسان: "الجفز: سرعة المشي يمانية، حكاها ابن دريد، قال: ولا أدري ما صحتها"، وفي رواية مواسم الأدب: "وجفل فنيق الشرك". 6 أسمل الثوب وسمل، كدخل وكرم: أخلق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 جلباب الدين، وأبطلت الحدود، وأهدرت الدماء، وكان ربك بالمرصاد، {فَدَمْدَمَ 1 عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ، وملكنا الله أمركم عباد الله لينظر كيف تعملون، فالشكر الشكر، فإنه من دواعي المزيد، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الأهواء، وبغتات الفتن، فإنما نحن به وله". "شرح ابن أبي الحديد م2: ص213، مواسم الأدب 2: 115".   1 دمدم القوم، ودمدم عليهم: طحهم فأهلكهم، فسواها: أي الدمامة، أي عمهم بها فلم يفلت منهم أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 1- خطبة داود بن علي بمكة 1: وخطب داود بن علي الناس بمكة في أول موسم ملكه بنو العباس، فقال: "شكرًا شكرًا، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهرًا، ولا لنبني فيكم قصرًا، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه، أن روخي2 له من خطامه، حتى عثر في فضل زمامه؟ فالآن حيث أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه من أهل بيت النبوة والرحمة –والله لقد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا– أمن الأسود والأحمر3، ولكم ذمة الله، لكم ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكم ذمة العباس، لا ورب هذه البنية -وأومأ بيده إلى الكعبة- لا نهيج منكم أحدًا". "تهذيب الكامل 1: 18، والعقد الفريد 2: 147، والبيان والتبيين 1: 180، وابن أبي الحديد 2: 213، ومواسم الأدب 2: 114".   1 ولاه أبو العباس الكوفة وسوادها، 0ثم ولاه المدينة ومكة واليمن واليمامة سنة 132 وولاه إمارة الحاج في هذه السنة، ومات بالمدينة في ربيع الأول سنة 133هـ "الطبري ج 9 ص 147". 2 أي؛ لأن روخي له، ظن أن لن نقدر عليه. 3 الحمراء: العجم لأن الغالب على ألوانهم البياض والحمرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 9- خطبته بالمدينة : قال: "أيها الناس: حتام يهتف بكم صريخكم1؟ أما آن لراقدكم أن يهب من نومه؟ {كَلَّا بَلْ رَانَ 2 عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال، هيهات منكم وكيف بكم، والسوط كفي، والسيف مشهر3! حتى يبيد قبيلة فقبيلة ... ويعض كل مثقف بالهام4 ويقمن ربات الخدور حواسرًا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام5 "العقد الفريد 2: 146".   1 الصريخ: المستغيث "والمغيث أيضًا". 2 غلب. 3 شهر سيفه كمنع، وشهره بالتشديد: انتضاه فرفعه على الناس. 4 تثقيف الرماح: تسويتها. 5 قوله ويقمن: أي الرماح، والضمير يعود على "كل مثقف". حواسر: جمع حاسر وهي كل مكشوفة الرأس والذراعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 10- خطبة أخرى له 1: وخطب فقال: "أحرز لسان رأسه، اتعظ امرؤ بغيره، اعتبر عاقل قبل أن يعتبر به، فأمسك الفضل من قوله، وقدم الفضل من عمله" ثم أخذ بقائم سيفه، فقال: "إن بكم داءً هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، وما بعد الوعيد إلا الإيقاع". "عيون الأخبار م 2: ص252، ومواسم الأدب 2: 114".   1 هذه الخطبة أوردها ابن قتيبة، وعزاها إلى داود بن علي، ونسبها صاحب العقد إلى المنصور، وأنه قالها لما قتل الأمويين "راجع العقد ج 7: ص 145". ونصها كما أوردها: "أحرز لسان رأسه، انتبه امرؤ لحظه، نظر امرؤ في يومه لغده، فمشى القصد، وقال الفصل، وجانب الهجر"، ثم أخذ بقائم سيفه، فقال: "أيها الناس: إن بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، فليعتبر عبد قبل أن يعتبر به، فإنما بعد الوعيد الانقطاع، و {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّه} والهجر: القبيح من الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 11- خطبته وقد بلغه أن قومًا أظهروا شكاة بني العباس. وبلغه أن قوما أظهروا شكاة بني العباس، فافترع المنبر، وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أغد أهل الختر1 والتبديل؟ ألم يردعكم الفتح المبين2، عن الخوض في ذم أمير المؤمنين؟ كلا والله حتى تحملوا أوزاركم وأوزار الذين كانوا من قبلكم، كيف قامت شفاهكم بالشكوى لأمير المؤمنين؟ بعد أن حانت آجالكم فأرجأها، وانبعثت دماؤكم فحقنها، الآن يا منابت الدمن، مشيتم الضراء3، ودببتم الخمر4، أما ومحمد والعباس إن عدتم لمثل ما بدأتم، لأحصدنكم بظبات السيوف، ثم يغني ربنا عنكم، ونستبدل غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم. مهلًا يا روايا5 الإرجاف، وأبناء النفاق، عن الخوض فيما كفيتم، والتخطي إلى ما حذرتم، قبل أن تتلف نفوس، ويقل عدد، ويذل عز، وما أنتم وتلك؟ ألم تجدوا ما وعد ربكم حقًّا من إيراث المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها؟ بلى والحجر والحجر6، ولكنه حسد مضمر وحسك7 في الصدور، فرغما للمعاطس8، وبعدًا للقوم الظالمين9". "مواسم الأدب 2: 114".   1 الختر: الغدر، أو أقبحه. 2 في الأصل "ألم ير علم الفتح المبين من الخوض في ذم أمير المؤمنين" وهو تحريف. 3 الضراء: الشجر الملتف في الوادي، ويقال: توارى الصيد منه في ضراء، وفلان يمشي الضراء: إذا مشى مستخفيًا فيما يواري من الشجر. 4 في الأصل "ودببتم الحمراء" وهو تحريف، وصوابه ما ذكرنا، والخمر بالتحريك: كل ما وراك من شجر أو بناء أو غيره، وخمر كفرح: توارى، ومن أمثالهم: "يدب له الضراء، ويمشي له الخمر" وهو مثل يضرب للرجل يختل صاحبه. 5 الروايا جمع راوية: وهي المزادة فيها الماء. 6 الحجر: حجر الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المدار بالكعبة من جانب الشمال. 7 الحسك: الحقد والعداوة. 8 المعاطس جمع معطس كمجلس ومقعد وهو الأنف، والرغم: الذل. 9 وروى صاحب العقد بعض هذه الخطبة وعزاها إلى أبي جعفر المنصور، فقال: "خطب المنصور حين خروجه إلى الشام فقال: شنشنة أعرفها من أخزم ... من يلق أبطال الرجال يكلم مهلًا مهلًا روايا الإرجاف، وكهوف النفاق .... إلى آخر الخطبة"، راجع العقد الفريد 2: 145 –والشنشنة: الطبيعة والعادة، وهو مثل لأبي أخزم الطائي، وكان له ابن يقال له أخزم، وكان عاقا، فمات وترك بنين، فوثبوا يومًا على جدهم أبي أحزم فأدموه فقال: إن بني ضرجوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم أي أن هؤلاء أشبهوا أباهم في العقوق: يضرب في قرب الشبه، ويكلم: يجرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 12 خطبته وقد أرتج عليه : وخطب داود بن علي، فحمد الله جل وعز، وأثنى عليه، صلى الله عليه وسلم، فلما قال: أما بعد، وامتنع عليه الكلام، ثم قال: "أما بعد، فقد يجد المعسر، ويعسر الموسر، ويفل الحديد، ويقطع الكليل، وإنما الكلام بعد الإفحام، كالإشراق بعد الإظلام، وقد يغزب البيان، ويعقم الصواب، وإنما اللسان، مضغة من الإنسان، يفتر بفتوره إذا نكل، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل، ونحن بعد أمراء القول لا ننطق بطرًا، ولا نسكت حصرًا، بل نسكت معتبرين، وننطق مرشدين، ونحن بعد أمراء القول، فينا وشجت1 أعراقه، وعلينا عطفت أغصانه ولنا تهدلت ثمرته، فنتخير منه ما احلولى وعذب، ونطرح منه ما املولح وخبث، ومن بعد مقامنا هذا مقام، وبعد أيامنا أيام، ويعرف فيها فضل البيان، وفصل الخطاب والله أفضل مستعان" ثم نزل2. "كتاب الصناعتين ص21، وأمالي السيد المرتضى 4: 19، وزهر الآداب 2: 285".   1 وشجت العروق والأغصان كوعه وشجا ووشيجا: اشتبكت، والواشجة: الرحم المشتبكة. 2 وروى الحصري في زهر الآداب بعض هذا القول وعزاه إلى عبد الملك بن صالح، وروى السيد المرتضى في أماليه قال: "صعد أبو العباس السفاح المنبر، فأرتج عليه فقال: "أيها الناس، إن اللسان، بضعة من الإنسان، يكل إذا كل، وينفسح بانفساحه إذا فسح، ونحن أمراء الكلام، منا تفرعت فروعه، وعلينا تهدلت غصونه، ألا وإنا لا نتكلم هذرًا، ولا نسكت إلا معتبرين" ثم نزل، فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال: "لله هو لو خطب بمثل ما اعتذر، لكان من أخطب الناس" وهذا الكلام يروى لداود بن علي أ. هـ. والبضعة بفتح الباء وقد تكسر: القطعة من اللحم، والهذر بالتحريك: سقط الكلام وبسكون الذال مصدر هذر في منطقة كضرب ونصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 13- خطبة صالح بن علي : وخطب صالح بن علي1 عم السفاح، فقال: يا أعضاد النفاق، وعبد الضلالة، أغركم لين أساسي، وطول إيناسي؟ حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حد، وفتور جد، وخور2 قناة، كذبت الظنون، إنها العترة بعضها من بعض، فإذ قد استوليتم العافية، فعندي فطام وفكاك، وسيف يقد الهام، وإني أقول: أغركم أني بأكرم شيمة ... رفيق، وأني بالفواحش أخرق؟ ومثلي إذا لم يجز أحسن سعيه ... تكلم نعماه بفيها فتنطق لعمري لقد فاحشتني فغلبتني ... هنيئًا مريئًا أنت بالفحش أرفق "العقد الفريد 2: 146".   1 هو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح، وقد ولاه السفاح مصر سنة 132 ثم فلسطين، ثم ولاه مصر ثانية سنة 136، حتى قدم الخبر بموت السفاح في ذي الحجة سنة 136، فأقره المنصور على عمل مصر ثم خرج إلى فلسطين، ومات وهو عامل حمص بقنسرين. 2 ضعف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 14- خطبة سديف بن ميمون : وروى صاحب العقد قال: لما قدم الغمر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلًا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 بني أمية، وضعت لهم الكراسي، ووضعت لهم نمارق1، وأجلسوا عليها، وأجلس الغمر مع نفسه في المصلى، ثم أذن لشيعته فدخلوا ودخل فيهم سديف بن ميمون2، وكان متوشحًا سيفًا، متنكبًا قوسًا، وكان طويلًا آدم3، فقام خطيبًا. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيزعم الضلال بم حبطت4 أعمالهم أن غير آل محمد أولى بالخلافة؟ فلم وبم أيها الناس؟ لكم الفضل بالصحابة، دون حق ذوي القرابة، الشركاء في النسب، الأكفاء في الحسب، الخاصة في الحياة، الوفاة5 عند الوفاة، مع ضربهم على الدين جاهلكم، وإطعامهم في الأولى جائعكم، فكم قصم الله بهم من جبار باغ، وفاسق ظالم، لم يسمع بمثل العباس، ولم تخضع له أمة بواجب حق، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وجلدة ما بين عينيه6، أمينه ليلة العقبة7 ورسوله إلى أهل مكة، وحاميه يوم حنين8، لا يرد له رأيًا، ولا يخالف له قسما، إنكم والله معاشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث ما اختاره الله لكم، تيمي9 مرة، وعدوي10 مرة، وكنتم بين ظهراني قوم قد آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، وجعلوا الصدقات في الشهوات، والفيء في اللذات والغناء، والمغانم،   1 نمارق جمع نمرقة كقنفذة: وهي الوسادة الصغيرة. 2 مولى العباس السفاح. 3 وصف من الأدمة، وهي كالسمرة وزنا ومعنى. 4 فسدت. 5 الوفاة جمع واف. 6 خطب الوليد بن عبد الملك فقال: "إن أمير المؤمنين عبد الملك كان يقول: "إن الحجاج جلدة ما بين عيني" ألا وإنه جلدة وجهي كله" –البيان والتبيين 1: 160، 3: 21-. 7 يوم مبايعة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلًا معهم امرأتان وليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمه العباس –وهو على دين قومه- ولكنه رأى أن يحضر أمر ابن أخيه ليتوثق له. 8 كان العباس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، حين انهزم المسلمون أو الموقعة، وكان آخذًا بلجام بغلته. 9 يريد أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي. 10 يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من عدي بن كعب بن لؤي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 في المحارم، إذا ذكروا بالله لم يذكروا، وإذا قدموا بالحق أدبروا، فذلك زمانهم، وبذلك كان يعمل شيطانهم1". "العقد الفريد: 2: 301".   1 فقر هذه الخطبة مروية في خطبة أبي مسلم الخراساني الآتية بعدها، ولكني آثرت إيراد الروايتين جميعًا كما وردتا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 15- خطبة أبي مسلم الخراساني : وروى ابن أبي الحديد قال: وخطب أبو مسلم بالمدينة في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح1، فقال: "الحمد لله الذي حمد نفسه، واختار الإسلام دينًا لعباده، ثم أوحى إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك ما أوحى، واختاره من خلقه، نفسه من أنفسهم، وبيته من بيوتهم، ثم أنزل عليه في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه، وأشهد ملائكته على حقه، قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، ثم جعل الحق بعد محمد صلى الله عليه وآله في أهل بيته، فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله على اللأواء2 والشدة، وأغضى على الاستبداد والأثرة، ثم إن قومًا من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، جاهدوا على ملة نبيه وسنته بعد عصر من الزمان، من عمل بطاعة الشيطان، وعداوة الرحمن، بين ظهراني قوم آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، إن رتق جور فتقوه، أو فتق حق رتقوه، أهل خمور وماخور، وطنابير3 ومزامير، إن ذكروا لم يذكروا، أو قدموا إلى الحق أدبروا وجعلوا الصدقات، في الشبهات، والمغانم في المحارم، والفيء في الغي، هكذا كان زمانهم، وبه كان يعمل سلطانهم، وزعموا أن غير آل محمد أولى بالأمر منهم، فلم وبم أيها الناس؟ ألكم الفضل بالصحابة، دون القرابة، الشركاء   1 وذلك في سنة 136هـ. 2 الشدة. 3 الطنابير: جمع طنبور كعصفور، وهو الذي يلعب به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 في النسب، والورثة في السلب1، مع ضربهم على الدين جاهلكم، إطعامهم في الجدب جائعكم، والله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط، وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميًّا مرة، وعدويًّا مرة، وأمويًّا مرة، وأسديًّا2 مرة، وسفيانيًّا مرة، ومروانيا مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه ولا بيته3 يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوةً، وأنتم صاغرون، ألا إن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة، بنو عم رسول الله عليه وسلم، ومنزل جبريل بالتنزيل، كم قصم الله   1 ما يسلب، والمراد ورثته في الخلافة. 2 هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد. 3 قال ابن أبي الحديد: "يعني نفسه؛ لأنه لم يكن معلوم النسب، وقد اختلف فيه أهو مولى أم عربي" وقال ابن خلكان في "وفيات الأعيان 1: 280" في ترجمته: "أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم وقيل عثمان الخراساني القائم بالدعوة العباسية، وقيل هو إبراهيم بن عثمان بن يسار بن سدوس بن جودرن من ولد بزر جمهر بن البختكان الفارسي، وقد اختلف الناس في نسبه، فقيل إنه من العرب، وقيل إنه من العجم، وقيل من الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة: أبا مجرم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد أفي دولة المنصور حاولت غدرة ... ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد وقال ابن طباطبا في الفخري ص123: "أما نسبه ففيه اختلاف كثير، فقيل: هو حر من ولد بزرجمهر، وأنه ولد بأصفهان، ونشأ بالكوفة، فاتصل بإبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فغير اسمه وكناه بأبي مسلم، وثقفه وفقهه، حتى كان منه ما كان. وقيل هو عبد تنقل في الرق، حتى وصل إلى إبراهيم الإمام، فلما رآه أعجبه سمته وعقله، فابتاعه من مولاه وثقفه وفهمه، وصار يرسله إلى شيعته وأصحاب دعوته بخراسان، وما زال على ذلك حتى كان من الأمر ما كان. وأما هو فإنه لما قويت شوكته ادعى أنه ابن سليط بن عبد الله بن عباس، وكان لعبد الله بن عباس جارية فوقع عليها مرة، ثم اعتزلها مدة فاستنكحها عبدًا فوطئها، فولدت منه غلامًا سمته سليطًا، ثم ألصقته بعبد الله بن عباس، وأنكره عبد الله ولم يعترف به، ونشأ سليط، وهو أكره الخلق إلى عبد الله بن عباس، فلما مات عبد الله نازع سليط ورثته في ميراثه، وأعجب ذلك بني أمية ليغضوا سن علي بن عبد الله بن عباس، فأعانوه وأوصوا قاضي دمشق في الباطن، فمال إليه الحكم وحكم له بالميراث، فادعى أبو مسلم حين قويت شوكته أنه من ولد سليط هذا". وذكر ابن خلكان أن المنصور قال له قبل قتله، وقد عدد له مساوئ وقعت عنه: "بزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن العباس! لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبًا! ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 بهم من جبَّار طاغ، وفاسق باغ، شيد الله بهم الهدى، وجلى بهم العمى، لم يسمع بمثل العباس، وكيف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة؟ أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبيه، وإحدى يديه، وجلدة بين عينيه، أمينة يوم العقبة، وناصره بمكة1، ورسوله إلى أهلها، وحاميه يوم حنين، عند ملتقى الفئتين، لا يخالف له رسمًا، ولا يعصي له حكمًا، الشافع يوم نيق العقاب2، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في الأحزاب، ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولي الأبصار". "شرح ابن أبي الحديد م 2: 215".   1 يشير إلى ما كان من العباس في غزوة أحد، وذلك أن جيش المشركين خرج من مكة لمحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا مقابل المدينة، وبلغ الخبر الرسول من كتاب بعث به إليه عمه العباس الذي لم يخرج معهم في هذه الحرب محتجا بما أصابه يوم بدر، وكان بمكة يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار المشركين "وقيل إنه كان قد أسلم قبل الهجرة، وكان يكتم إسلامه". 2 موضع بين مكة والمدينة. وذلك أن العباس شفع فيه يوم فتح مكة في أبي سفيان، وفي أهل مكة فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 16- خالد بن صفوان وأخوال السفاح : روى الجاحظ قال: كان خالد بن صفوان الأهتمي من سمار أبي العباس السفاح، وأهل المنزلة عنده، ففخر عليه ناس من بلحارث1، وأكثروا في القول، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ فقال: "أخوال2 أمير المؤمنين وعصبته" قال: "فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته" قال خالد: وما عسى أن أقول لقوم، كانوا بين ناسج برد، ودابغ جلد،   1 انظر الجزء الثاني 335. 2 كانت أم السفاح من بني الحارث، وهي ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي، ولذا كان يقال له ابن الحارثية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وسائس قرد، وراكب عرد1، ودل عليهم هدهد2، وغرقتهم فأرة3، وملكتهم امرأة4". "البيان والتبيين 1: 184". وروى الحصري في زهر الآداب قال: "دخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح، وعنده أخواله من بني الحارث بن كعب، فقال: ما تقول في أخوالي؟ فقال: "هم هامة5 الشرف، وعرنين6 الكرم، وغرس الجود، إن فيهم خصالًا ما اجتمعت في غيرهم من قومهم؛ لأنهم أطولهم لممًا7، وأكرم شيمًا، وأطيبهم طعمًا8، وأوفاهم ذمما، وأبعدهم هممًا، الجمرة في الحرب، والرفد9 في الجدب، والرأس في كل خطب، وغيرهم بمنزلة العجب10". فقال: وصفت أبا صفوان فأحسنت، فزاد أخواله في الفخر، فغضب أبو العباس   1 العرد: الحمار. 2 يشير إلى حديث الهدهد مع سليمان عليه السلام في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} ... الآيات. 3 يشير إلى ما يزعمه المؤرخون من أن سيل العرم الذي خرب اليمن كان سببه قرض الجرذ لسد مأرب انظر الجزء الأول ص105. 4 هي بلقيس "بالكسر" ملكة سبأ. 5 الهامة: رأس كل شيء. 6 العرنين: الأنف، أو ما صلب من عظمه، ومن كل شيء أوله. 7 في الأصل "أمما" وأراه محرفًا، وصوابه "لممًا" واللمم جمع لمة بالكسر، وهي الشعر المجاوز شحمة الأذن. 8 الطعم: الطعام. 9 الرفد: العطاء والصلة. 10 العجب: أصل الذنب، ومؤخر كل شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 لأعمامه: فقال: افخر يا خالد على أخوال أمير المؤمنين، قال: وأنت من أعمامه، قال: "كيف أفاخر قومًا بين ناسج برد، وسائس قرد، ودابغ جلد، وراكب عرد، دل عليهم هدهد، وغرقهم جرذ، وملكتهم امرأة؟ "، فأشرق وجه أبي العباس. "زهر الآداب 3: 130، 346". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 17- خالد بن صفوان ورجل من بني عبد الدار : وفاخر خالد بن صفوان رجلًا من بني عبد الدار الذين يسكنون اليمامة، فقال له العبدري: من أنت؟ قال: أنا خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال له العبدري: أنت خالد "كمن هو خالد في النار1" وأنت ابن صفوان، وقال الله تعالى: "كمثل صفوان عليه تراب2"، وأنت ابن الأهتم، والصحيح خير من الأهتم3، فقال له خالد ابن صفوان: يا أخا بني عبد الدار، أتتكلم؟ وقد هشمتك هاشم، وأمتك4 بنو أمية، وخزمتك بنو مخزوم، وجمحتك بنو جمح5؟ فأنت عبد دارهم6 تفتح إذا دخلوا، وتغلق إذا خرجوا" فقام العبدري محمومًا. "أمالي السيد المرتضى 1: 215، والبيان والتبيين 1: 182".   1 وتمام الآية الكريمة: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} . 2 صفوان جمع صفوانة: وهي الحجر الصلد الضخم كالصفواء والصفاة، والآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} . 3 هتم كفرح: انكسرت ثناياه من أصولها فهو أهتم. 4 قادتك. 5 انظر الجزء الثاني ص98. 6 وكانت الحجابة في بني عبد الدار، انظر الجزء الثاني ص98 أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 18- خالد بن صفوان يرثي صديقًا له: وقال الجاحظ: قيل لرجل –أراه خالد بن صفوان1- مات صديق لك، فقال: "رحمة الله عليه، لقد كان يملأ العين جمالًا، والأذن بيانًا، ولقد كان يرجى فلا يَخشى، ويُغشَى فلا يَغشَى، ويُعطي فلا يُعطى، قليلًا لدى الشر حضوره، سليمًا للصديق ضميره". "البيان والتبيين 3: 231، والأمالي 2: 174".   1 ورواية القالي: عن الأصمعي قال خالد بن صفوان لفتى بين يديه: رحم الله أباك ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 19- خالد بن صفوان يمدح رجلًا: وذكر خالد رجلًا، فقال: "كان والله بديع المنطق، ودلق1 الجرأة، وجزل الألفاظ، عربي اللسان، ثابت العقدة، رقيق الحواشي، خفيف الشفتين، بليل الريق، رحب الشرف، قليل الحركات، خفي الإشارات، حلو الشمائل، حسن الطلاوة2، حييًّا جريئًا، قئولًا صموتًا، يفل الحز3 ويصيب المفاصل، لم يكن بالمعذر4 في منطقة، ولا بالزمن5 في مروءته، ولا بالخرق6 في خليفته، متبوعًا غير تابع، كأنه علم في رأسه نار". "زهر الآداب 3: 167".   1 مأخوذة من "سيف دلق" أي سهل الخروج من غمده، ويقال: اندلق العميل أي اندفع، واندلق السيف: أي شق جفنه فخرج منه. 2 الطلاوة مثلثة: القبول. 3 الحز: القطع. 4 عذر في الأمر تعذيرًا، إذا قصر ولم يجتهد. 5 أي المعيب، والزمانة كسحابة: العاهة، زمن كفرح فهو زمن وزمين. 6 الخرق: الذي لا يحسن العمل والتصرف في الأمور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 20- كلمات بليغة لخالد بن صفوان : وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة: "قدمت فأعطيت كلًّا بقسطه من وجهك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وكرامتك1، حتى كأنك من كل أحد، وحتى كأنك لست من أحد". "الأمالي 1: 216، وزهر الآداب 3: 347، 167". وقال شبيب بن شيبة لخالد بن صفوان: "من أحب إخوانك إليك؟ " قال: "من سد خللي، وغفر زللي، وقبل عللي". "الأمالي 1: 198". وذكر شبيب عنده مرة، فقال: "ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية". قال الجاحظ: "وهذا كلام ليس يعرف قدره إلا الراسخون في هذه الصناعة". "البيان والتبيين 1: 184، وزهر الآداب 3: 209". وقال خالد: "ما الإنسان، لولا اللسان، إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة"، وقال "اتقوا مجانيق2 الضعفاء" يريد الدعاء. "البيان والتبيين 1: 190". وذكر المزاح بحضرة خالد بن صفوان، فقال: "ينشق أحدكم أخاه مثل الخردل، يفرغ عليه مثل المرجل، ويرميه بمثل الجندل، ثم يقول: إنما كنت أمزح! ". "زهر الآداب 52: 8".   1 وفي رواية زهر الآداب: "من نظرك ومجلسك في صوتك وعدلك". 2 جمع منجنيق بفتح الميم وكسرها: آلة ترمى بها الحجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 عمارة بن حمزة والسفاح ... 21- عمارة بن حمزة السفاح: وقال عمارة بن حمزة لأبي العباس السفاح- وقد أمر له بجوائز نفيسة وكسوة وصلة، وأدنى مجلسه: "وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرك، فوالله لئن أردنا شكرك على كنه1 صلتك، إن الشكر ليقصر عن نعمتك، كما قصرنا عن منزلتك، ثم إن الله تعالى جمل لك فضلًا علينا، بالتقصير منا، ولم تحرمنا الزيادة منك لنقص2 شكرنا". "زهر الآداب 3: 346".   1 كنه الشيء: حقيقته. 2 في الأصل: "لبعض" وأراء محرفًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 خطب أبي جعفر المنصور خطبته بمكة ... خطب أبي جعفر المنصور "توفي سنة 158هـ". 22- خطبته بمكة: خطب أبو جعفر المنصور بمكة، فقال: "أيها الناس: إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه، وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلًا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وقسم أرزاقكم، فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني، فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". "العقد الفريد 2: 145، وعيون الأخبار م 2 ص251، تاريخ الطبري 9: 31". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 23- خطبته بمكة بعد بناء بغداد : وحج بعد بناء بغداد فقام خطيبًا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه1: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ 2 مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل، والحمد لله الذي أفلج3 حجته، وبعدًا للقوم الظالمين،   1 عزا صاحب العقد هذه الخطبة إلى سليمان بن علي "انظر 2 ص145"، وكذا صاحب مواسم الأدب "انظر 2: ص115". 2 قيل المراد بالزبور جنس الكتب المنزلة، وبالذكر اللوح المحفوظ. 3 نصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 الذين اتخذوا الكعبة غرضًا، والفيء إرثًًا، وجعلوا القرآن عضين1، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة2 وقصر مشيد، أمهلهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة3 وعندوا4 واعتدوا واستكبروا، وخاب كل جبار عنيد، ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟ 5". "تاريخ الطبري 9: 311، والكامل لابن الأثير 6: 12".   1 العضة: الفرقة والقطعة والجمع عضون، وجعل المشركون القرآن عضين أي فرقًا: فرقوا فيه القول، فجعلوه كذبًا وسحرًا وكهانةً وشعرًا، فهم قد "عضوه" بالتشديد أعضاء أي جزءوه أجزاء، وهو يريد هنا الأمويين يشير إلى أنهم عطلوا بعض أوامر القرآن بما أتوه من الأعمال من رمي الكعبة، واضطهاد أهل البيت ... إلخ. 2 متروكة لا يستقي منها الهلاك أهلها، ومشيد: مرفوع أو مطلي بالشيد "بالكسر" وهو ما طلي به الحائط من جص ونحوه، أي معطل خال من ساكنيه أيضًا. 3 العترة نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون. 4 عند "مثلث النون" عن الطريق: مال. 5 الصوت الخفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 24- خطبته بمدينة السلام : وخطب بمدينة السلام "بغداد" فقال: "يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم، ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه". "تاريخ الطبري 9: 310". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 25- خطبته وقد أخذ عبد الله بن حسن وأهل بيته : ولما أخذ عبد الله بن حسن1 وإخوته، والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:   1 هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وقد حمله المنصور هو وأهل بيته، من المدينة إلى العراق سنة 144هـ، وألقاهم في غيابات السجون حتى ماتوا بسجن الكوفة، وكان يتخوف أن يغالبه على الخلافة محمد بن عبد الله هذا "وهو محمد الملقب النفس الزكية" وقد خرج عليه بالمدينة فوجد المنصور جيشًا لقتاله فقتل سنة 145، وخرج أخوه إبراهيم على المنصور بالبصرة فقتل أيضًا في هذه السنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 "يأهل خراسان: أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب، وتركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها علي بن أبي طالب، فتلطخ، وحكم عليه الحكمين، فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه، وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي، فوالله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال فقبلها، فدس إليه معاوية: إني أجعلك وليَّ عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدًا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء –وأشار إلى الكوفة- فوالله ما هي بحرب فأحاربها ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه1 وأظهروه أسلموه وقد كان أتى محمد بن علي2، فناشده في الخروج، وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب، وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة، فلم يقبل وتم3 على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة4 ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا، والله ما كانت لهم عندنا ترة5 يطلبونها، وما كان ذلك كله إلا فيهم، وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد فصرنا مرة بالطائف. ومرة بالشام، ومرة بالشراة6، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة   1 وقد خرج في خلافة هشام بن عبد الملك، فقاتله يوسف بن عمر الثقفي وإلى العراق، وقتل وصلب سنة 121هـ. 2 يريد أباه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. 3 تم على الأمر: استمر عليه. 4 موضع بقرب الكوفة. 5 ثأر. 6 موضع بين دمشق والمدينة "الكرك الآن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وأنصارنا، فأحيا شرفنا وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا ظلمًا وحسدًا منهم لنا، وبغيًا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته، وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم: جهلًا على وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن فإني والله يأهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم1، وقد دسست لهم رجالا، فقلت: قم يا فلان، قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالًا يعلمون عليه، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال، فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير، إلا بايعهم بيعةً استحللت بها دماءهم وأموالهم، وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين" ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} . "تاريخ الطبري 9: 312، ومروج الذهب 2: 241".   1 الأصل فيه: تعرمه: تعرقه ونزع ما عليه من اللحم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 26- خطبته حين خروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن : ولما خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، شن1 المنصور عليه درعه، وتقلد سيفه، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: مالي أكفكف عن سعد وتشتمني؟ ... ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا   1 شن عليه درعه: صبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 جهلًا علينا وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن وأما والله لقد عجزوا عما قمنا به، فما عضدوا الكافي، وما شكروا المنعم، فإذا حاولوا أشرب رنقا على غصص، وأبيت منهم على مضض، كلا والله لا أصل ذا رحم حاول قطيعتها، ولئن لم يرض بالعفو ليطلبن مالم يوجد عندي، فليبق ذو نفس على نفسه، قبل أن تمضي، فلا يبكى عليه". "مواسم الأدب 2: 119". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 27- خطبته وقد قتل أبا مسلم الخراساني : وخطب بالمدائن عند قتل أبي مسلم الخراساني1، فقال: "أيها الناس: لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده، وفلتات لسانه، وصفحات وجهه، وأبداها الله لإمامه، بإعزاز دينه، وإعلاء حقه، إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم، إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له، من إقامة الحق عليه". "تاريخ الطبري 9: 313، ومجمع الأمثال 1: 318، ومواسم الأدب 2: 120 وغرر الخصائص الواضحة 76".   1 قتل أبو مسلم سنة 137، وذلك أن المنصور كان قد أرسله لحرب عمه عبد الله بن علي –وكان قد خرج عليه بالشام كما سيأتي- فلما ظفر أبو مسلم، وغنم جميع ما كان في عسكر عبد الله، انهزم عبد الله إلى البصرة، أرسل المنصور بعض خدمه الحفاظ على ما في العسكر من الأموال، فغضب أبو مسلم، وقال: أمين على الدماء، خائن في الأموال! وشتم المنصور، وعزم على الخلاف، وأن يتوجه إلى خراسان، فجعل المنصور يتلطف به حتى استقدمه إليه وقتله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 28- خطبة أخرى : وخطب فقال: "أيها الناس، لا تنفروا أطراف النعمة بقلة الشكر، فتحل بكم النقمة، ولا تستروا غش الأئمة، فإن أحدًا لا يستر منكرًا إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره، وإنا لا نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا، ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا، ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه خبء1 هذا الغمد. والسلام". "مواسم الأدب 2: 120".   1 الخبء: ما خبئ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 29- قوله وقد قوطع في خطبته : وخطب يوم الجمعة. فقال: "الحمد لله أحمده. وأستعينه. وأومن به. وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: أيها الناس. اتقوا الله. فقام إليه رجل. فقال: أذكرك من ذكرتنا به يا أمير المؤمنين. فقطع الخطبة. ثم قال: "سمعًا سمعًا لمن فهم عن الله. وذكر به. وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عنيدًا. وأن تأخذني العزة بالإثم. لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القائل. فوالله ما أردت بها وجه الله. ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال. فعوقب فصبر. وأهون بها! ويلك لو هممت1! فاهتبلها2 إذ غفرت. وإياك وإياكم معشر الناس أختها فإن الحكمة علينا نزلت. ومن عندنا فصلت. فردوا الأمر إلى أهله. تورده موارده. وتصدروه مصادره. ثم عاد في خطبته. فكأنه يقرؤها من كفه. فقال: وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ..... ". "تاريخ الطبري 9: 311، والعقد الفريد 2: 145، وعيون الأخبار م 2: ص336، والكامل لابن الأثير 6: 12، صبح الأعشى 1: 262".   1 أي لو هممت بعقابك. 2 اغتنمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 30- المنصور يصف خلفاء بني أمية : واجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه. منهم عيسى بن موسى والعباس بن محمد وغيرهما. فتذاكروا خلفاء بني أمية. والسبب الذي به سلبوا عزهم. فقال المنصور: "كان عبد الملك جبارًا لا يبالي ما صنع. وكان الوليد لحانًا مجنونًا. وكان سليمان همته بطنه وفرجه. وكان عمر أعور بين عميان. وكان هشام رجل القوم. ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان، يحوطونه ويصونونه ويحفظونه. ويحرسون ما وهب الله لهم منه، مع تسنمهم معالي الأمور، ورفضهم أدانيها، حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من أبنائهم، فغمطوا1 النعمة، ولم يشكروا العافية، وأساءوا الرعاية. فابتدأت النقمة منهم، باستدراج الله إياهم، آمنين مكره، مطرحين صيانة الخلافة، مستخفين بحق الرياسة، ضعيفين عن رسوم السياسة، فسلبهم الله العزة، وألبسهم الذلة، وأزال عنهم النعمة". "شرح ابن أبي الحديد م1: ص215".   1 غمط النعمة: بطرها وحقرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 31- المنصور يصف عبد الرحمن الداخل : وقال المنصور يومًا لأصحابه: أخبروني عن صقر قريش، من هو؟ قالوا: أمير المؤمنين، الذي راض1 الملك، وسكن الزلازل، وحسم الأدواء. وأباد الأعداء قال: ما صنعتم شيئًا. قالوا: فمعاوية. قال: ولا هذا. قالوا: فعبد الملك بن مروان. قال: ولا هذا، قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الرحمن بن معاوية2، الذي عبر   1 ذلل. 2 هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان المعرف بالداخل مؤسس دولة بني أمية بالأندلس وسيأتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا مفردًا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكًا بعد انقطاعه، وبحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه، وعبد الملك ببيعة تقدم له عقدها، وأمير المؤمنين بطلب غيره واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه". "العقد الفريد 2: 302". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وصايا المنصور لابنه المهدي : 32- وصية له : قال المنصور لابنه المهدي: "يا بني لا تبرم أمرًا حتى تفكر فيه، فإن فكرة العاقل مرآته، تريه حسناته وسيئاته. واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلًا من ظلم من هو دونه". "نهاية الأرب 6: 41، والعقد الفريد 1: 14". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 33- وصية أخرى له: ووصاه فقال له: "إني لم أدع شيئًا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها -وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدًا، يصر مفتاحه في كم قميصه- فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة فإياك أن تستبدل بها، فإنها بيتك وعزك، وقد جمعت لك فيها من الأموال، ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين، كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات، وعطاء الذرية، مصلحة الثغور، فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزًا ما دام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 بيت مالك عامرًا، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك، أن تظهر كرامتهم وتقدمهم، وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم، وذكرهم لك، وما أظنك تفعل، وانظر مواليك فأحسن إليهم وقربهم، واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم، وتتجاوز عن مسيئهم، وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل، وإياك أن تبني مدينة الشرقية، فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل، وإياك أن تستعين برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل، وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل". "تاريخ الطبري: 9: 319". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 34- وصية أخرى له: ووصى المهدي أيضًا، فقال: "اتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك فيما كربك وحزنك مخرجًا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب، احفظ يا بني محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته، يحفظ الله عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوب1 عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحلال، فإن فيه ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل، وأقم الحدود، ولا تعتد فيها فتبور2، فإن الله لو علم أن شيئًا أصلح لدينه، وأزجر عن معاصيه من الحدود، لأمر به في كتابه، واعلم أنه من شدة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادًا، مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال:   1 الإثم. 2 تهلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 {ِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه، وحصنه وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم، والمثلات1 بهم، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن، واحكم بالعدل ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء، وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة، والتبذير لأموال الرعية، واشحن2 الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل وخص الواسطة3 ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم وأعدل الأموال واخزنها. وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة، وهي من شيم الزمان، وأعد الرجال والكراع4 والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولًا فأولًا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالًا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر، ولا تكسل، ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينا غير نائمة، ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ، هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك". "تاريخ الطبري 9: 320".   1 جمع مثلة: وهي العقوبة. 2 أي املأها بالمدافعة. 3 المتوسطة. 4 الكراع: اسم مجمع الخيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 35- خطبة النفس الزكية حين خرج على المنصور : لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بالنفس الزكية1 على المنصور، قام على منبر المدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس: إنه قد كان من أمر هذا الطاغية أبي جعفر من بنائه القبة الخضراء، التي بناها معاندة لله في ملكه، وتصغيره الكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . وإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين، والأنصار المواسين، اللهم إنهم قد أحلوا حرامك، وحرموا حلالك وعملوا بغير كتابك، وغيروا عهد نبيك صلى الله عليه وسلم، وأمنوا من أخفت، وأخافوا من أمنت، فأحصهم عددًا، واقتلهم بددًا2، ولا تبق على الأرض منهم أحدًا". "ذيل الأمالي ص121".   1 كان بنو هاشم -الطالبيون والعباسيون- قد اجتمعوا أخريات العصر الأموي، وتذاكروا حالهم وما هم عليه من الاضطهاد، وما قد آل إليه أمر بني أمية من الاضطراب، واتفقوا على أن يدعوا الناس إليهم سرا، ثم قالوا لا بد من رئيس نبايعه، فاتفقوا على مبايعة النفس الزكية، وكان من سادات بني هاشم ورجالهم فضلًا وشرفًا وعلمًا، وشاء القدر أن يظفر العباسيون بالخلافة، نوليها السفاح ثم المنصور، ولم يكن المنصور هم منذ تبوأ عرشها سوى طلب النفس الزكية ليقتله، وأغراه بذلك أن الناس كانوا شديدي الميل إليه، وكانوا يعتقدون فيه الفضل والشرف والرياسة، فطلبه المنصور هو وأخاه إبراهيم من أبيهما عبد الله بن الحسن، فقال لا علم لي بهما -وكانا قد تغيبا خوفًا منه- فلما أطال عليه، قال: كم تطول؟ والله لو كانا تحت قدمي، لما رفعتهما عنهما، سبحان اللهَ! آتيك بولدي لتقتلهما! فقبض عليه، وعلى أهله من بني الحسن وحبسهم في سجن الكوفة حتى ماتوا فيه كما تقدم، ولم يزل النفس الزكية متغربًا منذ أمضت الدولة إلى بني العباس خوفًا منه على نفسه، فلما علم بما جرى لوالده ولقومه ظهر بالمدينة وأظهر أمره، وتبعه أعيان المدينة، ثم غلب عليها، وعزل عنها أميرها، ورتب عليها عاملًا وقاضيًا، فوجه المنصور لقتاله جيشًا بقيادة ابن أخيه عيسى بن موسى، فكانت الغلبة لعسكر المنصور، وقتل النفس الزكية، وحمل رأسه إلى المنصور سنة 145هـ. 2 متبددين: متفرقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 36- وصية عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لابنه محمد "أو إبراهيم": ووصى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ابنه محمدًا النفس الزكية "أو إبراهيم"، فقال: "أي بني، إني مؤدٍّ حق الله في تأديبك، فأد إلي حق الله في الاستماع مني، أي بني كف الأذى، وارفض البذا1، واستعن على الكلام بطول الفكر، في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى الكلام، فإن للقول ساعات يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصواب. واحذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحًا، كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشًّا؛ لأنه يرديك بمشورته. واعلم يا بني أن رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائمًا، ووجدت هواك يقظان، فإياك أن تستبد برأيك، فإنه حينئذ هواك، ولا تفعل فعلًا إلا وأنت على يقين أن عاقبته لا ترديك، وأن نتيجته لاتجني عليك". "زهر الآداب 1: 92، والبيان التبيين 1: 180، 2: 88".   1 البذاء: السفه والإفحاش في المنطق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 37- قول عبد الله بن الحسن وقد قتل ابنه محمد : ولما قتل المنصور ابنه محمدًا -وكان عبد الله في السجن- بعث برأسه إليه مع الربيع حاجبه، فوضع بين يديه، فقال: رحمك الله أبا القاسم، فقد كنت من: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} ، ثم تمثل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 فتى كان يحميه عن الذل سيفه ... ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها ثم التفت إلى الربيع، فقال له: "قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا مدة، ومن نعيمك مثلها، والموعد الله تعالى" قال الربيع: فما رأيت المنصور قط أكثر انكسارًا منه حين أبلغته الرسالة. "زهر الآداب 1: 95". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 38- امرأة محمد بن عبد الله والمنصور : ولما قتل المنصور محمد بن عبد الله، اعترضته امرأة معها صبيان، فقالت: "يا أمير المؤمنين، أنا امرأة محمد بن عبد الله، وهذان ابناه، أيتمهما سيفك، وأضرعهما1 خوفك، فناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تصعر لهما خدك، فينأى عنهما رفدك، أو لتعطفك عليهما شوابك النسب، وأواصر2 الرحم". فالتفت إلى الربيع، فقال: اردد عليهما ضياع أبيهما، ثم قال: كذا والله أحب أن تكون نساء بني هاشم. "زهر الآداب 1: 96".   1أذلهما. 2 أواصر جمع آصرة، والآصرة: حبل صغير يشد به أسفل الخباء "وهي أيضًا الرحم والقرابة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 39- جعفر الصادق والمنصور : وكان أهل المدينة لما ظهر محمد بن عبد الله، أجمعوا على حرب المنصور ونصر محمد، فلما ظفر المنصور أحضر جعفرًا الصادق1 بن محمد الباقر، فقال له: قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربي، وقد رأيت أن أبعث إليهم من يعور2 ويجمر3 نخلهم، فقال له جعفر: "يا أمير المؤمنين، إن سليمان أعطى فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر،   1 هو أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين عليه السلام وتوفى سنة 148هـ. 2 في الأصل "ينور" وأراه محرفًا، وقد أصلحته. "يعور" يقال: عور البئر أي طمها وسد عيونها التي ينبع منها الماء. 3 جمر النخل: قطع جماره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وإن يوسف قدر فغفر، فاقتد بأيهم شئت، وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون"، فقال أبو جعفر: إن أحدًا لا يعلمنا الحلم، ولا يعرفنا العلم، وإنما قلت هممت، ولم ترني فعلت، وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم". "زهر الآداب 1: 96". وروى صاحب العقد قال: لما حج المنصور مر بالمدينة، فقال للربيع الحاجب: عليَّ بجعفر بن محمد، قتلني الله إن لم أقتله، فمطل به، ثم ألح عليه، فحضر فلما كشف الستر بينه وبينه، ومثل بين يديه، همس جعفر بشفتيه، ثم تقرب وسلم، فقال: "لا سلم الله عليك يا عدو الله، تعمل على الغوائل في ملكي؟ قتلني الله إن لم أقتلك". قال: "يا أمير المؤمنين، إن سليمان صلى الله على محمد وعليه أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت على إرث منهم، وأحق من تأسى بهم"، فنكس أبو جعفر رأسه مليًّا وجعفر واقف، ثم رفع رأسه، وقال: "إلي أبا عبد الله فأنت القريب القرابة، وذو الرحم الواشجة1، السليم الناحية، القليل الغائلة"، ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأجلسه معه على فراشه، وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله، ثم قال: يا ربيع، عجل لأبي عبد الله كسوته وجائزته وإذنه. "العقد الفريد 1: 145".   1 القريبة: المشتبكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب ... 40- صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد المهلب: ولما داهن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب في شأن إبراهيم بن عبد الله1، وصار إلى المنصور، أمر الربيع بخلع سواده، والوقوف به على رءوس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة، ثم قال: قل لهم: "يقول لكم أمير المؤمنين قد عرفتم ما كان من إحساني إليه، وحسن بلائي، وقديم نعمتي عليه، والذي حاول من الفتنة، ورام من البغي، وأراد من شق العصا ومعاونة الأعداء، وإراقة الدماء، وإنه قد استحق بهذا من فعله، أليم العقاب، وعظيم العذاب، وقد رأى أمير المؤمنين إتمام بلائه الجميل لديه، ورب2 نعمائه السابقة عنده لما يتعرفه أمير المؤمنين من حسن عائدة الله عليه، وما يؤمله من الخير العاجل والآجل، عند العفو عمن ظلم، والصفح عمن أساء، وقد وهب أمير المؤمنين مسيئهم لمحسنهم، وغادرهم لوفيهم". "البيان والتبيين 3: 185".   1 هو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أخو النفس الزكية، وقد خرج على المنصور بالبصرة، فوجه إليه المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى بعد رجوعه من قتال النفس الزكية فقاتله وقتل إبراهيم في المعركة سنة 145هـ. 2 رب الشيء: جمعه وزاده، ورب الصبي: رباه حتى أدرك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 41- استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور : ولما انهزم عبد الله بن علي1 من الشأم قدم على المنصور وفد منهم، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث بن عبد الرحمن الغفاري، فقال: "يا أمير المؤمنين   1 هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس عم المنصور، وكان قد خرج عليه بالشأم، وقال: إن السفاح قال لي إن ظهرت على مروان الجعدي -وكان السفاح أرسله لقتال مروان بالشام- فأنت ولي العهد بعدي، وشهد له جماعة بذلك. فأرسل المنصور أبا مسلم الخراساني لمحاربته فهزمه، وهرب عبد الله إلى البصرة، ونزل على أخيه سليمان بن علي، فشفع فيه سليمان إلى المنصور فأمنه، فلما جاء إليه حبسه ومات في حبسه، وقيل إنه بنى له بيتًا، وجعل في أساسه ملحًا، ثم أجرى الماء فيه، فسقط البيت عليه فمات". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 إنا لسنا وفد مباهاة، وإنما نحن وفد توبة، وإنا ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا، واستفزت حليمنا، ونحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تعاقبنا فبما أجرمنا، وإن تعف عنا فبفضلك علينا. فاصفح عنا إذ ملكت. وامنن إذ قدرت وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت إلى من أساء منا"، فقال المنصور: قد فعلت. ثم قال للحرسي: هذا خطيبهم، وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة1. "العقد الفريد 1: 144، تاريخ الطبري 9: 307، وزهر الآداب 3: 88".   1 كورة دمشق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 42- استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور أيضًا: وقال عثمان بن خزيم للمنصور، حين عفا عن أهل الشأم في إجلابهم1 مع عبد الله بن علي عمه: "يا أمير المؤمنين، لقد أعطيت فشكرت وابتليت فصبرت، وقدرت فعفوت". وقال آخر: "يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، فنحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس2 النصيبين، دون أن يبلغ أرفع الدرجتين". وقال آخر: "من انتقم فقد شفى غيظ نفسه، وأخذ أقصى حقه، وإذا انتقمت فقد انتقصت3، وإذا عفوت تطولت4. ومن أخذ حقه، وشفى غيظه، لم يجب شكره، ولم يذكر في العالمين فضله. وكظم الغيظ حلم، والحلم صبر، والتشفي طرف من العجز5، ومن رضي ألا يكون بين حاله وبين حال الظالم إلا ستر رقيق،   1 في الأصل "إجلائهم" وهو تحريف، والصواب "إجلابهم" أي في فتنتهم وهياجهم من الجلبة بالتحريك وهي الصياح. 2 من الوكس كوعد: وهو النقصان. 3 أي انتقص حقك بخروجنا عليك، فحق لك الانتقام منا لأخذ حقك. 4 تطول عليه: امتن وتفضل. 5 وفي زهر الآداب: "من الجزع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وحجاب ضعيف، لم يجزم في تفضيل الحلم، وفي الاستيثاق من ترك دواعي الظلم، ولم تر أهل النهى. والمنسوبين إلى الحجا والتقى، مدحوا الحكام بشدة العقاب. وقد ذكروهم بحسن الصفح، وبكثرة الاغتفار، وشدة التغافل. وبعد، فالمعاقب مستعد1 لعداوة أولياء المذنب، والعافي مستدع لشكرهم. آمن من مكافأتهم2 أيام قدرتهم؛ ولأن يثنى عليك باتساع الصدر، خير من يثنى عليك بضيق الصدر3، على أن إقالتك عثرة عباد الله، موجب لإقالتك عثرتك من رب عباد الله. وعفوك عنهم موصول بعفو الله عنك، وعقابك لهم موصول بعقاب الله لك. قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . "البيان والتبيين 2: 55، زهر الآداب 3: 88".   1 في زهر الآداب: "مستودع". 2 مجازاتهم. 3 وفي زهر الآداب: "خير من أن توصف بضيقه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 43- أبو جعفر المنصور والربيع : وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة: دعا المنصور بالربيع1، فقال: سلني ما تريد، فقد سكتَّ حتى نطقت، وخففت حتى ثقلت. وقللت حتى أكثرت، فقال: "والله يا أمير المؤمنين، ما أرهب بخلك ولا أستقصر عمرك. ولا أستصغر فضلك، ولا أغتنم مالك، وإن يومي بفضلك على أحسن من أمسى، وغدك في تأميلي أحسن من يومي. ولو جاز أن يشكرك مثلي بغير الخدمة والمناصحة لما سبقني لذلك أحد" قال: صدقت، علمي بهذا منك أحلك هذا المحل، فسلني ما شئت، قال: أسألك أن تقرب عبدك "الفضل2" وتؤثره وتحبه، قال: يا ربيع، إن الحب ليس بمال يوهب   1 هو أبو الفضل الربيع بن يونس، وزر المنصور، وكان مهيبًا فصيحًا كافيًا حازمًا فطنًا، ولم يزل وزيرًا للمنصور إلى أن مات المنصور. وقام الربيع بأخذ البيعة للمهدي، ثم سعى به أعدؤه إلى الهادي، فقتله سنة 170هـ. 2 هو ابنه الفضل بن الربيع، وقد وزر للرشيد بعد البرامكة، وابنه الأمين كما سيأتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 ولا رتبة تبذل، وإنما تؤكده الأسباب، قال: فاجعل لي طريقًا إليه، بالتفضل عليه، قال: صدقت. وقد وصلته بألف درهم، ولم أصل بها أحدا غير عمومتي، لتعلم ماله عندي, فيكون منه ما يستدعي به محبتي، قال: فكيف سألت له المحبة يا ربيع؟ قال؛ لأنها مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر، تستر بها عندك عيوبه، وتصبر حسنات ذنوبه. قال: صدقت. "زهر الآداب 2: 163". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 44- مقام عمرو بن عبيد بين يدي المنصور : دخل عمرو1 بن عبيد على المنصور بعد ما بايع للمهدي، فقال له: يا أبا عثمان، هذا ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فقال له عمرو: يا أمير المؤمنين، أراك قد وطدت له الأمور، وهي تصير إليه. وأنت عنه مسئول، فاستعبر المنصور، وقال له: عظني يا عمرو، قال: "يا أمير المؤمنين: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك منها ببعضها، وإن هذا الذي في يديك، لو بقي في يد غيرك لم يصل إليك. فاحذر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده، فوجم أبو جعفر من قوله، فقال له الربيع: يا عمرو غممت أمير المؤمنين، فقال عمرو: إن هذا صحبك عشرين سنةً، لم ير لك عليه أن ينصحك يومًا واحدًا. وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه، قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت لك، خاتمي في يدك، فتعال وأصحابك فاكفني، قال عمرو: ادعنا بعدلك، تسخ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، اردد منها شيئًا نعلم أنك صادق". "مروج الذهب 2: 234، عيون الأخبار م2: ص337، ووفيات الأعيان 1: 384، والعقد الفريد 1: 306، وشرح ابن أبي الحديد م1: 148".   1 من كبار أئمة المعتزلة، توفي سنة 144هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 45- مقام رجل من الزهاد بين يدي المنصور : بينما المنصور يطوف ليلًا إذ سمع قائلًا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور، فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى الرجل ركعتين، واستلم الركن وأقبل مع الرسول، فسلم عليه بالخلافة، فقال المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض؟ وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أرمضني1، قال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي، أنبأتك بالأمور من أصولها. وإلا احتجزت منك. واقتصرت على نفسي، ففيها لي شاغل، فقال: أنت آمن على نفسك فقل، فقال: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع، حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت، قال: ويحك، وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء2 في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ قال: وهل دخل أحدًا من الطمع ما دخلك؟ إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر. وأبوابًا من الحديد. وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها عنهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، وقويتهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرت بألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، ولا الجائع العاري، ولا الضعيف الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت إلا يحجبوا عنك، تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا   1 أوجعني وآلمني. 2 الصفراء والبيضاء: الدنانير والدراهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 قد خان الله، فما بالنا لا نخونه وقد سجن لنا نفسه؟ فأتمروا بألا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل، فيخالف أمرهم إلا قصبوه1 عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته، ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس هابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك، لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك، وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت للناس رجلًا ينظر في مظالمهم، فإن جاءك ذلك الرجل، فبلغ بطانتك خبرة، سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك، فإن المتظلم منه له بهم حرمة، فأجابهم خوفًا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه، ويلوذ به، ويشكو ويستغيث، وهو يدفعه ويعتل عليه، فإذا أجهد وأحرج وظهرت، صرخ بين يديك، فضرب ضربًا مبرحًا ليكون نكالًا لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة، وقد أصيب ملكها بسمعه، فبكى يومًا بكاءً شديدًا، فحثه جلساؤه على الصبر، فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ، ولا أسمع صوته، ثم قال: أما إذا ذهب سمعي، فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس ألا يلبس ثوبًا أحمر إلا متظلم، ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره، وينظر هل يرى مظلومًا؟ فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله، غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت مؤمن بالله، ثم من أهل بيت نبيه، لا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك؟ فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرًا في الطفل، يسقط من بطن أمه،   1 عابوه وشتموه، وفي العقد الفريد: "خونوه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطي، بل الله يعطي من يشاء ما شاء، وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان، فقد أراك الله عبرًا في بني أمية، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حتى أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت إنما أجمع لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة، لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال المنصور: لا، فكيف تصنع بالملك الذي خولك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل؟ ولكن بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقد عليه قلبك، وعملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته1 يداك، ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخلق، ويحك! فكيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاروهم في أمرك يسددوك، قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن افتح بابك، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات مما حل وطاب، واقسمه بالحق والعدل على أهله، وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة"، وجاء المؤذنون، فسلموا عليه، فصلى وعاد إلى مجلسه، وطلب الرجل فلم يوجد. "عيون الأخبار م 2: ص333، والعقد الفريد 1: 304".   1 اكتسبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 46- مقام الأوزاعي بين يدي المنصور : قال الأوزاعي1: دخلت على المنصور، فقال لي: ما الذي بطأ بك عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين، وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباس منك، قلت: انظر ما تقول، فإن "مكحولًا2" حدثني عن عطية بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغه عن الله نصيحة في دينه، فهي رحمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها من الله بشكر، وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد إثمًا، وليزداد عليه غضبًا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط له السخط، ومن كرهه فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين" فلا تجهلن، قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع، قال الأوزاعي: فسل على الربيع السيف، وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا؟ فانتهره المنصور وقال: أمسك، ثم كلمة الأوزاعي، وكان في كلامه أن قال: "إنك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذي أصبحت به، والله سائلك عن صغيرها وكبيرها، وفتيلها ونقيرها3، ولقد حدثني عروة بن رويم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من راع يبيت غاشًّا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرًا، ولما استطاع من عوراتهم ساترًا، وبالقسط   1هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشأم، ولم يكن بها أعلم منه. ولد ببعلبك سنة 588، وتوفي سنة 157 ببيروت. والأوزاعي: نسبة إلى أوزاع، وهي بطن من ذي الكلاع من اليمن، وقيل. بطن من همدان، وقيل الأوزاع: قرية بدمشق، ولم يكن عبد الرحمن منهم، وإنما نزل فيهم: فنسب إليهم، وهو من سبي اليمن. 2 هو مكحول بن عبد الله الشامي، معلم الأوزاعي، وكان من سبي كابل، وقع إلى سعيد بن العاص، فوهبه لامرأة من هذيل فأعتقته، قال الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وسمع أنس بن مالك وغيره، وكان مقامه بدمشق، وتوفي سنة 118هـ. 3 الفتيل: السحاة التي في شق النوة، والنقير: النقرة التي في ظهر النوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 فيما بينهم قائمًا، لا يتخوف محسنهم منه رهقًا1، ولا مسيئهم عدوانًا، فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها، ويردع عنه المنافقين، فأتاه جبريل فقال: "يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك! اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبًا" فكيف من سفك دماءهم، وشقق أبشارهم، وأنهب2 أموالهم؟ يا أمير المؤمنين: إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده، فهبط جبريل، فقال: "يا محمد، إن الله لم يبعثك جبارًا تكسر قرون أمتك" واعلم أن كل ما في يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة، ولا ثمرة من ثمارها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقاب 3 قوس أحدكم من الجنة، أوقذة 4 خير له من الدنيا بأسرها" إن الدنيا تنقطع ويزول نعيمها، ولو بقي الملك لمن قبلك لم يصل إليك يا أمير المؤمنين، ولو أن ثوبًا من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لآذاهم. فكيف من يتقمصه؟ ولو أن ذنوبًا5 من صديد أهل النار صب على ماء الأرض لآجنه6، فكيف بمن يتجرعه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف من سلك7 فيها، ويرد فضلها على عاتقه؟ وقد قال عمر بن الخطاب: "لا يقوم أمر الناس إلا حصيف8 العقدة، بعيد الغرة9 لا يطلع الناس من على عورة، ولا يخنق في الحلق على جرة10، ولا تأخذه في الله لومة لائم". واعلم أن السلطان أربعة: أمير يظلف11 نفسه وعماله، فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله، وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله، فذلك يحمل أثقاله وأثقالًا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه،   1 ظلمًا. 2 جعلها نهيًا يغار عليه. 3 القاب: ما بين المقبض والسية "وسية القوس كعدة: ما عطف من طرفيها". 4 ريش السهم. 5 الذنوب: الدلو. 6 جعله آجنًا أي متغير الطعم واللون. 7 قيد. 8 حصف الرجل ككرم: استحكم عقله فهو حصيف، وأحصف الحبل: أحكم قتله. 9 الغفلة. 10 أحنق: حقد حقدًا لا ينحل، وأحنق الصلب: لزق بالبطن، والجرة ما يفيض به البعير فيأكله ثانية، والمراد أنه لا يضمر الحقد والحنق. 11 يكف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 ويرتع عماله، فذلك الذي باع آخرته بدنيا غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله، فذالك شر الأكياس. واعلم يا أمير المؤمنين أنك قد ابتليت بأمر عظيم، عرض على السموات والأرض والجبار، فأبين أن يحملنه وأشفقن منه، وقد جاء عن جدك في تفسير قول الله عز وجل: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَ ا} أن الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك، وقال: فما ظنكم بالكلام وما عملته الأيدي؟ فأعيذك بالله أن يخيل إليك أن قرابتك برسول الله صلى الله عليه وسلم تنفع مع المخالفة لأمره، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا أنفسكما من الله، إني لا أغني عنكما من الله شيئًا "، وكان جدك الأكبر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة، فقال: "أي عم، نفس تحييها، خير لك من إمارة لا تحصيها" نظرًا لعمه، وشفقة عليه أن يلي فيجوز عن سنته جناح بعوضة، فلا يستطيع له نفعًا، ولا عنه دفعًا، هذه نصيحتي إن قبلتها فلنفسك عملت، وإن رددتها فنفسك بخست، والله الموفق للخير والمعين عليه، قال: بلى، نقبلها ونشك عليها، وبالله نستعين. "العقد الفريد 1: 305، وعيون الأخبار م 2: ص 338". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 47- نصيحة يزيد بن عمر بن هبيرة للمنصور : ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة1 على أمير المؤمنين المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين: توسع توسعًا قرشيًّا، ولا تضق ضيقًا حجازيًّا. ويروى أنه دخل يومًا، فقال له المنصور حدثنا، فقال: "يا أمير المؤمنين:   1 ولي قنسرين الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وجمع له مروان بن محمد ولاية البصرة والكوفة، وكان آخر من جمع له العراقان من الولاة، لما استظهرت عليه جيوش خراسان، وهزمت عسكره لحق بمدينة واسط، فتحصن بها. ولما بويع السفاح بالخلافة وجه أخاه أبا جعفر المنصور لقتاله، فحصره بواسط شهورًا، ثم أمنه وافتتح البلد صلحًا، ثم قتله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 إن سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها، وجنبوهم مرارة جورها، فوالله يا أمير المؤمنين، لقد محضت1 لك النصيحة" ثم نهض فنهض معه سبعمائة من قيس، فأتأره2 المنصور بصره، ثم قال: لا يعز ملك يكون فيه مثل هذا!. "تهذيب الكامل 1: 28".   1 أخلصت. 2 أتأره البصر: أتبعه إياه، وحدد إليه النظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 48- معن بن زائدة والمنصور : ودخل معن1 بن زائدة الشيباني على أبي جعفر المنصور وقد أسن، فقارب في خطوه، فقال له المنصور: لقد كبرت سنك يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: وإنك لجلد، قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال: وإن فيك لبقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين، قال: فأي الدولتين أحب إليك، هذه أم دولة بني أمية؟ قال: ذلك إليك يا أمير المؤمنين، إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي. "البيان والتبيين 3: 229، ووفيات الأعيان 2: 109، وزهر الآداب 3: 161".   1 كان جوادًا شجاعًا جزيل العطاء كثير المعروف، وكان في أيام بني أمية متنقلًا في الولايات، منقطعًا إلى يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير المؤمنين، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس، وحاصر المنصور يزيد بمدينة واسط كما قدمنا، أبلى يومئذ معن مع يزيد بلاء حسنًا، فلما قتل يزيد خاف معن من أبي جعفر المنصور، فاستتر عنه مدة، ولم يزل مستترًا حتى كان يوم الهاشمية، وذلك أن جماعة من أهل خراسان ثاروا على المنصور، وجرت مقتلة عظيمة بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية -وهي مدينة بناها السفاح بالقرب من الكوفة- وكان معن متواريًا بالقرب منهم، فخرج متنكرًا معتما متلثمًا، وتقدم إلى القوم، وقاتل قدام المنصور قتالًا أبان فيه عن نجدة وشهامة وفرقهم، فلما أفرج عن المنصور، قال له: من أنت ويحك؟ فقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائد، فأمنه المنصور وأكرمه، وصار من خواصه، وولي سجستان في أواخر أمره، فلما كانت سنة 151 اندس قوم من الخوارج بين صناع كانوا يعملون في داره بمدينة بست، فقتلوه وهو يحتجم، وتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة، فقتلهم بأسرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 49- معن بن زائدة وأحد زوّاره: ودخل رجل على معن بن زائدة، فقال: ما هذه الغيبة؟ فقال: "أيها الأمير، ما غاب عن العين من يذكره القلب وما زال شوقي إلى الأمير شديدًا، وهو دون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 ما يجب له، وذكرى له كثيرًا وهو دون قده، ولكن جفوة الحجاب، وقله بشر الغلمان، منعاني من الإكثار"، فأمر بتسهيل حجابه، وأجزل صلته. "زهر الآداب 3: 161". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 50- المنصور وأحد الأعراب : ودخل أعرابي على المنصور فتكلم، فأعجب بكلامه، فقال له: سل حاجتك، فقال: يبقيك الله، ويزيد في سلطانك، فقال: سل حاجتك، فليس في كل وقت تؤمر بذلك، قال: "ولم يا أمير المؤمنين، فوالله ما أستقصر عمرك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن سؤالك لشرف، وإن عطاءك لزين، وما بامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين". فأحسن جائزته وأكرمه. "الصناعتين ص41، العقد الفريد: 139". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 51- أعرابية تعزي المنصور وتهنئه : وروى القلقشندي قال: تعرضت أعرابية للمنصور في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس السفاح، فقالت: "يا أمير المؤمنين، احتسب الصبر، وقدم الشكر، فقد أجزل الله لك الثواب في الحالين، وأعظم عليك المنة في الحادثين، وسلبك خليفة الله، وأفادك خلافة الله، فسلم فيما سلبك، واشكر فيما منحك، وتجاوز الله عن أمير المؤمنين، وخار لك فيما ملكت من أمر الدنيا والدين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وروى الجاحظ قال: عزت امرأة المنصور عن أبي العباس مقدمه من مكة، قالت: "أعظم الله أجرك، فلا مصيبة أجل من مصيبتك، ولا عوض أعظم من خلافتك". "صبح الأعشى 9: 278، والبيان والتبيين 2:55". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 52- خطبة محمد بن سليمان 1 يوم الجمعة: "وكان لا يغيرها". الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، من يعتصم بالله ورسوله، فقد اعتصم بالعروة الوثقى، وسعد في الأولى والآخرة، "ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا بعيدًا وخسر خسرانًا مبينًا، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويتجنب سخطه، فإنما نحن له وبه. وأوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأرضى لكم ما عند الله، فإن تقوى الله أفضل ما تحاث الناس عليه، وتداعوا إليه، وتواصوا به، فاتقوا الله ما استطعتم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون". "البيان والتبيين 2: 65".   1 هو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان عامل البصرة في خلافة أبي جعفر المنصور وتوفي سنة 173 في خلافة الرشيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 53- وصية مسلم بن قتيبة : وقال مسلم بن قتيبة1: "لا تطلبن حاجتك إلى واحد من ثلاثة: لا تطلبها إلى الكذاب، فإنه يقربها وهي بعيدة، ويبعدها وهي قريبة؛ ولا تطلبها إلي الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك وهو يضرك، ولا تطلبها إلى رجل له عند قوم مأكلة، فإنه يجعل حاجتك وقاء لحاجته". "الأمالي: 2: 190".   1 استشاره المنصور في قتل أبي مسلم، فقال: ما ترى في أمره؟ قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فقال: حسبك يا بن قتيبة، لقد أودعتها أذنًا واعية. "وفيات الأعيان 1: 282". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 54- خطبة المهدي "توفي سنة 169هـ": الحمد لله ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه، أحمده على آلائه1، وأمجده لبلائه2، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه توكل راض بقضائه، وصابر لبلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى3، ورسوله إلى خلقه وأمينه على وحيه، أرسله بعد انقطاع الرجاء، وطموس4 العلم، واقتراب من الساعة، إلى أمة جاهلية، مختلفة أمية، أهل عداوة وتضاغن، وفرقة وتباين، قد استهوتهم شياطينهم، وغلب عليهم قرناؤهم5، فاستشعروا الردى، وسلكوا العمى، يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها، ويندر من عصاه بالنار وأليم عقابها، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} . أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته، وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته وينجِّي من سخطه، وينال به ما لديه، من كريم الثواب، وجزيل المآب، فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب، يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ   1 نعمه، والمفرد إلى كحمل وشمس، وألو كشمس، وإلى كعصا وإلى كرضا. 2 البلاء: يكون منحة، ويكون محنة. 3 المختار. 4 الدروس والامحاء. 5 القرين: المصاحب، والشيطان: المقرون بالإنسان: لا يفارقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، يَوْم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، يَوْم لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، فإن الدنيا دار غرور، وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلب وانتقال، قد أفنت من كان قبلكم، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم، من ركن إليها صرعته، ومن وثق بها خانته، ومن أملها1 كذبته، ومن رجاها خذلته، عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها، والشقي فيها من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها، فالله الله عباد الله، والتوبة مقبولة، والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزكية2، في هذه الأيام الخالية، قبل أن يؤخذ بالكظم3، وتندموا فلا تنالون الندم، في يوم حسرة وتأسف، وكآبة وتلهف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} -إلى آخر السورة- أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأرضى لكم طاعة الله، وأستغفر الله لي ولكم". "العقد الفريد 2: 146".   1 أمله أملًا وأمله بالتخفيف والتشديد. 2 زكا يزكو: نما وصلح. 3 الكظم: الحلق أو الغم، أو مخرج النفس، أي قبل الموت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان مدخل ... مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان: روى ابن عبد ربه قال: "هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان، وأيام تحاملت عليهم العمال وأعنقت، فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة، على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتووا بما عليهم من الخراج، وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم، ويكره من عنتهم، على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالتهم، تطولًا بالفضل، واتساعًا بالعفو، وأخذًا بالحجة، ورفقًا بالسياسة، ولذلك لم يزل مد حمله الله أعباء الخلافة، وقلده أمور الرعية، رفيقًا بمدار سلطانه، بصيرًا بأهل زمانه، باسطًا للمعدلة في رعيته، تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه. فإذا وقعت الأقضية اللازمة، والحقوق الواجبة. فليس عنده هوادة، ولا إغضاء، ولا مداهنة، أثرة للحق، وقيامًا بالعدل، وأخذًا بالحزم، فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه، والثقة بعفوه، أن كسروا الخراج، وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق، ثم خلطوا احتجاجًا بالاعتذار، وخصومة بإقرار، وتنصلًا باعتلال، فلما انتهى ذلك إلى المهدي، خرج إلى مجلس خلائه، وبعث إلى نفر من لحمته1 ووزرائه، فأعلمهم الحال، واستنصحهم للرعية، ثم أمر الموالي2 بالابتداء، وقال للعباس3 بن محمد: أي عم تعقب قولنا، وكن حكمًا بيننا، وأرسل إلى ولديه موسى وهارون، فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب.   1 اللحمة: القرابة. 2 جمع مولى، وهو هنا القريب كابن العم ونحوه. 3 هو العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخو المنصور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 55- مقال سلام صاحب المظالم : فقال سلام صاحب المظالم: "أيها المهدي: إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة، استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها، وذهبت بهم، وعرفوا بها، وعرفت بهم، ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية، وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهزاهز1، وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع، الذين رشحتهم سجالها2، وفيأتهم ظلالها، وعضتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها3، فلو عجمت ما قبلهم، وكشفت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوي قلبك. فأما نحن معاشر عمالك. وأصحاب دواوينك. فحسن بنا، وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك، وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك". فأجابه المهدي: "إن في كل قوم حكمه. ولكل زمان سياسة. وفي كل حال تدبير. يبطل الآخر الأول. ونحن أعلم بزماننا، وتدبير سلطاننا". قال نعم: أيها المهدي: أنت متسع الرأي، وثيق العقدة، قوي المنة4، بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الروية، مؤيد البديهة، موفق العزيمة، معان بالظفر، مهدي إلى الخير. إن هممت ففي عزمك مواقع الظن، وإن اجتمعت صدع فعلك   1 الهزهزة والهزاهز: تحريك البلايا والحروب الناس. 2 جمع سجل كشمس: وهو الدلو العظيمة مملوءة. 3 قرم الطعام: أكله، والنواجذ: أقصى الأضراس. 4 القوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 ملتبس الشك. فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك. وقل ينطق الله بالحق لسانك. فإن جنودك جمة. وخزائنك عامرة. ونفسك سخية. وأمرك نافذ". فأجابه المهدي: "المشاورة والمناظرة بَابَا رحمةٍ ومفتاحَا بركةٍ. لا يهلك عليهما رأي، ولا يتفيل1 معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم، فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك".   1 قال رأيه وتفيل: أخطأ وضعف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 56- مقال الربيع بن يونس 1: وقال الربيع: أيها المهدي: إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة. وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة. ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة. متراخية الشقة2. متفارقة السبل فإذا ارتأيت من محكم التدبير. ومبرم التقدير. ولباب الصواب، رأيًا قد أحكمه نظرك، وقلبه تدبيرك. فليس وراءه مذهب طاعن. ولا دونه معلق لخصومة عائب. ثم خبت البرد3 به، وانطوت الرسل عليه، كان بالحرى أن لا يصل إليهم محكمه. إلا وقد حدث منهم ما ينقضه. فما أيسر أن ترجع إليك الرسل. وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصادر أمورهم، فتحدث رأيًا غيره، وتبتدع تدبيرًا سواه، وقد انفرجت الحلق، وتحللت العقد، واسترخى الحقاب4، وامتد الزمان. ثم لعلم موقع الآخرة كمصدر الأولى. ولكن الرأي أيها المهدي وفقك الله. أن تصرف إجالة النظر، وتقليب الفكر فيما جمعتنا له، واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم، والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل، وعقل كامل، وورع   1 وزر لأبي جعفر المنصور وقتله الهادي سنة 170هـ. 2 البعد والسفر البعيد. 3 جمع بريد: وهو الرسول، وخبت: أسرعت. 4 الحقاب: ما تشده المرأة في وسطها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 واسع. ليس موصوفًا بهوًى في سواك، ولا متهمًا في أثرة عليك، ولا ظنينًا1 على دخله2 مكروهة. ولا منسوبًا إلى بدعة محذورة. فيقدح في ملكك، ويريض3 الأمور لغيرك، ثم تستند إليه أمورهم. وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه. بلزوم أمرك ما لزمه الحزم. وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي، عند استحالة الأمور، واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها، فإنه إذا فعل ذلك، فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويت المكيدة. ونفذ العمل. وأحد النظر إن شاء الله".   1 متهمًا. 2 دخله الرجل مثلثة، ودخيلته: نيته ومذهبه. 3 في كتب اللغة: راضه وروضه: ذله، وأراض الأرض جعلها رياضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 57- مقال الفضل بن العباس : قال الفضل بن العباس: "أيها المهدي: إن ولي الأمور، وسائس الحروب، ربما نحى جنوده، وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه1، ولا ضغطه حال اضطرته، فيقعد عند الحاجة إليها، وبعد التفرقة لها، عديمًا منها. فاقدًا لها. لا يثق بقوة، ولا يصول بعدة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله، أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال، ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون، والعطاء لما يسألون، فيفسد عليك أدبهم، وتجرئ من رعيتك غيرهم، ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين، وخاتلهم2 بالرفق، وأبرق3 لهم بالقول، وأرعد نحوهم بالفعل، وابعث البعوث،   1 اشتد عليه. 2 خادعهم. 3 رعد وبرق، وأرعد وأبرق: تهدد وتوعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وجنِّد الجنود، وكتِّب الكتائب، واعقد الألويةَ، وانصِب الرَّايات، وأظهِر أنك مُوَجِّهٌ إليهم الجيوشَ مع أحْنَقِ قُوَّادك عليهم، وأسوَئِهم أثرًا فيهم، ثم ادْسُس الرسل، وابثُث الكتب، وضع بعضهم على طمعٍ من وعدك، وبعضًا على خوف من وعيدك، وأوقِد بذلك وأشباهه نيرَانَ التحاسد فيهم، واغرِس أشجار التنافس بينهم، حتى تُملأ القلوبُ من الوَحْشة، وتنطوي الصدور على البِِغْضة، ويدخل كلًا من كلٍّ الحذرُ والهيبة، فإن مَرَامَ الظفَر بالغِيلة، والقتالَ بالحَيلة، والمناصبة1 بالكتب، والمكايَدة بالرسل، والمقارَعَة بالكلام اللطيف المَدْخَل في القلوب، القويِّ المَوْقِع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحِيَل، المبني على اللين الذي يستميل القلوب، ويسترقُّ العقول والآراء، ويستميلُ الأهواء، ويستدعي المُواتاة2، أنفذُ من القتال بظبُات السيوف، وأسنَّة الرماح، كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحِيَل. ويفرِّق كلمة عدوِّه بالمكايَدَة، أحكَمُ عملًا، وألطف منظرًا، وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال. والتغرير والخِطار3. ولِيَعْلم المهدي أنه إن وَجَّه لقتالهم رجلًا لم يَسِر لقتالهم إلا بجنود كثيفة، تخرج من حال شديدة، وتُقْدِمُ على أسفارٍ ضيقة، وأموال متفرقة، وقود غَشَشَة، إن ائتمنهم استنفذوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له". قال المهدي: "هذا رأي قد أسفر نُوره، وأبرق ضوءه، وتمثَّل صوابُهُ للعيون، ويجسد حقه في القلوب، ولكن فوق كل ذي علم عليم"، ثم نظر إلى ابنه عليٍّ، فقال: ما تقول؟   1 ناصبه الحرب والعداوة: أقامها. 2 الموافقة. 3 المخاطرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 58- مقال علي بن المهدي : قال عليُّ بن المهدي: "أيها المهدي: إن أهل خُرَاسان لم يَخْلَعُوا عن طاعتك، ولم ينصبوا من دونك أحدًا، يقدح في تغيير ملكك، ويُريض الأمور لفساد دولتك، ولو فعلوا لكان الخَطْبُ أيسر، والشأن أصغر، والحال أدَلّ؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذُله، وعند موعده الذي لا يُخْلِفُه، ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليًا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكمًا، طلبوا حقًا، وسألوا إنصافًا، فإن أجبت إلى دعوتهم، ونفَّست عنهم قبل أن يتلاحَم منهم حال، ويحدُث من عندهم فَتْق أطعتَ أمر الرب، وأطفأْتَ نائرة الحرب، ووفَّرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحمل الناس مَحْمَل ذلك على طبيعة جودك، وسجيَّة حلمك، وإسجاح1 خليقتك، ومَعْدَِلة نظرك، فأَمِنت أن تُنْسَبَ إلى ضعف، وأن يكون ذلك فيما بقي دُرْبه، وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تُجِبْهُم إلى ما سألوا، اعتدلت بك وبهم الحالُ، وساويتهم في ميدان الخطاب، فما أَرَبُ المهدي أن يعمِد إلى طائفة من رعيته مقرِّين بمملكته، مُذْعنين بطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديته، فيملِّكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الحيل معهم، ثم يجازيهم السوء في حَدِّ المقارعة ومضمار المخاطرة. أيريد المهدي -وفقه الله- الأموالَ؟ فلعمري لا ينالها ولا يَظْفَر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلب منهم وأضعاف ما يَدَّعِي قِبَلَهُم، ولو نَالَهَا فَحُمِلَتْ إليه، ووُضِعَتْ بِخَرَائِطِهَا2 بين يديه   1 الإسجاح: حسن العفو. 2 جمع خريطة: وهي وعاء من أدم وغيره يصرح على ما فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان إليهم مما يُنْسَب، وبه يعرف، من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قُرَّة عينه، ونَهْمة1 نفسه فيه، فإن قال المهدي: هذا رأيٌ مستقيم سديد، في أهل الخراج الذين شَكَوْا ظلم عمالنا، وتحامل وُلَاتنا؛ فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف، وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نَكالا لغيرهم، عِظة لسواهم، فيعلم المهدي أنه لو أُتِيَ بهم مغلولين في الحديد، مُقَرَّنين2 في الأصفاد3، ثم اتسع لِحَقْنِ دمائهم عفوُه، ولإقالة عثرتهم صَفْحُه، واستبقاهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوه، لما كان بِدْعًا من رأيه، ولا مستنكرًا من نظره، لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوًا، وأشدها وقعا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه4 عفو، لا يتكاءَده5 صفح، وإن عظُم الذنب، وجَلَّ الخطبُ، فالرأي للمهدي -وفقه الله تعالى- أن يَحُل عقدة الغيظ، بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم، وضَيْعَةَ عيالاتهم، بِرًّا بهم، وتوسعًا لهم، فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه الذين بعزتهم يصول، وبحجَّتهم يقول، وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مَسَاخِطه، وتعرَّضوا له من معاصيه، وانطَوَوْا فيه عن إجابته، ومَثَلُه في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو نُقِل من حاله لهم، أو تغير من نعمته بهم، كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدها خَبَلٌ عارض، ولهو حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزدد أخوه إلا رِقَّةً له، ولطفًا به، واحتيالا لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفا عليه، وبِرًّا به، ومَرْحَمَةً له".   1 النهمة: الحاجة وبلوغ الشهوة في الشيء. 2 مقيدين. 3 الأصفاد: القيود: جمع صفد كسبب. 4 تعاظمه الأمر: عظم عليه. 5 تكاءده الأمر: شق عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 فقال المهدي: أما عليّ فقد نوى سمت اللِّيان1، وفَضَّ القلوب في أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر، فقال: ما ترى يا أبا محمد يعنى موسى ابنهُ "الهادي".   1 الليان: الملاينة. مصدر لاين، والسمت: الطريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 59- مقال موسى بن المهدي : فقال موسى: "أيها المهدي: لا تَسْكُن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خلَلَ فعلهم، الحال من القوم ينادي بِمَضْمَرَة شر، وخَفِيَّةِ حِقْد، قد جعلوا المعاذير عليها سترًا، واتخذوا العلل من دونها حجابا، رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير، والأمور بالتطويل، فيكْسِرُوا حيل المهدي فيهم، ويُفنوا جنوده عنهم، حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادتهم، وتستفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم والمهدي من قولهم في حال غِرَّة، ولباس أمنة، قد فَتَرَ لها، وأنس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم، وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع، عن داعية ضلال، أو شيطان فساد، لَرَهِبُوا عواقب أخبار الولاة، وغِبّ بسكون الأمور، فليشدد المهدي -وفقه الله- أزره1 لهم، ويكتّب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خُطَّةً يريد بها صلاحهم، إلا كانت دُرْبَة إلى فسادهم، وقوة على معصيتهم، وداعية إلى عودتهم، وسببًا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود الذين إن أقرَّهم وتلك العادة، وأجراهم على ذلك الأرَب، لم يبرح في فَتْقٍ حادث، وخلاف حاضر، لا يصلح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا، وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدُّرْبِة، لم يصل   1 القوة والظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 إلى ذلك إلا بالعقوبة المُفْرطة. والمئُونة الشديدة. والرأي للمهدي -وفقه الله- أن لا يُقيل عثرتهم. ولا يقبل معذرتهم. حتى تطأهم الجيوش. وتأخذهم السيوف. ويستَحِرّ1 بهم القتلُ. ويُحْدِق بهم الموت. ويحيط بهم البلاء. ويطبق عليهم الذل. فإن فعل المهدي بهم ذلك. كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم. وهزيمة لكل بادرة شر منهم. واحتمال المهديّ في مئونة غزوتهم هذه. تضع عنه غزوات كثيرة. ونفقات عظيمة". فقال المهدي: "قد قال القوم. فاحكم يا أبا الفضل".   1 يشتد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 60- مقال العباس بن محمد فقال العباس بن محمد: "أيها المهدي: أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدّوا أمورًا قصّر بنظرهم عنها، وأَنِه لم تأتِ تجاربهم عليها. وأما الفضل فأشار بالأموال ألا تُنْفَق، والجنودِ ألا تُفَرَّق، وبأن لا يُعْطَى القوم ما طلبوا، ولا يُبْذَل لهم ما سألوا. وجاء بأمر بين ذلك استصغارًا لأمرهم، واستهانةً بحربهم. وإنما يهيج جَسيمات الأمور صغارُها. وأما عليّ فأشار باللين وإفراط الرِّفْق. وإذا جَرَّد الوالي لمن غِمَط أمره وسَفِه حقَّه، اللين بَحْتًا، والخير محضًا. لم يخلطهما بشدة تعطِف القلوب عن لينه. ولا بشر يَخْبِسهم إلى خيره. فقد ملَّكهم الخلعَ لعذرهم. ووسع لهم الفُرْجة لِثَنْي أعناقهم. فإن أجابوا دعوته. وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة. فَنَزْوَة1 في رءوسهم يستدعون بها البلاءَ إلى أنفسهم. ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم يقبلوا دَعْوَتَه. ويسرعوا لإجابته باللين المحض، والخير الصُّراح. فذلك ما عليه الظن بهم، والرأيُ فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم. لأن الله تعالى خلق الجنة. وجعل فيها   1 وثبة إلى الشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 من النعيم المقيم. والملك الكبير. ما لا يخطر على قلب بشر. ولا تدركه الفِكَر. ولا تعلمه نفس، ثم دعا الناس إليها، ورغَّبهم فيها. فلولا أنه خلق نارًا جعلها لهم رحمةً يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا. وأما موسى فأشار بأن يُعْصَبُوا بشدة لا لين فيها. وأن يُرْمَوا بشر لا خير معه وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته. وخالف جماعته. الخوف مُفْرَدًا. والشر مجرّدًا. وليس معهما طمع. ولا لين يثنيهم. اشتدت الأمور بهم. وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين. إما أن تدخلهم الحمِيَّة من الشدة. والأنفةُ من الذلة. والامتعاض من القهر. فيدعوهم ذلك إلى التَّمادي في الخلاف. والاستبسال في القتال. والاستسلام للموت. وإما أن ينقادوا بالكُرْه. ويُذْعنوا بالقهر على بِغْضة لازمة. وعداوة باقية. تُورث النفاق. وتُعقب الشقاق. فإذا أمكنتهم فرصة أو ثابَت1 لهم قدرة. أو قويت لهم حال. عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشدَّ مما كان. وقال في قول أبي الفضل: أيها المهدي أكفى دليل. وأوضح برهان. وأبين خبر بأن قد أجمع رأيه. وحَزُم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم. وتوجيه البعوث نحوهم. مع إعطائهم ما سألوا من الحق. وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل". قال المهدي: ذلك رأي.   1 رجعت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 61- مقال هارون بن المهدي : قال هرون: "خلطْتَ الشدة أيها المهدي باللين. فصارت الشدة أمرَّ فِطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب. ولكن أرى غير ذلك". قال المهدي: "لقد قلت قولا بديعًا. وخالفت فيه أهل بيتك جميعا. والمرء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 مؤتمن بما قال. وظنين بما ادَّعى. حتى يأتي ببينة عادلة. وحجة ظاهرة. فاخرج عما قلت" قال هارون: "أيها المهدي. إن الحرب خُدعة1. والأعاجم قوم مَكَرة. وربما اعتدلت الحال بهم. واتفقت الأهواء منهم. فكان باطن ما يُسِرُّون على ظاهر ما يعلنون. وربما افترقت الحالان. وخالف القلب اللسان. فانطوى القلب على محجوبة تُبْطَن. واستسرَّ بمدخولة لا تعلَن. والطبيب الرفيق بطبّه. البصير بأمره. العالم بمُقدَّم يده. وموضع مِيسمه2 لا يتعجل بالدواء. حتى يقع على معرفة الداء. فالرأى للمهدي -وفقه الله- أن يفرّ3 باطن أمرهم فَرَّ المُسِنَّة. ويمخَض ظاهر حالهم مخض السقاء. بمتابعة الكتب. ومظاهرة الرسل. وموالاة العيون. حتى تُهتك حُجُب عيونهم. وتكشف أغطية أمورهم. فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور به إلى تغيير حال. أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه. وانقاد الرجال إليه. وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه. وإثم يستحلونه. عصبهم بشدة لا لين فيها. ورماهم بعقوبة لا عفو معها. وإن انفرجت العيون. واهتُصِرت الستور. ورفعت الحُجُب. والحال فيهم مَرِيعة4. والأمور بهم معتدلة. في أرزاق يطلبونها. وأعمال ينكرونها. وظلامات يدّعونها. وحقوق يسألونها. بماتَّةِ سابقتهم. ودالة مناصحتهم. فالرأي للمهدي -وفقه الله- أن يتسع لهم بما طلبوا. ويتجافى لهم عما كرهوا. ويَشْعَب5 من أمرهم ما صَدَعوا. ويرتُق من فَتْقِهم ما قطعوا. ويولِّي عليهم من أحبوا. ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم. فإنما المهدي وأمته. وسواد أهل مملكته. بمنزلة الطبيب الرفيق. والوالد الشفيق. والراعي المجرِّب الذي يحتال لِمَرَابِض غنمه. وضَوَالّ رعيته. حتى يُبْرِئ المريضة من داء علتها. ويردَّ الصحيحة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصَّة   1 خدعة بسكون الدال وتثليث الخاء وبضم الخاء وفتح الدال، أي تنقضي بخدعة. 2 الميسم: المكواة. 3 فر الدابة: كشف عن أسنانها ليعرف سنها. 4 مرع الوادي ككرم مراعة: أخصب بكثرة الكلأ فهو مريع. 5 تصلح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 الذين لهم دالَّة محمولة. وماتَّة مقبولة. ووسيلة معروفة. وحقوق واجبة. لأنهم أيدي دولته. وسيوف دعوته. وأنصار حقه. وأعوان عدله. فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم. ولا المؤاخذة لهم. ولا التوعُّر1 بهم. ولا المكافأة بإساءتهم. لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلةً قبل أن تغلُظ، أحزمُ في الرأي وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها". قال المهدي: "ما زال هارون يقع وَقْعَ الحَيَا2 حتى خرج خروج القَدَح من الماء وانسلَّ انسلال السيف فيما ادّعى فدعوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنَّى بعده هارون، ولكن مَنْ لِأَعنّة الخيل وسياسة الحرب وقيادة الناس إن أمعن بهم اللِّجاج وأَفْرَطَتْ بهم الدَّالَّة".   1 توعر الرجل: تشدد. 2 المطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 63- مقال صالح بن علي ّ 1: قال صالح: "لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفِكْر أدنى فِرَاسة رأيك وبعض لَحَظَات نظرك، وليس ينفضّ عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم، ذو دين فاضل ورأي كامل، وتدبير قوي، تقلِّده حربك، وتستودعه جندَك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويَضْطَلع بالأعباء الثقيلة وأنت بحمد الله ميمون النَّقيبة2، مبارك العزيمة، مَخْبور التجارب، محمود العواقب معصوم العزم، فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد تُوليه أمرك، وتُسند إليه ثَغْرك، إلا أراك الله ما تحب، وجمع لك منه ما تريد". قال المهدي: "إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المُهِمَّ".   1 هو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. 2 النفس والطبيعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 63- مقال محمد بن الليث: قال محمد بن الليث: "أهل خراسان أيها المهدي قوم ذوو عزة ومنعة، وشياطين خَدَعة، زروع الحمية فيهم نابتة، وملابس الأَنَفة عليهم ظاهرة، فالرويَّة عنهم عازبة والعجلة فيهم حاضرة، تسبق سيولهم مطرهم، وسيوفهم عَذْلهم، لأنهم بين سِفْلة. لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يُلْجَمُون إلا بشدة ولا يُفْطَمُون إلا بالمُرِّ، وإن ولَّى المهدي عليهم وضيعًا لم تَنْقَد له العظماء، وإن ولَّى أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء وإن أخر المهدي أمرهم، ودافع حربهم، حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحا، يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم1 بلا أَنَفة تَلْزَمهم. ولا حمية تدخُلهم، ولا مصيبة تنفِّرهم، تنفَّست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم. فدخل بذلك من الفساد الكبير، والضياع العظيم، ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جَدَّ، ولا يستصلحه وإن جهد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير، وليس المهدي -وفقه الله- فاطما عاداتهم، ولا قارعًا صَفَاتهم2، بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عِدْل3 في ذلك بهما، أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك، ويد مُمَثِّلة لعينك، وصخرة لا تُزَعْزَع، وبُهْمَة4 لا تُثْنَى، وبازل5 لا يفزعه صوت الجُلجُل، نقيّ العرض، نزيه النفس، جليل الخطر6 اتَّضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة   1 جمع ملأ كسبب: وهو الجماعة. 2 الصفاة: الحجر الصلد الضخم. 3 العدل: النظير. 4 البهمة: الصخرة، والشجاع الذي لا يهتدي من أين يؤتى. 5 البازل: الجمل في السنة التاسعة، والرجل الكامل في تجربته. 6 القدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 بهمَّته، وجعل الغرض الأقصى لعينه نصبًا، والغرض الأدنى لقدمه موطئًا، فليس يقبل عملًا، ولا يتعدى أملًا، وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك، رجل قد غُذِّي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك، ونشأ على قوائم أدبك، فإن قلدته أمرهم وحمَّلته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم، كان قُفْلًا فتحه أمرك، وبابًا أغلقه نَهْيُك. فجعل العدل عليه وعليهم أميرًا، والإنصاف بينه وبينهم حاكمًا، وإذا أحكم المَنْصَفة. وملك المَعْدَلة، فأعطاهم ما لهم، وأخذ منهم ما عليهم، غرس لك في الذي بين صدورهم وأسكن لك في السُّوَيْدَاء، داخل قلوبهم، طاعة راسخة العروق، باسقة الفروع، متماثلة في الحواشي عوامِّهم، متمكنة من قلوب خواصهم، فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدَّوه، وهذا أحدهما، والآخر عُودٌ من غَيْضَتك1، ونَبْعة من أرومتك، فَتِيّ السن، كَهْلَ الحلم، راجح العقل، محمود الصرامة، مأمون الخلاف. يجرِّد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره، بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون وهو فلان أيها المهدي، فسلِّطه -أعزك الله- عليهم، ووجِّهه بالجيوش إليهم، ولا تمنَعْك ضراعة2 سِنِّة، وحداثة مولده، فإن الحلم والثقة مع الحداثة، خير من الشك والجهل مع الكهولة، وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه، واختصكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس، كفِراخِ عِتاق الطير، المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النَّفْع بلا تأديب. فالحلم والعلم، والعزم والحزم، والجود والتُّؤَدة، والرفق، ثابت في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مستَحْكِم لكم، متكامل عندكم بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة".   1 الغيضة: الأجمة ومجمع الشجر في مغيض ماء. 2 المراد حداثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 64- مقال معاوية بن عبد الله : قال معاوية بن عبد الله: "أَفْتاءُ1 أهلِ بيتك أيها المهدي في الحِلْم على ما ذُكِر، وأهل خراسان في حال عز على ما وُصِف، ولكن إن ولَّى المهدي عليهم رجلًا ليس بقديم الذكر في الجنود. ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش، والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان، وخطران مَهُولان، أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه، ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به، والمقارعة له، والخلاف عليه، قبل ما حين الاختبار لأمره، والتكشف لحاله، والعلم بطباعه؛ والأمر الآخر أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة، ولم يعرفوه بالصوت2 والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم، إلى حين اختباهم، ووقوع معرفتهم، وربما وقع البَوَار قبل الاختبار وبباب المهدي -وفقه الله- رجل مَهِيب نبيه حَنِيك3 صَيِّت، له نسب زاكٍ. وصوت عالٍ، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألَّف أهل خراسان، واجتمعوا عليه بالمِقَة، وَوَثِقُوا به كل الثقة، فلو ولَّاه المهدي أمرهم، لكفاه الله شرهم". قال المهدي: "جانبت قصد الرَّمِيَّة، وأبيت إلا عصبية إذ رأيُ الحدث من أهل بيتنا، كرأي عشرة حلماء من غيرنا. ولكن أين تركتم ولي العهد؟ ". قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده، ونسيج وَحْدِه4. ومن الدين وأهله. بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله عز وجل حَجَب عن   1 جمع فتى كيتيم وأيتام. 2 الصوت والصات والصيت: الذكر الحسن. 3 محنك. 4 هو نسيج وحده: لا نظير له منفرد بخصال محمودة لا يشركه فيما غيره، كما أن الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره، أي لا يشرك بينه وبين غيره في السدى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 خلقه، وستر دون عباده، علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور، وريب المنون1 المُخْتَرِمة لِخَوَالي القرون، ومواضي الملوك فكرهنا شُسُوعَه2 عن مَحَلَّة الملك، ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، ومعدن الجود، ومجمع الأموال التي جعلها الله قُطبًا لمدار الملك، ومِصْيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثُوَّار الفتن، ودواعي البدع. وفرسان الضلال، وأبناء الموت، وقلنا إن وجَّه المهدي وليّ عهده، فحدث في جيوشه وجنوده، ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطعْ المهدي أن يُعَقِّبَهُم بغيره، إلا أن ينهض إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم، وهول شديد، إن تنفَّست الأيام بمقامه. واستدارت الحال بإمامه، حتى يقع عِوَض لا يُسْتَغْنَى عنه، أو يحدث أمر لا بدّ منه. صار ما بعده مما هو أعظم هولًا وأجل خطرًا، له تبعًا، وبه متصلًا".   1 المنون المنية "مؤنث" والمخترمة: المهلكة، والخوالي جمع خالية: وهي الماضية. 2 شسع كمنع شسعًا وشسوعا: بعد فهو شاسع وشسوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 65- مقال المهدي: قال المهدي: "الخَطْبُ أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه، نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا، ومواقع الأمور، على سابقٍ من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب، وتنبَّأَت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا. وتكامل بِحَذَافِيرِه1 عندنا، فبه نُدَبِّر، وعلى الله نتوكل، إنه لا بُدّ لوليّ عهدي. ووليّ عهدٍ عقبي بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود؛ أما الأول فإنه يُقَدم إليهم رسله، ويُعْمِل فيهم حِيَلَه. ثم يخرج نشيطًا إليهم حَنِقًا   1 جمع حذفور كعصفور أو حذفار كقرطاس: وهو الجانب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 عليهم. يريد أن لا يدع أحدًا من إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال. إلا توطَّأه بحرِّ القتل، وألبسه قناع القهر. وقلَّده طوق الذل، ولا أحدًا من الذين عملوا في قصِّ جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونُصْرَة وُلَاة الحق، إلا أجرى عليهم دِيم فضله، وجداول نَهْلِهِ، فإذا خرج مُزْمِعًا به، مجمعًا عليه، لم يَسِر إلا قليلًا حتى يأتيه أن قد عملت حيله، وكَدَحَت كتبه، ونَفَذت مكايده، فَهَدَأَت نافرة القلوب. ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا، فيميل نظرًا لهم، وبرًّا بهم. وتعطفا عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال؛ وأما الآخر فإنه يوجِّه إليهم، ثم تعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمحت الفِرَق بقراباتها له. وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة. وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت1 بطاعتها، وألقت بأَزِمَّتِهَا، فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظلَّ كرامته وخصَّها بعظيم حبائه2، ثم عمَّ الجماعة بالمَعْدِلَةِ وتعطف عليهم بالرحمة، فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها. وزاد رفيعها، ما خلا ناحيتين، ناحية يغلب عليها الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجِّه، فيصطلي عليها موجدة، ويبتغي لها عِلَّة، لا يلبث يُجِد3 بحق يلزمهم، وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحرّ بهم القتل، ويحيط بهم الأسْر، ويُفْنِيهم التتبُّع، حتى يُخَرِّب البلاد ويُؤْتِمَ الأولاد، وناحية لا يبسط لهم أمانًا، ولا يقبل لهم عهدًا، ولا يجعل لهم ذِمَّة، لأنهم أول من فتح باب الفُرقة.   1بخع بالحق بخوعًا: أقربه وخضع له. 2 عطائه. 3 يغضب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وتدَّرع جلباب الفتنة، وربض في شِقّ العصا، ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوادهم ويطلب هُرَّابهم، في لجَج البحار، وقُلَل الجبال، وحَمِيل1 الأودية، وبطون الأرض. تقتيلًا وتغليلًا وتنكيلا، حتى يدع الدنيا خرابًا، والنساء أيامي، وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحِّح منه غير ما قلنا تفسيرًا. وأما موسى ولي عهدي، فهذا أوان تَوَجُّهه إلى خراسان، وحلوله بجُرْجان، وما قضى الله له من الشخوص إليها. والمقام فيها، خير للمسلمين مَغَبَّةً، وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يُغْمَر في لجج بحورنا، ومدافع سيولنا، ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتذاءب2 مشرق نوره، ويتقلَّل كثير ما هو كائن منه، فمن يصحبه من الوزراء، ويختار له من الناس؟ ".   1 الحميل: بطن المسيل. 2 يضطرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 66- مقال محمد بن الليث: قال محمد بن الليث: "أيها المهدي: إن وليَّ عهدك أصبح لأمتك، وأهل ملتك، علما قد تثنَّت نحوه أعناقها، ومدت سَمْتَه أبصارها. وقد كان لقرب داره منك، ومحلِّ جواره لك، عُطْلَ1 الحال، غُفْلَ الأمر، واسع العذر. فأما إذا انفرد بنفسه. وخلا بنظره. وصار إلى تدبيره. فإن من شأن العامة أن تتفقَّد مخارج رأيه. وتستنصت لمواقع آثاره وتسال عن حوادث أحواله، في بِرِّه ومَرْحَمته. وإقساطه2 ومَعْدَلته، وتدبيره وسياسته، ووزرائه وأصحابه. ثم يكون ما سبق إليه أغلب الأشياء عليهم، وأملك الأمور بهم، وألزمها لقلوبهم، وأشدها استمالةً لرأيهم، وعطفا لأهوائهم. فلا يفتأ المهدي -وفقه الله- ناظرًا له فيما يقوِّي عَمَد مملكته، ويسدِّد أركان ولايته،   1 عطل "كفرح" من المال والأدب: خلا فهو عطل كقفل وعنق. 2 عدله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله. وأظهر لجماله، وأفضل مَغَبَّةً لأمره، وأجل موقعًا في قلوب رعيته، وأحمد حالًا في نفوس أهل مِلَّته. ولا أدفعَ مع ذلك باستجماع الأهواء له. وأبلغَ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمةٍ تظهر من فعله. ومعدلة تنتشر عن أثره. ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهديُّ -وفقه الله- من خِيار أهل كل بلدة. وفقهاء أهلِ كل مصر، أقوامًا تسكُن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وُصفوا. ثم تسهِّل لهم عِمَارة سُبُل الإحسان، وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له، وسُهِّل عليه". قال المهدي: صدقت ونصحت. ثم بعث في ابنه موسى، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 67- مقال المهدي: "أي بنيَّ. إنك قد أصبحت لَسَمْت وجوه العامة نُصْبًا، ولمَثْنى أعطاف الرعية غاية، فحَسَنَتُكِ شاملة. وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر، فعليك بتقوى الله وطاعته. فاحتمل سُخْط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن الله -عز وجل- كافيك مَنْ أَسْخطه عليك إيثارُك رضاه. وليس بكافيك مَنْ يُسْخطه عليك إيثارُك رضا مَنْ سواه، ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله. وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا لنصرة حقه، يجدِّد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيِّد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذ لأولياء دينه أنصارًا، وعلى إقامة عدله أعوانًا. ويسُدُّون الخلل، ويقيمون المَيَل، ويدفعون عن الأرض الفساد، وإن أهل خراسان أصبحوا أيديَ دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمنَاصَحَتِهم. وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونُرَاحم ركن الدهر ببصائرهم، وهم عماد الأرض إذا أرجف كَنَفَها، وخوفُ الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها، قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات، أخمدت نيران الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الفتن، وقسمت دواعي البدع. وأذلت رقاب الجبَّارين، ولم ينفكُّوا كذلك ما جَرَوْا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا، التي أعزَّ الله بها ذلتهم، ورفع بها ضَعَتهم، وجعلهم بها أربابًا في أقطار الأرض، وملوكا على رقاب العالمين بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء، ومحالفة الأسى، وجَهْْْدَ البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك، ثم اعرف لهم حق طاعتهم، ووسيلة دالَّتهم، وماتَّة سابقتهم، وحُرْمة مناصحتهم، بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم. أي بني، ثم عليك العامة. فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسَّن بذلك لربك، وتوثَّق به في عين رعيتك، واجعل عُمَّال العذْر وولاة الحجج مُقدَّمة بين يدي عملك، ونَصَفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا لأنفسهم رجلًا توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكمًا بينه وبينهم، فإن أحسن حُمِدت، وإن أساء عُذِرت. هؤلاء عمال العذر، وولاة الحجج، فلا يسقطنَّ عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق، وسبق إلى الأسماع من انعقاد ألسنة المرْجِفِين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور، ولا ينفكَّنَّ في ظل كرامتك نازلًا، وبِعُرَا حبلك متعلقا، رجلان: أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحِلْم راجح، ودين صحيح، والآخر له دين غير مغموز، وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام، وتصرف الرأي، وأنحاء العرب، ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب، وتصاريف الخُطُوب، يضع آدابًا نافعة، وآثارًا باقية، من محاسنك وتحسين أمرك، وتَحْلِيَة ذكرك، فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك، فرجل أصَبْتَه كذلك، فهو يأوي إلى مَحَلَّتي، ويرعى في خضرة جناني، ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار، أقوامًا يكونون جيرانك وسمارك، وأهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 مشاورتك فيما تُورِد، وأصحاب مناظرتك فيما تُصْدِر، فَسِرْ على بركة الله، أصحبَك الله من عونه وتوفيقه دليلًا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديًا ينطق بالخير لسانك". وكُتب في شهر ربيع الآخر سنة سبعين ومائة ببغداد1. "العقد الفريد 1: 57"   1ملاحظة: أقول: وهذا ينافي ما ورد في التاريخ: إذ المعروف أن المهدي تُوفي في المحرم سنة 169 وأعقبه الهادي، الذي توفي في ربيع الأول سنة 170، فكيف يكون تاريخ كتابة هذه المشاورة هو ربيع الآخر سنة 170 أي بعد وفاة المهدي والهادي، مع أنه ذكر في سياق خبرها أن المهدي أمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب، أي أنها كتبت في المجلس الذي حدثت فيه المشاورة. والوارد في التاريخ أيضا أن الهادي خرج إلى جرجان سنة 166 و 167 "راجع تاريخ الطبري ج10 ص 7- 8" اللهم إلا أن يقال إنها كتبت في مجلس المشاورة، وبقيت محفوظة لدى كاتبها، حتى نشرت للناس في ربيع الآخر سنة 170 أي أن ذلك التاريخ هو تاريخ كتابتها لإعلانها للجمهور، على أننا نتشكك فيها من وجهة أخرى، وذلك لما نراه عليها من صحة الكتابة الفنية المنسقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 68- ابن عتبة يعزي المهدي ويهنئه : لما تُوفّي المنصور دخل ابن عتبة1 مع الخطباء على المهدي، فسلَّم فقال: "آجَرَ الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك الله لأمير المؤمنين فيما خلَّفه له أمير المؤمنين بعده، فما مصيبةٌ أعظم من فَقْدِ أمير المؤمنين، ولا عُقْبَى أفضل من وراثة مقام أمير المؤمنين، فاقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية، واحتسب عند الله أفضل الرَّزية". "البيان والتبيين 2: 103، والعقد الفريد 2: 35".   1 وفي العقد الفريد "أبو العيناء المحدث". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 69- يعقوب بن داود يستعطف المهدي : لما سَخِط المهدي على وزيره يعقوب بن داود1 أحضره، فقال: يا يعقوب، قال: لبَّيك يا أمير المؤمنين، تلبية مكروب لِمَوْجِدتك، شَرِق بغُصَّتك، قال:   1 وكان المهدي قد فوض إليه الأمور كلها، وسلم إليه الدواوين، وقدمه على جميع الناس، ثم سخط عليه. وسبب ذلك أنه دفع إليه رجلًا من العلويين، وقال له: أحب أن تكفيني أمره، فلما صار العلوي في يده، قال له: يا يعقوب تلقى الله بدمي، وأنا ابن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة رضي الله عنها، وليس لي إليك ذنب؟ فرقَّ له، وخلَّى سبيله، ونمى الخبر إلى المهدي، فأرسل في طلب العلوي حتى ظفر به، واستدعى يعقوب، فقال: ما فعلت بالعلوي؟ قال: قد أراح الله منه أمير المؤمنين، قال: مات؟ قال: نعم، فاستحلفه، فحلف له "فأخرج إليه العلوي، فلم يحر جوابا، فأمر بحبسه في بئر مظلمة، وما زال محبوسا حتى عفا عنه الرشيد وتوفي سنة 186هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 "ألم أرفع قدرك وأنت خامل، وأسيِّر ذكرك وأنت هامل، وأُلْبِسك من نعم الله تعالى ونعمي ما لم أجد عندك طاقة لحمله، ولا قياما بشكره؟ فكيف رأيت الله تعالى أظهَرَ1 عليك، وردَّ كيدك إليك! ". قال: "يا أمير المؤمنين، إن كنت قلت هذا بتيقن وعلم فإني معترف، وإن كان بسعاية الباغين، ونمائم المعاندين، فأنت أعلم بأكثرها، وأنا عائذ بكرمك، وعميم شرفك". فقال: لولا الحِنْثُ2 في دمك لألبستك قميصا لا تشد عليه أزرارًا، ثم أمر به إلى السجن، فتولى وهو يقول: "الوفاء يا أمير المؤمنين كرم، والمودة رَحِم، وما على العفو نَدَم، وأنت بالعفو جدير، وبالمحاسن خليق"، فأقام في السجن إلى أن أخرجه الرشيد. "زهر الآداب 3: 207"   1 أي أعان عليك 2 في الأصل "الحسب" وأرى أنها محرفة عن " الحنث" وهو الذنب العظيم والإثم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 70- رجل من أهل خراسان يخطب بحضرة المهدي : وقَدِم على المهدي رجل من أهل خراسان، فقال: "أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إنا قوم نَأَينَا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخُطَب، وأمير المؤمنين يعلم طاعتنا، وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منا باليسيرعن الكثير، ويقتصر على ما في الضمير، دون التفسير"، فقال المهدي: أنت أخطب من سمعته. "الصناعتين ص40" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 71 - مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي : دخل صالح بن عبد الجليل على المهدي، فسأله أن يأذن له في الكلام، فقال: تكلم فقال: "إنه لما سَهُل علينا ما توعَّر على غيرنا من الوصول إليك، قُمْنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي، عند انقطاع عُذْر الكتمان، ولا سيَّما حين اتسمت بميسَم التواضع، ووعدتَ الله وحَمَلَةَ كتابه إيثار الحق على ما سواه، فَجَمَعَنا وإياك مشهدٌ من مشاهد التمحيص، ليتم مؤدِّينا على موعود الأداء عنهم، وقابِلُنا على موعود القَبُول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية، ويُحَلِّينا حلية الكذابين، فقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون:"من حجب الله عنه العلم، عذَّبه على الجهل، وأشد منه عذابًا مَنْ أقبل إليه العلم وأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به، فقد رَغِب عن هديَّة الله وقصَّر بها"، فاقْبَل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا، قبولَ تحقيق وعمل، لا قبولَ سُمْعَة ورياء، فإنه لا يَعْدمك منا إعلامٌ لما تجهل، أو مواطأة على ما تعلم، أو تذكير لك من غفلة، فقد وطن الله -عز وجل- نبيه -عليه الصلاة والسلام- على نزولها، وتعزيةً عما فات، وتحصينًا من التمادي، ودلالة على المخرج، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فَأَطْلِع الله على قلبك، بما ينور الله به القلوب، من إيثار الحق، ومنابذة الأهواء فإنك إن لم تفعل ذلك يُرَ أثرك وأثر الله عليك فيه، لا حول ولا قوة إلا بالله". "العقد الفريد1: 303، وعيون الأخبار م2: ص333، البيان والتبيين 2: 181. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 72- عظة شبيب بن شيبة للمهدي : وقال شَبيب بن شَيْبَة1 للمهدي: "يا أمير المؤمنين، إن الله إذ قَسَم الأقسام في الدنيا، جعل لك أسناها وأعلاها، فلا ترضَ لنفسك من الآخرة، إلا مثل ما رضِيَ لك به من .... , فأوصيك بتقوى الله، فعليكم نزلت، ومنكم أُخِذت، وإليكم تُرَد". "العقد الفريد 1: 307".   1 هو شبيب بن شيبة بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم المنقري التميمي وهو ابن عم خالد بن صفوان. توفي في حدود سنة 170هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 73- خطبته في تعزية المهدي بابنته : لما ماتت البانُوقَة بنت المهدي، جَزِع عليها جزعًا لم يُسْمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر إلا يُحْجَب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز، ولا أبلغ من تعزية شَبيب بن شيبة، فإنه قال: "أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رُزِئْت أجرًا، وأعقبك صبرًا، ولا أجهَد الله بلاءك بنقْمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك وأحق ما صُبِر عليه ما لا يسهل إلى رده"1. "تاريخ الطبري 10: 21".   1 روى صاحب العقد أن شبيبًا عزى بهذا المقال المنصور على أخت أبي العباس " العقد الفريد 2: 35". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 74- خطبة أخرى له في مدح الخليفة : قيل لبعض الخلفاء إن شَبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعدَّ له، فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لرجوت أن يفتضح، فأمر رسولا فأخذ بيده إلى المسجد فلم يفارقه حتى صَعِد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- حق الصلاة عليه، ثم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 "ألا إن لأمير المؤمنين أشباهًا أربعة: الأسد الخادر1، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر: فأشبه منه صولتهُ ومَضَاءه؛ وأما البحر الزاخر: فأشبه منه جوده وعطاءه؛ وأما القمر الباهر: فأشبه منه نوره وضياءه؛ وأما الربيع الناضر: فأشبه منه حسنه وبهاءه، ثم نزل وأنشأ يقول: وموقف مثل حد السيف قمتُ به ... أحْمِي الذِّمار وترميني به الحَدَقُ2 فما زَلِقَت، وما ألقيت كاذبةً ... إذا الرجال على أمثاله زِلقُوا "العقد الفريد 2: 158، 1: 138، زهر الآداب 3: 209".   1 الخدر: أجمة الأسد ومنه يقال أسد خادر، وأخدر الأسد: لزم الأجمة. وأخدر العرين الأسد: ستره فهو مخدر بكسر الدال وفتحها. 2 الذمار: ما تجب حمايته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 75- كلمات لشبيب بن شيبة : وقال شبيب: "اطلب الأدب، فإنه دليل على المروءة، وزيادة في العقل، وصاحب في الغُرْبَة، وصِلَة في المجلس". وقال للمهدي يومًا: "أراك الله في بنيك، ما أرى أباك فيك، وأرى الله بنيك فيك، وما أراك في أبيك". وخرج من دار الخلافة يومًا، فقال له قائل: كيف رأيت الناس؟ قال: "رأيت الداخل راجيًا، والخارج راضيًا". "البيان والتبيين 1: 190، وزهر الآداب 3: 129". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 76- خطبة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب: يوم ولي الرشيد الخلافة روى الطبري قال: لما كانت الليلة التي توفي فيها موسى الهادي، وأخرج هَرْثَمَة ابن أَعْيَن هارون الرشيد ليلًا، فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بن خالد بن بَرْمَك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 -وكان محبوسًا- وقد كان عزم موسى على قتله، وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة1 فحضر يحيى، وتقلَّد الوزارة، ووجه إلى يوسف بن القاسم بن صُبَيح الكاتب، فأحضره وأمر بإنشاء الكتب، فلما كان غداة تلك الليلة وحضر القوَّاد، قام يوسف بن القاسم، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "إن الله بمنِّه ولطفه، منَّ عليكم معاشرَ أهل بيت نبيه، وبيت الخلافة، ومَعْدِن الرسالة، وإياكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع أُلفتكم، وأعلى أمركم، وشد عَضُدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق، وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويًّا عزيزًا، فكنتم أنصار دين الله المرتضَى، والذَّابِّين بسيفه المنتضى، عن أهل بيت نبيه -صلى الله عليه وسلم- وبكم استنقذهم من أيدي الظلمة أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء والمستأثرين به، فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيِّروا فيغيِّر بكم، وإن الله -جل وعز- استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيدًا مرضيًّا أمير المؤمنين بكم رءوفًا رحيما، من محسنكم قبولًا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفًا، وهو، أمتعه الله بالنعمة، وحفظ له ما استرعاه إياه من أمر الأمة، وتولَّاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته –بَعِدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم، وقَسْم أعطياتِكم فيكم عند استحقاقكم، ويَبْذُل لكم من الجائزة، مما أفاء الله على الخلفاء، مما في بيوت المال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرًا، غير مُقَاضٍ لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم وحاملًا باقي ذلك للدَّفع عن حريمكم، وما لعلَّه أن يحدث في النواحي والأقطار من   1 وكان الهادي يريد أن يجعل الخلافة في ابنه جعفر، ويخلع أخاه هارون. وسعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وقيل له إنه ليس عليك من هارون خلاف، وإنما يفسده يحيى بن خالد، فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى وأمر بحبسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 العصاة المارقين، إلى بيوت الأموال، حتى تعود الأموال إلى جمامها1 وكثرتها، والحال التي كانت عليها، فاحمدوا الله وجدِّدُوا شكرًا يُوجِب لكم المزيد من إحسانه إليكم، بما جدَّدَ لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، وأيَّده الله بطاعته، وارغبوا إلى الله له في البقاء، ولكم به في إدامة النَّعماء، لعلكم ترحمون، وأعطوا صَفْقة إيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين". "تاريخ الطبري 10: 48"   1 كثرتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 77- خطبة هارون الرشيد "توفي سنة 193هـ": "الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصرُه على أعدائه، ونؤمن به حقًّا، ونتوكل عليه، مفوِّضين إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، بعثه على فترة من الرسل، ودُرُوسٍ1 من العلم، وإدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة، بشيرًا بالنعيم المقيم، ونذيرًا بين يدي عذاب أليم، فبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدَّى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفيرَ السيئات، وتضعيفَ الحسنات، وفوزًا بالجنة، ونجاة من النار، وأحَذِّركم يومًا تشخص2 فيه الأبصار، وتُعْلَن فيه الأسرار، يوم البعث، ويوم التغابن3، ويوم التَّلاق، ويوم التَّناد، يوم لا يُسْتَعْتَب من سيئة، ولا يُزْداد من حسنة، {يَوْمَ الْآزِفَةِ 4 إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ 5   1 دروس: امحاه. 2 شخص بصره كمنع: فتح عينيه، وجعل لا يطرف. 3 يوم القيامة، سمي بذلك لأن أهل الجنة تغبن فيه أهل النار بأخذ منازلهم في الجنة أو آمنوا. 4 القيامة: من أزف كفرح: دنا وقرب. 5 بمسارقتها النظر إلى المحرم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . عباد الله: إنكم لم تُخْلَقُوا عبثًا، ولن تُتْركوا سدىً، حصِّنُوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة، فقد جاء في الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا زكاة له". إنكم سفر1 مجتازون، وأنتم عن قريب تنقلون من دار فناء إلى دار بقاء، فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة، وإلى الرحمة بالتقوى، وإلى الهدى بالأمانة، فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين، ومغفرته للتائبين، وهداه للمنيبين. قال عز وجل وقوله الحق: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، وإياكم والأمانيَّ، فقد غرَّت وأرْدَت2، وأوبَقَت كثيرًا، حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا3 التوبة من مكان بعيد، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ، فأخبركم ربكم عن المَثُلَات فيهم وصرَّف الآيات، وضرب الأمثال، فرغَّب بالوعد، وقدّم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعهم بالقرون الخوالي جيلًا فجيلا، وعَهِدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر، باختطاف الموت إياهم من بيوتكم، ومن بين أظْهُركم، لا تدفعون عنهم، ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فأَسْلَمَتْهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} . إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله؛ يقول الله عز وجل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم، بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ   1 جماعة المسافرين. 2 أهلكت وكذا أوبقت. 3 تناولوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . آمركم بما أمركم الله به، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأستغفر الله لي ولكم. "العقد الفريد 2: 147". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 78- وصية الرشيد لمؤَدِّب ولده الأمين: ووصى الرشيد مؤدب ولده الأمين، فقال: "يا أحمر1، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيِّر يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أَقْرِئه القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّره بمواقع الكلام وبَدْئِه، وامْنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورَفْع مجالس القوَّاد إذا حضروا مجلسه، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مُغْتَنِم فائدة تفيده إياها، من غير أن تُحْزِنه، فتميت ذهنه، ولا تُمْعِن في مسامحته، فيستحلِيَ الفراغ ويأْلَفه، وقَوِّمُه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغِلْظَة". "مقدمة ابن خلدون ص632".   1 هو علي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي، وكان يؤدب الأمين، وكان مشهورًا بالنحو واتساع الحفظ، ومات سنة 206، أو سنة 207. انظر ترجمته في "نزهة الألبا في طبقات الأدبا" ص125. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 79- خطبة لجعفر بن يحيى البرمكي "قتل سنة 187هـ": وهاجت العصبية بالشأم بين أهلها في عهد الرشيد "سنة180" وتفاقم أمرها، فاغتم َّلذلك الرشيد، وعقد لجعفر بن يحيى على الشأم، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقِيك بنفسي، فشخص في جِلَّة القواد والكُراع والسلاح، فأتاهم فأصلح بينهم، وقتل زَوَاقيلهم1 والمتلصِّصة منهم، ولم يَدْع بها رمحًا ولا فرسًا، فعاودا إلى الأمن والطُّمأنينة، وأطفأ تلك النائِرة.   1 الزَّوَاقيل: اللصوص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 فلما قَدِم على الرشيد دخل عليه، فقبَّل يديه ورجليه، ثم مَثَل بين يديه، فقال: "الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنَسَ وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تَضَرُّعِي، وأنسأ1 في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقُرْبه، وامتن علي بتقبيل يده، وردَّنِي إلى خدمته، فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه، ومخرجي والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني، وخطايا أحاطت بي، ولو طال مُقَامِي عنك يا أمير المؤمنين -جعلني الله فداك- لَخِفْتُ أن يذهب عقلي، إشفاقًا على قُرْبك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياقُ إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرَّفني الإجابة، ومسَّكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقْدَم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترِ مني أجل دونك، والله يا أمير المؤمنين- فلا أعظم من اليمين بالله- لقد عاينتُ ما لو تُعَرض لي الدنيا كلها، لاخترت عليها قرَبك، وَلَمَا رأيتها عِوَضًا من المُقام معك". ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: "إن الله يا أمير المؤمنين لم يزل يُبْلِيك2 في خلافتك، بقدر ما يعلم من نيَّتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع أُلْفتهم، ويَلُمَّ شَعَثَهم، حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مَرْضَاتك، والله المحمود على ذلك وهو مُسْتَحِقُّه. وفارقتُ يا أمير المؤمنين أهل كُوَرِ الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فَرَط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحِلْمِك، مؤمِّلون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في أُلفتهم كحالهم   1 أخر. 2 ينعم عليك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم، وتغمُّده1 لهم، سابق لمعذرتهم وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفهُ عليهم، متقدم عنده لمسألتهم، وايم الله يا أمير المؤمنين لئن كنتُ قد شَخَصتُ عنهم، وقد أخمد الله شرارهم، وأطفأ نارهم، ونفى مرَّاقهم2، وأصلح دهماءهم3، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله: إلا ببركتك ويمنك وريحك4، ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سِرْتُ فيهم إلا على حدِّ ما مثلته لي ورسَمْتَه، وَوَقَّفتني عليه، ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وَتَوَحُّد5 الله بالصُّنع لك، وتخوُّفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني، وإن كنت قد بذلت جهدي، وبلغت مجهودي، قاضيًا بعض حقِّك عليَّ، بل ما ازدادت نعمتك عليَّ عِظَمًا، إلا ازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا، وما خلق الله أحدًا من رعيتك، أبعدَ من أن يُطْمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك، وكلِّ ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري! وقد أصبحت واحد أهل دهري، فيما صنعته فيَّ؟ وبيَ؟ أم كيف بشكري! وإنما أقوى على شكرك بإكرامك إياي؟، وكيف بشكرك! لو جعل الله شكري في إحصاء ما أَوْليتَنِي، لم يأت على ذلك عَدِّي؟ وكيف بشكري! وأنت كهفي دون كل كهف لي؟ وكيف بشكري! وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي؟ وكيف بشكري! وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي؟ أم كيف بشكري! وأنت تُنْسينِي ما تقدم من إحسانك إليَّ، بما تجدِّده لي؟ أم كيف بشكري؟ وأنت   1 تغمده الله برحمته: غمره بها. 2 جمع مارق: وهو الخارج الحائد. 3 الدهماء: جماعة الناس. 4 قوتك. 5 توحده الله تعالى بعصمتة: عصمه ولم يكله إلى غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 تقَدِّمني بِطَوْلك على جميع أكفائي؟ أم كيف بشكري! وأنت وَليِّي؟ أم كيف بشكري! وأنت المكرم لي؟ أنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذ كان الشكر مقصِّرًا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شِقْص1 من عُشْر عَشِيره أن يتولى مكافأتك عني، بما هو أوسع له وَأقدر عليه، وأن يقضي عَنِّي حقك، وجليل مِنَّتك، فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه". "تاريخ الطبري 10: 66".   1 الشقص: السهم والنصيب، والعشير: جزء من عشرة كالمعشار والعشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 80- استعطاف أم جعفر بن يحيى للرشيد : روى صاحب العقد قال: "كانت أم جعفر بن يحيى1 -وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قَحْطبة- أرضعت الرشيد مع جعفر؛ لأنه كان رُبِّيَ في حجرها، وغُذِّيَ بِرِسْلها2، ولأن أمه ماتت عن مهده، فكان الرشيد يشاورها مُظهِرًا لإكرامها، والتبرك برأيها، وكان آلى وهو في كفالتها أن لا يحجُبها، ولا استشفعته لأحد إلا شفَّعها، وآلت عليه أمُّ جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونًا لها، ولا شفعت لأحد مقترف ذنبًا، فكم أسير فكَّت ومُبْهم عنده فتحت، ومستغلق منه فرَّجت، واحتجب الرشيد بعد قدومه3، فطلبت الإذن عليه من دار الباقونة، ومتَّت4 بوسائلها إليه، فلم يأذن لها، ولا أمر بشيء فيها، فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها، واضعة لثامها، محتفية5 في مشيها، حتى صارت بباب قصر الرشيد، فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب،   1 كان البرامكة قد استأثروا بشئون الدولة وأموالها، وغلبوا الرشيد على سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في ملكه، ولم يبق له من الخلافة إلا رسمها وصورتها -وحديثهم في ذلك طويل، ليس ههنا موضعه- فعزم على نكبتهم، حتى انتهز فرصة رجوعه معهم من الحج سنة 187، فقتل جعفر ليلًا في طريقه، وقبض على يحيى وابنه الفضل وبقية البرامكة، وحبسهم في سجن الزنادقة إلى أن ماتوا فيه، واستصفى أموالهم وضياعهم. 2 الرسل: اللبن. 3 أي من الحج. 4 توسلت. 5 احتفى: مشى حافيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 فقال: ظِئْر1 أمير المؤمنين بالباب، في حالة تَقْلِب شمانة الحاسد، إلى شفقة أم الواحد؛ فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك! أو ساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين حافية. قال: أدخلها يا عبد الملك، فرب كبد غَذَّتها، وكُرْبة فرَّجتها، وعورة سترتها، فدخلت، فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية، قام محتفيا حتى تلقَّاها بين عَمَد المجلس وأكبَّ على تقبيل رأسها، ومواضع ثَدْييها، ثم أجلسها معه، فقالت: يا أمير المؤمنين أَيَعْدُو علينا الزمان، ويجفونا خوفا لك الأعوانُ، ويُحْرِدُك2 بنا البهتان، وقد ربَّيتك في حجري، وأخذت برضاعك الأمان من عدوِّي ودهري؟ فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد، قالت: ظئرك يحيى، وأبوك بعد أبيك، ولا أصفه بأكثر مما عرَفه به أمير المؤمنين، من نصيحته، وإشفاقه عليه، وتعرُّضه للحتف في شأن موسى أخيه3، قال لها: يا أم الرشيد، أمر سبق، وقضاء حمَّ4، وغضب من الله نفَذَ، قالت: يا أمير المؤمنين {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 5 قال: صدقت فهذا مما لم يَمْحُه الله، فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ فأطرق الرشيد مليًّا، ثم قال:   1 الظئر: العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له، في الناس وغيرهم، للذكر وللأنثى. 2 يغضبك. 3 قدمنا أن الهادي كان اعتزم خلع أخيه الرشيد من ولاية العهد، واستخلاف ابنه جعفر، وقد سعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وأنه يفسد عليه أخاه الرشيد، فحبسه وهمَّ بقتله. ويروى أنه قال للهادي في خلع الرشيد لمَّا كلمه فيه: "يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان، هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك، ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته" فقال: صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير، ولما أمر بحبسه رفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني، فأخلاه، فقال: "يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر -أسأل الله إلا نبلغه، وأن يقدمنا قبله- أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسموا إليها أهلك، وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى" وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك؟ أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له؟ ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله، فإذا بلغ جعفر وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده، قيل فقبل الهادي قوله ورأيه وأمر بإطلاقه. 4 حم: قدر. 5 أم الكتاب: أصله، أو اللوح المحفوظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع1 فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول2: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذُخْرًا يكون كصالح الأعمال هذا بعد قول الله عز وجل {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . فأطرق هارون مليًّا، ثم قال: يا أمَّ الرشيد أقول: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تُقْبَل فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول: ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍّ تَبَدَّلُ3 قال هارون: رضيت، قالت: فهَبْه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من ترك شيئًا لله، لم يوجده4 الله لِفَقْدِه" فأكبَّ هارون مليًّا، ثم رفع رأسه يقول: {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد} قالت: يا أمير المؤمنين {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} واذكر يا أمير المؤمنين ألِيَّتك5 ما استشفعت إلا شفعَّتني. قال: واذكري يا أم الرشيد ألِيَّتك أن لا شفعت لمقترف ذنبًا، فلما رأته صرَّح بمنعها، ولاذ6 عن مطلبها، أخرجت حُقًّا من زُمُرُّدة7 خضراء، فوضعته بين يديه، فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قُفلا من ذهب؛ فأخرجت منه خَفْضَته8 وذوائبه وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك، وأستعين بالله عليك،   1 التمائم جمع تميمة: وهي العودة التي تعلق على الصبي دفعًا للعين، أو المرض والبيت لأبي ذؤيب الهذلي. 2 هو الأخطل. 3 هذا البيت والذي قبله من قصيدة لمعن بن أوس المزني مطلعها: لعمرك ما أدري، وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أول؟ 4 أي يحزنه. 5 الألية: القسم. 6 أي لم يجبه. 7 الزمرد والزمرذ بالدال والذال. 8 خفض الجارية كضرب خفضا، وهو كالختان للغلام، وقيل: خفض الصبي ختنه، فاستعمل في الرجل، والأعرف أن الخفض للمرأة والختان للصبي، ويقال للجارية خفضت، وللغلام ختن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع1 فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قال الأول2: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذُخْرًا يكون كصالح الأعمال هذا بعد قول الله عز وجل {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . فأطرق هارون مليًّا، ثم قال: يا أمَّ الرشيد أقول: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تُقْبَل فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول: ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍّ تَبَدَّلُ3 قال هارون: رضيت، قالت: فهَبْه لي يا أمير المؤمنين، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من ترك شيئًا لله، لم يوجده4 الله لِفَقْدِه" فأكبَّ هارون مليًّا، ثم رفع رأسه يقول: {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد} قالت: يا أمير المؤمنين {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} واذكر يا أمير المؤمنين ألِيَّتك5 ما استشفعت إلا شفعَّتني. قال: واذكري يا أم الرشيد ألِيَّتك أن لا شفعت لمقترف ذنبًا، فلما رأته صرَّح بمنعها، ولاذ6 عن مطلبها، أخرجت حُقًّا من زُمُرُّدة7 خضراء، فوضعته بين يديه، فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قُفلا من ذهب؛ فأخرجت منه خَفْضَته8 وذوائبه وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك، فقالت: يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك، وأستعين بالله عليك،   1 التمائم جمع تميمة: وهي العودة التي تعلق على الصبي دفعًا للعين، أو المرض والبيت لأبي ذؤيب الهذلي. 2 هو الأخطل. 3 هذا البيت والذي قبله من قصيدة لمعن بن أوس المزني مطلعها: لعمرك ما أدري، وإني لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أول؟ 4 أي يحزنه. 5 الألية: القسم. 6 أي لم يجبه. 7 الزمرد والزمرذ بالدال والذال. 8 خفض الجارية كضرب خفضا، وهو كالختان للغلام، وقيل: خفض الصبي ختنه، فاستعمل في الرجل، والأعرف أن الخفض للمرأة والختان للصبي، ويقال للجارية خفضت، وللغلام ختن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 81- خطبة يزيد بن مزيد الشيباني : لما رضى الرشيد عن يزيد بن مَزْيد1 أذن له بالدخول عليه، فلما مَثَل بين يديه قال: "يا أمير المؤمنين، والحمد لله الذي سَهَّل لي سبيل الكرامة بلقائك، وردَّ عليَّ   1 وذلك أن الوليد بن طريف الشاري خرج في عهد الرشيد بالجزيرة، واشتدت شوكته وكثر تبعه سنة 179، فوجه إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني، فجعل يخاتله ويماكره، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فأغروا به الرشيد، وقالوا: إنما يتجافى عنه للرحم "لأنه شيباني مثله" وألا فشوكة الوليد يسيرة وهو يواعده، وينتظر ما يكون من أمره، فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب، يقول فيه: "لو وجهت بأحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به، ولكنك مداهن متعصب، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد، ليوجهن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين "ثم حمل يزيد على الوليد فقتله وبعث برأسه إلى الرشيد، فلما انصرف يزيد بالظفر، حجب برأي البرامكة، وأظهر الرشيد السخط عليه، فقال: وحق أمير المؤمنين لأصيفن وأشتون على فرسي أو أدخل، فارتفع الخبر بذلك فأذن له فدخل، فلما رآه الرشيد ضحك وسر، وأقبل يصيح مرحبًا بالأعرابي، حتى دخل وأجلس وأكرم وعرف بلاؤه ونقاء صدره. "راجع أخباره في الأغاني 8: 11، وابن خلكان 2: 283، والطبري 10: 65". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 النعمةَ بوجه الرضا منك، وكشف عني ضبابة الكرب بإفضالك، وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سُخْطك جَزَاء المحسنين المراقبين، وفي حال رضا جَزَاء المنعمين الممتنِّين المتطوِّلين، فقد جعلك الله -وله الحمد- تَثَبَّتُ1 تحرُّجًا عند الغضب، وتمتَنُّ تطولا بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع2 تفضلًا بالعفو". "العقد الفريد 1: 141، وتاريخ الطبري 10: 117، وزهر الآداب 2: 287".   1 وفي رواية الطبري "تنيب". 2 وفي الطبري: "وتعفو عن المسيء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 82- خطبة عبد الملك بن صالح 1 "توفى سنة 196هـ": أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم: {أَفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} يأهل الشأم، إن الله وصف إخوانكم في الدين، وأشباهكم في الأجسام فحذَّرهم نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فقاتلكم الله أنَّي تُصْرَفون؟ جثث ماثلة، وقلوب طائرة، تشُبُّون2 الفتن، وتُوَلُّون الدُّبر، إلا عن حرم الله فإنه دَرِيئَتكم3، وحَرَم رسوله، فإنه مَغْزَاكم، وأَمَا وحُرْمَة النبوَّة والخلافة لتنفرُنَّ خفافًا وثقالًا، أو لأوسعنكم إرغامًا ونكالًا". "العقد الفريد 2: 146".   1 هو عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، ولَّى الرشيد بلاد الجزيرة والشام وغيرها. 2 توقدون. 3 الدريئة: الحلقة يتعلم الطعن والرمي عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 83- عبد الملك بن صالح يعزي الرشيد ويهنئه : دخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد، فقال له الحاجب: إن أمير المؤمنين قد أصيب الليلة بابن له، ووُلِد له آخر، فلما دخل عليه قال: "سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه، مَثُوبة على الصبر، وجَزَاءً على الشكر". "العقد الفريد 2: 35". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 84- غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح: ونَصَبَ1 له ابنُه "عبد الرحمن" وكاتِبُه "قُمامَة" فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة، ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع، وذكروا أنه أدخل على الرشيد حين سَخَطَ عليه، فقال له الرشيد: أكفرًا بالنعمة، وجحودًا لجليل المنَّة والتكرمة؟ فقال: "يا أمير المؤمنين، لقد بُؤْتُ2 إذن بالندم، وتعرضت لاستحلال النِّقَم، وما ذاك إلا بغيُ حاسد، نافَسَني فيك مودة القرابة، وتقديم الولاية، إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول -الله صلى الله عليه وسلم- في أمَّته، وأَمِينُه على عِتْرَته، لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها، والتثبت في حادثها، والغُفْرَان لذنوبها"، فقال له الرشيد: "أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك؟ هذا كاتبك قمامة، يخبر بغلِّك وفساد نيتك، فاسْمَع كلامه"، فقال عبد الملك: "أعطاك ما ليس في عَقْده3، لعله لا يقدر أن يَعْضَهني4 ولا يَبْهَتَني بما لم يَعْرِفه مني"، وأُحْضِر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قال: "أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك"،   1 عاداه. 2 رجعت. 3 أي ما يعتقده. 4 عضه كمنع: كذب ونم، وعضه فلانا: بهته وقال فيه ما لم يكن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 فقال عبد الملك: أهو كذاك يا قمامة؟ قال قمامة: نعم، لقد أردتَ خَتْل1 أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: وكيف لا يكذب عليَّ مِن خلفي، وهو يبهتني في وجهي؟ " فقال له الرشيد: "وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بِعُتُوِّكَ، وفساد نيتك، ولو أردتُ أن أحتج عليك بحجَّة لم أجد أعدل من هذين لك، فبمَ تدفعهما عنك؟ "، فقال عبد الملك: "هو مأمور، أو عاقّ مجبور، فإن كان مأمورًا: فمعذور، وإن كان عاقًّا: ففاجر كفور، أخبر الله عز وجل بعداوته، وحذَّر منه بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، فنهض الرشيد وهو يقول: "أما أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله فيك، فإنه الحَكَم بيني وبينك"، فقال عبد الملك: "رضيت بالله حَكَمًا، وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنه يُؤْثِر كتاب الله على ما هواه وأمر الله على رضاه". فلما كان بعد ذلك جلس مجلسًا آخر، فسلم لما دخل، فلم يردَّ عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يومًا أحتجُّ فيه، ولا أجاذب منازعًا وخصمًا. قال: ولم؟ قال: لأن أوَّله جرى على غير السنة، فأنا أخاف آخره، قال: وما ذاك؟ قال: لم ترُدَّ عليَّ السلام، أنصف نَصَفة العوام، قال: السلام عليكم اقتداء بالسنة، وإيثارًا للعدل، واستعمالًا للتحية، ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر فقال: وهو يخاطب بكلامه عبد الملك: أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك مِنْ خليلك من مُراد ثم قال: "أما والله لكأني أنظر إلى شُؤْبُوبِها قد هَمَع2، وعارضها3 قد لَمَع،   1 ختله: خدعه. 2 الشؤبوب: الدفعة من المطر، وهمع: سال وانصب. 3 العارض: السحاب المعترض في الأفق، والضمير الفتنة المفهومة من سياق الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وكأني بالوعيد قد أَوْرَى نارًا تَسْطَع، فأقلع عن بَرَاجِمَ1 بلا مَعَاصِم، ورءوس بلا غَلَاصِم2 فمهلًا مهلا، فبي والله سَهُل لكم الوَعْر، وصفا لكم الكَدر، وألقت إليكم الأمور أثناء3 أزمَّتها، فنَذار لكم نذارِ قبل حلول داهيةٍ خبوط باليد، لَبُوط4 بالرجل". فقال عبد الملك: "اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولَّاك، وفي رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلْتُ النصيحة، ومَحَضَت5 لك الطاعة، وشددت أَوَاخِيَ6 ملكك بأثقل من رُكْنَي يَلَمْلَم7، وتركت عدوَّك مشتغلا8، فالله الله في ذي رَحِمك أن تقطعه -بعد أن بَلِلْتَهُ9-بظن أفصحَ الكتاب لي بِعَضْهِه10، أو ببغي باغ يَنْهَس11 اللحم، ويَالَغُ12 الدَّم، فقد والله سهَّلت لك الوُعُور، وذلَّلُت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم من لَيْلِ تِمَامٍ13 فيك كابدتهُ، ومقامٍ ضيِّق لك قُمْتُه، كنت فيه كما قال أخو بني جعفر بن كلاب: ومقامٍ ضيِّق وفرَّجْتُه ... بِبَناني ولساني وجَدَلْ لو يقوم الفيل أو فَيَّاله ... زلَّ عن مثل مقامي وزَحَل14 فقال له الرشيد: "أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك".   1 جمع برجمة كقنفدة: وهي مفاصل الأصابع، أو ظهر القصب من الأصابع، والمعاصم جمع معصم كمنبر: وهو موضع السوار أو اليد. 2 جمع غلصمة بالفتح وهي رأس الحلقوم وهو الموضع الناتئ في الحلق. 3 أثناء الشيء ومثانيه وطاقاته، واحدها ثني كحمل ومثناة بفتح الميم وكسرها. 4 لبط به الأرض ضرب، ولبط البعير كضرب: خبط بيده وهو يعدو. 5 أخلصت. 6 جمع آخية وتشدد: عروة تربط إلى وتد مدقوق وتشد فيها الدابة، وأخيت الدابة تأخية: صنعت لها آخية وربطتها بها. 7 يلملم أو ألملم أو يرمرم: ميقات اليمن: جبل على مرحلتين من مكة. 8 وفي رواية العقد: "وتركت عدوك سبيلًا تتعاوره الأقدام". 9 بللت فلانا: لزمته. 10 العضه بسكون الضاد وفتحها: الكذب والنميمة. 11 نهس اللحم كمنع وسمع: أخذه بمقدم أسنانه ونتفه. 12 ولغ الكلب في الإناء ومنه وبه يلغ كيهب ويالغ: شرب ما فيه بأطراف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه. 13 ليل التمام: أطول ليالي الشتاء. 14 زحل من مقامه: زال كتزحول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ولم يزل عبد الملك محبوسا حتى تُوُفي الرشيد، فأطلقه محمد الأمين وعقد له على الشام1. "تاريخ الطبري 10: 89، والعقد الفريد 1: 143، والكامل لابن الأثير 6: 72، وزهر الآداب 2: 283".   1 وقد جعل للأمين عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدًا، فمات قبل قتل الأمين، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له حول أباك من دري، فنهشت عظامه وحولت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 85- قوله بعد خروجه من السجن : ولما خرج من السجن وذكر الرشيد وفعله به قال: "والله إن الْمُلك لشيءٌ ما نَوَيته، ولا تمنَّيته، ولا نصبتُ له ولا أرَدْتُه، ولو أردته لكان إليَّ أسرع من الماء إلى الحدور1، ومن النار إلى يبس العَرْفَجِ2، وإني لمأخوذ بما لم أَجْنِ، ومسئول عما لا أَعْرِف، ولكنه حين رآني للملك قَمِينا3، وللخلافة خطيرًا4، ورأى لي يدا تنالها إذا مُدَّت، وتبلغها إذا بُسِطت، ونفسا تكمُل لخِصَالها، وتستحقها بفِعَالها، وإن كنت لم أختَرْ تلك الخِصَال، ولم أصْطَنع تلك الفِعَال، ولم أترشَّح لها في السِّر، ولا أشرتُ إليها في الجهر، ورآها تحِنُّ إليَّ حنين الوالدة الوالهة، وتميل إليَّ ميل الهَلُوك5، وخاف أن ترغب إلى خير مَرْغَب، وتنزع إلى أخصب مَنْزِع، وعاقبني عقاب من سهر في طلبها، وجهد في التماسها، فإن كان إنما حبسني على أني أصلُح لها وتصلُح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحطُّ نفسي عنه، وإن زعم أنه لا صَرْف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، وألا بأن أخرج له من جِدِّ العلم والحلم والحَزْم، فكما لا يستطيع المضْياعُ أن يكون مصلحا، كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلا،   1 المكان المنحدر. 2 شجر. 3 جديرا. 4 عظيم القدر. 5 الفاجرة المتساقطة على الرجال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وسواء عليه أعاقبني على علمي وحلمي، أم عاقبني على نسبي وسني، وسواء عليه عاقبني على جَمَالي، أم عاقبني على محبة الناس لي، ولو أردتها لأعْجَلْته عن التفكير، وشَغَلْته عن التدبير، ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير". "العقد الفريد 1: 143". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 86- وصية عبد الملك بن صالح لابنه : أوصى عبد المللك بن صالح ابنا له فقال: "أي بني احْلُم، فإن من حَلُم ساد، ومن تفهَّم ازداد، والقَ أهل الخير فإن لقاءهم عمارةٌ للقلوب، ولا تَجْمَح بك مَطِيَّة اللِّجَاجِ، وفيك من أعتبك1، والصاحب المناسب لك، والصبر على المكروه يعصم القلب، المُِزاح يورث الضغائن، وحسن التدبير مع الكَفاف خيرٌ من الكثير مع الإسراف، والاقتصاد يُثَمِّر2 القليل، والإسراف يُبِير3 الكثير، ونِعْمَ الحظ القناعة، وشر ما صحِب المرء الحسد، وما كل عَوْرَة تصاب، وربما أبصر العميُّ رُشْدَه، وأخطأ البصير قَصْدَه، واليأس خير من الطلب إلى الناس، والعفَّة مع الحرفة4 خير من الغنى مع الفجور، ارْفُق في الطلب وأَجْمِل في المكسب، فإنه رب طلب، قد جرَّ إلى حَرَب5، ليس كل طالب بمُنْجِح6، ولا كل مُلِحٍّ بمحتاج، والمغبون من غُبِنَ نصيبه من الله، عاتب من رجوت عتباه، وفاكِهْ من أمنت بلواه، لا تكن مِضْحَاكًا من غير عجب، ولا مَشَّاء إلى غير أَرَب، ومن نأى عن الحق أضاق مذهبه، ومن اقتصر على حاله كان أنعم لباله، لا يكبُرَن عليك ظُلْمُ من ظلمك، فإنه إنما سعى في مضرته ونفعك، وعَوِّد نفسك السماح، وتخيَّر لها من كل خلق أحسنه، فإن الخير عادة، والشر لَجَاجة، والصُّدود آية المقت، والتعلل آية البخل، ومن الفقه كتمان السر، ولِقَاحُ المعرفة   1 أعتبه: أعطاه العتبى أي الرضا. 2 ينمى ويكثر. 3 يهلك. 4 الحرمان. 5 حربه حربًا كطلبه: سلب ماله. 6 أنجح: صار ذا نجح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 دراسة العلم، وطول التجارب زيادة في العقل، والقناعة راحة الأبدان، والشرف التقوى، والبلاغة معرفة رَتْق الكلام وفَتْقِه، بالعقل تستخرج الحكمة، وبالحلم يستخرج غَوْر العقل، ومن شَمَّر في الأمور، ركب البحور، شر القول ما نقض بعضُه بعضًا، ومن سعى بالنميمة حَذِره البعيد، ومَقَتَه القريب. ومن أطال النظر بإرادةٍ تامة أدرك الغاية، ومن توانى في نفسه ضاع. من أسرف في الأمور انتشرت عليه، ومن اقتصد اجتمعت له، واللَّجَاجة تورث الضَّيَاع للأمور، غِبُّ الأدب أحمد من ابتدائه، مبادرة الفهم تورث النسيان، سوء الاستماع يُعْقِب العِيّ، لا تُحْدِّث من لا يقبل بوجهه عليك، ولا تُنْصِت لمن لا يَنْمِى1 بحديثه إليك. البلادة للرجل هُجْنَة، قل مالك إلا استأثر، وقلَّ عاجز إلا تأخر، الإحجام عن الأمور يورث العجز، والإقدام عليها يورث اجتلاب الحظ، سوء الطُّعمة2 يفسد العِرْضَ، ويُخْلِق الوجه، ويمحق الدين، والهيبة قرين الحرمان، والجسارة قرين الظفر، وَفِيُّك من أنصفك، وأخواك من عاتَبَك، وشريكك من وَفَى لك، وصَفِيُّك من آثرك، أعدى الأعداء العقوقُ، اتباع الشهوة يورث الندامة، وفوت الفرصة يورث الحسرة جميع أركان الأدب التأنِّي للرِّفق، أكْرِم نفسك عن كل دنيَّة، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لا تجد بما تبذل من دينك ونفسك عوضًا، لا تساعد3 النساء فَيَمْلَلْنك، واستبقِ من نفسك بقيَّة، فإنهن أن يرين أنك ذو اقتدار، خير من أن يطَّلعن منك على انكسار، لا تملِّك المرأة الشفاعة لغيرها، فتميل من شفعت لها عليك معها، أي بني، إني قد اخترت لك الوصية، ومَحضتك النصيحة، وأديت الحق إلى الله في تأديبك، فلا تُغْفِلَنَّ الأخذ بأحسنها، والعمل بها، والله موفقك". "البيان والتبيين 3: 232".   1 نمى الحديث ونماه بالتشديد: رفعه. 2 الطعمة: وجه المكسب. 3 لعلها "لا تقاعد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 87- وصية أخرى له : عن يزيد بن عِقَال قال: وصى عبد الملك بن صالح ابنه وهو أمير سَرِيَّة، ونحن ببلاد الروم فقال له: "أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيِّس، الذي إن وجد ربحًا تَجَر، وألا احتفظ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تجوزَ السلامة، وكن من اجتيالك على عدوِّك، وأشدَّ خوفا من احتيال عدوك عليك1". "البيان والتبيين 2: 54".   1 أوردت هذه الوصية في الجزء الثاني ص185 معزوه إلى عبد الملك بن مروان كما أوردها صاحب العقد، ويؤيد ذلك ما رواه الطبري، ج 8: 37؛ إذ يقول: "وفي سنة84 كانت غزوة عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم، ففتح فيها المصيصة -كسفينة-" وعزاها الجاحظ إلى عبد الملك بن صالح كما ترى في هذه الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 88- كلمات حكيمة لابن السَّماك: وقال محمد بن صبح -المعروف بابن السَّماك1: "خير الإخوان أقلُّهم مصانعة في النصيحة، وخير الأعمال أحلاها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأشرف السلطان ما لم يخالطه البَطَر، وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرًا، وخير الإخوان من لم يخاصِم، وخير الأخلاق أعونها على الورع، وإنما يُخْتَبَر ذلُّ الرجال عند الفاقة والحاجة". "زهر الآداب 2: 205".   1 كان زاهدًا عابدًا حسن الكلام صاحب مواعظ، وهو كوفي، قدم بغداد زمن الرشيد فمكث بها مدة، ثم رجع إلى الكوفة فمات بها سنة 183هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 89- ابن السَّماك والرشيد: وذكر محمد بن هارون عن أبيه قال: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بن الربيع يا أمير المؤمنين قد أحضرت ابن السَّماك كما أمرتني، قال: أدخله، فدخل، فقال له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 عِظْني، قال: يا أمير المؤمنين: اتَّق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدًا بين يدي الله رَبَّك، ثم مصروفٌ إلى إحدى منزلتين، لا ثالثةَ لهما: جنة أو نار، فبكى هارون حتى اخْضَلَّتْ1 لحيته، فأقبل الفضل على ابن السَّماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالجُ أحدًا شكٌ في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله؟ لقيامه بحق الله، وعدله في عباده، وفضله، فلم يَحْفَل بذلك ابن السَّماك من قوله، ولم يلتفت إليه وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا -يعني الفضل بن الربيع- ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك، فبكى هارون حتى أشفقنا عليه، وأفحم الفضل بن الربيع، فلم ينطق بحرف حتى خرجنا. قال: دخل ابن السَّماك على الرشيد يومًا، فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأُتِي بِقُلَّة من ماء، فلما أهوى بها إلى فِيِهِ ليشربها، قال له ابن السَّماك: على رِسْلك2 يا أمير المؤمنين: بقرابتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو مُنِعَت هذه الشَّرْبة، بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنَّأَك الله، فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو مُنْعِتَ خروجها من بدنك، بماذا كنت تشتريها، قال: بجميع ملكي، قال ابن السَّماك: إن ملكًا قيمته شربة ماء لجدير إلا يُنَافس فيه، فبكى هارون، وأشار الفضل بن الربيع إلى ابن السَّماك بالانصراف فانصرف". "تاريخ الطبري 10: 119، وشرح ابن أبي الحديد م1: ص149".   1 ابتلت. 2 الرسل: التؤدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الفتنة بين الأمين والمأمون مدخل ... الفتنة بين الأمين والمأمون: وفد الأمين إلى المأمون. لما عزم محمد الأمين على خلع أخيه عبد الله المأمون من ولاية العهد1، كتب إليه كتابًا يستقدمه، ويُحَبِّب أن يكون بقُرْبِه -وكان المأمون على خراسان- ودفع الكتاب إلى العباس بن موسى، وإلى عيسى بن جعفر، إلى محمد بن عيسى بن نَهِيك، وإلى صالح صاحب المصلَّى، وأمرهم أن يتوجهوا به إلى المأمون، وألا يدعوا وجها من اللين والرِّفق إلا بلغوه، وسهَّلوا الأمر عليه، "وذلك سنة194 هـ" فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى المأمون أذن لهم، فدفعوا إليه الكتاب، ثم تكلم العباس بن موسى:   1 ذكروا أن الفضل بن الربيع وزير الأمين، كان قد خاف المأمون، لما فعله عند موت الرشيد بطوس من إحضار جميع ما كان في عسكره إلى الأمين، بعد أن كان الرشيد قد أشهد به المأمون، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يومًا وهو حي لم يبق عليه، فحسن للأمين خلع المأمون والبيعة لابنه موسى -ولم يكن ذلك من رأي الأمين ولا عزمه- واتفق مع الفضل جماعة على ذلك، قال الأمين إلى أقوالهم، ثم إنه استشار عقلاء أصحابه، فنهوه عن ذلك وحذروه عاقبة البغي ونكث العهود، وقالوا له: لا تجرئ القوَّاد على النكث للأيمان وعلى الخلع فيخلعوك، فلم يلتفت إليهم، ومال إلى رأي الفضل بن الربيع، وشرع في خدع المأمون باستدعائه إلى بغداد، فلم ينخدع وكتب يعتذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 90- خطبة العباس بن موسى حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الأمير: إن أخاك قد تحمَّل من الخلافة ثقلًا عظيمًا، ومن النظر في أمور الناس عِبْثًا جليلًا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزَه الوزراء والأعوان والكُفَاة على العدل، وقليل ما يأنَسُ بأهل بيته، وأنت أخوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وشقيقه1 وقد فزع إليك في أموره، وأمَّلَك للمُوازرة والمكانفة2، ولسنا نستبطئك في بِرِّه، اتهامًا لنصرك له، ولا نحضّك على طاعة، تخوُّفًا لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أُنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة أخيك، وآثر طاعته وأعِنْه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء الحق، وصِلَةَ الرحم، وصلاح الدولة وعز الخلافة، وعزم الله للأمير على الرشيد في أموره، جعل له الخِيَرة والصلاح في عواقب رأيه".   1 أمه أم ولد يقال لها مراجل. 2 المعاونة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 91- خطبة عيسى بن جعفر : وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، فقال: "إن الإكثار على الأمير -الله، الله- في القول خُرْق، والاقتصار في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير، وقد غاب الأمير -أكرمه الله- عن أمير المؤمنين، ولم يَسْتغنِ عن قربه من شهد غيره من أهل بيته، ولا يجد عنده غنى، ولا يجد منه خلفًا، ولا عوضًا، والأمير أولى من بَرَّ أخاه، وأطاع إمامه، فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وَكَف1 في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين".   1 الوكف الميل والجور والعيب والإثم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 92- خطبة محمد بن عيسى بن نهيك : وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك، فقال: "أيها الأمير إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحَذ نيتك بالأساطير والخُطَب فيما يلزمك من النظر والعناية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 بأمور المسلمين، وقد أعوز المؤمنين الكُفَاةُ والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعًا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فما دعاك إليه، فنعمة عظيمة يتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يُغْنِ الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البرِّ بك، والاعتماد على طاعتك ونصيحتك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 93- خطبة صالح صاحب المصلى : وتكلم صالح صاحب المصلى، فقال: "أيها الأمير: إن الخلافة ثقيلة، والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة، وينطوي على غشِّها، والمعاندة لأوليائها، من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه؟ وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثِق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم وفي الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملَّة والذمَّة، وفَّق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 94- خطبة المأمون : فحمد الله المأمون، وأثنى عليه، ثم قال: "قد عرَّفتموني من حق أمير المؤمنين -أكرمه الله- ما لا أنكره، ودعوتموني من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدِّم، والمسارعة إلى ما سرَّه ووافقه حريص، وفي الرَّوية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبُّطا ومدافعة، ولا أتقدَّم عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 اعتسافا وعجلة، وأنا في ثَغْر1 من ثغور المسلمين، كَلِب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت عليه لم آمن فَوْتَ ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته وإيثار طاعته، فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ويصحَّ الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله". ثم بعث معهم بكتاب إلى الأمين، يسأله أن يعفيه من الشخوص إليه، وأن يقرَّه على عمله؛ إذ يرى أن ذلك أعظم غناء على المسلمين. "تاريخ الطبري 10: 146".   1 الثغر: موضع المخافة من فروج البلدان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 95- وصية السيدة زبيدة لعلي بن عيسى بن ماهان : ونمى الشر بين الأخوين، واستطار شرره، وبعث الأمين جيشًا كثيفًا بقيادة علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون، وأعد المأمون للقائه جيشًا بقيادة طاهر بن الحسين فلما أراد عليٌّ الشخوص إلى خراسان، ركب إلى باب السيدة زُبَيدة1 والدة الأمين فودَّعها، فقالت له: "يا عليُّ، إن أمير المؤمنين، وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حِذْري، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، وغاراه2 على ما في يده، والكريم يؤْكل لحمه، ويميته غيره، فاعرف لعبد الله حق والده وأُخوَّته، ولا تجْبَهه3 بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسِره4 اقتسار العبيد، ولا تُرْهنه بقيد ولاغُلّ5، ولا تمنع منه جارية لا خادمًا، ولا تعنِّف عليه في السير ولا تساوره في المسير، ولا تركب قبله،   1 هي السيدة زُبَيدة أم جعفر بنت جعفر بن المنصور وليس في خلفاء بني العباس مَنْ أمه وأبوه هاشميان سواء. 2 في الأصل: "غاره" وأراه محرفا عن "غاراه" غاريته مغاراة وغراء: لاججته. 3 جبهه كمنعه: لقيه بما يكره. 4 قسره واقتسره: قهره. 5 أرهنه: أضعفه، وفي الفخري: "ولاة توهنه" وأوهنه: أضعفه أيضًا، وللغل: القيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 ولا تستقِل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا ترادَّه". ثم دفعت إليه قيدا من فضة، وقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد، فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك. "تاريخ الطبري 10: 149، والفخري ص195". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 96- وصية الأمين لابن ماهان وخرج علي بن عيسى بن ماهان من بغداد "في7 من شعبان سنة 195هـ" وخرج معه الأمين يشيعه، وأقبل يوصيه، فقال: "امنع جندك من العبث بالرعية، والغارة على أهل القرى، وقطع الشجر، وانتهاك النساء، وولِّ الريَّ يحيى بن علي1، واضمم إليك جندًا كثيفًا، ومُرْه ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وولِّ كل كُورة ترحل عنها رجلًا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه، وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخًا بأخيه، وضع عن أهل خُرسان ربع الخراج، ولا تأمن أحدًا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح، ولا تأذن لعبد الله في المُقام أكثر من ثلاثة أيام، من اليوم الذي تظهر فيه عليه، فإذا أشخصته، فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فإن غرَّه الشيطان فناصبك، فاحرص علي أن تأسره أسرًا، وإن هرب منك إلى بعض كُور خراسان، فتَوَلَّ إليه المسير بنفسك، وأفَهِمْتَ كل ما أوصيك به؟ ". قال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، قال: سر على بركة الله وعونه. "تاريخ الطبري 10: 150".   1هو يحيى بن علي بن عيسى بن ماهان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 97- استهانة ابن ماهان بأمر طاهر بن الحسين : وخرج ابن ماهان، فلما جاز حُلْوَان، لقيته القوافل من خراسان، فكان يسألها عن الأخبار، فيقال له: إن طاهرًا مقيم بالرَّيّ، يعرض أصحابه، ويرُِمُّ1 آلته، فيضحك ثم يقول: "وما طاهر؟ فو الله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولَّى على الجيوش، ويلقى الحروب"، ثم التفت إلى أصحابه فقال: "والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف، إلا أن يبلغهُ عُبُورنا عَقَبة2 هَمَذَان، فإن السِّخال3 لا تقوى على نِطاح الكباش، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرَّض لِظُبَات4 السيوف وأسنة الرماح". وسار حتى صار في أول بلاد الري، وأتاه صاحب مقدِّمته وقال: "لو كنت -أبقى الله الأمير- أذكَيْت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعًا تعسكر فيه، وتتخذ خندقًا لأصحابك يأمنون به، وكان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند". قال: "لا، ليس مثل طاهر يُسْتَعَدُّ له بالمكايد والتحفظ، وإن حال طاهر تئول إلى أحد أمرين، إما أن يتحصَّن بالري، فيَبْهَته5 أهلها، فيكفونا مَئُونته، أو يخلِّيها ويدبر راجعًا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه". وأتاه يحيى بن علي، فقال: "اجمع متفرِّق العسكر، واحذر على جندك البيات، ولا تسرِّح الخيل إلا ومعها كَثْفُ6 من القوم، فإن العساكر لا تُسَاس بالتواني،   1 يصلح. 2 العقبة: مرقى صعب من الجبال. 3 السخال جمع سخلة بالفتح: وهو ولد الغنم ذكرًا أو أنثى. 4 الظبات جمع ظبة: وهي حد السيف. 5 بهته كمنعه: أخذه بغتة، قال تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} ، وفي مروج الذهب: "فيثب به". 6 الكثف: الجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 والحروب لا تدبَّر بالاغترار، والثقة أن تحترز، ولا تقل: المحارب لي طاهر، فالشرارة الخفيَّة ربما صارت ضِرَامًا1، والثُّلْمة من السيل ربما اغْتُرَّ بها وتُهُوِّن، فصارت بحرًا عظيمًا، وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا". قال: اسكت، فإن طاهرًا، ليس في هذا الموضع الذي ترى، وإنما يتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعدّ إذا كان المناوي2 لها أكفاءَها ونظراءها". "تاريخ الطبري 10: 150، ومروج الذهب 2: 299".   1 الضرام: اشتعال النار في الحلفاء وغيرها، ودقاق الحطب الذي يسرع اشتعال النار فيه. 2 المعادي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 98- حزم طاهر وقوة عزمه : وعسكر طاهر على خمسة فراسخ من الرّيِّ، وأتاه محمد بن العلاء، فقال: "أيها الأمير، إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفًا ورعبًا منه1، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامَّهم2 أصحابُك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم"، فقال: "لا، إني أوتَى من قِلَّة تجربة وحزم، إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم، كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخَّرت المناجزة، لم آمَنْ أن يطَّلعوا على قلَّتنا وعورتنا، وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عن أكثر أصحابي، ويخذُلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن أُلْفّ الرجال بالرجال، وأُلْحِم3 الخيل بالخيل، وأعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهادة، فإن   1 وكانت عدة عسكر ابن ماهان خمسين ألفًا، وذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكر كان أكثره رجالًا وأفره كراعًا، وأظهر سلاحًا، وأتم عدة، وأكمل هيئة من عسكره، وروى أن طاهر كان في أقل من أربعة آلاف. 2 شاما وتشاما: شم أحدهما الآخر، والمعنى اقتربا. 3 أي أقرن الخيل بالخيل، من قولهم: ألحمت الحرب فالتحمت، والملحم بضم الميم وفتح الحاء: الملصق بالقوم، ولا حم الشيء بالشيء: ألصقه به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 يرزق الله الظفر والفَلْج1، فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى فلست أول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل". "تاريخ الطبري 10: 151".   1الفوز: الظفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 99- طاهر يشد عزيمة جنده : وكتَّب طاهر بن الحسين كتائبه، وكرْدَسَ كراديسه1، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة، فيقول: "يا أولياء الله، وأهل الوفاء والشكر، إنكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النَّكْث والغدر، إن هؤلاء ضيَّعوا ما حفظتم، وصغَّروا ما عظمتم، ونكثوا الأيمان التي رَعَيتم، وإنما يطلبون الباطل، ويقاتلون على الغدر والجهل، أصحاب سلب ونهب، فلو قد غَضَضْتم الأبصار، وأثْبَتُّم الأقدام، قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزِّه ونصره، فجالِدُوا طواغيت الفتنة، ويَعَاسِيب النار2 عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطِلَهم، فإنما هي ساعة واحدة، حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين". ونشِب القتال بين الفريقين، ودارت الدائرة على جيش ابن ماهان وقُتِل3. ووجَّه الأمين بعد ذلك لحرب طاهر جيشًا بقيادة عبد الرحمن بن جَبَلة، فهزم وقتل أيضًا. "تاريخ الطبري 10: 152".   1 الكراديس جمع كردوسة بالضم: وهي القطعة العظيمة من الخيل وكردسي الخيل جعلها كتيبة كتيبة. 2 الطواغيت جمع طاغوت: وهو الشيطان وكل رأس ضلال، واليعاسيب جمع يعسوب: وهو الرئيس الكبير. 3 روى أن نعي علي بن عيسى ورد إلى الأمين وهو على الشط يصيد السمك، فقال الذي أخبره: ويلك دعني، فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين، وأنا ما اصطدت شيئًا بعد -وكان كوثر خادمًا خصيًّا له وكان يحبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 100- وصف الفضل بن الربيع غفلة الأمين : وندب أسد بن يزيد بن مزيد لقتال طاهر وبعث الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن بن جَبَلة إلى أسد بن يزيد بن مَزْيَد، قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدًا في صَحْن داره، وفي يده رُقعة قد قرأها، واحمرَّت عيناه، واشتد غضبه، وهو يقول: "ينام نوم الظَّرِبان1، وينتبه انتباه الذئب، همَّتُه بطنه، ولذَّته فرجه، لا يفكِّر في زوال نعمته، ولا يُرَوِّي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام تسرع2 في هلاكه، قد شمَّر عبد الله له عن ساقه، وفوَّق له أصْيَب3 أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد4، قد عبَّى له المنايا على متون الخيل، وناط5 له البلاء في أسنة الرماح، وشِفار السيوف". ثم استرجع وتمثل بأبيات للبعيث6، ثم التفت إليَّ فقال: "يا أبا الحارث، إنا وإياك لنجري إلى غاية، وإن قَصَّرنا عنها ذُمِمْنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شُعَب من أصل، إن قويَ قوينا، وإن ضَعُف ضعُفْنا، إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوَكْفاء7، يشاور النساء، ويعتمد على الرؤيا. وقد أمكن أهل اللهو والخسارة من سمعه، فهم يَعِدُونه الظفَرَ، ويمنُّونه عُقْب8 الأيام،   1 الظربان: دويبة فوق جرو الكلب منتنة الريح كثيرة الفسو، يضرب بها المثل فيقال: "أفسى من ظربان". 2 في الأصل "تضرع" وأراه محرفا. 3 أصيب: أفعل من صاب السهم يصيب صيبا: أي أصاب، وسهم صيوب كصبور. 4 القاصد أي الكاسر، من القصد بالفتح: هو الكسر بأي وجه كان، أو بالنصف، كالتقصيد، يقال قصد المحة وقصدها: كسرها وفصلها فتقصدت. 5 علق. 6 هو خداش بن بشر المجاشعي، أحد شعراء الدولة الأموية، وكان يهاجي جريرًا. 7 وصف من الوكف بالتحريك: وهو الإثم والعيب والنقص، وكف كفرح إذا أثم، وفي رواية الطبري "الوكعاء" بالعين، وهي الحمقاء. 8 العقب كقفل وعنق: العاقبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان1 الرمل، وقد خشيت والله أن يهلك بهلاكه، ونعطَب بعطَبه. وأنت فارس العرب وابن فارسها، وقد فَزِع إليك في لقاء هذا الرجل "طاهر"، وأطمعه فيما قبلك أمران؛ أمَّا أحدهما فصدق طاعتك، وفضل نصيحتك؛ والثاني يمن نَقِيبتك2، وشدة بأسك، وقد أمرني بإزاحة علتك، وبسط يدك فيما أحببت، غير أن الاقتصاد رأس النصيحة، ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعَجِّل المبادرة إلى عدوك، فإني أرجو أن يوليك الله شرف الفتح، ويَلُمّ بك شعث هذه الخلافة والدولة". فأجاب بالسمع والطاعة، غير أنه طلب مطالب لم تَرُقْ في عين الأمين فغضب عليه، وأمر بسجنه. "تاريخ الطبري 10: 158 وزهر الآداب 2: 158".   1 القيعان جمع قاع: وهو أرض مطمئنة سهلة قد انفرجت عنها الجهال والآكام. 2 النقيبة: النفس والطبيعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 101- وصية الأمين لأحمد بن مزيد : ثم ندب عمه أحمد بن مزيد، فلما أراد الشخوص دخل على الأمين، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين، فقال: "أوصيك بخصال عدة، إياك والبغي فإنه عِقَال1 النصر، ولا تقدِّم رجلًا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفًا إلا بعد إعذار، ومهما قدرت عليه باللين، فلا تتعدَّه إلى الخَرَق والشَّرَه، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك في طلب الزُّلْفَة2 عندي، ولا تستقها فيما تَخَوَّف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخًا مصافيا، وقرينًا برًّا، وأحسن مجامعته، وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك، ولتكن أيديكما3 واحدة، وكلمتكما متفقة".   1 العقال في الأصل: الحبل الذي تقيد به الدابة. 2 الزلفة والزلفى: القربة. 3 أي أنت وعبد الله بن حميد بن قحطبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وتوجه أحمد بن مَزْيد في عشرين ألف من الأعراب، وعبد الله بن حميد بن قَحْطَبة في عشرين ألفًا من الأبناء، حتى نزلا خانقين -قريبًا من حُلْوان- ولم يزل طاهر يحتال في وقوع الاختلاف والشَّغب بينهم، حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضًا، فأخلوا خانقين ورجعوا عنها، دون أن يَلْقَوا طاهرًا. "تاريخ الطبري 10: 159". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 102- مقال عبد الملك بن صالح للأمين : وكان عبد الملك بن صالح يشكر للأمين تخلية سبيله، ويوجب بذلك على نفسه طاعته ونصيحته، فلما قوي طاهر، واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد الأمين وجيوشه، ودخل عبد الملك على الأمين، فقال: "يا أمير المؤمنين: إني أرى الناس قد طَمِعوا فيك، وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك، فإن تممْتَ على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطَتْهم وأغضبتهم، وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسَّرَف، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم ونَهِكَتهم، وأضعفتهم الحرب والوقائع، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولا1 عن لقائهم ومناهضتهم، فإن سيرتهم إلى طاهر، غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونيَّاتهم، وأهل الشأم قوم قد ضرَّستهم2 الحرب، وأدَّبتهم الشدائد، وجلُّهم منقاد إليَّ، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندًا يعظم نِكايتهم في عدوه، ويؤيِّد الله بهم أولياءه وأهل طاعته". فقال الأمين: "فإني مُوليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعُدَّة، فعجِّلْ الشخوص إلى ما هنالك، فاعمل عملًا يظهر أثَرُه، ويُحْمَد بركته، برأيك ونظرك فيه إن شاء الله، فولاه الشام والجزيرة. "تاريخ الطبري 10: 161، والكامل لابن الأثير 6: 103".   1 جبنًا وخوفًا. 2 جربتهم وأحكمتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 103- الشغب في جيش عبد الملك بن صالح : ولي عبد الملك بن صالح، فلما قدم الرَّقَّة1، كتب إلى رؤساء أجناد الشأم ووجوه الجزيرة، لم يبقَ أحد ممن يُرْجَى، ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده، وبسط له في أمله وأمنته، فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه، وخلع عليه وحمله، فأتاه أهل الشأم، والزَّوَاقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا، بَيْدَ أنه شبت نار الفتنة بين جند أهل خراسان وبين الزَّوَاقيل2، وأفضى الأمر إلى تلاحمهم واقتتالهم، ثم قام رجل من أهل حِمْص، فقال: "يا أهل حمص، الهرب أهون من العَطَب، والموت أهون من الذل، إنكم بَعُدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة، والعزة بعد الذلة؛ إلا وفي الشر وقعتم، وإلى حَوْمَة الموت أُنِخْتُم، إن المنايا في شوارب المسوِّدَة3 وقلانِسِهم، النفير النفير4 قبل أن ينقطع السيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل". وقام رجل من كلب، فقال: "يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما وَلَت ولا عَدَلت، ولا ذلَّ   1 بلد على الفرات. 2 وسببها أن بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت قد أخذت منه في إحدى الوقعات تحت بعض الزَّوَاقيل، فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا، واجتمعت جماعة من الزَّوَاقيل والجند فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبهم، ثم اتسع نطاق الفتنة فانشقت وحدة الجيش. 3 كانت الجنود الخراسانية التي تقاتل الأمويين في سبيل نشر الدعوة العباسية يحملون الرايات السود فسموا من أجل ذلك المسودة. 4 نفر إلى الأمر كضرب نفيرًا: أسرع إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 نصرها، ولا ضعف وليُّها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنَّتهم في صدوركم، واعتزلوا الشر قبل أن يعظم، تخطَّوه قبل أن يضطرم، شأمَكم، دارَكم دارَكم، الموت الفَِلَسْطِينِي خير من العيش الجَزَرِي، إلا وإني راجع فمن أراد الانصراف فلينصرف معي". ثم سار وسار معه عامة أهل الشأم، وأقبلت الزَّوَاقيل حتى أضرموا ما كان جُمِع من الأعلاف بالنار، "وكان ذلك في سنة 196هـ". "تاريخ الطبري 10: 162". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 104- خطبة الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان : يدعو إلى خلع الأمين ومات عبد الملك بن صالح بالرَّقَّة، وكان معه الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، فأقفل الجند من الجزيرة إلى بغداد، فتلقاه أهلها بالتكرِمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ثم اجتمع إليه الناس فقام فيهم فقال: "يا معشر الأبناء، إن خلافة الله لا تُجَاوَز بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبُّر والتكبُّر، وإن محمدًا يريد أن يُوتِغ1 أديانكم، وينكُث بيعتكم، ويفرِّق جمعكم، وينقل عزكم إلى غيركم، وهو صاحب الزَّوَاقيل بالأمس، بالله إن طالت به مدة، وراجعه من أمره قوَّةٌ، ليرجِعَنَّ وبال ذلك عليكم، وليُعْرَفن ضرره ومكروهه في دولتكم ودعوتكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فوالله لا ينصره منكم ناصر إلا خُذِل، ولا يمنعه مانع إلا قُتِل، وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده، والحنث بأيمانه". وخلع الحسين بن علي محمدًا الأمين وحبسه2، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون. "تاريخ الطبري 10: 163".   1أوتغ دينه بالإثم: أفسده، وأوتغه الله: أهلكه. 2 وكان حبس الحسين محمد الأمين في قصر أبي جعفر يومين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 105- خطبة محمد بن أبي خالد : في فض الناس عن اتباع الحسين بن علي بن عيسى فلما أصبح الناس من الغد، طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق، وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد، فقال: "أيها الناس، والله ما أدري، بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا؟ ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنيَّة، ولا يقاد بالمخادعة، وإني أوَّلُكم، نقض عهده، وأظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي، فليعتزل معي". "تاريخ الطبري 10: 164". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 106- إطلاق الأمين من سجنه ورده إلى مجلس الخلافة : وقام أسد الحربِيّ، فقال: "يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نِمْتُم وطال نومكم، وتأخرتم فقدِّم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره فاذهبوا بذكر فكِّه وإطلاقه". فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: "أيها الناس، هل تعتدُّون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا. قال: فهل قصر بأحد منكم، أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحدا من قوَّادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك، قال: فما بالكم خذلتموه، وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره؟ أما والله ما قتل قوم خليفتهم قطّ، وألا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف، وانهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 فنهضوا معه وقاتلوا الحسين بن عليّ وأصحابه قتالًا شديدًا، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسروا الحسين، ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة. وأتى الأمين بالحسين بن علي، فلامه على خلافه وقال له: ألم أُقَدِّم أباك على الناس وأولِّهِ أَعِنَّة الخيل، وأملأ يده من الأموال، وأشرِّف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القوَّاد؟ قال: بلى، قال: فما الذي استحققتُ به منك أن تخلع طاعتي، وتُؤَلِّب الناس عليَّ، وتَنْدُبهم إلى قتالي؟ قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله، قال: فإن أمير المؤمنين، قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك، ثم دعا له بخلعه، فخلعها عليه، وحمله على مراكِبَ، وأمره بالمسير إلى حُلْوان، وخرج الحسين، فهرب في نَفَر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه فأدركوه وقتلوه. "تاريخ الطبري 10: 164". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 107- خطبة داود بن عيسى يدعو إلى خلع الأمين : وقام داود بن عيسى1 والى مكة والمدينة -وكان خطيبًا فصيحًا جَهِير الصوت- يدعو إلى خلع الأمين ومبايعة المأمون، فقال:   1 هو داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان الأمين حين أفضت الخلافة إليه بعث به واليا على مكة والمدينة، فأقام واليا عليهما حتى دخلت سنة 196، فكتب الأمين إلى داود بن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون، والبيعة لابنه موسى، وبعث إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة، فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء، ومن كان شهد على ما في الكتابين والشهود -وكان داود أحدهم- فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق، عند بيت الله الحرام، حين بايعنا لابنيه لتكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغى على الباغي، ومع المغدور على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدا "الأمين" قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون، والقاسم المؤتمن، وخلعهما، وبايع لابنه الطفل رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا، فحرقهما بالنار، وقد رأيت خلعه، وأن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة؛ إذ كان مظلوما مبغيا عليه، فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك، فجمع الناس، وخطبهم هذه الخطبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 "الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين. أما بعد: يا أهل مكة، فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم يفد وفد الله1، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون -رحمة الله عليه وصلاته- حين بايع لابنيه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق، لتَنْصُرُنَّ المظلوم منهما على الظالم، والمبغي عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر، إلا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام، وقد حلَّ لنا ولكم خلْعُه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه، المغدور به، إلا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بن هارون من الخلافة، كما خلعت قَلَنْسُوتي هذه من رأسي وخلع قلنسوته عن رأسه، فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من بُرُودٍ وحِبَرَة2 مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشميَّة فلبسها -ثم قال: قد بايعت لعبد لله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، إلا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم"، فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر رجل فرجل، فبايعه لعبد لله المأمون بالخلافة وخلع محمدا. "تاريخ الطبري 10: 170".   1 أي لتأدية فريضة الحج. 2 برود حبرة: ضرب من البرود اليمانية؟ يقال: برد حبرة مثل عتبة على الوصف والإضافة، وبرود حبرة، وليس حبرة موضعًا أو شيئا معلوما، إنما هو وشي كقولك: ثوب قرمز، والقرمز: صبغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 108- خطبة الأمين وقد تولى الأمر عنه : ولما رأى الأمين الأمر قد تولَّى عنه، وأنصاره يتسلَّلون فيخرجون إلى طاهر، أمر بإحضاره كلُّ من كان معه في المدينة من القواد والجند، فأشرف عليهم وقال: "الحمد لله الذي يرفع ويضع، ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط، إليه المصير، أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب، حمدا يدَّخِر لي به أجزل الجزاء، ويَرْفِدني1 أحسن العزاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمدا عبده الأمين، ورسوله إلى المسلمين صلى الله عليه وسلم، آمين رب العالمين. أما بعد: يا معشر الأبناء، وأهل السَّبْقِ إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بن الربيع وزير علي ومشير، فمادَّت2 به الأيام بما لَزِمَني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى أن نبَّهتموني فانتبهت، واستعنتموني في جميع ما كرهتم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، ونالته مقدرتي مما جمعته وورثته عن آبائي فقوَّدت3 من لم يجز، واستكفيت من لم يَكْفِ، واجتهدت -عَلِمَ الله- في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه، واجتهدتم -عَلِمَ الله- في مساءتي في كل يوم ما قَدِرْتُم عليه، من ذلك توجيهي إليكم علي بن عيسى شيخكم وكبيركم، وأهل الرأفة بكم، والتحنُّن عليكم، فكان منكم ما يطول ذكره، فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت وعزيت نفسي عند معرفتي بشذوذ الظفَر، وحرصي على مُقَامكم مَسْلحةً4 بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومَنْ على يدي أبيه5 كان فخركم، وبه تمت طاعتكم   1 رفده وأرفده: أعطاه. 2 طاولته وأمهلته. 3 أي اتخذته قائدا. 4 المسلحة: القوم ذوو سلاح. 5 يعنى جد عبد الله بن حميد بن قحطبة، وهو قحطبة بن شبيب الطائي، أحد الدعاة العباسية والقواد الذين قاتلوا الجيوش الأموية -انظر الجزء الثاني ص513. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 عبد الله بن حميد بن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة له به، ولا صبر عليه، يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفًا إليَّ عامين، وعلى سيدكم متوثِّبين، مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين، ثم وثبتم مع الحسين عَلَيَّ، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني وقيدتموني، وأشياء منعتموني من ذكرها، حِقْدَ قلوبكم وتلكِّي1 طاعتكم أكبر وأكثر، فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورَضِيَ بقدره، والسلام". وكانت عاقبة أمره أن قتل سنة 198هـ وحمل رأسه إلى المأمون بخراسان. "تاريخ الطبري 10: 205، ومروج الذهب 2: 305".   1 مسهل عن تلكؤ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون ... 109- استعطاف الفضل بن الربع للمأمون: وقال المأمون للفضل بن الربيع1 لما ظَفِر به: "يا فضل، أكان من حَقِّي عيك وحق آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك أن تَثْلِبَنِي2 وتَسُبَّني وتُحَرِّض علي دمي؟ أتحب أن أفعل بك ما فعلته بي؟ ". فقال: "يا أمير المؤمنين، إن عذري يُحْقِدك إذا كان واضحًا جميلًا، فكيف إذا حفَّتْه3 العيوب، وقبَّحته الذنوب، فلا يضيق عني من عفوك ما وسع غيري منك فأنت كما قال الشاعر4 فيك: صفوح عن الأجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما "زهر الآداب 2: 163".   1 توفي سنة 208. 2 ثلبه كضربه: لامه وعابه. 3 هكذا في الأصل، وربما كان "أخفته" لقوله قبل: "إذا كان واضحا". 4 هو الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 110- خطبة طاهر بن الحسين ببغداد بعد مقتل الأمين : ودخل طاهر بن الحسين بغداد يوم الجمعة بعد قتل الأمين، فصلى بالناس وخطبهم خطبة بليغة، وقد حضره من بني هاشم والقواد وغيرهم وجماعة كثيرة قال: "الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله للخلافة؛ إذ جعلها عمادًا لدينه، وقوامًا لعباده، وضبط الأطراف، وسدِّ الثغور، وإعداد العُدَّة، وجمع الفئ، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة بعد إِذْبال البطالات، والتلذذ بِمُوبِق الشهوات، والمُخْلِد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب دِرَّة1 نعمها، وأَلِفٌ لزهرة روضتها، كَلِفٌ برونق بهجتها، وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكَب2 عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وَغِيَره ناهية، وعظته مؤدِّبة، فتمسكوا بدقائق عُصُمِ3 الطاعة، واسلكوا مناحِي سبيل الجماعة، واحذروا مصارع أهل الخلاف والمعصية، الذين قَدَحُوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الأُلْفَة، فأعقبهم الله خَسَارَ الدنيا والآخرة". "تاريخ الطبري 10: 206"، والعقد الفريد 2: 155".   1 الدرة: اللبن. 2 عدل. 3 جمع عصام ككتاب، وعصام القربة: رباطها وسيرها الذي تحمل به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 خطب المأمون خطبته وقد ورد عليه نعي الرشيد ... خطب المأمون "توفي سنة 218هـ": 111- خطبته وقد ورد عليه نعي الرشيد: خطب الناس بِمَرْو حين ورد عليه نَعْي الرشيد، فقال: "إن ثمرة الصَّبْر الأجر، وثمرة الجَزَع الوِزْر، والتسليم لأمر الله عز، فائدة جليلة، وتجارة مُرْبِحة، فالموت حوض مورود، وكأس مشروب، وقد أتي على خليفتكم ما أتي على نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما كان إلا عبدا دُعِيَ فأجاب، وأُمِرَ فأطاع، وقد سد أمير المؤمنين ثَلْمه، وقام مَقَامَه، وفي أعناقكم من العهد ما قد عرفتم، فأحسنوا العزاء على إمامكم الماضي، واغتبطوا بالنعماء والوفاء في خليفتكم الباقي، يأهل الدنيا: الموتُ نازل، والأجل طالبٌ، وأمسِ واعظٌ، واليوم مغتنَم، وغَدٌ منتظرٌ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 خطبته وقد سلم الناس عليه بالخلافة ... 112- خطبته وقد سلم الناس عليه الخلافة: ولما بلغه بخراسان قتل أخيه، وأقبل الناس للتسليم عليه بالخلافة، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: "أيها الناس: إني جعلت الله على نفسي، إن استرعاني أموركم أن أُطِيعَه فيكم، ولا أسفك دما عمْدا لا تُحله حدوده، وتسفِكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالا، ولا أثاثا، ولا نحلة1 تحرم عليَّ، ولا أحكم بهَوَاي، في غَضَبي ولا رضاي، وألا ما كان   1 نحلة: أعطاه والاسم النحلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 في الله وله، جعلت كلَّه لله عهدا مؤكدا، وميثاقا مشدَّدا، إني أفي رغبة في زيادته إياي في نعمتي، ورهبة من مسألته إياي عن حقه وخَلْقه، فإن غيَّرت أو بدَّلت كنت للغِيَرِ مستأهلا، وللنكال مُعَرَّضا، وأعوذ بالله من سخطه، وأرغب إليه في المعونة على طاعته، وأن يحول بيني وبين معصيته". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 113- خطبته يوم الجمعة الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبِه على خَلْقه، أحمد هـ وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأوصيكم عباد لله بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجُّز لوعده، والخوف لوعيده، فإنه لا يَسْلَم إلا من اتقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه، فاتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم، وترحلوا فقد جُدَّ بكم، واستعدُّوا للموت فقد أظلَّكم، وكونوا قوما صِيح بهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإن الله لم يخلقكم عبثا، ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة الواحدة، لجديرة بقصر المدة، وإن غائبًا يحدوه1 الجديدان: الليل والنهار لَحَرِىٌّ بسرعة الأوْبة، وإن قادما يُحِلُّ بالفوز أو بالشِّقوة لمستحقٌ لأفضل العُدَّة، فاتقى عبد ربه، ونصح نفسه، وقدَّم توبته، وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزيِّن له المعصية ليركبها، ويمنِّيه التوبة ليسوِّفها، حتى تهجُم عليه منيته، أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤدِّيَه أيامه إلى شِقوة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تُبطرُه نعمة، ولا تقصِّر به عن طاعته غفلة، ولا تحلّ به بعد الموت فَزْعة، إنه سميع الدعاء، وبيده الخير، وإنه فعَّال لما يريد". "عيون الأخبار م2: ص253، والعقد الفريد 2: 148".   1 يسوقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 خطبته يوم الأضحى ... 114- خطبة يوم الأضحى: قال بعد التكبير والتحميد: إن يومكم هذا يوم أبان الله فضله، وأوجب تشريفه، وعظم حرمته، ووفق له من خلقه صفوته، وابتلى فيه خليله، وفدى فيه من الذَّبح نبيه، وجعله خاتم الأيام المعلومات من العَشْر، ومتقدم الأيام المعدودات من النَّفْر1، يوم حرام، من أيام عظام، في شهر حرام، يوم الحج الأكبر، يوم دعا الله إلى مشهده، ونزل القرآن بتعظيمه، قال الله جل وعز: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَألا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} 2. فتقرَّبوا إلى الله في هذا اليوم بذبائحكم، وعظموا شعائر الله، واجعلوها من طيِّب أموالكم، وبصحة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا ولا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} 3، ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبي والوصية   1 يوم النفر: اليوم الذي ينفر فيه الناس من منى، وهو بعد يوم القر "يوم القر بالفتح: اليوم الذي بعد يوم النحر، لأن الناس يقرون في منازلهم". 2 رجالا: أي مشاة، جمع راجل كقائم وقيام، وعلى كل ضامر: أي وركبانا على كل ضامر، أي بغير مهزول، يأتين: أي الضوامر، صفة لضامر حملًا على المعنى، من كل فج عميق: أي طريق بعيد ليشهدوا منافع لهم: دينية ودنيوية، في أيام معلومات: هي عشر ذي الحجة، وقيل: أيام النحر، من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم التي تنحر الضحايا، ثم ليقضوا تفثهم: أي يزيلوا أوساخهم وشعثهم من نحو قص الأظفار، وحلق العانة، وغير ذلك. 3 أي يرفع إليه منكم العمل الصالح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 بالتقوى، ثم قال بعد ذكر الجنة والنار، عظُمَ قدرُ الدارين، وارتفع جزاء العملين1، وطالت مدة الفريقين، الله الله، فوالله إنه الجِدُّ لا اللعب، وإنه الحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث، والميزان والحساب والقصاص والصراط، ثم العقاب والثواب، فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة، والشر كله في النار". "عيون الأخبار م2: ص254، والعقد الفريد 2: 148".   1 أي عمل الخير والشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 115- خطبته يوم الفطر : قال بعد التكبير والتحميد: إن يومكم هذا يوم عيد وسُنَّة، وابتهال ورغبة، يوم خَتَمَ الله به صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله خاتمة الشهر، وأوَّل أيام شهور الحج، وجعله معقِّبًا لمفروض صومكم، ومتنفَّل قيامكم، أحلَّ فيه الطعام لكم، وحرم فيه الصيام عليكم، فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه لتفريطكم، فإنه يقال: "لا كبير مع استغفار، ولا صغير مع إصرار" ثم التكبير والتحميد، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام، والوصية بالتقوى، ثم قال: فاتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم، ولم يحتضر1 الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عَثْرَة، ولا تحظر قبله توبة، واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه، ولا شيء بعده إلا فوقه، ولا يعين على جَزَعه وعَلَزه2 وكُرَبه. ولا يعين على القبر وظلمته، وضيقه ووحشته، وهول مطلعه ومسألة ملائكته، إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلَّت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرَّجعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يُقْبَل منه، فالله الله عباد الله، وكونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها؛ إذ منعها الذين طلبوها،   1 يحضر. 2 العلز: ما يصيب المريض عند حشرجة الموت من رعدة واضطراب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا المَهَل المبسوط لكم، واحذروا ما حذَّركم الله، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صُحُفِكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقُل به، وما يُمِلُّ1 في صحيفته الحافظة لما عليه وله، فقد حكى الله لكم ما قال المفرِّطون عندها؛ إذ طال إعراضهم عنها، قال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 2 ولست أنهاكم عن الدنيا بأعظم مما نهتكم الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها ينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من عجائبها ذم كتاب الله لها، ونهي الله عنها، فإنه يقول: {فلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ولا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} ، وقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} ، فانتفعوا بمعرفتكم بها، وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذِروا مَصَارِعها، وجَانَبوا خَدَائِعَها، وآثَروا طاعة الله فيها، فأدركوا الجنة بما تركوا منها". "عيون الأخبار م2: ص255، والعقد الفريد 2: 148".   1 يملي. 2 القسط: العدل: مصدر وصف به للمبالغة أو ذوات القسط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 116- خطبة ابن طباطبا العلوي : وخطب محمد1 بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، حين انتهب قائد جيوشه أبو السرايا السَّرِيُّ ابن منصور قصر العباس بن موسى بن عيسى، فقال:   1 خرج بالكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة 199هـ يدعو إلى الرضى من آل محمد، والعمل بالكتاب والسنة، وكان القيم بأمره في تدبير الحرب، وقيادة جيوشه أبا السرايا السري بن منصور وكان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي افتتحها، وتوجيهه إلى ذلك الحسن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 "أما بعد: فإنه لا يزال يبلغني أن القائل منكم يقول: إن بني العباس فيء لنا، ونخوض في دمائهم، ونَرْتَع في أموالهم، ويُقْبَل قولنا فيهم، وتصدَّق دعوانا عليهم، حُكْم بلا علم، وعزم بلا رويَّة! عجبًا لمن يطلق بذلك لسانه، ويحدِّث به نفسه! أبكتاب الله تعالى حكم، أم لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- اتَّبَع؟ أفي مَيْلِي1 معه طَمِع، أم بسط يدي له بالجود أَمَّلَ؟ هيهات! فاز ذو الحق بما نوى، وأخطأ ذو الباطل بما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل مدع على حجته، ويل لمن اغتصب حقا، وادعى باطلا، أفلح من رَضِيَ بحكم الله، وخاف من أرغم الحقُّ أنفه، العدل أولى بالأثرة وإن رغم الجاهلون، حق لمن أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر، ومن سلك سبيل العدل أن يصبر على مرارة الحق، وكل نفس تسمو إلى هِمَّتها، ونعم الصاحب القناعة. أيها الناس، إن أكرم العباد الوَرَع، وأفضل الزاد التقوى، واعملوا في دنياكم، وتزوَّدُوا لآخرتكم، واتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، وإياكم والعصبيَّة وحميَّة الجاهلية، فإنهما يمحقان الدين، ويورثان النفاق، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، يصلح لكم دينكم، وتحسن المقالة فيكم. الحق أبلج، والسبيل منهج، والباطل لَجْلَج2، والناس مختلفون، ولكلًّ في الحق سعة، ومن حاربنا حاربناه،   = ابن سهل، فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنه قد أنزله قصرًا حجبه فيه عن أهل بيته، ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه، فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم، ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل على المأمون، واجترءوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار، فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا المذكور، فوجه إليه الحسن بن سهل زهير بن المسيب في عشرة آلاف فواقعهم فهزموه واستباحوا عسكره، فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة "وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة199" مات ابن طباطبا فجأة فذكر أن أبا السرايا سمه، وذلك أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير منعه أبا السرايا، وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه". 1 في الأصل: "أفي مثلي" وهو تحريف، والصواب ما ذكرته. 2 أبلج: أي واضح بيِّن. والمنهج الطريق الواضح، والباطل لجلج: أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 ومن سالَمَنَا سالمناه، والناس جميعًا آمنون إلا رجلًا نصب لنا نفسه، وأعان علينا بماله، ولو شئت أن أقول: ورجل قال فينا يتناول من أعراضنا: لقلت، وكفى، وحَسْبُ كل امرئ ما يَصْنَعه، وسيُكْفَي الظالمون". "مواسم الآدب 2: 113". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 117- استعطاف إبراهيم بن المهدي المأمون : لما ظفِر المأمون بعمه إبراهيم بن المهدي1 أمر بإدخاله عليه، فجيء بإبراهيم يحجُِل2 في قيوده، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له المأمون: لا سلَّم الله عليك، ولا حَفِظك، ولا رعاك، ولا كلأَكَ3 يا إبراهيم، فقال له إبراهيم: على رِسْلِك4 يا أمير المؤمنين، وليُّ5 الثأرِ محكَّم في القصاص، والعَفْوُ أقرب للتقوى، ومن مُدَّ له الاغترار في الأمل، هجمت به الأناة على التلف6 وقد أصبح ذنبي فوق كل ذنب، كما أن عفوك فوق كل7 عفو، فإن تعاقب فبحقِّك، وإن تعفُ فبفضلك"، ثم قال: ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بفضلك عنه إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فَكُنه فأطرق المأمون مليًّا، ثم رفع رأسه فقال: إني شاورت أبا إسحاق8 والعباس   1 كان المأمون قد عهد بالخلافة لعلي الرضا بن موسى الكاظم، فلما سمع العباسيون ببغداد "وكان المأمون بمرو حاضرة خراسان" ما فعله المأمون من نقل الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي، وأنكروا منه ذلك، وخلعوه من الخلافة، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي سنة201 هـ، ولما علم المأمون بذلك جد في المسير إلى بغداد، وهرب عمه إبراهيم وتوارى. 2 حجل المقيد كضرب ونصر: رفع رجلا، وتريث في مشيه على رجله. 3 كلأه: حرسه. 4 المهل والتؤدة. 5 صاحبه. 6 وفي رواية: "ومن تناوله الاغترار بما مده من أسباب الرخاء، أمن عادية الدهر". 7 وفي رواية: "وقد أصبحت فوق كل ذي ذنب، كما أصبح كل ذي عفو دونك" وفي أخرى: "وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك". 8 أبو إسحاق هو المعتصم أخو المأمون، والعباس هو ابن المأمون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 في قتلك فأشار عليَّ به، قال: فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت لهما: بدأنا له بإحسان، ونحن نستأمره فيه، فإن غيَّره فالله يغيِّر ما به، قال: إما أن يكونا قد نصحاك في عِظَم قدر الملك، وما جَرَت عليه عادة السياسة قد فعلا، ولكن أبيتَ أن تستجلب النصر إلا من حيث عوَّدك الله، ثم استعبر باكيًا، فقال له المأمون: ما يُبْكِيك؟ قال: جَذَلًا؛ إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام، ثم قال: يا أمير المؤمنين إنه وإن كان جُرْمِي يبلغ سَفْكَ دمي، فحلم أمير المؤمنين وتفضله يبلغانني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحُرْمَةُ الأب بعد الأب، قال المأمون: " القدرة تذهب الحَفِيظَة1، والندم توبة، وعفو الله بينهما، وهو أكبر ما يحاول، يا إبراهيم: لقد حَبَّبْت إليَّ العفو، حتى خفتُ أن لا أوجر عليه، أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة، لتقربوا إلينا بالجنايات، لا تثريب2 عليك، يغفر الله لك، ولو لم يكن من حق نسبك ما يبلِّغ الصفح عن زلتك، لبلَّغك ما أمَّلْت حسن توصلك، ولطيف تنصُّلك". ثم أمر بردِّ ماله وضياعه، فقال: رددت مالي، ولم تبخل عليَّ به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي فأُبْتُ منك -وما كافأتها- بيدٍ ... هما الحياتان من وفر ومن عدم3 وقام علمك بي فاحتجَّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير مُتَّهم فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمالَ، حتى أسُلَّ النعل من قَدَمي ما كان ذاك سوى عاريّةٍ رََجَعَتْ ... إليك، لو لم تَهَبْها كنت لم تُلَمِ "الأغاني 9: 57، والعقد الفريد 1: 142، الأمالي 1: 202، وزهر الآداب 3: 191".   1 الحفيظة: الغضب، وفي رواية الأغاني أن هذه الجملة من قول إبراهيم بن المهدي. 2 لا لوم. 3 اليد: النعمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 118- إبراهيم بن المهدي وبختيشوع الطبيب : تنازع إبراهيم بن المهدي هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن داود القاضي، في مجلس الحكم، في عقار بناحية السَّواد1، فزرى عليه2 ابن المهدي، وأغلظ له بين يدي أحمد بن دواد، فأحفظه3 ذلك، فقال: يا إبراهيم إذا نازعت أحدا في مجلس الحكم، فلا أَعْلَمَنَّ أنك رفعت عليه صوتا، ولا أشرت بيد، وليكن قصدك أمَمًا4، وطريقك نهجًا5، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلا، ووفِّ مجالس الحكومة حقوقها، من التوقير والتعظيم والاستكانة والتوجه إلى الواجب، فإن ذلك أشبه بك وأشكل لمذهبك في مَحْتِدك6، وعظيم خطرك7، ولا تعجل، فرب عجلة تَهَبُّ رَيْثًا8، والله يعصمك من الزلل، وخَطَل القول والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل، إن ربك حكيم عليم". قال إبراهيم: "أصلحك الله أمرت بسداد، وحضَضْت على رشاد، ولست بعائد إلى ما يَثْلِم9 مروءتي عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فهَأَنَا معتذر إليك من هذه البادرة، اعتذار مُقِرّ بذنبه، باخعٍ بجرمه10، فإن الغضب لا يزال يستفزُّني بموادِّه، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندنا منك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد هبت حقي من هذا العقار لبختيشوع، فليت ذلك اليوم يعول11 بأَرْش12 الجناية، ولم يتلف مال أفاد موعظة وبالله التوفيق". "العقد الفريد 1: 27، وزهر الآداب 1: 332".   1 سواد العراق، والعقار: كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل، والجمع عقارات. 2 عابه. 3 أغضبه. 4 الأمم: القصد الوسط. 5 واضحا. 6 أصلك. 7 قدرك. 8 إبطاء. 9 يعيب وينقص. 10 مقر. 11 يزيد ويرجح. 12 الأرش: الدية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 119- استعطاف إسحاق بن العباس المأمون : وقال المأمون لإسحاق بن العباس: "لا تحسبنِّي أغفلت إجلابك مع ابن المهدي، وتأييدك لرأيه، وإيقادك لناره، قال: "يا أمير المؤمنين، ولرَحِمِي أمس من أرحامهم وقد قال لهم كما قال يوسف لإخوته: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 1، وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارثٍ لهذه المنة، وممتثل2 لخلال العفو والفضل". قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، جُرْمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك. قال: "يا أمير المؤمنين فوالله للمسلم أحق بإقالة العَثْرَة، وغفران الزَّلة من الكافر، هذا كتاب الله بيني وبينك. يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فهي للناس يا أمير المؤمنين سُنَّة دخل فيها المسلم والكافر، والشريف والمشروف" قال: صدقت، اجلس، وَرِيَت بك زِنادي، ولا بَرِحْتُ أرى من أهلك أمثالك. "العقد الفريد 1: 142، وزهر الآداب 2: 193".   1 لا لوم. 2 امتثل طريقته: تبعها فلم يعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 120- أحد وجوه بغداد يمدح المأمون حين دخلها : لما دخل المأمون بغداد، تلقَّاه وجوه أهلها، فقال له رجل منهم: "يا أمير المؤمنين، بارك الله لك في مَقْدَمِك، وزاد في نعمتك، وشكرك عن رعيتك، تقدمتَ َمْن قَبْلَك، وأتبعت من بعدك1، وآيَسْتَ أن يُعَاين مِثْلُك، أما فيما مضى فلا نعرفه،   1 إذ إنه يجهد أن يلحق بك فلا يستطيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وأما فيما بقى فلا نرجوه، فنحن جميعًا ندعو لك، ونُثْنِي عليك، خَصِب لنا جَنَابُك، وعذُب ثوابك، وحسنت نظرتك، وكرمت مقدرتك، وجبرت الفقير، وفككت الأسير، فإنك يا أمير المؤمنين كما قال الأول: ما زلت في البذل والنَّوال وإطـ ... ـلاقٍ لعان بجُرْمِه غَلِق1 حتى تمنى البِرَاء أنهم ... عندك أسرى في القيد والحلق2 "العقد الفريد 1: 137".   1 العاني: الأسير، والغلق: أصله من غلق الرهن إذا استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط. 2 البراء ككرام جمع بريء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 121- أحد أهل الكوفة يمدح المأمون : وقد وفد من الكوفة إلى بغداد، فوقفوا للمأمون فأعرض عنهم، فقال شيخ منهم: "يا أمير المؤمنين: يدك أحق يد بتقبيل، لعُلُوِّها في المكارم، وبعدها من المآثم، وأنت يوسفيّ العفو في قلة التثريب، مَنْ أرادك بسوء جعله لله حَصِيد سيفك، وطريد خوفك، وذليل دولتك"، فقال يا عمرو: نعم الخطيب خطيبهم، اقض حوائجهم. "مروج الذهب 2: 319". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 122- محمد بن عبد الملك بن صالح بين يدي المأمون : ودخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم، فقال: "يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد الملك بين يديك، ربَيِْبُ دولتك، وسليل نعمتك، وغصن من أغصان دَوْحَتِك1، أتأذن في الكلام؟ قال نعم. قال: "أَسَتَمْنَح اللهَ حياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا"، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، هذا مقام العائذ بفضلك، الهارب إلى كَنِفِك وظلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك"، ثم تكلم في حاجته، فقضاها. "العقد الفريد 1: 146".   1 الدوحة: الشجرة العظيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 123- الحسن بن سهل يمدح المأمون : وقال الحسن بن سهل1 يومًا للمأمون: "الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك، وسَنِيِّ ما أعطاك؛ إذ قسم لك الخلافة، ووهب لك معها الحجة، ومكنك بالسلطان، وحلاه لك بالعدل، وأيَّدَك بالظفر، وشفعه لك بالعفو، وأوجب لك السعادة، وقرنها بالسيادة، فمن فُسِح2 له في مثل عطية الله لك؟ أم من ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما ألْبَسَك؟ أم من ترادفت نعمة الله تعالى عليه ترادفها عليك؟ أم هل حاولها أحد وارتبطها بمثل محاولتك؟ أم أي حاجة بقيت لرعيتك لم يجدوها عندك؟ أم أي قيِّم للإسلام انتهى إلى عنايتك ودَرَجتك؟ تعالى الله تعالى، ما أعظم ما خصَّ القرآن الذي أنت ناصِرُه، وسبحان الله! أيُّ نعمة طبقت3 الأرض بك إن أُدِّى شكرها إلى بارئها والمنعم على العباد بها؟ إن الله تعالى خلق السماء في فلكها ضياء يستنير بها جميع الخلائق، فكل جوهر زها حسنه ونوره، فهل لَبِسَتْه زِينَتُه إلا بما اتصلَ به من نورك؟ وكذلك كل ولي من أوليائك، سَعِد بأفعاله في دولتك، وحَسُنَت صنائعه عند رعيتك، فإنما نالها بما أيَّدتَه من رأيك وتدبيرك، وأسعدتَه من حسنك وتقويمك". "زهر الآداب 3: 200".   1 وزر للمأمون بعد أخيه الفضل بن سهل، وتزوج المأمون ابنته بوران؛ وتوفي سنة 236هـ. 2 أي وسع. 3 ملأت وعمت، والاستفهام للتعظيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 124- يحيى بن أكثم يمدح المأمون : وقال المأمون ليحيى بن أكُثَم1: صف لي حالي عند الناس، فقال: "يا أمير المؤمنين، قد انقادت لك الأمور بأَزِمَّتها، وملكتك الأمة فضول   1 من ولد أكثم بن صيفي التميمي، وكان فقيهًا عالمًا بالفقه بصيرًا بالأحكام؛ وقد غلب على المأمون؛ حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعا؛ وقلده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته؛ فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئًا إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم؛ وتوفى سنة 246هـ؛ وعمره 82 سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 أَعِنَّتِهَا، بالرغبة إليك، والمحبة لك، والرِّفق منك، والعياذِ بك، بعدلك فيهم، ومنِّك عليهم، حتى لقد أَنْسَيْتَهم سَلَفَك، وآيستهم من خَلَفِك، فالحمد لله الذي جمعنا بك بعد التقاطع، ورفعنا في دولتك بعد التواضع". فقال: يا يحيى، أتحبيرًا أم ارتجالًا؟ قال: قلت: وهل يمتنع فيك وصف، أو يتعذر على مادحك قول، أو يُفْحَم فيك شاعر أو يتلجلج فيك خطيب؟. "الصناعتين ص40". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 125- أحد بني هاشم والمأمون : أذنب رجل من بني هاشم ذنبًا، فَعَنَّفَه المأمون، فقال: "يا أمير المؤمنين من كانت له مثل دالَّتي، ولبس ثوب حُرْمَتي، ومتَّ بمثل قرابتي، غفر له فوق زَلَّتي" فأعجب المأمون كلامه وصفح عنه. "الأمالي 2: 136، وزهر الآداب 3: 89". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 126- رجل يتظلم إلى المأمون : وتظلَّمَ رجل إلى المأمون من عامل له فقال: "يا أمير المؤمنين، ما ترك لي فضَّة إلا فضها، ولا ذهبًا إلا ذهب به، ولا غَلَّة إلا غَلَّهَا1، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا عِلْقًا2 إلا عَلِقَه، ولا عَرَضا إلا عَرَضَ له، ولا ماشية إلا امتشَّها3، ولا جليلًا إلا أجلاه، ولا دقيقا إلا دقه"، فعجب من فصاحته وقضى حاجته. "زهر الآداب 2: 137".   1 المراد احتازها؛ والأصل فيه غَلَّه: أي وضع في عنقه أو يده الغل "بالضم" وهو القيد. 2 العلق: النفيس من كل شيء، وعلق به كفرح أحبه أو هو "علقه" مشددا مبنيا للمجهول؛ علق امرأة: أي أحبها. 3 امتش ما في الضرع: أخذ جميعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 127- عمرو بن سعيد والمأمون : وقال عمرو بن سعيد بن سَلْم: كانت على نوبة أَنُوبها في حرس المأمون، فكنت في نوبتي ليلة، فخرج متفقِّدًا من حضر، فعرفته ولم يعرفني، فقال: من أنت؟ قلت: عمرو، عمَّرك الله، ابن سعيد، أسعدك الله، ابن سَلْم، سلَّمك الله، فقال: أنت تَكْلَؤُنَا منذ الليلة؟ قلت: الله يكلؤك قبلي، وهو خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، فقال المأمون: إن أخاك الصَّدْقَ من يسعى معك ... ومن يضرُّ نفسه لينفعك ومن إذا صَرْفُ الزمان صَدَعَك ... بدَّدَ شَمْلَ نفسه لِيَجْمَعَك "زهر الآداب 2: 173". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 128- الحسن بن رجاء والمأمون : دخل المأمون بعض الدواوين، فرأى غلامًا جميلًا على أذنه قَلَم، فقال: من أنت يا غلام؟ فقال: "أنا يا أمير المؤمنين، الناشئ في دولتك، والمتقلِّب في نعمتك، المؤمِّل لخدمتك، خادِمُك وابن خادمك: الحسن بن رجاء"، فقال: أحسنت يا غلام، وبالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، وأمر برفع مرتبته. "زهر الآداب 2: 173". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 129- سعيد بن مسلم والمأمون وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة للمأمون: "لو لم أشكر الله تعالى إلا على حسن ما أبلاني من أمير المؤمنين، من قَصْدهِ إليَّ بحديثه، وإشارته إليَّ بطَرفْه، لقد كان في ذلك أعظم الرِّفعة، وأرفع ما تُوجِبه الحُرْمَة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فقال: "يفعل أمير المؤمنين ذلك؛ لأن أمير المؤمنين يجد عندك من حسن الإفهام إذا حَدَّثْتَ، وحسن الفهم إذا حُدِّثَتَ، ما لم يجده عند أحد ممن مضى، ولا يظن أنه يجد عند أحد مِمَّن بَقِي، فإنك لتستقصى حديثي، وتقف عند مقاطع كلامي، وتخبر بما كنت أغفلتُهُ منه". "زهر الآداب 1: 173". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 130- أبو زهمان يعظ سعيد بن مسلم وقال سعيد بن مسلم: كنت واليا بأرمينيِّة، فَغَبَر1 أبو زَهْمَان العَلَانيّ على بابي أياما، فلما وصل إليَّ مَثَل بين يديَّ قائما بين السِّماطَينِ2 وقال: "والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سَفَّ التراب يقيم من أَوَد3 أصلابهم لجعلوه مُسْكَةً4 لازما فيهم، وإيثارًا للتنزه عن عيش رقيق الحواشي، أما والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العَطْفة، إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثلُ ما يَصْرِفني عنك ولأن أكون مقلًا مقرِّبا، أحب إليَّ من أن أكون مكثرًا مبعدا، والله ما نسأل عملًا لا نضبطه، ولا مألا إلا نحن أكثر منه، وهذا الأمر الذي صار إليك في يديك، كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فتحبَّبَ إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الجانب، فإن حُبَّ عباد الله موصول بُحِّب الله، وبغضهم موصول ببغض الله؛ لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوجَّ عن سبيله". "البيان والتبيين 2: 105".   1 مكث. 2 السماطان من الناس: الجانبان؛ يقال: مشى بين السماطين. 3 اعوجاج. 4 المسكة: ما يمسك الأبدان من الغداء والشراب أو ما يتبلغ به منهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 131- وصية طاهر بن الحسين لابنه عبد لله لما ولَّاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما1 سنة 206هـ. "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فعليك بتقوى الله وحد لا شريك له"   1 أثبتنا هذا الكتاب هنا لأنه في عداد الوصايا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزَم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه، وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذبَّ1 عنهم، والدفع عن حريمهم وبَيْضَتِهِم2، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم3، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخِذك بما فرض عليك من ذلك، وموقِّفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرِّغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذْهَلك4 عنه ذاهل، ولا يشغلك5 عنه شاغل، فإنه رأس أمرك وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله به لرشدك، وليكن أول ما تُلْزِم به نفسك، وتنسب إليه فعالك، والمواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قِبَلَك في مواقيتها على سننها، في إسباغ6 الوضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها، وتَرَتَّل7 في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك نيتك، واحضض عليه جماعة من معك وتحت يدك وادأْب عليها فإنها كما قال الله: تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة8 الله وتقواه، ولزوم ما أنزل الله في كتابه من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بما يحق الله عليك،   1الدفع. 2 البيضة: حوزة كل شيء. 3 وفي مقدمة ابن خلدون: لسربهم؛ والسرب: النفس. 4 ذهلت عن الشيء "كفتح" غفلت وقد يتعدى بنفسه. فيقال ذهلته، والأكثر أن يتعدى بالهمزة؛ فيقال: أذهلني فلان عن الشيء. 5 شغله من باب فتح وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة. 6 أسبغ الوضوء: وفي كل عضو حقه. 7 تمهل ولا تعجل. 8 استخار الله: طلب منه الخيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 ولا تَمِل عند العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد، وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحثّ عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالًا له، ودَرْكًًًًا للدرجات العلا في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأَنَسَة بك، والثقة بعدلك، وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعا، ولا أحضر أمنا، ولا أجمع فضلًا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة، ومعالم الرشد، فلا غاية للاستكثار من البرِّ والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته، واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب، وإنك لن تَحُُوط1 نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فَأْتِه واهتد به تتمّ أمورك، وتزِدْ مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك، وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها، تَسْتَدِم به النعمة عليك، ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشِفَ أمره، فإن إيقاع التهم بالبُرَآء، والظنون السيئة بهم مَأْثم، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عند سوء الظن بهم، وارفضه فيهم، يعينك ذلك على اصطناعهم2 ورياضتهم، ولا يجدنَّ عدو الله الشيطان في أمرك مَفْخَرا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وَهَنِكَ3، فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لَذَاذَةَ عيشك، واعلم أنك   1تصون. 2 اصطنعتك لنفسي: اخترتك لخاصة أمر أستكفيك إياه. 3 الوهن بسكون الهاء وفتحها، والضعف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتُكْفَى به ما أحببتَ كفايتَه من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك، والاستقامة في الأمور كلها لك، ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء، والحِيْاطَة للرعيَّة، والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم، آثَرَ عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة، وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزيّ بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله جعل الدين حرزا وعزا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى، وأقمْ حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطِّل ذلك ولا تَهَاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك، واعزِم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشُّبَه والبدعات، يَسْلَم لك دينك، وتقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدا فَفِ به، وإذا وعدت الخير فأَنْجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأَبْغِضْ أهله، وأَقْصِ أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر، وأحبَّ أهل الصدق والصلاح وأعِزَّ الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجَوْر، واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل في سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، وامْلِك نفسك عند الغضب، وآثِر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 والوقار والحلم، وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول: إني مُسَلَّطٌ أفعل ما شاء، فإن ذلك سريع بك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له، وأخلص الله النية فيه واليقين به، واعلم أن الملك لله، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد، وأسرع منه إلى حَمَلَةِ النعمة من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله، ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدَّخر وتكنز البرَّ والتقوى والمعِدَلة، واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم، والتفقُّد لأمورهم والحفظ لِدَهْمَائِهم1 والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تُثْمِر، إذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم، وكف المئونة عنهم، نمت وربت وصلحت به العامة، وتزينت به الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العزة والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفِّر منهُ على أولياء أمير المؤمنين قِبَلك حقوقهم، وأَوْفِ رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أساس لطاعتهم، وأطيب نفسا لكل ما أردت، فاجْهَد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حِسْبتك فيه فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثِبْهم عليه، وإياك أن تُنْسِيك الدنيا وغرورها هَوْل الآخرة، فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البَوَار، وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى وارج الثواب، فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر وعليه فاعتمد، يَزِدْك الله خيرًا وإحسانا، فإن الله يثبت بقدر شكر الشاكرين،   1الدهماء: جماعة الناس "وفي المقدمة: والحفظ لدمائهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وسيرة المحسنين، وقضى الحقَّ فيما حمل من النعم، وألبس من العافية والكرامة، ولا تحقرنَّ ذنبا، ولا تمالئَنَّ حاسدا، ولا ترحمنَّ فاجرا، ولا تصلَنَّ كفورا، ولا تداهِنَنَّ عدوا، ولا تصدقَنَّ نمَّاما، ولا تأمننَّ غدَّارا، ولا توالينَّ فاسقا، ولا تتبعنَّ غاويا، ولا تحمدنَّ مرائيا، ولا تحقرنَّ إنسانا، ولا تردنَّ سائلًا فقيرا، ولا تجيبنَّ1 باطلا، ولا تلاحظنَّ مضحكا، ولا تخلفنَّ وعدا، ولا تزهونَّ فخرا، ولا تظهرنَّ غضبا، ولا تأتينَّ بَذَخا2، ولا تمشينَّ مرحا، ولا تركبنَّ سفهًا3، ولا تفرِّطنَّ في طلب الآخرة، ولا ترفع للنمام عينا، ولا تُغْمِضَنَّ عن الظالم رهبة منه أو مخافة، ولا تطلبنَّ ثواب الآخرة بالدنيا، وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب، وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تُدْخِلَنَّ في مشورتك أهل الدقة4، والبخل، ولا تسمعنَّ لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشُّح، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطيَّة، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك، بالكفِّ عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك، بالإفضال عليهم وحسن العطيَّة لهم، فاجتنب الشُّح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلةِ خزيٍ، وهو قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، فسِّهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا، وأيقنْ أن الجود من أفضل أعمال العباد، فأعْدِدْه لنفسك خلقا، وارضَ به عملًا ومذهبا، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسِّع عليهم في معايشهم؛ ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوِّم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا، وحسب ذي سلطان   1 وفي المقدمة: "ولا تحسنن باطلا". 2 البذخ: الكبر. 3 وفي المقدمة: "ولا تزكين سفيها". 4 وفي المقدمة: "أهل الرأفة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله، وحِيَطته1 وإنصافه، وعنايته وشفقته، وبره وتوسعته، فزايل مكروه أحد البابين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به، تلقَ إن شاء الله نجاحًا وصلاحًا وفلاحا، واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور؛ لأنه ميزان الله الذي يعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدَّي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها يتنجَّز الحق والعدل في القضاء، واشتد في أمر الله، وتورع عن النَّطَف2، وامض لإقامة الحدود وأَقْلِل العجلة، وابعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد3 في منطقك، وأنصف الخصم، وقف عند الشُّبة، وأبلغ في الحجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة4 ولا لوم لائم، وتثبت وتأنَّ وراقب، وانظر وتدبر، وتفكر واعتبر، وتواضع لربك وارأَف5 بجميع الرعية، وسلِّط الحق على نفسك، ولا تُسرعنَّ إلى سفك دم "فإن الدماء من الله بمكان عظيم" انتهاكا لها بغير حقها، وانظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه عدوهم كَبْتًا6، وغيظا، ولأهل الكفر من مُعاديهم ذلًا وَصَغارا، فوزَّعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعنَّ منه شيئا عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد من خاصتك، ولا تأخذنَّ منه فوق الاحتمال له، ولا تكَلَّفَنَّ أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مرِّ الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم،   1 في المقدمة: "وعطيته". 2 النطف: العيب والشر والفساد. 3 سد يسد كضرب: صار سديدا. 4 في المقدمة: "ولا محاملة". 5 من باب كرم وقطع وطرب. 6 كبته: صرعه وأخزاه؛ ورد العدو بغيظه وأذله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وألزم لرضا العامة، واعلم أنك جُعِلَت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيِّمهم، تأخذ منها ما أعطَوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أوَدهم، فاستعمل عليهم في كُور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسِّع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلَّدت وأسند إليك، ولا يشغلَنَّك عنه شاغل، ولا يصرفَنَّك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب، واستدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك، واحترزت النَّصْحَة من رعيتك، وأُعْنِتَ على الصلاح، فدَّرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخِصْب في كُورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مَرْضِيّ العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآله وعُدَّة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئًا، تحمد مغبَّة أمرك إن شاء الله، واجعل في كل كُورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عملك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معَاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر، فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأَمْضِه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البَصَر والعلم، ثم خذ فيه عُدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى فقوَّاه1 ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه نقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشِره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، فإذا أخرت عمله   1 في المقدمة: "وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تُعْرِض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك، وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طَوِيتهم، وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالطة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مَئُونتهم، وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لخلتهم1 مسًّا، وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكلّ بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك؛ لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء وأيتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال، اقتداء بأمير المؤمنين -أعزه الله- في العطف عليهم والصلة لهم؛ ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأَجْر للأضِرَّاء من بيت المال، وقدِّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية2 على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤْويهم، وقوَّاما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفْهم بشهواتهم، ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال، واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيِّهم؛ لم يرضهم ذلك، ولم تطلب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعًا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم، وربما بَرِم3 المتصفح لأمور الناس، لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل، وفضل ثواب الآجل، كالذي يستقبل ما يقرِّبه إلى الله، ويلتمس رحمته به وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك ولِنْْْ لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدِّر ولا منَّان   1 الخلة: الحاجة. 2 في المقدمة: "في الجرائد". 3 ضجر ومل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله، واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومَن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته، وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله، واعرف ما تجمع عمَّالك من الأموال، وما ينفقون منها، ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك، مَن إذا رأى عيبًا فيك لم يمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك، ومظاهريك لك، وانظر عمَّالك الذين بحضرتك وكتَّابك، فوقِّت لكل رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمَّالك، وأمر كُورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهملك وعقلك، وكرر النظر إليه التدبير له، فما كان موافقا للحزم والحق فَأَمْضه، واستخِر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنُن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعَن المعروف إلا على ذلك وتفهَّم كتابي إليك، وأكثر النظر في العمل به، واستعن بالله على جميع أمورك، واستخره فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك وأفضل رعيتك، ما كان لله رضا، ولدينه نظاما، ولأهله عزًّا وتمكينا، وللذمة والملة عدلًا وصلاحا، وأنا أسأل الله أن يصلح عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك، حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبًا، وأوفرهم حظًّا، وأسناهم ذكرًا وأمرًا، وأن يُهْلك عدوك ومن ناوأك وبَغَى عليك، ويرزقك من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وَوَسَاوِسَه، حتى يستعلى أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب". وذكروا أن طاهرا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد، وتنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون، فدعا به وقرئ عليه فقال: ما بقَّى أبو الطيب -يعني طاهرًا- شيئًا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة، وإصلاح الملك والرعية، وحفظ البَيْضة، وطاعة الخلفاء، وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به وتقدم، وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال. "تاريخ الطبري 10: 258، ومقدمة ابن خلدون ص339". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 132- خطبة عبد الله بن طاهر : خطب عبد الله بن طاهر الناس، وقد تيسر لقتال الخوارج1 فقال: "إنكم فئة الله المجاهدون عن حقه، الذابُّون عن دينه، والذائدون عن محارمه، الداعون إلى ما أمر به، من الاعتصام بحبله، والطاعة لولاة أمره الذين جعلهم رعاة الدين، ونظام2 المسلمين، فاستنجزوا موعود الله ونصره، وبمجاهدة عدوه، وأهل معصيته، الذين أشِرُو3 وتمرَّدوا، وشقُّوا العصا، وفارقوا الجماعة، ومَرَقوا من الدين، وسعوا في الأرض فسادًا، فإنه يقول تبارك وتعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ   1 الوارد في كتاب "الفرق بين الفرق" أن المأمون بعث طاهر بن الحسين لقتال حمزة بن أكرك -هكذا فيه، وفي الملل والنحل حمزة بن أدرك بالدال- وهو زعيم فرقة الحمزية إحدى فرق الخوارج العجاردة، وقد عاث في سجستان وخراسان ومكران وقوهستان وكرمان، وهزم الجيوش الكثيرة، وكان ظهوره في أيام هارون الرشيد سنة179، وبقي الناس في فتنته إلى أن مضى صدر من أيام خلافة المأمون، فلما تمكن المأمون من الخلافة كتب إليه كتابا استدعاه فيه إلى طاعته، فما ازداد إلا عتوا، فبعث لقتاله طاهر بن الحسين، فدارت بينه وبين حمزة حروب قتل فيها من الفريقين مقدار ثلاثين ألفا، أكثرهم من أتباع حمزة، وانهزم حمزة إلى كرمان، ثم استدعى المأمون طاهرًا من خراسان، فطمع فيها حمزة، وأقبل بجيشه من كرمان، فخرج إليه عبد الرحمن النيسابوري في عشرين ألفا فهزموه، وقتلوا الألوف من أصحابه، وانفلت حمزة جريحًا، ومات في هزيمته -انظر ص79. 2 النظام: السلك ينظم فيه، وملاك الأمر. 3 بطروا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، فليكن الصبر مَعْقِلَكم الذي إليه تلجئون1، وعُدَّتكم التي بها تستظهرون، فإنه الوَزَر المنيع، الذي دلكم الله عليه، والجنة2 الحصينة التي أمركم الله بلباسها. غُضُّو أبصاركم، واخفتوا أصواتكم في مصافكم، وامضوا قُدُمًا على بصائركم، فارغين إلى ذكر الله، والاستعانة به كما أمركم الله، فإنه يقول: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أيدكم الله بعز الصبر، ووليكم بالحياطة والنصر". "العقد الفريد 2: 155".   1 الملجأ والمعتصم؛ وكذا الوزر. 2 كل ما بقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 133- العباس بن المأمون والمعتصم "المتوفى سنة 227هـ": قال العباس بن المأمون: لما أفضت الخلافة إلى المعتصم دخلت، فقال: هذا مجلس كنت أكره الناس لجلوسي فيه، فقلت: "يا أمير المؤمنين، أنت تعفو عما تيقنتَه، فكيف تعاقب على ما توهمته؟ "، فقال: "لو أردت عقابك، لتركت عتابك". "زهر الآداب 3: 91". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 134- استعطاف تميم بن جميل للمعتصم : كان تميم بن جميل السَّدُوسي قد خرج بشاطئ الفرات، واجتمع إليه كثير من الأعراب، فَعَظُم أمره، وبعد ذكره، فكتب المعتصم إلى مالك بن طَوْق في النهوض إليه، فبدد جمعه، فظَفَِر به، فحمله موثَقًا إلى المعتصم، قال أحمد بن أبي دُواد: ما رأينا رجلًا عاين الموت، فمَا هَالَه، ولا أذهله عما كان يجب عليه أن يفعله إلا تميم بن جميل، فإنه أوفى به الرسول باب أمير المؤمنين المعتصم، في يوم الموكب، حين يجلس العامة، ودخل عليه فما مَثَل بين يديه، دعا بالنطع1 والسيف فَأُحضرا، فجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئًا، وجعل المعتصم يصعِّد النظر فيه ويصوِّبه، وكان جسيمًا   1 النطع كحمل وشمس وسبب وعنب: بساط من الأديم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وسيما1، ورأى أن يستنطقه لينظر أين جَنَاحه ولسانه من منظره، فقال: يا تميم إن كان لك عذر فأْتِ به، أو حجة فأَدْلِ بها، فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: "الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين" جَبَر بك سبل الحق، وأخمد بك شهاب الباطل، يا أمير المؤمنين إن الذنوب تُخْرِس الألسنة الفصيحة، وتُعْيِي الأفئدة الصحيحة، ولقد عظمت الجزيرة، وانقطعت الحجة، وكبر الذنب، وساء الظن، ولم يبقَ إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما مني، وأسرعهما إليَّ، أَوْلَاهما بامتنانك، وأشبههما بخلافتك، ثم أنشأ يقول: أرى الموت بين السيوف والنِّطع كامنا ... يلاحظني من حيثما أتلفَّت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يُفْلِت؟ ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مُصْلَتُ؟ 2 يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يُسَلّ على السيف فيه وأسكت وما جَزَعي من أن أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيء موَقَّت ولكنَّ خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتَّت كأني أراهم حين أُنْعَى إليهم ... وقد خمَشُوا تلك الوجوه وصوَّتوا3 فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذُودُ الرَّدَى عنهم وإن مت مَوَّتوا4 فكم قائل لا يبعد الله روحه ... وآخر جذلان يُسَرُّ ويَشْمَتُ   1 جميلا. 2 مسلول. 3 خمش وجهه كنصر وضرب: خدشه ولطمه وضربه. 4 كثر فيهم الموت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 فتبسم المعتصم وقال: "كاد الله يا تميم أن يسبق السيف العَذَل1، اذهب فقد غفرت لك الصَّبوة2، ووهبتك للصِّبية"، ثم أمر بفك قيوده وخلع عليه، وعقد له بشاطئ الفرات. "العقد الفريد 1: 145، وزهر الآداب 3: 89".   1 العذل كشمس وسبب: اللوم؛ وهو مثل؛ وأول من قاله ضبة بن أد بن طابخة؛ وكان له ابنان يقال لأحدهما سعد؛ وللآخر سعيد؛ فنفرت إبل لضبة تحت الليل؛ فوجه ابنيه في طلبها فتفرقا؛ فوجدها سعد فردها؛ ومضى سعيد في طلبها؛ فلقيه الحرث بن كعب، كان على الغلام بردان؛ فسأله الحرث إياهما فأبى عليه فقتله وأخذ برديه؛ فكان ضبة إذا أمسى فرأى تحت الليل سوادا. قال: أسعد أم سعيد؟ فمكث ضبة بذلك ما شاء الله أن يمكث؛ ثم إنه حج فوافى عكاظ فلقي بها الحرث بن كعب؛ ورأى عليه بردى ابنه سعيد فعرفهما، فقال له: هل أنت مخبري ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال بلى: لقيت غلاما؛ هما عليه فسألته إياهما؛ فأبى علي فقتلته؛ وأخذت برديه هذين؛ فقال ضبة: بسيفك هذا؟ قال نعم؛ فقال: فأعطنيه أنظر إليه فإني أظنُّه صارما؛ فأعطاه الحرث سيفه؛ فلما أخذه من يده هزه وقال: الحديث ذو شجون، ثم ضربه حتى قتله؛ فقيل له يا ضبة: أفي الشهر الحرام؟ فقال: سبق السيف العذل. 2 جهلة الفتوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 135- بين يدي سليمان بن وهب وزير المهتدي بالله : ولما وَلَّي المهتدي بالله1 بن الواثق بن المعتصم سليمان بن وهب وزارته، قام إليه رجل من ذوي حُرْمته، فقال: "أعز الله الوزير، أنا خادمك، المؤمِّل لدولتك، والسعيد بأيامك، والمنطوي القلب على ودّك، المنشور اللسان بمدحك، المرتهن بشكر نعمتك". "زهر الآداب 3: 197".   1 تولى الخلافة سنة 255 إلى سنة 256هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 أحمد بن أبي داود والواثق ... 136- أحمد بن أبي دُواد والواثق "المتوفي سنة 233 هـ": دخل أحمد بن أبي دُواد1 على الواثق فقال: ما زال اليوم قوم في ثَلْبك ونقصك، فقال: يا أمير المؤمنين، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ 2 مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، والله ولي جزائه، وعقاب أمير المؤمنين من ورائه،   1 هو القاضي أبو عبد الله أحمد بن أبي دُواد من كبار أئمة المعتزلة، ونصراء الاعتزال، كان مقربًا من المأمون أثيرًا عنده، ولما ولي المعتصم الخلافة جعله قاضي القضاة: وعزل يحيى بن أكثم، وخص به أحمد، حتى كان لا يفعل فعلًا باطنًا ولا ظاهرًا إلا برأيه، لما مات المعتصم، وتولى بعده ابنه الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دُواد عنده، ثم فلج في أول خلافة المتوكل، فقلد ولده محمدا القضاء مكانه، وتوفي سنة240هـ. 2 أي معظمه، وفي قراءة "كبره" بضم الكاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وما ذلَّ يا أمير المؤمنين من أنت ناصره، وما صلق مَنْ كنت جارًا له، فما قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت يا أباعبد الله: وسعى إليَّ بعيب عَزَّةَ معشرٌ ... جعل الإله خدودَهن نعالها "زهر الآداب 3: 208، والعقد الفريد 1: 141". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 ابن أبي داود والواثق أيضا ... 137- ابن أبي دُواد والواثق أيضا: وقال الواثق يوما لابن أبي دواد تضجُّرًا بكثرة حوائجه: قد أخليتُ بيوت الأموال بطلباتك للَّائِذِين بك، والمتوسلين إليك، فقال: "يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائرها موصولة لك، ومالي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بخلود المدح"، فقال: "والله لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوِّي في همتك فينا ولنا"، وأمر، فأخرج له خمسة وثلاثين ألف درهم. "زهر الآداب 2: 310". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 ابن أبي داود وابن الزيات ... 138- ابن أبي دُواد وابن الزيات: وكان بين القاضي أحمد بن دُواد وبين الوزير محمد بن عبد الملك الزيات1 منافسة وشحناء، حتى منع الوزير شخصًا كان يصحب القاضي، ويختص بقضاء حوائجه، من التِّرداد إليه، فبلغ ذلك القاضي، فجاء إلى الوزير فقال له: "والله ما أجيئك متكثِّرًا بك من قِلَّة، ولا متعزرًا بك من ذِلَّة، ولكن أمير المؤمنين رتَّبك مرتبة أوجبت لقاءك، فإن لقيناك فله، وإن تأخَّرنا عنك فلك2". "وفيات الأعيان 1: 25".   1 وزير للمعتصم، والواثق من بعده، ثم نكبه المتوكل كما سيأتي. 2 وكان الواثق قد أمر إلا يرى أحد من الناس ابن الزيات، إلا قام له، فكان ابن أبي دواد إذا رآه قام واستقبل القبلة يصلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 139- الجاحظ وابن أبي داود : وكان الجاحظ مختصًّا بمحمد بن عبد الملك الزيات، منحرفًا عن أحمد بن أبي دواد، فلما نُكب ابن الزيات1، حُمِل الجاحظ مقيَّدًا من البصرة، وفي عنقه سلسلة، وعليه قميص سَمَل2، فلما دخل على القاضي أحمد قال له: "والله ما أعلمك إلا متناسيا للنعمة، كفورًا للصنيعة، مَعْدِنا للمساوئ، وما فتنتني باستصلاحي لك، ولكن الأيام لا تُصْلِح منك، لفساد طويَّتك، ورداءة دخيلتك، وسوء اختيارك، وغالب طباعك". فقال الجاحظ: "خفِّضْ عليك -أيَّدك الله- فوالله لأن يكون لك الأمر عليَّ، خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن، أحسن في الأُحْدُوثة عليك، من أن أحسن وتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك، أجمل بك من الانتقام مني". فقال أحمد: والله ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام، فحلّ عنه الغُلّ والقيد، وأحسن إليه، وصَدَّره في المجلس. "زهر الآداب 2: 106، والمنية والأمل ص39".   1 كان في نفس المتوكل من ابن الزيات شيء كثير؛ وذلك أنه لما مات الواثق -وهو أخو المتوكل- أشار ابن الزيات بتولية ولد الواثق، وأشار ابن أبي دواد بتولية المتوكل، وقام في ذلك وقعد حتى عممه بيده وألبسه البردة، وقبله بين عينيه، وكان المتوكل في أيام الواثق يدخل على ابن الزيات فيتجَهَّمه ويغلظ له في الكلام -يتقرب بذلك إلى الواثق- فحقد المتوكل ذلك عليه، فلما ولي الخلافة، أمهله أربعين يومًا حتى يطمئن إليه، ثم قبض عليه وسجنه، واستصفى أمواله، وكان ابن الزيات إبان وزارته قد اتخذ تنورًا من حديد، وأطراف مساميره إلى داخل، وهي قائمة مثل رءوس المسال، يعذب فيه من يستحقون العقوبة وكان إذا قال أحدهم ارحمني أيها الوزير قال له: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أمر بادخاله في التنور: وقيده بخمسة عشر رطلًا من الحديد، فقال: يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال له: الرحمة خور في الطبيعة، وبقي في العذاب أربعين يوما حتى مات سنة 233هـ. 2 السمل: الحلق من الثياب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 أبو العيناء وابن أبي داود ... 140- أبو العَيْنَاء وابن أبي دُواد: وقال أبو العيناء لابن أبي دواد: إن قومًا من أهل البصرة قَدِمُوا إليَّ "سُرَّ مَنْ رأى" يدا عليَّ، فقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، فقلت: إن لهم مكرا، فقال: {ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلا بِأَهْلِهِ} ، فقلت: إنهم كثير، قال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . "زهر الآداب 2: 310، والعقد الفريد 1: 141". تم الجزء الثالث، ويليه ذيل الجمهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 فهرس الجزء الثالث من جمهرة خطب العرب الخطب والوصايا في العصر العباسي الأول ... فهرس الجزء الثالث من جمهرة خطب العرب الباب الرابع الخطب والوصايا في العصر العباسي الأول رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 1 1 خطبة أبي العباس السفاح وقد بويع بالخلافة 3 2 خطبة دواد بن علي 11 3 خطبة داود بن علي وقد أرتج على السفاح 11 4 خطبة أخرى له 12 5 خطبة للسفاح بالكوفة 12 6 خطبة السفاح بالشام حين قتل مروان 13 7 خطبة عيسى بن علي 14 8 خطبة داود بن علي بمكة 15 9 خطبته بالمدينة 15 10 خطبة أخرى له 16 11 خطبته وقد بلغه أن قوما أظهروا شكاة بني العباس 17 12 خطبة وقد أرتج عليه 18 13 خطبة صالح بن علي 18 14 خطبة سديف بن ميمون 20 15 خطبة أبي مسلم الخراساني 23 16 خالد بن صفوان وأخوال السفاح 24 17 خطبة بن صفوان ورجل من بني عبد الدار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 25 18 خالد بن صفوان يرثي صديقا له 25 19 خالد بن صفوان يمدح رجلا 25 20 كلمات بليغة لخالد بن صفوان 26 21 عمارة بن حمزة والسفاح 27 خطب أبي جعفر المنصور 27 22 خطبته بمكة 27 23 خطبته بعد بناء بغداد 28 24 خطبته بمدينة السلام 28 25 خطبته وقد أخذ عبد الله بن الحسن وأهل بيته 30 26 خطبته حين خروج محمد وإبراهيم ابن عبد الله بن الحسن 31 27 خطبته وقد قتل أبامسلم الخراساني 3 28 خطبة آخرى 32 29 قوله وقد قوطع في خطبته 33 30 المنصور يصف خلفاء بني أمية 33 31 المنصور عبد الرحمن الداخل 35 وصايا المنصور لابنه المهدي 35 32 وصية له 36 33 وصية أخرى به 36 34 وصية أخرى له 38 35 خطبة النفس الزكية حين خرج على المنصور 39 36 وصية عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لابنه 39 37 قوله وقد قتل ابنه محمد 40 38 امرأة محمد بن عبد الله والمنصور 40 39 جعفر الصادق والمنصور 42 40 صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب 42 41 استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 43 24 استعطاف أهل الشام المنصور أيضًا 44 43 أبو جعفر المنصور والربيع 45 44 مقام عمرو بن عبيد بين يدي المنصور 46 45 مقام رجل من الزهاد بين يدي المنصور 49 46 مقام الأوزاعي بين يدي المنصور 51 47 نصيحة يزيد بن عمر بن هبيرة المنصور 52 48 معن بن زائدة والمنصور 52 49 معن بن زائدة وأحد زواره 53 50 المنصور وأحد الأعراب 53 51 أعرابية تعزي المنصور وتهنئه 54 52 خطبة محمد بن سليمان 54 53 وصية مسلم بن قتيبة 55 54 خطبة المهدي 57 مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان 58 55 مقال سلام صاحب المظالم 59 56 مقال الربيع بن يونس 60 57 مقال الفضل بن العباس 62 58 مقال علي بن المهدي 64 59 مقال موسى بن المهدي 65 60 مقال العباس بن محمد 66 61 مقال هارون بن المهدي 68 62 مقال صالح بن علي 69 63 مقال محمد بن الليث 74 64 مقال معاوية بن عبد الله 72 65 مقال المهدي 74 66 مقال محمد بن الليث 75 67 مقال المهدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 77 68 ابن عتبة يعزي المهدي ويهنئه 77 69 يعقوب بن داود يستعطف المهدي 78 70 رجل من أهل خراسان يخطب بحضرة المهدي 79 71 مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي 80 72 عظة شبيب بن شيبة للمهدي 80 73 خطبته في تعزية المهدي بابنته 80 74 خطبة أخرى له في مدح الخليفة 81 75 كلمات لشبيب بن شيبة 81 76 خطبة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب يوم ولي الرشيد الخلافة 83 77 خطبة هارون الرشيد 85 78 وصية الرشيد لمؤدب ولده الأمين 85 79 خطبة لجعفر بن يحيى البرمكي 88 80 استعطاف أم جعفر بن يحيى للرشيد 91 81 خطبة يزيد بن مزيد الشيباني 92 82 خطبة عبد الملك بن صالح 93 83 عبد الملك بن صالح يعزي الرشيد ويهنئه 93 84 غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح 96 85 قوله بعد خروجه من السجن 97 86 وصية عبد الملك بن صالح لابنه 99 87 وصية أخرى له 99 88 كلمات حكيمة لابن السماك 99 89 ابن السماك والرشيد 101 الفتنة بين الأمين والمأمون وفد الأمين إلى المأمون 101 90 خطبة العباس بن موسى 102 91 خطبة عيسى بن جعفر 102 92 خطبة محمد بن عيسى بن نهيك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 103 93 خطبة صالح صاحب المصلى 103 94 خطبة المأمون 104 95 وصية السيدة زبيدة لعلي بن عيسى بن ماهان 105 96 وصية الأمين لابن ماهان 106 97 استهانة ابن ماهان بأمر طاهر بن الحسين 107 98 حزم طاهر وقوة عزمه 108 99 طاهر يشد عزيمة جنده 109 100 وصف الفضل بن الربيع غفلة الأمين 110 101 وصية الأمين لأحمد بن مزيد 111 102 مقال عبد الملك بن صالح للأمين 112 103 الشغب في جيش عبد الملك بن صالح 113 104 خطبة الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان يدعو إلى خلع الأمين 114 105 خطبة محمد بن أبي خالد 114 106 إطلاق الأمين من سجنه ورده إلى مجلس الخلافة 115 107 خطبة داود بن عيسى يدعو إلى خلع الأمين 117 108 خطبة الأمين وقد تولى الأمر عنه 118 109 استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون 119 110 خطبة طاهر بن الحسين ببغداد بعد مقتل الأمين 120 خطب المأمون 120 111 خطبته وقد ورد عليه نعي الرشيد 120 112 خطبته وقد سلم الناس عليه بالخلافة 121 113 خطبته يوم الجمعة 122 114 خطبته يوم الأضحى 123 115 خطبته يوم الفطر 124 116 خطبة ابن طباطبا العلوي 126 117 استعطاف إبراهيم بن المهدي المأمون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 رقم الصفحة رقم الخطبة الخطبة أو الوصية 128 118 إبراهيم المهدي وبحتيشوع الطبيب 129 119 استعطاف إسحاق بن العباس المأمون 129 120 أحد وجوه بغداد يمدح المأمون حين دخلها 130 121 أحد أهل الكوفة يمدح المأمون 130 122 محمد بن عبد الملك بن صالح بين يدي المأمون 131 123 الحسن بن سهل يمدح المأمون 131 124 يحيى بن أكثم يمدح المأمون 132 125 أحد بني هاشم والمأمون 132 126 رجل يتظلم إلى المأمون 133 127 عمرو بن سعيد والمأمون 133 128 الحسن بن رجاء والمأمون 133 129 سعيد بن مسلم والمأمون 134 130 أبو زهيان يعظ سعيد بن مسلم 134 131 وصية طاهر بن الحسين لابنه عبد الله لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينها 144 132 خطبة عبد الله بن طاهر 145 133 العباس بن المأمون والمعتصم 145 134 استعطاف تميم بن جميل للمعتصم 147 135 بين يدي سليمان بن وهب وزير المهدي بالله 147 136 أحمد بن أبي دواد والواثق 148 137 ابن أبي دواد والواثق أيضا 148 138 ابن ابي دواد وابن الزيات 149 139 الجاحظ وابن أبي دواد 150 140 أبو العيناء وابن أبي دواد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 فهرس أعلام الخطباء : مرتب بترتيب الحروف الهجائية مع إتباع اسم كل خطيب بأرقام الصفحات التي وردت فيها خطبه "1" إبراهيم بن المهدي: 125 – 117 ابن السماك: 99 ابن طباطبا العلوي: 124 ابن عتبة: 77 أبو جعفر المنصور: 27 – 27 – 30 – 31 – 32 – 29 – 33 – 33 – 42 أبو زهمان العلائي: 134 أبو العباس السفاح: 1 – 13 – 14 أبو مسلم الخراساني: 20 أحمد بن أبي دواد: 147 – 148 – 149 إسحاق بن العباس: 128 أم جعفر بن يحيى: 88 الأمين: 105 – 110 – 115 الأوزاعي: 49 "ت" تميم بن جميل: 145 "ج" الجاحظ: 149 جعفر الصادق: 40 جعفر بن يحيى البرمكي: 85 "ح" الحارث بن عبد الرحمن: 42 الحسن بن رجاء: 133 الحسن بن سهل: 131 الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان: 113 "خ" خالد بن صفوان: 22 – 24 – 25 "د" داود بن علي: 8 –11- 11 – 12 – 14 – 15 – 15 داود بن عيسى: 115 "ر" الربيع بن يونس: 44 – 59 "ز" السيدة زبيدة: 104 "س" سديف بن ميمون: 8 سعيد بن مسلم: 133 سلام "صاحب المظالم": 55 "ش" شبيب بن شيبة: 80 - 81 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 "ص" صالح "صاحب المصلى": 103 صالح بن عبد الجليل: 79 صالح بن عليّ: 18 – 68 "ط" طاهر بن الحسين: 107 – 108 – 119 – 134 "ع" العباس بن المأمون: 145 العباس بن محمد: 65 العباس بن موسى: 101 عبد الله بن الحسن: 39 عبد الله بن طاهر: 144 عبد الله بن صالح: 92 – 93 – 96 – 97 – 111 عثمان بن خزيم: 43 علي بن عيسى بن ماهان: 106 علي بن المهدي: 62 عمارة بن حمزة: 26 عمرو بن سعيد: 133 عمرو بن عبيد: 45 عيسى بن جعفر: 102 عيسى بن علي: 13 "ف" الفضل بن الربيع: 109 – 118 الفضل بن العباس: 60 "م" المأمون: 103 – 120 – 121 – 122 – 123 محمد بن أبي خالد: 114 محمد بن سليمان: 54 محمد بن عبد الملك بن صالح: 130 محمد بن عيسى بن نهيك: 102 محمد بن الليث: 69 – 74 مسلم بن قتيبة: 54 معاوية بن عبد الله: 74 معن بن زائدة: 52 المهدي: 55 – 72 – 75 "ن" النفس الزكية: 38 "هـ" الهادي: 64 هارون الرشيد: 66 – 83 – 85 "ى" يحيى بن أكثم: 131 يزيد بن عمر بن هبيرة: 51 يزيد بن مزيد الشيباني: 91 يعقوب بن داود: 77 يوسف بن القاسم بن صبيح: 81 -تم فهرس أعلام خطب العرب- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 ذيل جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة فهرس المآخذ ... فهرس المآخذ نفح الطيب للمقري: الجزء الأول – الثاني – الرابع مطمح الأنفس، للفتح بن خاقان: المعجب، في تلخيص أخبار المغرب: لمحيى الدين بن علي المراكشي الإحاطة: في أخبار غرناطة،: لسان الدين بن الخطيب: الأمالي: لأبي علي القالي: الجزء الأول – الثاني – ذيل الأمالي الأغاني: لأبي الفرج الأصبهاني: الجزء الثالث عشر – السابع عشر صبح الأعشى: لأبي العباس القلقشندي: الجزء الأول نهاية الأرب: لشهاب الدين النويري: الجزء السابع عيون الأخبار: لابن قتيبة الدينوري: المجلد الثاني الكامل: لأبي العباس المبرد: الجزء الأول العقد الفريد: لابن عبد ربه: الجزء الأول – الثاني – الثالث زهر الآداب: لأبي إسحق الحضري: الجزء الأول – الثاني – الثالث البيان والتبيين: الجاحظ: الجزء الأول – الثاني – الثالث أمالي السيد المرتضى: الجزء الرابع مجمع الأمثال: لأبي الفضل الميداني: الجزء الأول – الثاني تاريخ الأمم والملوك: لابن جرير الطبري: الجزء السابع – الثامن مروج الذهب: للمسعودي: الجزء الثاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 الصناعتين: لأبي هلال العسكري:: بلاغات النساء: لابن أبي طاهر طيفور: سرح العيون: لابن نباتة المصري: سيرة عمر بن عبد العزيز: لابن الجوزي: مواسم الأدب للسيد جعفر البيتي العلوي: الجزء الثاني بلوغ الأرب: للسيد محمود شكري الألوسي: الجزء الثالث مفتاح الأفكار: للشيخ أحمد مفتاح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 الباب الأول: في خطب الأندلسيين والمغاربة خطبة عبد الرحمن الداخل "المتوفى سنة 171هـ": يوم حربه مع يوسف الفِهْري صاحب الأندلس. لما اشتد الكرب بين يدي عبد الرحمن الداخل1، يوم حربه مع يوسف الفِهْرِي2 صاحب الأندلس، ورأى شدة مقاساة أصحابه قال: "هذا اليوم هو أس ما يُبْنَى عليه، إمَّا ذلَّ الدهر، وإمَّا عزّ الدهر، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون، وتَرْبحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون". ولما أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قُرْطبة قال:   1 هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان المعروف بالداخل، وذلك أنه لما أصاب دولتهم بالمشرق ما أصابها، وتتبع السفاح من بقى من بني أمية بالقتل والإهلاك، فر عبد الرحمن إلى الأندلس، واستطاع بهمته أن يؤسس هنالك دولة أورثها عقبه حقبة من الدهر، وهي دولة بني أمية في المغرب من سنة 138 إلى سنة 422هـ، وكانت عاصمة ملكها قرطبة، وهي مدينة على نهر الوادي الكبير. 2 يوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع باني القيروان، وأمير معاوية على أفريقية والمغرب، وكانت ولاية يوسف الفهري الأندلسي سنة 129 فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر، وعنه انتقل سلطانها إلى بني أمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 "لا تستأصلوا شَأْفة1 أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوةً منهم" -يشير إلى استبقائهم، ليستعان بهم على أعداء الدين. "نفح الطيب 2: 70".   1 الشأفة: قرحة تخرج من أسفل القدم فتكوى فتذهب، أو إذا قطعت مات صاحبها، والأصل، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة، أو معناه أزاله من أصله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 عبد الرحمن الداخل ورجل من جند فنسرين ... 1- عبد الرحمن الداخل ورجل من جند قنسرين: ولما أذعن يوسف صاحب الأندلس لعبد الرحمن، واستقر ملكه، واستحضر الوُفُود إلى قرطبة، فانثالوا1 عليه، ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام، في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم، بكلام سَرَّهم، وطيَّب نفوسهم. وفي بعض مجالسهم هذه مَثَل بيد يديه رجل من جند قِّنِسْرِين2 يستجديه، فقال له: "يابن الخلائف الراشدين، والسادة الأكرمين، وإليك فَرَرْت، وبك عُذْت، من زمنٍ ظلومٍ، ودهرٍ غَشُوم، قلَّلَ المال، وكثَّر العيال، وشَعَّث3 الحال، فصيَّر إلى نداك المآل، وأنت وليُّ الحمد والمجد، والمرجوَّ للرِّفْد4". فقال له عبد الرحمن مسرعا: "قد سمعنا مقالتك، وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كُرْهنا لسوء مقامك، فلا تعودَنَّ ولا سِواك لمثله، من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة، والإلحاف في الطِّلْبة5، وإذا أَلَمَّ بك خَطْبٌ، أو حَزَبَك6 أمر، فارفعه إلينا في رقعة لا تعْدُوك، كيما نستر عليك خَلَّتك، ونكُفُّ شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالِكِك ومالِكِنا -عز وجهه- بإخلاص الدعاء، وصدق النية".   1 انثال: انصب، أي تتابعوا وتوافدوا عليه. 2 بالشام. 3 شعث الأمر: نشره وفرقه. 4 الرفد: العطاء والصلة. 5 الطلبة: الطلب. 6 أي اشتد عليك، والخلة الحاجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وأمر له بجائزة حسنة، وخرج الناس يتعجبون من حسن منطقه، وبراعة أدبه وكفّ فيما بعدُ ذوو الحاجات عن مقابلته بها شِفَاهًا في مجلسه. "نفح الطيب 2: 68". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 3- عبد الرحمن الداخل ورجل من جنده يهنئه بفتح سرقسطة ولما فتح عبد الرحمن الداخل سَرَقُسْطَة1، وحصل في يده ثائِرُها الحسين الأنصاري، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله، وأقبل خوَّاصُه يهنئونه، فجرى بينهم أحد من لا يُؤْبَه به من الجند، فهنَّأَه بصوت عالٍ، فقال له عبد الرحمن: "والله لولا أن هذا اليوم يوم أَسْبَغَ عليَّ فيه النعمة من هو فوقي، فأوجب عليَّ ذلك أن أُنعم فيه على من هو دوني، لأصْلَيْتك ما تعرَّضت له من سوء النَّكال، مَنْ تكون؟ حتى تقبل مهنئًا رافعًا صوتك، غير متلجلج ولا مهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك! وإن جهلك ليحملك على العَوْد لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة". فقال: "ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفعَ لي متى أتيت بمثل هذه الزَّلة، لا أعدمنيه الله تعالى". فتهلل وجه الأمير، وقال: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبِّهونا على أنفسكم إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها، ورفع مرتبته وزاد في عطائه. "نفح الطيب 2: 70".   1 مدينة على نهر إبره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 4- تأديب عبد الرحمن الأوسط لابنه المنذر : كان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط1 سيئ الخلق في أول أمره، كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مُفْرِط القَلَق مما يقال في جانبه، معاقبًا على ذلك من يقدر على معاقبته،   1 هو عبد الرحمن الأوسط -الثاني- ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، حكم الأندلس من سنة 206 إلى سنة 238هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن، فطال ذلك على الأمير، فأمر ثِقَةً من ثقاته أن يبني بجبل منقطع عن العمران بناء يُسْكِن فيه ابنه، وألا يدع أحدًا من أصحابه يزوره، فلما استقر المنذر في ذلك المكان، وبقي وحده، ونظر إلى ما سُلِبَه من الملك، ضَجِر وقال للثقة: عسى أن يصلني غِلماني وأصحابي آنَسُ بهم! فقال له: إن الأمير أمر ألا يصلك أحد، وأن تبقى وحدك، لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية، فعلم أن الأمير قصد بذلك محْنَته وتأديبه، فكتب إليه يشكو استيحاشه1 بمكانه، فلما وقف الأمير على رقعته، وعلم أن الأدب بلغ به حَقَّه استدعاه، فقال له: "وصلت رقعتك، تشكو ما أصابك من توحُّش الانفراد، في الموضع، وترغب أن تأْنَسَ بخَوَلك2 وعبيدك وأصحابك، وإن كان لك ذنب يترتب عليه أن تطول سكنك في ذلك المكان، وما فعلت ذلك عقابًا لك، وإنما رأيناك تُكثر الضَجَر والتشكِّي من القال والقِيل، فأردنا راحتك بأن نَحْجُب عنك سماع كلام من يرفع لك ويَنِمُّ، حتى تستريح منهم". فقال له: "سماع ما كنت أضجَرُ منه، وأخفُّ عليَّ من التوحُّد والتوحُّش، والتخلِّي مما أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي". فقال له: "فَإِذْ قد عرفت وتأدَّبت، فارجع إلى ما اعتدته، وعَوِّل على أن تسمع كأنك لم تسمع، وترى كأنك لم تر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تكاشفتم ما تدافنتم"، واعلم أنك أقرب الناس إليَّ، وأحبهم فيَّ، وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكارٍ عليّ، وسُخْط لما أفعله في جانبك، أو جانب غيرك،   1 ونص الكتاب: "إني قد توحشت في هذا الموضع توحشًا ما عليه من مزيد، وعدمت فيه من كنت آنس إليه، وأصبحت مسلوب العز، فقيد الأمر والنهي، فإن كان ذلك عقابًا لذنب كبير ارتكبته، وعلمه مولاي ولم أعلمه، فإني صابر على تأديبه، ضارع إليه في عفوه وصفحه. وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر 2 الخول: مثل الخدم والحشم وزنا ومعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 مما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني، لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستْر بعضها عن بعض، فيما يجول فيها، وإنك لذو همة ومطْمَح، ومن يكن هكذا يصبر ويَغْضِ ويحمل، ويُبٍدل بالعقاب الثواب، ويصيِّر الأعداء من قبيل الأصحاب، ويصبر من الشخص على ما يسوء، فقد يَرَى منه بعد ذلك ما يَسُرّ، ولقد يَخِفُّ عليَّ اليوم مَنْ قاسيتُ من فعله وقوله ما لو قطَّعتهم عضوا عضوا لما ارتكبوه مني، ما شفيتُ منهم غيظي، ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال، لاسيما عند الاقتدار أولى، ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء، فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض، ونظرت إلى المسيء يعود محسنًا، والمحسن يعود مسيئًا، وصرتُ أندم على من سبق له مني عقاب، ولا أندم على من سبق له مني ثواب؛ فالْزَم يا بني معاليَ الأمور، وإنَّ جِمَاعَها في التغاضي، ومن يتغاض لا يسلم له صاحب، ولا يُقْرَب منه جانب، ولا ينال ما تترقَّي إليه همته، ولا يظفر بأمله، ولا يجد معينًا حين يَحْتَاج إليه". فقبَّل المنذر يده وانصرف، ولم يزل يأخذ نفسهُ بما أوصاه والده، حتى تخلّق بالخلق الجميل، وبلغ ما أوصاه به أبوه ورُفع قدره. "نفح الطيب 2: 327". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 5- عبد الرحمن الأوسط وابنه المنذر أيضًا: وقال له أبوه يومًا: إن فيك لَتيهًا مُفْرِطًا، فقال له: حُقَّ لفرعٍ أنت أصله أن يعلو، فقال له: يا بني، إن العيون تَمُجُّ التَّيَّاه، والقلوب تَنْفر عنه، فقال: يا أبي، لي من العز والنسب وعلوِّ المكان والسلطان ما يجلّ1 عنك ذلك، وإني لم أر العيون إلا مقبلةً عليّ، ولا الأسماع إلا مصغية إليّ، وإن لهذا السلطان رونقًا يريقه التبذّل، وعلوًّا يخفضه الانبساط، ولا يصونه ويشرِّفه إلا التِّيه والانقباض2، وإن هؤلاء الأنذال،   1 في الأصل: "يجمل"، وأرى صوابه: "يجل". 2 جرى وذلك على سنن أبي مسلم الخراساني، وكان يقول لقواده إذا أخرجهم: "لا تكلموا الناس إلا رمزًا، ولا تلحظوهم إلا شزرًا، لتمتلئ صدورهم من هيبتكم". انظر العقد الفريد 2: 299. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 لهم ميزان يَسْبُرُون1 به الرجل منا، فإن رأوه راجحًا؛ عَرَفوا له قدر حاجته، وإن رأوه ناقصًا عاملوه بنقصه، وصيَّروا تواضعه صغِرًا، تخفُّضه خِسَّة"، فقال له أبوه: لله أنت! فَابْقَ وما رأيت. "نفح الطيب 2: 329".   1 السبر. امتحان غور الجرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 6- يعقوب بن عبد الرحمن الأوسط وأحد خدامه : ومدح بعض الشعراء يعقوب بن عبد الرحمن الأوسط، فأمر له بمال جزيل، فلما كان مثل ذلك الوقت، جاءه بمدح آخر، فقال أحد خُدَّام يعقوب: هذا اللئيم له دين عندنا يقتضيه! فقال الأمير: "يا هذا، إن كان الله تعالى خلقك مجبولًا على كره رب الصنائع، فاجرِ على ما جُبِلْتَ عليه في نفسك، ولا تكن كالأجرب يُعْدي غيره، وإن هذا رجل قصدنا قبلُ، فكان منا ما أَشِر1 به، وحمله على العودة، وقد ظن فينا خيرًا، فلا تخيِّب ظنَّه، والحديث أبدًا يحفظ القديم، وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر، ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا، حتى يُكْثر تَرْدَاده، ويُدِيم نعمنا حتى نجد ما نُنْعِم به عليه، ويحفظ علينا مُرُوءتنا، حتى يعيننا على التجمّل معه، ولا يُبْلينا بجليس مثلك، يَقْبِض أيدينا عن إسداء الأيادي". وأمر للشاعر بما كان أمر له به قبلُ، وأوصاه بالعود عند حلول ذلك الأوان ما دام العمر. "نفح الطيب 2: 330".   1 أشر: مرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 7- وفاء الوزير ابن غانم لصديقه الوزير هاشم بن عبد العزيز واعتذاره عنه لدى الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط: كان الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم صديقًا للوزير هاشم بن عبد العزيز، ثابتًا على مودته، فلما قضى الله على هاشم بالأسر، أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأمويّ1 ذكره في جماعة من خُدَّامه، والوليد حاضر، فنسبه إلى الطَيْش والعَجَلة والاستبداد برأيه، فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد، فقال: "أصلح الله تعالى الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخيُّر في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حقَّ الإقدام، ولم يكن مِلَاك النصر بيده، فخذله من وَثِق به، ونَكَل عنه من كان معه، فلم يزحزح قَدَمَه عن موطن حِفَاظه، حتى ملك مقبلا غير مُدْبِر، مُبْلِيا غير فَشِلٍ، فجوزي خيرًا عن نفسه وسلطانه؛ فإنه لا طريق للملام عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغَشُوم. وأيضًا فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضا للأمير، واجتنابًا لِسُخْطِه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالِبَ التقصير، فذلك معدودٌ في سوء الحظ". فأعجب الأمير كلامه، وشكر له وفاءه، وأقصر عن تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه. "نفح الطيب 2: 230".   1 هو الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط، حكم الأندلس من سنة 238 إلى سنة 273هـ، وكان غزاه لأهل الشرك والخلاف، وربما أوغل في بلاد العدو ستة أشهر أو أكثر يحرق وينسف وله في العدو وقعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع لم يعرف مثلها في الأندلس قبلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 8- خطبة منذر بن سعيد البَلُّوطِي 1 المتوفى سنة 355هـ: في الاحتفال بقدوم رسل ملك الروم: روى المؤرخون أن الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله2، بلغ من عزَّة الملك، ورفعة السلطان بالأندلس، أن كانت ملوك الروم والإفرنجة تَزْدَلِف إليه، تطلب مُهَادَنَته، وتهدي إليه أنفس الذخائِر، ومن جملتهم قسطنطين بن ليون صاحب القسطنطينية، فقد رَغِب في موادعته، وبعث إليه سنة338هـ وفدًا من قبله بهدية له، فتأهَّب الناصر لورودهم، واحتفل بقدومهم احتفالًا رائعًا، أحبَّ أن يقوم فيه الخطباء والشعراء بين يديه؛ لتَذْكر جلالة ملكه، وعظيم سلطانه، وتصف ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته، وتقدم إلى الأمير الحَكَم ابنه ووليّ عهده، بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، فأمر الحكم صنيعَه الفقيه محمد بن عبد البرّ بالتأهَّب لذلك، وكان يدَّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره، وحضر المجلس السلطاني، فلما قام يحاول التكلم، بَهَره هول المقام، وأُبَّهَة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظة، بل غُشِى عليه وسقط إلى الأرض، فقيل لأبي عليّ القالي -صاحب الأمالي وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق: قم فارقع هذا الوَهْيَ3، فقام فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم انقطع به القول، فوقف ساكتا متفكِّرا   1 ولد سنة 265هـ، وتوفي سنة355هـ، وكان خطيبًا بليغًا عالمًا بالجدل حاذقًا فيه، شديد العارضة حاضر الجواب عتيده، ثابت الحجة، ولى بقرطبة قضاء الجماعة -المعبر عنه في المشرق بقضاء القضاة- لعبد الرحمن الناصر، ثم لابنه الحكم المستنصر، ستة عشر عامًا من سنة 339 إلى سنة 355، لم يحفظ عليه فيها جور في قضية، ولا قسم بغير سوية، ولا ميل لهوى. 2 هو عبد الرحمن الثالث ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الثاني ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وحكم الأندلس من سنة 300هـ إلى سنة 350هـ، وهو أول من تسمى من أمراء بني أمية بالأندلس بأمير المؤمنين عندما الْتَاثَ أمر الخلافة بالمشرق، وغلب موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مولاه مؤنس المظفر سنة 317هـ. 3 الوهى: الشق في الشيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد البَلُّوطِي -وكان ممن حضر في زُمْرَة الفقهاء- قام من ذاته بدرجة من مِرَقاته، فوصل افتتاح أبي عليّ لأول خطبته بكلام كان يَسُحه سَحًّا، كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة: فقال: "أما بعد حمد الله، والثناء عليه، والتَّعْدَاد لآلائه، والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيِّه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقامًا، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأَصغُوا1 إليَّ معشر المَلَأ بأسماعكم، وأتقِنوا عني2 بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمُحِقِّ صدقت، وللمُبِطل كذبت، وإن الجليل تعالى في سمائه، وتقدَّس في صفاته وأسمائه، أمر كًلِيمه موسى -صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه- أن يذكِّر قومه بأيام الله جل وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، وإني أذكِّركم بأيام الله عندكم، وتَلَافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين، التي لَمَّت شَعْثَكم، وأمنت سِرْبكم3، ورفعت قوتكم، بعد أن كنتم قليلًا فكَّثركم، ومستضعفين فقوَّاكم، ومستذَلِّين فنصركم، ولَّاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضَرَبت الفتنة سُرَادِقُها على الآفاق، وأحاطت بكم شُعَل النفاق، حتى صرتم في مثل حَدَقة البعير، ومن ضيق الحال، ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة الرخاء4، وانتقلتم بيُمْن سياسته إلى تمهيد كَنَف العافية بعد استيطان البلاء. أنشُدُكم بالله معاشر المَلَأ، ألم تكن الدماء مسفوكة فحقَنها، والسُّبُل مَخُوفة فأمَّنها   1 الذي في كتب اللغة: "أصغى إليه سمعه: أماله، وأصغى إليه: مال بسمعه نحوه" ولعل زيادة الباء في "بأسماعكم" من النساخ لا من الخطيب. 2 هكذا في نفح الطيب، وفي مطمح الأنفس: "ومنوا علي بأفئدتكم". 3 السرب: النفس. 4 في الأصل "فاستبدلتم بخلافتة من الشدة بالرخاء" والصواب ما ذكرنا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 والأموال منتهبَة فأحرزها وحَضَّنَها؟ ألم تكن البلاد خرابا فعمرها، وثغور المسلمين مُهْتَضَمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حتى أذهب الله عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصِرْتُم يدًا على عدوكم، بعد أن كان بَأْسُكم بينكم. فأنْشُدُكم الله، ألم تكن خلافته قُفْل الفتنة بعد انطلاقها من عِقالها؟ ألم يَتَلَاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها؟ ولم يَكِل ذلك إلى القوَّاد والأجناد حتى باشره بالقوَّة والمُهْجَة والأولاد، واعتزل النِّسْوان، وهجر الأوطان، ورَفَض الدَّعة، وهي محبوبة، وترك الرُّكون إلى الراحة، وهي مطلوبة بطويَّة صحيحة، وعزيمة صريحة، وبصيرة ثابتة، نافذة ثاقبة، وريح هابَّة غالبة، ونصرة من الله واقعة واجبة، وسلطان قاهر، وجِدّ ظاهر، وسيف منصور، تحت عدل مشهور، متحمِّلا للنَّصَب، مستقلا لما ناله في جانب الله من التعب، حتى لانت الأحوال بعد شدتها، وانكسرت شوكة الفتنة عند حِدَّتها، ولم يبق لها غاربٌ إلا جَبَّه1، ولا نَجَم2 لأهلها قرن إلا جَدَّه، فأصبحتم بنعمة الله إخوانًا، وبَلَمِّ أمير المؤمنين لشَعَثِكم على أعدائه أعوانًا، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم، وآمال الأَقْصَيْن والأَدْنَيْن مستخدمة إليه وإليكم، يأتون من كل فجٍّ عميق، وبلد سحيق3؛ لأخذ حبل4 بينه وبينكم جُملةً وتفصيلا، ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا، ولن يُخْلِف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده، وتلك أسباب ظاهرة بادية، تدل على أحوال باطنة خافية، دليلها قائم، وجِفْنُها غير نائم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ   1 الغارب: الكاهل، أو ما بين السنام والعنق، وجبه: قطعه. 2 في الأصل: "نجح" وهو تحريف، والصواب "نجم" أي ظهر وطلع، وجده: قطعه. 3 سحيق: بعيد. 4 أي معاهدة بينه وبينكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} ، وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب، ولكل نبإ مستقر، ولكل أجل كتاب. فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه، واسألوه المزيد من نعمائه، فقد أصبحتم بين1 خلافة أمير المؤمنين -أيده الله بالعِصْمة والسداد، وألهمه خالص التوفيق إلى سبيل الرشاد- أحسن الناس حالًا، وأنعمهم بالًا، وأعزهم قرارًا، وأمنعهم دارًا، وأكثَفهم جمعًا، وأجملهم صنعًا، لا تهاجون ولا تُذادون، وأتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون، فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- فإن من نزع يده من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومَرَقَ من الدين، فقد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم أن في التعلق بعِصْمَتها، والتمسك بعُرْوَتِها، حفظَ الأموال، وحقن الدماء، وصلاح الخاصة والدَّهْمَاء2، وأن بدوام3 الطاعة تقام الحدود، وتوفَّى العهود، وبها وُصِلت الأرحام، ووَضَحت الأحكام، وبها سد الله الخلل، وأمَّن السبل، ووطَّأَ الأكناف، ورفع الاختلاف، وبها طاب لكم القرار، واطمأنت بكم الدار، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به، فإنه تبارك وتعالى يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين، وصنوف المُلْحِدِين الساعين في شقِّ عصاكم، وتفريق مَلَئِكم، والآخذ في مخادلة دينكم، وهَتْكِ حريمكم، وتوهين دعوة نبيكم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله رب العالمين، مستغفرًا الله الغفور الرحيم، فهو خير الغافرين".   1 هكذا في نفح الطيب، ومطمح الأنفس، ولعل صوابه: "أصبحتم بخلافة أمير المؤمنين". 2 الدهماء: جماعة الناس. 3 في الأصل: "بقوام"، وأظنه: "بدوام". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه، وثبات جَنَانه، وبلاغة لسانه، وكان الناصر أشدهم تعجبًا منه، فولَّاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء، ثم تُوُفي محمد بن عيسى القاضي، فولَّاه قضاء الجماعة بقرطبة، وأقره على الصلاة بالزهراء. "نفح الطيب 1: 172، ومطمح الأنفس ص43". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 9- خطبة أخرى له وخطب منذر بن سعيد يومًا -وأراد التواضع- فكان من فصول خطبته، أن قال: "حتى متى، وإلى متى، أَعِظُ ولا أتعظ، وأَزْجُر ولا أَنْزَجِر، وأدُلُّ الطريق إلى المستدلِّين، وأبقى مُقِيمًا مع الحائرين! كلا، إن هذا لهو البلاء المبين! إن هي إلا فتنتك تضلُّ بها من تشاء، وتهدي بها من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين. اللهم فَرِّغْنِي لما خلقتني له، ولا تشغَلْني بما تَكَفَّلَتَ لي به، ولا تَحْرِمْنِي وأنا أسألك، ولا تعذِّبني وأنا استغفرك، يا أرحم الراحمين". "نفح الطيب 1: 333". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 10- أحد حساد الرمادي الشاعر والمنصور بن أبي عامر : "المتوفى سنة 394هـ" وقال المنصور بن أبي عامر المُعَافِرِي1 يومًا لأبي عمر يوسف الرَّمادي الشاعر:   1 هو المنصور أبو عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري. دخل جده عبد الملك الأندلس مع طارق، وكان عظيمًا في قومه، وله في الفتح أثر، وكان الحكم بن الناصر قد استوزر ابن أبي عامر، وفوَّض إليه أموره، وترقت حاله عنده، ثم توفي الحكم سنة 366هـ، وولي بعده ابنه هشام، وكانت سنه تسع سنين، فحدثت ابن أبي عامر نفسهُ بالتغلب عليه لصغر سنه وتم له ما أمل، فتغلب عليه، وتربع على سرير الملك، وأمر أن يُحَيّا بتحية الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقب الدعاء للخليفة، ولم يبق لهشام من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء له على المنابر، وكتابة اسمه في السكة والطرر، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكًا سنة 394هـ لسبع وعشرين سنة من ملكه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 كيف ترى حالك معي؟ فقال: "فوق قدري، ودون قدرك1"، فأطرق المنصور كالغضبان، فانْسَلَّ الرَّمادي وخرج وقد نَدِم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأتُ! لا والله، ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق، ما كان ضَرَّنِي لو قلت له: إني بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء! وأنشد: متى يأتِ هذا الموت لا يُلْفِ حاجة ... لنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها وكان في المجلس من يحسُده على مكانه من المنصور، فوجد فُرصة فقال: "وصل الله لمولانا الظفر والسعد، وإن هذا الصنف صنف زور وهَذَيان، لا يشكرون نعمة، ولا يرعَون إلًّا2 ولا ذمةً، كلاب من غَلَب، وأصحاب من أخْصَبَ، وأعداء من أَجْدَب، وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلًّا منهم؟ ". فرفع المنصور رأسه -وكان محامي أهل الأدب والشعر- وقد اسودَّ وجهه، وظهر فيه الغضب المُفْرِط، ثم قال: "ما بال أقوام يُشِيرُون في شيء لم يُسْتَشَارُوا فيه، ويُسِيئُون الأدب بالحكم فيما لا يُدْرُون، أيرضي أم يُسْخِط؟ وأنت أيها المبتعِث للشر دون أن يٌبْعَث، قد علمنا غرضَك، في أهل الأدب والشعر عامَّةً، وحسَدك لهم؛ لأن الناس كما قال القائل:   1 يريد "ودون ما ينبغي أن يعطيه مثلك لمثلي". 2 الإل: العهد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 من رأى الناس له فضـ ... ـلا عليهم حَسَدُوه وعَرَفنا غرضك في هذا الرجل خاصة، ولسنا إن شاء الله نبلِّغ أحدًا غرضه في أحد، ولو بلغناكم بَلَّغنا في جانبكم، وإنك ضربت في حديد بارد1، وأخطأتَ وجه الصواب، فزدت بذلك احتقارًا وصغارًا، وإني ما أطرقت من كلام الرَّمادي إنكارًا عليه، بل رأيت كلامًا يجِلّ عن الأقدار الجليلة، وتعجَّبْتُ من تهدِّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلة من الإحسان الغامر، ما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكمت في بيوت الأموال لرأيت أنها ترجح ما تكلَّم به قلبه، وذَرَّة. وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص، قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا، ولو أبصرتم منا التغير عليهم، فإننا لا نتغيَّر عليهم بُغْضًا لهم، وانحرافًا عنهم، بل تأديبًا وإنكارًا، فإنا مَنْ نريد إبعاده لم نظهر له التغيُّر، بل ننبذه مرة واحدة، فإن التغيُّر إنما يكون لمن يُرَاد استبقاؤه، ولو كنت ماثل السمع لكل أحد منكم في صاحبه؛ لتفرقتم في أيدي سَبَا2، وجُونِبْتُ أنا مجانبة الأجْرب، وإني قد أَطْلَعْتكم على ما في ضميري، فلا تعدلوا عن مَرْضاتي، فتجنَّبوا سخطي بما جنَّبتموه على أنفسكم". ثم أمر أن يُرَدَّ الرَّمَادي، وقال له: أَعِدْ عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمرُ على خلاف ما قدَّرتَ، والثوابُ أولى بكلامك من العقاب، فسَكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلم به. فقال المنصور: "بلغَنا أن النعمان بن المُنْذِر حَشَا فَمَ النابغة بالدرُّ، لكلامٍ   1 من أمثال العرب: "تضرب في حديد بارد" وهو مثل يضرب لمن طمع في غير مطمع. 2 من أمثالهم أيضًا: "ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيدي سبا، وأيادي سبا، واليد: الطريق أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب مختلفة ضرب المثل بهم؛ لأنه لما غرق مكانهم، وذهبت جناتهم، تبددوا في البلاد -انظر القصة في الجزء الأول صفحة 108- وقد بنوا أيدي سبا، وأيادي سبا على السكون لسكون مركبا تركيب خمسة عشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 استملحهُ منه، وقد أمرنا لك بما لا يَقْصُر عن ذلك، ما هو أنْوَهُ وأحسن عائِدةً، وكتب له بمال وخِلَع وموضع يعيش منه، ثم رد رأسه إلى التكلم في شأن الرَّمَادي -وقد كان يغوص في الأرض لو وجد، لشدة ما حلَّ به مما رأى وسمع- وقال: "والعَجَبُ من قوم يقولون: الابتعاد من الشعراء أولى الاقتراب، نعم. ذلك لمن ليس له مفاخرُ، يريد تخليدَها، ولا أياد يرغب في نشرها، فأين الذين قيل فيهم: على مكثرِيهم رزق من يعتريهِم ... وعند المُقِلِّين السَّمَاحة والبَذْل1 وأين الذي قيل فيه: إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين مَبْدَاه ومُحْتَضَره فإذا وَلَّي أبو دُلَف ... ولَّتْ الدنيا على أَثَرِه2 أما كان في الجاهلية والإسلام أكرمُ ممن قيل فيه هذا القول؟ بلى، ولكن صُحْبة الشعراء والإحسان إليهم، أحْيَتْ غابِرَ ذكراهم، وخَصَّتْهُم بمفاخر عصرهم، وغيرهم لم تخلِّد الأمداحُ3 مآثِرَهم، فَدَثَرَ ذكرهم، ودَرَسَ فَخْرَهم". "نفح الطيب 2: 226".   1 البيت لزهير بن أبي سلمى من قصيدة في مدح آل هرم بن سنان. 2 البيتان لعلي بن جَبَلة الأنباري الملقب بالعكوك من قصيدة قالها في مدح أبي دلف القاسم بي عيسى العجلي -وكان جوادًا ممدحًا وفيها يقول: كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره مستعير منه مكرمة ... يكتسبها يوم مفتخره وهذا البيتان الأخيران أحفظا عليه المأمون، فطلبه حتى ظفر به، فسل لسانه من قفاه، ويقال: بل هرب ولم يزل متواريًا منه حتى مات، قال صاحب الأغاني: "وهذا هو الصحيح من القولين، والآخر شاذ". 3 لم أجد هذا الجمع في كتب اللغة، وإنما الذي فيها: "المدحة بالكسر والمديح والأمدوحة بالضم: ما يمدح به، والجمع مدح كعنب ومدائح وأماديح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 11- ابن اللبانة الشاعر وعز الدولة بن المعتصم بن صمادح : لما مات المعتصم بن صُمَادِح1 ملك المَرِيَّة ركب البحر ابنه وولي عهده الواثق عِزُّ الدولة، وفارق المُلْكَ كما أوصاه والده المعتصم. قال أبو بكر بن اللبَّانة الشاعر: ما علمتُ حقيقة جَوْر الدهر، حتى اجتمعت بِبِجَاية2 مع عز الدولة بن المعتصم، فإني رأيت منه خير من يُجْتَمع به، كأنه لم يخلقه الله تعالى إلا للملك والرياسة، وإحياء الفضائل، ونظرت إلى همته تَنِمّ من تحت خُمُوله، كما يَنِمّ فِرِنْدُ3 السيف وكَرَمُه من تحت الصَّدإ، مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ، وحسن استماعه وإسماعه ورقَّة طباعه، ولطافة ذهنه، ولقد ذكرته لأحد من صحِبْته من الأدباء في ذلك المكان، ووصفته بهذه الصفات، فتشوَّق إلى الاجتماع به، ورَغِب إليَّ في أن أستأذِنَه في ذلك، فلما أعلمت عزّ الدولة قال: "يا أبا بكر، إنك لتعلم أنا اليوم في خُمُول وضيق، لا يتَّسع لنا معهما، ولا يجُمل بنا الاجتماع ما أحد، لا سيَّما مع ذي أدب ونباهة، يلقانا بعين الرحمة، ويزورنا بمنَّةِ التفضل في زيارتنا، نكابِد من ألفاظ توجُّعه، وألحاظ تفجُّعه، ما يجدد لنا همًّا قد بلي، ويحيى كمدا قد فني، وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى عن همِّنا، فدعنا كأننا في قبر، نتدرَّع لسهام الدهر، بِدِرْع الصبر، وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم، وامتزجت امتزاج الماء بالخمر، فكأنا لم نكشف حالنا لسِوَانا، ولا أظْهَرْنا ما بنا لغيرنا، فلا نحمل غيرَك بحملك".   1 هو أحد ملوك الطوائف بالأندلس، وكان صاحب المرية "بلد الأندلس على الساحل الجنوبي"، وكان منافسًا للمعتمد بن عباد صاحب أشبيلية مناوئًا له، وقد سعى به لدى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين وأفسد ما بينهما، وكان ابن عباد قد استنصر بابن تاشفين لصد غارة الإسبان، فعبر بجيشه من مراكش إلى الأندلس، وأبلى بلاء حسنًا في قتالهم حتى دارت عليهم الدائرة في وقعة الزلاقة، ثم مال على ملوك الطوائف، فاكتسح دولهم، ودانت له الأندلس. 2 بجاية: بلد بالمغرب على ساحل بلاد الجزائر. 3 جوهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 قال ابن اللبانة: فملأ والله سمعي بلاغة لا تصدر إلا عن سداد، ونفس أبية متمكنة من أعِنَّة البيان، وانصرفت متمثلًا: لسان الفتى نصفٌ، ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صُورةُ اللحم والدمِ وكائن ترى من صامت لك مُعْجِبٍ ... زيادتُه أو نقصُه في التكلم1 "نفح الطيب 2: 228".   1 البيتان لزهير بن أبي سلمى من معلقته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 12- دفاع ابن الفخار عن القاضي الوحيدي : بحضرة ابن تاشفين لما تألَّب بنو حسون على القاضي أبي محمد عبد الله الوحيدي قاضي ماَلَقة1، انبرى للدفاع عنه العالم الأصولي أبو عبد الله بن الفخَّار، فقصد إلى حضرة الإمامة "مَرَّاكُش"، وقام في مجلس أمير المؤمنين، يوسف بن تاشفين، وقد غَصَّ بأربَابِه، فقال: "إنه لمَقَام كريم، نبدأ فيه بحمد الله على الدنوِّ منه، ونصلِّي على خيرة أنبيائه، محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وَصحَابته نجوم الليل والبَهيم2، أما بعد، فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمؤمنين أميرًا، وجعلك للدين الحنيفيّ نصيرا وظهيرًا، ونفزع إليك مما دهَِمنا3 في حماك، ونَبُثُّ إليك ما لحقنا من الضيم، ونحن تحت ظلّ علاك، ويأبى الله أن يُدْهَم من احتمى بأمير المسلمين، ويصاب بضيم من ادَّرعِ بحصنه الحصين، شكوى قمت بها بين يديك، في حق أمرك الذي عَضَده4 مُؤَيِّده، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتَنْقُده، وإن قاضِيَك ابن الوحيدي الذي قدَّمته في مالَقَة للأحكام، ورضِيت   1 بلد بالأندلس على الساحل الجنوبي. 2 الأسود. 3 دهمه كسمع ومنع: غشيه. 4 عضده كنصره: أصاب عضده، والمراد بمؤيده بنو حسون، والمعنى: إن بني حسون -وكانوا أحق بتأييد أمرك وتوطيده- قد أوهنوه وأوهوه بتعرضهم لأحكام القاضي، والطعن فيها، أو معنى عضده: نصره، فالمراد بمؤيده القاضي الوحيدي، والمعنى على ذلك، إن القاضي القائم بأمرك يدأب على نصره، وتثبيت دعائمه، بانتهاجه طريق الحق في حكمه، ولو غضب من جراء ذلك فريق من الرعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 بعدله فيمن بها من الخاصَّة والعوام، لم يزل يدل على حسن اختيارك بحُسن سيرته، ويُرْضى الله تعالى ويرضى الناسَ بظاهره وسريرته، ما عَلِمْنَا عليه من سُوء، ولا دَرَيْنا له موقِف خِزي، ولم يزل جاريًا على ما يُرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا، إلى أن تعرضت بنو حسون للطعن في أحكامه، والهَدِّ من أعلامه، ولم يعلموا أن اهتضام المقدَّم راجع على المقدِّم، بل جمحوا في لجِاجِهِم، فعَمَوا وصَمُّوا، وفعلوا وأمضوا ما به هَمُّوا، وإلى السحب يرفع الكفَّ من قد جَفَّ عنه مَسِيلُ عينٍ ونهر". فملا سمعه بلاغة أعقَبَتْ نصرَه ونصرَ صاحبه. "نفح الطيب 2: 240". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 13- موعظة ابن أبي رَندقة الطرطوشي المتوفى سنة520هـ: للأفضل بن أمير الجيوش دخل ابن أبي رندقه الطُّرْطُوشي1 مرة على الأفضل2 بن أمير الجيوش فوعظه، وقال له: "إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك، إنما صار إليك بموت من كان قَبْلك، وهو خارج عن يدك، بمثل ما صار إليك، فاتق الله فيما خوَّلك من هذه الأمة، فإن الله عز وجل سا ئِلُك عن النَّقِير والقطمير والفَتِيل3، واعلم أن الله عز وجل آتي سليمان بن داود   1 هو الفقيه العالم أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي "بضم الطاءين، وقد تفتح الطاء الأولى، نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس" ويعرف بابن أبي رندقة وكان زاهدًا عابدًا متورعًا متقللا من الدنيا قوالا للحق، رحل إلى المشرق، ودخل بغداد والبصرة، وسكن الشأم مدة، ودرس بها، وكان الأفضل بن أمير الجيوش يكرهه، فلما ولي بعده المأمون بن البطائحي أكرم الطرطوشي إكرامًا كثيرًا، وله ألَّف الشيخ "سراج الملوك" وتوفي بالإسكندرية سنة520هـ. 2 هو الوزير الأفضل بن بدر الجمالي أمير الجيوش المشهور، وكان أبوه بدر الجمالي حاكم عكا، فأرسل إليه الخليفة الفاطمي المستنصر يسأله القدوم إلى مصر لإصلاح أحوالها المضطربة إذ ذك، فقدم إليها، وتولى شئونها، وقام معوجَّها، وصارت له فيها الكلمة النافذة، ثم لابنه الأفضل. 3 النقير: النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير: القشرة الرقيقة التي بين النواة والتمرة، والفتيل: ما يكون في شق النواة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ملك الدنيا بحَذَافيرها، فسخَّر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحوش والبهائم، وسخَّر له الريح تجري بأمره رخاءً1 حيث أصاب، ورفع عنه حساب ذلك أجمع، فقال عزَّ من قائل: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ 2 أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فما عدَّ ذلك نعمة كما عدَدْتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجًا من الله عز وجل فقال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} 3، فافتح الباب، وسَهِّل الحجاب، وانصر المظلوم. "نفح الطيب 1: 363".0   1 الرخاء: الريح اللينة. 2 أي فأعط منه من شئت. 3 بلاه: اختبره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 14- خطبة ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين : "المتوفى سنة 534هـ" استدعى محمد بن عبد الله بن تُومَرْت1 مؤسس دولة الموحدين أصحابه، قبل موته بأيام يسيرة، وقد أراد أن يستخلف عليهم عبد المؤمن بن عليّ، فلما حضروا بين يديه قام:   1 هو محمد بن عبد الله بن تومرت من جبل السوس في أقصى بلاد المغرب، ولد سنة 485هـ، ورحل إلى المشرق سنة 501 في طلب العلم، وانتهى إلى بغداد، وقيل إنه لقي أبا حامد الغزالي، ثم رجع إلى المغرب، وقامت دعوته في أول الأمر في صورة آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، فاتبعه بعض القوم، وخرج هو وأصحابه إلى السوس، وشرع في التدريس والدعاء إلى الخير: وما زال يستميل القلوب حتى كثرت شيعته، ثم جعل يذكر المهدي ويشوق إليه، وجمع الأحاديث التي جاءت فيه، فلما قرر في نفوسهم فضيلة المهدي، ادعى ذلك لنفسه، وتسمى بالمهدي، ورفع نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعى أنه من نسل الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وصرح بدعوى العصمة لنفسه وأنه المهدي المعصوم، وروي في ذلك أحاديث كثيرة حتى استقر عندهم أنه المهدي، فبايعوه على ذلك، ولما كانت سنة 517هـ جهز جيشًا عظيمًا -وكانت مراكش تحت إمرة المرابطين- فقال: "اقصدوا هؤلاء المارقين المبدلين الذين تسموا بالمرابطين، فادعوهم إلى إماتة المنكر، وإحياء المعروف، وإزالة البدع، والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم فقد أباحت لكم السنة قتالهم، وأمَّر على الجيش عبد المؤمن بن علي، فخرجوا إلى مراكش فلقيهم المرابطون قريبًا منها بجيش ضخم أميرهم الزبير بن علي بن يوسف بن تاشفين، فدعوهم إلى ما أمرهم به بن تومرت فردوا عليهم أسوأ رد، ثم التقت الفئتان، فانهزم أصحاب ابن تومرت وقتل منهم خلق كثير، فلما رجع القوم إلى ابن تومرت جعل يهون عليهم أمر الهزيمة، ويقرر في نفوسهم أن قتلاهم شهداء، لأنهم ذابُّون عن دين الله، فزادهم ذلك بصيرة في أمرهم، وحرصًا على لقاء عدوهم، وجعلوا يشنون الغارات على نواحي مراكش ويقتلون ويسبون ولا يبقون على أحد ممن قدروا عليه، وكثر الداخلون في طاعتهم، ولم يزل أصحابه ظاهرين، وأحوال المرابطين تختل، وانتقاض دولتهم يتزايد، إلى أن توفي ابن تومرت سنة 534هـ بعد أن أسس الأمور، وأحكم التدبير، وقام بأمر الموحدين من بعده عبد المؤمن بن علي، وقد استوثق له الأمر بموت علي بن يوسف بن تاشفين ملك المرابطين سنة537هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهْلُه، وصلَّى على محمد نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم أنشأ يترضَّي عن الخلفاء الراشدين، ورضوان الله عليهم، ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم، والعزيمة في أمرهم، وأن أحدهم كان لا تأخذُه في الله لومةُ لائم، وذكر من حدِّ عمر رضي الله عنه ابْنَهُ في الخمر، وتصميمه على الحق، في أشباه لهذه الفصول، ثم قال: فانقرضَت هذه العصابة، نضَّر الله وجوهها، وشكر لها سعيها، وجزاها خيرًا عن أمة نبيِّهَا، وخبَطَتِ الناس فتنة تركت الحليم حَيْرَان، والعالم متجاهلا مُدَاهِنًا، فلم ينتفع العلماء بعلمهم، بل قَصَدُوا به الملوك، واجتلبوا به الدنيا، وأمالوا وجوه الناس إليهم، وفي أشباه لهذا القول، إلى هلمَّ جرًا. ثم إن الله سبحانه -له الحمد- منَّ عليكم -أيتها الطائفة- بتأييده، وخصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده، وقيَّض1 لكم مِنْ2 ألفاكم ضُلَّالًا لا تهتدون، وعميًا لا تبصرون، ولا تعرِفون معروفًا، ولا تنكرون منكرًا، وقد فشت فيكم البِدَع، واسْتَهْوَتْكُم الأباطيل، وزيَّن لكم الشيطان أضاليل وتُرَّهَات3، أنَزِّه لساني عن النطق بها، وأَرْبَا4 بلفظي عن ذكرها، فهداكم الله به بعد الضلالة، وبصَّركم بعد العَمَى، وجمعكم بعد الفُرْقة، وأعزكم بعد الذلة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين5، وسيُورثكم أرضَهم وديارهم، ذلك بما كَسَبَته أيديهم، وأضْمَرَتْه قلوبهم، وما ربُّك بظلام للعبيد.   1 أتاح لكم وسبب وهيأ. 2 يعنى نفسه. 3 جمع ترهة: وهي الباطل. 4 ارتفع. 5 يريد المرابطين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 فجدِّدُوا الله سبحانه خالص نيَّاتكم، وأرُوه من الشكر قولا وفعلا ما يزكِّى به سعيكم، ويتقبَّل أعمالكم، وينشر أمركم، واحذروا الفُرْقة، واختلاف الكلمة، وشتات الآراء، وكونوا يدًا واحدةً على عدوكم، فإنكم إن فعلتم ذلك، هابكم الناس، وأسرعوا إلى طاعتكم، وكثر أتباعكم، وأظهر الله الحق على أيديكم، وإلا تفعلوا شَمِلَكم الذل، وعمَّكم الصَّغار1 واحتقرتكم العامة، فتخَطَّفَكُم الخاصة، وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأْفة بالغِلْظَة، واللين بالعنف، واعلموا مع هذا أنه لا يصلح أمر آخر هذه الأمة، إلا على الذي صَلَُح عليه أمر أولها". وقد اخترنا لكم رجلًا منكم، وجعلناه أميرًا عليكم، هذا بعد أن بلَوْناه2 في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك كله ثبتا3 في دينه، متبصرًا في أمره، وإني لأرجو أن لا يُخْلِف الظن فيه، وهذا المشار إليه هو: "عبد المؤمن"، فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعًا مطيعًا لربه، فان بدَّل أو نكص على عقبه، أو ارتاب في أمره، ففي الموحِّدين -أعزهم الله- بركة وخير كثير، والأمر أمر الله يقلِّده من شاء من عباده". فبايع القوم عبد المؤمن، ودعا لهم ابن تومرت. "المعجب، في تاريخ أخبار المغرب ص108".   1 الذل. 2 اختبرناه. 3 أي ثابتًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 15- مقال لسان الدين بن الخطيب "المتوفى سنة 779هـ": في الحضِّ على الجهاد وقال لسان الدين بن الخطيب1 في الحضِّ على الجهاد2: "أيها الناس -رحمكم الله تعالى: إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دَهِم العدو -قصمه الله تعالى- ساحَتَهم، ورام الكفرُ -خَذَله الله تعالى- استباحتهم، وزحفت أحزاب الطَّوَاغيت إليهم، ومدَّ الصليب ذراعيه عليهم، وأيديكم -بعزة الله تعالى- أقوى، وأتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهو دينكم فانصروه، وجِوَاركم القريب فلا تُخْفِروه3، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه، الجهاد الجهاد فقد تعيَّن، الجار الجار فقد قرَّر الشرع حقَّه وبيَّن، الله الله في الإسلام، الله الله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الله الله في المساجد المعمورة بذكر الله، الله الله في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكُثُوه، أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعانكم الله تعالى عند الشدائد، جَدِّدوا عوائِد الخير، يصل الله تعالى   1 هو لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد المشهور بابن الخطيب خاتمة أدباء الأندلس، ولد بغرناطة سنة713، وكان أول أمره في عداد كتاب السلطان أبي الحجاج يوسف أحد ملوك بني الأحمر، ثم اصطفاه وجعله وزيره، وفوض إليه شئون مملكته، ولما مات أبو الحجاج، وخلفه ابنه محمد أقره عاد الوزارة، ثم وثب إسماعيل أخو السلطان على ملكه، فاضطر أن يغادره إلى المغرب مع وزيره لسان الدين، فلما تحسنت الأحوال عاد محمد إلى ملكه، وبقى مدة كتب له فيها ابن زمرك أحد تلاميذ لسان الدين ثم عاد لسان الدين إلى غرناطة، وحل مكانه من سلطانه، فألهب ذلك نار الحسد في ابن زمرك وأنصاره، فسمعوا به إليه حتى أحفظوه عليه، فهرب إلى المغرب -وكان في حوزة بني مرين، وهم من البربر. حكموا المغرب بعد الموحدين من سنة668 إلى سنة890هـ- فأكرمه سلطان المغرب عبد العزيز، وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده، فبعثهم إليه إلى أن مات "عبد العزبز"، وثار أحد أمراء بني مرين على ابن عبد العزيز، وساعده ملك بني الأحمر بشرط تسليمه ابن الخطيب، وتم له أمره، وقبض عليه، وسجن بفاس، ونوظر في كلمات له في كتابه "المحبة" وأفتى الفقهاء بقتله، فدس عليه من خنقه في سجنه سنة776. 2 وكان سلطانه محمد بن أبي الحجاج أسفره إلى ملوك بني مرين يستنجدهم على الإسبان 3 أخفره: غدر به ونقض عهده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 لكم جميل العَوائِد، صِلَوا رَحِم الكلمة1 وَاسُوا بأنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة، كتاب الله بين أيديكم، وأَلْسِنَة الآيات تُنَادِيكم، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمة فيكم، والله سبحانه يقول فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} ، ومما صحَّ عنه قوله: "ومن اغبَرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمهما الله على النار" "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودُخان جهنم"، "من جهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا" أدركوا رَمَق الدين قبل أن يفوت، وبادروا عليل الإسلام قبل أن يموت، احفظوا وجوهكم مع الله تعالى يوم يسألكم عن عباده، جاهدوا في الله بالألسن والأقوال حقَّ جهاده: ماذا يكون جوابكم لنَبِيِّكُمْ ... وطريق هذا العذر غير مُمَهَّد إن قال: لم فرَّطْتُمُوه في أمتي ... وتركتموهم للعدوِّ المعتدي؟ تالله لو أن العقوبة لم تُخفْ ... لكفى الحيا من وجه ذاك السيِّد اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بُثَّ لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد، اللهم انصرنا على أعدائك، بأحبابك وأوليائك، يا خير الناصرين، اللهم أفرغ علينا صبرًا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. "نفح الطيب 4: 3".   1 أي كلمة التوحيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ما خطب به لسان الدين تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني ... 16- ما خاطب به لسان الدين تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني: وخاطب لسان الدين بن الخطيب تربة السلطان الكبير أبي الحسن المَرِيني لما قصدها عَقِبَ ما شرع في جواره، فقال: "السلام عليك ثم السلام، أيها المَوْلَى الهُمَام، الذي عرف فضله الإسلامُ، وأوجَبَت حقَّه العلماء الأعلام، وخَفَقَت بعزِّ نصره الأعلام، وتنافست في إنقاذ أمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ونهيه السيوفُ والأقلامُ، السلام عليك أيها المَوْلَى الذي قَسَّم زمانه بين حُكْمٍ فَصْلٍ وإمضاء نصل، وإحراز خصل1، وعبادة قامت من اليقين على أصل، السلام عليك يا مقرِّر الصدقات الجارية، ومُشْبِع البطون الجائعة، وكاسي الظهور العارية، وقادح زناد العزائم الوارية، ومكتِّب الكتائب الغازية في سبيل الله تعالى والسرايا2 السارية، السلام عليك يا حجة الصبر والتسليم، ومتلقى أمر الله تعالى بالخلق المرضي والقلب السليم، ومفوض الأمر في الشدائد إلى السميع العليم، ومعمل البنان الطاهر في اكتتاب الذكر الحكيم، كرم الله تعالى تربتك وقدسها، وطيب روحك الزكية وآنسها، فلقد كنت للدهر جمالا، وللإسلام ثِمَالا3، وللمستجير مجيرا، وللمظلوم وليا ونصيرا، لقد كنت للمحارب صدرا، وفي المواكب بدرا، وللمواهب بحرا، وعلى العباد والبلاد ظِلًّا ظليلا وسِتْرا، لقد فَرَعَت4 أعلام عزك الثنايا، وأجزلت همتك لملوك الأرض الهدايا، كأنك لم تعرض الجنود، ولم تنشر البنود5، ولم تبسط العدل المحدود، ولم توجد الجود، ولم تزين الركَّع السجود، فتوسَّدت الثرى، وأطلت الكَرَى، وشربت الكأس التي يشربها الوَرَى، وأصبحت ضارع6 الخدِّ، كليل الحد، سالكا سنن الأب والجد، لم تجد بعد انصرام أجلك، إلا صالح عملك، ولا صحبت لقبرك إلا رابح تَجْرك7، وما أسلفت من رضاك وصبرك، فنسأل الله تعالى أن يُؤْنس اغترابك، ويجود بسحاب الرحمة ترابك، وينفعك بصدق اليقين، ويجعلك من الأئمة المتقين، ويعلي درجتك في عليين8، ويجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.   1 الخصل: الغلبة في النضال. 2 السرايا: جمع سرية وهي من خمسة أنفس إلى ثلثمائة أو أربعمائة. 3 الثمال: الغياث الذي يقوم بأمر قومه. 4 فرعت: علت، والثنايا: جمع ثنية كهدية، وهي العقبة، أو الجبل، أو الطريقة فيه. 5 البنود جمع بند كشمس: وهو العلم الكبير. 6 ذليل. 7 تجر تجرًا وتجارة. 8 اسم لأعلى الجنة، أو هو كتاب جامع لأعمال الخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وَلْيَهْنِكَ أن صَبَّر الله تعالى ملككَ من بعدك، إلى نيِّر سعدك، وبارق رَعْدك، ومنجز وعدك، أرضى ولدك، وريحانة خَلَدك1، وشِقَّة2 نفسك، والسَّرحة المباركة من غَرْسك، ونور شمسك، وموصِّل عملك البَرّ إلى رَمْسِك، فقد ظهر عليه أثر دعواتك في خَلَواتك، وأعقاب صلواتك، فَكَلِمَتُك -والمنَّة لله تعالى- باقية، وحسنتك إلى محل القبول راقية، يَرْعَى بك الوسيلة، ويتمِّم مقاصِدَك الجميلة، أعانه الله تعالى ببركة رضاك على ما قَلَّده، وعَمَر بتقواه يومه وغده، وأبعد في السعد أَمَدَه، وأطْلَقَ بالخير يده، وجعل الملائكة أنصاره والأقدار عُدَدَه. وإنني أيها المولى الكريم، البر الرحيم، لما اشتراني، ورَاشَني3 وبَرَاني، وتعبَّدني بإحسانه، واستعمل في استخلاصي خَط بَنَانه، ووصيَّة لسانه، لم أجد مكافأة إلا التقرب إليك وإليه برِثائك، وإغرائك لساني بتخليد عَلْيَائك، وتعفير الوَجْنة في حَرَمك، والإشادة بعد الممات بمجدك وكرمك، ففتحت الباب في هذا الغرض، إلى القيام بحقك المفتَرض، الذي لولاه لاتصلت الغفلة عن أدائه وتمادت، فما يَبِسَت الألسن ولا كادت، متحيِّزا بالسبق، إلى أداء هذا الحق، بادئًا بزيارة قبرك الذي هو رحلة الغرب، ما نَوَيته من رحلة الشرق، وما أَعْرَضت عنه فأقطعه أثر مواقع الاستحسان وقد جمع بين الشكر والتنويه والإحسان، والله سبحانه يجعله عملًا مقبولًا، ويبلِّغ فيه من القبول مأمولًا، ويتغمَّد من ضاجعته من سلفك الكرام بالمغفرة الصيِّبة، والتحيات الطيِّبة، فَنَعِمَ الملوك الكبار، والخلفاء الأبرار، والأئمة الأخيار، الذين كَرُمَت منهم السِّيَر وحسنت الأخبار، وسَعِدَ بِعَزَماتهم الجِهادية المؤمنون وشقِي الكفار، وصلوات الله تعالى عودًا وبدءًا على الرسول الذي اصطفاه واختاره فهو المصطفى المختار، وعلى آله وأصحابه الذين هم السادة الأبرار، وسلم تسليما". "نفح الطيب 4: 135".   1 الخلد: النفس والقلب. 2 الشقة: نصف الشيء إذا شق والسرحة: الشجرة العظيمة. 3 راش السهم: ألزق عليه الريش، وراش الصديق: أطعمه وسقاه وكساه وأصلح حاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 17- وصية لسان الدين بن الخطيب لأولاده : "الحمد لله الذي لا يَرُوعه الحمام المَرْقُوب، إذا شمَ1 نجمه المثقوب، ولا يبْغَتُه الأجل المكتوب، ولا يفْجَؤُه الفراق المعتوب، مُلْهِم الهُدَى الذي تطمئن به القلوب وموضِّح السبيل المطلوب، وجاعل النصيحة الصريحة من قِسْم الوجوب، لا سيما للواليِّ المحبوب، والولد المنسوب، القائل في الكتاب المُعْجِز الأُسْلُوب: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ 2} ، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ 3} ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله، أكرم من زُرَّتْ على نوره جُيُوب الغيوب، وأشرف من خُلِعَت عليه حُلَل المهابة والعصمة، فلا تقتحمه العيون، ولا تصمِهُ العيوب4، والرضا عن آله وأصحابه المثابرين على لسان5 الاستقامة بالهَوَى المغلوب، والأمل المسلوب، والاقتداء الموصِّل إلى المرغوب، والعز والأمن من الُّلغُوب6، وبعد: فإني لما علاني المَشِيب بقمَّته7، وقادني الكبر بِرُمَّته8، وادَّكَرْتُ الشباب   1 من شام البرق: نظر إليه أين يقصد، وأين يمطر. 2 وتمام الآية الكريمة: {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . 3 وتمام الآية الكريمة: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . 4 تزدريه وتحتقره، ووصمه: عابه. 5 اللسان: الرسالة. 6 اللغوب: أشد الإعياء. 7 الغمة: أعلى كل شيء. 8 الرمة بالضم ويكسر: قطعة من حبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 بعد أُمَّته1، أسِفْتُ لما أضعتُ، وندمْتُ بعد الفِطَام على ما رَضَعْتُ، وتأكد وجوب نصحي لمن لزمني رَعْيُة، وتعلَّق بعيني سَعْيُه، وأمَّلتُ أن تتعدَّى إليّ ثمرة استقامته، وأنا رهين فوات، وفي برزخ أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عِثارى، إن سلك -وعسى ألا يكون ذلك- على آثاري، فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخَلَد2 بعد الضَّراعة إلى الله تعالى في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم، وأن يمُنَّ عليّ منهم بحسن الخَلَف، والتلافي من قبل التَّلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف، فهو وليّ ذلك والهادي إلى خير المسالك: اعلموا هداكم الله تعالى الذي بأنواره تهتدي الضُّلَّال، وبرضاه تُرْفَع الأغلال، وبالتماس قُرْبِه يحصل الكمال، وإذا ذهب المال، وأخلَفَتِ الآمال، وتبرَّأَتْ من يمينها الشِّمال، أني مُودِّعكم وإن سَالَمني الرَّدَى، ومُفَارِقُكم وإن طال المَدَى، وما عدا ممَّا بدا، فكيف وأدوات السَّفر تُجْمَع، ومنادي الرحيل يسمع، ولا أقلَّ للحبيب المودِّع، من وصية محتضر، وعجالة مقتصر، ورَتِيمَة3 تعقد في خِنْصَر، ونصيحة تكون نَشِيدَة واعٍ مُبْصِر، تتكفَّل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضِّح لكم من الشفقة والحنوّ قَصْدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي، فهي أَرَبُكم الذي لا يتغيَّر وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رفَّ عليكم سَقْفُه، وكأنِّي بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ، وبناشِطِكم قد كَسِل، واستبدل الصَّابَ4 من العسل، ونُصُول5 الشيب تروِّع بِأَسَل، لا بل السَّام6 من كل حدب قد نَسَل، والمعاد   1 الأمة هنا: الحين، اقتبسه من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} . 2 الخلد: القلب والنفس. 3 الرتيمة: خيط يعقد في الأصبع للتذكير. 4 الصاب: عصارة شجر مر. 5 النصول جمع نصل: وهو حديدة الرمح والسيف. والأسل: الرماح. 6 السام: الموت: والحدب: ما ارتفع من الأرض، ونسل كضرب: أسرع والمعاد: المرجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 اللحْدُ ولا تَسَلْ، فبالأمس كنتم فراخ حِجْر1، واليوم أبناء عسكر مَجْر، وغدا شيوخ مَضْيَعَةٍ وهَجْر، والقبورة فاغرة2، والنفوس عن المألوف صاغرة، والدنيا بأهلها ساخرة، والأُولى تَعْقُبُها الآخرة، والحازم من لم يَتَّعِظ به في أمر، وقال: "بيدي لا بيد عمرو3"، فاقتنوها من وصيَّة، ومَرَام4 في النصح قَصِيَّة، وخُصُّوا بها أولادكم إذا عَقَلوا، ليجدوا زادها إذا انتقلوا، وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هَمَلا، ولكن ليبْلُوَهُم أيهم أحسن عملا، ولا رَضِيَ الدنيا منزلا، ولا لَطَفَ بمن أصبح عن فئة الخير منعزلا، ولتُلَقَّنُوا تلقينا وتعلموا علما يقينا، وأنكم لن تجدوا بعد أن أنفرِدَ بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويَسُحَّ انسكابي، وتهَرْوِل عن المصلَّى ركابي، أحرص مني على سعادةٍ إليكم تُجْلَب، أو غاية كمال بسببكم تُرْتَاد وتُطْلَب، حتى لا يكون في الدين والدنيا أَوْرَف5 منكم ظلا، ولا أشرف محلا، ولا أَغْبَطَ نَهْلًا وعَلّا6، وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تُصِيخوا7 إلى قولي الآذان، وتستلمِحُوا   1 أي كالفراخ في حجر أمها وحضنها، والمجر: الكثير من كل شيء، وجيش مجر: كثير جدًّا. 2 أي فاتحة أفواهها للموتى. 3 هو مثل قالته الزباء ملكة الجزيرة، وذلك أنها كانت دعت جذيمة الأبرش ملك ما على شاطئ الفرات إلى زواجها. فلما استقر عندها قتلته ثأرًا بأبيها -وكان جذيمة قد قتله- فاحتال مولاه قصير الثأر منها، نجدع أنفه وأثر آثارا بظهره، ثم خرج إلى الزباء، وأظهر أن عمرو بن عدي -ابن أخت جذيمة- فعل ذلك به، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء، فلما استرسلت إليه ووثقت به، زين لها أن تبعثه إلى العراق ليحمل إليها من طرائقها وثيابها وطيبها، وأنها ستصيب في ذلك أرباحًا عظامًا، فأذنت له وقدم العراق، وأتى الحيرة متنكرًا، وزوده عمرو بصنوف البز والأمتعة، ورجع إلى الزباء، فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت به ثقة، وجهزته ثانية، فسار حتى قدم على عمرو فجهزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وجمع ثقات رجال عمرو، وحملهم في الغرائر على الجمال، وسار إلى الزباء، ودخلت الإبل المدينة وكانت الزباء قد حذرت عمرا، واتخذت نفقا إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني -ودل قصير عمرو على باب النفق، فلما خرجت الرجال من الغرائر صاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمرا فعرفته بالصورة التي صورت لها -فمصت خاتمها وكان فيه السم، وقالت: "بيدي لا بيد عمرو" فذهبت مثلًا، وتلقاها عمرو فجللها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانكفأ راجعًا إلى العراق. 4 مرام جمع مرمى، وقضية بعيدة. 5 ورف الظل: اتسع وطال وامتد. 6 النهل: الشرب الأول، والعل والعلل: الشرب الثاني أو الشرب بعد الشرب تباعًا. 7 أصاخ له استمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 صُبْحَ نُصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصيَّة لقمان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلا تُصَعِّر ْ1 خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ، وأُعيد وصيَّة خليل الله وإسرائيله حُكْم2 ما تضمَّنه حكم تنزيله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفَّاه، وقرَّره مصطفاه، من قبل أن يتوفّاه؛ إذا أُعْمِل فيه انتقاد، فهو عمل واعتقاد، وكلاهما مُقَرَّر، ومستمدّ من عقل أو نقل محرر، والعقل متقدم، وبناؤه مع رفض أخيه متهدِّم، فالله واحد أحد، فرد صمد3، ليس له والد ولا ولد، تنزَّه عن الزمان والمكان، وسبق وجوده وجود الأكوان، خالق الخلق وما يعملون، الذي لا يسأل عن شيء وهم يسألون، الحي العليم المدبِّر القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أرسل الرسل رحمة لتدعو الناس إلى النجاة من الشقاء، وتوجِّه الحجَّة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيَّدةً بالمعجزات التي لا تتَّصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء، ثم ختم ديوانهم بنبيّ ملَّتنا المرعية الهَمَل، الشاهدة على المِلَل، فتلخَّصت الطاعة، وتعينت الإمْرَةُ المُطاعة، ولم يَبْقَ بعد إلا ارتقاب الساعة، ثم إن الله تعالى قَبَضَه إذ كان بَشَرًا، وترك دينه يضمُّ من الأمة نشرًا4، فمن تَبِعَه لَحِقَ به، ومن تركه نُوِّطَ5 عنه في مَنْسَبِه، وكانت نجاته على قدر سببه، روى عنه عليه الصلاة والسلام   1 صعر خده: أماله كبرا. 2 إسرائيله: يعقوب عليه السلام، والحكم: الحكمة، وهو بدل من وصية. 3 الصمد: السيد، لأنه يصمد أي يقصد في قضاء الحوائج. 4 انتشر: المنتشر، ومنه: "اللهم اضمم نشري". 5 أي أبعد عنه وطرد: يقال ناطت الدار: أي بعدت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 أنه قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلُّوا بعدي، كتاب الله وسنتي، فَعَضُّوا عليهما بالنواجذ " 1. فاعلموا يا بَنِيَّ بوصيَّة من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد، واستشعروا حبه الذي توافرت دواعيه، وعُوا مراشد هديه، فيا فَوْزَ واعيه! وصِلُوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به، مجملا أو مفصلا على حسبه، وأوجبوا التجِلَّة لصحبه، الذين اختارهم الله تعالى لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته، واشملوهم بالتوقير، وفَضِّلوا منهم أولي الفضل الشهير، وتبرَّءوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داعٍ، ولا تَعِ التشاجر بينهم أذن واعٍ، فهو عنوان السداد، وعلامة سلامة الاعتقاد، ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة، وأئمتها الجِلِّة2، فهم صَقَلة نُصُولهم، وفروع ناشئة من أصولهم، ووَرَثَتهم وورثة رسولهم، واعلموا أنني قطعت في البحث الزماني، وجعلت النظر شاني، منذ براني الله تعالى وأنشاني، مع نُبْل3 يعترف به الشاني، وإدراك يسلِّمه العقل الإنساني، فلم أجد خابِطَ ورق، ولا مُصَبِّبَ عَرَق، ولا نازِعَ خِطَام، ولا متكلِّفَ فِطَام، ولا مقتحم بحر طَامٍ، إلا وغايته التي يقصدها قد نَضَلتها الشريعة وسبقتها، وفَرَعَت4 ثنيَّتها وارتَقَتْها، فعليكم بالتزام جادَّتها5 السَّابِلة، ومصاحبة رَِفُقتها الكاملة، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة، والله تعالى يقول، وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائِعُه، فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فِعْلَ المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخسُّ ما وَرِث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بَلَّغْتُ فأنت خير الشاهدين، فاحذروا المَعَاطِبَ التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شَوْهَ الوجوه ونضج الجلود، واستعيذوا برضا الله من سُخْطِه، وارْبَئُوا بنفوسكم عن غَمْطِه، وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع   1 أقصى الأضراس. 2 جمع جليل. 3 النبل: الذكاء والنجابة، والشاني: المبغض. 4 فرعه: علاه، والثنية: العقبة، أو الجبل أو الطريقة فيه أو إليه. 5 الجادة: الطريق الواضح، والسابلة من الطرق المسلوكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العَرَض الزائل ائتلافكم، واقنعوا منه بما تيسَّر، ولا تأْسَوْا1 على ما فات وتعذَّر، فإنما هي دُجُنَّة2 ينسخها الصباح، وصفقة يتعاقبها الخََسَار أو الرَّباح، ودونكم عقيدة الإيمان فَشُدُّوا بالنواجذ عليها، وكَفْكِفُوا الشُّبَهَ أن تدنو إليها، واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خَرْقٌ لا يَرْفَؤُه3 عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل، وتمسَّكوا بكتاب الله تعالى حفظًا وتلاوة، واجعلوا حِمْلَه على حِمْلِ التكليف علاوة، وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره ونواهيه ولا تتأولوه ولا تَغْلُوا فيه، وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه، وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا يَنْخَرِم، الله الله في الصلاة ذريعة التَّجِلَّةِ، وخاصة الملة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم، وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة، والناهية عن الفحشاء والمنكر، إن عرض الشيطان عرضها، ووطَّأ للنفس الأمارة سماءها وأرضها، والوسيلة إلى بلِّ الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تُحْفة الله إلى مريض الفكر، وضامنة حسن العشرة من الجار، وداعية للمسالمة من الفُجَّار، والواسمة بسمة السلامة، والشاهد للعبد برفع الملامة، وغَسُول4 الطبع إذا شانه طبع، والخير الذي كلُّ ما سواه له تبع، فاصبروا النفس على وظائفها، بين بدء وإعادة، فالخير عادة، ولا تفضِّلوا عليها الأشغال البدنية، وتُؤْثِرُوا على العليَّة الدنية، فإن أوقاتها المعينة بالانفلات تَنْتَبسُّ5، والفلك بها من أجلكم لا يُحْبَس، وإذا قورنت بالشواغل فلها الجاه والأصيل، والحكم الذي لا يغيِّره الغُدُوِّ ولا الأصيل، والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حقُّ من يموت من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها، وأتبعوها النوافل ما أطلقتموها، فبالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة   1 ولا تحزنوا. 2 الدجنة: الظلمة. 3 رفأ الثوب كمنع: لأم خرقة، وضم بعض إلى بعض. 4 الغسول كصبور وتنور: الماء يغتسل به، وفي الأصل "غاسول" وهو تحريف، والطبع الشين والعيب. 5 أي تذهب وتضيع، يقال: انبس الرجل إذا ذهب، وفي الأصل "تبتس" وأراه محرفا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 استحقت الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح ما إضاعة رأس المال، وذلك أحرى بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعضِ البعضَ. والطهارة التي هي في تحصيلها سبب مُوَصِّل، وشرط لمشروطه محصِّل، فاستوفوها، والأعضاء نظَّفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها، والحُجُول والغُرَر1 فأطيلوها، والنيَّات في كل ذلك فلا تُهْمِلوها، فالبناء بأساسه، والسيف بمراسه، واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور، تستغرق الأوقات، وتنازع شتَّى الخواطر المفترقات، فلا يضبطها إلا من ضبط نفسه بعقال، واستعاض صَدَأَه بِصِقَال2، وإن تراخى قَهْقَر3 الباعُ، وسرقته الطباعُ، وكان لما سواها أضيع. فشمل الضَّياع، والزكاة أختها الحبيبة. ولِدَتُها القريبة. مفتاح السعادة بالعرض الزائل. وشكران المسئول على الضِّدِّ من درجة السائل. وحق الله تعالى في مال من أغناه. لمن أجهده في المعاش وعناه4 من غير استحقاق مَلْء يده وإخلاء يد أخيه. ولا عِلَّةَ إلا القَدَر الذي يخفيه. وما لم يَنْلَه حظ الله تعالى فلا خير فيه، فاسمحوا بتفريقها للحاضر لإخراجها. في اختيار عرضها ونتاجها. واستحيوا من الله تعالى أن تبخلوا عليه ببعض ما بَذَل. وخالفوا الشيطان كلما عَذَل. واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون. فوهب وأقدر. وأورد بفضله   1 الحجول: جمع حجل بالكسر والفتح وهو الخلخال، والمراد بها هنا الأطراف، وبإطالتها استيعاب غسلها، والغرر جمع غرة بالضم وهي الوجه، والمراد بتطويلها في الوضوء: غسل مقدم الرأس مع الوجه، وغسل صفحة العنق، وجملة المعنى: أنه يأمر بإسباغ الوضوء، وفي الحديث الشريف: "أمتي الغُرُّ المُحَجَّلُون" والغر جمع الأغر من الغرة، وهي بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، يقال: فرس أغر وغراء، والمحجل: الفرس الذي يرتفع البياض في قوائمه في موضع القيد، أي بيض مواضع الوضوء من الوجه والأيدي والأقدام، واستعار أثر الوضوء في الوجه واليدين والرجلين من البياض الذي يكون في وجه الفرس ويديه ورجليه. 2 صواب العبارة: "واستعاض بصدئه صقالا" يقال استبدل الشيء بغيره: إذا أخذه مكانه "ومنه ترى أن الباء داخلة على المتروك"، واعتاضه منه واستعاضه "والباء كمن". 3 قهقر وتقهقر: رجع القهقري. 4 أتعبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وأصْدَر. ليرتِّب بكرمه الوسائل، أو بقيم الحجج والدلائل. فابتغوا إليه الوسيلة بماله واغْتَنِمُوا رضاه ببعض نواله. وصيام رمضان عبادة السر المقرِّبة إلى الله زُلْفَى. الممحوضة1 لمن يعلم السِّرَّ وأخفى. مؤكَّدة بصيام الجوارح عن الآثام. والقيام ببر القيام، والاجتهاد، وإيثار السُّهاد، على المِهاد، وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرْعِيَّة، ولواحقه الشرعية، فبذلك تحْسُن الوجوه، وتحصل من الرأفة على ما ترجوه، وتذهب قسوة الطباع، ويمتد في ميدان الوسائل الباع، والحج من الاستطاعة الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجُبه الحاجب، وقد بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدره فيما فرض عن ربه وسَنَّه، وقال: "ليس له جزاء عند الله إلا الجنة" ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله تعالى إن كانت لكم قوة عليه، وغنى لديه، فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه. هذه عُمُد الإسلام وفروضة، ونقود مهره وعروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناويكم ظاهرين2، وتَلْقُوا الله لا مبدِّلين ولا مغيِّرين، ولا تضيعوا حقوق الله فَتَهْلكوا مع الخاسرين. واعلموا أن بالعلم تستعمل وظائف هذه الألقاب، وتَجَلَّى محاسنها من بعد الانتقاب3 فعليكم بالعلم النافع دليلا بين يدي السامع، فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصِّل إلى اللُّباب، والله عز وجل يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} والعلم وسيلة النفوس الشريفة إلى المطالب المُنيفة، وشرطه الخشية لله تعالى والخيفة، وخاصًّة الملإ الأعلى وصفة الله في كتبه التي تُتْلَى، والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفي الدنيا إلى النِّحْلة4 عادة، والذُّخر الذي قليله يشفع، وكثيره ينفع، ولا يغلبه الغاصب، ولا يسلُبُه العدو المناصب، ولا يبتزّه الدهر إذا نال، ولا يستأثر به البحر إذا هال، من لم يَنَلْه فهو ذليل، وإن كثرت آماله،   1 الخالصة. 2 يعاديكم، وظاهرين: غالبين. 3 أي بعد الاختفاء، من انتقبت المرأة: لبست النقاب. 4 نحله: أعطاه، والاسم النحلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وقليل، وإن جَمَّ ماله، وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتَخَطَّى حسابكم فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم، واحملوهم على جمْعه ودرْسه، واجعلوا طباعهم ثَرَى لِغَرْسِه، واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جَرَاه1 وسَهَرٍ يهجر له الجفن كَرَاه، تعقدوا لهم ولاية عز لا تُعْزَل، وتُحِلُّوهم مثابة رفعة لا يُحط فارعها ولا يُسْتَنْزَل، واختاروا العلوم التي يتعقَّبها الوقت، فلا يناها في غيره2 المقت، وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة3، من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد حصولها، فإنها هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير، فمن كان قابلًا للازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد، فليخصّ تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه، ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المِنَّة، المهدي كنوز الكتاب والسنة، ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجِلَّة، والتدرج في طرق النظر بصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة، ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى، فليروِ الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه، وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة، والفنون المهجورة الذميمة، فأكثَرُوا لا يفيد إلا تشكيكا، ورأيا ركيكا، ولا يثمر في العاجلة إلا اقتحام العيون، وتطريق الظنون، وتطويق الاحتقار وسمة الصَّغار، وخمول الأقدار، والخَسْف من بعد الإبدار، وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال، وأوفق من قطع العمر في الجِدال، وهذا ابن رشد4 قاضي المصر ومُفْتِيه   1 يقال: فعلت ذلك من جراه ومن جرائه بالتشديد ويخففان، ومن جريرته: أي من أجله، والكرى: النوم. 2 غير الدهر: أحداثه المغيرة، والضمير فيه يعود على الوقت. 3 المخصبة. 4 هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، أعظم فلاسفة الأندلس وأطبائها، ولد سنة 520هـ ودرس علوم الدين والفلسفة والطب، واتصل بيوسف بن عبد المؤمن زعيم الموحدين، وشرح له فلسفة أرسطو، وقد ولاه قضاء إشبيلية؛ ثم استدعاه إلى المراكش، وجعله طبيبه الخاص، ثم جعله قاضي القضاة بقرطبة، ولما ولي بعده ابنه المنصور بالله علت مكانة ابن رشد عنده، فأثار ذلك حسد خصومه، فكادوا له عند السلطان واتهموه أنه يجحد القرآن، وينشط الفلسفة وعلوم الأوائل بدلا من علوم الدين، وينصر مذهب القدماء في القول بألوهية بعض الكواكب، فنزله المنصور فيه من قضاء قرطبة، ثم عفا عنه، واستدعاه إلى مراكش، ولم يطل مقامه بها، فمات سنة 595هـ، وقد ترجم أكثر كتبه إلى اللغات الأجنبية، وعليها عول الأوربيون في نهضتهم الحديثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وملتمِس الرشد ومُوليه، وعادت عليه بالسَّخطة الشنيعة، وهو إمام الشريعة، فلا سبيل إلى اقتحامها، والتورُّط في ازدحامها، ولا تخلطوا جامكم1 بجامها، إلا ما كان من حساب ومساحة، ما يعود بِجَدْوَى فلاحة، وعلاج يرجع على النفس والجسم براحة، وما سوى ذلك فمحجور، وضَرَم2 مسجور، وممقوت مهجور، وأمروا بالمعروف أمرا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حريا بالاعتدال حقيقا، واغبطوا من كان من سِنَة الغفلة مفيقًا، واجتنبوا ما تُنْهَون عنه حتى لا تسلكوا منه طريقًا، وأطيعوا أمر من ولاه الله تعالى من أموركم أمرا، ولا تَقْرَبُوا من الفتنة جمرًا، ولا تدخلوا في الخلاف زيدًا ولا عمرًا، وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهمّ ما أضَرَى3 عليه الآباء ألسنة البنين، وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عُرف به، وإياكم والكذب فهو العَوْرة التي لا توارى، والسوءة التي لا يُرْتَاب في عارها ولا يتمارى. وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعَدَّ الله له من العذاب، وأن يقبل صِدْقَه إذا صَدَق، ولا يعول عليه إن كان بالحق نطق، وعليكم بالأمانة فالخيانة لُوم، وفي وجه الديانة كُلُوم4، ومن الشريعة التي لا يُعْذَر بجهلها، وأداء الأمانات إلى أهلها، وحافظوا على الحشمة والصِّيانة، ولا تجزُوا من أقرضكم دين الخيانة، ولا توجدوا للغدر قَبولا ولا تُقِرُّوا عليه طبعًا مجبولا، وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا، ولا تستأثروا بكنز ولا حَزْن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حَزْن، ولا تَبْخَسُوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن، والله الله أن تُعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو الكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في فُسْحَة ممتدَّة،   1 الجام: إناء من فضة. 2 جمع ضرمة بالتحريك: وهي الجمرة والنار وسجر التنور: أحماه. 3 ضرى بالشيء كتعب: اعتاده وأولع به، ويعدي بالهمز والتضعيف، فيقال: أضريته وضريته: أي أغريته به. 4 الكلوم جمع كلم بالفتح وهو الجرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وسبل الله تعالى غير مُنْسَدَّة، ما لم ينْبِذْ إلى الله تعالى بأمانه، ويَمَسَّ الدم الحرام بيد أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه: الذي هدى به سَنَنًا قويما، وجَلَّي من الجهل والضلال ليلا بهيما: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . واجتناب الزنا وما تَعَلَّق به، -من أخلاق كرُمَت طباعه، وامتدَّ في سبيل السعادة باعه، لو لم تتلقَ نور الله الذي لم يهْدِ شعاعه، فالحلال لم تَضِقْ عن الشهوات أنواعه، ولا عُدِمَ إقناعه، ومن غَلَبَتْ غرائز جهله. فلينظر: هل يحب أن يُزْنَى بأهله؟ والله قد أعد للزاني عذابا وبيلا. وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} . والخمر أم الكبائر. ومفتاح الجرائم والجرائر1. واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطا. والمحرَّم قد أغنى عنه بالحلال الذي سَوَّغ وأعطى. وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لعقولهم الفساد. ولا لنفوسهم بالمضَرَّة في مرْضَاةِ الأجساد, والله تعالى قد جعلها رجسا محرَّما على العباد: وقَرَنَها بالأَنْصَاب والأزلام في مُبَاينة السَّدَاد2. ولا تقربوا الربا. فإنه من مَنَاهِي الدين. والله تعالى يقول: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} في الكتاب المبين. ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه. وانزعوا الطَّعم3 عن ذلك حتى تذهب ريحه. والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه. ولا يَكِلُ خياره إلا للثقة من خَدَمه. ولا تلجَئُوا إلى المتشابه إلا عند عَدَمه. فهو في السلوك إلى الله تعالى أصل مشروط. والمحافظ عليه مَغْبُوط. وإياكم والظلم. فالظالم ممقوت بكل لسان   1 الحرائر جمع حريرة: وهي الجريمة. 2 يشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . 3 الطعم: الشهوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 مُجَاهِر الله تعالى بصريح العصيان، "والظلم ظلمات يوم القيامة" كما ورد في الصِّحاح الحسان، والنميمة فساد وشَتَات، ولا يبقى عليه مُتَات1، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة قَتَّات" 2 واطرحوا الحسد، فما ساد حسود، وإياكم والغيبة فباب الخير معها مسدود، والبخل، فما رُئِي البخيل وهو مودود، وإياكم وما يُعْتَذَر منه فمواقع الخزي لا تُسْتَقَال عثراتها، ومظنَّات الفضائح لا تؤمن غمراتها، وتفقدوا أنفسكم مع الساعات وأفْشُوا السلام في الطرقات والجماعات، ورقُّوا على ذوي الزمانات3 والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يُرْبِحكم في البضاعات، وعوِّلوا عليه وحده في الشدائد، واذكروا والمساكين إذا نَصَبْتُم الموائد، وتقربوا إليه باليسير من ماله. واعلموا أن الخلق عِيال الله، وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله، وارعوا حقوق الجار، واذكروا ما ورد في ذلك من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج4 البادية الالتحام، واحذروا شهادة الزور: فإنها تقطع الظهر، وتفسد السر والجهر، والرَّشا، فإنها تحطُّ الأقدار، وتستدعي المذلة والصغار، ولا تَسَامحوا في لعبة قَمْر5، ولا تشاركوا أهل البطالة في أمر، وصونوا المواعيد من الإخلاف، والأيمان من حنث الأوغاد والأجلاف، وحقوق الله تعالى من الازدراء والاعتساف، ولا تَلْهَجُوا بالآمال العجاف6 ولا تكْلَفُوا بالكهانة والإرجاف، واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد، واعلموا أن الله سبحانه بالمرصاد، وأن الخلق بين زرع وحصاد، وأقلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما تُحْذَر السموم، واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم، وقابلوا بالصبر أذية المؤذين، ولا تعارضوا مقالات الظالمين، فالله لمن بغى عليه خير الناصرين، ولا تستعظموا   1 المتات: ما يمت به أي يتوصل. 2 القتات: النمام. 3 الزمانة: العاهة. 4 الوشائج جمع وشيجة: وهي اشتباك القرابة. 5 قمره: غلبه في لعب القمار. 6 العجاف جمع عجفاء: وهي المهزولة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 حوادث الأيام كلما نزلت، ولا تَضِجّوا للأمراض إذا أَعْضَلت، فكلٌ منقرض حقير، وكل منقضٍ وإن طال قصير، وانتظروا الفَرَج، وانتَشِقُوا من جناب الله تعالى الأَرَج1، وأوسِعُوا بالرجاء الجوانح، واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطُوبَى لعبد إليه جانح، وتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء، والجئوا إليه في البأساء والضراء، وقابلوا نعم الله تعالى بالشكر الذي يقيَّده به الشارد، ويعذَّب الوارد، وأَسْهِمُوا2 منها للمساكين وأفضلوا عليهم، وعَيِّنُوا الحظُوظ منها لديهم؛ فمن الآثار: "يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلَّما زالت عن قوم فعادت إليهم"، ولا تطغوا في النعم وتقصِّرُوا عن شكرها، وتغلبكم3 الجهالة بِسُكْرها، وتتوهموا أن سعيكم جَلَبَها، وجِدّكُم حلبها، فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتقين، ولا فعل إلا الله إذا نُظِر بعين اليقين، والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زَيْنَكم، وليلتزم كل منهم لأخيه، ما يشتد به تَوَاخيه، بما أمكنه من إخلاص وبِرّ، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزِيّة لا تجهل، وحق لا يُهْمَل، وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التَّعاهد والتَّزاور، وتُرْغِموا بذلك الأعداء، وتَسْتَكْثِروا الأوِدَّاء، ولا تتنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تتهارشوا تَهَارُش السباع على الجِيْفَة. واعلموا أن المعروف يَكْدَر بالامتنان، وطاعة النساء شرّ ما أفسد بين الإخوان، فإذا أسديتم معروفًا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمرا فاحْقِرُوه، والله الله لا تنسوا مُقَارَضَة سَجْلِي4، وبَرُّوا أهل مودَّتي من أجلي، ومن رُزِق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العَقَار، فيصبح عُرْضَة للمذلَّة والاحتقار، وساعيًا لنفسه -إن تغلَّب العدو على بلده-   1 الأرج: توهج ريح الطيب. 2 أسهم له: أعطاه سهما. 3 في الأصل: "وتلقيكم" وأراه محرفا عن "وتغلبكم". 4 السجل: النصيب. والمعنى: أنكم مدينون لي مما قدمت لكم من معروفي، فلا تنسوا أن تردوه لي بإكرام من أراده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 في الافتضاح والافتقار، ومعوِّقًا عن الانتقال، أمام النُّوَب الثِّقال، وإذا كان رزق العبد على المولى، فالإجمال في الطلب أولى، وازهدوا جهدَكم في مصاحبة أهل الدنيا فخيرها لا يقوم بشرِّها، ونفعها لا يقوم بضرِّها، وأعقاب من تقدَّم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضِدَة، ومن بُلِيَ بها منكم فليستَظْهِر بِسَعَة الاحتمال، والتقلُّل من المال، وليحذر معاداة الرجال، ومَزَلَّات الإدلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال، وإفشاء السر، وسكر الاغترار، فإنه دَأْب الغِرّ، وليَصُنِ الديانة، ويؤْثِر الصمت ويلازم الأمانة، ويَسِرْ من رضا الله على أوضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قَصَدَ أقربهما إلى الحق، وليقفْ في التماس أسباب الجلال دون الكمال غير النقصان، والزعازعُ تسالم اللَّدان1 اللطيف من الأغصان، وإياكم وطلبَ الولايات رغبةً واستجلابًا، واستظهارًا على الخُطُوب وغِلَابًا، فذلك ضرر بالمُروءات والأقدار داعِ إلى النصيحة والعار، ومن امْتُحِنَ بها منكم اختيارًا، أو جُبِر عليه إكراها وإيثارًا، فليتلقَّ وظائفها بسعة صدره، ويبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره، فالولايات فتنة ومِحْنة، وأسر وإِحْنَة، وهي بين إِخْطاءِ سعادة. إخلالٍ بعبادة وتوقُّع عزل. وإدالة2 بإزاء بيع جِدٍّ بهَزل، ومَزَلَّة قدم، واستتباع ندم ومآل العمر كله موت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد. وجعلكم الله ممن نفعه بالتبصير والتنبيه وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه. هذه -أسعدكم الله- وصيتي التي أصدرتها. وتجارتي التي لربحكم أدرتها. فتلقَّوها بالقبول لنصحها. والاهتداء بضوء صبحها. وبقدر ما أمضيتم من فروعها. واستغشيتم من دروعها. اقتنيتم من المناقب الفاخرة. وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة. وبقدر ما أضعتم لآلئها النفيسة القيم. استكثرتم من بواعث الندم. ومهما سئمتم إطالتها. واستغزرتم مقالتها، فاعلموا أن تقوى الله فَذْلَكَةُ3 الحساب، وضابط هذا الباب. كان الله خليفتي عليكم في كل حال. فالدنيا   1 اللدن: اللين. 2 الإدالة: الغلبة. 3 فذلك حسابه كدحرج: أنهاه وفرغ منه، مخترعة من قوله إذا أجمل حسابه: فذلك كذا وكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 مُنَاخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض مُحَال. فالموعد للالتقاء دار البقاء. جعل الله من وراء خُطَّته النجاة، ونَفَّق بضائعها المُزْجاة1 بلطائفه المرتجاة. والسلام عليكم من حبيبكم المودِّع. والله سبحانه يُلْئِمه2 حيث شاء من شَمْلٍ متصدِّع. والدكم محمد بن عبد الله بن الخطيب ورحمة الله وبركاته. "نفح الطيب 4: 419".   1 بضاعة مزجاة: رديئة أو قليلة يردها ويدفعها من رآها رغبة عنها، ونفق السلعة تنفيقًا: روجها. 2 لأم الجرح والصدع كقطع، وألأمه: سده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 18- خطبة وعظية له : وصدر عنه على لسان واعظ: "الحمد لله الواليّ الحميد. المبدئ المعيد. البعيد في قُرْبه من العبيد, القريب في بُعْده وهو أقرب من حبل الوريد1. محيي ربُوع العارفين بتحيَّات حياة التوحيد. ومُفْنِي نفوس الزاهدين بكنوز احتقار الافتقار إلى العَرَض الزهيد. ومُخَلِّص خواطر المُحَقِّقين من سجون دُجُون2 والتقييد. إلى فُسَح التجريد. نحمده وله الحمد المنتظِمَةُ دُرَرُه في سلوك الدوام. وسُمُوط3 التأييد. حمد من نَزَّه أحكام وحدانيَّته. وأعلام فردانيَّته، عن مَرَابط التقييد، ومَخَابط الطبع البَلِيد، ونشكره شكر من افتتح بشكره أبواب المزيد، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو شهادة نتخطَّى بها معالم الخلق، إلى حضرة الحق، على كَبِد التَّفْرِيد، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله قِلَادة الجِيد المَجِيد، وهلال العيد، وفَذْلَكَة الحساب، وبيت القصيد، المخصوص بمنشور الإدلال4، وإقطاع الكمال، بين مقام المُرَاد ومقام المُرِيد، الذي جعله السبب الأوصل في نَجَاةِ النَّاجِي وسعادة السَّعِيد، وخاطب الخلائق على لسانه الصادق بِحُجَّتَي الوعد والوعيد، فكان مما أوحى به إليه، وأنزل المَلَك به عليه، من الذكر الحميد، ليأخذ   1 مرق في العنق. 2 أي ظلام التقييد، والدجون جمع دجن بالفتح: وهو إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء. 3 سموط جمع سمط بالكسر: وهو خيط النظم. 4 أدل عليه: وثق بمحبته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 بالحجَزِ1 والأطواق من العذاب الشديد: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، وصلى الله عليه وعلى آله صلاة تقوم ببعض حقِّه الأكيد، وتَسْري إلى تربته الزَّكية من ظهور المواجد الجاثية على البَرِيد: قعدت لتذكير، ولو كنتُ منصفا ... لذكرت نفسي فهي أحوج للذِّكرى إذا لم يكن مني لنفسي واعظٌ ... فيا ليت شعري كيف أفعل في الأخرى؟ آهِ، أي وعظ بعد وعظ الله تعالى يا أحبابنا يُسْمَع، وفي ماذا -وقد تبيَّن الرشد من الغي- يُطْمَع؟ يا من يُعْطِي ويمنع، إذا لم تُقِم الصنيعة فماذ نصنع؟ اجْمَعْنَا بقلوبنا يا من يُفَرِّق ويجمع، وليِّن حديدها بنار خشيتك، فقد استعاذ نبيُّك -صلى الله عليه وسلم- من قلب لا يَخْشَع، ومن عين لا تدمع: اعلموا رحمكم الله أن الحكمة ضالَّة المؤمن يأخذها من الأقوال والأحوال، ومن الجماد والحيوان، وما أملاه المَلَوَان2، فإن الحق نور لا يضرّه أَنْ صَدَر من الخامل ولا يقصِّر بمحموله احتقارُ الحامل، وأنتم تدرون أنكم في أَطْوَار سَفَر لا تستقرّ لها دون الغاية رحلة، ولا تتأَتَّى معها إقامة ولا مُهْلَة، من الأصلاب إلى الأرحام إلى الوجود، إلى القبور إلى النشور إلى إحدى داري البقاء، أفي الله شك؟ فلو أبصرتم مسافرا في البَرِّيَّة يبني ويفرش، ويمهِّد ويعرِّش، ألم تكونوا تضحكون من جهله، وتَعْجَبُون من ركاكة عقلة؟ ووالله ما أموالكم ولا أولادكم وشَوَاغِلُكم عن الله، التي فيها اجتهادكم، إلا بقاءُ سفر3 في قَفْر، أو إعراس   1 الحجز جمع حجزة كفرصة: وهي معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة. 2 الملوان: الليل والنهار. 3 السفر: جماعة المسافرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 في ليلة نَفْر1، كأنكم بها مُطَّرحة تَعْبُر فيها المواشي، وتنبو العيون عن خبرها المتلاشي {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ما بعد المَقِيل إلا الرحيل، ولا بعد الرحيل إلا المنزلُ الكريم، أو المنزل الوبيل، وإنكم تَسْتَقْبِلُون أهوالا، سَكَرَاتُ الموت بَوَاكِر حسابها، وعَتَب أبوابها، فلو كشِف الغطاء عن ذَرَّة منها لَذَهَلت العقول وطاشت الألباب، وما كل حقيقة يشرحها الكلام، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أفلا أعددتم لهذه الوَرْطَة حِيلَة، وأظهرتم للاهتمام بها مَخِيلةً2! أتعويلا على عفوه مع المقاطعة؟ وهو القائل في مقام التهديد: {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، أََأَمْنًا من مكره من المنابذة؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} أطََمَعًا في رحمته مع المخالفة؟ وهو يقول: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، أَمُشاقَّةً ومُعَانَدَةً؟ {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، أشكًّا في الله؟ فتَعَالوا نعيد الحساب، ونقرِّر العَقْد، ونَتَّصف بدعوة الحق "أو غيرها" من اليوم، يُفْقَدُ عَقْدُ العقائِد عند التساهل بالوعيد3، فالعاميُّ يُدْمِي الأصبع الوَجِعَة، والعارف يضمِّد لها مبدأ العَصَب: هكذا هكذا يكون التَّعامي ... هكذا هكذا يكون الغرور {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وما عدا مما بدا، ورسولكم الحريص عليكم الرءوف الرحيم يقول لكم: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت؛ والأحمق من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنَّى على الله الأماني" فَعَلام بعد هذا المعوِّل، وماذا بتأوَّل؟ اتقوا الله تعالى في نفوسكم وانصحوها واغتنموا فرص الحياة وارتجوها، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ   1 أعرس القوم وعرسوا: نزلوا في آخر الليل للاستراحة، ونفر الحاج من منى كضرب نفرا ونفورا. 2 المخيلة: الظن. 3 أي أن المرء إذا لم يحسب لوعيد الله حسابًا، استرسل في اقتراف المعاصي والموبقات، وأفضى به ذلك إلى زلزلة العقيدة، ولو أنه كان خالص الإيمان لارعوى عما نهى عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، وتنادي أخرى: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، وتستغيث أخرى: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل} ، وتقول أخرى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} ، فرحم الله من نظر لنفسه، قبل غروب شمسه، وقدَّم لغده من أمسه، وعلم أن الحياة تَجُرُّ إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفَوْت، والصحَّة مَرْكَب الألم، والشبيبة سفينة تَقْطَع إلى ساحل الهرم". وإن شاء قال بعد الخطبة: "إخواني، ما هذا التواني؟ والكلَف بالوجود الفاني، عن الدائِم الباقي، والدهر يقطع الأماني، وهادم اللذات قد شرع في نقض المباني، ألا معتبر في عالم هذه المعاني، ألا مرتحل عن مَغَابِن هذه المَغَانِي1؟ ألا أُذُنٌ تصغى إليّ سَمِيعة ... أُحَدِّثُها بالصدق ما صَنَع المَوْتُ مددتُ لكم صوتي فأوَّاه حسرةً ... على ما بدا منكم فلم يُسْمَع الصوت هو القَدَر الآتي على كل أمة ... فتوبوا سِرَاعًا قبل أن يقع الفَوْتُ يا كَلِفًا بما لا يدوم، يا مفتونًا بغرور الوجود المعدوم، يا صَرِيع جدار الأجل المهدوم، يا مشتغلا ببنيان الطُّرُق قد ظهر المناخ وقَرُبَ القُدُوم، يا غريقًا في بحار الأمل ما عساك تعوم! يا مُعَلَّل الطعام والشراب، ولَمْعِ السَّرَاب2، لا بد أن تهجُر المشروب وتترك المطعوم، دَخَل سارقُ الأجل بيتَ عمرك فَسَلب النشاط وأنت تنظر، وطَوَى البساط وأنت تُكْرَب3، واقتلع جواهر الجوارح، وقد وقع بك النَّهْب، ولم يَبْقَ إلا أن يجعل الوسادة على أنفك ويقعد: لو خُفِّفَ الوجْدُ عني ... دعوتُ طالب ثاري {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ، كيف التَّرَاخي والفوتُ مع الأنفاس يُنْتظر،   1 المغاني: جمع مغنى وهو المنزل. 2 السراب: ما يرى وسط النهار كأنه ماء. 3 كربه الغم كنصر: اشتد عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 كيف الأمان وهاجِم الموت لا يبقى ولا يَذَر، كيف الركون إلى الطمع الفاضح وقد صَحَّ الخبر؟ من فكَّر في كرب الخُمار1 تَنَغَّصَت عنده لذةُ النبيذ، من أحَسَّ بلفظ2 الحريق فوق جداره، لم يُصْغِ بصوته لنغمة العود، من تَيَقَّنَ بِذُلّ العُزْلَةِ، هان عليه ترك الولاية. ما قام خيرك يا زمان بشرِّه ... أولى لنا ما قلَّ منك وما كَفَى أوحى الله سبحانه إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه: أن ضَعْ يَدَك على مَتْنِ ثور فَبِعَدَد ما حاذته من شعره تعيش سنين، فقال يا رب وبعد ذلك؟ قال: تموت، قال: يا ربا فالآن. رأى الأمر يُفضي إلى آخرٍ ... فصيَّر آخِرَه أوَّلا إذا شعرت نفسك بالميل إلى شيء فأعرض عليها غُصَّة فِراقه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فالمفروح به هو المحزون عليه، أين الأحباب مرُّوا؟ فيا ليت شعري أين استقروا؟ استكانوا والله واضطرُّوا، واستغاثوا من سَبَقَك3 بأوليائهم ففرُّوا، وليتهم إذ لم ينفعوا ما ضرُّوا، فالمنازل من بعدهم خالية خاوية، والعروش ذابلة ذاوية، والعظام من بعد التفاصل متشابهة متساوية، والمساكن تَنْدُب في أطلالها الذئابُ العاوية. صِحْتُ بالرَّبْع فلم يستجيبوا ... ليت شعري أين يمضي الغريب؟ وبجنب الدار قبر جديد ... منه يستسقى المكان الجَدِيب غاض قلبي فيه عند التماحي ... قلت: هذا القبر فيه الحبيبُ4 لا تَسَل عن رجعتي كيف كانت ... إن يوم البَيْن يوم عصيب   1 الخمار: صداع الخمر وأذاها. 2 أي برميه. 3 هكذا في الأصل، وكان يمكن أن يقول: "واستغاث من سبقك بأوليائهم" إلا أن يخرج على أن "من" مبتدأ مؤخر كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أو "من" بدل من واو الجماعة. 4 لمحه وألمحه والتمحه: إذا أبصره بنظر خفيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 باقتراب الموت علَلتُ نفسي ... بعد إِلْفِي، كلُّ آتٍ قريبُ أين المعمًّر الخالد، أين الولد أين الوالد، أين الطارف أين التالد، أين المجادل أين المجالد؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} 1 وجوه عَلَاهُنَّ الثَّرى، وصحائف تُفَضّ، وأعمال على الله تُعْرَض، بَحَثَ الزُّهَّاد والعبَّاد، والعارفون والأوتاد، والأنبياء الذين يُهْدَي بهم العباد، عن سبب الشقاء الذي لا سعادة بعده، فلم يجدوا إلا البعد عن الله تعالى، وسببه حبُّ الدنيا، "لن تجتمع أمتي على ضلالة". هجرتُ حبائبي من أجل ليلى ... فما لي بعد ليلى من حبيبِ وماذا أرتجى من وصل ليلى ... سَتَجْزِي بالقطيعة عن قريب وقالوا: ما أورد النفس الموارد، وفتح عليها باب الحَتْفِ إلا الأمل، كلما قَوَّمَتها مَثَاقِفُ الحدود، فتح لها أركان الرُّخَصِ. كلما عَقَدَت صومَ العزيمة، أهداها طُرَف الغُرُور في أطباق "حتى وإذا ولكن وربَّما" فأفرط القلب في تقليبها حتى أفْطَر: ما أَوْبَقَ الأنفس إلا الأملُ ... وهو غرورٌ ما عليه عمل يفرض منه الشخص وهمًا مَالَه ... حالٌ ولا ماضٍ، ولا مستقبل ما فوق وجه الأرض نفس حيَّةٌ ... إلا قد انقضَّ عليها الأجل لو أنهم من غيرها قد كُوِّنُوا ... لامتلأ السهل بهم والجبل ما ثَمَّ إلا لقم قد هُيئَت ... للموت، وهو الأكل المستعجل والوعد حق، والورى في غفلة ... قد خودِعوا بعاجل وضُلِّلُوا أين الذين شَيَّدُوا واغترسوا ... ومهَّدُوا وافترشوا وظُلِّلوا؟   1 الركز: الصوت الخفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 أين ذوو الراحات زادت حسرة ... إذ جنبوا إلى الثرى وانتقلوا1 لم تدفع الأحباب عنهم غير أن ... بَكَوا على فراقهم وأعولُوا الله في نفسك أولى من له ... ذخرت نصحًا وعتابا يُقْبَل2 لا تتركَنْها في عمىً وحيرة ... عن هول ما بين يديها تَغْفُل حَقِّر لها الفاني، وحاول زُهْدَها ... وشوِّقها إلى الذي تستقبل وفِدْ إلى الله بها مضطرة ... حتى ترى السير عليها يسهل3 هو الفناء، والبقاء بعده ... والله عن حكمته لا يسأل يا قرة العين ويا حسرتها ... يوم يُوَفَّى الناس ما قد عَمِلوا يا طُرُد4 المخالفة، إنكم مُدْرَكون، فاستبقوا باب التوبة، فإن ربَّ تلك الدار يجير ولا يُجَار عليه، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما هداكم، يا طُفَيْلَية الهمَّة، دُسُّوا أنفسكم بزمر التائبين، وقد دعوا دعوة الحبيب، فإن لم يكن أكلٌ فلا أقلَّ من طيب الوليمة، قال بعض العارفين: إذا عَقَدَ التائبون الصلح مع الله تعالى، انتشرت رعايا الطاعة في عمالة الأعمال، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} معاني هذا المجلس والله نَسِيم سَحَر، إذ استنشقه مخمور الغَفْلَةِ أفاق، سَعُوط5 هذا الوعظَ يَنْقُضُ6 إن شاء الله زَكْمة البَطالة، إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، إِكْسِير7 هذا الكتاب يلقَّب بحكمة جابر8، القلوب المنكسرة عين من كان له قلب   1 جنبه: دفعه. 2 أي: اتق الله في نفسك التي هي أولى.. إلخ. 3 فد: أمر من وفد أي أقدم. 4 الطريدة: ما طردت من صيد أو غيره. 5 في الأصل "سوط" وأراه محرفًا عن "سعوط" كما يدل عليه سياق الكلام، والسعوط: الدواء يصب في الأنف. 6 في الأصل "يبغض" وأراه "ينقض" أي يذهب. 7 الإكسير: الكيمياء. 8 يريد جابر بن حيان. قال ابن القفطي في تاريخ الحكماء في ترجمته "هو جابر بن حيان الصوفي الكوفي، وكان متقدمًا في العلوم الطبيعية، وفي صناعة الكيمياء .... إلخ" وذكره ابن زيدون في رسالته الهزلية، فقال: "وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء" قال ابن نباتة في سرح العيون: "وأما جابر بن حيان المذكور فلا أعرف له ترجمة صحيحة في كتاب يعتمد عليه، وهذا دليل على قول أكثر الناس أنه اسم موضوع وضعه المصنفون في هذا الفن، وزعموا أنه كان في زمن جعفر الصادق، وأنه إذا قال في كتبه: قال لي سيدي، وسمعت من سيدي، فإنه يعني به جعفرًا الصادق، وقد قدمنا لك أن جعفرًا الصادق توفي سنة 148هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} إلهي دُلُّنا من حَيرة يضلُّ فيها -إلا إن هَدَيْتَ- الدليلُ، وأَجِرْنَا من غَمْرة1 وكيف -إلا بإغاثتك- السبيلُ، نفوسٌ صَدِئ من مَرِّ الأزمان منها الصَّقِيل، ونَبَا بِجُنُوبها عن الحق المَقِيل -وآذان أنهضها القول الثقيل، وعَثَرات لا يقبلها إلا أنت يا مُقِيل العثرات يا مُقِيل، أنت حسبُنا ونعم2 الوكيل". "نفح الطيب 4: 85".   1 الغمرة: الشدة. 2 أورد المقري في نفح الطيب للسان الدين عقب ذلك كلامًا آخر في الوعظ وهو على نمط ما أوردناه لك فانظره هناك إن شئت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 19- وصية موسى بن سعيد العَنْسي 1 لابنه: قال أبو الحسن علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العَنْسي: لما أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة، أول وصولي إلى الإسكندرية رأى أبي أن يكتب لي وصية أجعلها إمامًا في الغربة، فبقي فيها أياما إلى أن كتبتها عنه، وهي هذه: أُودِعك الرحمن في غربتك ... مرتقبا رحماه في أَوْبَتِك   1 هو الكاتب الشهير أبو عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العَنْسي، من سلالة عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، وقد نَوَّه به ابن هود ملك الأندلس، وولاه الجزيرة الخضراء، وهو ممن رحل من علماء الأندلس إلى المشرق، وتوفي بالإسكندرية سنة640هـ عن 67 عاما. وكان أبوه محمد وزيرا جليلا بعيد الصيت، عالي الذكر، رفيع الهمة، كثير الأموال، وكان ذا حظوة لدى الموحدين، وولي لهم أعمالا كثيرة بمراكش وإشبيلية وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها. وكان جده عبد الملك بن سعيد صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة على بن يوسف بن تاشفين مالك البربر، إلى أن استبد بها سنة 39هـ. وابنه أبو الحسن علي هو متمم كتاب: "المغرب في أخبار المغرب"، وكان السبب في تأليفه هو جده عبد الملك بن سعيد، ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك، ثم تمم ما بقي منه ابنه موسى بن محمد، ثم أربى على الجميع في إتمامه علي بن موسى، وقد ذكر في خطبته أنه بدئ فيه من سنة 530، ومنها إلى غرة سنة 641هـ، وكان مولد أبي الحسن بغرناطة سنة 610، ووفاته بتونس سنة 685هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وما اختياري كان طَوْعَ النَّوَى ... لكنني أَجْرِي على بُغْيَتِكْ1 فلا تطل حبل النوى، إنني ... والله أشتاق إلى طَلْعَتك من كان مفتونا بأبنائه ... فإنني أمعَنْتُ في خِبْرَتِك فاحتضر التوديع أخذا، فما ... لي ناظر يقوِّي على فُرْقتك واجعل وَصَاتي نصب عين، ولا ... تبرح مدى الأيام من فكرتك خُلاصة العمر التي حُنِّكَتْ ... في ساعة زُفَّت إلى فِطنتك2 فللتجارِيب أمورٌ إذا ... طالعتها تشحذ من غفلتك فلا تَنَم عن وعيها ساعة ... فإنها عون إلى يقظتك3 وكلّ ما كابَدْتَه في النَّوَى ... إياك أن يكسر من همَّتك فليس يُدْرِي أصل ذي غُرْبَة ... وإنما تعرف من شيمتك وكل ما يفضى لعذرٍ فلا ... تجعله في الغربة من إِرْبَتِك4 ولا تجالس من فشا جهله ... واقصد لمن يرغب في صنعتك ولا تجادل أبدا حاسدا ... فإنه أدعى إلى هيبتك وامش الهُوَينى مظهرا عِفَّةً ... وابغِ رضا الأعين عن هيبتك أفشِ التحيَّات إلى أهلها ... ونَبِّه الناس على رُتْبَتك وانْطَلِق بحيث العِيُّ مستقبَح ... واصمت بحيث الخير في سكتَتِك ولا تَزَل مجتمعًا طَالِبا ... من دهرك الفرصة في وثبتك وكلما أبصرتها أمكنت ... ثب واثقا بالله في مَكْنَتِك5 ولِجْ عَلَى رزقك مِنْ بِابِه ... واقصِد له ما عِشْت في بُكْرتِك   1 النوى: البعد. 2 حنكت: أحكمت. 3 اليقظة بالتحريك وسكنه للشعر. 4 الإربة: الحاجة. 5 المكنة بفتح فكسر: التمكن والقدرة، وسكنه للشعر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وايأْس من الودِّ لديّ حاسد ... ضدٍّ، ونافسه على خطَّتك1 ووفِّر الجهد، فمن قصده ... قصدك لا تَعْْْْْْتِبْه في بِغْضَتِك ووفِّ كلًا حقه، ولتكن ... تكسر عند الفخر من حدتك ولا تكن تحقر ذا رتبةٍ ... فإنه أنفع في غربتك وحيثما خيَّمت فاقصد إلى ... صُحبةِ من ترجوه من نُصْرَتِكْ وللرَّزَايا وثبة، ما لها ... إلا الذي تذخر من عُدَّتك ولا تقل: "أَسْلَمُ لي وَحْدَتِي" ... فقد تقاسى الذلَّ في وحدتك والتزم الأحوال وزنا ولا ... ترجع إلى ما قام في شهوتك ولتجعل العقل مِحَكًّا، وخذ ... كلا بما يظهر في نقدتك واعتبر الناس بألفاظهم ... واصحب أخا يرغب في صحبتك بعد اختبار منك يقضي بما ... يحسن في الآخذ من خلطتك2 كم من صديق مُظْهِرٍ نصحه ... وفكره وقف على عثرتك إياك أن تَقْرَبه، إنه ... عون مع الدهر على كربتك واقنع إذا لم تجد مَطْمَعًا ... واطمع إذا أنعشت من عُسْرَتك وانْمُ نموَّ النبت قد زاره ... غِبُّ الندى، واسم إلى قدرتك وإن نبا دهر فوطِّن له ... جاشك، وانظره على مُدَّتك فكل ذي أمر له دولة ... فَوَفِّ ما وافاك في دولتك ولا تُضَيِّع زمنا ممكنا ... تَذْكَاره يذْكي لظى حسرتك والشَّرّ مهما اسطعت لا تأتِهِ ... فإنه حوز على مُهْجَتِك3   1 في الأصل "وأس من الرد ...... " وقد أصلحته وايأس" "وبه يستقيم المعنى". 2 الخلطة مثل العشرة وزنا ومعنى، والخلطة بالضم: اسم من الاختلاط، مثل الفرقة من الافتراق. 3 حازه حوزا: جمعه وضمه وامتلكه كاحتازه احتيازا، والمعنى: أنك إن أتيت الشر استحوذ على نفسك وتملكك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 يا بُنَيَّ الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله، قد قدمت لك في هذا النظم ما إن أَخْطَرته بخاطرك في كل أوان، رجوتُ لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى، وإن أخفَّ منه للحفظ، وأعلَقَ بالفكر، وأَحَقَّ بالتقدم قول الأول: يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاث فمنهن: حسن الأدب وثانية: حسن أخلاقه ... وثالثة: اجتناب الرِّيب وإذا اعتبرت هذه الثلاثة، ولَزِمْتَها في الغربة، رأيتها جامعة نافعة، لا يَلْحَقُك إن شاء الله مع استعمالها نَدَم، ولا يفارقك برٌّ ولا كَرَم، ولله دَرُّ القائل: يُعَدُّ رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب إذا حَلَّ أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب وما قصَّر القائل حيث قال: واصبر على خُلُق من نعاشره ... ودَارِه، فاللبيب مَنْ دَارَى واتَّخِذِ الناس كلهم سكنا ... ومَثِّل الأرض كلها دارا واصْغِ يا بُنَيّ إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر1، وسُلَّم الكرم والصبر: ولو أنَّ أوطان الديار نَبَتْ بكم ... لسكنتم الأخلاق والآدابا2 إذ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل، ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب: "وكان كلما طرأ3 على ملك، فكأنه معه وُلِد، وإليه قُصِد، غير مُسْتَريب بدهره، ولا مُنْكرا شيئًا من أمره"، وإذا دعاك قلبك إلى صحبةِ مَنْ أخذ بمجامع هواه4، فاجعل التكلف له سُلَّما، وهُبَّ في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحُلَّ بطرفه حلول الوَسَن5 وأنزل بقلبه نزول المسرة، حتى يتمكن لك ودادُه، ويخْلُص فيك اعتقاده، وطَهَّر من الوقوع فيه لسانَك، وأَغْلِقْ سمعك، ولا تُرَخِّص   1 يقال: درة يتيمة: أي لا نظير لها، وكل شيء مفرد يعز نظيره فهو يتيم. 2 نبابه منزله: إذا لم يوافقه. 3 طرأ عليهم كمنع: أتاهم من مكان، أو خرج عليهم منه فجأة. 4 الضمير فيه يعود على "قلبك". 5 الوسن: النعاس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 في جانبه لحسود لك منه، يريد إبعادك عنه لمنفعته، أو حسود له يغار لتجمُّله بصحبتك ومع هذا فلا تَغْتَرّ بطول صحبته، ولا تتمهَّد بدوام رَقدته، فقد ينِّبه الزمان، ويغَيِّر منه القلب واللسان، ولذا قيل: "إذا أحببت فأحْبِبْ هونًا ما، ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوا، والعدو صديقا" وإنما العاقل من جعل عقله معيارا، وكان كالمرآة يَلْقَى كل وجه بمثاله، وجعل نُصب ناظره قول أبي الطيب: ولما صار ود الناس خِبًّا ... جزيت على ابتسام بابتسام1 وفي أمثال العامة: "من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل"، فاحْتَذِ بأمثلة من جَرَّب، واستمع إلى ما خَلَّد الماضون بعد جَهْدهم وتَعَبهم من الأقوال، فإنها خلاصة عمرهم، وزُبْدَة تجاربهم، ولا تَتكل على عقلك، فإن النظر فيما تَعِب فيه الناس طول أعمارهم، وابتاعوه غاليا بتجاربهم، ويُرْبِحُك ويقع عليك رخيصًا، وإن رأيت من له مروءة وعقل وتجربة، فاستَفِدْ منه، ولا تضيع قوله ولا فعله، فإن فيما تلقاه تلقيحًا لعقلك، وحثًّا لك واهتداء. وإياك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع: والحُرُّ يُخْدَع بالكلام الطَّيِّب: فقد قال أحدهم: ما قيل أضرُّ من هذا البيت على أهل التجمل، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره، فإن كان موافقًا لعقلك، مُصْلِحًا لحالك، فراعِ ذلك عندك: وإلا فانْبِذْه نَبْذَ النواة، فليس لكل أحد يُتَبَسَّم ولا كل شخص يُكَلَّم، ولا الجود مما يُعَمُّ به، ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد، ولله دَرُّ القائل: وما لي لا أُوفي البريَّة قِسْطَها ... على قدر ما يُعْطِي وعقلي ميزان وإياك أن تعطى من نفسك إلا بِقَدَر، فلا تعامل الدُّون بمعاملة الكفء، ولا   1 الحب: الخداع والخبث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع، ويُنِيبك على مصلحة حاضرة عاجلة، بغائبة آجلة، واسمع قول الأول: وبِعْ آجلًا منك بالعاجل: وأَقْلِلْ من زيارة الناس ما استطعت، ولا تَجْفُهم بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يَلْحَق منه مَلَل ولا ضَجَر ولا جَفَاء، ولا تقل أيضا: أقْْْعُدُ في كسر بيتي، ولا أرى أحدًا، وأستريح من الناس، فإن ذلك كسل داعٍ إلى الذلِّ والمهانة، وإذا علم عدوٌ لك أو صديق منك ذلك، عاملاك بحسبه، فازدراك الصديق، وجَسَرَ عليك العدو، وإيَّاك أن يَغُرّك صاحب عن أن تَدَّخر غيره للزمان، وتطيعه في عداوة سواه، ففي الممكن أن يتغير عليك، فتطلب إعانة غيره، أو استغناء عنه، لا تجد ذخيرة قَدَّمْتها، وكان هو في أوسع حال، وأعلى رَأْي، بما دَبَّره بحيلته في انقطاعك عن غيره، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة ورياسة، مَنْ يكون لك عُدَّة، لكان ذلك أولى وأصوب، وسَلْنِي فإني خبير، طال -والله- ما صحبت الشخص أكثَرَ عمري، لا أعتمد على سواه، ولا أعتدّ إلا إياه، مُنْخَدِعًا بسرابه، مَوْثُوقا في حبائل خِطابه، إلى أن لا يحصل لي منه غير العَضّ على البَنَان، وقول: لو كان ولو كان! ولا يحملنَّك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد، وتعجِّل المكافأة، وليكن حسن الظن بمقدار ما، والفَطِن لا تخفى عليه مَخَابِل الأحوال، وفي الوجوه دلالات وعلامات، واَصْغِ إلى القائل: ليس ذا وجه من يضيف ولا يقـ ... ـري ولا يدفع الأذى عن حريم1 فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فَوَلِّ وجهك عنه قبله ترضاها، ولتحرص جهدك على أن لا تصحب أو تخدم إلا رب حِشْمَة ونعمة، ومن نشأ في رفاهية ومروءة، فإنك تنام معه في مِهاد العافية، وإن الجياد على أعْرَاقها2 تجري، وأهل الأحساب   1 ضافه يضيفه: نزل به ضيفًا، وقرى الضيف كرمي: أحسن إليه. 2 الأعراق: جمع عرق بالكسر وهو الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وَصْمَة، وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مَرْوان: أَشْرِب مصعب الخمر؟ فقال عبد الملك -وهو عدو له محارب له على الملك: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه؛ والفضل ما شهدت به الأعداء. يا بني، وقد علمت أن الدنيا دار مفارقة وتغيّر، وقد قيل: "اصحب مَنْ شئت فإنك مفارقه" فمتى فارقت أحدًا فعلى حُسْنَي في القول والفعل، فإنك لا تدري: هل أنت راجع إليه؟ فلذلك قال الأوَّل: "ولما مضى سَلْمٌ بكيت على سَلْم، وإياك والبيت السائر: وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بِخِزْيَةٍ وتَرَكْتَ عارا واحرص على ما جمع قول القائل: "ثلاثة تبقى لك الودَّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه"، واحذر كل ما بيَّنه لك القائل: "كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم، فإنك إذا غرسته يَقْلَعُك" وقول الآخر: "ابن آدم يتمَسْكَنُ حتى يتمكَّن"، وقول الآخر: "ابن آدم ذئب مع الضعف، وأسد مع القوة". وإياك أن تثبت على صُحْبة أحد قبل أن تُطِيل اختباره، فيحكيَ أن ابن المقفع خطب من الخليل صُحْبَتَه، فجاوبه: "إن الصحبة رِقّ، ولا أضع رِقِّي في يدك حتى أَعْرِف كيف مَلَكَتُك1"، واستمْلِ2 من عين مَنْ تعاشره، وتفقَّد في فَلَتَات الألسن وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبيِّنه، فإن الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك.   1 ملكه ملكة بالتحريك: وملكا مثلث الميم: ومملكة مثلث اللام: احتواء قادرا على الاستبداد به. 2 من استمليته الكتاب: سألته أن يمليه علي، والمعنى: استرشد وتبين من نظرات عينه أحبيب لك هو أم عدو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وآكد ما أوصيك به أن تَطْرَح الأفكار، وتُسَلِّم للأقدار. واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرَّ عينا بعيشه نفعه إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القُطوب، عُنوان المصائب والخُطوب، ويستريب به الصاحب، ويشمت العدو المُجَانِب، ولا تضرّ بالوساوس إلا نفسك، لأنك تنصر بها الدهر عليك، ولله دَرُّ القائل: إذا ما كنت للأحزان عونا ... عليك مع الزمان فَمَنْ تلوم مع أنه لا يرد عليك الفائِتَ الحَزَن، ولا يرعوى بطول عتبك الزمن، ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد أَلِفَتْه الهموم، وعشقته الغموم، من صغره إلى كبره، ولا تراه أبدا خليًّا من فكره، حتى لُقِّب بصدر الهم، ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكَّد في الشدة، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكَّد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم. وينشد: توقَّع زوالا إذا قيل تَمَّ، وينشد: وعند التناهي يَقْصُر المتطاول. وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، ومثل هذا عمره مخسور يمرّ ضياعا. ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذُمُّون من العلم ما تُحْسِنُه حسدا لك، وقصدًا لتصغير قدرك عندك، وتزهيدا لك فيه، فلا يَحْمِلك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحَجَلَة1 فرام أن يتعلمه فصَعُب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشية فَنَسِيَه، فبقى مُخَبَّل المشي، كما قيل: إن الغراب "وكان يمشي مِشْيَةً ... فيما مضى من سالف الأجيال"2 حسد القَطَا، وأراد يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العُقَّال3   1 الحجل بالتحريك: طائر على قدر الحمام كالقطا أحمر المنقار والرجلين، والواحدة حجلة واسم جمعه حجل بكسر فسكون ففتح ولا نظير له سوى ظربى "ومفرده ظربان بفتح فكسر وهو دويبة منتنة الريح". 2 هذا البيت ليس مثبتا في الأصل، وقد أورده الدميري مع البهتين بعده في حياة الحيوان الكبرى 2: 244. 3 العقال: داء في رجل الدابة إذا مشى ظلع ساعة ثم انبسط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 فَأَضَلَّ مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك سمُّوه أبا مرقالِ1 ولا يُفْسِد خاطرك من جعل يذُمّ الزمان وأهله، ويقول: "ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل، ولا مكان يُرْتَاحُ فيه"، فإن الذين تراهم على هذه الصفة، أكثر ما يكونون ممن صَحِبه الحِرْمَان، واستحقت طلعته للهوان، وأبْرَمُوا2 على الناس بالسؤال فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها، فاستراحوا إلى الوقوع في الناس، وإقامة الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم، وتعذير أمورهم، ولا تُزِل هذين البيتين من فكرك: لِنْ إذا ما نِلْتَ عِزًّا ... فأخو العز يلينُ فإذا نابك دهر ... فكما كنت تكون وقول الآخر: تِهْ وارتفع إن قيل أقتَرَ ... وانخَفِضْ إن قيل أَثْرَى3 كالغصنِ يسفُل ما اكتسى ... ثمرا، ويعلو ما تَعَرَّى ولا قول الآخر: الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيتَ من زادِ واعتقد في الناس ما قاله القائل: ومَنْ يَلْقَ خيرا يحمد الناس أمره ... ومَنْ يَغْوِ لا يَعْدِمْ عَلَى الغَيِّ لَائِمًا وقريب منه قول القائل: بقدر الصُّعود يكون الهبوط ... فإياك والرُّتَبَ العاليهْ وكن في مكان إذا ما سَقَطْتَ ... تقوم ورجلاك في عافِيهْ وتَحَفَّظْ بما تضمنه قول الآخر:   1 من أرقلت الدابة: إذا أسرعت. 2 أورد الفعل لازما وهو متعد، جاء في كتب اللغة: "أبرمه فبرم كفرح وتبرم: أمله فمل". 3 أنثر: افتقر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 ومن دعا الناس إلى ذَمِّهِ ... ذَمُّوه بالحق وبالباطل ولله دَرُّ القائل: ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... فإذا قَنِعت فكل شيء كافي والأمثال يضربها لذي اللُّبِّ الحكيم، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم، والفَطِن يقنع بالقليل، ويستدلّ باليسير، والله سبحانه خليفتي عليك، لا ربَّ سواه". "نفح الطيب 1: 493". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 20- خطبة ابن الزيات المنزوعة الألف "توفي سنة728": وخطب أحمد بن الحسن بن علي بن الزيات1 خطبة ألغيت الألف من حروفها على كثرة ترددها في الكلام، وهي: "حمدتُ ربِّي من كريم محمود، وشكرته عزَّ من عظيم معبود، ونزَّهْتُه عن جهل كلِّ مُلْحِد كفور، وقَدَّسْتُه عن قول كل مفسد غرور. كبير لو تَقَوَّم في فهم لُحدّ2، قدير لو تَصَوَّر في رسم لُحدَّ3، لو عَرَتْه4 فِكَرة تصوُّر لَتَصَوَّر ولو حَدَّتْْه فكرة لَتَقَدَّر5، لو فهمت له كيفية لبطل قِدَمه، ولو عُلِمَت له كيفية لحَصَل عَدَمُه، ولو حُصِر في ظرف لقطع بتجسُّمه، ولو قهره وصف لصدع6 بتقسُّمه، ولو فرض له شبح لَرَهِقه7 كيفٌ. عظيم من غير تركيب قٌطْر، عليم من   1 هو أحمد بن الحسن بن علي بن الزيات الخطيب المتصوف، من أهل بلش ما لقة ولد سنة 649هـ، وتوفي سنة 728هـ. قال فيه لسان الدين بن الخطيب: "كان بفتح مجالسه أكثر الأحيان بخطب غريبة، يطبق بها مفاصل الأغراض التي يشرع فيها، وينظم الشعر دائما في مراجعته ومخاطبته وإجازته من غير تأن ولا روية، حتى اعتاده ملكة، واستعمل في السفارات بين الملوك لدحض السخائم، وإصلاح الأمور، فكانوا يوجبون حقه، ويلتمسون بركته ودعاءه" وله تصانيف كثيرة ذكرها ابن الخطيب. 2 أي لعرف، من الحد: وهو التعريف. 3 من التحديد، أي لصارت له ذات محدودة، ولو أنه قال: "قديم" بدل "قدير" لناسب أن يقول بعده: "لجد" بالجيم المفتوحة أي لصار جديدا حادثا. 4 عرته: أي اعترته وتناولته، وفي الأصل "عدته" بالدال وأراه محرفا، وتصور أي تمثل في صورة، يقال: صوره فتصور. 5 لتقدر: أي صار له قدر مجسم، وفي الأصل "لتعذر" وأراه محرفا. 6 صدع به: جهر. 7 رهقه: غشيه ولحقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 غير ترتيب فكر، موجود من غير شيء يُمْسِكه، معبود من غير وهم يدركه، كريم من غير عوض يَلْحَقُه، حكيم من غير عَرَض يلحقه1، قويّ من غير سبب يجمعه، عليّ من غير سبب يرفعه، لو وجد له جنس لعُورِض في قيُّوميته2، لو ثبت له حس لنُوزِع في ديَمُومِيَّته3. ومنها: تقدَّس وعزَّ فعله، وتنزَّه عزَّ اسمه وفضله، جلَّ قاهر قدرته، وعزَّ باهرُ عِزَّته، وعظمت صِفَتُه، وكثرت مِنَّتُه، فَتَقَ ورَتَقَ، وصَوَّرَ وخَلَقَ، وقََطَع ووصل ونصر وخذل، حمدْته حمد من عَرَف ربه، ورَهِب ذنبه، وصَفَّت حقيقة يقينه قلبه، وزَكَّت4 بصيرة دينه لُبُّه، وربط سلك سلوكه وشَدَّ5، وهَدَمَ صَرْحَ عُتُوِّه وهَدَّ، وحَرَسَ مَعْقِل عقله وحَدَّ، وطرد غرور غِرَّته6 ورَذَلَه7، عَلِمَ عِلْمَ تحقيق فنحا نحوه، نُقِرُّ له عز وجل بثبوت ربوبيته وقِدَمه، ونعتقد صدور كلِّ جوهر وعرض عن جوده وكَرَمِه، ونشهد بتبليغ محمد صلى ربُّه وسلم عليه، ورسوله وخير خلقه، ونُعْلِن بنهوضه في تبيين فرضه، وتبليغ شرعه، وضرب قُبَّةِ شرعه فنسخت كل شرع، وجدَّدَ عزيمته فَقَمَع عدوه خير قمع، قَوَّم كل مُقَوَّم بقويم سنته، وكريم هديه، وبيَّن لقومه كيف يَرْكَنُون8، ففازوا بقصده وسديد سعيه، بشَّر مُطِيعَه فظَفَر برحمته، وحَذَّر عاصِيَه فَشَقِيَ بنقمته. وبعد: فقد نصحتكم لو كنتم تعقلون، وهديتكم لو كنتم تعلمون، بُصِّرتم لو كنتم تبصرون، وذُكِّرْتُم لو كنتم تذكرون، ظهرت لكم حقيقة نشركم،   1 يلحقه الأول: أي يناله ويأخذه، ويلحقه الثاني بمعنى يتصف به. 2 القيوم: من أسمائه تعالى، أي الذي لا ند له. 3 الديمومة: الدوام. 4 زكت: ظهرت. 5 في الأصل "وشيد" وأراه محرفا عن "شد" إذ هي التي تلائم قوله قبلها "وربط". 6 الغرة: الغفلة. 7 رذله وأرذله: عده رذلا. 8 ركن إلى الشيء ركونا: مال إليه واطمأن، أي بين لهم كيف يركنون إلى الحق والصواب، وقد كانوا من قبله يعمهون في ضلالتهم ويخبطون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وبرزت لكم حقيقة حشركم، فكم تَرْكُضُون في طَلَق1 غفلتكم، وتغفلون عن يوم بعثكم، وللموت عليكم سيف مَسْلُول، وحُكْمُ عزم غير معلول، فكيف بكم يوم يُؤْخَذ كل بذنبه، ويُخْبَر بجميع كسبه، ويفرَّق بينه وبين صحبه، ويَعْدَم نُصْرة حزبه، ويشتغل بهَمِّه وكربه، عن صديقه وتِرْبِه، وتُنْشَر له رُقْعَة، وتعيَّن له بقعة؟ فَرَبَح عبد نظر وهو في مَهَلٍ لنفسه، وترسَّل في رَضِيِّ عمل جنة لحلول رمْسِه2 وكَسَر صنم شهوته، ليَقَرَّ في بُحْبُوحة3 قُدْسِه. ومنها: فتنبًّه -ويحك- من سِنَتك ونومك، وتفكر فيمن هلك من صُحبتك وقومك، وهتف بهم من تعلم، وشَبَّ عليهم منه حرقٌ4 مُظْلِم، فَخَرِبَت بصحبته ربوعهم، وتفرقت لهوله جُمُوعُهم، وذلَّ عزيزهم، وخَسِئَ رفيعهم، وصَمَّ سميعهم، فخرج كل منهم عن قصره، ورُمِيَ غير مُوَسَّد في قبره، فهم بين سعيد في روضة مُقَرَّبٍ، وبين شَقِيٍّ في حفرة معذَّب، فنستوهِبُ منه عز وجل عصمة من كل خطيئة، وخصوصية تقي من كل نفس جريئة5". "الإحاطة، في أخبار غرناطة 1: 154".   1 يقال: جرى الفرس طلقا أو طلقين: أي شوطا أو شوطين. 2 الرمس: القبر. 3 بحبوحة المكان: وسطه. 4 الحرق: النار ولهبها. 5 يلاحظ أن في الخطبة خمس كلمات فيها ألف وهي: قاهر. باهر. عاصيه. ففازوا. فنحًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 21- خطبة القاضي عياض التي ضمنها سور القرآن : وخطب القاضي أبو الفضل عياض1 خطبة ضمنها سور القرآن، فقال: "الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبيَّن في سورة البقرة أحكامه، ومدَّ     1 هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض ولد سنة 476هـ، بسبتة - بلد بمراكش على الساحل الشمالي ودخل الأندلس طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن جماعة، وجمع من الحديث كثيرا، وكان له به كبير عناية، وكان إمام وقته فيه، وفي النحو واللغة واستقضى ببلده سبتة، ثم نقل منها إلى قضاء غرناطة، وتوفي بمراكش سنة 544هـ، قال المقري بعد أن أورد هذه الخطبة: "وفي نفسي من نسبها له شيء؛ لأن نفس القاضي في البلاغة أعلى من هذه الخطبة، والله تعالى أعلم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 في آل عمران والنساء مائدة الأنعام لِيُتِمَّ إنعامه، وجعل في الأعراف أنفال توبة يونس وألر كتاب أحكمت آياته، بمجاورة يوسف الصِّدِّيق في دار الكرامة، وسبَّح الرعد بحمده، وجعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم؛ ليؤمن أهل الحجر1 أنه إذا أتى أمر الله سبحانه فلا كَهْفَ ولا ملجأ إلا إليه، ولا يُظْلَمُون قُلَامَة، وجعل في حروف كهيعص سرًا مكنونًا، قدَّم بسببه طه -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء ليظهر إجلاله وإعظامه، وأوضح الأمر حتى حجَّ المؤمنون بنور الفرقان، والشعراء صاروا كالنمل ذلًّا وصغارا لعظمته، وظهرت قَصَص العنكبوت فآمن به الروم، وأيقنوا أنه كلام الحيّ القيوم، نزل به الروح الأمين على زَيْن من وَافَى يوم القيامة، وأوضح لقمان الحكمة بالأمر بالسجود لربِّ الأحزاب، فَسَبَا فاطر السموات أهل الطاغوت، وأكْسَبَهم ذلا وخِزْيا وحَسْرة وندامة، وأمدَّ يس -صلى الله عليه وسلم- بتأييد الصَّافَّات2، فصاد الزُّمر يوم بدره، وأوقع بهم ما أوقع صناديدهم في القَليب3 مكدوس ومكبوب، حين شَالَت بهم النَّعامة4، وغفر غافر الذنب وقابل التوب للبدريين -رضي الله عنهم- ما تقدم وما تأخر حين فُصِّلَت كلمات الله، فذلّ من حقت عليه كلمة العذاب وأَيِسَ من السلامة، ذلك بأنَّ أمرهم شورى بينهم، وشغلهم زخرف الآخرة عن دخان الدنيا، فجثوا أمام الأحقاف5 لقتال أعداء محمد -صلى الله عليه وسلم- يمينه وشماله وخلقه وأمامه، فأُعطوا الفتح وبُوِّئُوا حُجُرَات الجنان، وحين تلوا: ق والقرآن المجيد، وتدبَّروا جواب قسم الذاريات6 والطور، لاح لهم نجم الحقيقة وانشقَّ لهم قمر اليقين، فنافروا السآمة، ذلك بأنهم أمَّنهم الرحمن إذا وقعت الواقعة،   1 واد بين المدينة والشام، وهو منازل ثمود. 2 الملائكة تصف نفوسها للعبادة. 3 القليب: البئر. 4 شالت نعامتهم: خفت منازلهم منهم، أو تفرقت كلمتهم، أو ذهب عزهم. 5 واد باليمن به منازل عاد. 6 الذاريات: الرياح تذر والتراب وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 واعترف بالضعف لهم الحديد، وهزم المجادلون، وأُخْرِجوا من ديارهم لأول الحشر يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، حين نافروا السلامة. أحمده حمد من امتحنته صفوف الجموع في نَفَق التَّغَابن، فطَّلق الحرمات حين اعتبر الملك وعامَه، وقد سمع صريف القلم وكأنه بالحاقة1 والمعارج يمينه وشماله وخلفه وأمامه، وقد ناح نوح الجن فتزمَّل2 وتدثَّر فَرَقًا من يوم القيامة، وأنس بمُرْسَلَات النبأ، فنزع العُبُوس من تحت كُور العمامة، وظهر له بالانفطار التطفيف، فانشقت بُرُوج الطارق بتسبيح الملك الأعلى وغَشِيَته الشهامة، فوربِّ الفجر والبلد والشمس والليل والضحى، لقد انشرحت صدور المتقين، حين تلوا سورة التين، وعَلِق الإيمان بقلوبهم، فكل على قدر مقامه يُبِين، ولم يكونوا بمنفكين دهرهم، ليله ونهاره وصيامه وقيامه، إذا ذكروا الزلزلة ركبوا العاديات3 ليطفئوا نور القارعة، ولم يلههم التكاثر حين تلو سورة العصر والهمزة، وتمثلوا بأصحاب الفيل فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. أرأيتم كيف جعلوا على رءوسهم من الكور عمامة؟ فالكوثر4 مكتوب لهم، والكافرون خذلوا، وهم نُصِروا، وعدل بهم عن لهب الطَّامَّة، وبسورة الإخلاص قَرُّوا سعدوا، وبرب الفلق5 والناس، استعاذوا فَأُعِيذوا من كل حزن وهم وغم وندامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، شهادة تُنال بها منازل الكرامة -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه ما غرَّدَتْ في الأَيْكِ حَمَامة". "نفح الطيب 4: 391".   1 الحاقة: القيامة التي فيها يحق ما أنكر من البعث والجزاء. 2 تزمل بثيابه: تلفف بها، وكذا تدثر. 3 الخيل تعدو في الغزو، والقارعة التي تقرع القلوب بأهوالها. 4 الكوثر: نهر في الجنة. 5 الفلق: الصبح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 22- خطبة سعيد بن أحمد المقري التي ضمنها سور القرآن : وخطب سعيد بن أحمد المَقَّرِي1 خطبة على هذا النمط نصها: "الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة، ليصطفي من آل عمران رجالا ونساء، وفضَّلهم تفضيلا، ومدَّ مائدة إنعامه ورزقه؛ ليعرف أعراف أنفال كرمه حَقَّه على أهل التوبة، وجعل ليونس في بطن الحوت سبيلا، ونجَّى هودا من كربه وحزنه، كما خلَّص يوسف من جُبِّه وسجنه، وسبح الرعد بحمده ويمنه، واتخذ الله إبراهيم خليلا، الذي جعل في حَِجر الحِجْرِ من النحل شرابا نوَّع باختلاف ألوانه، وأوحى إليه بخفيّ لطفه سبحانه، واتخذ منه كهفا قد شَيَّد بنيانه، وأرسل روحه إلى مريم فتمثَّل لها تمثيلا، وفضَّل طه على جميع الأنبياء، فأتى بالحج والكتاب والكنون؛ حيث دعا إلى الإسلام قد أفلح المؤمنون، إذ جعل نور الفرقان دليلا، وصدَّق محمدا -صلى الله عليه وسلم- الذي عَجَزت الشعراء في صدق نَعْتِه، وشهدت النمل بصدق بعثه، وبيَّن قصص الأنبياء في مدة مكثه، ونسج العنكبوت عليه في الغار سِتْر مسدولا، وملئت قلوب الروم رعبا من هيبته، وتعلم لقمان الحكمة من حكمته، وهدى أهل السجدة للإيمان بدعوته، وهزم الأحزاب وسباهم وأخذهم أخذا وبيلا، فلقَّبه فاطر السموات والأرض بيس، كما نفَّذَ حكمه في الصافات وبيَّن ص صدقه بإظهار المعجزات، وفرَّق زمر المشركين، وصبر على أقوالهم وهجرهم هجرا جميلا، فغفر له غافر الذنب ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفُصِّلَت رقاب المشركين إذ لم يكن أمرهم شورى بينهم، وزخرف منار الإسلام، وخَفِيَ دخان الشرك، وخرَّتِ المشركون جاثية، كما أنذر أهل الأحقاف فلا يهتدون سبيلا، وأذلَّ الذين كفروا بشدة القتال،   1 هو سعيد بن أحمد المقري عم أحمد المقري صاحب نفح الطيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وجاء الفتح للمؤمنين والنصر العزيز، وحِجْر الحجرات الحريز، وبِـ"ق" القدرة قُتِّل الخراصون1 تقتيلا، كلَّم موسى على جبل الطور، فارتقى نجم محمد -صلى الله عليه وسلم- فاقتربت بطاعته مبادئ السرور، وأوقع الرحمن واقعة الصبح على بساط النور، فتعجب الحديد من قوته، وكثرة المجادلة في أمته، إلى أن أعيد في الحشر بأحسن مقيلا أمتحنه في صف الأنبياء وصلى بهم إماما، وفي تلك الجمعة مُلِئت قلوب المنافقين من التغابن خسرا وإرغاما، فطلَّق وحرَّم، تبارك الذي أعطاه الملك، وعلم بالقلم، ورتل القرآن ترتيلا، وعن علم الحاقة كم سأل سائل فسأل الإيمان، ودعا به نوح فنجاه الله تعالى من الطوفان، وأتت إليه طائفة الجن يستمعون القرآن، فأنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} ، فكم من مدَّثِّر يوم القيامة شفقة على الإنسان إذا أرسل مرسلات الدمع، فعم يتساءلون أهل الكتاب، وما تقبل من نازعات المشركين إذا عبس عليهم مالك تولاهم بالعذاب، وكورت الشمس وانفطرت السماء، وكانت الجبال كثيبا مهيلا، فويل للمطففين، إذا انشقت السماء بالغمام، وطويت ذات البروج، وطرق طارق الصُّور بالنفخ للقيام، وعز اسم ربك الأعلى لغاشية الفجر، فيومئذ لا بلد ولا شمس ولا ليل طويلًا، فطوبى للمصلين الضحى عند انشراح صدورهم، إذا عاينوا التين والزيتون وأشجار الجنة، فسجدوا باقرأ اسم ربك الذي خلق هذا النعيم الأكبر لأهل هذه الدار ما أحيوا ليلة القدر، وتبتلوا تبتيلا، ولم يكن للذين كفروا من أهل الكتاب من أهل الزلزلة من صديق ولا حميم، وتسوقهم كالعاديات إلى سواء2 الجحيم، وزلزلت بهم قارعة العقاب، وقيل لهم: ألهاكم التكاثر، هذا عصر العقاب الأليم، وحُشِر الهمزة وأصحاب الفيل إلى النار فلا يظلمون فتيلا، وقالت قريش ما أمنتم من هول الحشر، أرأيت الذي يكَذِّبُ بالدين كيف   1 الكذابون. 2 وسط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 طُرِد عن الكوثر؟ وسيق الكافرون إلى النار، وجاء نصر الله والفتح، فتبت يدا أبي لهب: إذ لا يجد إلى سورة الإخلاص سبيلا، فنعوذ برب الفلق من شرِّ ما خلق، ونعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي فسق، ونتوب إليه ونتوكل عليه وكفى بالله وكيلا". "نفح الطيب 4: 392". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 23- خطبة الكفعمي التي ضمنها سور القرآن أيضًا: وخطب الكفعمي1 خطبة على هذا النمط أيضا نصها: "الحمد لله شرَّف النبي العربي بالسبع المَثَاني وخواتيم البقرة من بين الأنام، وفضَّل آل عمران على الرجال والنساء، بما وهب لهم من مائدة الأنعام، ومنحهم بأعراف الأنفال، وكتب لهم براءةً من الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي نجَّى يونس وهودًا ويوسف من قومهم، برعْد الانتقام، وغذَّى إبراهيم في الحجر بلعاب النحل ذات الإسرار، فضاهى كهف مريم عليها السلام، وأشهد أن محمدًا عبد هـ ورسوله الذي هو طه الأنبياء، وحج المؤمنين، ونور فرقان الملك العلَّام، فالشعراء والنمل بفضله تُخْبِر، ولقصص العنكبوت الروم تَذْكُر، ولقمان في سجدته يشكر، والأحزاب كأيادي سَبَا تَقْهَر، وفاطر يس لصافاته ينصر، وصاد مقلة زمره تنظر الأعلام، فآل حم بقتال فتحه في حُجُرات قافه قد ظَهَرت، وذاريات طُوره ونجمه وقمره قد عَطِرَت، وبالرحمن واقعة حديده يوم المجادلة قد نُصِرت وأبصار معانديه في الحشر يوم الامتحان حَسَرت2، وصفَّ جمعته فائز إذ أجساد المنافقين بالتغابن استعرت، وله الطلاق والتحريم ومقام الملك والقلم، فناهيك به من   1 قال صاحب نفح الطيب في ترجمته: "هو إبراهيم بن علي بن حسن بن محمد بن صالح نسبة إلى كفر ... قرية من قرى أعمال سفد كما نقول في النسبة إلى بني عبد الدار عبدري، وإلى حصن كيفا: حصكفي". 2 حسر البصر كضرب: كل فهو حسير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 مقام، وفي الحاقة، أعلى الله له المعارج نوح المطهر، وخصه من بين الأنس والجن بيأيها المزمل، ويأيها المدثر، وشفَّعَه في القيامة إذا دموع الإنسان مرسلات كالماء المتفجر، ووجهه عند نبإ النازعات وقد عبس الوجه كالهلال المتنوِّر، ويوم التكوير والانفطار وهلاك المطففين وانشقاق ذات البروج بشفاعته غير متضجّر، وقد حُرِست لمولده السماء بالطارق الأعلى، وتمت غاشية العذاب إلى الفجر على المَرَدة اللئام، فهو البلد الأمين، وشمس الليل والضحى المخصوص بانشراح الصدر، والمفضَّل بالتين والزيتون، المستخرج من أمشاج1 العلق، الطاهر العليّ القدر، شجاع البرية يوم الزلزال؛ إذ عاديات القارعة تدوس أهل التكاثر ومشركي العصر، أهلك الله به الهمزة وأصحاب الفيل إذ مكروا بقريش ولم يتواصَوْا بالحق ولم يتواصوا بالصبر، المخصوص بالدين الحنيفي والكوثر السَّلسال، والمؤيد على أهل الجحد بالنصر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تبَّت يدا معاديه، ونعم بالتوحيد مواليه، وما أفصح فلق الصبح بين الناس وامتد الظلام". "نفح الطيب 4: 395".   1 مشج بينهما كضرب: خلط، والشيء مشيج، والجمع أمشاج كيتيم وأيتام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 الباب الثاني في خطبة ووصايا مجهول عصرها أو قائلها خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة ... الباب الثاني في خطب ووصايا مجهول عصرها أو قائلها: 1- خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة: لما وَلِيَ أبو بكر بن عبد الله بالمدينة1 وطال مُكْثه عليها، كان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإسعافٌ من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس في يوم جمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: "أيها الناس: إني قائل قولا، فمن وَعَاه وأدَّاه فعلى الله جزاؤُه، ومن لم يَعِهِ فلا   1 لا أعرف صاحب هذا الاسم واليًا على المدينة، وإنما الذي قرأته في تاريخ الطبري أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ولي المدينة من سنة 96 إلى سنة100 في خلافة سليمان بن عبد الله الملك وعمر بن عبد العزيز "انظر تاريخ الطبري، الجزء الثامن، حوادث السنين ص96 إلى 100" وذكر أيضا القلقشندي في صبح الأعشى "ج4: ص296" أن أبا بكر بن محمد هذا ولي المدينة أيام سليمان بن عبد الملك، والظاهر أنه صاحب هذه الخطبة، وإني لأستأنس في ذلك بقوله: "وطال مكثه عليها" فقد تولاها خمس سنين، وبالغرض الذي قيلت فيه الخطبة، وأنت تذكر ما كان في العهد الأموي من اتساع دائرة الاختلاف الحزبي، والنضال السياسي البعيد المدى، وربما كان "عبد الله" اسما آخر لأبيه محمد، تسمى به تواضعا، وكان ذلك من عادة السلف الصالح رضوان الله عليهم كثيرا، انظر مثلا كتاب عمر في صلح أهل إيليا "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان". "الطبري 4: 159". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 يَعْْدُ من ذمامها1 إن قَصَّرْتم عن تفضيله، فلن تَعْجِزوا عن تحصيله، فأَرْعوه أبصاركم، وأَوْعُوه أسماعكم، وأَشْعِروه2 قلوبكم، بالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ 3 السَّبِيلِ} ، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغيّ ترشدوا، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، والله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، أمركم بالجماعة، ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة، وسخطها منكم، فـ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ 4 وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا 5 حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} ، جعلنا الله وإياكم ممن تبع رضوانه، وتجنب سخطه، فإنما نحن به وله. وإن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحابه على الحق، ووُزراء دون الخلق اختصهم به، وانتخبهم له، فصدَّقوه ونَصَرُوه، وعزَّروه6 ووقَّروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يُحْجِمُوا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم فأحسن صفتهم، وذكرهم فأثنى عليهم، فقال، وقوله الحق: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ 7، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ   1 أي فلا يخرج عن حرمتها، وتأنيث الضمير في "ذمامها" باعتبار الموعظة أو المقولة. 2 أي الزقوة به. 3 القصد: استقامة الطريق، أي بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق. 4 التقاة: التقوى، وجمعها تقي كرطبة ورطب، وأصلها وقيه قلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤدة وتخمة، والياء ألفا. 5 الشفا: حرف كل شيء. 6 التقرير: التفخيم والتعظيم "وهو أيضًا أشد الضرب. ضد". 7 أي ذلك مثلهم في الكتاب، والشط: فراخ الزرع، فآزره أي فقواه، فاستوى على سوقه: أي فاستقام على أصواله وسيقانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، فمن غاظه كفر وخاب، وفَجَر وخَسِرَ، وقال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ 1 وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فمن خالف شريطة الله عليه لهم، وأمره إياه فيهم، فلا حق له في الفيء ولا سهم له في الإسلام، في آيٍ كثيرة من القرآن؟ فمَرَقت مارقة من الدين، وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عِضِين2، وتشعَّبوا أحزابا، أُشَابَاتٍ وأُوْشَابًا3، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذَوْا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم، فخابوا وخَسِروا الدنيا والآخرة {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} مالي أرى عيونا خُزْرًا4، ورقابا صُعْرًا5، وبطونا بُجْرًا6 شَجًا لا يسيغه الماء7، وداء لا يشرب فيه الدواء {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} كلا والله، بل هو الهناء8 والطِّلاء، حتى يظهر العُذر، ويبُوح السِّمرُّ، ويَضحَ الغيب،   1 يؤثرون: يفضلون ويقدمون والخصاصة: الحاجة والفقر. 2 جمع غصة كعدة: وهي الفرقة والقطعة. 3 أشابات جمع أشابة: وهي الأخلاط، وأشبه كضربه: خلطه، والأوشاب جمع وشب كحمل، والأوباش جمع وبش كسبب: الأخلاط والسفلة. 4 جمع خزراء مؤنث أخزر وصف من الخزر بالتحريك، وهو النظر في أحد الشقين. 5 الصعر بالتحريك: ميل في الوجه، أو في أحد الشقين، أو داء في البعير يلوي عنقه منه، صعر كفرح فهو أصعر. 6 بجر بطنه كفرح أيضًا فهو أبجر: عظم، والجمع بجر كحمر. 7 الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، لا يسيغه: أي لا يجعله سائغًا سهل المدخل في الحلق. 8 الهناء: القطران، ويريد أنه يعالجهم كما تطلى الإبل الجربى بالقطران لمداواتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 ويسَوَّس الجُنُب1، فإنكم لم تُخْلَقُوا عبثًا، ولم تتركوا سدىً، ويحكم! إني لست أتاوِيُّا2 أُعَلَّم، ولا بدويا أُفَهَّم، قد حلبتكم أَشْطُرًا3، قلَّبتكم أبطُنًا وأظهرا، فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسرُّوا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض، ووَلَّدُوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أنبائهم أعوانا يأذنون لهم4، ويُصْغُون إليهم مهلًا مهلًا قبل وقوع القَوَارِع5، وطول الروائع، هذا لهذا ومع هذا6، فلست أعتنش7 آئبًا ولا تائبًا، {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ، فأسِرُّوا خيرا وأظهروه، واجهروا به وأخلصوه، فطالما مَشَيْتُم القَهْقَري ناكصين، وليعلم من أدبر وأصَرَّ أنها موعظة بين يدي نقمة، ولست أدعوكم إلى أهواء تتَّبَع، ولا إلى رأي يبتَدَع، إنما أدعوكم إلى الطريقة المُثْلى، التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده، فهلمَّ إلى الشرائع الجَدَائِع8، ولا تُوَلُّوا عن سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا   1 باح السر: ظهر، وباح بسره: أظهره ووضح يضح واتضح واحد، ويسوس: أي يروض ويذلل: مضعف ساسه يسوسه. يقال: سوست له أمرا إذا روضته وذللته، والجنب: الصعب الذي لا ينقاد. 2 الأتاوى: الغريب عن القوم. 3 اقتبسه من المثل المشهور: "حلب الدهر أشطره" والناقة شطران، قادمان وآخران، فكل خلفين شطر بفتح الشين -والخلف للناقة كالضرع البقرة- وأشطره منصوب على البدل، فكأنه قال: حلب أشطر الدهر، والمعنى: اختبر الدهر وعرف خيره وشره. 4 أذن له وإليه كفرح: استمع. 5 القوارع جمع قارعة: وهي الداهية الفاجئة، والروائع جمع رائعة، وهي المفزعة. 6 أي هذا الذي أتهددكم به من القوارع والروائع، لهذا الذي تخوضون فيه، ومقرون به. 7 اعتنشه: ظلمه. 8 الذي في كتب اللغة: "جداع كسحاب وقطام: السنة الشديدة تجدع بالمال وتذهب به" وهذه الكلمة هي التي يسوغ أن تجمع على جدائع، ولكنها لا تناسب المقام هنا، فلعل الأصل "الجوادع" جمع جادعة: وهي المقاطعة، يريد الشرائع الصحيحة الحقة لأنها تقطع الباطل وتزهقه كأنه يقول: اتبعوا الخطة الحاسمة، أو الجدائع جمع جدوع كعجوز صيغة مبالغة من جادعة، وفي التعليق على نهاية الأرب "ولعله الجوامع: أي التي تجمع الناس على اتباعها، كما يدل عليه ما بعده". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 الذي هو أدنى1 بالذي هو خير ْ {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} . إياكم وبُنَيَّاتِ2 الطريق، فعندها التَّرْنيق والرَّهَق3، وعليكم بالجادَّة، فهي أسدٌّ4 وأورَدَ، ودعوا الأماني فقد أَرْدَتْ مَنْ كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سَعَى، ولله الآخرة والأولى، و {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ 5 بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} . {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . "نهاية الأرب 7: 256؛ وصبح الأعشى 1: 220".   1 أي أخس وأدون قدرا، وأصل الدنو: القرب في المكان استعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة، أو هو مسهل عن أدنأ من الدناءة، وقد قرئ في الآية الكريمة: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} . 2 بنيات الطريق: الترهات "جمع ترهة كقبرة وهي الطريق الصغيرة المتشعبة من الجادة، أي اسلكوا الطريق العام طريق الجماعة، ولا تعرجوا في سواء. 3 الترنيق: الضعف في الأمر "وفي البصر والبدن أيضًا"، والرهق: السفه والحمق والخفة، وركوب الشر والظلم، وغشيان المحارم. 4 أفعل، من السداد. 5 أسحته: استأصله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 2- وصية أعمى من الأزد لشاب يقوده : عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: رأيت بِبِيشَة1 رجلا من أَزْد السَّرَاةِ أعمى، يقوده شاب جميل، وهو يقول له: "يا سُمَىّ، لا يَغُرَّنَّك أن فسح الشباب خَطْوَك، وخَلَّى سَرْبَك، وأَرْفَهَ وِرْدَكَ2، فكأنك بالكِبَر قد أَرَبَ ظَوْفَك، وأثقل أوَقَك، وأوهن طَوْقك3، وأتعب سوقك، فهَدَجْتَ بعد الهَمْلَجَة، ودَجَجْت بعد الدَّعْلَجَة4، فخذ من أيام التَّرْفِيه لأيام الانزعاج، ومن ساعات المُهْمَلَة لساعة   1 بيشة: واد بطريق اليمامة. 2 السرب: الطريق والوجه، ورفهت الإبل كمنع: وردت الماء متى شاءت، وقد أرفهتها ورفهتها بالتشديد. 3 أرب العقد: شدة، والأربة بالضم: العقدة، وظاف البعير يظوفه: إذا داني بين قينيه، والقينان بفتح القاف موضعًا القيد من الوظيف، والأوق: الثقل، والطوق: الوسع والطاقة. 4 الهدجان كخفقان وغراب: مشية الشيخ، وهدج كضرب، والهملجة: سرعة في المشي، ودج كضرب دجيجًا، مرمرًا ضعيفًا، والدعلجة: ضرب من المشي، والتردد في الذهاب والمجيء، والدحرجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 الإعجال1، يابن أخي: إن اغترارك بالشباب، كالتذاذك بسَمَادِير2 الأحلام، ثم تنقشِع فلا تتمسك منها إلا بالحسرة عليها، ثم تُعَرَّى راحلة الصِّبا، وتشرب سَلْوَةً3 عن الهوى, واعلم أن أغنى الناس يوم الفقر من قَدَّم ذخيرة، وأشدّهم اغتباطًا يوم الحسرة من أحسن سريرة". "الأمالي 2: 316".   1 رفه عيشه ككرم فهو رفيه ورافه: مستريح متنعم، وأرفهه الله ورفهه ترفيها، ومن ساعات المهملة أي الدنيا المهملة: أي التي ستمهلها وتغادرها، وربما كانت "المهملة". 2 السمادير: ما يتراءى للإنسان في نومه من الأباطيل، وما يتراءاه السكران في سكره. 3 السلوة: اسم السلوان. قال الأصمعي: يقول الرجل لصاحبه: سقيتني سلوة" بالفتح "وسلونا" بالضم، أي طيبت نفسي عنك، وذكروا أيضًا أن السلوة والسلوانة: خرزة شفافة تدفن في الرمل فتسود فيبحث عنها، ويسقاها الإنسان فتسليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 3- وصية رجل لآخر وقد أراد سفرًا: عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت رجلا يوصي آخر وأراد سفرًا، فقال: "آثر بعملك معادك، ولا تدع لشهوتك رشادك، وليكن عقلك وزيرك الذي يدعوك إلى الهدى، ويعصمك من الرَّدى، أَلْجِم هواك عن الفواحش، وأَطْلِقه في المكارم، فإنك تَبَرُّ بذلك سلفك، وتَشِيد شَرَفَك". "الأمالي 1: 200". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 4- وصية رجل لابنه وقد أراد التزوج : وقال بعضهم لولده وقد أراد التزوج: "يا بُنَيّ: لا تتخذها حَنَّانَة، ولا أَنَّانَة، ولا مَنَّانَة1، ولا عُشْبَة الدَّار2، ولا كُبَّةَ القَفَا3". "الأمالي 2: 26".   1 الحنانة: التي لها ولد من سواه فهي تحن عليهم. والأنانة: التي مات عنها زوجها، فهي إذا رأت الزوج الثاني أنت، وقالت: رحم الله فلانا، لزوجها الأول. والمنانة: التي لها مال، فهي تمن على زوجها، كلما أهوى إلى شيء من مالها. 2 عشبة الدار: يريد الهجينة، وعشبة الدار: التي تنبت في دمنة الدار، وحولها عشب في بياض، فهي أفخم منه وأضخم، لأنها غذتها الدمنة، وذلك "أي العشب" أطيب للأكل رطبا ويبسا، لأنه نبت في أرض طيبة، وهذه نبتت في دمنة، فهي منتنة رطبة، وإذا يبست صارت حتاتا "بالضم" وذهب قفها في الدمنة فلم يمكن جمعه، وذلك يجمع قفه لأنه في أرض طيبة "والقف بالضم: ما يبس من البقل، وسقط على الأرض في موضع نباته". 3 كبة القفا: هي التي يأتي زوجها أو ابنها القوم، فإذا انصرف من عندهم، قال رجل من جبناء القوم: قد والله كان بيني وبين امرأة هذا المولى أو أمه أمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 5- وصية بعض العلماء لابنه : وأوصى بعض العلماء ابنه فقال: "أوصيك بتقوى الله، ولْيَسَعْكَ بيتك، وامْلِك عليك لسانك، وابْك على خطيئتك". "البيان والتبيين 2: 161". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 6- وصية لبعض الحكماء : وقال بعض الحكماء: "لا يكونَنَّ منكم المحَدِّث ولا يُنْصَتْ له، والداخل في سِرّ اثنين لم يُدْخَلاه، ولا آتي الدعوة لم يُدَعْ إليها، ولا الجالس المجلس لا يستحقه، ولا الطالب الفضل من أيدي الِّلئام، ولا المتعرِّض للخير من عند عدوِّه، ولا المتحمِّق في الدَّالَّة1". "البيان والتبيين 2: 58".   1 الدالة: ما تدل به على حميمك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 7- وصية أخرى: وقال بعض الحكماء: "وإياك والعجلة، فإن العرب كانت تَكْنِيها: أُمّ الندامة؛ لأن صاحبها يقول قبل أن يَعْلَم، ويجيب قبل أن يَفْهَم، ويعزم قبل أن يفكِّر، ويَقْطَع قبل أن يُقَدِّر، ويحمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُمّ قبل أن يخبر، ولن يصحب هذه الصفة أحد إلا صحب الندامة، واعتزل السلامة". "زهر الآداب 3: 197". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 8- وصية آخرى: وقال ابن دريد: أوصى بعض الحكماء رجلًا، فقال: "آمرك بمجاهدة هواك، فإنه يقال: إن الهوى مفتاح السيئات، وخصيم الحسنات وكل أهوائك لك عدو، وأهواها1 هوًى يكتُمك في نفسه، وأعداها هوى يمثِّل لك الإثم في صورة التقوى، ولن تفصل بين هذه الخصوم إذا تناظرت لديك إلا بحزم لا يَشُوبه وَهَنٌ، وصِدْقٍ لا يَطْمَعُ فيه تكذيب، ومضاءٍ لا يقاربه التثبُّط2، وصَبْرٍ لا يغتاله جَزَعٌ، ونية لا ينقسمها التضييع". "زهر الآداب 3: 129".   1 أي وأشدها. 2 التوقف والإبطاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 9- عظة لبعض الحكماء : عن الأصمعي قال: بلغني أن بعض الحكماء كان يقول: "إني لأعظكم، وإني لكثير الذنوب مسرف على نفسي، غير حامد لها، ولا حاملها على المكروه في طاعة الله عز وجل، قد بَلَوتها فلم أجد لها شكرًا في الرَّخاء ولا صبرا على البلاء، ولو أن المرء لا يَعِظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، لترك الأمر بالخير والنهي عن المنكر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب، وجِلَاء للنفوس، وتذكيرٌ من النسيان، واعلموا أن الدنيا سرورها أحزان، وإقبالها إدبار، وآخر حياتها الموت، فكم من مستقبل يوما لا يَسْتَكمِله، ومُنْتَظِر غدا لا يَبْلُغه، ولو تنظرون إلى الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغُرُورِه". "الأمالي 2: 57". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 10- نصيحة لبعض الحكماء : وحذَّر بعض الحكماء صديقًا له صَحِبَه رجل فقال: "احْذَر فلانا، فإنه كثير المسألة، وحَسَن البحث، لطيف الاستدارج، يحفظ أول كلامِك على آخره، ويعتبر ما أَخَّرْتَ بما قدمتَ، فلا تُظْهِرَنَّ له المخافة، فيرى أنك قد تحرَّزْتَ. واعلم أن من يَقَظَه الفطنة إظهار الغفلة مع شدة الحذر، فباثَّه مباثَّة الآمن، وتحفَّظ الخائف، فإن البحث يظهر الخفِيّ الباطن، ويبدي المستكن الكامن". "زهر الآداب 3: 164". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 11- كلمات شتى لبعض الحكماء : عن الأصمعي قال: قال بعض الحكماء: "من كانت فيه سبع خصال لم يعدم سبعًا: من كان جوَّادًا لم يعدم الشرف، ومن كان ذا وفاء لم يعدم المِقَة، ومن كان صدوقا لم يعدم القَبُول، ومن كان شكورا لم يعدم الزيادة، ومن كان ذا رعاية للحقوق لم يعدم السُّؤْدُد، ومن كان منصفا لم يعدم العافية، ومن كان متواضعًا لم يعدم الكرامة". "الأمالي 2: 39". وقيل لبعض الحكماء: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويُجَدِدُّ الآمال، يقَرِّب الآجال، قيل له: فما حال أهله؟ قال: من ظَفِر به نصب، ومن فاته حَزِن، قيل: فأي الأصحاب أبَرّ؟ قال: العمل الصالح، قيل: فأيهم أضرّ؟ قال: النفس والهوى، قيل: ففيم المخرج، قال: في قطع الراحة وبذل المجهود "الأمالي 2: 59". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 وأخبر عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت رجلا يقول: "الحسد مَاحِقُ الحسنات، والزَّهْو جالب لمقت الله ومقت الصالحين، والعُجْب صَارِف عن الازدياد من العلم، داعٍ إلى التخمُّط1 والجهل، والبخل أذَمُّ الأخلاق، وأجْلَبُهَا لسوء الأُحْدُوثَة". "الأمالي 1: 200". وقال: قال بعض العرب: "أولى الناس بالفضل أعودهم بفضله، وأَعْوَن الأشياء على تَذْكِية العقل التعلُّم، وأدَلّ الأشياء على عقل العاقل حسن التدبير". "الأمالي 1: 217". وقال الأصمعي: العرب تقول: "لا ثناء مع الكبر، ولا صديق لذي الحسد، ولا شرف لسيِّئ الأدب". قال: وكان يقال: "شرّ خِصال الملوك الجُبْن عن الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء". "الأمالي 1: 201". وقال أبو عليّ القالي، وأملى علينا أبو عبد الله قال: من كلام العرب ووصاياها: "جَالِسْ أهل العلم، فإن جَهِلت عَلَّمُوك، وإن زَلَلت قوَّمُوك، وإن أَخْطَأَت لم يُفَنِّدُوك2، وإن صَحِبَت زانوك، وإن غبت تفَقَّدوك. ولا تجالس أهل الجهل، فإنك إن جهلت عنَّفُوك، وإن زَلَلت لم يقوِّموك، وإن أخطأت لم يثبِّتوك". "الأمالي 2: 72".   1 تمخط: تكبر وغضب. 2 فنده: ضعف رأيه وخطأه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 12- رجل من العرب والحجاج : سأل الحجاج رجلا من العرب عن عشيرته قال: أيُّ عشيرتك أفضل؟ قال: أتقاهم لله بالرَّغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، قال: فأيهم أسْوَد؟ قال: أَرْزَنُهم حِلْمًا حين يُسْتَجْهَل، وأسخاهم حين يُسْأَل، قال: فأيهم أدهى؟ قال: من كتم سِرَّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 ممن أحبَّ، مخافة أن يُشَارَّه يوما، قال: فأيهم أَكْيَس؟ قال: من يُصْلِح ماله ويقتصد في معيشته، قال: فأيهم أرفق؟ قال: من يعطي بِشْرَ وجهه أصدقاءه، ويتلطَّف في مسألته، ويتعاهد حقوق إخوانه في إجابة دَعَوَاتهم، وعيادةِ مَرْضاهم، والتسليم عليهم، والمشي مع جنائزهم، والنُّصح لهم بالغيب، قال: فأيهم أفطن؟ قال: من عرف ما يوافق الرجال من الحديث حين يجالسهم، قال: فأيُّهم أصلبُ؟ قال: من اشتدت عارِضتُه1 في اليقين، وحَزُم في التوكل، ومنع جاره من الظلم. "مجمع الأمثال 2: 178".   1 العارضة: الجلد والصرامة واللسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 14- كاتب وأمير : ودخل بعض الكتاب على أمير بعد نكبة نابَتْه، فرأى من الأمير بعض الازدراء فقال له: "لا يَضَعْنِي عندك خُمُول النَّبْوَة، وزوال الثروة، فإن السيف العتيق إذا مَسَّه كثير الصَّدَأ استغنى بقليل الجِلَاء، حتى يعود حَدُّه، ويظهر فِرِنْدُه، ولم أصف نفسي عُجْبًا، لكن شكرا، قال صلى الله عليه وسلم: أنا أشرف ولد آدم ولا فخر". فجهر بالشكر، وترك الاستطالة بالكبر". "زهر الآداب 3: 91". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 15- وصف الهلباجة : من أمثال العرب: "أعجز من هِلْباجَة" وهو النَّئُوم الكسلان العُطُل1 الجافي، وقد سار في وصف الهِلْبَاجَة فصل لبعض الأعراب المتفصِّحين، وفصل آخر لبعض الحَضَريين، فأما وصف الأعرابي، فقد سئل ابن أبي كَبْشَة بن القَبَعْثَرَى عنه فقال: "الهِلْباجة: الضعيف العاجز، والأخْرق الأحمق، والجِلْف2 الكسلان، الساقط لا معنى فيه، ولا غناء3 عنده ولا كفاية معه، ولا عمل لديه". وأما وصف الحضري فإن بعض بلغاء الأمصار سئل عن الهِلْبَاجَة فقال: "هو الذي لا يرعوي لِعَذْل العاذل، ولا يصغِي إلى وعظ الواعظ، ينظر بعين حسود، ويعرض إعراض حقود، إن سأل أَلْحَفَ4، وإن سُئِل سوَّف، وإن حدَّث حَلَف، وإن وَعَدَ أخلف، وإن زَجَرَ عنَّف، وإن قَدِرَ عَسَف5، وإن احتمل أسف6، وإن استغنى بَطِر، وإن افتقر قَنِط، وإن فَرِح أَشِر7، وإن حَزِن يئس، وإن ضحك زَأَر، وإن بكى جَأَر8، وإن حكم جار، وإن قَدَّمته تأخر، وإن أَخَّرته تقدَّم، وإن أعطاك مَنَّ عليك، وإن أعطيته لم يشكرك، وإن أسررت إليه خانك، وإن أسر إليك اتهمك، وإن صار فوقك قهرك، وإن صار دونك حسدك، وإن وَثِقت به خانك، وإن انبسطت إليه شانك، وإن أكرمته أهانك، وإن غاب عنه الصديق سَلَاه، وإن حضره قَلَاه9، وإن فاتَحَه لم يُجِبه، وإن أمسك عنه لم يَبْدَأه، وإن بدأ بالودّ هَجَر، وإن بدأ بالبِرِّ جفا، وإن تكلم فَضَحه العِيُّ، وإن عمِل قَصَّر به   1 عطل كفرج: عظم بدنه، ومن المال والأدب: خلا فهو عطل كقفل وعتق. 2 الجافي. 3 لا غناء: لا كفاية. 4 ألح. 5 ظلم. 6 من أسف الطائر: دنا من الأرض في طيرانه، أي لم يستطع النهوض بما حمل. 7 أشر: مرح. 8 صاح واستغاث. 9 أبغضه وكرهه غاية الكراهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 الجهل، وإن اؤتُمِنَ غَدَر، وإن أجار أخفر1، وإن عاهد نكث، وإن حلف حنث لا يَصْدُر عنه الآمل إلا بخيبة، ولا يضطر إليه حُرٌّ إلا بمحنة". قال خلف الأحمر: سألت أعرابيًّا عن الهلباجة، فقال: "هو الأحمق الضَّخْمُ الفَدْم2 الأكُول الذي والذي ... ثم جعل يلقاني بعد ذلك، ويزيد في التفسير كل مرة شيئا، ثم قال لي بعد حين -وأراد الخروج- هو الذي جمع كل شرّ". "مجمع الأمثال 1: 336".   1 أخفره وخفر به: نقض عهده وغدره. 2 الفدم: العيي عن الكلام في ثقل ورخاوة، وقلة فهم، والغليظ: الأحمق الجافي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 16- بعض البلغاء يصف رجلا : ووصف بعض البلغاء رجلا فقال: "إنه بَسِيط1 الكف، رَحْب الصدر، مُوَطَّأ الأكناف، سَهْل الخلق، كريم الطِّباع، غيْثُ مُغَوِّث2، وبحر زَخُور، ضَحُوك السن، بشير الوجه، بادي القَبول3 غير عبوس، يستقبلك بطَلَاقَة، ويحيِّيك ببشر، ويستدبرك بكرم غيث، وجميل بشر، تبهجك طلاقته، ويرضيك بشره، ضحَّاك على مائدته، عبد لضيفانه، غير ملاحظ لأكيله، بطين4 من العقل، خميصٌ5 من الجهل، راجح الحلم، ثاقب الرأي، طَيِّب الخلق، محْصَن الضَّريبة6 مِعْطَاء غير سآل، كاسٍ7 من كل مَكْرُمة، عارٍ من كل مَلْأَمة، إن سئل بذل، وإن قال فعل". "زهر الآداب 2: 205".   1 أي مبسوط الكف سخي. 2 غوث تغويثا: قال وا غوثاه. 3 القبول بالفتح وقد يضم: الحسن. 4 أي ممتلئ وأصله: عظيم البطن. 5 خميص: خال: وأصله: الجائع. 6 الضريبة: الطبيعة، ومحصن، عف. 7 أي مكسو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 17- خمس جوارٍ من العرب يصفن خيل آبائهن: عن ابن الكلبي عن أبيه قال: اجتمع خمس جَوَارٍ من العرب، فقلن: هَلْمُمْن نَصِف خيلَ آبائنا. فقالت الأولى: "فرس أبي وردة، وما وردة؟ ذات كَفَل مُزَحْلَق، ومَتْنٍ أخلق، وجوف أخْوَق1، ونفس مَرُوح، وعَيْنٍ طَرُوح، ورجل ضَرُوح، ويدٍ سَبُوح2، بُدَاهَتُها إهذَابٌ، وعَقْبُها غِلَابُ3". وقالت الثانية: "فرس أبي اللَّعَّاب، وما اللَّعَّاب؟ غَبْيَة سحاب، واضطرام غَاب، مُتْرَص الأوصال، أشمُّ القَذَال، مُلَاحَك المَحَال4، فارسُهُ مُجِيد، وصَيدُه عَتِيد، إن أقبل فظبي معَّاج. وإن أدبر فظليم هدَّاج، وإن أحضر فَعِلْجٌ هَرَّاج5". وقالت الثالثة: "فرس أبي حُذَمَة، وما حُذَمَة؟ إن أقبلت فَقَنَاة مُقَوَّمة، وإن أدبرت فَأَثْفِبة   1 المزحلق: المملس الذي كأنه زحلوقه "بالضم" وهي آثار تزلج الصبيان من فوق إلى أسفل. والأخلق: الأملس، وأخوق: واسع. 2 مروح: كثيرة المرح، طروح بعيدة موقع النظر، ضروح: دفوع، يريد أنها تضرح الحجارة برجليها إذا عدت، سبوح: كأنها تسبح في عدوها من سرعتها. 3 بداهتها: فجاءتها، والبداهة والبديهة واحد، والإهذاب: السرعة، والعقب: جري بعد جري، وغلاب مصدر، غالبته مغالبة وغلابا، كأنها تغالب أخرى. 4 الغبية: الدفعة من المطر، والغاب جمع غابة: وهي الأجمة، مترص: محكم، أترصت الشيء: أحكمته أشم: مرتفع، والقذال: معقد العذار "والعذار من اللجام ككتاب: ما سال على خد الفرس". ملاحك مداخل "بفتح الخاء" كأنه دوخل بعضه في بعض، والمحال جمع محالة: وهي فقال الظهر "كسحاب" جمع فقارة وذكر الأصمعي أنه رأى فقار فرس ميت، فإذا ثلاث فقر من عظم واحد، وكذا تكون العراب فيما ذكروا. 5 مجيد: صاحب جواد. عتيد: حاضر، معج في سيره وعمج: إذا أسرع، والهدج كشمس: المشي الرويد ويكون السريع. والعلج: حمار الوحشي السمين القوي، وهرج الفرس: كضرب إذا كان كثير الجري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 مُلَمْلَمَة، وإن أعْرَضَتْ فَذِئْبة مُعَجْرِمَة1، أرساغُها مُتْرَصَة، وفصوصُها مُمَحَّصَة، جَرْيُهَا انثِرَارٌ، وتقريبها انكدار2". وقالت الرابعة: "فرس أبي خَيْفَق، وما خَيْفَق؟ ذات ناهِق مُعْرَق، وشِدْق أشدق، وأديمٍ مُمَلَّق3، لها خلق أشْدَف، ودَسِيع مُنَفْنَف، وتليل مُسَيَّف4، وثَّابَة زَلْوج، خَيْفَانَة رَهُوج، تقريبها إِهْمَاج، وحُضْرها ارتعاج5". وقالت الخامسة: "فرس أبي هُذْلُول، وما هذلول؟ طَرِيدُه مَحْبُول، وطالبه مشكول، رقيق المَلَاغِم، أمين المعَاقِم6، عَبْلُ المَحْزِم، مِخَدُّ مِرْجَم7، مُنِفُ الحَارِك، أشمّ   1 حذمة: فعلة من الحذم وهو السرعة أو القطع، فقناة مقومة تريد أنها دقيقة المقدم، وهو مدح في الإناث، والألفية: الحجر توضع عليه القدر، ململمة: مجتمعة، تريد أنها مدورة المؤخر، لأن الأثافي تختار مدورة، معجرمة بكسر الراء اسم فاعل من العجرمة، وهي إسراع في مقاربة خطو. قال الشاعر: أما إذا يعدو فثعلب جَرْيٍة ... أو ذئب عادية يعجرِم عجرمه ويقال ناقة معجرمة بفتح الراء: أي شديدة. 2 ممحصة: قليلة اللحم قليلة الشعر! محص الجلد كفرح، إذا سقط شعره واملاس. انثرار: انصباب، كأنه يثره ثرا، والتقريب: ضرب من العدو أو أن يرفع يديه معًا ويضعهما معا، وانكدر: أسرع وانقض، وانكدر عليه القوم: انصبوا. 3 خيفق: فيعل من الخفق كشمس: وهو السرعة. الناهقان: العظمان الشاخصان في خدي الفرس معرق: قليل اللحم. أشدق: واسع الشدق. مملق: مملس. 4 الأشدف: العظيم الشخص. والشدف محركة: الشخص. والدسيع: مغرز العتق في الكاهل. منفنف: واسع من النفنف كجعفر: وهو الهواء بين السماء والأرض. التليل: العنق. مسيف: كأنه سيف. 5 زلوج: سريعة. الزليج والزلجان بالتحريك: السرعة. الخيفانة: الجرادة التي فيها نقط سود تخالف سائر لونها. وإنما قيل الفرس: خيفانة لسرعتها لأن الجرادة إذا ظهر فيها تلك النقط كان أسرع لطيرانها. رهوج كثيرة الرهج. "والرهج بالتحريك: الغبار" أهمج الفرس إهماجًا: إذا اجتهد في عدوه. والحضر: ارتفاع الفرس في عدوه. الارتعاج: كثرة البرق وتتابعه. 6 محبول: في حبالة. مشكول: موثق في شكال "الشكال ككتاب: الحبل تشد به قوائم الدابة" الملاغم من الإنسان: ما حول الفم. أرادت ههنا الجحافل "والجحافل جمع جحفلة بالفتح بمنزلة الشفة للخيل والبغال والحمير" والمعاقم، المفاصل. 7 عبل: غليظ. والمحزم موضع الحزام. مخد: يخد الأرض أي يجعل فيها أخاديد "والأخاديد: الشقوق جمع أخدود". مرجم: يرجم الحجر بالحجر. أو يرجم الأرض بحوافره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 السَّنَابِك، مَجْدُول الخَصَائل، سَبْط الفَلائل1، غَوْج التَّلِيل، صَلْصَال الصهيل، أدِيمُة صافٍ، وسبِيبه ضافٍ2، وعفوه كافٍ". "الأمالي 1: 190".   1 منيف: مرتفع، والحارك: منبت أدنى العرف إلى الظهر الذي يأخذ به من يركبه، والسنابك: أطراف الحوافر جمع سنبك كقنفد، مجدول: مفتول، الخصائل: جمع خصيلة وهي كل قطعة من اللحم مستطيلة أو مجتمعة، الفليل: الشعر المجتمع، ويقال للقطعة من الشعر: الفليلة، سبط: مسترسل. 2 الغوج: اللين المعطف، والصلصة صوت الحديد، وكل صوت حاد، والسبيب: شعر الناصية: وضاف: سابغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 18- رجل من العرب يصف مطرًا: عن عبد الرحمن عن عمه قال: سئل رجل من العرب عن مطر كان بعد جَدْب فقال: "نشأ حَمَلا1، سُدًّا متقاذف الأحضان، مَحْمَومِي الأركان، لَمَّاع الأقراب، مكْفَهِرّ الرَّبَاب، تَحِنُّ رُعودُه حنين اضطراب، وتزمجر زمجرة الُّليوث الغِضَاب، لِبَوَارِقِه التهاب، ولِرَوَاعده اضطراب، فجاحَفَت2 صدوره الشِّعَاف، وركبت أعجازُه القِفَاف، ثم ألقي أعباءه، وحطَّ أثقاله، فتألَّق وأصعق3، وانبجس وانْبَعَقَ، ثم أثْجَم فانطلق، فغادر النِّهَاء4 مُتْرَعَة، والغيطانَ مُمْرِعَة، حِبَاءٌ للبلاد، ورزقًا للعباد". "بلوغ الأرب 3: 250".   1 الحمل: السحاب الكثير الماء، والسد: الذي قد سد الأفق، احمومى: اسود، الأقراب جمع قرب كقف وعنق وهو الخاصرة، والرباب: السحاب الأبيض. 2 جاحفه: زاحمه وداناه، والشعاف جمع شعفة كرقبة: وهي رأس الجبل، والقفاف جمع قف بالضم وهو ما غلظ من الأرض وارتفع لم يبلغ أن يكون جبلا. 3 صعقتهم السماء وأصعقتهم: ألقت عليهم صاعقة، وانبجس: انفجر بالماء وانبعق السحاب: انبعج بالمطر واندفع، والانبعاق: أن يندفع عليك الشيء فجأة وأنت لا تشعر، وأنجمت السماء: أسرع مطرها. 4 النهاء جمع نهى بالكسر والفتح: الغدير، ومترعة: مملوءة، والغيطان جمع غائط: وهو المطمئن الواسع من الأرض، ممرعة: مخصبة، حباء: عطاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 الباب الثالث في نثر الأعراب قولهم في الوعظ والتوصية : 1- مقام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك : قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك، فقال: "إني مكَلِّمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغِلْظَة، فاحْتَمِلْه إن كرهته فإن وراءه ما تحبه إن قبلته"، قال: هاتِ يا أعرابي: إنا نجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، وأرجو أن تكون الناصح جَيْبًا، والمأمون غيبا، قال: "يا أمير المؤمنين أما إذ أمنت بادرة غضبك، فإني سأطلق لساني بما خَرِسَت عنه الألسن من عظتك، تأدية لحق الله وحق إمامتك. إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، فابتاعوا دنياك بدينهم، ورضا بسُخْط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، سِلْم للدنيا، فلا تَأْمَنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لا يالونك1 خَبَالًا، والأمانة تضييعًا، والأمة عسفا وخسفا2، وأنت مسئول عما اجترحوا3، وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك. فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، وأعظمهم غَنْبًا من باع آخرته بدنيا غيره". قال سليمان: "ما أنت يا أعرابي، فقد سلَلْت لسانك، وهو أقطع سيفيك"، فقال: "أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك". "عيون الأخبار م2: ص337، والعقد الفريد 1: 307، ومروج الدهب 2: 164، وزهر الآداب 1: 277".   1 ألا يألو: قصر وأبطأ، والخبال: الفساد. 2 العسف: الظلم. والخسف: الذل. 3 اكتسبوا، وفي رواية: "اجترموا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 2- أعرابي يعظ هشام بن عبد الملك : ودخل أعرابي على هشام بن عبد الملك، فقال له: عِظْنِي يا أعرابي، فقال: "كفى بالقرآن واعظًا، وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 1، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثم قال "يا أمير المؤمنين، هذا جزاء من يُطَفِّف في الكيل والميزان، فما ظنُّك بمن أخذه كله2؟ ". "العقد الفريد 2: 84".   1 طفف: نقص المكيال. 2 وروى صاحب العقد أيضًا هذه العظة "ج1 ص306" وذكر أنها لابن السماك وعظ بها الرشيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 3- خطبة أعرابي 1: وولَّى جعفر بن سليمان2 أعرابيًّا بعض مياههم3 فخطبهم يوم الجمعة فقال: "الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، أما بعد: فإن الدنيا دار بلاغ4، والآخرة دار قرار، فخذوا لِمَقَرِّكُم في مَمَرِّكم. ولا تَهْتِكُوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسرارُكم، وأَخْرِجوا من الدنيا قلوبكم،   1 قدمنا في الجزء الثاني ص482 أن هذه الخطبة متنازع فيها، فهي تعزي تارة إلى الإمام علي كرم الله وجهه، وأخرى إلى سحبان وائل، وثالثة إلى أعرابي. 2 هو ابن عم أبي جعفر المنصور، وكان واليا على المدينة سنة 146–150هـ. 3 في مجمع الأمثال: "عن الأصمعي قال: حدثني شيخ من أهل العلم قال: شهدت الجمعة بالضرية "ضرية كغنية: قرية بين البصرة ومكة" وأميرها رجل من الأعراب، فخرج وخطب، ولف ثيابه على رأسه، وبيده قوس فقال .... وأورد هذه الخطبة"، وفي الكامل للمبرد: "قال الأصمعي فيما بلغني خطبنا أعرابي بالبادية فحمد الله ..... ". 4 وفي رواية الميداني، وعيون الأخبار "بلاء" وفي رواية العقد "دار ممر والآخرة دار مقر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 قبل أن تخرج منها أبدانكم، فقيها حَيِيتم، ولغيرها خُلِقتم، اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل، إن الرجل إذا هلك، قال الناس ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قَدَّم؟ فلله آباؤكم! قَدِّموا بعضا، يكون لكم قَرْضًا، ولا تخلِّفوا كُلًّا، يكون عليكم كَلًّا1، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والمحمود الله، والمصلَّى عليه محمد، والمدعوُّ له الخليفة، ثم إمامكم جعفر بن سليمان، قُوموا إلى صلاتكم". "الأمالي: 1: 248، والعقد الفريد: 2: 164، وتهذيب الكامل: 1: 28، ومجمع الأمثال: 318، وعيون الأخبار م2: ص253، وزهر الآداب 2: 4".   1 الكل: الثقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 4- خطبة أخرى: وخطب أعرابي فقال: "الحمد لله الحميد المستحمَد، وصلى الله علي النبي محمد. أما بعد: فإن التعمُّق في ارتجال الخطب لمُمْكن، والكلام لا يَنْثَنِي حتى يُنْثَنَي عنه، والله تبارك وتعالى لا يدرك واصف كُنْهَ صفته، ولا يبلغ خَطِيب منتهى مِدْحته، له الحمد كما مدح نفسه، فانْهَضوا إلى صلاتكم" ثم نزل فصلَّى. "العقد الفريد 2: 164". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 خبطة أخرى2 ... 5- خطبة أخرى: وخطب أعرابي قومه فقال: "الحمد لله، وصلى الله على النبي المصطفى وعلى جميع الأنبياء، ما أقبح بمثلي أن ينهى عن أمر ويرتكبه، ويأمر بشيء ويجتنبه، وقد قال الأول: ودَعْ ما لمت صاحبه عليه ... فذمٌّ أن يلومك من تَلُوم ألهمنا الله وإياكم تقواه والعمل برضاه". "العقد الفريد 2: 164". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 6- أعرابية توصي ابنها وقد أراد السفر : قال أَبَان بن تَغْلِب -وكان عابدا من عُبَّاد أهل البصرة توفي سنة141هـ- شَهِدْتُ أعرابية وهي توصي ولدا لها يريد سفرًا وهي تقول له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 "أي بني اجلس أَمْنَحَك وصيَّتي، وبالله توفيقُك، فإن الوصية أَجْدَى1 عليك من كثير عقلك، أي بُنَيّ. إياك والنَّميمة فإنها تزرع الضغينة، وتفرِّق بين المحبِّين، وإياك والتعرض للعيوب فَتُتَّخَذَ غَرَضًا2، وخَلِيق أن لا يثبت الغرض على كثرة السِّهام، وقلما اعتورت3 السِّهام غرضًا إلا كَلَمَته4 حتى يَهِيَ5 ما اشتد من قوَّته، وإياك والجود بدينك، والبخل بمالك، وإذا هززت فاهزُز كريما يلين لهَزَّتك، ولا تهزُز اللئيم فإنه صخرة لا يتفجر ماؤها، ومَثِّل لنفسك مِثَال ما استحسنْتَ من غيرك فاعَمل به، وما استقبحتَ من غيرك فاجْتَنِبْه، فإن المرء لا يرى عيبَ نفسه، ومن كانت مودَّته بِشْرَه، وخالَف ذلك منه فعله، كان صديقه منه على مِثل الريح في تصرُّفها" ثم أمسكت، فدنوتُ منها، فقلت: بالله يا أعرابية إلَّا زِدْتِه في الوصية، فقالت: أوقد أعجبك كلام العرب يا عراقي؟ قلت: نعم. قالت: والغَدْر أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحِلْم والسَّخَاء فقد أجاد الحُلَّة6: رَيْطَتها وسِرْبَالَها. "الأمالي 2: 81، والعقد الفريد 2: 85، وبلاغات النساء ص57، والبيان والتبيين 3: 221".   1 انفع 2 هدفا. 3 تداولت. 4 جرحته وحطمته. 5 وهي يهي: ضعف. 6 الحلة لا تكون إلا من ثوبين إزار ورداء، والريطة؛ الملاءة كلها نسيج واحد وقطعة واحدة، والسربال: القميص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 7- أعرابية توصي ابنها: وقالت أعرابية لابنها: "يا بني، إن سؤالك الناس ما في أيديهم من أشد الافتقار إليهم، ومن افتقرتَ إليه هُنْتَ عليه، ولا تزال تُحْفَظ وتُكْرَم، حتى تَسْأل وترغب، فإذا ألَحَّت عليك الحاجة، ولزِمك سوء الحال، فاجعل سؤالك إلى من إليه حاجة السائل والمسئول، فإنه يعطي السائل". "العقد الفريد 2: 85". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 8- أعرابي يوصي ابنه : ووصى أعرابيّ ابنه فقال: "ابْذُل المودَّة الصادقة تستفدْ إخوانًا، وتتخذ أعوانا، فإن العداوة موجودة عَتِيدَة، والصداقة مُسْتَعْرِزَةً1 بعيدة، جنَّب كرامتك اللئام، فإنهم إن أحسنت إليهم لم يشكروا، وإن نزلتْ شديدة لم يصبِرُوا". "الأمالي 1: 201".   1 مستعرزة: منقبضة شديدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 9- أعرابي ينصح لابنه: عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا يقول لابنه: "لا يَغُرَّنَّك ما ترى من خَفْض العيش، ولين الرِّياش1، ولكن فانظر إلى سوء الظَّعْن، وسوء المُنْقَلَب". "الأمالي 2: 59".   1 الحصب والمعاش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 10- أعرابي ينصح لابنه: وقال: سمعت أعرابيًّا يقول لابنه: "كن للعاقل المُدْبِر أرجَى منك للأحمق المُقْبِل"، وأنشد: عَدُوُّك ذو الحِلم أبقَى عليك ... وأرعى من الوَامِق الأحمق1 "ذيل الأمالي ص34".   1 الوامق: المحب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 11- أعرابي ينصح لأخيه : ونصح أعرابي لأخيه، فقال: "اعلم أن الناصح لك، المشفِقَ عليك، من طالع لك ما وراء العواقب بروّيته ونظره، ومَثَّل لك الأحوال المَخُوفَة عليك، وخَلَط الوَعْر بالسهل من كلامه ومَشُورته ليكون خوفك كِفَاء1 رجائك، وشكرك إزاء النِّعمة عليك، وأن الغاشَّ لك، والحاطب2 عليك، من مدَّ لك في الاغترار، ووطَّأ لك مِهَاد3 الظلم، تابعًا لمرضاتك منقادًا لهواك". "الأمالي 1: 198".   1 مكافئًا. 2 هو حاطب ليل: أي مخلط في كلامه. 3 المهاد: الفراش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 12- أعرابيّ يعظ أخاه: ووعظ أعرابيًّا أخًا له أفسد ماله في الشَّراب، فقال: "لا الدهر يعظك، ولا الأيام تُنْذِرك، ولا الشَّيب يَزْجُرك، والساعات تحصَى عليك، والأنفاس تعدُّ منك، والمنايا تُقاد إليك، أحب الأمور إليك، أعودها بالمضَرَّة عليك". "العقد الفريد 2: 85، والأمالي 1: 198، وزهر الآداب 3: 115". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 13- أعرابي يعظ صاحبه : وقال أعرابي لصاحبه: "والله لئن هَمْلَجْت1 إلى الباطل، وإنك لقَطُوف2 عن الحق، ولئن أبطأت ليُسْرِعَنَّ بك، وقد خسر أقوام وهم يظنون أنهم رابحون، فلا تغرنَّك الدنيا، فإن الآخرة من ورائك". "البيان والتبيين 2: 158، والعقد الفريد 2: 86".   1 من هملج البرذون: مشى مشية سهلة في سرعة. 2 من قطفت الدابة كنصر وضرب: ضاق مشيها، فهي قطوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 14- أعرابي يعظ أخاه: وقال أعرابي لأخيه: "يا أخي: أنت طالب ومطلوب، يطلبك ما لا تَفُوته، وتطلب ما قد كُفِيتَه، فكأن ما غاب عنك، قد كُشِف لك، وما أنت فيه قد نُقِلْتَ عنه، فأمْهَد1 لنفسك، وأعِدّ ذلك، وخذ في جهازك". "العقد الفريد: 2: 84".   1 أي مهد وأعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 15- أعرابي يعظ رجلا: وقال أعرابي لرجل: "أي أخي: إن يَسَار النفس أفضل من يسار المال، فإن لم تُرْزق غنىً لا تُحْرم تقوى، فربَّ شَبْعَان من النِّعم، عُرْيَان من الكرم، واعلم أن المؤمن على خير: تُرَحِّب به الأرض، وتستبشر به السماء، ولن يُسَاء إليه في بطنها، وقد أحسن على ظهرها". "العقد الفريد 2: 85". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 16- أعرابي يعظ رجلا: وقال الأصمعي: أعرابيا يعظ رجلا وهو يقول: "وَيْحَك! إن فلانا وإن ضحك إليك، فإنه يضحك منك، ولئن أظهر الشفقة عليك، إن عقاربه لَتَسْرِي إليك، فإن لم تتخذه عدوا في علانيتك، فلا تجعله صديقًا في سريرتك". "زهر الآداب 3: 164". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 17- أعرابي يعظ رجلا: وسمع أعرابي رجلا يقع في السلطان، فقال: "إنك غُفْل لم تَسِمْك التجارب، وفي النصح لَسْعُ العقارب، كأني بالضاحك إليك، وهو باك عليك". "زهر الآداب 3: 164". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 18- كلام أعرابي لابن عمه : وشاور أعرابي ابن عمٍّ له، فأشار عليه برأي، فقال: "قد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمُرِّه، وحَزْنَه بسهله، ويحرِّك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره، وقد وعيتُ النصح منه وقَبِلته؛ إذ كان مصدره من عند من لا شك في مودَّته، وصافي غيبه، وما زالتَ بحمد الله إلى الخير منهجًا واضحًا، وطريقًا مَهْيَعًا1". "الأمالي 2: 82".   1 طريق مهيع: بين واضح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 19- كلمات حكيمة للأعراب : قيل لأعرابي: ما لك لا تشرب النَّبِيذ؟ قال: "لثلاث خلال فيه: لأنه متلف للمال، مذهب للعقل، مسقط للمروءة". وقال أعرابي: "الدراهم مَيَاسِم1، تسم حمدا وذما، فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، وما كل مَنْ أُعْطِي مالا أُعْطِي حمدا، ولا كل عديم ذميم". وقال أعرابي لأخ له: "يا أخي إن مالك إن لم يكن لك كنت له، وإن لم تُفْنِه أفناك، فكُلْه قبل أن يأكلك". وقال أعرابي: "إن الموفَّق من ترك أرفق الحالات به، لِأَصْلَحِهَا لدينه، نظرا لنفسه، إذا لم تنظر نفسه لها". وقال أعرابي: "أن الله مُخِلف ما أتلف الناس، والدهر مُتْلِف ما أخلفوا، وكم من ميتة عليها طلب الحياة، وكم من حياة سببها التعرض للموت". وقال أعرابي: "إن الآمال قطعت أعناق الرِّّجال، كالَّسرَاب غَرَّ من رآه، وأخلَفَ من رجاه". وقال أعرابي لصاحب له: "أصحب من يتناسى معروفه عليك، ويتذكر حقوقك عليه". وقال أعرابي: "لا تسأل من يفرُّ من أن تسأله، ولكن سَلْ من أمرك أن تسأله، وهو الله تعالى". وقال أعرابي: "ما بقاء عُمْرٍ تقطعه الساعات، وسلامة بدن معَرَّض للآفات؟ ولقد عجبت من المؤمن! كيف يكره الموت؟ وهو يَنْقُله إلى الثواب الذي أحيا له ليله وأظمأ له نهاره".   1 مياسم جمع ميسم بالكسر: وهو المكواة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وذُكر أهل السلطان عند أعرابي فقال: "أما والله لئن عزُّوا في الدنيا بالجَوْر، لقد ذلُّوا في الآخرة بالعدل، ولقد رضوا بقليل فانٍ، عِوَضًا عن كثير باقٍ، وإنما تزلُّ القدم حيث لا ينفع الندم". وقال أعرابي: "من كانت مطيتَه الليل والنهار، سارا به وإن لم يَسِرْ، وبلغا به وإن لم يبلغ". وقال أعرابي: "الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة، والزهادة في الآخرة مفتاح الرغبة في الدنيا". وقيل لأعرابي وقد مرض: إنك تموت! قال: "وإذا مُِتُّ فإلى أين يُذْهَب بي؟ " قالوا: " إلى الله تعالى"، قال: "فما كراهتي أن يُذْهَبَ بي إلى من لم أو الخير إلا منه؟ ". وقال أعرابي: "من خاف الموت بادر الموت، ومن لم يُنَحِّ النفس عن الشهوات، أسرعت به إلى الهَلَكات، والجنة والنار أمامك". وقال أعرابي: "خير لك من الحياة ما إذا فقدته أبغضتَ له الحياة، وشرٌّ من الموت ما إذا نزل بك أحببت له الموت". وقيل لأعرابي: من أحق الناس بالرحمة؟ قال: "الكريم يُسَلَّط عليه اللئيم، والعاقل يُسَلَّط عليه الجاهل". وقيل له: أيُّ الداعين أحق بالإجابة؟ قال: المظلوم، وقيل له: فأي الناس أغنى عن الناس؟ قال: "من أفرد الله بحاجته". وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: "إذا أشكل عليك أمران، فانظر أيهما أقرب من هواك فخالفه، فإن أكثر ما يكون الخطأ مع متابعة الهوى". وقال أعرابي: "الشرُّ عاجلة لذيذ، وآجله وَخِيم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 وقال أعرابي: "من ولد الخير أنتج له فِراخًا تطير بأجنحة السرور، ومن غرس الشر أنبت له نباتا مُرَّا مَذَاقُه، وقضبانه الغيظ، وثمرته الندم". وقال أعرابي: "من كساه الحياء ثوبَه، حَفِيَ على الناس عيبه" وقال: بئس الزاد، التَعَدِّي على العباد"، وقال: "التلطُّف بالحيلة، أنفع من الوسيلة"، وقال: "من ثَقُلَ على صديقه، خَفَّ على عُدُوِّه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما لا يعلمون". وقال أعرابي: "أعجزُ الناس من قَصَّر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضَيَّع من ظَفِر به منهم". وقال أعرابي لابنه: "لا يسرك أن تغلب بالشرِّ، فإن الغالب بالشر هو المغلوب". وقال أعرابي لأخ له: "قد نهيتك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه، فإن حظَّك من عطيته السؤال". وقال أعرابي: "إن حب الخير خير وإن عجزتْ عنه المقدِرة، وبغض الشر خير وإن فعلتَ أكثره". وقال أعرابي: "والله لولا أن المروءة ثَقِيل مَحْمِلُها1، شديدة مُؤْنتها، ما ترك اللئام للكرام شيئا". واحتُضِر أعرابي، فقال له بنوه: عِظْنَا يا أبت، فقال: "عاشروا الناس معاشرة، إن غِبْتُم حَنُّوا إليكم، وإن مِتُّم بَكَوْا عليكم". ودخل أعرابي على بعض الملوك في شَمْلة2 شعر، فلما رآه أعرض عنه، فقال له: "إن الشَّمْلَة لا تكلمك، وإنما يكلمك مَنْ هو فيها". وقال أعرابي: "ربَّ رجل سِرُّه منشور على لسانه، وآخر قد التحفَ عليه قلبه التحافَ الجناح على الخَوَافِي".   1 المحمل في الأصل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان. 2 كساء دون القطيفة يشتمل به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وقيل لأعرابي: كيف كتمانك للسِّرِّ؟ قال: "ما جوفي له إلا قَبْرٌ". ومرّ أعرابيان رجل صلبه بعض الخلفاء، فقال أحدهما: أنْبَتَتْه الطاعة، وحَصَدَته المعصية، وقال الآخر: "من طَلَّق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحق فالْجِذْع راحلته". وقال أعرابي: "إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل، ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه". وقال أعرابي: "إذا كان الرأي عند مَنْ لا يُقْبَل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور". "العقد الفريد 2: 85 –87" وقال أعرابي: "إن الدنيا تنطق بغير لسان، فتخبر عما يكون بما قد كان". "العقد الفريد 2: 80". وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: "غَفَلْنا ولم يَغْفُل الدهر عنا، فلم نتعظ بغيرنا، حتى وُعِظ غيرُنا بنا، فقد أدركت السعادة مَنْ تَنَبَّه، وأدركت الشقاوة من غَفَل، وكفى بالتجربة واعظًا". "زهر الآداب 2: 5". وقال أعرابي لرجل: "اشكُر للمنعم عليك، وأَنْعِم على الشاكر لك، تستوجب من ربك زيادته، ومن أخيك مُنَاصَحَته". "زهر الآداب 2: 6". وتذاكر قوم صِلَة الرَّحِم، وأعرابيُّ جالس، فقال: "مَنْسَأَة1 في العمر، مَرْضَاةُ للربّ، محبَّة في الأهل". "الأمالي: 1: 217". وقال أعرابي: "لا أعرف ضُرًّا أوصَل إلى نِياط القلب، من الحاجة إلى من لم تَثِق بإسعافه، ولا تأَمَنْ ردَّه، وأكْلَمُ المصائب فَقْدُ خليلٍ لا عِوَض منه". وقيل لأعرابي: أي شيء أمتع؟ فقال: "مُمَازَحَة المحب، ومحادثة الصديق، وأمانيّ تقطع بها أيامَك".   1 إطالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وقال أعرابي: "من لم يرضَ عن صديقه إلا بإيثاره على نفسه، دام سَخطُه، ومن عاتب على كل ذنب كثُر عدوّه، ومن لم يؤاخِ من الإخوان إلا مَن لا عيب فيه قَلَّ صَدِيقه". "الأمالي 1: 218". عن عبد الرحمن عن عمه قال: قلت لأعرابي ما تقول في المِرَاء؟ قال: "ما عسى أن أقول في شيء يُفْسِد الصداقة القديمة، ويَحُلّ العُقدة الوثيقة، أقل ما فيه أن يكون دُرْبَةً للمغالبة من أمتَنِ أسباب الفتنة". "الأمالي 1: 258". عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا يقول: "لا يوجَد العَجُول محمودًا، ولا الغَضُوب مسرورًا، ولا المَلُول ذا إخوان، ولا الحرُّ حريصًا، ولا الشَّرِه غنيًّا". وقال سمعت أعرابيًّا يقول: "صُنْ عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدَتُك بتجانبة الخيلاء، وخَلَّتك1 بالإجمال في الطلب". "الأمالي 2: 32". وقال: سمعت أعرابيًّا يقول: "أقبح أعمال المقتدرين الانتقام، وما اسْتُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّلَت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسِبَتْ البغضاء بِمِثْلِ الكِبْر". "الأمالي 2: 32، وزهر الآداب 2: 3". وقال أعرابي: "خير الإخوان من يُنِيلُ عُرْفًا، أو يدفع ضُرًّا". "الأمالي 2: 41". عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا يقول: "العاقل حقيق أن يُسَخِّيَ بنفسه عن الدنيا؛ لعلمه أن لا ينال أحد فيها شيئا إلا قَلَّ إمتاعه به، أو كَثُرَ عَنَاؤه فيه، واشتدت مَرزِئَتُه2 عليه عند فِرَاقه، وعَظُمَت التَّبِعَة فيه بعده". "الأمالي 2: 41". وقال أعرابي: "خَصْلتان من الكرام: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الإخوان". "الأمالي 2: 73".   1 الحلة: الفقر. 2 المرزئة والرزء والرزيئة: المصيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 وقال أعرابي: "ما غُبِنْتُ قط حتى يغبن قومي"، قيل: وكيف ذلك؟ قال: "لا أفعل شيئا حتى أشاورهم". "البيان والتبيين 3: 161". وقال أعرابي لرجل مَطَلَه في حاجة: "إن مِثْل الظفر بالحاجة تعجيل اليأس منها إذا عَسُر قضاؤها، وإن الطلب وإن قَلَّ أعظم قدرًا من الحاجة وإن عَظُمَت، والمطل من غير عُسْرٍ آفة الجود". "البيان والتبيين 3: 221". وقال أعرابي: "وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مَطْلٌ وتعطيل". "البيان والتبيين 3: 231". وقال أعرابي: "اعتذار من مَنْع، أجمل من وعد مَمْطول". "الأمالي 2: 198". وقال أعرابي: "عوِّد لسانك الخير، تسلم من أهل الشرّ". "ذيل الأمالي ص29". وقال أعرابي: "خرجت ليلة حين انحدرت أيدي النجوم، وشالت1 أرجلها، فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر، فإذا بجارية كأنها عَلَم، فجعلت أُغازلها، فقالت: يا هذا: أَمَا لَكَ نَاهٍ من كَرَم، إن لم يكن لك زاجر من عقل؟ قال: والله ما يراني إلا الكواكب! قالت: فأين مُكَوْكِبُهَا؟ ". "العقد الفريد 2: 94، والبيان والتبيين 2: 51، وزهر الآداب 2: 6".   1 ارتفعت: من شالت الناقة بذنها وأشالته: رفعته. فشال هو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 أجوبة الأعراب مجاربة أعرابي للحجاج ... أجوبة الأعراب: 20- مجاوبة أعرابي للحجاج: خرج الحجاج ذات يوم فأَصْحَر1. وحضر غَداؤه، فقال: اطلبوا من يتغدَّى معي، فطلبوا، فإذا أعرابي في شَمْلة: فَأُتِيَ به، فقال السلام عليكم، قال: هَلُمّ أيها الأعرابي، قال: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: دعاني   1 أصحر: برز في الصحراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 الله ربِّي إلى الصوم، فأنا صائم، قال: وصوم في مثل هذا اليوم الحارّ؟ قال: صمت ليوم هو أحرُّ منه، قال: فأفطر اليومَ وصُمْ غدًا، قال: ويضمن لي الأمير أني أعيش إلى غد؟ قال: ليس ذاك إليه، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل، وليس إليه سبيل؟ قال: إنه طعام طيِّب، قال: والله ما طيَّبه خَبَّازك ولا طَبَّاخك، قال: فَمَن طيَّبه؟ قال: العافية، قال الحجاج: تالله إن رأيت كاليوم! أخرجوه عني. "البيان والتبيين 3: 234، والعقد الفريد 2: 87". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 21- مساءلة الحجاج أعرابيا فصيحا : وقال الحجاح لأعرابي كلمة فوجده فصيحًا: كيف تركت الناس وراءك؟ فقال: "تركتهم -أصلح الله الأمير- حين تفرّقوا في الغيطان، وأخَمْدوا النيران. وتَشَكَّت النساء، وعَرَض الشَّاء، ومات الكلب"، فقال الحجاج لجلسائه: "أَخِصْبًا نَعَتَ أم جَدْبًا؟ قالوا: بل جدبا، قال: بل خصبا، قوله: تفرقوا في الغيطان1، معناه: أنها أعشبت، فإبلهم وغنمهم تَرْعَى، وأخمدوا النيران، معناه: استغنوا باللبن عن أن يشتَوُوا لحوم إبلهم وغنمهم ويأكلوها، وتشكَّت النساء أعضادَهن، من كثرة ما يَمْخَضْن2 الألبان، وعَرَض الشاء: استَنَّ3 من كثرة العُشْب والمرعى، ومات الكلب: لم تمت أغنامهم وإبلهم فيأكل جِيَفها". "ذيل الأمالي ص87".   1 جمع غائط: وهو المطمئن الواسع من الأرض. 2 مخض اللبن من باب قطع ونصر وضرب أخذ زبده. 3 استن: سمن، سن الإبل كنصر: إذا رعاها فأسمنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 22- مجاوبة أعرابي لعبد الملك بن مروان : ودخل أعرابي على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا أعرابي صف الخمر، فقال: شَمُول إذا شُجَّت، وفي الكأس مُزَّة لها في عِظام الشاربين دَبِيب1.   1 الشمول: الخمر أو الباردة منها؛ لأنها تشمل بريحها الناس، أو لأن لها عصفة كعصفة الشمال، وشيح الشراب: مزجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 تُرِيك القَذَى من دونها وهي دُونَه ... لوجه أخيها في الإناء قُطُوب1 فقال: وَيْحَكَ يا أعرابي! لقد اتهمك عندي حُسْنُ صفتك لها، قال: "يا أمير المؤمنين، واتهمك عندي معرفتك بحسن صفتي لها". "عيون الأخبار م2: ص215".   1 القذى: ما يقع في الشراب، قطب كضرب قطبا وقطوبا: زوى ما بين عينيه وكلح، وأخوها: هو نبيذ الزبيب، والمعنى: أن الشاربين يفضلونها عليه فيشربونها دونه، فهو يقطب من أجل ذلك، وفي أخيها يقول الشاعر: دع الخمر يشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيا بمكانها فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخواها غذته أمه بلبانها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 23- مجاوبة أعرابي لخالد بن عبد الله القسري : وخطب خالد بن عبد الله القَسْرِي فقال: "يا أهل البادية: ما أخشنَ بلدكم، وأغلظَ معاشكم، وأَجْفَى أخلاقَكم، لا تشهدون جُمْعَه، ولا تُجَالِسُون عالما"، فقام إليه رجل منهم دَمِيمٌ، فقال: "أمَّا ما ذكرت من خشونة بلدنا، وغِلَظ طعامنا، فهو كذلك، ولكنكم معشر أهل الحضر، فيكم ثلاث خصال، هي شَرٌّ من كل ما ذكرت"، قال له خالد: وما هي؟ قال: "تَنْقُبُون الدور، وتَنْبُشُون القبور، وتَنْكِحُون الذكور"، قال: "قَبَّحَك الله، وقبَّح ما جئتَ به". "العقد الفريد 2: 127". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 24- أجوبة شتى : وقُدِّم أعرابي إلى السلطان، فقال له: قل الحق، وإلا أَوْجَعْتُك ضربًا، قال له: "وأنت فاعمل به، فوالله ما أَوْعَدَك الله على تركه، أعظم مما تُوعِدُني به". ونظر عثمان إلى أعرابي في شَمْلة، غائر العينين، مُشْرِف الحاجبين، ناتِئ الجَبْهَة، فقال له: أين ربك؟ قال: بالمِرّصاد! وقيل لأعرابي: إنك تُحْْسِن الشَّارة1، قال: "ذلك عنوان نعمة الله عندي".   1 الشارة: اللباس والهيئة والزينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وقيل لأعرابي: "كيف أنت في دينك؟ قال: أَخْرِقُه بالمعاصي، وأُرَّقعه بالاستغفار". وسئل أعرابي عن القَدَر فقال: "الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس، يَعْرِف ضوءها، ولا يقف على حدودها". وسئل آخر عن القدر، فقال: "علم اختصمت فيه العقول، وتقاول فيه المختلفون، وحَقَّ علينا أن يرد إلينا ما التبس علينا من حكمه، إلى ما سبق علينا من علمه". "العقد الفريد 2: 86 – 87". وقيل لأعرابي: من أبلغ الناس؟ قال: "أحسنهم لفظًا وأسرعهم بديهة". وقيل لأعرابي: ملك لا تُطِيل الهجاء؟ قال: "يكيفك من القِلادة ما أحاط بالعُنُق". وقال معاوية لأعرابية: هل من قِرًى؟ قالت: نعم، قال: وما هو؟ قالت: "خبز خَمِير، ولبن فَطِير، وما نَمير1". وقيل لأعرابي: فِيم كنتم؟ قال: "كنا بين قِدْر تفور، وكأس تَدْور وحديث لا يَحُور2". وقيل لأعرابي: ما أعدَدْتَ للبرد؟ قال: "شِدَّة الرِّعْدَة، وقُرْفُصَاء القِعْدَة، ودَرَب المِعْدَة3". وقيل لأعرابي: "ما لك من الولد؟ قال: "قليل خبيث" قيل له: ما معناه؟ قال: "إنه لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى". وقيل لأعرابي -وقد أدخل ناقته في السوق ليبيعها- صف لنا ناقتك، قال:   1 الخمير: الذي اختمر، وما نمير: ناجع، عذبا كان أو غير عذب. 2 أي لا ينقص، وربما كان لا يجور بالجيم. 3 القرفصاء: أن يجلس على أليتيه، ويلصق فخذيه ببطنه، ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه، أو يجلس على ركبتيه منكبا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبط كفيه، والذرب: الحدة، والمعدة ككلمة وكسرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 ما طلبتُ عليها قطّ إلا أدركتُ، ولا طلبتُ إلا فُتُّ، وقيل له: فلم تبيعها؟ قال: لقول الشاعر: وقد تُخْرِج الحاجات يا أمّ عامرٍ ... كرائِمَ من رَبٍّ بهنَّ ضَنِين وقيل لأعرابي: ماعندكم في البادية طبيب؟ قال: "حُمُر الوحش لا تحتاج إلى بَيْطَار". وقيل لِشُرَيْحِ القاضي: هل كلمك أحد قط فلم تُطِقْ له جوابا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون أعرابيا، خاصم عندي وهو يشير بيديه، فقلت له: أَمْسِك، فإن لسانك أطول من يدك، قال: "أَسَامِرِيٌّ أنت لا تُمَسُّ؟ 1". "العقد الفريد 2: 97". وقيل لأعرابي: أيُّ الألوان أحسن؟ قال: "قصورٌ بيض، في حدائق خُضْر". وقيل لآخر: أي الألوان أحسن؟ قال: "بَيْضة2، في رَوْضة، عن غِب سَارِية، والشمس مُكَبِّدة". "العقد الفريد 2: 96".   1 يشير إلى قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} . والسامري: هو موسى بن ظفر السامري نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة، وكان من قوم يعبدون البقر، وقع في مصر، فدخل في بني إسرائيل، وآمن بموسى، وكان منافقا لا يزال في قلبه عبادة البقر، فلما ذهب موسى لمناجاة ربه فتن بني إسرائيل، وكانوا حين خرجوا من مصر حملوا معهم من حلي القبط التي أخذوها منهم رهائن على ما يقرضونهم من المال -فاتخذ لهم منها عجلا جسدا له خوار ... إلى آخر ما هو معروف في القصة، من أثر الرسول: أي من أثر حافر الرسول وهو جبريل، والأثر: التراب الذي تحت حافره، والمساس مصدر ماس، وهو نفي أريد به النهي، أي لا تمسني ولا أمسك. 2 البيضة: ساحة القوم ومجتمعهم، والسارية: السحابة تسري ليلا، كبدت الشمس السماء: صارت في كبدها أي وسطها، وفي الأصل "مكيدة" بالياء وهو تصحيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وخطب أعرابي إلى قوم فقالوا: ما تبذل من الصدق؟ وارتفع السَِّجف1 فرأى شيئًا كرهه فقال: "والله ما عندي نقد، وإني لأكره أن يكون عليَّ دين". "عيون الأخبار م2: ص200". وقيل لأعرابية مات ابنها: "ما أحسن عزاءك عن ابنك! "، قالت: "إن مصيبته آمَنَتْنِي من المصائب بعده". وقال محمد بن حرب الهلالي: قلت لأعرابي: "إني لك لَوَادٌّ"، قال: "وإن لك من قلبي لرائِدًا". "البيان والتبيين 1: 146، والبيان والتبيين 2: 92". وقال الأصمعي: رأيت أعرابيا أمامه شَاءٌ، فقلت لمن هذه الشاء؟ قال: "هي لله عندي". "العقد الفريد 2: 86، وعيون الأخبار م2 ص209".   1 السجف بالفتح والكسر: الستر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 قولهم في الاستمناح والاستجداء أعرابي يجتدي عتبة بن أبي سفيان ... 25- أعرابي يجتدي عُتبة بن أبي سفيان: اعترض أعرابي لعُتبة بن أبي سفيان، وهو على مكة، فقال: أيها الخليفة، فقال: لستُ به، ولم تُبْعِد، قال: يا أخاه، قال: أسَمِعْت فقل، قال: "شيخ من بني عامر يتقرَّب إليك بالعُمُومة، ويختص بالخئُولة، ويشكو إليك كثرة العيال، ووطأة الزمان، وشدة فقر، وترادُف ضُرّ، وعندك ما يَسَعه ويَصْرِف عنه بؤسه" قال: "أستغفر الله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بِغِناك، فليت إسراعنا إليك، يقوم بإبطائنا عنك". "البيان والتبيين 3: 230، والعقد الفريد 2: 81". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 26- أعرابي يجتدي عمر بن عبد العزيز : وأتى أعرابي عمر بن عبد العزيز، فقال: "رجل من أهل البادية، ساقته إليك الحاجة، وبلغت به الغاية، والله سائلك عن مقامي غدا، فقال عمر: "والله ما سمعت كلمة أبلغ من قائل، ولا أوعظ لمقول له منها". "العقد الفريد 2: 83، والأمالي 2: 174، والبيان والتبيين 3: 231". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 27- خطبة أعرابي بين يدي هشام بن عبد الملك : وكانت الأعراب تنتجِع هشام بن عبد الملك بالخُطَب كل عام، فتقدَّم إليهم الحاجب يأمرهم بالإيجاز، فقام أعرابي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالى جعل العطاء محَبَّة، والمنع مَبْغَضَةً، فَلِأَن نحبَّك خير من أن نُبْغِضك1"، فأعطاه وأجزل له. "العقد الفريد 2: 83".   1 يروى هذا لمحمد بن أبي الجهم العدوي، قاله في حضرة هشام أيضًا. انظر الجزء الثاني ص422. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 28- مقام أعرابي بين يدي هشام : وقام أعرابي بين يدي هشام فقال: "يا أمير المؤمنين، أتت على الناس ثلاث سنين، أما الأولى: فَلَحَتِ1 اللحم، وأما الثانية: فأكلت الشَّحْم، وأما الثالثة: فهاضَت2 العَظْم، وعندكم فُضُول أموالٍ، فإن كانت لله فاقْسِمُوها بين عباده، وإن كانت لهم فَفِيمَ تَحْظَر3 عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدَّقوا عليهم بها، وإن الله يَجْزِي المتصدقين، قال هشام: هل من حاجة غير هذه يا أعرابي؟ قال: "ما ضربت إليك أكباد الإبل، أَدَّرِع الهَجِير، وأخوض الدُّجى لخاصٍّ دون عام"، فأمر هشام بمال، فَقُسِّم بين الناس، وأمر للأعرابي بمال، فقال "أكلُّ المسلمين له مثل هذا؟ " قالوا: "لا، ولا يقوم بذلك بيت مال المسلمين"، قال: "فلا حاجة لي فيما يبعث لأَئِمَة الناس على أمير المؤمنين". "عيون الأخبار م2: ص338 والعقد الفريد 2: 82".   1 من لحا الشجرة: أخذ لحاءها "بالكسر" وهو قشرها. 2 هاض العظم: كسره بعد الجبور فهو مهيض، وفي رواية: "وعام أنقى العظم" أي وصل إلى نقيه "بالكسر" وهو مخ العظم. 3 تحجب وتمنع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 29- أعرابي يستجدي عبيد الله بن زياد : وقال العتبيّ: وقف أعرابي بباب عبيد الله بن زياد فقال: "يأهل الغَضَارة1، حَقِبَ السّحاب، وانقشَع الرَّبابُ2، واستأسَدَت الذئاب وَرُدِمَ الثَّمَدُ3، وقَلَّ الحفَدُ4، ومات الوَلَدُ، وكنت كثير العُفَاةِ5، صَخِبَ6 السُّقَاة، عظيم الدُّلَاة7 لاتصال الزمان، وغَفَلِ8 الحِدْثان، حَيَ حِلَال9، وعدد ومال، فَتَفَرَّقْنا أَيْدِي سَبَا10، بين فقد الأبناءِ والآباء وكنت حَسَن الشَّارة11، خَصِيب الدَّارَة12 سَلِيم الجَارَة13، وكان مَحَلى حِمًى، وقومي أُسًى14، وعزى جَدًا15   1 الغضارة: النعمة والسعة والخصب، وفي الأصل: "الغضاضة" وهو تحريف -والغضاضة للذلة والمنقصة. 2 حقب المطر وغيره: احتبس، والرباب: السحاب الأبيض. 3 الثمد كشمس وسبب: الماء القليل لا مادة له. 4 الحفد: الأعوان مع حافد. 5 العفاة جمع عاف: وهو الوارد والضيف، وكل طالب فضل أو رزق. 6 وصف منه الصخب بالتحريك وهو شدة الصوت، والسقاة جمع ساق كقاض، وفي الأصل "صحب السفاء" وأراه محرفًا. 7 في الأصل: "عظيم الزلات" وأراه محرفا عن "الدلاة"، والدلاة كقضاة جمع دال كقاض، وهو النازع في الدلو المستقي به الماء من البئر. يقال: أدليت الدلو ودليتها: إذا أرسلتها في البئر. ودلوتها أدلوها فأنا دال، إذا أخرجتها. 8 الغفل بالتحريك: الغفلة، والحدثان: نوب الدهر وحوادثه، وفي الأصل: "ولا أعقل الحدثان" وأراه محرفا. وربما كان الأصل "ولإغفال الحدثان" بتكرير لام الجر. 9 الحلة بالكسر: القوم النالون، والجمع حلال وحلل ككتاب وعنب، وتطلق الحلة على البيوت مجازا تسمية للمحل باسم الحال، وهي مائة بيت فما فوقها. 10 يقال: ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيدي سبا، وأيادي سبا: أي تبددوا، شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة، واليد: الطريق. يقال، أخذ القوم يد بحر، فقيل القوم إذا تفرقوا في جهات مختلفة: ذهبوا أيدي سبا: أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب شتى والعرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع، لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمزة وإن كان أصله مهموزًا، وقد بنوا أيدي سبا، وأيادي سبا على السكون لكونه مركبا تركيب خمسة عشر. 11 الشارة: الهيئة والملباس والزينة والجمال. 12 الدارة: الدار. 13 الجارة، من معانيها: الزوجة. 14 الأسى جمع أسوة: وهي القدوة. 15 الجدا: العطية، والمطر الذي لا يعرف أقصاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 قضى الله -ولا رُجْعَان لما قَضَى- بِسَوَاف1 المال، وشَتَاتِ الرجال، وتغيُّر الحال فأعِينوا من شَخْصُه شاهِدُه، ولِسَانُه وافِدُه، وفقره سائقه وقائده". "زهر الآداب 3: 307".   1 السواف بالضم وبفتح: مرض الإبل، وساف المال يسوف ويساف: هلك، أو وقع فيه السواف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 30- أعرابية تستجدي عبد الله بن أبي بكرة : ودخلت أعرابية على عبد الله بن أبي بكرة بالبصرة، فوقفت بين السِّماطين1 فقالت: "أصلح الله الأمير وأَمْتَعَ به، حَدَرَتْنا إليك سنة اشتد بلاؤها، وانكشف غطاؤها، أقُودُ صِبْيَةً صِغَارًا، وآخرين كبارًا، في بلدة شاسعة، وتَخْفِضنا خافضة، وترفعنا رافعة، لِمُلِمَّاتٍ من الدهر، بَرَيْن عظمي، وأذهَبْن لحمي، وتَرَكْنَنِي والِهَة، أدُور بالحضيض، وقد ضاق بي البلد العريض، فسألت في أحياء العرب: مَنِ الكاملة فضائله، المُعْطَى سائله، المَكْفِيَّ نائله؟ فَدُلِلْت عليك -أصلحك الله تعالى- وأنا امرأة من هوازن، قد مات الوالد، وغاب الرافد، وأنت بعد الله غِياثي، ومُنْتَهَى أملي، فافعل بي إحدى ثلاث خصال: إما أن تَرُدَّني إلى بلدي، أو تُحْسِن صَفَدِي2، أو تقيم أوَدِي فقال: بل أجمعهن لك، فلم يزل يُجْرِي عليها كما يُجْرِي على عياله حتى ماتت". "زهر الآداب 3: 306". وروى صاحب العقد قال: قال الأصمعي: وقفت أعرابية على عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما فقالت: "إني أتيت من أرض شاسعة، تَخْفِضُنِي خافضة، وترفعني رافعة، في بَوَادِي   1 السماطان من الناس: الجانبان. 2 الصفد: العطاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 بَرَيْنَ لحمي، وهِضْنَ1 عظمي، وتَرَكْنَنِي وَالِهةً، قد ضاق بي البلد، بعد الأهل والولد، وكثرة من العدد، لا قرابة تُؤْوِينِي، ولا عشيرة تحميني، فسألت أحياء العرب، من المرتجَى سَيْبُه2، المأمون عَيْبُه، الكثير نائله، المكفِيُّ سائله، فَدُلِلْتُ عليك، وأنا امرأة من هَوَازِن، فقدت الولد والوالد، فاصنع في أمري واحد من ثلاث: إما أن تُحْسِنَ صَفَدِي، وإما أن تُقِيم أَوَدِي، وإما أن تردَّني إلى بلدي"، قال: بل أجمعهن لك، ففعل ذلك بها. "العقد الفريد 2: 82".   1 هاض العظم: كسره بعد الجبور. 2 السيب: العطاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 31- أعرابي يستجدي خالد بن عبد الله القَسْرِيّ: دخل أعرابي على خالد بن عبد الله القَسْرِيّ، فقال: "أصلح الله الأمير: شيخ كبير، حَدَتْه إليك بارِيةُ العِظَام1، ومُؤَرِّثَة الأسقام، ومُطَوِّلة الأعوام، فذهبَتْ أمواله، وذُعْذِعَت2 آبالُه، وتَغَيَّرت أحواله، فإن رأى الأمير أن يَجْبُرَه بفضله، ويَنْعَشُه بسَِجْله3، ويردّه إلى أهله" فقال: كل ذلك، وأمر له بعشرة آلاف درهم. "الأمالي: 2: 49".   1 حدته: ساقته، وبارية العظام: أي النكبات التي تبري العظام، مؤرثة: مهيجة، من التأريث وهو إيقاد النار. 2 ذعذعت: فرقت، وآبال جمع إبل. 3 السجل في الأصل: الدلو العظيمة مملوءة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 32- أعرابي يستجدي معن بن زائدة : وقَدِم أعرابي من بني كنانة على مَعْن بن زائدة وهو باليمن فقال: "إني والله ما أعرف سببا بعد الإسلام والرَّحِم، وأقوى من رِحْلة مثلى من أهل السِّن والحَسَب وإليك من بلاده، بلا سبب ولا وسيلة، إلا دعاءَك إلى المكارم، ورغبتك في المعروف، فإن رَأَيتَ أن تضعني من نفسك بحيث وضعتُ نفسي من رَجَائِك فافعل" فوصله وأحسن إليه. "العقد الفريد 2: 80". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 33- خطبة الأعرابي السائل في المسجد الحرام : عن أبي زيد قال: بينا أنا في المسجد الحرام إذ وقف علينا أعرابيّ فقال: "يا مسلمون، إن الحمد لله، والصلاة على نبيه، وإني امرؤ من أهل هذا المِلْطَاطِ الشرقي المُوَاصِي أسياف تِهَامَةَ1، عَكَفَتْ على سِنُون مُحُش2، فاجْتَبَّت الذُّرَى، وهَشَمَت العُرَى3، وجَمَشَتْ النجم، وأَعْجَت البَهْمَ4، وهَمَّت الشحمَ، والتَحَبَت اللحم، وأحْجَنَت العظم5، وغادرت التراب مَوْرًا، والماء غَوْرًا، والناس أوزاعا6، والنَّبط قُعَاعًا، والضَّهْل جُزَاعًا، والمقام جَعْجَاعًا7، يُصَبِّحُنا الهاوي، ويَطْرُقنا العاوي8، فخرجت لا أتلفَّع بوَصِيدة، ولا أَتَفَوَّت هَبِيدة9، فَالْبَخَصَات وَقِعَة، والرُّكَبَات زَلِعة، والأَطْراف قَفِعة10، والجسم مُسَلْهِم، والنظر مُدْرَهِم11، أَعْشُو فَأَغْطَشُ، وأضحى فَأَخْفَشُ12، أُسْهِل ظالعًا، وأُحْزِن راكعًا13 فهل من آمرٍ بِمَيْرٍ14، أو داعٍ بخير؟ وقاكم الله سطوة القادِر، ومَلَكة الكاهِر15، وسوء الموارِد، وفُضُوح المصادر"، قال: فأعطيته دينارا وكتبت كلامه، واستفسرته ما لم أعرفه. "الأمالي 1: 113".   1 الملطاط: كل شفير نهر أو واد، والمواصي والمواصل واحد، يقال تواصى النبت: إذا اتصل بعضه ببعض، وأسياف جمع سيف بالكسر: وهو ساحل البحر. 2 عكفت: أقامت، والسنون الجدوب، ومحش جمع محوش كصبور، وهي التي تمحش "بضم الخاء" الكلأ أي تحرقه. 3 اجتبت: قطعت واستأصلت، وهشمت: كسرت، والعرى جمع عروة، والعروة: القطعة من الشجر لا يزال باقيا على الجدب ترعاه أموالهم. 4 جمشت: احتلقت، والنجم: ما نجم ولم يستقل على ساق، وأعجت: أي جعلها عجايا، والعجى: السيئ الغذاء والمهزول. 5 همت: أذابت، والعرب تقول: "همك ما أهمك" أي أذابك ما أحزنك، والتحبت اللحم: أي عرقته عن العظم، وأحجنت العظم: أي عوجته فصيرته كالمحجن. 6 مار مورا: اضطراب وهاج، والغور: الغائر، أوزاع: فرق. 7 النبط: الماء الذي يستخرج من البئر أول ما تحفر، والقعاع الماء الملح المر: والضهل: القليل من الماء، والجزاع: أشد المياه مرارة، والجعجاع: المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه. 8 الهاوي: الجراد، والعاوي: الذئب. 9 التلفع: الاشتمال، والوصيدة: كل نسيجه، والهبيد: حب الحنظل يعالج حتى يطيب فيختبز. 10 البخصات جمع بخصة، وهي لحم باطن القدم، ووقعة: من قولهم: وقع الرجل كفرح إذا اشتكى لحم باطن قدمه، وزلعه: متشققة، وقفعه ومقفعة واحد: وهي التي قد تقبضت ويبست. 11 المسلهم: الضامر المتغير، والمدرهم: الضعيف البصر الذي قد ضعف بصره من جوع أو مرض. 12 أعشو: أنظر: فأغطش: أصير غطشا "بكسر الطاء" والغطش محركة: ضعف في البصر، وضحى للشمس كفرح وسعى: برز لها، والخفش بالتحريك: ضعف البصر خلقة، أو فساد في الجفون بلا وجع أو أن يبصر بالليل دون النهار. 13 أسهل ظالعا: أي إذا مشيت في السهول ظلعت، وظلع كمنع: غمز في مشيه، وأحزن راكعا: أي إذا علوت الحزن ركعت أي كبوت لوجهي. 14 المير: العطية، من قولهم: مارهم يميرهم ميرا. 15 الكاهر والقاهر: واحد، وقد قرأ بعضهم: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَكْهَرْ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 34- خطبة الأعرابي السائل في المسجد الجامع بالبصرة : وروى الجاحظ قال: قال أبو الحسن: سمعت أعرابيًّا في المسجد الجامع بالبصرة بعد العصر سنة ثلاث وخمسين ومائة: وهو يقول: "أما بعد: فإنَّا أبناء سبيل، وأنْضَاء1 طريق، وفَلُّ2 سَنَةٍ، تَصَدَّقُوا علينا، فإنه لا قليلَ من الأجر، ولا غِنَى عن الله، ولا عمل بعد الموت، وأما والله إنَّا لنقوم هذا المقام، وفي الصدر حزَازة3، وفي القلب غُصَّة". "البيان والتبيين 2: 46".   1 أنضاء جمع نضو كقرد: وهو المهزول، أي قد هزلنا وأضنانا سلوك الطريق. 2 السنة: الجدب والقحط، وقوم فل: منهزمون، والجمع فلول وأفلال، أي هزمنا القحط. 3 الحزازة: وجع في القلب من غيظ ونحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 35- صورة أخرى: وروى أبو عليّ القالي هذه الخطبة بصورة أخرى، وهَاكَها: عن يُونُس قال: وقف أعرابيّ في المسجد الجامع في البصرة فقال: "قَلَّ النَّيْل، ونَقَصَ الكيل، وعَجِفَت1 الخيل، والله ما أصبحنا ننفخ في وَضَح2، وما لَنَا في الديوان وَشْمَة3، وإنا لِعِيَال جَرَبَّة4، فهل من مُعِين، أعانه الله يعين ابن سبيل، ونِضْوَ طريق، وفَلَّ سَنَة؟ فلا قليل من الأجر، ولا غنى عن الله، ولا عمل بعد الموت". "الأمالي 2: 197".   1 هزلت. 2 الوضح: اللبن، سمي وضحًا لبياضه. 3 الوشمة: مثل الوشم في الذراع، يريد الخط. 4 الجربة: الكثير، أو العيال يأكلون ولا ينفعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 صورى أخرى2 ... 36- صورة أخرى: ورواها صاحب العقد فقال: وقف أعرابي على حَلْقة يونس فقال: "الحمد لله، وأعوذ بالله، أن أُذَكِّر به وأنساه، إنا أناس قَدِمنا المدينة ثلاثون رجلا لاندفِن ميتا ولا نتحول من منزل وإن كَرِهناه، فرحم الله عبد تَصَدَّق على ابن السبيل، ونِضو طريق، وفَلَّ سَنة، فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنًى عن الله، ولا عمل بعد الموت، يقول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} إن الله لا يستقرض من عَوَزٍ، ولكن ليبلوَ خِيار عباده". "العقد الفريد 2: 82". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 37- أعرابي يستجدي: وقال المدائني: سمعت أعرابيًّا يسأل وهو يقول: "رحم الله امرأ لم تَمُجَّ أُذُنَاه كلامي، وقَدَّم لنفسه مَعَاذَةً1 من سوء مقامي، فإن البلاد مُجْدِبة، والدار مُضَيَّعة، والحال سيئة2، والحياء زاجر ينهى عن كلامكم، والعُدْم عاذِرٌ يحملني على إخباركم، والدعاء إحدى الصَّدَقتين، فرحم الله امرأ أمَرَ بِمَيْرٍ3، أو دعا بخير"، فقال له بعض القوم: مِمَّن الرجل؟ فقال: "مِمَّن لا تنفعكم معرفَتُه، ولا تضركم جهالته، ذلُّ الاكتساب، ويمنع من عز الانتساب". "البيان والتبيين 3: 217، والعقد الفريد 2: 81، والأمالي 1: 138".   1 المعاذة والمعاذ والعياذ: الالتجاء. 2 وفي الأمالي "والحال مسغبة" أي مجيعة. 3 مار عياله ميرا: جلب لهم الميرة "بالكسر" وهي الطعام، وفي العقد: فرحم الله امرأ يمير، وداعيًا يجبر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 38- أعرابي يستجدى: وقال الأصمعي: أصابت الأعراب أعوام جَدْبة وشدة وَجَهْد، فدخلت طائفة منهم البصرة وبين يديهم أعرابي وهو يقول: "أيها الناس، إخوانكم في الدين، وشركاؤكم في الإسلام، عَابِرُو سبيل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 وأفلال بُؤْس، وصَرْعى جَدْب، تتابعت علينا سنون ثلاثة، غَبَّرت1 النِّعَم، وأهلكت النَّعَم، فأكلْنا ما بقيَ من جلودها فوق عظامها، فلم نزل نعلِّل بذلك أنفسنا، ونمنِّى بالغيث قلوبنا، حتى عاد مُخُّنَا عظاما، وعاد إشراقنا ظلاما، وأقبلنا إليكم يصرعنا الوَعْر، ويُكِنّنا2 السهل، وهذه آثار مصائبنا لائحة في سِمَاتنا، فرحم الله متصدقا من كثير، ومُوَاسِيًا من قليل، فلقد عظُمت الحاجة، وكَسَف البال، وبلغ المجهود، والله يَجْزِي المتصدقين".   1 غبره لطخه بالغبار: أو هي "غيرت" بالياء. 2 أي يسترنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 39- أعرابي يستجدي: وقال الأصمعي: كنت في حَلْقة بالبصرة إذ وقف علينا أعرابي سائلا، فقال: "أيها الناس، إن الفقر يهتك الحجاب، ويُبْرِزُ الكعاب1، وقد حملتنا سِنُون المصائب، ونَكَبات الدهور، على مركَبِها الوَعْر، فواسُوا أبا أيتام، ونِضْوَ زمان، وطَرِيد فَاقَةٍ، وطريح هَلَكة، رحمكم الله".   1 جارية كعاب: نهد ثديها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 40- أعرابي يستجدي: وقال الأصمعي: وقف أعرابي علينا فقال: "يا قوم: تتابعت علينا سِنُون بتغير وانتقاص، فما تركت لنا هُبْعًا ولا رُبَعًا1، ولا عافطة، ولا نافِطَة2، ولا ثاغِيَة ولا راغِبَة، فأماتت الزرع، وقتلت الضَّرع، وعندكم من مال الله فضلُ نعمة، فأعينوني من عطيَّة ما آتاكم الله، وارحموا أبا أيتام، وَنِضْوَ زمان، فلقد خَلّفتُ أقواما يمرَضون ولا يكفّنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزل، وإن كَرِهوه، ولقد مشيت حتى انتعلت الدِّماء، وجُعْت حتى أكلتُ الثَّرَى".   1 الهبع: الفصيل ينتج في آخر النتاج، والربع: الفصيل ينتج في الربيع، وهو أول النتاج. 2 النافطة: النعجة، من العفط: وهو الضرط، عفطت كضرب: ضرطت فهي عافطة، والعفط أيضا: نثير الضأن تنثر بأنوفها كما ينثر الحمار، والنافطة: العنز، من النفط، نفطت العنز كضرب: نثرت بأنفها أو عطست فهي نافطة، أو لأنها تنفط ببولها: أي تدفعه دفعًا، أو النافطة إتباع للعافطة، أو العافطة: الأمة الراعية، والنافطة: الشاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 أعرابي يستجدي 5 ... 41- أعرابية تستجدي: وقال الأصمعي: وقفت أعرابية فقالت: "يا قوم سَنَة جَرَدت، وأيدٍ جَمُدت، وحال جَهَدت1، فهل من فاعلٍ لخير، وآمرٍ بَمَيْر؟ رحم الله من رَحِم، فأقْرَضَ مَنْ لا يظلم". "العقد الفريد 2: 80 - 84".   1 جهده المرض كمنع: هزله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 42- أعرابي يستجدي: ووقف أعرابي بقوم فقال: "أشكوا إليكم أيها المَلَأ زمانًا، كَلَح في وجهه، وأَنَاخ عليّ بِكَلْكَلِه، بعد نعمة من المال، وثروة من المآل، وغِبْطَةٍ من الحال، اعتورتني جَدَائِده1، بِنَبْل مصائبه، عن قِسِيِّ نوائبه، فما تركَا لي ثاغية2 اجْتَدِي ضَرعها، ولا رَاغِيَةً أَرْتِجي نفعها، فهل فيكم من مُعِين على صَرْفه، أو مُعْدٍ3 على حَتْفه؟ "، فرد القوم عليه، ولم يُنِيلوه شيئًا، فأنشأ يقول: قد ضاع من يأكل من أَمْثَالِكُم ... جودا، وليس الجود من فِعَالِكُم لا بارك الله لكم في مالكم ... ولا أزاح السوء عن عيالكم فالفقر خير من صلاح حالكم   1 سنة جداء: محلة مجدبة، والجداء من كل حلوبة: الذاهبة اللبن عن عيب، والجدودة: القليلة اللبن من غير عيب، والجمع جدائد وجداد. 2 الثاغية: الشاة من الثغاء بالضم، وهي صوت الغنم، والراغية: الناقة، من الرغاء، وهو صوت الإبل. 3 معين، أعداه عليه: نصره وأعلفه وقواه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 43- أعرابي يستجدي: وسَمِعَ عديّ بن حاتم رجلًا من الأعراب وهو يقول: "يا قوم تَصَدَّقُوا على شيخ مُعِيل، وعابر سبيل، شَهِد له ظاهره، وسَمِعَ شكواه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 خالقه، بَدَنُه مطلوب، وثوبه مسلوب"، فقال له: من أنت؟ قال: رجل من بني سعد في دِيَةٍ لَزِمتني، قال: فكم هي؟ قال: مائة بعير، قال: دُونَكها في بطن الوادي. "العقد الفريد 2: 82 - 83". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 44- أعرابي يستجدي: ووقف أعرابي على قوم فقال: "إنا -رحمكم الله- أبناء سبيل، وأنضَاء طريق وقاسِية1، رحم الله امرأ أعطى من سَعَة، وَوَاسَى من كَفَاف". فأعطاه رجل درهمًا فقال: "آجَرَك الله من غير أن يَبْتَلِيَك".   1 أي وحال قاسية، وربما كان الأصل "وفل سنة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 45- أعرابي يستجدي: ووقف أعرابي بقوم فقال: "يا قوم: تتابعت علينا سِنُون جَمَاد1 شِدَاد، لم يكن للسماء فيها رَجْع2، ولا للأرض فيها صَدْع3، فَنَضَب العِدُّ4، ونَشِف الوَشَلُ، وأَمْحَل الخِصْبُ، وكَلَح الجَدْب، وشَفَّ5 المال، وكَسَف البال، وشَظِف المعاش، وذهب الرِّياش، وطرحتني الأيام إليكم غريبَ الدار، نَائي المحلّ، ليس لي مال أرجِع إليه، ولا عشيرة أَلْحَق بها، فَرَحِم الله امرأ رَحِم اغترابي، وجعل المعروف جوابي". "العقد الفريد 2: 80".   1 الجماد: السنة التي لا مطر فيها. 2 الرجع: المطر، لعوده كل حين. 3 أي انشقاق عن النبات، اقتبسه من الآية الكريمة: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} . 4 العد: الماء الجاري الذي له مادة لا تنقطع كماء العين، ونضب الماء: غار، والوشل: الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة، ولا يتصل قطره، نشف الماء في الأرض: ذهب "ونشف الحوض الماء شربه" وأمحل: أجدب. 5 شف: رق، والشطف بالتحريك: يبص العيش وشدته، والرياش: المال والخصب والمعاش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 46- أعرابية تستجدي : وخرج المهدي يطوف بعد هَدْأَة1 من الليل، فَسَمِع أعرابية من جانب المسجد، وهي تقول: "قوم متظلِّمون، نَبَتْ2 عنهم العيون، وفَدَحتهم الديون، وعَظَّتْهُم السِّنُون، بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم، أبناء سبيل، وأنضاء طريق، وصية الله ووصية الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهل من امرئ يجبر؟ كَلَأَه الله في سَفَره، وخَلَفه في أهله". فأمر نُصَيرا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم. "العقد الفريد 2: 80، وزهر الآداب 3: 244"   1 أي حين هدأ الليل، أو هو أول الليل إلى ثلثه. 2 اقتحمتهم وازدرتهم، وفدحتهم: أثقلتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 47- أعرابي يستجدي: ووقف أعرابي في شهر رمضان على قوم فقال: "يا قوم: لقد خَتَمَتْ هذه الفريضة على أفواهنا من صُبْحِ أمس، ومعي بنتان لي، والله ما عَلِمْتُهُما تحلَّلتا بحلال، فهو رجل كريم يرحم اليوم مقامنا، ويردّ حُشَاشَتَنَا1؟ مَنَعَه الله أن يقوم مقامه، فإنه مقام ذُلّ وعاروصغار". فافترق القوم ولم يعطوه شيئا، فالتفت إليهم حتى تأمَّلهم جميعًا ثم قال: "أَشَدُّ والله عَلَيَّ مِنْ سُوءِ حالي وفاقتي، وتوهُّمي فيكم المواساة، انْتَعِلُوا الطريق، لا صَحِبَكُم الله". "العقد الفريد 2: 82".   1 الحشاشة: بقية الروح في المريض، والصغار: الذل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 48- أعرابي يستجدي وقام أعرابي ليسأل فقال: "أين الوجوه الصِّباح1، والعقول الصِّحاح، والأَلْسُنُ الِفصَاح، والأنساب الصِّراح2، والمكارم الرِّياح، والصدور الفِسَاح؟ تُعيذني من مقامي هذا". "البيان والتبيين 3: 232"   1 جمع صبيحة: وهي الجميلة من الصباحة كفصاحة أي الجمال. 2 جمع صريحة: وهي المحضة الخالصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 49- أعرابي يستجدي: ودعا أعرابي في طريق مكة فقال: "هل من عائدٍ بفَضْل، أو مُوَاسٍ من كفاف؟ 1"، فأُمْسِك عنه فقال: "اللهم لا تَكِلْنا إلى أنفسنا فنعجِزَ، ولا إلى الناس فَنَضيع". "البيان والتبيين 3: 234".   1 الكفاف من الرزق: ما كف عن الناس وأغنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 50- أعرابي يستجدي: وقف أعرابي فسأل قومًا فقالوا له: عليك بالصَّيَارِفة، قال: هُناك والله قَرَارَةُ اللؤم! "البيان والتبيين 2: 48". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 51- أعرابي يستجدي وسأل أعرابي ناسًا فقال: "جعل الله حظَّكم في الخير، ولا جعل حظَّ السائل منكم عِذْرة1 صادقة". "البيان والتبيين 215:1".   1 العذرة: اسم من العذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 52- أعرابي يستجدي: وسأل أعرابي، فقال له صبي من جوف الدار: "بُورِك فيك، فقال: قَبَّح الله هذا الفَمَ، لقد تعلَّم الشرَّ صغيرًا". "البيان التبيين 3: 136". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 53- أعرابي يستجدي ووقف أعرابي على قوم فمنعوه، فقال: "اللهم اشْغَلْنا بذكرك، وأَعِذْنا من سُخْطِك، وأَوْلِجَنا إلى عفوك، فقد ضَنَّ خَلقُك برزقك، فلا تَشْغَلْنا بما عندهم عن طلب ما عندك، وآتِنَا من الدنيا القُنْعان1، وإن كان كثيرها يُسْخِطك، فلا خير فيما يُسْخِطك". "البيان والتبيين 3: 224"   1 القنعان: القناعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 54- أعرابي يستجدي: وقال أبو الحسن: وقف علينا أعرابي فقال: "أخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، وطالب خير من رزق الله، فهل فيكم من مُوَاسٍ في الله". وسأل أعرابي رجلا، فاعتلّ عليه فقال: "إن كنت كاذبًا، فجعلك الله صادقا". "العقد الفريد 2: 84". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 55- أعرابي يسأل رجلا حاجة له : أتى أعرابي رجلا "لم تكن بينه وبينه حُرْمة" في حاجة له، فقال: "إني امْتَطَيتُ إليك الرجاء، وسِرْت على الأمل، ووفَدْت بالشكر، وتوسَّلتْ يحسن الظن، فحقِّق الأمل، وأَحْسِنْ المثُوبة، وأكرِم القَصْد، وأَتِمّ الودّ، وعَجِّل المُراد". "العقد الفريد 2: 82، وزهر الآداب 3: 165". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 قولهم في بكاء الموتى : 56- أعرابية تبكي ابنها : وحَجَّت أعرابية ومعها ابن لها فأُصيبت به، فلمَّا دُفن قامت على قَبْرِه وهي وَجِعَة فقالت: "والله يا بُنَيّ لقد غَذَوْتك رَضِيعًا، وفَقَدْتُك سَرِيعا، وكأنه لم يكن بين الحالين مُدَّة أَلْتَذُّ بعيشك فيها، فأصبحت بعد النَّضَارة والغَضَارَة1، ورَوْنَق الحياة، والتَّنَسُّم في طيب روائحها، تحت أطباق الثرى جسدًا هامدًا، ورُفاتًا سَحِيقًا، وصعيدًا جُرُزًا2. أي بني لقد سَحَبَتِ الدنيا عليك أذيال الفَنَا، وأسكنتك دار البَلَى، ورَمَتْنِي بعد نَكْبَة الرَّدَى، أي بني لقد أسفر لي عن وجه الدنيا صباح داجٍ ظلامه3، ثم قالت: أي ربِّ، ومنك العدل، ومن خلقك الجوْر، وهَبْتَه لي قُرَّةً عين، فلم تُمَتِّعني به كثيرًا، بل سَلَبْتَنِيه وَشِيكًا4، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فَصَدَّقَت وعدك، ورضيتُ قضاءك، فَرِحَم الله من ترَحَّم على من اسْتَوْدَعْتَهُ الرَّدْمَ5، ووسَّدْتُه الثَّرَى، اللهم ارحم غُرْبته، وآنِس وحْشَتَه، واسْتُر عَوْرَتَه، يوم تَنْكَشِف الهَنَات6 والسَّوْءَات.   1 النضارة: النعمة والحسن والغنى، والنضارة أيضًا: النعمة والسعة والخصب: 2 أطباق جمع طبق: وهو وجه الأرض، والرفات: الحطام، وسحيقًا: مسحوقًا، والصعيد: التراب، أو وجه الأرض وأرض جرز: لا تنبت، أو أكل نباتها، أو لم يصبها مطر. 3 أسفر الصبح وسفر كضرب: أضاء وأشرق، داج: قال الأصمعي: دجا الليل، إنما هو ألبس كل شيء، وليس هو من الظلمة، قال: ومنه قولهم: دجا الإسلام أي قوي، وألبس كل شيء. 4 سريعا. 5 الردم، السد، وما يسقط من الجدار المتهدم. 6 السيئات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 فلما أرادت الرجوع إلى أهلها وقفت على قبره فقالت: أي بني: إني قد تزوَّدت لسفري، فليت شِعْرِي، ما زادُك لِبُعد طريقك، ويوم مَعادِك! اللهم إني أسألك له الرِّضا برضاي عنه، ثم قالت: استودعتك من استودعنيك في أحشائي جنينا، وَاثُكْلَ الوالدات! ما أَمَضَّ1 حرارةَ قلوبهن، وأقْلَقَ مضاجعَهُن، وأطول ليلَهُنَّ، وأقصر نَهَارَهُنَّ، وأقل أُنْسَهُنَّ، وأشد وَحْشَتَهُنَّ، وأبعدهنَّ من السرور، وأَقْرَبَهُنَّ من الأحزان". فلم تزل تقول هذا ونحوه، حتى أبكت كل من سَمِعَها، وحَمِدت الله عزَّ وجل، واسترْجَعَت وصلَّت ركعات عند قبره وانطلقت. "زهر الآداب 2: 7".   1 مضة الشيء: بلغ من قلبه الحزن به كأمضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 57- حديث امرأة سكنت البادية قريبًا من قبور أهلها: وروى أبو علي القالي: عن عبد الرحمن عن عمه قال: "دفعت يومًا في تلمسي بالبادية على وادٍ خَلَاء لا أَنِيسَ به إلا بَيتٌ مُعْتَنِزٌ1، بِفَنَائِهِ أَعْنُزٌ، وقد ظَمِئْتُ فَيَمَّمْته، فسلَّمت فإذا عجوز قد برزت، كأنها نعامة راخم2، فقلت: هل من ماء؟ فقالت: أو لبن، فقلت: ما كانت بُغْيَتِي إلا الماء، فإذا يَسَّرَ الله اللبن فإني إليه فقير، فقامت إلى قُعْب3 فأفرغت فيه ماء، ونظَّفَت عَسْلَه، ثم جاءت إلى الأعنُز، فتغبَّرَتْهُن4 حتى احتلبت قُرَابَ5 مِلْء القَعْب، ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وَطَفَتْ ثُمَالَته6، كأنها غَمَامة بيضاء، ثم ناولتني إياه، فشربت حتى تحبَّبْت7 ريًّا واطمأنَنْت، فقلت:   1 منفرد. 2 الراخم: التي تحضن بيضها، أرخمت الدجاجة على بيضها ورخمته، ورخمت عليه فهي مرخم وراخم. 3 القعب: قدح إلى الصغر، ويشبه به الحافر. 4 أي احتلبت الغير "كقفل": وهي بقية اللبن في الضرع، وجمعه أغبار. 5 قراب وقريب واحد، مثل كبار وكبير وجسام وجسيم. 6 الثمالة: الرغوة "وهي مثلثة الراء". 7 امتلأت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 إني أراك معتَنِزَة في هذا الوادي المُوحِش، والحِلَّة1 منك قريب، فلو انضممتِ إلى جنابهم فَأَنِسْتِ بهم! فقالت: "يابن أخي، إني لآنس بالوَحْشَة، وأستريح إلى الوَحْدَة، ويطمئن قلبي إلى هذا الوادي المُوْحِش، فأتذكر مَنْ عَهِدْت، فكأني أُخاطب أعيانهم، وأَتَرَاءَى أشباحهم2 وتتخيَّل لي أندية رجالهم، وملاعب وِلْدَانِهِم، ومُنَدَّى3 أموالهم، والله يابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بَشِع الَّلدِيدَين4 بأهل أدْواح وقِباب، ونَعَمٍ كالهضاب، وخيل كالذِّئاب، وفتيان كالرِّماح، يبارُون الرياح، ويَحْمُون الصِّبَاح5 فأحال عليهم الجَلَاء فما بِغَرْفَةٍ6 فأصبحت الآثار دارسة، والمَحَال طَامسة، وكذلك سيرة الدهر فيمن وَثِقَ به". ثم قالت: ارْمِ بعينك في هذا الملا المتباطِن7، فَنَظَرْتُ فإذا قبور نحو أربعين أو خمسين، فقالت: ألا ترى تلك الأَجْدَاث؟ قلت نعم، قالت: ما انطوت إلا عَلَى أخٍ أو ابن أخٍ، أو عمّ أو ابن عمّ، فأصبحوا قد أَلْمَأَتْ8 عليهم الأرض، وأنا أترقب ما غالهم، انصرف راشدًا رحمك الله. "الأمالي 2: 7".   1 الحلة: جماعة بيوت الناس والجمع حلال ككتاب. 2 أشخاصهم جمع شبح كشمس وسبب. 3 المندية: أن يورد الرجل إبله: ثم يرعاها، ثم يوردها، ثم يرعاها، والمندي: المكان الذي يندى فيه المال. 4 بشع: ملآن، اللديدان: الحالبان، والدوحة: الشجرة العظيمة. 5 الصباح جمع صبيحة: وهي الجميلة من الصباحة كسحابة: الجمال. 6 قم البيت قما: كنسة "والمقمة: المكنسة، والقمامة: الكناسة" والغرفة الواحدة من الغرف: وهي ضرب من الشجر. 7 الملا: الفضاء، والمتباطن: المتطامن. 8 أي احتوت عليهم، وغالهم: أهلكهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 58- حديث امرأة مات ابنها بين يديها : عن عبد الرحمن عن عمه قال: دخلت على امرأة من العرب بِأَعْلَى الأرض في خِبَاء لها، وبين يديها بُنَيٌّ لها، قد نزل به الموت، فقامت إليه فأَغْمَضَتْه وعَصَّبَتْه وسَجَّتْه1، ثم قالت:   1 تسجية الميت: تغطية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 "يا بن أخي، قلت: ما تشائين؟ قالت: ما أحق من أُلْبِس النِّعمة وأطِيلَت له النَّظِرَةُ1، أن لا يَدَعَ التوثُّق من نفسه، قبل حلّ عُقدته2، والحلول بِعَقْوَتِه3، والمَحَالَةِ بينه وبين نفسه"، قال: وما يَقْطُر من عينها قطرةٌ صبرًا واحتسابًا، ثم نظرت إليه فقالت: والله ما كان مالك لِبَطْنِك، ولا أمرك لِعِرْسِك4، ثم أنشدت تقول: رَحِيبُ الذراعِ بالتي لا تَشِينُهُ ... وإن كانت الفَحْشَاء ضَاقَ بِهَا ذَرْعًا5 "الأمالي 2: 282، والبيان والتبيين 3: 231".   1 النظرة: الإمهال. 2 كناية عن الموت. 3 العقوة: المحلة، أي بقبره. 4 العرس: امرأة الرجل. 5 ضاق بالأمر ذرعا: ضعفت طاقته، ولم يجد من المكروه فيه مخلّصًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 قولهم في الشكوى : 59- أعرابي يشكو حاله : عن عبد الرحمن عن عمه قال: "قَدِم علينا البصرة رجل من أهل البادية شيخ كبير، فقصدته فوجدته يَخْضِب لِحْيَتَه، فقال: ما حاجتك؟ فقلت: بلغني ما خَصَّك الله به، فجئتك أقتبس من علمك، فقال: أتيتني وأنا أخضِب، وإن الخِضاب لمن علامات الكِبَر، وطال والله ما غَدَوْتُ على صيد الوحوش، ومشيتُ أمام الجيوش، واخْتَلْت بالرِّدا، وهُؤتُ1 بالنساء، وقَرَيْت الضيف، وأرويتُ السيف، وشربت الرَّاح، ونادمت الجَحْجَاح2، فاليوم قد حَنَانِي الكبر، وضَعُف مني البصر، وجاء بعد الصفو الكدر، ثم قبض على لحيته، وأنشأ يقول: شيب تُغَيِّبُه كيما تَغُرَّ به ... كبيعك الثوب مَطْوِيًّا على حرق قد كنت كالغصن ترتاح الرِّياح له ... فصرت عودا بلا ماء ولا ورق صبرا على الدهر، إن الدهر ذو غيرٍ ... وأهله منه بين الصفو والرَّنَقِ3 "الأمالي 2: 94".   1 هؤت به: فرحت به. 2 الجحجاج: السيد. 3 الرنق: الكدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 60- كلمات شتى في الشكوى : قيل لأعرابية أصيبت بابنها: ما أحسن عزاءك! قالت: "إن فقدي إياه أمَّنَنِي كلّ فَقْدٍ سواه، وإن مصيبتي به هَوَّنت عَلَيَّ المصائِبَ بعده"، ثم أنشأت تقول: من شاء بعدك فَلْيَمُتْ ... فعليك كنتُ أحاذرُ ليت المنازل والدِّيا ... ر حَفَائِر ومقابر وقيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: "ما ترك هَمُّ الغداء والعشاء لي حُزْنًا". وقيل لأعرابي: ما أَنْحَل جِسْمَك؟ قال: "سوء الغذاء، وجُدُوبة المَرْعَى، واختلاف الهموم في صدري"، ثم أنشأ يقول: الهم ما لم تَمْضِهِ لسبيله ... داءٌ تضمَّنه الضلوعُ عظيم ولربما استيأستُ ثم أقول: لا ... إن الذي ضَمِنَ النجاح كريم وقيل لأعرابي قد أخذ به السِّنُّ: كيف أصبحت؟ قال: "أصبحت تقيِّدني الشَّعْرَة، وأَعْثُر في البَعْرة، قد أقام الدهر صَعَري، بعد أن أقمت صَعَره". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وقال أعرابي: "لقد كنت أُنكر البيضاء، فَصِرْتُ أُنكر السوداء، فيا خير مبدول، ويا شَرَّ بدل! ". وذكر أعرابي منزلا بَادَ أهله فقال: "منزل والله رحلت عنه ربَّات الخُدُود، وأقامت فيه رَوَاحِل1ُ القُدُر، وقد اكتَسَى بالنَّبات كأنما أُلْبِسَ الحُلَلَ، وكان أهله يَعْفُون2 فيه آثارَ الرياح، وأصبحت الريح تَعْفُو آثارهم، فالعهد القريب، والملتقَى بعيد". وذكر أعرابي قوما تغيَّرت أحوالهم فقال: "أَعْيُنٌ والله كُحِلَت بالعَبْرَة بعد الحَبْرَة3، وأَنْفُسٌ لَبِسَتِ الحزن بعد السرور". وذكر أعرابي قوما تغيرت حالهم فقال: "كانوا والله في عيش رقيق الحواشي، فطواه الدهر بعد سَعة، حتى لَبِسُوا أيديهم القُرِّ4، ولم أَرَ صاحبًا أغَرَّ من الدنيا، ولا ظالما أَغْشَمَ5 من الموت، ومن عَصَفَ عليه الليل والنهار أرْدَياه6، ومن وُكِّلَ به الموت أفناه". ووقف أعرابي على دار قد باد أهلها فقال: "دارٌ والله مُعْتَصِرَةٌ للدموع، حَطَّت بها السحاب أثقالَها، وجَرَّت بها الرِّياح أذيالها".   1الرواحل جمع راحلة: وهي في الأصل: الناقة الصالحة لأن ترحل، والمراد هنا الحوامل التي تحمل القدور، أي الأثافي. 2 عفا المنزل: درس، وعفته الريح، يتعدى ويلزم، وبأيهما عدا، وعفته الريح أيضًا بالتشديد للمبالغة. 3 الحبرة: السرور. 4 القر مثلث القاف: البرد. 5 أظلم. 6 أهلكاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وذكر أعرابي رجلًا تغيَّرت حاله فقال: "طويت صحيفتُه، وذهب رزقه، فالبلاء مُسْرِع إليه، والعيش عنه قابض كَفَّيه". وذكر أعرابي رجلا ضاق عيشه بعد سَعَة فقال: "كان والله في ظلّ عيش ممدود، فَقُدِحَت عليه من الدهر زَنْدٌ غير كابِيَة1". "العقد الفريد 2: 79 – 80". وذكر أعرابي مصيبة نالته، فقال: "مصيبة والله تركت سود الرءوس بيضًا، وبيضُ الوجوه سودًا، وهَوَّنت المصائبَ بعدها". "العقد الفريد 2: 79، وزهر الآداب 2: 5". وذكر أعرابي قَطِيعة بعض إخوانه فقال: "صَفِرتْ عِيابُ2 الود بيني وبينه بعد امتلائها، وأَقْفَرَتْ وجوه كانت بمائها، فأدبر ما كان مُقْبلا، وأقبل ما كان مُدِبرا". "العقد الفريد 2: 79، وزهر الآداب 2: 4". وقيل لأعرابي: ما أذهب شبابك؟ قال: "من طال أَمَدُه، وكثر وَلَدُه، وَدَفّ عَدَدُه، وذهب جَلَدُه ذهب شبابه". "العقد الفريد 2: 79، والبيان والتبيين 2: 57". وسئل أعرابي عن سفر أَكْدَى3 فيه، فقال: "ما غَنِمْنَا إلا ما قَصَرنا في صلاتنا، فأما ما أكلته الهواجِر4، ولقِيته منا الأباعز، فأَمْرٌ استخففناه لما أمَّلْناه".   1 الزند: العود الذي يقدح به النار، وكبنا الزند: لم يخرج ناره، وفي الأصل "زند عين كابية" وهو تحريف. 2 صفرت: خلت، وعياب جمع عيبة بالفتح: ما يجعل فيه الثياب. 3 أصله من "حفر فأكدى" أي صادف الكدية -والكدية كفرصة: الأرض الغليظة، والصفاة العظيمة الشديدة. 4 الهواجر جمع هاجرة، وهي شدة الحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 وقالت امرأة من الأعراب: "أصبحنا ما يرقد لنا فرس، وما ينام لنا حرس". "البيان والتبيين 2: 82" وقال أعرابي "مضى لنا سلفٌ أهل تَوَاصُل، اعتقدوا1 مِنَنًا، واتخذوا الأيادي ذخيرةً لمن بعدهم، يَرَون اصطناع المعروف عليهم فرضًا لازمًا، وإظهار البرّ واجبا، ثم جاء الزمان ببنينَ، واتخذوا منهم بضاعة، وبِرَّهم مُرَابَحة2، وأياديَهم تجارة، واصطناع المعروف مُقَارَضَةً، كنقدٍ، خُذْ مِنِّي وهات". وقيل لأعرابي في مرضه: ما تشتكي؟ قال: "تمام العِدَّة، وانقضاء المدة". ونظر أعربي إلى رجل يشكو ما هو فيه من الضيق والضرّ فقال: "يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ ". "العقد الفريد 2: 85". ووصف أعرابي الدنيا فقال: "هي رَنْقة3 المشارب، جَمَّة المصائب، لا تُمَتِّعك الدهر بصاحب". وقال أعرابي: "حسبك من فساد الدنيا أنك ترى أَسْمِنَةً4 تُوضَع، وأخفافًا ترفَع، والخير يُطْلَب عند غير أهله، والفقير قد حلّ غير محلّه". "العقد الفريد 2: 86".   1 من اعتقد مالا؛ اقتناء. 2 رابحة على السلعة: أعطاه ربحا. 3 كدرة. 4 جمع سنام، والمراد ما كان عاليا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 وقيل لأعرابي: كيف ابنك -وكان به عاقّا- قال: "عذاب لا يقاومه الصبر، وفائدة لا يجب فيها الشكر، فليتني قد استودعته القبر". "العقد الفريد 2: 97". عن الأصمعي قال: قيل لأعرابي قَدِم الحَضْرة1، ما أقدمك؟ قال: "الحَيْن2، الذي يُغَطِّي العَيْن". "الأمالي 1: 202". وأصيب أعرابي بابن له، فقال وقد قيل له اصْبِر: "أعلى الله أتجلَّد، أم في مصيبتي أتبلَّد؟ والله لَلْجَزع من أمره أحبُّ إليّ الآن من الصبر، لأن الجزع استكانة، والصبر قساوة، ولئن لم أّجْزَع من النقص لم أَفْرَح بالمزيد". "زهر الآداب 3: 164". وقيل لأعرابي: لِمَ لا تضرب في الأرض؟ فقال: "يمنعني من ذلك، طفل بارك ولِصّ سانِك، ثم إني لست بعد ذلك واثقًا بِنُجْح طَلِبتي، ولا معتقدا قضاء حاجتي، ولا راجيا عطف قرابتي؛ لأني أُقْدَم على قوم أطغاهم الشيطان، واستمالهم السلطان، وساعدهم الزمان، وأسكرهم حَدَاثَة الأسنان". "زهر الآداب 3: 244". وقال بعض الأعراب: "نالنا وَسْمِيٌّ3، وخَلَفَه وليُّ، فالأرض كأنها وَشْي4 عَبْقَريُّ ثم أتتنا غيومُ جَرَادٍ، بمناجلِ حَوادّ5، فخرَّبت البلاد، وأهلكت العباد، فسبحان من يُهْلِك القوي الأَكُول، بالضعيف المأكول". "زهر الآداب 3: 346".   1 الحضرة: خلاف البادية كالحضر بالتحريك. 2 الهلاك. 3 الوسمى: مطر الربيع الأول، والولي: المطر الذي يأتي بعد المطر. 4 الوشي: نقش الثوب، والعبقري: المنقطع النظير، نسبة إلى عبقر، موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذفه، أو جودة صنعته. 5 المناجل جمع منجل كمنبر: حديدة يقضب بها الزرع. وحواد جمع حادة أي قاطعة، وفي الأصل "حراد" وأراه محرفًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 61- قولهم في العتاب والاعتذار : عاتب أعرابي أباه فقال: "يا أبت، إن عظيم حقك عليّ لا يُذْهِب صغير حقي عليك، والذي تَمُتُّ به1 إليّ، أَمُتُّ بمثله إليك، ولستُ أَزْعُم أَنَّا سَواءٌ، ولكني أقول: لا يَحِلّ لك الاعتداء". "البيان والتبيين 3: 231، وزهر الآداب 3: 100". وقال أعرابي لصديق استبطأه فَلَامَه: "كانت بي إليك زَلَّة يمنعني من ذكرها ما أمَّلْتُ من تجاوزك عنها، وليس أعتذر إليك منها إلا بالإقلاع عنها". وقال آخر لابن عم له: "والله ما أعرف تقصيرا فَأُقْلِع، ولا ذنبًا فأَعْتِب، ولست أقول إنك كذبت، ولا إنني أذنبت". "زهر الآداب 3، 163". وقال آخر لابن عمّ له: "سأتخطَّى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على يقين، ومن الآخر على شكّ، ولكن لِيَتِمَّ المعروف منِّي إليك، وتقوم الحُجَّة لي عليك". "زهر الآداب 3: 164، والعقد الفريد 2: 85". وعذلت أعرابية أباها في الجود وإتلاف ماله، فقالت: "حَبْسُ المال، أنفع للعيال، من بَذْلِ الوجه في السؤال، فقد قَلَّ النوال، وكثر البُخَّال، وقد أتْلَفْتَ الطارفَ والتِّلادَ، وبقيت تطلب ما في أيدي العباد، ومن لم يحفظ ما ينفعه، أوشكَ أن يسعى فيما يضرّه". "زهر الآداب 3: 346".   1 تتوسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 62- قولهم في المدح : دخل أعرابي على بعض الملوك فقال: "رَأْيْتُني فيما أتعاطى من مدحك، كالمُخْبِر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، وأيقنت أني حيث انتهى بي القول، منسوب إلى العجز، مُقَصِّر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك، إلى الدعاء لك، وَوَكَلْتُ الإخبار عنك، إلى علم الناس بك". "الأمالي 2: 73". وأثنى أعرابي على رجل فقال: "إن خيرك لَسَريح1، وإن منعك لمُرِيح، وإن رِفْدَك لَرَبيح". "البيان والتبيين 2: 105". عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا من بني كلاب يذكر رجلا فقال: "كان والله الفَهْمُ منه ذا أُذُنَيْنِ، والجواب ذا لسانين، لم أَرَ أحدًا كان أَرْتَق لخلل رأى منه، ولا أبعد مسافة رويَّةٍ، ومُرَادَ2 طَرْف، إنما يرمي بهمته حيث أشار إليه الكرمُ، وما زال والله يَتَحَسَّى مرارة أخلاق الإخوان، ويسقيهم عُذُوبَة أخلاقه". "الأمالي 2: 16، والعقد الفريد 2: 89: وزهر الآداب 2: 3". وقال: سمعت أعرابيًّا ذكر رجلًا فقال: "كان والله للإخاء وصولًا، وللمال بَذُولا، وكان الوفاء بهما عليه كَفِيلا، ومَنْ فاضَلَه كان مفضولًا". "الأمالي 1: 116، والعقد الفريد 2: 89".   1 أي عطاء بلا مطل ولا إبطاء، ومريح: أي من كد الطلب. 2 رياد الإبل: اختلافها في المرعى مقبلة ومدبرة، والموضع مراد ومستراد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 ووصف أعرابي رجلًا فقال: "ذاك والله مِمَّنْ يَنْفع سِلْمه، ويُتَوَاصف حِلْمُه، ولا يُسْتَمَرَأُ1 ظلمه، إن قال فعل، وإن وَلِي عدل". "البيان والتبيين 2: 158، والعقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 2: 3". وذكر أعرابي قومًا فقال: "أدبَّتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تَغْرُرهم السلامة المنطوية على الهَلَكَة، وجانبوا التسويف الذي به قطع الناس مسافة آجالهم، فذلَََََّت ألسنتهم بالوعد، وانبسطت أيديهم بالإنجاز، فأحسنوا المقال، وشَفَعُوه بالفعال". "الأمالي 2: 23، والبيان والتبيين 3: 231، والعقد الفريد 2: 88". عن عبد الرحمن عن عمه قال: وصفت أعرابية زوجَها بمكارم الأخلاق عند أمها، فقالت: "يا أُمَّهْ، من نَشَرَ ثوب الثناء، فقد أدَّى واجب الجزاء، وفي كِتْمَانِ الشكر جُحُود لما وجب من الحق، ودخولٌ في كفر النِّعم"، فقالت لها أمها: "أي بُنَيَّة: أَطَبْتِ الثناء، وقمتِ بالجزاء، ولم تَدَعِي للذم موضعًا، إني وجدت من عَقَلَ، لم يَعْجَل بذمّ ولا ثناء إلا بعد اختبار"، فقالت: "يا أمه، ما مدحت حتى اختبرت، ولا وصفت حتى عرفت". "الأمالي 1: 225". ووصف بعض الأعراب أميرا فقال: "إذا أوعد أخَّر، وإذا وعد عجَّل، وعيده عفوٌ، ووعده إنجاز". "البيان والتبيين 3: 217". ونعت أعرابي رجلا فقال: "كأن الألسن والقلوب رِيضَتْ له، فما تنعقِد إلا على ودِّه، ولا تنطق إلا بحمده". "البيان والتبيين 3: 231، والعقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 2: 3".   1 لا يستطاب، من استمرأ الطعام: وجده مريئا أي هنيئا حميد المغبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وذكر رجل عند أعرابي فوقع فيه قوم فقال: "أما والله إنه لآكَلُكُم للمأدُوم وأعطاكم للمَغْرُور1، وأكسبكم للمعدوم، وأعطفكم على المحروم". "الأمالي 2: 16، البيان والتبيين 1: 163". وأعطى رجل أعرابيًّا فأكثر له، فقال له الأعرابي: "إن كنتَ جاوزتَ قَدَرِي عند نفسي، فقد بلغت أَمَلِي فيك". "الأمالي 2: 50". ومدح أعرابي رجلًا فقال: "كان والله يُعَنَّى2 في طلب المكارم، غير ضالٍّ في معارج طرقها، ولا متشاغل عنها بغيرها". ودخل أعرابي على رجل من الولاة فقال: "أصلح الله الأمير: اجعلني زمامًا من أَزِمَّتِك يُجَرُّبها الأعداء، فإني مُسْعِر حربٍ3، وركَّابُ نُجُبٍ، شديد على الأعداء ليِّن على الأصدقاء، منطوي الحصيلة4، قليل الثَّمِيلَة، غرار النَّوم، قد غَذَّتني الحرب بأفاويقها5، وحَلَبْتُ الدهر أَشْطُرَه، ولا تمنعك مني الدَّمَامة6، فإن من تحتها شهامة". "العقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 3: 180".   1 أي للمال المغرور، فمن لزمه غرم حمله عنه. 2 أي يتعب وينصب. 3 أي موقدها، والنجب جمع نجيب. 4 حصل الشيء تحصيلا: جمعه، والاسم الحصيلة، والمعنى مكتّم السر، والثميلة في الأصل: ما يبقى في بطن الدابة من العلف والماء، وما يدخره الإنسان من طعام أو غيره، وفي حديث عبد الملك قال الحجاج: "أما بعد فقد وليتك العرافين، فسر إليها منطوي الثميلة" والمعنى فسر إليها مخفا، والغرار: القليل من النون. 5 الأفاويق جمع أفواق، وهو جمع فيقة بالكسر، والفيقة: اسم اللبن يجتمع في الضرع بين الحلبتين. 6 الدمامة: قبح المنظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 ومدح أعرابي رجلا فقال: "ذاك والله فسيح الأدب، مستحكم السبب من أي أقطاره أتيتَه، تثني عليه بكرم فعال، وحسن مقال". "زهر الآداب 2: 6، والعقد الفريد 2: 89". ومدح أعرابي رجلًا فقال "كان والله يغسل من العار وجوها مُسْوَدَّة، ويفتح من الرأي عيونا مُنْسَدَّة". "العقد الفريد 2: 89، وزهر الآداب 3: 165". وذكر أعرابي قومًا عبَّادًا فقال: "تركوا والله النعيم ليَتَنَعَّمُوا، لهم عَبَرَاتٌ متدافقة، وزَفَرَاتٌ متتابعة، لاتراهم إلا في وجهٍ وجيهٍ عند الله". وذكر أعرابي قوما فقال: "ما رأيت أسرع إلى داعٍ بِلَيْل، على فرس حَسِيب، وجمل نَجِيب1، ثم لا ينتظر الأول السابق، والآخر اللاحق". وذكر أعرابي قومًا فقال: "جعلوا أموالهم مناديل أعراضهم، فالخير بهم زائد، والمعروف لهم شاهد، يُعْطُونها بِطِيبة أنفسهم إذا طُلبت إليهم، ويباشرون المعروف بإشراق الوجوه إذا بُغِيَ لديهم". وذكر أعرابي قومًا فقال: "والله ما أنالوا شيئًا بأطراف أناملهم إلا وطِئْناه بأخماص2 أقدامنا، وإنَّ أقصى هِمَهِم لأَدْنَى فِعالنا".   1 النجيب الجمل السريع الخفيف في السير. 2 جمع أخمص كأحمر: وهو من باطن القدم ما لم يصب الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وذكر أعرابي أميرًا فقال: "إذا ولي لم يُطَابِق بين جُفُونه1، وأرسل العُيُون على عيونه، فهو غائب عنهم، شاهد معهم، فالمحسن راجٍ، والمُسِيء خائف". وذكر أعرابي رجلًا ببراعة المنطق فقال: "كان والله بارع المنطق، جَزْلَ الألفاظ عربيَّ اللسان، فصيح البيان، رقيق حواشي الكلام، بَلِيلَ الرِّيق، قليل الحركات، ساكن الإشارات". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "رأيت له حِلْمًا وأَنَاة، يُحَدِّثُك الحديث على مَقاطعه، ويُنْشِد الشعر على مَدَارِجِه2، فلا تسمع له لحَنًا ولا إحالة3. وذكر أعرابي قومًا فقال: "آلت سيوفهم ألَّا تقضي دينا عليهم، ولا تضيِّع حقًّا لهم، فما أُخِذَ منهم مردُودٌ إليهم، وما أَخَذُوا متروك لهم". وذكر أعرابي قومًا فقال: "ما رأيت عينًا قطٌّ أخرق لِظُلْمَة الليل من عينه، ولَحْظَةً أشبه بلهيب النار من لحظته، له هزَّة كهزَّة السيف إذا طَرِب، وجُرْأَةٌ كجرأة الليث إذا غضب". ومدح أعرابي رجلًا فقال: "كانت ظلمة ليله كضوء نهاره، آمرا بارتياد، وناهيا عن فساد، لَحبِيب السوء غير منقاد".   1 أي لم يتم عن شئون رعيته، والعيون: الجواسيس. 2 مدارج جمع مدرج ومدرجة: المذهب والمسلك. 3 أحال الكلام إحالة: إذا أفسده، والمحال من الكلام: ما عدل به عن وجهه، وأحال: أتى بالمحال وتكلم به. 4 حلفت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 وذكر أعرابي رجلًا فقال: "اشترى والله عِرْضَه من الأذى، فلو كانت الدنيا له فأنفقها، لَرَأَى بعدها عليه حُقُوقًا، وكان مِنْهَاجًا للأمور المُشْكِلة إذا تناجز الناس باللَّائمة". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "يُفَوِّق1 الكلمة على المعنى، فتمرقُ مُرُوق السَّهم من الرَّمِيَّة، فما أصاب قَتَل، وما أخطأ أَشْوَى2، ما غَطْغَطَ3 له سهمٌ منذ تحرك لسانُهُ في فيهِ". وذكر أعرابي أخاه فقال: "كان والله رَكُوبا للأهوال، غير أَلُوف للحِجَال4 إذا أُرْعِدَ5 لقوم من غير قُرّ، يهين نفسًا كريمة على قومها، غير مبقية لغد ما في يومها". ومدح أعرابي رجلًا فقال: "كان والله من شجر لا يُخْلِفُ ثَمَره، ومن بَحْر لا يُخَاف كَدَره". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذاك والله فَتًى رماه الله بالخير نَاشِئًا، فأحسن لُبْسَه، وزَيَّنَ به نفسَه".   1 يسدد ويصوب، والرمية: ما يرمى. 2 أشواه: أصاب شواه، والشوى كعصا: اليدان والرجلان والأطراف وقحيف الرأس وما كان غير مقتل. 3 الغطغطة: حكاية صوت القدر في الغليان وما أشبهها، وقد يكون الأصل "وما غطمط" أي ما اضطرب من الغطمطة وهي اضطراب موج البحر. 4 الحجال جمع حجلة بالتحريك: القبة وموضع يزين بالثياب والستور للعروس، والمراد النساء. 5 أرعد: أخذته رعدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 ومدح أعرابي رجلًا فقال: "يُصِمُّ أُذُنَيْه عن استماع الخَنَا، ويُخْرِس لسانه عن التكلم به، فهو الماء الشَّريب1، والمِصْقَع الخطيب". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذاك رجل سبق إليَّ معروفه قبل طَلَبي إليه، فالعِرْضُ وافر، والوجه بمائه، وما أستقلّ2 بنعمة إلا أقْفَلَني بأخرى". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذاك رضيع الجود والمفطُوم به، عَقِيم عن الفحشاء، مُعْتَصِم بالتقوى، إذا حَذَفت3 الألسن عن الرأى، حذف بالصواب، كما يَحْذِف الأرنب، فإن طالت الغاية، ولم يكن من دونها نهاية، تَمَهَّل أمام القوم سابقًا". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "إن جليسه لِطِيب عِشْرته أطربُ من الإبل على الحِدَاء، والثَّمِل على الغناء". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "كان له عِلْم لا يخالطه جهل، وصدق لا يشوبه كذب، كأنه الوَبْل عند المَحْل4". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ما رأيتُ أَعْشَقَ للمعروف منه، وما رأيت المنكَر أبغضَ لأخدٍ بُغْضَه له".   1 الشريب والشرب: ما يشرب. المصقع: البليغ، أو العالي الصوت، أو من لا يرتج عليه في كلامه ولا يتتعتع. 2 أي وما أحمل. وأقفلني: أرجعني وردني. 3 حذفت: رمت. 4 الجدب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وقدم أعرابي البادية وقد نال من بني برمك، فقيل له كيف رأيتهم؟ قال: "رأيتهم وقد أنِسَت بهم النِّعمة، كأنها من ثيابهم". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ما زال يَبْني المجد، ويَشْتري الْحَمد، حتى بلغ منهُ الجَهْد". ودخل أعرابي على بعض الملوك فقال: "إن جهلًا أن يقول المادح بخلاف ما يعرف من الممدوح، وإني والله ما رأيت أعشق للمكارم في زمان اللؤم منك، وأنشد: مالي أرى أبوابهم مَهْجورَةً؟ ... وكأنَّ بابَك مَجْمَع الأسواق حابَوْك أم هابوك أم شامُوا النَّدَى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق إني رأيتك للمكارم عاشقًا ... والمكْرُمَات قليلة العُشَّاقِ "العقد الفريد 2: 88-90". وضلَّ أعرابي الطريق ليلًا، فلما طلع القمر اهتدى، فرفع رأسه إليه فقال: ما أدري ما أقول؟ أأقول: رفعك الله؟ فقد رفعك، أم أقول: نوَّرك الله؟ فقد نوَّرك، أم أقول: حسَّنك الله؟ فقد حسَّنك، أم أقول: عمَّرك الله؟ فقد عمَّرك، ولكني أقول: جعلني الله فِدَاك. "العقد الفريد 2: 97". وذكر أعرابي قومه فقال: "كانوا والله إذا اصْطَّفُوا تحت القِتَام1، خطرت بينهم السِّهام بوفُود الحمام، وإذا تصَافَحُوا بالسيوف فغَرَت2 المنايا أفواهها، فَرُبَّ   1 القتام: الغبار والحمام: الموت. ورواية العقد: "كانوا إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام" -سفر بين القوم كضرب ونصر: أصلح". 2 فغرت: فتحت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 يوم عارمٍ1 قد أحسنوا أدَبَه، وحربٍ عَبُوس قد ضَاحَكتها أسنَّتُهم، وخطب شئِزٍ2 قد ذلّلوا مَنَا كِبَه، ويوم عَمَاس3 قد كَشَفُوا ظلمته بالصبر حتى ينجلي، إنما كانوا البحر الذي لا يُنْكشُ4 غِمَارُه، ولا يُنَهْنَه نَيَّاره". "الأمالي 1: 139، والعقد الفريد 2: 88، وزهر الآداب 2: 4". ووصف أعرابي رجلًا فقال: "هو أطهر من الماء، وأرقُّ طباعًا من الهواء، وأمضى من السيل، وأهدى من النجم". "زهر الآداب 2: 3". ووصف أعرابي قومه فقال: "لُيُوثُ حرب، ولُيُوث جَدْب، إن قاتلوا أَبْلَوا، وإن بَذَلُوا أَفْنَوا". وقال الأصمعي: سمعت أعرابيًّا يقول: "إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسنة بالفروع، والله يعلم أن قلبي لك شاكر، ولساني ذاكر، ومُحَالٌ أن يظهر الوُدُّ المستقيم، من الفؤاد السَّقِيم". "زهر الآداب 3: 165". وسئل أعرابي عن قومه فقال: "يقتلون الفقر، عند شدة القُرّ5، وأرواح6 الشتاء، وهبوب الجِرْبِياء7، بأَسْنِمَةِ الجُزُور، ومُتْرَعات8 القُدُور، تَحْسُن وجوههم عند طلب المعروف، وتَعْبَسُ عند لَمَعان السيوف". وصف أعرابي قومًا فقال: "لهم جودُ كرامٍ اتسعت أحوالها، وبأس ليوثٍ تتْبَعها أشبالها، وهِهَم ملوكٍ انفسحت آمالها، وفخر صميم آبادٍ شَرُفَت أحوالها". "زهر الآداب 3: 167".   1 العرامة بالفتح والعرام بالضم: الشراسة والأذى، عرم كنصر وضرب وكرم وعلم. 2 شئز: شديد مقلق. 3 العماس من الليالي: المظلم الشديد، وأمر لا يقام له ولا يهتدي لوجهه. 4 لا ينكش: لا ينزح، والغمار جمع غمر كشمس: وهو الماء الكثير، ونهنهه: كفه وزجره. وفي رواية العقد: "إنما قومي البحر ما ألقمته التقم". ورواية زهر الآداب: "إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف فغر فمه الحمام". 5 القر بتثليث القاف: البرد. 6 جمع ريح كرياح. 7 ريح الشمال أو بردها. 8 جمع مترعة: وهي المملوءة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 63- قولهم في الذم : وذكر أعرابي قومًا فقال: "أولئك سُلِخَت أقفاؤهم بالهِجاء، ودُبِغَت وجوههم باللؤم، لبأسهم في الدنيا المَلَامة، وزادهم إلى الآخرة النَّدامة". وذكر أعرابي قومًا فقال: "لهم بيوتٌ تدخل حَبْوًا، إلى غير نَمارق1َ، ولا وسائِدَ، فُصُحُ الألسُن برَدِّ السائل، جِعَاد الأكفِّ عن النائِل2". وقال أعرابي: "لقد صَغَّر فلانا في عيني عِظَمُ الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل إذا أتاه ملك الموت إذا رآه". وسئل أعرابي عن رجل فقال: "ما ظنكم بِسكِّير لا يَفِيق، يتَّهم الصديق، ويعصي الشفيق، لا يكون في موضع إلا حَرُمت فيه الصلاة، ولو أفْلتت كلمة سوء لم تَضِر إلا إليه، ولو نزلت لعنة من السماء لم تقع إلا عليه".   1 النمارق جمع نمرقة "بالضم": وهي الوسادة الصغيرة. 2 النائل: العطاء، وهو جعد اليدين أو الأنامل "كشمس": أي بخيل، وقد جمعوا جعد الشعر على جعاد ككتاب كما في اللسان، فليكن هذا مثله، وقد جاء في الأصل "جعد" بدون ألف، وأراه محرفا؛ إذ لا يجمع جعد "بالفتح" على جعد بضم فسكون، ولا على جعد بضمتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وذكر أعرابي رجلا فقال: "إن فلانا ليُعْدِي بِإِثْمه، مَنْ تسمَّى باسمه، ولئن خيَّبني فلربَّ باقيةٍ قد ضاعت في طلب رجل كريم". وذكر أعرابي رجلا فقال: "تغدوا إليه مَرَاكبُ الضلالة، فترجع من عنده ببذور الآثام، مُعْدِم مما تحب، مُكْثِر مما تكره، صاحب السوء قطعة من النار". وقال أعرابي لرجل: "أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا سُئِل سوَّف وإذا حدث حلف، وإذا وعد أخلف، تنظر نظر حسود، وتُعْرِض إعراض حقود". وسافر أعرابي إلى رجل فحرمه، فقال لمَّا سئل عن سفره: "ما رَبِحْنا في سفرنا إلا ما قصَرنا من صلاتنا، فأما الذي لقينا من الهواجر1، ولقيت منا الأباعر، فعقوبة لنا فيما أفَسْدَنا من حسن ظننا"، ثم أنشأ يقول: رجعنا سالمين كما خرجنا ... وما خابت سَرَيَّةُ سَالمينا وذكر أعرابي رجلا فقال: "كان إذا رآني قرَّب من حاجب حاجبا، فأقول له: لا تقبِّح وجهك إلى قبحه، فوالله ما أتيتك لطمعٍ راغبا، ولا لخوف راهبا". وذمّ أعرابي رجلا فقال: "عبد الفعال، حُرّ المقال، عظيم الرُِّواق، دَنِيء الأخلاق، الدهر يرفعه، ونفسه تضعه". وقال أعرابي: "دخلت البصرة، فرأيت ثيات أحرار على أجساد عبيد، إِقْبَال   1 الهواجر جمع هاجرة: وهي شدة الحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 حظهم إدبار حظ الكرام، شجر أصوله عند فروعه، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذاك سُمّ المجالس، أعيا ما يكون عند جلسائه، أبلغُ ما يكون عند نفسه". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "ذلك من يداوي عقله من الجهل، أحوج منه إلى من يداوي عقله من المرض، إنه لا مرض أوجع من قِلَّة عقل". وذكر أعرابي رجلًا لم يدرك بثأره فقال: "كيف يُدْرِك بثأره مَنْ في صدره من البَلْغَم حشو مُرَقَّعة، لو دُقَّت بوجهه الحجارة لرَضَّها1، ولو خلا بالكعبة لسرقها". وذكر أعرابي رجلًا فقال: "تسهر والله زوجته جوعًا إذا سهِر الناس شبعًا، ثم لا يخاف مع ذلك عاجلَ عارٍ، ولا آجل نارٍ، كالبهيمة أكلت ما جمعت، ونكحت ما وجدت". وسمع أعرابي رجلًا يَزْعَق فقال: "ويحك! إنما يستجاب لمؤمن أو مظلوم، ولست بواحد منهما، وأراك يخِفّ عليك ثِقْل الذنوب، فيَحُسن عندك مقابح العيوب".   1 رضها: دقها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 وذكر أعرابي رجلًا بِضَعف فقال: "سيئ الرَّويَّة، قليل التقيَّة، كثير السِّعاية، ضعيف النكاية". وذكر أعرابي رجلا فقال: "عليه كل يوم من فعله شاهد بفسقه، وشهادات الأفعال أعدل من شهادات الرجال". وذكر أعرابي رجلا بِذِلَّة فقال: "عاش خاملا، ومات مَوْتُورا". وقال أعرابي لرجل شريف البيت دنيء الهمة: "ما أحوجك أن يكون عرضك لمن يصونه، فتكون فوق ما أنت دونه". وذكر أعرابي رجلا فقال: "إن حَدَّثْتَه يسابقك إلى ذلك الحديث، وإن سكت عنه أخذ في التُّرُّهَات1". وذكر أعرابي رجلا راكبا هواه فقال: "والله لهو أقصد إلى ما يهواه، من الطُّرق إلى المياه، وأقْفَره ذلك أو أغناه". وقال أعرابي: "ليت فلانًا أقالني من حسن ظني به، فأختم بصواب إذ بدأت بخطأ، ولكن من لم تُحْكِمْه التجارب، أسرعُ بالمدح إلى من يستوجب الذم، وبالذم إلى من يستوجب المدح".   1 الترهات جم ترهة: وهي الباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وقال أعرابي لرجل: "هل أنت إلا أنت لم تَغَيَّر؟ ولو كنت من حديد مُحْمًى ووُضِعت على عين لم تَذُب". وقال أعرابي لأخيه: "قد كنت نهيتك أن تدِّنس عرضك بعرض فلان، وأعلمك أنه سمين المال، ومهزول المعروف، من المرزوقين فجأة، قصير عمر الغِنَي، طويل عمر الفقر". وقلا أعرابي: "لا ترك الله مُخًّا في سُلَامَى1 ناقةٍ حملتني إليك، وللدَّاعِي عليها أحق بالدعاء عليه، إذ كلفها المسير إليك". وذكر أعرابي رجلا فقال: "لا يُؤْنِس جارا، ولا يُؤْهِل دارا، ولا يبعث نارا". وذكر أعرابي امرأة قبيحة فقال: "تُرْخِي ذيلها على عُرْقُوبَي نعامة، وتُسْدِل خمارها على وجه كالجِعالة2". وقال أعرابي لامرأة: "والله إنك لمشرفة الأذنين، جاحظة العينين، ذات خلق متضائل: يعجبك الباطل، إن شبعت بطرت، وإن جعت صخبت3، وإن رأيت حسنا دفنته، وإن رأيت سيئًا أذعته، تكرمين من حَقَرك، وتَحْقِرين من أكرمك". "العقد الفريد 2: 90- 93".   1 السلاميات: عظام الأصابع. 2 الجعالة: خرقة ينزل بها القدر. 3 الصخب: شدة الصوت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 وسأل أعرابي رجلا فحرمه، فقال له أخوه: "نزلت والله بواد غير ممطور، وأتيت رجلا بك غير مسرور، فلم تُدْرِك ما سألت، ولا نِلْتَ ما أمَّلت، فارتحل بِنَدَم، أو أَقِم على عَدَم". "العقد الفريد 2: 92، وزهر الآداب 2: 5". ودخلت أعرابية على حَمْدونة بنت المهدي، فلما خرجت سُئِلت فقالت: "والله لقد رأيتها فما رأيت طائِلا، كأنَّ بطنها قِرْبة، كأن ثديها دُبَّة، كأن استها رفعَة1، كأن وجهها وجه ديك قد نَفَش عِفَريَتَهُ2 يقاتل ديكًا". "العقد الفريد 2: 92، والأمالي 2: 156". وذم أعرابي رجلا فقال: "أفسد آخرته بصلاح دنياه، ففارق ما أصلح غير راجع إليه وقَدِم على ما أفسد غيرَ منتقل عنه، ولو صَدَق رجل نفسه ما كَذبته، ولو ألقى زِمَامه أوطأه راحِلته". "زهر الآداب 2: 6". قال الأصمعي: سمعت أعرابية تقول لرجل تخاصمه: "والله لو صُوِّر الجهل لأظلم معه النهار، ولو صُوِّر العقل لأضاء معه الليل، وإنك من أفضلهما لمُعْدِم فخفِ الله، واعلم أن من ورائك حَكَما لا يحتاج المُدَّعى عنده إلى إحضار بَيِّنَةٍ". "زهر الآداب 3: 163". وقال أعرابي يَعِيب قومًا: "هم أقل الناس ذُنُوبا إلى أعدائهم، وأكثر جُرْمًا إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويُفْطِرون على الفحشاء". "البيان والتبيين 3: 230، العقد الفريد 2: 90".   1 شجرة عظيمة. 2 عفرية الديك: ريش عنقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 ووصف أعرابي رجلا فقال: "صغير القدر، قصير الشَّبْر1، ضيِّق الصدر، لئيم النَّجر2، عظيم الكبر، كثير الفخر". "البيان والتبيين 1: 157، والعقد الفريد 2: 91". وذكر أعرابي أمير فقال: " يقضي بالعشوة، ويطيل النَّشْوَة، ويقبل الرشْوَة3". "البيان والتبيين 2: 50، والعقد الفريد 2: 91". وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أعرابيًّا يقول: "اللهم اغفر لأم أوفَى" قال: "ومَنْ أم أوفى؟ "، قال. "امرأتي، وإنها لحمقاء مِرْغَامَة4، أكُولٌ قامَّةٌ5 لا تَبْقَى لها حامَّة6، غير أنها حسناء فلا تُفْرَك7، وأم غلمان فلا تترك". "البيان والتبيين 2: 47". عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت امرأة من العرب تخاصم زوجها وهي تقول: "والله إن شُرْبك لاشْتِفَاف8، وإن ضِجْعَتَك لانْجِعَاف9، وإن شِمْلَتَك لالْتِفَافَ، وإنك لَتَشْبَع ليلة تُضَاف، وتنام ليلة تخاف"، فقال لها: "والله إنك لَكَرْوَاء الساقين10، قَعْوَاء الفخذين11، مَقَّاء الرُّفْغَيْن12، مُفَاضة الكَشْحَين13 ضَيفُك جائع، وشَرُّك شائع". "الأمالي 1: 104".   1 الشبر: القد. 2 النجر: الأصل. 3 العشوة والنشوة والرشوة بتثليث الشين في الثلاثة، العشوة: ركوب الأمر على غير بيان، والنشوة: السكر، والرشوة: الجعل والبرطيل "بكسر الباء". 4 المرغامة: المغضبة ليعلها. 5 قامة: اسم فاعل، من قم: أي أكل ما على الحوان، وقمه: كنسه. 6 الحامة: الخاصة. 7 فرك زوجته وفركته كسمع، وكنصر شاذ: أبغضته، ورجل مفرك بالتشديد تبغضه النساء وامرأة مفركة: يبغضها الرجال. 8 اشتف ما في الإناء: شربه كله. 9 الانجعاف: الانصراع. 10 الكرواء: الدقيقة الساقين. 11 القعواء: الدقيقة، أو الدقيقة الفخذين، وقيل هي المتباعدة ما بين الفخذين "كالفجواء". 12 الرفغ: أصل الفخذ، والمقاء: الدقيقة الفخذين، أو الطويلة من المقق بالتحريك وهو الطول. 13 المفاضة: المسترخية، والكشحان: الخاصرتان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 عن عبد الرحمن عن عمه قال: مر أعرابي برجل يكنى أبا الغَمر -وكان ضخما جسيما، وكان بوابا لبعض الملوك-فقال: "أَعِنِ الفقير الحسِير، فقال: ما ألحفَ سائِلَكم، أو أكثر جِائَعَكم، أراحنا الله منكم"، فقال له الأعرابي: "لو فُرِّق قوت جسمك في جسوم عشرة منا، لكفانا طعامك في يوم شهرا، وإنك لعظيم السَّرْطَة1، شديد الضَّرْطَة، لو ذُرِّي بَحَبْقَتِكَ بَيْدَر، لَكَفَتْه ريح الجِرْبِيَاء2". "الأمالي 1: 266".   1 البلعة، من سرطة كنصر وفرح: ابتلعه. 2 الحبقة: الضرطة، والبيدر: الموضع الذي تداس فيه الحبوب، والجربياء: ريح الشمال الباردة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 64- قولهم في الغزل : سئل أعرابي عن امرأة فقال: "هي أرق من الهواء، وأطيب من الماء، وأحسن من النعماء، وأبعد من السماء". "الأمالي 1: 201، والعقد الفريد 2: 94". وذكر أعرابي امرأة فقال: "لها جلد من لؤلؤ، مع رائحة المسك، وفي كل عضو منها شمس طالعة". وذكر أعرابي امرأة فقال: "كاد الغزال أن يكونها، لولا ما تَمَّ منها وما نَقَصَ منه". وذكر أعرابي نِسْوَةً خَرَجْنَ متنزهات فقال: "وجوه كالدنانير، وأعناق كأعناق اليَعَافِير1، وأوساط كأوساط الزَّنَابير، أقْبَلْنَ إلينا بِحُجُول2 تخفِقُ، وأوشحة تُعَلَّق، وكم أسير لهن وكم مُطْلَق".   1 اليعاقير جمع يعقور: وهو ولد البقرة الوحشية؟ 2 الحجول جمع حجل بالكسر والفتح: وهو الخلخال. والأوشحة جمع وشاح بالضم والكسر: أديم عريض يرصع بالجواهر، تشده المرأة بين عاتقها وكشحيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 ووصف أعرابي امرأة حسناء فقال: "تَبْسِم عن خَمْش1 اللِّثات، كأَقَاحِي النبات، فالسعيد من ذاقه، والشقي من راقه". وذكر أعرابي امرأة فقال: "هي السُّقم الذي لا برء منه، والبرء الذي لا سقم معه وهي أقرب من الحشا، وأبعد من السَّما". ووصف أعرابي امرأة فقال: "بيضاء جعدة2 لا يمس الثوب منها إلا مُشَاشَة3 كتفيها، وحَلَمَةُ ثدييها، ورضْفَيْ ركبتيها، ورانِفَتَي أَلْيتيها، وأنشد: أبت الروادف والثُّديُّ لِقُمْصِها ... مس البطون وأن تمس ظهورا وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبَّهْنَ حاسدة وهِجْنَ غيورا وذكر أعرابي امرأة فقال: "تلك شمس باهت بها الأرض شمس سمائها، وليس لي شفيع في اقتضائها4، وإن نفسي لَكًتُوم لدائها، ولكنها تفيض عند امتلائها". وقال أعرابي في امرأة ودّعها للمسير: "والله ما رأيت دمعة تَرَقْرَق من   1 خدش، والأقاحي جمع أقحوان بالضم: وهو نبت طيب الريح حواليه ورق أبيض، ووسطه صفر، وراقه: أعجبه. 2 الجعد من الشعر: خلاف السبط، أو القصير منه، ورجل جعد الشعر والأنثى جعدة، والجعد أيضًا المدمج الحلق لمجتمع بعضه إلى بعض، والجعد إذا ذهب به مذهب المدح فله معنيان مستحبان: أحدهما أن يكون معصوب الجوارح شديد الأسر والحلق غير مسترخ ولا مضطرب، والثاني أن يكون شعره جعدًا غير سبط لأن سبوطة الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس، وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب. 3 المشاشة: رأس العظم، والرضف: عظام في الركبة كالأصابع المضمومة قد أخذ بعضها بعضًا، والرانفة: أسفل الألية عند القيام. 4 اقتضى دينه وتقاضاه بمعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 عين بإثمد1 على ديباجه خَدّ، أحسن منه عبرة أمطرتها عينها، فأعشت بها قلبي". وقال أعرابي: "إن لي قلبا مَرُوعا2، وعينا دموعا، فماذا يصنع كل واحد منهما بصاحبه، مع أن داءهما دواؤهما، وسُقمهما شفاؤهما؟ ". وقال أعرابي: "ما أشد جولة الرأي عند الهوى، وفِطَام النفس عن الصبا! ولقد تقطعت كبدي! لوم العاذلين للعاشقين قِرَطَة في آذانهم، ولوعات الحب نيران في أيدانهم، مع دموع على المَغاني3، كَغُروب السَّوَاني". وذكر أعرابي امرأة فقال: "لقد نعمت عين نظرت إليها، وشقي قلب تفجَّع عليها، ولقد كنت أزورها عند أهلها، فيرحِّب بي طرفها، ويتجهَّمني لسانها" قيل له: فما بلغ من حُبِّك لها؟ قال: "إني ذاكر لها وبيني وبينها عَدْوَة الطائر، فأجد لذكرها ريح المسك". وقال أعرابي: "الهوى هوان، ولكن غُلِط باسمه، وإنما يعرف من يقول، من أبكته المنازل والطُلُول". وذكر أعرابي امرأة فقال: "إن لساني لذكرها لذلول، وإن حبها لقلبي لقتول، وإن قصير الليل بها ليطول".   1 الإثمد: الكحل، والديباجة: الخد. 2 مفزء. 3 المغاني جمع مغنى: وهو المنزل، والغروب جمع غرب كشمس: وهو الدلو العظيمة، والسواني جمع سانية: وهي الناقة يسقى عليها، والغرب وأداته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 ووصف أعرابي نساء ببلاغة وجمال فقال: "كلامهن أقتل من النَّبل، وأوقع بالقلب من الوَبْل بالمَحْل، فروعُهن أحسن من فروع النخل". "العقد الفريد 2: 93 – 95". وقال أعرابي: "دخلت البصرة، فرأيت أعينا دُعْجًا1، وحواجب زُجًّا، يَسْحَبْنَ الثياب، ويَسْلُبْنَ الألباب". "العقد الفريد 2: 93، وزهر الآداب 3: 17". وذكر أعرابي نساء فقال: "ظَعَائِن2 في سَوَالِفِهن طول، غير قبيحات العُطُول3 إذا مشين أسبلن الذيول، وإن رَكِبن أثقلن الحمول4". "زهر الآداب 3: 17". وقال أعرابي: "لقد رأيت بالبصرة بُرُودا كأنها صبغت بأنوار الربيع، فهي تروع5، واللابس لها أروع". "العقد الفريد 2: 96". وقال أعرابي: "شيَّعنا الحيَّ وفيهم أدوية السِّقام6، فقرأن بالحدق السلام، وخرست الألسن عن الكلام". "الأمالي 2: 50". وسئلت أعرابية عن الهوى فقالت: "لا مُتِّع الهوى بملكه، ولا مُلِّيَ7   1 دعجا جمع دعجاء وصف من الدعج بالتحريك: وهو سواد العين مع سعتها وزجا جمع زجاء من الزجج بالتحريك أيضًا: وهو دقة الحاجبين في طول. 2 ظعائن جمع ظعينة: والظعينة في الأصل وصف للمرأة في هودجها ثم سميت بهذا الاسم وإن كانت في بيتها لأنها تصير مظعونة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة لأن زوجها يظعن بها، والسوالف جمع سالفة: وهي ناحية مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى نقرة الترقوة. 3 عطلت المرأة كفرح عطلا بالتحريك وعطولا: إذا لم يكن عليها حلي. 4 الحمول: الهوادج: أو الإبل عليها الهوادج جمع حمل بالكسر ويفتح. 5 تعجب. 6 أي المحبوبات المداوية للسقام. 7 ملاه الله حبيبه تملية: متعه به وأعاشه معه طويلًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 بسلطانه، وقبض الله يده، وأوهن عضده، فإنه جائر لا ينصف في حكم، أعمى لا ينطق بعدل، ولا يُقَصِّر في ظلم، ولا يرعوي لذمّ، ولا ينقاد لحقّ، ولا يُبقي على عقل وفهم. لو ملك الهوى وأطيع، لردَّ الأمور على أدبارها، والدنيا على أعقابها". وسئل أعرابي عن الهوى فقال: "هو داء تداوى به النفوس الصَّحَاح، وتُسَلُّ منه الأرواح، وهو سُقْم مُكْتَتَم، وحَمِيم1 مُضْطَرم، فالقلوب له مُنْضَجة، والعيون ساكِبَة". "زهر الآداب 3: 18". ووصف أعرابي امرأة يحبها فقال: "هي زينة الحضور، وباب من أبواب السرور، ولذكرها في المغيب، والبعد عن الرقيب، وأشهى إلينا من كل ولد ونسيب، وبها عرف فضل الحور العين، واشتيق بها إليهن يوم الدين". "زهر الآداب 3: 244". ووصف أعرابي نساء فقال: "يَلْتَثِمْنَ على السبائك2، ويَتَّشِحَنَ على النَّيَازِك3، ويَأْتَزِرْنَ على العَوَانِك4 ويَرْتَفِقْنَ على الأرائك5، ويتهادين على الدَّرَانِك6، وابتسامهن وَمِيض عن وَلِيع كالإغريض7، وهُنَّ إلى الصبا صُوٌر، وعن الخَنَا نور8". "الأمالي 1: 44، وزهر الآداب 3: 18".   1 الحميم: الماء الحار. وفي الأصل: "وحمى" وأراه محرفًا عن حميم، ويناسبه قوله بعد: "وللعيون ساكبة". 2 اللئام على الفم، واللفام على طرف الأنف، تلثمت المرأة وتلفمت، والسبائك هنا الأسنان شبهها لبياضها بالسبائك. 3 النيازك جمع نيزك كجعفر: وهو الرمح القصير. 4 العوانك جمع عانك: وهو رمل منعقد يشقى فيه البعير لا يقدر على السير. 5 الأرائك جمع أريكة: وهي السرر أو الفراش، وارتفق: اتكأ على مرفق يده، أو على المخدة. 6 يتهادين: يمشين مشيا ضعيفًا، والدرانك: الطنافس جمع درنوك كعصفور، ودرنك كزبرج. 7 الوميض: اللمعان الخفي، والوليع: الطلع، كأنه نظم اللؤلؤ في شدة بياضه. قال الشاعر يصف ثغر امرأة: وتبسم عن نير كالوليع، والإغريض: الطلع حين ينشق عن كافوره، والبرد "بتحريك الراء". 8 صور: موائل، ومنه قيل للمائل العنق أصور، ونور: نافرات من الريبة جمع نورا كسحاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 قولهم في الوصف : 65- أعرابي يصف مطرا: عن عبد الرحمن عن عمّه قال: سئل أعرابي عن مطر فقال: "استقلّ سُدُّ مع انتشار الطفل1، فشصا واحْزَأَلَّ2، ثم اكْفَهَرَّتْ أرجاؤه، واحْمَوْمَت أَرْحَاؤه، وابْذَعَرَّتْ فَوَارِقُه3، وتضاحكت بَوَارِقُه، واستطار وَادِقُه، وارْتَتَقَتْ جُوَبَه، وارْتَعَنَ هَيْدَبُه4، وحَشَكَت أخلافه، واستقلَّت أرافه، وانتشرت أكْنَافه5؛ فالرعد مرتجس، والبرق مختلس، والماء منبجس6، فَأَتْرَع الغدر، وانْتَبَثَ الوُجُر7 وخَلَطَ الأوعال بالآجال، وقَرَن الصِّيران بالرِّئَال8،   1 استقل: ارتفع، والسد: السحاب الذي يسد الأفق: والطفل: العشي إلى حد المغرب. 2 شصا: ارتفع، واحزأل مثله. 3 المكفهر من السحاب: الذي يركب بعضه بعضا، وأرجاؤه: نواحيه جمع رجا كعصا، واحمومت: اسودت، وأرجاؤه: أوساطه: جمع رجا كعصا، وابذعرت تفرقت: والفوارق جمع فارق، وهو السحاب الذي ينقطع من معظم السحاب، وأصله في الإبل، يقال ناقة فارق: وهي التي تندعن الإبل عند نتاجها. 4 استطار: انتشر، والودق الذي يكون فيه الودق "كشمس" وهو المطر العظيم القطر، وارتتقت: التأمت، وجوبه: فرجه، وارتعن: استرخى، والهيدب: الذي يتدلى ويدنو من الأرض مثل هدب القطيفة 5 حشكت: امتلأت، والأخلاف جمع خلف كحمل، وهو الناقة كالضرع للبقرة، أردافه: مآخيره والأكناف: النواحي. 6 مرتجس: مصوت من الرجس كحمل وهو الصوت، مختلس: كأنه يختلس البصر لشدة لمعانه، منبجس: منفجر. 7 أترع: ملأ والغدر جمع غدير، والوجر جمع وجار ككتاب وسحاب: وهو حجر الضبع والثعلب، وانتبث: أخرج نبيشتها وهو تراب البئر والقبر، أي أنه لشدته هدم الوجر حتى أخرج ما بداخلها من التراب. 8 الأوعال جمع وعل، "كشمس وكتف ودئل": التيس الجبلي، والآجال جمع إجل كحمل وهو القطيع من البقر أي أنه لشدته جمع بين الوعول -وهي تسكن الجبال- وبين البقر، وهي تسكن القيعان والرمال، والصيران جمع صوار كشجاع، وصيار ككتاب وهو القطيع من البقر، والرئال جمع رأل كشمس فرخ النعام، فالرئال تسكن الجلد "بالتحريك وهي الأرض الصلبة المستوية المتن" والصيران تسكن الرمال والقيعان، فقرن بينهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 فللأودية هدير، وللشِّراج خرير، وللتِّلاع زفير1، وحَطَّ النبع والعُتْمُ، من القُلُل الشُّمُّ، إلى القيعان الصُّحْم2، فلم يبقَ في القلل إلا مُعْصِم مُجْرَنْثِم، أو داحض مُجَرْجَم3، وذلك من فضل رب العالمين، على عباده المُذْنِبِين". "الأمالي: 1: 173".   1 هدير: أي صوت كهدير الإبل، الشراج جمع شرج كشمس وهو مسيل الماء من الحرة إلى السهل. والتلاع: مسايل الماء من الجبال حتى ينصب في الوادي. 2 النبع: شجر يتخذ منه القسي ينبت في الجبال، والعتم: الزيتون الجبلي كقفل وعنق، والقلل: أعالي الجبال جمع قلة كفرصة، والشم: المرتفعة جمع شماء والقيعان جمع قاع: وهي أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام، والصحم: التي تعلوها حمرة جمع أصحم. 3 المعصم: الذي قد تمسك بالجبال وامتنع فيها "ويقال للرجل الذي يمسك بعرف فرسه خوف السقوط: معصم" مجرنثم: متقبض، الداحض: الذي يفحص برجليه عند الموت والمجرجم: المصروع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 66- أعرابي يصف مطرا: عن الأصمعي قال: سمعت أعرابيًّا من غَنِيٍّ يذكر مطرا أصاب1 بلادهم في غِبِّ جَدْب فقال: "تدارك ربك خلقه، وقد كَلِبَت الأَمْحَال، وتقاصرت الآمال، وعكف الياس، وكُظِمَت الأنفاس، وأصبح الماشي مُصْرِمًا2، والمُتْرب مُعْدِما، وجُفِيَت الحلائل، وامْتُهِنَت العَقَائل، فأنشأ سحابا رُكَاما3، كَنَهْوَرا سَجَّاما، بُرُوقه متأَلِّقَة، ورُعُوده مُتَقَعْقِعَة، فَسَحَّ ساجيا4 راكدا، ثلاثا غير ذي فواق، ثم أمر ربك الشَّمال، فَطَحَرت5 رُكامَه، وفَرَّقت جَهامَه، فانقشع محمودا، وقد أحيا وأَغنَى، وجاد فأَرْوَى، والحمد لله الذي لا تُكَتّ نعمه، ولا تَنْفَد قِسَمُه، ولا يَخِيب سائله، ولا يَنْزُر6 نائلُه". "الأمالي 1: 176".   1 صاب: جاد، وكلبت: اشتدت، والأمحال جمع محل كشمس وهو القحط. وعكف: أقام. 2 الماشي: صاحب الماشية، مشى الرجل وأمشى: كثرت ماشيته، والمصرم: المقارب المال المقل، والمترب المغني الذي له المال مثل التراب كثرة، ويقال: أترب الرجل إذا كثر ماله "وقل أيضًا: ضد" وترب كفرح إذا افتقر كأنه لصق بالتراب، وامتهنت: استخدمت واعتملت، والعقائل جمع عقيلة، وأنشأ أحدث، والنشء: السحاب أول ما يخرج. 3 الركام: المتراكم، والكنهور من السحاب قطع كأنها الجبال، أو المتراكم منه، واحدته كنهورة، وسجام: صباب، ومتألقة: لامعة، ومتقعقعة: مصوتة. 4 سح: صب، ساجيا: ساكنا، وراكدا: ثابتا، والفواق: أن يصب صبة ثم يسكن، ثم يصب أخرى ثم يسكن مأخوذ من فواق الناقة وهو ما بين الحلبتين، كأنه يحلب حلبة ثم يسكن، ثم يحلب أخرى ثم يسكن. 5 طحرت: أذهبت وأبعدت، والجهام: السحاب الذي قد هراق ماءه، تكت: تحصى. 6 ينزر: يقل، ومنه قيل: امرأة نزور: إذا كانت قليلة الولد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 67- أعرابي يصف مطرا: عن الأصمعي قال: "سألت أعرابيًّا من بني عامر بن صَعْصَعْة عن مطر صَابَ بلادهم فقال: "نشأ عارضًا1، فطلع ناهضًا، ثم ابتسم وامضًا، فًأعَسَّ في الأقطار فأَسْجَاها، وامتدَّ في الآفاق فغطَّاها، ثم ارتجز2 فَهَمْهَمَ، ثم دَوَى فأظلم، فأَرَكَّ وَدَثَّ، وبَغَشَ وطَشَّ ثم قَطْقَطَ3 فأفرط، ثم دَيَّم فأغْمَطَ، ثم رَكَد فأنجم، ثم وَبَل فَسَجَم، وجاد فأنعم، فَقَمَسَ الرُّبا4 وأفرط الزُّبَى، سبعًا تباعًا، ما يريد انقشاعًا، حتى إذا ارتوت الحُزُون5 وتَضَحْضَحَت المتون، ساقه ربُّك إلى حيث شاء، كما جلبه من حيث شاء". "بلوغ الأرب 3: 249".   1 العارض: السحاب المعترض في الآفاق، وومض البرق كوعد: لمع خفيفًا ولم أجد في كتب اللغة "أعس" وإنما الذي فيها "عسعس السحاب: دنا من الأرض" وأسجاها: غطاها، وفي الأصل "أسحاها" بالماء وهو تصحيف. 2 ارتجز الرعد: صات، وارتجز السحاب: تحرك بطيئًا لكثرة مائه، وهمهم الرعد: إذا سمعت له دويًّا، والهمهمة: كل صوت معه بحح، وأرك: أتى بالرك "بفتح الراء ويكسر" وهو المطر القليل أو هو فوق الدث، والدث بالفتح: المطر الضعيف، والبغشة بالفتح: المطرة الضعيفة وقد بغشت السماء كمنع، والطش: المطر الضعيف وهو فوق الرذاذ، وطشت السماء كنصر وضرب. 3 القطقط بالكسر: المطر المتتابع العظيم القطر، وقد قطقطت السماء، والديمة بالكسر: مطر يدوم في سكون بلا رعد وبرق، أو يدوم أيامًا، وقد ديمت السماء. أغمط: دام ولازم، وأنجمت السماء: أسرع مطرها ودام، والوبل: المطر الشديد الضخم القطر، وقد وبلت السماء كوعد: أمطرته، وسجم كدخل: سال وانصب. 4 قمس الربا: كنصر وضرب: غوصها، وأفرطها: ملأها حتى فاضت، والزبى جمع زبية كفرصة، وهي الرابية لا يعلوها الماء، وحفرة تحقر لصيد الأسد "وهو المراد هنا" سميت بذلك لأنهم كانوا يحفرونها في موضع عال. 5 الحزون جمع حزن كشمس وهو الغليظ من الأرض، والمتون جمع متن كشمس: وهو ما صلب من الأرض وارتفع، والضحضح والمتضحضح والضحضاح: الماء القليل، وقيل هو ما لا غرق فيه، وقيل هو الماء إلى الكعبين أو إلى أنصاف السوق -وفي لغة هذيل الكثير- وقد تضحضح الماء، والتضحضح أيضًا جري السراب، تضحضح إذا ترقرق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 68- ثلاثة غِلمة من الأعراب يصفون مطرا: عن الأصمعي قال: مررت بغلمة من الأعراب يتماقَلون1 في غدير، فقلت لهم: أيكم يصف لي الغيث وأعطيه درهما؟ فخرجوا إليّ فقالوا: كلنا، وهم ثلاثة، فقلت لهم: صفوا، فأيكم ارتضيت وصفه أعطيته الدرهم، فقال أحدهم: "عَنَّ لنا عارض قصرًا2، تسوقه الصَّبا، وتَحْدُوه الجنوب، يَحْبُو حَبْوَ المُعْتَنِك3؛ حتى إذا ازْلَأَمَّت4 صدوره، وانتحلت خُصُوره، ورجَّع هديره، وصعق زئيره، واستقل نشاطه5، وتلامّ خصاصه، وارتعج ارتعاصه، وأوفدت سِقَابُه6، وامتدت أطنابه، تدارك ودقه، وتألق برقه، وحفزت تواليه7، وانسفحت عَزَالِيه، فغادر الثَّرى عَمِدًا8، والعَزَاز ثَئِدًا، والحُثُّ عِقَدًا9، والضَّحَاضِح متواصية، والشِّعَاب متداعية".   1 يتغاطون في الماء. 2 عن: عرض، والقصر: العشي، والصبا: ريح تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار. 3 عنك الرمل كنصر: تعقد ارتفع فلم يكن فيه طريق، ورملة عانك: فيها في تعقد لا يقدر البعير على المشي فيها إلا أن يحبو، واعتنك البعير واستعنك: حبا في العانك فلم يقدر على السير. وقال رؤبة: أفَرُبَّمَا نَجَّيْتَ مِنْ تِلْكَ الدُوَكْ ... أَوْدَيْتُ إِنْ لَمْ تَحْبُ حَبْوَ المُعْتَنِكْ 4 ازلأمت: ارتفعت، والخصور جمع خصر: وهو وسط الإنسان، والترجيع: ترديد الصوت في الحلق. 5 النشاص ككتاب وسحاب: السحاب المرتفع، أو المرتفع بعضه فوق بعض وخصاصه: فرجه، وأصله الفرج بين الأثافي والثقب الصغير وكل خلل أو خرق في باب ومنخل وبرقع ونحوه، وارتعج: ارتعد، وارتعص: تلوى وانتفض، وارتعص الرمح: اشتد اهتزازه. 6 أوفدت: أشرقت، والسقاب جمع سقب كشمس وهو عمود الخباء، والأطناب جمع طنب كعنق وهو حبل طويل يشد به الوتد. 7 حفزه كضربه: دفعه من خلفه، والتوالي: الأعجاز والمآخير، والعزالي بكسر اللام وفتحها جمع عزلاء: وهي مصب الماء من الراوية ونحوها، وانسفحت: انصبت، من سفح الدم أراقه. 8 عمد الثرى كفرح: بلله المطر حتى إذا قبضت عليه تعقد لندوته، والعزاز: الأرض الصلبة مكان ثئد: ند من الثأد بالتحريك وهو الندى. 9 الحث: اليابس الخشن من الرمل، والعقد ككتف وجبل: ما تعقد من الرمل وتراكم، والضحضح كجعفر والضحضاح: الماء اليسير، متواصية: متواصلة، والشعاب جمع شعبة كفرصة: وهي المسيل في الرمل، وما عظم من سواقي الأودية، وصدع في الجبل يأوي إليه المطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وقال الآخر: "تراءت المَخَايل1 من الأقطار، تَحِنُّ حَنِين العِشَار، وتَتَرامي بشهب النار، وقواعدها متلاحِكَة2، وبواسِقُها متضاحِكَة، وأرجاؤها متقاذِفَة، وأعجازها مترادِفَة، وأرحاؤها متراصفة، فوصلت الغرب بالشرق، والوَبْل بالوَدْق، سحًّا دراكًا3، متتابعًا لكَّاكًا، فضحضحت الجَفَاجِف4، وأنهَّرت الصفَاصِف، وحوَّضت الأصالف، ثم أقلعت محمودة الآثار، مَوْمُوقة الخِْيار". فقال الثالث: والله ما خِلْتُه بلغ خُمْسًا، فقال: هلمَّ الدرهم أصفه لك، فقلت: لا، أو تقول كما قالا، قال: لأَبُذَّنَّهَما5 وصفًا، ولأُوقِفَنَّهما رصفًا، فقلت: هاتِ لله أبوك، فقال: "بينما الحاضر بين الباس والإبلاس، قد غَمَرهم الإشفاق، رَهْبَة الإِمْلاق، وقد جفت الأنواء6، ورفرف البلاء، واستولى القُنُوط على القلوب، وكثُر الاستغفار من الذنوب، ارتاح ربك لعباده، فأنشأ سحابًا مُسْتَجْهِرًا7 كَنَهْوَرًا مُعْنَوْنِكًا مُحْلَوْلِكًا، ثم استقل وأخزَأَلَّ، فصار كالسماء دون السماء،   1 مخايل جمع مخيلة "بضم الميم وكسر الخاء" والمخيلة والمخيلة "بتشديد الياء المكسورة" السحابة التي تحسبها ما طرة، والعشار جمع عشراء كنفساء: وهي الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية، أو هي كالنفساء من النساء، والشهب جمع شهاب ككتاب: وهو شعلة من نار ساطعة. 2 قواعدها: أسافلها، وأصله من قواعد البيت: أي أساسه، متلاحكة: أي قد اشتد التئامها، والمتلاحكة: الناقة الشديدة الخلق، وبواسقها: أعاليها جمع باسقة، من بسق: أي طال وارتفع، ومتضاحكة أي يضحك فيها برقها، متقاذفة: أي يقذف بعضها بعضا بالمطر، وأرحاؤها: أوساطها، متراصفة: متراكمة قد رصف بعضها فوق بعض. 3 أي صبا متتابعة، ولكاكا: متزاحما من اللكاك ككتاب وهو الزحام. 4 الجفاجف جمع جفجف كجعفر: وهي الأرض المرتفعة ليست بالغليظة، وضحضحها: جعلت فيها ضحاضح والصفاصف جمع صفصف كجفر: وهو المحتوى من الأرض، وأنهر الماء: أساله، والأصلف والصلفاء: ما صلب من الأرض، والجمع أصالف، وحوضت جعلت فيها حياضًا. 5 بذة: فاته وغلبه، والحاضر: ساكن الحضر، والباس: العذاب والشدة، والإبلاس: التحير واليأس: والإشفاق: الخوف، والإملاق: الفاقة. 6 الأنواء جمع نوء: وهو في الأصل سقوط النجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله في ساعته من المشرق، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إليها. 7 مستجهرا: لم أجد هذه الكلمة في كتب اللغة، وربما كان الأصل: "مستنهرا" من استنهر الشيء إذا اتسع، والمحلوك: الشديد السواد، وقد تقدم معنى اعتنك واستعنك: واعنونك افعوعل من هذه المادة، ولم أجده في كتب اللغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وكالأرض المَدْحُوَّة1 في لوح الهواء، فأَحْسَبَ السُّهُول وأتْأَقَ الهُجُول، وأحيا الرجاء، وأمات الضَّرَّاء، وذلك من فضل رب العالمين". قال: فملأَ والله اليَفَعُ صدري، فأعطيت كل واحد درهمًا، وكتبت كلامهم. "بلوغ الأرب 3: 252".   1 المبسوط، واللوح: الهواء وأحسبها: أرواها، من أحسبه إذا أطعمه وسقاه حتى شبع وروي، وأتأق: ملأ، والهجول جمع هجل كشمس: وهو المطمئن من الأرض، واليفع واليافع: الشاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 69- أعرابي يصف مطرا: عن الأصمعي قال: سألت أعرابيًّا عن مطر صابَهم بعد جَدْب فقال: "ارتاح لنا ربك بعد ما استولى علىّ الظنون، وخامر القلب القُنُوط، فأنشأ بِنَوْء الجَبْهَة1 قَزَعَةً كالفَرْضِ من قِبَل العين، فاحْزَأَلَّت عند ترجُّل النهار، لإِزْمِيم السِّرار2؛ حتى إذا نهضت في الأفق طالعة، أمر مسخِّرها الجنوب فتَنَسَّمَت لها، فانتشرت أحضانها، واحْمَوْمَت أركَانُها، وبَسَقَ عنانها3 واكْفَهَرَّت رحاها، وانبعجت كُلَاها، وذَمَرَت أُخْرَاها أولاها، ثم استطارت عَقَائِقُها، وتَقَعْقَعَت صواعقها، ثم ارْثَعَنَّتْ4 جوانبها، وتداعت سواكبها، ودَرَّت حوالبها فكانت الأرض طَبقًا5، سَحَّ فَهَضَبَ، وعَمَّ فأحْسَبَ، فَعَلَّ القِيعَان، وضَحْضَحَ الغِيطان، وجَوَّخ الأضواج6، وأترع الشراج، فالحمد لله الذي جعل كِفَاءَ إساءتنا إحسانًا، وجزاءً ظلمنا غُفْرَانًا". "بلوغ الأرب 3: 253".   1 الجبهة: منزل للقمر، قزعة: قطعة من السحاب والفرض: الترس، والعين: القبلة، ترجل النهار: ارتفع. 2 الإزميم: ليلة من ليالي المحاق -والمحاق مثلثة: ثالث ليال من آخر الشهر- والسرار: آخر ليلة من الشهر، وأحضانها جمع حضن كحمل: وهو جانب الشيء وناحيته، واحمومت: اسودت. 3 بسق: ارتفع، والعنان: السحاب، رحاها؛ وسطها، وانبعجت؛ انشقت، والكلية من السحاب: أسفله -ومن المزادة رقعة مستديرة تخرز عليها تحت العروة- وذمرت: حضت، والتذامر: التحاض على القتال، وعقائقها بروقها المشبهة للعقائق. 4 ارثعن المطر: ثبت وجاد. 5 غيث طبق: عام واسع يطبق الأرض، وهضب كضرب: 6 جوخ السيل الوادي: إذا كسر جنبتيه واقتلع أجرافه، وفي الأصل "خوخ" وهو تصحيف والأضواج جمع ضوج كشمس: وهو منعطف الوادي، والشراج جمع شرج كشمس أيضًا: وهو مسيل الماء من الحرة "بفتح الحاء" إلى السهل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 70- أعرابي يصف مطرًا: عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيًّا من بني عامر بن لُؤَيِّ بن صَعْصَعَةَ يصف مطرًا فقال: "نشأ عند القصر، بنَوْء الغَفْر1، حَبِيٍّا عارضًا، ضاحكًا وامضًا، فَكَلَا ولا2 ما كان، حتى شَجِيت به أقطار الهواء، واحتجبت به السماء، ثم أطرق3 فاكْفَهرَّ، وتراكم فادْلَهَمَّ، وبسق فازْلَأَمَّ، ثم حَدَتْ به الريح، فحنَّ، فالبرق مُرْتَعِج، والرعد مُتَبَوِّج4، والخَرْج متبعِّج، فأَثْجَم ثلاثًا، متحيِّرًا هثْهَاثًا5، أخلافه حاشِكَة، ودُفَعه متواشكة، وسَوَامُه متعاركة، ثم وَدَّع مُنْجِمًا6، وأقلع مُتْهَمًا، محمود البلاء، مُتْرِع النِّهاء، مشكور النَّعماء، بِطَوْلِ7 ذي الكبرياء". "بلوغ الأرب 3: 254".   1 القصر: العشي، والغفر: منزل القمر، والحبي: السحاب يشرف من الأفق على الأرض، أو الذي بعضه فوق بعض. 2 قال في اللسان: "والعرب إذا أرادوا تقليل مدة فعل أو ظهور شيء خفي قالوا: كان فعله كلا، وربما كرروا فقالوا كلا ولا، قال الشاعر: يكون نزول القوم فيها كلا ولا:"، والشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، وقد شجي به كرضي. 3 هو من أطرقت الإبل: تبع بعضها بعضا، وادلهم: اسود. 4 التبوج: الصياح، والخرج: السحاب أول ما ينشأ، متبعج: متشقق. 5 الثهاث: السريع، حاشكة: كثيرة الماء، متواشكة: يسارع بعضها بعضًا، والسوام: الإبل الراعية. 6 أنجم المطر وغيره: أقلع، ومتهمًا: أي سائر نحو تهامة، والنهاء جمع نهى بالكسر والفتح وهو القدير. 7 أي بفضله وقدرته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 71- أعرابي يصف مطرا: عن أبي عبيدة قال: خرج النعمان في بعض أيامه في عقب سماء، فلقي أعرابيا على ناقة، فأمر فأُتي به، قال: كيف تركت الأرض وراءك؟ فقال: "فِيح رُحاب1، منها السهول ومنها الصِّعاب، منشوطة بحبالها، حاملة لأثقالها"، قال: إنما سألتك عن السماء! قال: "مُطِلَّة2 مستقلة، على غير سقاب ولا أطناب، يختلف عصراها، ويتعاقب سِرَاجاها، قال: ليس عن هذا أسألك! قال: فَسَلْ ما بدا لك، قال: هل صاب الأرض غيث؟ قال: "نعم: أغمضت3 السماء في أرضنا ثلاثا رَهْوًا، فَثَّرت وأرْزَغَتْ، ورَسَّغَت، ثم خرجت من أرض قومي أقرؤها4، فإذا هي متواصية، لا خَطِيطة بينها، حتى هبطت بعشار، فتداعى السحاب من الأقطار، فجاءنا بالسيل الخرَّار، فعفا5 الآثار، وملأ الجِفَار، وقوَّر عالي الأشجار، فأحجر الحضَّار، ومنع السُّفَّار، ثم أقلع عن نفع وإضرار، فلما اتلأَبَّت6 لي القيعان، ووَضَحَت السُّبُل في الغيطان، وفات العَنَانُ، من أقطار الأعنان، فلم أجد وَزَرًا إلا الغِيران، ففات وِجار الضبُع، فغادرتُ السهول   1 فيح جمع فيحاء: واسعة، وكذا رحاب، منشوطة: مشدودة، من نشط الحبل كنصر عقده "وأنشطه: حله". 2 مطلة: مرتفعة، وكذا مستقلة، والسقاب جمع سقب كشمس: وهو عمود الخباء، والعصران: الليل والنهار، وسراجاها: الشمس والقمر. 3 أي دامت ولازمت، والرهو: السكون والثرة من العيون: الغزيرة كالثرارة، وقد ثرت هي، والرزغة بالتحريك: الوحل، وأرزغ المطر الأرض بلها ولم تسل، ورسغ المطر: كثر وثرى الأرض حتى تبلغ يد الحافر عنه إلى أرساغه. 4 أتتبعها، والخطيطة: الأرض لم تمطر بين ممطورتين، أو التي مطر بعضها، وعشار: موضع. 5 محاها وطمسها، والجفار جمع جفر كشمس: البئر التي لم تطو، وقورها: قطع من وسطها خرقا مستديرا، وأحجر، من أحجر الضب: أي أدخله في جحره، والحضار جمع حاضر وهو المقيم في الحضر، والسفار جمع سافر وهو المسافر لا فعل له. 6 استقامت، والعنان: السحاب والأعنان من السماء: نواحيها والوزر الملجأ، والغيران جمع غار: وهو الكهف في الجبل، والوجار بالكسر والفتح: جحر الضبع وغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 كالبحار، تتلاطم بالتيار، والحزُون متلفِّعة بالغُثَاء1، والوحوش مقذوفة على الأرجاء، فما زلت أطأ السماء، وأخوض الماء، حتى وطِئْت أرضكم". "بلوغ الأرب 3: 257".   1 الغثاء: البالي من ورق الشجر المخالط لزبد السيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 72- أعرابي يصف مطرا: عن أبي عبيد قال: وقف أعرابي على قوم من الحاج فقال: "يا قومي بدا شأني، والذي ألْفَجَني1 إلى مسألتكم، إن الغيث كان قد قوي عنَّا ثم تكرْفَأ السحاب، وشَصَا الرَّبَاب، وادْلَهَمَّ سَيِّقه2، فارتجس رَيقْه، وقلنا: هذا عام باكر الوَسْمِيِِّ3، محمود السُّمِي، ثم هبَّت له الشمال، فحزَأَلَّت طَخَارِيرُه4، وتفزَّع كِرْفِئُه متباشرا، ثم تتابع لمعان البرق؛ حيث تَشِيمُه الأبصار، وتجده النظَّار، ومَرَتِ5 الجُنُوب ماءه، فقوَّض الحي مُزْلَئِمِيِّن نحوه، فَسَرَّحنا المال فيه وكان وخمًا وَخيمًا، فأساف المال، وأضفَّ الحال، فرحِم الله امرأ جاد بِمَيْر، أو دل على خَيْر". "بلوغ الأرب 3: 258".   1 ألجأني، وقوى المطر: احتبس، وتكرفأ: تراكم، وشصا: ارتفع، والرباب: السحاب الأبيض 2 ادلهم: اسود، والسيق: السحاب لا ماء فيه، والريق: تردد الماء على وجه الأرض. 3 الوسمي: مطر الربيع الأول، سمي بذلك لأنه يسم الأرض بالنبات، والسمي جمع سماء: وهو المطر أو المطرة الجيدة. 4 الطخارير جمع طخرور كعصفور بالخاء والحاء: اللطخ من السحاب، والكرفئ: السحاب المرتفع المتراكم، وتقزع: تفرق وانقشع، وشام البرق: نظر إليه أين يقصد. 5 هو من مرى الناقة كرمى: مسح ضرعها لتدر، مزلئمين: ماضين مرتحلين إليه، وأساف المال: أهلكه، والسواف كجبان وشجاع: الموت في الناس والمال، ساف سوفا أي هلك، وأسافه الله، ويقال أيضًا أساف الرجل: وقع في ماله السواف أي الموت: وأضف من الضفف كسبب وهو الضيق والشدة، أصابهم من العيش ضفف أي شدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 73- أعرابي يصف مطرا: عن عبد الرحمن عن عمه قال: قال أبو مُجِيب -وكان أعرابيا من بني ربيعة بن مالك: "لقد رأيتُنا في أرضٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 عَجْفَاء1، وزمان أَعْجَف، وشجر أَعْسَم، في قُفٍّ غليظ فبينما نحن كذلك؛ إذ أنشأ الله تعالى من السماء غيثًا مستكِفًّا2 نَشْؤُه، مُسْبَلَةً عَزَالِيه، ضِخَامًا قطرهُ، جَوْدًا صوبُه زاكيًا، أنزله الله تعالى رزقًا لنا، فَعَيَّش به أموالَنا، ووَصَل به طرقنا، وأصابنا وإنا لَبِنَوْطِةٍ3 بعيدة الأرجاء، فاهْرَمَّعَ مطرها، حتى رأيتنا وما نرى غير السماء والماء وضَهَوَات الطَّلح4، وضرب السيل النِّجَاف، وملأ الأودية فَزَعَبَها، فما لبثنا إلا عشرا، حتى رأيتها روضة تَنْدَى". "بلوغ الأرب 3: 259".   1 ليس بها نبات، وأصله من العجف بالتحريك وهو الهزال، وأعسم: يابس، وأصله من العسم بالتحريك وهو يبس في مفصل الرسغ تعوج منه اليد والقدم، والقف: ما غلظ من الأرض وارتفع، لم يبلغ أن يكون جبلا: وأنشأ الله السحاب: رفعه. 2 مستكفا: مستديرا كالكفة، "والكفة بالكسر وبضم كل مستدير"، وصوبه: مطره. 3 النوطة: الأرض يكثر بها الطلح "والطلح: شجر عظام" والموضع المرتفع عن الماء، أو ليس بواد ولا تلعة بل بين ذلك، واهرمع: كثر وأسرع. 4 الضهوة: بركة الماء، والنجاف جمع نجف بالتحريك وبهاء: مكان لا يعلوه الماء، أو هي أرض مستديرة مشرفة على ما حولها، وزعبها: ملأها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 74- أعرابي يصف مطرا: ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال: "أصابتك سماء في وجهك يا أعرابي"، قال: "نعم يا أمير المؤمنين، غير أنها سحَّاء طَحْنَاء وَطْفَاء1، كأن هَوَادِيَها الدِّلاء، مُرْجَحِنَّة النواحي، موصولة بالآكام تكاد تمسُّ هَامَ الرجال، كثير زَجَلُها2، قاصف رعدُها، خاطف3 برقها، حَثِيث وَدْقُها، بَطِيء مسيرها، مُثْعَنْجِرُ قطرها، مظلم نَوْؤُهَا، قد لجِئت الوحش إلى أوطانها، تبحث عن أصولها بأظلافها، متجمعة بعد شتاتها، فلولا اعتصامنا يا أمير المؤمنين   1 سحابة وطفاء: مسترخية لكثرة مائها، أو هي الدائمة السح الحثيثة، هواديها: أوائلها ومقادمها، مرجحنة: ثقيلة مهتزة. 2 الزجل: الجلبة ورفع الصوت، مثعنجر: سائل منصب، ولجأ إليه كمنع وفرح، وأظلاف جمع ظلف بالكسر وهو للبقرة والشاة والظبي وشبهها كالقدم لنا، والقنن جمع قنة، وهي قمة الجبل. 3 زدت هذه الكلمة كي يستقيم بها الكلام والظاهر أنها سقطت من الأصل في الطبع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 بِعِضَاهِ الشجر، وتعلُّقنا بِقُنَن الجبال، لكنا جُفَاء1 في بعض الأودية، ولَقَمِ الطريق، فأطال الله للأمة بقاءك، ونسألها في أَجَلِك ببركتك، وعاد الله بك على رعيتك، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد". فقال سليمان: "لَعَمْرُ أبيك لئن كانت بديهة لقد أُحسنت، وإن كانت مُحَبَّرَةً لقد أجدت" قال: بل محبرة مَهْدُورة يا أمير المؤمنين، قال: "يا غلام أعطِه، فوالله لَصِدْقه أعجب إلينا من صِفًته". "العقد الفريد 2: 96".   1 الجفاء: الزبد، ولقم الطريق: معظمه ووسطه، وفي الأصل: "لغم" وهو تحريف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 75- أعرابية تصف مطرا: عن الأصمعي قال: "كان شيخ من الأعراب في خِبائِه، وابنه له بالفِنا1، إذا سمع رعدًا فقال: ما تَرَين يا بُنَيَّة؟ قالت: أراها حوَّاء قَرْحاء2، كأنها أقرَابُ أتانٍ قَمْرَاء، ثم سمع راعدة أخرى فقال: كيف ترينها؟ قالت: أراها جَمَّة التَّرْجاف3 متساقطةَ الأكناف تتألق بالبرق الوَلَّافِ، قال: هلُمِّي المِغْرَفَة، انْتَئِى4 نُؤْيًا". "بلوغ الأرب 3: 251".   1 الفناء: ما اتسع أمام الدار. 2 حواء: وصف من الحوة بالضم وهي حمرة إلى السواد، والقرحة بالضم: وجه الفرس دون الغرة، والوصف منه أقرح وقرحاء، والأقراب جمع قرب كقفل عتق: وهو الخاصرة، والقمرة بالضم: بياض فيه كدرة، حمار أقمر، وأتان قمراء. 3 كثيرة الاضطراب، الولاف: المتتابع، من ولف البرق كوعد ولفًا وولافا بالكسر: تتابع. 4 النؤي: الحفير حول الحياء يمنع السيل، وانتأيته عملته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 76- أعرابية تصف مطرا: عن الأصعمي قال: كان أعرابي ضرير تقوده ابنته، وهي ترعى غُنَيْمات لها، فرأت سحابا فقالت: يا أبت جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ قالت: كأنها فرس دَهْمَاء1 تَجُرّ جِلَالَها، قال: ارَعْى غنيماتِك، فرعت مَلِيّا، ثم قالت: يا أبت جاءتك السماء، قال: كيف ترينها: قالت؟ كأنها عين جمل طَرِيف2 قال: ارعَي   1 سوداء، والجلال جمع جل بالضم والفتح: ما تلبسه الدابة لتصان به. 2 الجمل ينتقل من مرعى إلى مرعى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 غنَيْمَاتك، فرعت مليًا، ثم قالت: يا أبت جاءتك السماء، قال: كيف ترينها؟ قالت: سُطِحَت وابْيَضَّتْ، قال: أدخلي غنيماتك، قال فجاءت السماء بشيء شَطَأَ1 له الزرع وأينع، وخَضِرَ ونِضَُر". "بلوغ الأرب 2603".   1 شطأ الزرع: أخرج شطأه، أي فراخه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 77- أعرابي يصف أرضا : ووصف أعرابي أرضا أحمدها فقال: "خَلَع شِيحُها، وأبقل رِمْثُها، وخضب عَرْفَجُها1، واتَّسق نبتُها، واخضرَّت قُرْيَانُها، وأخْوَصَت بُطْنَانها2، وأَحْلَسَت أكمامُها، واعتمَّ نَبْتُ جَراثيمها3، وأجْرَتْ بَقْلَتها وذُرَقتها وخُبَّازَتها4، واحْوَرَّت خَوَاصِر إبلها، وشَكِرت حَلُوبَتُها، وسَمِنَت قَتُوبتها5، وعَمِد ثَرَاها. وعَقِدت تَنَاهِيها، وأماهَتْ ثمارُها. وَوَثِقَ الناس بِصَائِرَتها6". "البيان والتبيين 2: 77".   1 خلع الشيح: أورق "والخالع من العضاه: الذي لا يسقط ورقه أبدا، والعضاه ككتاب: كل شجر له شوك" والرمث. مرعى للإبل وشجر يشبه الغضا، والعوفج: شجر سهلي، وخضب الشجر كضرب وسمع وعني: اخضر. 2 القريان: مجاري الماء من الربو إلى الرياض جمع قرى كغنى، وأخوص العرفج: تفطر بورق، وأخوصت النخلة: أخرجت الخوص، والبطنان جمع باطن وهو الغامض من الأرض أي المطمئن منها. 3 أحلس النبت: غطى الأرض بكثرته، أحلست الأرض فهي محلسة: صار النبات عليها كالحلس كثرة الحلس كحمل كساء على ظهر البعير -والجراثيم جمع جرثومة بالضم، وجرثومة الشيء: أصله، واعتم: أي كأنه لبس عمامة. 4 أجرت البقلة: صارت لها جراء -وجراء ككتاب جمع جرو بالتثليث وهو صغير كل شيء- والذرقة واحدة الذرق وهو نبات مثل الكرات الجبلي الدقاق في رأسه حلو يؤكل رطبا تحبه الرعاة يأتون به أهليهم: والخبازة والخبازى: النبت المعروف. 5 أحورت: ابيضت وذلك من الشد على خواصرها لئلا تحبط "والحبط بالتحريك: انتفاخ بطنها من مرعى ترعاه" والحلوبة: المحلوبة، وشكرت الناقة: امتلأ ضرعها، والدابة: سمنت، والقتوبة: الإبل التي تقتبها "وأقتب الناقة: شد عليها القتب "بالتحريك" وهو إكاف صغير على قدر سنام البعير". 6 عمد الثرى: بلله المطر حتى إذا قبضت عليه تعقد لندوته، والتناهي جمع تنهية: وهي مستقر السيل حيث ينتهي الماء من الوادي، وعقدت تناهيها: أن يمر السيل مقبلا حتى إذا انتهى منتهاه دار بالأبطح حتى يلتقي طرفا السيل، وأماهت ثمارها: أي كثر ماؤها والصائرة: المطر والكلأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 78- رائد يصف أرضا جدبة : قال أبو المجيب: وصف رائد أرضا جدبة فقال: "اغبرَّتْ جادَّتها1، وذرع مَرْتَعها، وقَضِم شجرها، ورَقَّت كَرِشها، وخَور عظمها. والتقى سَرْحاها2. وتميّز3 أهلها؟ ودخل قلوبهم الوَهَل. وأموالهم الهَزْلُ". "البيان والتبيين 2: 77".   1 الجادة: الطريق إلى الماء، وذرع المرتع: بعد عن الماء، وقضم شجرها: تكسر، يقال: سيف قضم كفرح: أي طال عليه الدهر فتكسر حده، وقضم السن: انصدع وتثلم، وإذا لم يكن للجمال مرعى إلا الشجر وحده رقت أكراشه. 2 يعني أنه إذا أكل كل ساوح ما يليه، التقيا عند الماء. 3 تفرقوا في طلب الكلأ، والوهل: الفزع، والهزل: موت مواشي الرجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 79- رائدا يصف أرضا: عن محمد بن كُناسة قال: أخبرني بعض فصحاء أعراب طيئ قال: "بعث قوم رائدا. فقالوا: ما وراءك؟ قال: عشب وتعاشيب1، وكَمْأَة متفرقة شِيبٌ، تقلعها بأخفافها النِّيب2"، قالوا: لم تصنع شيئًا، هذا كذب! فأرسلوا آخر، فقالوا: ما وراءك؟ قال: "عشب ثَأْد مَأْدَمَوْلِيُّ3 وعَهْد. متدارك جَعْد4، كأفخاذ نساء بني سعد، تشبَع منه النِّيب وهي تُعَدُّ5". "البيان والتبيين 2: 79".   1 العشب: الكلأ الرطب، والتعاشيب: القطع المتفرقة منه. 2 النيب جمع ناب: وهو الناقة المسنة. 3 جاء في اللسان: "قال الأصمعي: قيل لبعض العرب: أصب لنا موضعًا أي أطلب فقال رائدها: وجدت مكانا ثئدا مئدا "بفتح فكسر" وقال زيد بن كثوة: بعثوا رائدا فجاء وقال: عشب ثأد مأد "بفتح فسكون" كأنه أسوق بني سعد" وثئد النبت كفرح: ندى فهو ثئد، ومأد كمنع اهتز وتروى وجرى فيه الماء وتنعم ولان والمأد: الناعم من كل شيء، والمولي: الذي أصابه الولى "والمولي: المطر الذي يأتي بعد المطر"، والعهد: أول مطر الوعى "الوسمى: أول مطر الربيع". 4 من قولهم: زبد جعد: أي متراكب مجتمع قد صار بعضه فوق بعض. 5 يعني أن العشب قد طال وتم، والنيب تشبع منه وهي تعد: لأنها تتناوله وهي قائمة لا تبرح مكانها ولا تطأطئ رأسها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 80- رائد يصف أرضا: وبعث رجل أولاده يرتادون في خِصْب. فقال أحدهم: "رأيت بقلا. وماء غيلا1. يسيل سيلا. وخُوصه تميل ميلا، ويحسبها الرائد ليلا" وقال الثاني: "رأيت دِيمة على دِيمة، في عهدها غير قديمة. وكَلأً تشبَع منه النَّاب قبل الفطيمة". "البيان والتبيين 2: 79". وروى هذا الوصف عن ابن الكلبي بصورة أخرى قال: "خطب هندَ بنة الخُسِّ الإيادية ثلاثةُ نَفَر من قومها، وارتَضَت أنسابَهم وجمالَهم، وأرادت أن تَسْبُر عقولهم، فقالت: لهم: "إني أريد أن ترتادوا لي مرعًى، فلما أتَوْها قالت لأحدهم: ما رأيت؟ قال: رأيت بقلا وبُقِيلا، وماء غَدَقًا2 سَيْلا، يحسبه الجاهل ليلا، قالت: أمْرَعتَ3، قال الآخر: رأيت ديمة بعد ديمة، على عهادٍ غير قديمة، فالناب تشبع قبل الفطيمة، قال الثالث: رأيت غيثا ثَعْدًا مَعْدًا4، متراكما جعدًا، كأفخاذ نساء بني سعد، تشبع منه النِّيب وهي تُعَدّ". "بلوغ الأرب 2: 256".   1 الغيل: الماء الذي يجري بين الشجر. 2 الغدق: الماء الكثير. 3 أمرعه أصابه مريعًا كخصيب وزنا ومعنى. 4 الغيث: المطر والكلأ، وقيل: الأصل المطر ثم سمي ما ينبت به غيثا، والمراد هنا الثاني، وبقل ثعد معد: غض رطب رخص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 81- أعرابي يصف أرضه وماله : عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيت أعرابيا بمكة فقلت له: ممن أنت؟ قال: أسدي، قلت: ومن أيهم؟ قال: نَهْدي، قلت: من أي البلاد؟ قال: من عُمان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 قلت: فأنَّي لك هذه الفصاحة؟ قال: "إنا سكنَّا قُطْرًا لا نسمع فيه ناجِخَة التيار1" قلت: صِفْ لي أرضك، قال: "سِيفٌ أَفْيَح، وفضاء صَحْصَح، وجبل صَرْدَح، ورَمْل أصبح2"، قلت: فما مالُك؟ قال: النخل، قلت: فأين أنت من الإبل؟ قال: "إن النخل حَمْلُها غِذاء، وسَعَفُها3 ضِياء، وجِذْعها بناء، وكَرَبُها صِلَاء، ولِيفها رِشَاء، وخُوصُها وِعاء، وقَرْوُها إناء". "ذيل الأمالي ص17".   1 الناجخة: الصوت، والتيار: الموج. 2 السيف: ساحل البحر، وساحل الوادي، أو لكل ساحل سيف، أو إنما يقال ذلك لسيف عمان، وأفيح: واسع، والصحيح: ما استوى من الأرض، والصردح: الصلب، والأصبح: الذي يعلو بياضه حمرة. 3 السعف: جريد النخل أو ورقه، والكرب: أصول السعف الغلاظ العراض، والرشاء: الحبل، والقرو: أسفل النخلة ينقر فينتبذ فيه -أي يتخذ فيه النبيذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 82- أعرابي يصف بلدًا: وذكر أعرابي بلدا فقال: "بلد كالتُّرس، ما تمشى فيه الرياح إلا عابرات سبيل، ولا يمر فيه السفر إلا بأدلّ دليل". "العقد الفريد 2: 80". وقال أعرابي: "مررت ببلد ألقى به الصيف1 بِقَاعَه، فأظهر غَدِيرا يَقْصُر الطَّرْف عن أرجائِه، وقد نَفَتِ الريح القَذَى عن مائِه، فكأنه سلاسل دِرْعٍ ذات فُضُول2". "العقد الفريد 2: 96". وسئل أعرابي عن مسافة ما بين بلدين فقال: "عمر ليلة، وأَدِيم3 يوم". وقال آخر: "سواد ليلة، أو بياض يوم". "البيان والتبيين 2: 51، والعقد الفريد 2: 97". وقال آخر: "إن المسافر ومَتَاعَه لعَلَى قَلَت4 إلا ما وَقَى الله". "العقد الفريد 2: 52".   1 الصيف كسيد ويخفف: المطر يجيء في الصيف أو بعد الربيع كالصيفي. 2 جمع فضل: وهو الزيادة. 3 أديم النهار: عامته أو بياضه. 4 القلت: الهلاك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 83- أعرابي يصف أشد البرد : سئل أعرابي فقيل له: ما أشد البرد؟ قال: ريح جِرْبِيَاء، في طلّ عَمَاءٍ، غِبِّ سماء1". "البيان والتبيين 1: 163".   1 الجربياء: ريح الشمال الباردة، أو الريح بين الجنوب والصبا، والعماء: السحاب المرتفع: أو الكثيف، أو الممطر، في غب سماء، أي عقب مطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 84- أعرابي يصف إبلا : وقال: سمعت أعرابيا يصف إبلا فقال: "إنها لِعَظَام الحناجر، سِبَاطُ المَشَافِر، كُوم بَهَازِر1، نُكْد خَنَاجِر2، أجوافُها رِغَاب3، وأعطانُها رِحَاب، تُمْنَع من البُهَم4 وتُبْذَل للجُمَم". "الأمالي 1: 52"   1 الحنجرة والحنجور كعصفور: الحلقوم، وجمعه حناجر، والمشافر جمع مشفر كمنبر: وهو البعير كالشقة للإنسان، والكوم: العظام الأسنمة جمع أكوم وكوماء والبهازر جمع بهزرة كبندقة: وهي العظيمة من النوق. 2 النكد: الغزيرات اللبن من الإبل "والتي لا لبن لها أيضا ضد"، والحناجر: الغزيرات اللبن جمع خنجر كجعفر وبهاء وخنجورة بالضم. 3 رغاب: واسعة، وأعطانها: مباركها عند الماء جمع عطن كسبب. 4 البهم جمع بهمة كفرصة: وهو الشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، من شدة بأسه، والجمم جمع جمة كقبة، وهم القوم يسألون في الديات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 85- أعرابي يصف ناقة : ووصف أعرابي ناقة فقال: "إذا كحالَّت عينها، وألِلَت1 أذنها، وسَجِح2 خدُّها، وهَدِل3 مِشْفَرُها، واستدارت جُمْجُمتها، فهي الكريمة". "الأمالي 1: 217".   1 أل البعير: نصب أذنيه وحددهما. 2 سجح: سهل وحسن. 3 هدل: استرخى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 86- أعرابي يصف خيلا: وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: "خرجت علينا خيل مستطيرة النَّقْع1، كأن هَوادِيَهَا2 أعلام، وآذانها أطراف أقلام، وفرسانها أُسُود آجام".   1 الغبار. 2 أوائلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 87- أعرابي يصف خيلا: وذكر أعرابي خيلا فقال: "والله ما انْحَدَرَتْ في وادٍ إلا ملأت بَطْنَه، ولا رَكِبَت بطن جبل إلا أَسْهَلَتْ حَزْنَهُ". "العقد الفريد 2: 95". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 88- أعرابي يصف خيلا: عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيا يصف خيلا فقال: "سِبَاط الخَصَائل1. ظِمَاء المَفَاصل، شِدَاد الأبَاجِل2، قُبُّ الأياطِل، كِرام النَّواجِل3". "الأمالي 1: 52".   1 الخصائل جمع خصيلة: وهي كل قطعة من اللحم مستطيلة أو مجتمعة، وقيل: هي ما انماز من لحم الفخذ بعضه من بعض، وسباط جمع سبط ككتف وشمس، رجل سبط الجسم إذا كان حسن القد والاستواء: وظماء: ضمر. 2 الأباجل جمع أبجل: وهو عرق غليظ في الرجل أو في اليد، يريد أنها شداد القوائم. 3 الأياطل جمع أيطل: وهو الخاصرة، قب جمع أقب، وصف من القبب كسبب وهو دقة الخصر وضمور البطن، والنواجل جمع ناجلة، من نجلته: أي ولدته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 89- أعرابي يصف فرسا : ووصف بعض الأعراب فرسا فقال: "قد انتهى ضُمُوره، وذَبَُل فَرِيرُه1، وظهر حصيره2، وتفلَّقت غُرُوره3، واسترخت شاكِلَتُه4، يُقبل بزُوْر الأسد، ويدبر بِعَجُز الذئب". "البيان والتبيين 3: 233، والأمالي 3: 256".   1 الفرير: موضع المجسة من معرفة الفرس. 2 الحصير: عرق يمتد معترضًا على جنب الدابة إلى ناحية بطنها، أو لحمة كذلك. 3 الغرور: الغصون التي في جلده، واحدها غر بالفتح. 4 الشاكلة من الفرس: الخلد بين عرض الخاصرة والثفنة -والثفنة كفرحة: الركبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 90- أعرابي يصف خاتمًا: وقال أعرابيا يصف خاتمًا: "شَفَّ1 تقدير حَلْقته، ودُوِّر كرسي فضته، وأحكم تركيبه، وأتقن تدبيره، فبه يتم المُلْك، وينفُذ الأمر، ويَكْرُم الكتاب، ويَشْرُف المكتوب إليه". "العقد الفريد 2: 97".   1 رق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 91- أعرابي يصف أطيب الطعام : وقال عبد الملك لأعرابي: "ما أطيب الطعام؟ "، فقال: "بكرة سَنِمَة1، مُعْتَبَطَة غير ضَمِنَة، في قدورٍ رَذِمَة2، بشِفارٍ خَذِمة3، في غداة شبِمة4، فقال عبد الملك: وأبيك لقد أطيبتَ5. "البيان والتبيين 1: 163".   1 البكرة: الفتية من الإبل، والسنمة: العظيمة السنام، وفعله كفرح، عبط الذبيحة كضرب واعتبطها: نحرها من غير علة وهي سمينة فتية، والضمنة: الزمنة والمتلاة في جسدها من السمنة كفرصة وهي المرض. 2 رذمت القصعة كفرح فهي رذمة ورذوم كصبور: امتلأت وتصببت جوانبها. 3 شفار جمع شفرة "بالفتح": وهي السكين العظيم، وخذمه كضربه: قطعه، وسيف خذم ككتف وصبور ومعظم: قاطع. 4 الغداة: البكرة "بالضم" أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، وشبمة: باردة، وفعلها كفرح. 5 أطاب الشيء وأطيبه: وجده طيبا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 92- أعرابي يصف السويق : وعاب رجل السَّوِيق1 بحضرة أعرابي فقال: "لا تَعِبْه، فإنه عُدَّة المسافر، وطعام العَجْلَان، وغذاء المُبَكِّر، وبُلْغَة2 المريض، ويَسْرُو3 فؤاد الحزين، ويَرُدُّ من نفس المحدود4، وجيِّد في التسمين، ومنعوت في الطِّبّ، وقَفَارُه5، يحلو البَلْغَم، وملتوته يصفِّي الدم، وإن شئت كان شرابًا، وإن شئت كان طعامًا، وإن شئت فَثَرِيدًا، وإن شئت فَخَبِيصًا6". "الأمالي 2: 197".   1 السويق: ما يعمل من الحنطة والشعير. 2 ما يتبلغ به. 3 يسرو: يكشف ما عليه. 4 المحدود: الذي قد حد أي قد ضرب الحد. 5 القفار: الذي لم يلت بشيء من أدم، لا زيت ولا سمن ولا لبن. يقال طعام قفار. 6 الخبيص: نقي الدقيق يخلط بالعسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 93- أعرابي يصف الجمال : وقيل لأعرابي ما الجمال؟ قال: "طول القامة، وضخم1 الهامة، ورَحْب2 الشِّدق، وبُعْد الصوت". وسئل آخر: ما الجمال؟ قال: "غُثُور العينين، وإشراف الحاجبين، ورُحْب الشِّدقين". "البيان والتبيين 1: 67".   1 ضخم ككرم ضخمًا وضخامة فهو ضخم. 2 رحب ككرم وسمع رحبًا بالضم ورحابة فهو رحب بالفتح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 94- أبو المِخَشّ يصف ابنه: وسأل جعفر بن سليمان أبا المخش عن ابنه المخش1 -وكان جزع عليه جزعًا شديدًا- قال: صف لي المخش، فقال: "كان أشدق خُرْطُمَانِيًا2، سائلا لُعَابُه، كأنما ينظر من قَلْتَين3، كأن تَرْقُوته بُِوَان، أو خالِفَه، كأن مَنْكِبه كِرْكِرة جملٍ ثَقَالٍ4، فقأ الله عينيَّ إن كنت رأيت قبله أو بعده مثله". "البيان والتبيين 1: 67".   1 المخش في الأصل: الجريء على العمل في الليل. 2 أشدق: واسع الشدقين: خرطمانيا: طويلا. 3 القلت: النقرة في الجبل. 4 البوان: عمود الخباء، والخالفة: عمود من أعمدة البيت في مؤخرة، والكركرة: رحى زور البعير وبعير ثقالي: بطيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 95- أعرابي يصف بنيه : عن عبد الرحمن عن عمه قال: قلت لأعرابي بِحِمَى الرَّبَذَة: ألك بَنُون؟ قال: نعم، وخالقهم لم تَقُم عن مثلهم مُنْجبَةٌ، فقلت: صِفهم لي، فقال: "جَهْم! وما جَهْم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 يُنْضِى الوَهْم، ويصُدُّ الدَّهْمَ1، ويَفْرِى الصفوف، ويَعُلُّ السيوف2"، قلت: ثم مَنْ؟ قال: "غَشَمْشَم! وما غشمشم؟ ماله مُقَسَّم، وقِرْنه مَجَرْجَم3، جِذْلُ حِكاكٍ4، ومِدْرَهُ لِكَاك5"، قلت: ثم مَنْ؟ قال: "عَشَرَّب! وما عشرب؟ ليث مُحَرَّب، وسِمَامٌ مُقُشَّب6، ذِكْرُه باهر، وخصمه عائر، وفناؤه رُحَاب7، ودَاعيه مُجاب" قلت: صف لي نفسك، فقال: "ليث أبو رَيَابل8، ركَّاب مُعَاضِل عَسَّاف9 مَجَاهِل، حَمَّال أعباء، نَهَّاض بِبَزْلاء10". "الأمالي 2: 53".   1 ينضى: يهزل، الوهم: الضخم العظيم من الإبل، والدهم: العدد الكثير. 2 يفري يشق، ويعل: أي يوردها الدماء ثانية، مأخوذ من العلل في الشرب. 3 المجرجم: المصروع. 4 الجذل: أصل الشجرة، وذلك أن الإبل الجرب تحتك به فتجد له لذة، والمعنى أنه ممن يستشفى به في الأمور بمنزلة ذلك الجذل الذي تستشفي به الإبل. 5 المدره: لسان القوم، والمتكلم عنهم، والدافع عنهم، يقال: درهته عني ودرأته: أي دفعته، واللكاز: الزحام. 6 المحرب: المغضب الذي قد اشتد غضبه واحتد، وحربت السكين: إذا أحددته، ومقشب: مخلوط. 7 باهر غالب، ورحاب: متسع. 8 ريابل جمع ريبال بالكسر يهمز ولا يهمز: وهو الأسد، والمعاضل: الدواعي. 9 العساف: الذي يركب الطريق على غير هداية، والأعباء: الأثقال. 10 البزلاء: الرأي الجيد الذي يبزل "بضم الزاي" عن الصواب: أي يشق عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 96- أعرابي يصف أخويه : عن العُتْبَى قال أخْبَرَنِي أعرابي عن إخوة ثلاثة، قال: قلت لأحدهم: أخبرني عن أخيك زيد فقال: "أزيدٍ إِنِيه1؟ والله ما رأيت أحدا أسكن فَوْرا، ولا أبعد غَوْرا، ولا آخَذَ لذنب حُجَّة قد تقدم رأسها من زيد"، فقلت: أخبرني عن أخيك زائدا قال: "كان والله شديد العُقْدة، ليِّن العَطْفةِ، ما يرضيه أقل مما يُسْخِطه، فقلت: فأخبرني عن نفسك، فقال: "والله إن أفضل ما فيَّ لمعرفتي بفضلها، وإني مع ذلك لغير منتشر2 الرأي، ولا مَخْذُول العَزْم". "الأمالي 2: 14".   1 قال أبو علي القالي: "هذه الزيادة تلحق في الاستفهام في آخر الكلمة إذا أنكرت أن يكون رأي المتكلم على ما ذكر، أو يكون على خلاف ما ذكر" انظر هذا المبحث في الأمالي 2: 15. 2 أي مفرقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 قولهم في الدعاء : 97- دعاء أعرابي: قال أبو حاتم: أملى علينا أعرابي يقال له مَرْثَد: "اللهم اغفر لي، والجِلْد بارد، والنفسُ رَطْبة، واللسان منطلق، والصحف منشورة، والأقلام جارية، والتوبة مقبولة، والأنفس مِرِّيحَة1، والتضرع مرجُوّ، قبل آنِ الفراق، وحَشَكِ النفس2، وعَلَزِ الصدر3، وتَزَيُّل الأوصال4، ونُصُول الشعر، واحتياف5 التراب، وقبل أن لا أقدر على استغفارك حين يَفْنى العمل، ويحضر الأجل، وينقطع الأمل. أعنِّي على الموت وكُرْبَته، وعلى القبر وغَمَّتِه6، وعلى الميزان وخِفَّته، وعلى الصِّراط وزَلَّته، وعلى يوم القيامة وروعته، اغفر لي مغفرة عَزْمًا، لا تغادر ذنبًا، ولا تدعَ كربا، اغفر لي جميع ما افترضت عليّ ولم أُؤَدِّه إليك، اغفر لي جميع ما تُبْتُ إليك منه ثم عُدْتُ فيه. يا رب تظاهرتْ7 عليّ منك النِّعم، وتداركتْ عندك منِّي الذنوب، فلك الحمد على النعم التي تظاهرت، وأستغفرك للذنوب التي تداركت، وأمسيت عن عذابي غنيًّا، وأصبحت إلى رحمتك فقيرا.   1 مرح كفرح: أشر وبطر ونشط واختال وتبختر فهو مرح ومريح. 2 الحسك: شدة النزع. 3 العلز: قلق وخفة وهلع يصيب المريض والمحتضر. 4 تزيلت وتزايلت: تفرقت، والأوصال: المفاصل. 5 الاحتياف: افتعال من الحيف وهو الجور، والمراد أكل تراب القبر الجثة، والذي في كتب اللغة "التحيف" تحيفت الشيء: إذا تنقصته من حافاته. 6 فعله من غم الشيء: أي غطاء فانغم، أو هي "غمته" بالضم: أي بلائه وكرب عذابه. 7 من تظاهروا إذا تعاونوا: أي تتابعت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 اللهم إني أسألك نجاح الأمل، عند انقطاع الأجل، اللهم اجعل خير عملي ما ولي أجلي، اللهم اجعلني من الذين إذا أعطيتهم شكروا، وإذا ابتليتهم صبروا، وإذا أذْكرتهم ذكروا، واجعل لي قلبًا توَّابًا أوَّابًا، لا فاجرا ولا مُرْتَابًا، اجعلني من الذين إذا أحسنوا ازدادوا، وإذا أساءوا استغفروا. اللهم لا تحقِّق عليّ العذاب1، ولا تقطع بي الأسباب، واحفظني في كل ما تحيط به شفقتي، وتأتي من ورائه سَبْحَتي2، وتعجَِز عنه قوَّتِي، أدعوك دعاء ضعيفٍ عَمَلُه، متظاهِرَة ذُنُوبه، ضنينٍ على نفسه، دعاءَ مَنْ بَدَنُه ضعيف، ومُنَّتُه3 عاجزة، قد انتهت عُدَّته، وخَلَقَت4 جِدَّته، وتمَّ ظِمْؤُه. اللهم لا تخيِّبني وأنا أرجوك، ولا تعذِّبني وأنا أدعوك، والحمد لله على طول النَّسِيئَة5، وحسن التِّباعة6، وتشنُّج العروق، وإساغة الريق، وتأخر الشدائد، والحمد لله على حِلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته، والحمد لله الذي لا يُودَي7 قتيله، ولا يخيبُ سُولُه، ولا يُرَدّ رَسُولُه، اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذلِّ إلا لك، وأعوذ بك أن أقول زورا، أو أغْشَى فُجُورًا، أو أكون بك مغرورا، وأعوذ بك من شماتة الأعداء، وعُضَال الداء، وخَيْبَة الرجاء، وزوال النِّعْمَة". "العقد الفريد 2: 77، والبيان والتبيين 3: 224-137-138".   1 يشير إلى قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} . 2 فعلة من السبح: وهو التقلب والانتشار في الأرض، والإبعاد في السير، والتصرف في المعاش. 3 المنة: القوة. 4 خلق الثوب كنصر وكرم وسمع، بل، والظم: ما بين الشربتين والوردين. 5 الإمهال والتأخير. 6 التباعة مثل التبعة بفتح فكسر. قال الشاعر: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة "لأنهم كانوا قد اتخذوا إلها من حيس فعبدوه زمنا، ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه"، والحيس كشمس: تمر يخلط بالسمن واللبن المخيض فيعجن شديدًا، ثم يندر منه نواه. 7 ودى القتيل كوعى: أعطى ديته، والسول: وهو ما سألته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 98- دعاء أعرابي: ودعا أعرابي وهو يطوف بالكعبة فقال: "إلهي مَنْ أولى بالتقصير والزلل مني وأنت خلقتني؟ ومن أولى بالعفو منك عني وعلمك بي ماضٍ، وقضاؤك بي محيط؟ أطعتك بقوتك والمنَّة لك، وعصيتك بعلمك، فأسألك يا إلهي -بوجوب رحمتك وانقطاع حجتي، وافتقاري إليك وغناك عني- أن تغفر لي وترحمني. إلهي لم أُحْسِن حتى أعطيتني، فتجاوز عن الذنوب التي كتبت عليّ، اللهم إنا أطعناك في أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، ولم نَعْصِك في أبغض الأشياء إليك: الشرك بك، فاغفر لي ما بين ذلك. اللهم إنك آنَسُ المُؤْنِسِين لأوليائك، وأحضرهم للمتوكلين عليك، إلهي أنت شاهدهم وغائبهم، والمطلِّع على ضمائرهم، وسِرِّي لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، إذا أَوْحَشَتْنِي الغُرْبَة آنَسَنِي ذِكْرُك، وإذا أَكَبَّت عليّ الغموم لَجَأت إلى الاستجارة بك؛ علمًا بأن أَزِمَّة الأمور كلِّها بيدك، ومصدرها عن قضائك، فأقْلِلْني1 إليك مغفورا لي، معصوما بطاعتك بقية عمري، يا أرحم الراحمين".   1 أقله: حمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 99- دعاء أعرابي: وقال الأصمعي: حَجَجت فرأيت أعرابيا يطوف بالكعبة ويقول: يا خير مَوْفُود سَعَى إليه الوُفَّد1، قد ضَعُفت قوتي، وذهبت مُنَّتي، وأتيت إليك بذنوب لا تغسِلها الأنهار، ولا تحملها البحار، أستجير برضاك من سُخْطِك، وبعفوك من عقوبتك، ثم التفت فقال: "أيها المشفقون، ارحموا من شَمِلته الخَطَايا،   1 وفد إليه وعليه: قدم، وهم وفود ووفد كشمس وركع وأوفاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 وغمَرَته البلايا، ارحموا من قطع البلاد، وخلَّف ما مَلَك من التِّلاد. ارحموا من وبَّخته الذنوب، وظَهَرت منه العيوب، ارحموا أسير ضُرٍّ، وطريد فقر، أسألكم بالذي أعملتم الرَّغبة إليه، إلا ما سألتم الله أن يهب لي عظيم جُرْمِي"، ثم وضع في حَلْقه بالباب خَدَّه وقال: ضَرَعَ خدِّي لك، وذلَّ مقامي بين يديك، ثم أنشأ يقول: عظيم الذنب مكروب ... من الخيرات مسلوب وقد أصبحت ذا فقر ... وما عندك مطلوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 100- دعاء أعرابي: وسمع أعرابي بعرفات عَشَيَّة عرفة وهو يقول: "اللهم إن هذه عشية من عشايا محبَّتِك، وأحد أيام زُلْفَتِك1، يأمُل فيها من لَجَأَ إليك من خلقك أن لا يُشْرَك بك شيئًا، بكل لسان فيها يُدْعَى، ولكل خير فيها يُرْجَى، أتتك العُصَاة من البلد السَّحِيق2، ودعتك العُنَاة3 من شُعَب المَضِيق، رجاء ما لا خُلْفَ له من وعدك، ولا انقطاع له من جزيل عطائك، أبدت لك وجوهها المَصُونة، صابرة على وَهَجِ السَّمَائِم4، وبَرْد الليالي، ترجو بذلك رضوانك، يا غفار، يا مُسْتَزَادًا من نعمه، ومُسْتَعَاذًا من نِقَمِه، ارْحَمْ صوتَ حزين دعاك بزفير وشهيق". ثم بسط كلتا يديه إلى السماء وقال: "اللهم إن كنت بسطتُ يدي إليك داعيًا   1 الزلفة: القربة. 2 البعيد. 3 العناة جمع عان من عنا: أي ذل وخضع، وفي رواية الأمالي: "أتتك الضوامر من الفج العميق، وجابت إليك المهارق من شعب المضيق" والضوامر الإبل المهزولة، والمهارق جمع مهرق "بضم الميم وفتح الراء": الصحراء الملساء. 4 السمائم جمع سموم كصبور: وهي الريح الحارة تكون غالبًا بالنهار، وفي رواية الأمالي: "على لفح السمائم، وبرد ليل التمائم" -وليل التمام "ككتاب" وليل تمامي: أطول ليالي الشتاء- وفي رواية الأمالي: "نعمتك تظاهرها على عند القفلة، فكيف أيأس منها عند الرجعة" -وأصل الغفل "بالتحريك": والرجوع من السفر: ويطلق على الابتداء في السفر كما هنا تفاؤلا بالرجوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 فطالما كَفَيْتَنِي ساهيًا، بنعمتك التي تظاهرتْ عليَّ عِنْد الغفلة، فلا أيأس بها عند التوبة، لا تقطع رجائِي منك لما قدَّمت من اقتراف1 آثامك، وإن كنت لا أصِل إليك إلا بك، فهب لي يا ربِّ الصلاح في الولد، والأمْنَ في البلد، والعافية في الجسد وعافِنِي من شرّ الحسد، ومن شر الدهر النَّكَد2". "العقد الفريد 2: 77، والأمالي 2: 323".   1 اقترف الذنب: أتاه وفعله. 2 يقال: رجل نكد ككتف وسبب وشمس وأنكد: شؤم عسر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 101- دعاء أعرابي: ودعا أعرابي فقال: "يا عِمَاد من لا عماد له، ويا رُكْنَ من لا ركن له، ويا مُجِيرَ الضَّعْفَى1، ويا منقذ الهَلْكَى، ويا عظيم الرجاء، أنت الذي سبَّح لك سَوَادُ الليل، وبياض النهار، وضوء القمر، وشعاع الشمس، وحفيف الشجر، ودَوَيّ الماء2 يا مُحْسِن، يا مُجْمِل، يا مُفْضِل، لا أسألك الخير بخيرهم عندك، ولكني أسألك برحمتك، فاجعل العافية لي شعارا ودثارا3، وجُنَّةً دون كل بلاء".   1 الضعفى جمع ضعيف. 2 المعنى: آن هذه الكائنات تدعوا المتأمل فيها إلى تسبيحه جل شأنه. 3 الشعار: ما يلبس على شعر الجسد، والدثار: ما يلبس فوق الشعار، والجنة: الوقاية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 102- دعاء أعرابي: وقال الأصمعي: سمعت أعرابيًّا في فلاة من الأرض، وهو يقول في دعائه: "اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي لَلُؤُم، وإن تركي الاستغفار مع معرفتي بِسَعَة رحمتك لَعَجْز، إلهي كم تحبَّبَت إليّ بنعمتك، وأنت غنيّ عنِّي، وكم أتبغَّض إليك بذنوبي، وأنا فقير إليك، سبحان من إذا توعَّد عفا، وإذا وَعَدَ وَفَى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 103- دعاء أعرابي: قال: وسمعت أعرابيا يقول في دعائه: "اللهم إن ذنوبي إليك لا تضرك؛ وإن رحمتك إياي لا تَنْقُصُك، فاغفر لي ما لا يضرك، وهب لي ما لا يَنْقُصُك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 104- دعاء أعرابي: وقال: سمعت أعرابيا وهو يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك عمل الخائفين، وخوف العاملين حتى أَتَنَعَّم بترك النعيم1 طمعا فيما وعدت. وخوفا مما أوعدت اللهم أَعِذْنِي من سَطَوَاتك، وأَجِرْنِي من نِقْمَاتك، سبقت لي ذنوب، وأنت تغفر لمن يَحُوب2، إليك بك أتوسَّلُ، ومنك إليك أَفِرُّ".   1 أي في الدنيا 2 حاب يحوب: أثم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 105- دعاء أعرابي: وقال: سمعت أعرابيا يقول: "اللهم إن قوما آمنوا بك بألسنتهم، لِيَحْقِنُوا دماءهم، فأدركوا ما أمَّلوا، وقد آمنا بك بقلوبنا، لتجيرنا من عذابك، فأَدْرِك منا ما أَمَّلنا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 106- دعاء أعرابي: قال: ورأيت أعرابيا متعلقا بأستار الكعبة، رافعا يديه إلى السماء، وهو يقول: "ربِّ أتراك معذِّبَنا، وتوحيدُك في قلوبنا؟ وما إخالك نفعل! ولئن فعلت لِتَجْمَعُنا مع قوم طالما أبغضناهم لك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 107- دعاء أعرابي: وقال: سمعت أعرابيا يقول في صلاته: "الحمد لله حمدا لا يَبْلَى جديده، ولا يُحْصَى عديده1. ولا يبلغ حدوده، اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره، واجعل القبر خير بيت نَعْمُرُه، واجعل ما بعده خيرا لنا منه. اللهم إن عينيّ قد اغْرَوْرَقَتا دموعا من خشيتك، فاغفر الزَّلَّة، وعُدْ بحلمك، على جهل مَنْ لم يرجُ غيرك".   1 عدده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 108- دعاء أعرابي: وقال: رأيت أعرابيا أخذ بحلقتيّ باب الكعبة وهو يقول: "سائلك عند بابك، ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تَبَاعَتُه، فارضَ عنه، وإن لم ترضَ عنه فاعفُ عنه غير راضٍ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 109- دعاء أعرابي: قال: ودعا أعرابي عند الكعبة فقال: "اللهم إنه لا شرف إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، فأعطني ما أستعين به على شرف الدنيا والآخرة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 110- دعاء أعرابي: عن طاوُس قال: "بينا أنا بمكة إذ دفعت إلى الحجاج بن يوسف، فثَنَى لي وِسَادًا فجلست، فبينا نحن نتحدث إذ سمعت صوت أعرابي في الوادي رافعا صوته بالتلبية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 فقال الحجاج. عليّ بالمُلَبِّي. فأُتِي به فقال: من الرجل؟ قال: من أفناء الناس1 قال: ليس عن هذا سألتك. قال: نعم سألتني. قال: مِن أي البُلدان أنت؟ قال: من أهل اليمن. قال له الحجاج. فكيف خلَّفت محمد بن يوسف -يعني أخاه وكان عامِلَه على اليمن- قال: خلفته عظيما جَسِيما خَرَّاجًا ولَّاجا. فقال: ليس عن هذا سألتك، قال: نعم سألتني، قال: كيف خلَّفت سيرته في الناس؟ قال: خلَّفته ظلوما غشوما2، عاصيا للخالق، مطيعا للمخلوق، فازْوَّر3 من ذلك الحجاج، وقال. ما أقدمك لهذا، وقد تعلم مكانته مني! فقال له الأعرابي: أَفَتَرَاهُ بمكانةٍ منك أعزَّ مني بمكانتي من الله تبارك وتعالى، وأنا وافد بيته، وقاضي دَيْنِه، ومصَدِّق نبيه صلى الله عليه وسلم؟ فَوَجَم4 لها الحجاج، ولم يُحِر له جوابا5، حتى خرج الرجل بلا إذن. قال طاوس: فتبعته حتى أتى المُلْتَزِم فتعلق بأستار الكعبة، فقال: بك أعوذ، وإليك ألوذ، فاجعل لي في اللَّهَف إلى جوارك، والرِّضا بضَمَانك، مندوحةً6، عن منع الباخلين، وغِنًى عما في أيدي المستأثِرِين، اللهم عُدْ بِفَرَجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة". قال طاوس: ثم اختفى في الناس، فألفيته بعرفات قائما على قدميه وهو يقول: "اللهم إن كنت لم تقبل حجِّى ونَصَبي7 وتَعَبِي، فلا تَحْرِمْنِي أجر المُصَاب على مُصِيبَته، فلا أعلم مصيبة أعظم ممن ورد حَوْضك، وانصرف محروما من وجه رغبتك".   1 يقال: هو من أفناء الناس" إذا لم يعلم من هو، واحده فنو كحمل أو فنا كعصا. 2 ظلوما. 3 ازور: انحرف ومال: أي غضب منه. 4 وجم: سكت على غيظ. 5 أي لم يرده. 6 أي متسعا. 7 في الأصل "ونسبي" وأراه محرفا عن "نصبي" ويؤيده قوله بعد "وتعبي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 111- دعاء أعرابي: وقال الأصمعي. رأيت أعرابيا يطوف بالكعبة وهو يقول: "إلهي عجَّتْ1 إليك الأصوات، بضروبٍ من اللغات، يسألونك الحاجات وحاجتي إليك إلهي أن تذكرني على طول البكاء، إذا نَسِيَني أهل الدنيا، اللهم هب لي حقك، وأرضِ عني خلقك، اللهم لا تُعْيِني في طلب ما لم تقدِّره لي، وما قدرته لي فيسِّره لي".   1 عج يعج بكسر العين وفتحها: صاح ورفع صوته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 112- دعاء أعرابي: قال: ودعت أعرابيه لابن لها وجَّهته إلى حاجة فقالت: "كان الله صاحبك في أمرك، وخليفتك في أهلك، ووَلِي نُجْح طَلِبتك1، امضِ مُصَاحِبًا مَكْلُوءًا2، لا أشمت الله بك عدوًّا، ولا أرى مُحِبِّيك فيك سوءًا". "العقد الفريد 2: 76-79".   1 النجح: النجاح، والطلب: ما طلبته. 2 من كلأه كمنعه: حرسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 113- دعاء أعرابي: وقال الأصمعي: خرجت أعرابية إلى مِنًى فقطع بها الطريق فقالت: "يارب. أعطيتَ وأخذتَ، وأنعمتَ وسلبتَ، وكل ذلك منك عدل وفضل، والذي عظَّم على الخلائق أمرك، لا بَسَطْتُ لساني بمسألة أحدٍ غيرك، ولا بذلت رغبتي إلا إليك، يا قُرَّة أعين السائلين: أغْنِنِي بجودٍ منك أتبحبح1 في فَرَاديس   1 تبحبح: تمكن في المقام والحلول، وتبحيح الدار: توسطها، والفراديس جمع فردوس وهو البستان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 نعمته وأتقلب في رواق نضرته1 احملني من الرجلة2، وأغنني من العيلة، واسدل على سترك الذي لا تخرقه الرماح، ولا تزيله الرياح، إنك سميع الدعاء". "البيان والتبيين: 2: 78، والعقد الفريد 3: 138".   1 في الأصل "راووق" وهو المصفاة، وأراه محرفا عن "رواق" وهو الفسطاط، والنضرة: النعمة والغنى. 2 رجل كفرح فهو راجل ورجلان: إذا لم يكن له ظهير يركبه، والرجلة بالفتح وبكسر: شدة المشي، والعيلة: الفقر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 114- أدعية شتى : ومات ابن لأعرابي فقال: "اللهم إني وهبت له ما قصر فيه من برى، فهب لي ما قصر فيه من طاعتك، فإنك أجود وأكرم". "العقد الفريد 2: 79، والبيان والتبيين 3: 138". ووقف أعرابي في بعض المواسم فقال: "اللهم إني لك عليّ حقوقا فتصدف بها عليّ، وللناس تبعات قبلي فتحملها عني، وقد أوجبت لكل ضيف قرى1، وأنا شيفك الليلة، فأجعل فراي فيها الجنة". "العقد الفريد 2: 78، والبيان والتبيين 2: 48". وقال سفيان بن عيينة: سمعت أعرابيا يقول عشية عرفة: "اللهم لا تحرمني مني خير ما عندك لشر ما عندي، وإن لم تتقبل تعني ونصبي، وفلا تحرمني أجر المصاب على مصيبة". وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول لرجل: "أطعمك الله الذي أطعمتني له، فقد أحييتني بقتل جوعي، ودفت عني سوء ظني، فحفظك الله على كل جنب وفرج عنك كل كرب، وغفر لك كل ذنب". "العقد الفريد 2: 84".   1 قرى الضيف كرمي، قرى: أحسن إليه، والقرى أيضا: ما قري به الضيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 عن الأصمعي قال: رأيت أعرابيا يصلي وهو يقول: أسألك الغَفِيرة1 والناقة الغَزِيرة، الشرف في العشيرة، فإنها عليك يسيرة". "الأمالي 2: 23". عن عبد الرحمن عن عمه قال: سمعت أعرابيا يدعو لرجل فقال: "جَنَّبَك الله الأمَرَّيْن2، وكفاك شَرَّ الأجْوَفَين3، وأذاقك البَرْدِين4". "الأمالي 2: 72، والبيان والتبيين 3: 137". ودعا أعرابي فقال: "اللهم إني أسألكم البقاء، والنَّماء، وطيب الإِتاء5، وحَطَّ الأعداء، ورفع الأولياء". "البيان والتبيين 1: 163". وقال أعرابي: "اللهم لا تُنْزِلْنِي ماء سَوء، فأكونَ امْرَأَ سَوْء" وقال أعرابي. "اللهم قِنِي عَثَرَات الكرام". "البيان والتبيين 1: 215". ووهب رجل لأعرابي شيئًا فقال: "جعل الله للمعروف إليك سبيلا، وللخير عليك دليلا، وجعل عندك رِفْدًا6 جَزِيلا، وأبقاك بقاءً طويلا، وأبلاك7 بلاء جميلا". وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يدعو وهو يقول: اللهم ارزقني مالًا أَكْبِت8 به الأعداء، وبنين أصول بهم عَلَى الأقواياء". "البيان والتبيين 3: 224".   1 الغفيرة: المغفرة. 2 الأمران: الفقر والهرم، أو الجوع والعرى. 3 الأجوفان: البطن والفرج. 4 البردان: برد العين وبرد العافية. 5 الإتاء: الرزق، من أتت الشجرة أتوا وإتاء: طلع ثمرها، أو بدا صلاحها، أو كثر حملها. 6 الرفد: العطاء والصلة. 7 الإبلاء: الإنعام والإحسان، أبليت عنده بلاء حسنا، وأبلاه الله بلاء حسنا. 8 كبته: صرعه وأذله، ورد العدو بغيظه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 ودعت أعرابية على رجل فقالت: "أمكن الله منك عدوّا حسودا، وفَجَع بك صديقا وَدُودا، وسلَّط عليك همّا يُضْنِيك، وجارًا يُؤْذيك". "العقد الفريد 2: 91". ودعا أعرابي فقال: "أعوذ بك من الفَوَاقر1 والبَوَاقر، ومن جارِ السوء، في دار المُقَامَة والظَّعْن، ومما يَنْكُس رَأس المرء، ويُغْرِي به لئام الناس". وقال أعرابي: "أعوذ من سَقَم، وعداوة ذي رَحِم ودَعْوَاه، ومن فاجرٍ وجَدْوَاه2، وعمل لا ترضاه". "البيان والتبيين 3: 136". ودعت أعرابية لرجل فقالت: "كَبَتَ الله كلَّ عدو لك إلا نفسَك". ودعا أعرابي فقال: "اللهم هب لي حَقَّك، وأرضِ عني خلقك". وقال أعرابي: "اللهم إنك أمرتنا أن نَعْفُوا عمَّنْ ظَلَمْنا، وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنا". "البيان والتبيين 3: 137". وقال أعرابي: "منحكم الله مِنْحَةً ليست بِجَدَّاء، ولا نكداء، ولا ذات داء". وقال أعرابي: "اللهم إنك حَبَسْتَ عنا قطر السماء، فذاب الشحم، وذهب اللحم ورقَّ العظم، فارْحَم أنينَ الآنَّة، وحنين الحانّة، اللهم ارْحَم تحيرها في مَرَاتِعِها، وأنينَها في مَرَابضهَا".   1 الفواقر جمع فاقرة: وهي الداهية، والبواقر جمع باقرة: وهي الفتنة الصادعة للألفة الشاقة للعصا. 2 الجدوى: العطية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وحج أعرابي فقال: "اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأَخْرِجْه، وإن كان نائيًا فَقَرَّبْه، وإن كان قريبا فَيَسِّره". "البيان والتبيين 3: 138". ومات ولد لرجل من الأعراب فصلَّى عليه، فقال: "اللهم إن كنت تعلم أنه كريم الجِدِّين، سهل الخَدِّين، فاغفر له وإلاّ فلا". "الأمالي 1: 202". وقالت أعرابية لرجل: "رماك الله بليلة لا أُخْتَ لها" أي لا تعيش بعدها. "الأمالي 1: 217". ودعا أعرابي فقال: "اللهم إني أعوذ بك أن أفْتَقِر في غناك، أو أضِلَّ في هداك، أو أذِلَّ في عزِّك، أو أُضَامَ في سلطانك، أو أُضْطَهَدَ والأمرُ إليك". وقال الأصمعي: سمعت أعرابية تقول: "اللهم ارزقني عمل الخائفين، وخوفَ العاملين، حتى أنْعَمَ بِتَرْكِ التنعم، رجاء لما وَعَدْتَ، وخوفا مما أَوْعَدْت". وقال آخر: "اللهم من أراد بنا سوءا فأَحِطْه به كإحاطة القلائِد، بأعناق الولائد1، وأرْسِخه على هَامَتِه كرسوخ السِّجِّيل2، على هام أصحاب الفيل". "زهر الآداب 3: 346".   1 الولائد جمع وليدة: وهي الصبية. 2 السجيل: طين مطبوخ، يشير إلى قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} وأبابيل أي جماعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 115- نوادر وملح لبعض الأعراب : "غزا أعرابي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما رأيت مع رسول الله في غَزاتك هذه؟ قال: وَضع عنا نصف الصلاة1، وأرجو في الغزاة الأخرى أن يضع النصف الباقي". ودخل أعرابي المسجد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس، فقام يصلي، فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، "فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد تَحَجَّرْت2 واسعا يا أعرابي". وخرج الحجاج متصيدا بالمدينة، فوقف على أعرابي يرعى إبلا له، فقال له: يا أعرابي، كيف رأيتَ سيرة أميركم الحجاج؟ قال له الأعرابي: غَشُوم ظَلُوم، لا حيَّاه الله، فقال: فَلِمَ لا شَكَوْتُمُوه إلى أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: فأظلم وأغشم! فبينا هو كذلك إذا أحاطت به الخيل، فَأَوْمَأَ الحجاج إلى الأعرابي، فأُخِذَ وحُمِلَ، فلما صار معه، قال: مَنْ هذا؟ قالوا له: الحجاج، فحرَّك دابته حتى صار بالقُرْبِ منه، ثم نَادَاه يا حجاج، قال: ما تشاء يا أعرابي؟ قال: السِرُّ الذي بيني وبينك أُحِبُّ أن يكون مكتومًا، فضحك الحجاج، وأمر بتَخْلِيَةِ سبيله. "وخرج أبو العباس السفاح متنزِّهًا بالأنبار، فأَمْعَنَ في نزهته، وانْتَبَذَ من أصحابه، فوافى خِبَاءً لأعرابي، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ قال: من كِنانة، قال: من أيّ كنانة؟ قال: من أبغض كنانة إلى كنانة، قال: فأنت إذن من قريش؟ قال:   1 يعني صلاة القصر. 2 أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 نعم، قال: فمن أي قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قريش، قال: فأنت إذن من ولد عبد المطلب؟ قال: نعم، قال: فمن أي ولد عبد المطلب؟ قال: من أبغض ولد عبد المطلب إلى ولد عبد المطلب، قال: فأنت إذن أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين، ووثب إليه، فاستحسن ما رأى منه، وأمر له بجائزة". وولَّى يوسف بن عمر الثَّقَفي صاحب العراق أعرابيًّا على عمل له، فأصاب عليه خيانة فَعَزَله، فلما قَدِم عليه، قال له: يا عدوَّ الله، أَكَلْتَ مال الله، قال الأعرابي: فمال مَنْ آكُلُ إذا لم آكُلُ مال الله؟ لقد راوَدْتُ إبليس أن يعطيني فَلْسًا واحدا فما فعل، فضحك منه وخلَّى سبيله. وأخذ الحجاج أعرابيا لصًا بالمدينة فأمر بضربه، فلما قرعهُ بسَوْط قال: يا رب شكرا، حتى ضربه سبعمائة سَوْط، فلقيه أشْعَب، فقال له: تَدْرِي لِمَ ضربك الحجاج سبعمائة سوط؟ قال: لماذا؟ قال: لكثرة شكرك، إن الله تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، قال: وهذا في القرآن؟ قال: نعم، فقال الأعرابي: يا رب لا شكرا فلا تَزِدْنِي ... أَسَأْتُ في شكرِيَ فاعفُ عنِّي بَاعِدْ ثواب الشاكرين مني ونزل عبد الله بن جعفر إلى خيمة أعرابية ولها دجاجة، وقد دجنت1 عندها، فذبحتها وجاءت بها إليه، فقالت: يا أبا جعفر هذه دجاجة لي كنت أُدْجِنَها وأَعْلِفها من قُوِتي، وأَلْمِسُها في آناءِ الليل، فكأنما ألمس بنتي زَلَّت عن كبدي، فَنَذَرْتُ لله أن   1 دجن الحمام والشاة وغيرهما كنصر: ألفت البيوت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 أدفنها في أكرم بقعة تكون، فلم أجد تلك البقعة المباركة إلا بطنك، فأردت أن أدفنها فيه، فضحك عبد الله بن جعفر، وأمر لها بخمسمائة درهم". وسُمِع أعرابي وهو يقول في الطواف: "اللهم اغفر لأمي"، فقيل له: مالك لا تذكر أباك؟ قال: أبي رجل يحتال لنفسه، وأما أمي فبائسة ضعيفة". "وقال أبو زيد: رأيت أعرابيا كأن أنفه كُوز، من عِظَمه، فرآنا نضحك منه، فقال: ما يُضْحِكُكم؟ فوالله لقد كنت في قوم، ما كنت فيهم إلا أفطَسَ! ". "وجِيء بأعرابي إلى السلطان ومعه كتاب قد كتب فيه قصته، وهو يقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} ، فقيل له يقال هذا يوم القيامة، قال: "هذا والله شرّ من يوم القيامة، إن يوم القيامة يُؤْتَى بحسناتي وسيئاتي، وأنتم جئتم بسيئاتي وتركتم حسناتي". "واشترى أعرابي غلاما فقيل للبائع: هل فيه من عيب؟ قال: لا؛ إلا أنه يبول في الفراش، قال، هذا ليس بعيب، إن وجد فراشا فَلْيَبُلْ فيه". ومر أعرابي بقوم وهو يَنْشُدُ ابنًا له، فقالوا، صِفْهُ، قال: كأنه دُنَيْنِير، قالوا: لم نره، ثم لم يلبث القوم أن أقبل الأعرابي، وعلى عنقه جُعَل1، فقالوا، هذا الذي قلت فيه دُنَيْنِير؟ قال، القَرَنْبَى2 في عين أمِّها حسناء".   1 الجعل: الحرباء. 2 القرنبى: دويبة من خشاش الأرض فوق الخنفساء إذا مسها أحد تقبضت فصارت مثل الكرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 وقيل لأعرابي، ما يمنعك أن تغزو؟ قال، والله إني لأُبْغِضُ الموت على فراشي، فكيف أن أمضي إليه رَكْضًا؟ ". "وخرج أعرابي إلى الحج مع أصحاب له، فلما كان ببعض الطريق راجعا يريد أهله، لقيه ابن عمٍّ له، فسأله عن أهله ومنزله، فقال، اعلم أنك لما خرجت، وكانت لك ثلاثة أيام، وقع في بيتك الحريق، فرفع الأعرابي يديه إلى السماء، وقال: ما أحسنَ هذا يارب! تأمرنا بعمارة بيتك أنت، وتخرب بيوتنا! ". وخرجت أعرابية إلى الحج، فلما كانت في بعض الطريق عَطِبت راحلتها، فرفعت يديها إلى السماء، وقالت، "يا رب أخرجتني من بيتي إلى بيتك، فلا بيتي ولا بيتك". وعُرضت السجون بعد هلاك الحجاج، فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفًا، لم يجب على واحد منهم قتل ولا صَلْب، وفيهم أعرابي، أخذ يَبُول في أصل مدينة واسط، فكان فيمن أُطْلِق، فانشأ يقول: إذا ما خرجنا من مدينة واسط ... خَرِينا وبُلْنَا لا نخاف عِقَابا ونظر أعرابي إلى قوم يلتمسون هلال شهر رمضان فقال: "والله لئن آثَرْتُمُوه لَتُمْسِكُنَّ منه بِذُنَابِي1 عيش أغبر". ونظر أعرابي إلى رجل سمين فقال "أرى عليك قَطِيفة من نَسْج أضراسك".   1 الذنابي: الذنب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 وقال أعرابي: "اللهم إني أسألك مِيتة كمِيتَة أبي خارِجَة، أكل بَذَجًا1، وشرب مِشْعَلًا2، ونام في الشمس، فمات دفآنَ شبعانَ رَيَّانَ". وقيل لأبي المِخَشِّ الأعرابي: أَيَسُرُّك أنك خليفة، وأن أمَتَك حُرَّة، قال: لا والله ما يسرُّني، قيل له: ولِمَ؟ قال، "لأنها كانت تذهب الأُمَّة، وتضيع الأَمَة". وحضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فجعل يمرّ إلى ما بين يديه، فقال له الحاجب مما يليك فَكُل يا أعرابي، فقال: من أجدب انتجع، فشقَّ ذلك على سليمان وقال للحاجب: إذا خرج عنا فلا يَعُدْ إلينا. وشهد بعد هذا سُفرته أعرابي آخر، فمرَّ إلى ما بين يديه أيضا، فقال له الحاجب، مما يليك فَكُل يا أعرابي، قال: من أخصب تخيَّر، فأعجب ذلك سليمان، فقربه وأكرمه وقضى حوائجه. "وحضر أعرابي سفرة سليمان بن عبد الملك، فلما أُتِي بالفَالُوذَج، جعل يُسرع فيه، فقال سليمان: أتدري ما تأكل يا أعرابي، فقال: بلى يا أمير المؤمنين إني لأجد ريقًا هنيئًا، ومُزْدَرَدًا3 ليِّنًا، وأظنه الصراط المستقيم الذي ذكره الله في كتابه، فضحك سليمان وقال: أَزِيدُك منه يا أعرابي؟ فإنهم يذكرون أنه يزيد في الدِّماغ، قال: كَذَبُوك يا أمير المؤمنين، لو كان كذلك لكان رأسك مثل رأس البغل! ". "وحضر سفرة سليمان أعرابي، فنظر إلى شعره في لقمة الأعرابي، فقال: أرى   1 البذج: ولد الضأن. 2 المشعل: شيء من جلود له أربع قوائم ينبذ فيه، وشرب مشعلا أي شرب ما فيه. 3 ازدرده: ابتلعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 شعرة في لقمتك يا أعرابي، قال: وإنك لَتراعيني مراعاة من يُبْصِر الشعرة في لقمتي! والله لا واكُلْتك أبدًا"، فقال: استرها يا أعرابي، فإنها زَلة، ولا أعود لمثلها". وقال الأصمعي: قلت لأعرابي: أَتَهْمِزُ1 إسرائيل؟ قال: إني إذن لَرَجل سوء، قلت له: أفتجرُّ فلسطين؟ قال: إني إذًا لَقَوِي. وسمع أعرابي إماما يقرأ: {وَلا تُنْكِحُوا 2 الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} –قرأها بفتح التاء- فقال: ولا إن آمنوا أيضا لم نَنْكِحْهم، فقيل له إنه يلحن وليس هكذا يُقرأ، فقال: "أخِّرُوه قَبَّحَه الله! لا تجعلوه إماما، فإنه يحلّ ما حرَّم الله". "العقد الفريد 2: 100-105". وخطب أعرابي فلما أعجله بعض الأمر عن التصدير بالتحميد، والاستفتاح بالتمجيد، قال: "أما بعد، بغير مَلَال لذكر الله، ولا إيثار غيره عليه، فإنا نقول كذا، ونسأل كذا" فرارا من أن تكون خطبته بَتْرَاء وشَوْهَاء3. "البيان والتبيين 212: 215". ودفعوا إلى أعرابية عِلْكًا4 لتمضُغه، فلم تفعل، فقيل لها في ذلك، فقالت: "ما فيه إلا تعب الأضراس، وخَيْبَة الحَنْجَرة". "البيان والتبيين 2: 47".   1 من معاني الهمز: الغمز. 2 أي تزوجوا. 3 وكانوا يسمون الخطبة التي لم يبتدئ صاحبها بالتحميد، ويستفتح كلامه بالتمجيد "البتراء" ويسمون التي لم توشح بالقرآن وتزين بالصلاة على النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- "الشوهاء". 4 العلك: اللبان "بالضم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وقيل لأعرابي: عند مَنْ تحب أن يكون طعامك؟ قال: "عند أم صبي راضع، أو ابن سبيل شاسع، أو كبير جائع، أو ذي رحم قاطع". "البيان والتبيين 2: 49". وقال أعرابي: "لولا ثلاث هُنَّ عيش الدهر ... الماء والنوم وأم عمرو لما خَشِيتُ من مَضِيق القبر" "البيان والتبيين 2: 101". وسمع أعرابي رجلا يقرأ سورة براءة فقال: "ينبغي أن يكون هذا آخر القرآن"، قيل له: ولِمَ؟ قال: "رأيت عهودا تُنْبَذ". "البيان والتبيين 2: 169". وسمع أعرابي رجلا يقرأ: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِر} 1، قالها بفتح الكاف، فقال الأعرابي: "لا يكون"، فقرأها عليه بضم الكاف وكسر الفاء، فقال الأعرابي: "يكون". "البيان والتبيين 2: 174".   1 ذات الألواح والدسر: هي السفينة، والدسر ما تشد به الألواح من المسامير وغيرها جمع دسار ككتاب، بأعيننا: بمرأى منا أي محفوظة، وقد قرئ كفر بالبناء الفاعل، أي الكافرين: أغرقوا عقابا لهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 الباب الرابع في خطب النكاح : 1- خطبة قريش في الجاهلية : روى الجاحظ قال: كانت خُطبة قريش في الجاهلية، يعني خطبة النساء: "باسمك اللهم، ذُكِرَتْ1 فلانة، وفلان بها مشغوف، باسمك اللهم، لك ما سألت ولنا ما أعطيت".   1 ذكر فلان فلانه ذكرا "بفتح فسكون": خطبها أو تعرض لخطبتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 2- خُطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زواج السيدة فاطمة: "الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المرهوب من عذابه، المرغوب فيما عنده، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميَّزهم بأحكامه، وأعزَّهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم إن الله تعالى جعل المصاهرة نَسَبًا لاحقًا، وأمرا مفترضا، وَوَشَّجَ1 به الأرحام، وألزمه الأنام، قال تبارك اسمه، وتعالى ذكره:   1 وشجت العروق والأغصان كوعد: اشتبكت والتفت وتداخلت، ورحم واشجة ووشيجة: مشتبكة متصلة، وقد وشجها الله توشيجا، وفي الأصل: "وشيج به الأرحام" وأراه محرفا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} ، فأَمْرُ الله يجري إلى قضائه، ولكل قضاء قَدَر، ولكل قَدَر أجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} . ثم إن ربي أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ بن أبي طالب، وقد زوّجتها إياه على أربعمائة مِثْقَال فِضَّة، إن رضي بذلك عليّ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 3- خطبة الإمام عليّ كرم الله وجهه: وخطب الإمام عليّ كرم الله وجهه حين تزوَّج بالسيدة فاطمة -رضي الله عنها- فقال: "الحمد لله الذي قَرُبَ من حَامِدِيه، ودنا من سائِلِيه، ووعد بالجنة من يتَّقِيه، وقطع بالنار عدد من يَعْصِيه. أحمده بجميع محامده وأياديه، وأشكره شكر مَنْ يعلم أنه خالقه وباريه، ومصوِّره ومُنْشِيه، ومميته ومحييه، ومقرِّبه ومنجيه، ومُثِيبُه ومجازيه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه، وأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله صلاة تُزْلِفُه وتُدْنِيه، وتعزّه وتُعْلِيه، وتشرِّفه وتجتبيه. أما بعد: فإن اجتماعنا مما قَدَّره الله تعالى ورضيه، والنكاح ما أمر الله به وأذِن فيه، وهذا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد زوَّجني فاطمة ابنته على صَدَاق أربعمائة درهم وثمانين درهمًا، ورضيت به فاسألوه، وكفى بالله شهيدا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 4- خطبة عتبة بن أبي سفيان : خطب عثمان بن عَنْبَسَة بن أبي سفيان إلى عتبة بن أبي سفيان ابنته، فأقعده على فخذه، وكان حَدَثًا فقال: "أقرب قريب، خطب أحبَّ حبيب، لا أستطيع له رَدَّّا، ولا أجد من إسعافه بُدًّا، قد زوَّجْتُكَها وأنت أعزّ عليّ منها، وهي أَلْصَقُ بقلبي منك، فَأَكْرِمْهَا يَعْذُبْ على لساني ذِكْرُك، ولا تُهِنْهَا فَيَصْغُرَ عندي قَدْرُك، وقد قَرَّبتك مع قُربك، فلا تُبْعِدْ قلبي من قلبك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 5- خطبة شبيب بن شيبة : وقال العُتْبيّ: زوج شبيب بن شَيْبَة ابنَه بنت سِوَار1 القاضي، فقلنا: اليوم يَعُبُّ عُبَابُه2، فلما اجتمعوا تكلم فقال: "الحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أما بعد: فإن المعرفة منا ومنكم، بنا وبكم3، تمنعنا من الإكثار، وإن فلانا ذَكَرَ فلانة".   1 هو سوار بن عبد الله من قضاة البصرة وخطبائها، انظر البيان والتبيين 1: 161، واقرأ في أمالي السيد المرتضي 4: 22 حديثا غريبا للجاحظ عنه في وقاره، وضبطه من نفسه وملكه من حركته. 2 لأن والدي العروسين خطيبان. 3 أي المعرفة منا بكم؛ والمعرفة منكم بنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 6- خطبة الحسن البصري : "وكان الحسن البصري يقول في خطبة النكاح، بعد الحمد لله والثناء عليه: "أما بعد: فإن الله جمع بهذا النكاح الأرحام المنقطعة، والأنساب المتفرِّقة، وجعل ذلك في سُنة من دينه، ومنهاج واضح من أمره، وقد خَطَب إليكم فلان، وعليه من الله نعمة، وهو يبذل من الصَّدَاق كذا، فاستخِيرُوا الله، ورُدُّوا خيرا، يرحمكم الله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 7- خطبة ابن الفقير : وقال العتبى: حضرت ابن الفقير خطب على نفسه امرأةً من باهلة فقال: "وما حسن أن يمدح المرء نفسه ... ولكنَّ أخلاقًا تُذَّمُّ وتُمْدَحُ وإن فلانة ذُكِرَتْ لي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 8- خطبة عمر بن عبد العزيز : وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: "وقد زَوَّجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة"، قال: "جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فقد أجزلتَ العطية، وكَفيتَ المسألة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 9- خطبة أخرى له : وحَدَّث محمد بن عبيد الله القرشي عن أبي المِقْدام قال: كانت قريش تستحسن من الخاطب الإطالة، ومن المخطوب إليه التقصير1، فشَهِدْت محمد بن الوليد بن عُتْبَة بن أبي سفيان خطب إلى عمر بن عبد العزيز أخته أم عمر بنت عبد العزيز، فتكلم محمد بن عبد الوليد بكلام جاز الحفظ، فقال عمر: "الحمد لله ذي الكبرياء، وصلى الله على محمد خاتَم الأنبياء، أما بعد: فإن الرغبة منك دَعَتْك إلينا، والرغبة فيك أجابَتْك منا، وقد أحسن بك ظنًّا من أودعك كريمته، واختارك ولم يَخْتَر عليك، وقد زوجتُكها على كتاب الله: {َإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} .   1 وكذلك روى الجاحظ في البيان والتبيين "1: 64" قال: "والسنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب، ويقصر المجيب" والحصري في زهر الآداب "2: 31" قال الأصمعي: "كانوا يستحبون من الخاطب إلى الرجل حرمته الإطالة، لتدل على الرغبة، ومن المخطوب إليه الإيجاز ليدل على الإجابة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 10- خطبة بلال : وخطب بلال إلى قوم من خَثْعَم لنفسه ولأخيه، فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أنا بلال وهذا أخي، كنا ضالَّيْن فهدانا الله، عبدين فأعتقنا الله، فقيرين فأغنانا الله، فإن تُزَوِّجُونا فالحمد لله، وإن تَرُدُّونا فالمستعانُ الله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 11- خطبة خالد بن صفوان : وزوَّج خالد بن صفوان مَوْلَاه من أمته، فقال له العبد: لو دعوْتَ الناس وخَطَبْتَ! قال: ادْعُهُم أنت، فدعاهم العبد، فلما اجتمعوا، تكلم خالد بن صفوان، فقال: "أما بعد: فإن الله أعظمُ وأجلُّ من أن يُذْكَر في نكاح هذين الكلبين، وأنا أُشْهِدكم أني زوَّجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 12- خطبة أعرابي : وخطب الفضل الرَّقاشي إلى قوم من بني تميم فخطب لنفسه، فلما فرغ قام أعرابي منهم فقال: "تَوَسَّلْتَ بحُرْمَة، وأوليتَ بحقّ، واستندت إلى خير، ودعوتَ إلى سُنَّة، فَفَرْضُك مقبول، وما سألتَ مَبْذُول، وحاجتك مقضية إن شاء الله تعالى". قال الفضل: لو كان الأعرابي حمد الله في أوَّل كلامه، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- لفصحني يومئذ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 13- خطبة المأمون : وقال يحيى بن أكثم: أراد المأمون أن يزوِّج ابنته من علي بن موسى الرضا، فقال: يا يحيى تكلم، فأَجْلَلْته أن أقول: "أنكحت"، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت الحاكم الأكبر، والإمام الأعظم، وأنت أَوْلَى بالكلام، فقال: "الحمد لله الذي تصاغَرت الأمور بمشيئة، ولا إله إلا هو إقرارًا بربوبيته، وصلى الله على محمد عند ذكره، أما بعد: فإن الله قد جعل النكاح دِينًا، ورضيه حكمًا وأنزله وحيًا؛ ليكون سبب المناسبة، ألا وإني قد زوَّجت ابنة المأمون من علي بن موسى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وأَمْهَرْتُها أربعمائة درهم، اقتداءً بِسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتهاء إلى ما دَرَج إليه السَّلَف، والحمد لله ربِّ العالمين". وخطب رجل إلى قوم، فأُتِيَ بمن يخطُب له، فاستفتح بحمد الله، وأطال، وصلى على النبي -عليه الصلاة والسلام- وأطال، ثم ذكر البَدْءَ وخَلْقَ السموات والأرض، واقتصَّ ذِكْرَ القرون، حتى ضَجِر مَنْ حَضَر، والتفت إلى الخاطب، فقال: ما اسمك أعزَّك الله؟ فقال: والله قد أُنْسِيتُ اسمِي من طول خطبتك، وهي طالِقٌ إن تزوجتها بهذه الخطبة، فضحك القوم، وعقدوا في مجلس آخر. "مفتاح الأفكار ص62، ومواسم الأدب 2: 120، والعقد الفريد 2: 163، وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص28، والبيان والتبيين 1: 215، 217-2: 50: 130-3: 221، وزهر الآداب 2: 30، 31". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 الباب الخامس في خطب من أرتج عليهم نوادر طريفة لبعض الخطباء ... الباب الخامس في خطب من أرتج عليهم، ونوادر طريفة لبعض الخطباء: روى الجاحظ قال: صَعِدَ عثمان بن عفان -رضي الله عنه- المنبر، فأُرْتِج عليه، فقال: "إنا أبا بكر وعمر كانا يُعِدَّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أَحْوَج منكم إلى إمام خطيب". وروى ابن عبد ربه قال: أول خطبة خطبها عثمان بن عفان أُرْتِجَ عليه، فقال: "أيها الناس: إن أوَّل كل مَرْكَبٍ صعب، وإن أَعِشْ تأتِكم الخطبُ على وجهها، وسيجعل الله بعد عُسْرٍ يُسْرًا إن شاء الله". ولما قَدِم يزيد بن أبي سفيان الشأم واليًا عليها لأبي بكر، خطب الناس فأرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله، ثم أرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله، ثم أرتج عليه، فقال: "يأهل الشأم، عسى الله أن يجعل من بعد عسر يسرا، ومن بعد عِيٍّ بيانًا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وأنتم إلى إمام فاعل1، أحوج منكم إلى إمام قائل2"، ثم نزل، فبلغ ذلك عمرو بن العاص فاستحسنه. وكان يزيد بن المُهَلَّب وَلَّى ثابت قُطْنَة3 بعض قرى خُراسان4، فلما صَعِدَ المنبر يوم الجمعة، قال: الحمد لله، ثم أرتج عليه، فنزل وهو يقول: فإلَّا لا أكن فيكم خطيبًا فإنني ... بسيفي إذا جَدَّ الوَغَى لَخَطِيب فقيل له: "لو قلتها فوق المنبر، لكنتَ أخطبَ الناس". وخطب معاوية بن أبي سفيان لما وَلِيَ، فَحَصِر فقال: "أيها الناس: إني كنت أعددتُ مقالا أقوم به فيكم، فَحُجِبْتُ عنه، فإن الله يَحُول بين المَرْءِ وقلبه، كما قال في كتابه5، وأنتم إلى إمام عَدْل، أَحْوَجُ منكم إلى إمام خطيب، وإني آمُرُكم بما أمر الله به ورسوله، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم". وصعد خالد بن عبد الله القَسْرِي يومًا المنبر بالبصرة ليخطب فأرتج عليه، فقال:   1 في عيون الأخبار: "إمام عادل". 2 وفي أمالي السيد المرتضي أن هذا القول يروى لعثمان بن عفان، وفي وفي روايتها: "إما فعال" و"إما قوال" بصيغة المبالغة، وفي الأغاني أنه يروى لثابت قطنة، وفيه: "أمير فعال" و"أمير قوال". 3 هو ثابت بن كعب، ولقب قطنة لأن سهما أصابه في إحدى عينيه، فذهب بها في بعض حروب الترك، فكان يجعل عليها قطنة، وهو شاعر فارس شجاع من شعراء الدولة الأموية، وكان في صحابة يزيد بن المهلب، وكان يوليه أعمالا من أعمال الثغور، فيحمد فيها مكانه لكفايته وشجاعته، وقد مال إلى قول المرجئة، وله قصيدة في الإرجاء، انظر ترجمته في الأغاني ج13 ص47. 4 وفي رواية: أنه خطب على منبر سجستان، وفي رواية الطبري: "فخطب الناس فحصر فقال: "من يطع الله ورسوله فقد ضل" وأرتج عليه فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قال البيت المذكور. 5 الآية الكريمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَْ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 "أيها الناس: أما بعد، فإن هذا الكلام يجيء أحيانا، ويَعْزُب أحيانا، فَيَسِيح عند مجيئه سَيْبُه1، ويَعِزّ عند عُزُوبه طَلَبُه، ولربما كُوبر فأبى2، وعُولج فنأى، فالتأتِّي3 لمجيِّه، خير من التعاطي لأبِيِّه، وتركه عند تنكُّره، أفضل من طلبه عند تعذِّره، وقد يختلِج4 من الجريء جِنَانُه، وينقطع من الذَّرِب5 لسانه، فلا يُبْطِره ذلك ولا يَكْسِره، وسأعود فأقول إن شاء الله"، ثم نزل، فما رُئِي حصر أبلغ منه. وصعد أبو العَنْبَسِ منبرا من منابر الطائف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فأرتج عليه، فقال: أتردون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: لا. قال: فما ينفعني ما أريد أن أقول لكم، ثم نزل؛ فلما كان في الجمعة الثانية، وصعد المنبر وقال: أما بعد: أرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: نعم. قال: ما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما عَلِمْتُم؟ ثم نزل؛ فلما كانت الجمعة الثالثة، قال: أما بعد: فأرتج عليه، قال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا: بعضنا يدري، وبعضنا لا يدري، قال: فليخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري، ثم نزل. وولي اليمامة رجل من بني هاشم يُعْرَفُ بالدَّنْدَان، فلما صعد المنبر أرتج عليه، فقال:   1 السيب: العطاء، وفي رواية: "فيتسبب عند مجيئه سبيه". 2 وفي رواية: "فعا" أي اشتد وصعب. 3 تأتي له: ترفق، وفي رواية: "فالتأني" بالنون. 4 يضطرب. 5 الحاد اللسان: وفي رواية: "ويرتج على البليغ لسانه"، وفي أخرى: "وقد يرتج على اللسن لسانه، ولا ينظره القول إذا اتسع، ولا يتيسر إذا امتنع، ومن لم تمكن له الخطوة، فخليق أن تعن له النهوة" وفي أخرى: "وقد يتعاصى على الذرب لسانه، ثم لا يكابر القول إذا امتنع، ولا يرد إذا اتسع، وأولى الناس من عذر على النبوة, ولم يؤاخذ على الكبوة، من عرف ميدانه، اشتهر إحسانه وسأعود وأقول". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 "حَيَّا الله هذه الوجوه، وجعلني فِدَاءها، إني قد أمرت طائِفِي بالليل أن لا يرى أحدًا إلا أتاني به، وإن كنت أنا هو"، ثم نزل. وخطب عبد الله بن عامر1 بالبصرة في يوم أَضْحَى، فأرتج عليه، فمكث ساعة، ثم قال: "والله لا أجمع عليكم عِيًّا ولُؤْمًا، من أخذ شاة من السوق فهي له، وثمنها عليّ". قال الجاحظ: ولما حَصِرَ عبد الله بن عامر على منبر البصرة، شقَّ ذلك عليه، فقال له زياد: "أيها الأمير، إنك إن أقمت عامة من تَرَى، أصابه أكثر مما أصابك". وكان سعيد بن بَحْدَل الكلبي على قِنَِّسْرِين2، فوثب عليه زُفَر بن الحارث، فأخرجهُ منها، وبايع لابن الزبير3، فلما قعد زفر على المنبر قال: "الحمد لله الذي أقعدني مقعد الغادر الفاجر"، وحَصِرَ، فضحك الناس من قوله. وصعد عَدِيّ بن أَرْطَاة4 المنبر، فلما رأى جماعة الناس حَصِرَ فقال: "الحمد لله الذي يُطْعِمْ هؤلاء ويُسْقِهم". وصعد رَوْح بن حاتم المنبر، فلما رآهم شَفَنُوا5 أبصارهم، وفتحوا أسماعهم نحوه،   1 انظر هامش الجزء الأول ص355. 2 كورة بالشأم. 3 انظر هامش الجزء الثاني ص141 4 كان عامل يزيد بن عبد الملك على البصرة. 5 شفته كضربة وعلمه شفونا: نظر إليه بمؤخر عينيه، أو رفع طرفة ناظرًا إليه كالمتعجب أو كالكاره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 حصر فقال: "نكِّسُوا رءوسكم، وغُضُّوا أبصاركم، فإن المنبر مَرْكَبٌ صعب، وإذا يَسَّرَ الله فَتْحَ قُفْلٍ تَيَسَّر". وكان عبد ربه اليَشْكُرِي عاملا لعيسى بن موسى1 على المدائن، فصعد المنبر، فحمد الله وأرتج عليه، فسكت ثم قال: "والله إني لأكون في بيتي فتجيء على لساني ألف كلمة، فإذا قمت على أعوادكم هذه جاء الشيطان فمَحَاها من صدري، ولقد كنتُ وما في الأيام يوم أحَبُّ إليَّ من يوم الجمعة، فصرتُ وما في الأيام يومٌ أبغض إليَّ من يوم الجمعة، وما ذلك إلا لخطبتكم هذه". وأرتج على مَعْن بن زائدة فضرب المنبر برجله، ثم قال: "فتى حُرُوب، لا فَتَى منابر". وحدث عيسى بن عمر قال: خطب أمير مرةً فانقطع فخَجِل، فبعث إلى قوم من القبائل عابُوا ذلك ولَفَّهم2، وفيهم يَرْبُوعِيٌّ جَلْد، فقال: اخْطُبوا، فقام واحد فمرَّ في الخطبة، حتى إذا بلغ "أما بعد" قال: أما بعد، أما بعد، ولم يدرِ ما يقول، ثم قال: فإن امرأتي طالقٌ ثلاثا لم أُرِدْ أن أُجَمِّع3 اليوم فمنعتني، وخطب آخر، فلما بلغ "أما بعد" بقِي ونظر فإذا إنسان ينظر إليه، فقال: لعنك الله! ترى ما أنا فيه، وتلمحُني ببصرك أيضًا! وقال أحدهم: رأيت القَرَاقِرَ4 من السفن تجري بيني وبين الناس، وصعد اليَرْبُوعِيُّ فخطب فقال: "أما بعد" فوالله ما أدري ما أقول، ولا فيم أقمتموني، أقول ماذا؟ "   1 هو عيسى بن موسى ابن أخي المنصور وكان أمير الكوفة. 2 لفهم: جمعهم. 3 جمع الناس بالتشديد: أي شهدوا الجمعة، كما يقال: عيدوا: أي شهدوا العيد. 4 القراقر: جمع قرقور كعصفور: وهي السفينة أو الطويلة أو العظيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 فقال بعضهم: قل في الزيت، فقال: "الزيت مبارك1، فكلوا منه وادَّهِنُوا". قال: فهو قول الشُّطَّار2 اليوم، إذا قيل لِمَ فعلت ذا؟ فقل في شأن الزيت، وفي حال الزيت. وروى الجاحظ أنه قيل لرجل من الوُجُوه: قم فاصْعَدِ المنبر وتكلم، فلما صَعِدَ حَصِرَ وقال: "الحمد لله الذي يرزق هؤلاء" وبقي ساكتا فأنزلوه. وصعد آخر، فلما استوى قائمًا، وقابل بوجهه وجوه الناس، وقعت عينُه على صَلعَة3 رجل فقال: "اللهم الْعَنْ هذه الصَّلْعَة". وقيل لوازع اليَشْكُرِيّ: قم فاصعد المنبر وتكلم، فلما رأى جمع الناس قال: "لولا أن امرأتي -لعنها الله- حَمَلَتْنِي على إتيان الجمعة اليوم ما جَمَّعْتُ، وأنا أُشْهِدُكم أنها مني طالق ثلاثا". ودُعِي أيوب بن القِرِّيَّة لكلام، فاحتبس القول عليه، فقال: "قد طال السَّمَرُ، وسقط القمر، واشْتَدَّ المطر، فماذا يُنْتَظَرُ؟ " فأجابه فتى من عبد القَيْس فقال: "قد طال الأَرَق، وسقط الشَفَق، وكثر اللَّثَق4 فلينْطِق من نَطَق".   1 يشير إلى الآية الكريمة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} . 2 الشطار جمع شاطر: وهو من أعيا أهله خبثًا، والمراد به هنا أهل الدعارة وأصحاب النوادر والتنكيت والفكاهات. 3 الصلع: موضع الصلع. 4 لثق يوما كفرح: ركدت ريحه وكثر نداه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 وجاء في أمالي السيد المرتضي: روى أن بعض خلفاء بني العباس -وأظنه الرشيد- صعد المنبر ليخطب، فسقطت على وجهه ذبابة، فطردها، فرجعت، فحَصِرَ وأُرْتِجَ عليه، فقال: أعوذ بالله السميع العليم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ 1 مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ثم نزل، فاستُحْسِن ذلك منه. وروى أن رجلا صعد المنبر أيام يزيد بن معاوية، وكان واليًا على قوم فقال لهم: "أيها الناس: إني إن لم أكن فارسًا طَبًّا2 بهذا القرآن، فإن معي من أشعار العرب ما أرجو أن يكون خَلَفًا منه، وما أساء القائل أخو البَرَاجم حيث قال: وما عاجِلَات الطير يُدْنِينَ للفتى ... رشادا، ولا من رَيْثِهِنَّ يَخِيبُ3 ورب أمور لا تَضِيرك ضَيْرَة ... وللقلب من مَخْشَاتِهِنّ وَجِيب4 ولا خير فيمن لا يُوَطِّنُ نفسه ... على نائبات الدهر حين تَنُوب وفي الشكِّ تفريط وفي الحَزْمِ قُوَّةٌ ... ويُخْطِي الفتى في حَدْسِهِ ويُصِيبُ5 فقال رجل من كلب: إن هذا المنبر لم يُنْصَب للشعر، بل ليُحْمَد الله تعالى.   1 وكانوا يطلون أصنامهم بالطيب والزعفران ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. 2 ماهرا حاذقا. 3 كانت العرب تتيمن بالطير السانح، وهو ما ولاك ميامنه، بأن يمر من مياسرك إلى ميامنك، وتتشاءم بالبارح، وهو ما ولاك مياسره، بأن يمر من ميامنك إلى مياسرك، وذلك لأنه لا يمكنك رميه إلا بأن تنحرف له، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير، فيعتمدها، وعاجلات الطير هي أن يخرج الإنسان من منزلة إذا أراد أن يزجر الطير، فما مر به أول ما يبصر فهو عاجلات الطير، وإن أبطأت عنه وانتظرها فقد راثت أي أبطأت، والأول عندهم محمود، والداني مذموم. 4 خشيه خشية ومخشاة: خافه، ووجب القلب وجيبا: خفق واضطرب. 5 الحدس: الظن والتخمين، والأبيات لضابئ بن الحارث البرجمي "انظر زهر الآدب 2: 88". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 ويُصَلَّي على النبي وآله عليهم الصلاة والسلام، وللقرآن، فقال: أَمَا لو أنشدتكم شعر رجل من كلب لسَرَّكم، فكُتِب إلى يزيد بذلك فعَزَلَه، وقال: قد كنت أراك جاهلًا أحمق، ولم أحسب أن الحمق يبلغ بك إلى هذا المبلغ، فقال له: أحمق مني مَنْ وَلَّاني! وخطب عَتَّاب بن وَرْقَاء1 فَحَثَّ على الجهاد فقال: هذا كما قال الله تعالى في كتابه: كتب القَتْلُ والقِتَالُ علينا ... وعلى الغَانِيَات جَرٌّ الذُّيولِ2 وخطب يومًا فقال: هذا كما قال الله تبارك وتعالى: "إنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وكل ما هو آتٍ قريب" قالوا له: "إن هذا ليس من كتاب الله" قال: "ما ظننت إلا أنه من كتاب الله". وخطب وَكِيع بن أبي سُودٍ3 بخُراسان فقال: "إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر" فقيل له: "إنها ستة أيام" فقال: "وأبيك لقد قُلتها وإني لأستقلّها". وصعد المنبر فقال: "إنَّ ربيعة لم تزل غِضَابًا عَلَى الله مذ بعث نبيَّه من مُضَر،   1 انظر الجزء الثاني ص433 و445. 2 البيت لعمر بن أبي ربية، وذلك أن مصعب بن الزبير بعد أن قتل المختار بن أبي عبيد الثقفي دعا امرأته –وهي بنت النعمان بن بشير- إلى البراء من المختار، فأبت فقتلها، فقال في ذلك ابن أبي ربيعة: إن من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول قتلت باطلا على غير ذنب ... إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول "والعطبول كعصفور: المرأة الفتية الجميلة الممتلئة الطويلة العنق". 3 انظر الجزء الثاني ص312. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 ألا وإن ربيعة قوم كُشْفٌ1، فإذا رأيتموهم فاطْعَنُوا الخيل في مَنَاخِرها، فإن فرسا لم يُطْعَن في مَنْخَِره إلا كان أَشَدَّ عَلَى فارسه من عدوّه2". وضربت بنو مازن الحتاتَ بن يزيد المَجَاشِعيّ، فجاءت جماعة منهم، فيهم غالِبٌ أبو الفرزدق فقال: "يا قوم كونوا كما قال الله: لا يعجِزَ القوم إذا تعاونوا". وخطب عديّ بن زياد الإِياديّ، فقال: "أقول لكم كما قال العبد الصالح لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} 3، قالوا له: "ليس هذا من قول عبد صالح، إنما هو من قول فرعون"، قال: من قاله فقد أحسن". وروى الطبري أن عبد الله بن الزبير كان وَلَّى أخاه عبيدة على المدينة، ثم نزعه عنها، وكان سب عزله إياه أنه خطب الناس، فقال لهم: قد رأيتم ما صُنِع4 بقوم في ناقة قيمتها خَمْسُمَائِة درهم، فسمي مُقَوِّم الناقة، وبلغ ذلك ابن الزبير فقال: إن هذا لهو التكلف. وروى الجاحظ وابن عبد ربه هذا الخبر فقالا: خطب والي اليمامة5، فقال: "إن الله لا يُقَارُّ6 عباده على المعاصي، وقد أهلك الله أمَّة عظيمة في ناقة ما كانت تساوي مائتي درهم"، فسمي مقوِّم ناقة الله.   1 كشف جمع أكشف: وهو من ينهزم في الحرب، ومن لا ترس معه في الحرب، ومن لا بيضة على رأسه. 2 وروى الطبري أن عبد الله بن خازم قال ذلك القول لأصحابه بخراسان، قال لهم: "إذا لقيتم الخيل فاطعنوها في مناخرها، فإنه لن يطعن فرس في نخزته إلا أدبر أورمى بصاحبه". "الطبري 7: 46". 3 الآية الكريمة: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى .... } . 4 يشير إلى ثمود قوم صالح عليه السلام، انظر هامش الجزء الثاني ص352. 5 لعلها المدينة. 6 أي لا يقرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وخطب قُبَيْصَةُ، وهو خليفة أبيه1 على خراسان، وأتاه كتابه، فقال: "هذا كتاب الأمير، وهو والله أهل لأن أطيعه، وهو أبي وأكبر مني". ودُعِي مُصْعَب بن حَيَّان ليخطب في نكاح فحَصِرَ فقال: "لَقِّنُوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله فقالت أم الجارية، عَجَّل الله موتك، ألهذا دعَوناك؟ ". وخطب أمير المؤمنين الموالي -وهكذا لَقَبُه- خطبة نكاح فَحَصِرَ، فقال: "اللهم إنا نحمدك ونستعينك ولا نشرك بك". وخطب قُتَيْبَة بن مسلم على مِنْبَر خُراسان، فسقط القضيب من يده، فتفاءَل له عدوّه بالشرّ، واغتمّ صديقه، فعرف ذلك قتيبة، فأخذه وقال: "ليس الأمر على ما ظن العدو، وخاف الصديق2، ولكنه كما قال الشاعر: فألقت عَصَاهَا واسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كما قََرَّ عينًا بالإِياب المُسَافِر3 وتكلم صَعْصَعَة عند معاوية فَعَرِق، فقال معاوية: بَهَرك4 القول! فقال صعصعة: إن الجياد نَضَّاحَة بالماء. وشخص يزيد بن عمر بن هُبَيْرَة إلى هشام بن عبد الملك، فتكلم فقال هشام: ما مات من خَلَّف مثل هذا! فقال الأبرش الكلبي: ليس هناك، أما تَرَاه يَرْشَح جَبِينَه لضِيقَ صدره! قال يزيد: ما لذلك رَشَحَ، ولكن لجلوسِك في هذا الموضع.   1 هو المهلب بن أبي صفرة، وكان واليا على خراسان، انظر الجزء الثاني ص285. 2 وفي رواية: "كما ساء الصديق، وسر العدو". 3 النوى: الغربة البعيدة. 4 أي غلبك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وقال عبيد الله بن زياد: "نِعْمَ الشيء الإمارة، لولا قَعْقَعَةُ البريد، والتشرُّف للخُطَب". وقيل لعبد الملك بن مروان: عَجِل عليك المشيب يا أمير المؤمنين، فقال: كيف لا يَعْجَل عليّ، وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين؟ ". "أو قال: شيبني صعود المنابر والخوف من اللحن". "العقد الفريد 2: 162-163 و3: 256، وعيون الأخبار م2: ص247 و256 و259، وأمالي السيد المرتضي 4: 19-22، والأغاني 13: 47، 17؛ 111، وتاريخ الطبري ج7: ص90، ج8: 188، والبيان والتبيين 1: 74، 163، 186-2: 122، 126، 127، 129، 130، 131، والأمالي 1: 111، وتهذيب الكامل 1: 17، وسرح العيون ص125، 205، والصناعتين ص21". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 بدء الخطب وختامها : قال ابن قُتَيبة في عيون الأخبار: تتبعت خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدت أوائل أكثرها: "الحمد لله نحمده، ونستعينه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، ووجدت في بعضها: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته"، ووجدت كل خطبة مفتاحها الحمد، إلا خطبة العيد، فإن مفتاحها التكبير. "عيون الأخبار م2: ص221". وروى ابن عبد ربه في العقد قال: "وكان آخر كلام أبي بكر الذي إذا تكلم به عرف أنه قد فرغ من خطبته: اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتِمَه، وخير أيامي يوم ألقاك". وكان آخر كلام عمر الذي إذا تكلم به عرف أنه فرغ من خطبته: "اللهم لا تدعني في غَمْرة، ولا تأخذني على غِرَّة، ولا تجعلني من الغافلين". وكان عبد الملك بن مروان يقول في آخر خطبته: "اللهم إن ذنوبي قد عَظُمت وجلّت أن تُحْصَى، وهي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني". "العقد الفريد 2: 133، 142". تم بحمد الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 فهرس ذيل الجمهرة : الباب الأول في خطب الأندلسيين والمغاربة رقم الصفحة الخطبة أو الوصية 162 خطبة عبد الرحمن الداخل يوم حربه مع يوسف الفهري 163 عبد الرحمن الداخل ورجل من جند قنسرين 164 عبد الرحمن الداخل ورجل من جنده يهنئه بفتح سرقسطة 164 تأديب عبد الرحمن الأوسط لابنه المنذر 166 عبد الرحمن الأوسط وابنه المنذر أيضا 167 يعقوب بن عبد الرحمن الأوسط وأحد خدامه 168 وفاء الوزير ابن غانم لصديقه الوزير هاشم بن عبد العزيز 169 خطبة منذر بن سعيد البلوطي في الاحتفال بقدوم رسل ملك الروم 173 خطبة أخرى له 173 أحد حساد الرمادي الشاعر والمنصور بن أبي عامر 177 ابن اللبانة الشاعر وعز الدولة بن المعتصم بن صمادح 178 دفاع ابن الفخار عن القاضي الوحيدي بحضرة ابن تاشفين 179 موعظة ابن أبي رندقة الطرطوشي للأفضل بن أمير الجيوش 180 خطبة ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين 183 مقال لسان الدين ابن الخطيب في الحض على الجهاد 184 ما خاطب به لسان الدين تربة السلطان الكبير أبي الحسن المريني 187 وصية لسان الدين لأولاده 201 خطبة وعظية له 208 وصية موسى بن سعيد العنسي لابنه 217 خطبة ابن الزيات المنزوعة الألف 219 خطبة القاضي عياض التي ضمنها سور القرآن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 رقم الصفحة الخطبة أو الوصية 222 خطبة سعيد بن أحمد المقري التي ضمنها سور القرآن 224 خطبة الكفعمي التي ضمنها سور القرآن أيضا الباب الثاني في خطب ووصايا مجهول عصرها أو قائلها 226 خطبة أبي بكر بن عبد الله بالمدينة 230 وصية أعمى من الأزد لشاب يقوده 231 وصية رجل لآخر وقد أراد سفرا 231 وصية لابنه وقد أراد التزوج 232 وصية بعض العلماء لابنه 232 وصية لبعض الحكماء 232 وصية أخرى 233 وصية أخرى 233 عظة لبعض الحكماء 234 نصيحة لبعض الحكماء 234 كلمات شتى لبعض الحكماء 235 رجل من العرب والحجاج 236 أحد الوافدين على عمر بن عبد العزيز 236 كاتب وأمير 237 وصف الهلباجة 238 بعض البلغاء يصف رجلا 239 خمس جوار من العرب يصفن خيل آبائهن 241 رجل من العرب يصف مطرا الباب الثالث في نثر الأعراب 242 قولهم في الوعظ والتوصية 242 مقام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 رقم الصفحة الخطبة أو الوصية 243 أعرابي يصف هشام بن عبد الملك 243 خطبة أعرابي 244 خطبة أخرى 244 خطبة أخرى 244 أعرابية توصي ابنها وقد أراد السفر 245 أعرابية توصي ابنها 246 أعرابي يوصي ابنه 246 خطبة ينصح لابنه 246 خطبة ينصح لابنه 246 خطبة ينصح لأخيه 247 خطبة يعظ أخاه 247 خطبة يعظ صاحبه 247 خطبة يعظ أخاه 248 خطبة يعظ رجلا 248 خطبة يعظ رجلا 248 خطبة يعظ رجلا 248 كلام أعرابي لابن عمه 249 كلمات حكيمة للأعراب 254 أجوبة الأعراب 254 مجاوبة أعرابي للحجاج 255 مساءلة الحجاج أعرابيا فصيحا 255 مجاوبة أعرابي لعبد الملك بن مروان 256 مجاوبة أعرابي لخالد بن عبد الله القسري 256 أجوبة شتى 259 قولهم في الاستمناح والاستجداء 259 أعرابي يجتدي عتبة بن أبي سفيان 260 أعرابي يجتدي عمر بن عبد العزيز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 رقم الصفحة الخطبة أو الوصية 260 خطبة أعرابي بين يدي هشام بن عبد الملك 260 مقام أعرابي بين يدي هشام 261 أعرابي يستجدي عبيد الله بن زياد 262 أعرابية تستجدي عبد الله بن أبي بكرة 263 أعرابي يستجدي خالد بن عبد الله القسري 263 أعرابي يستجدي معن بن زائدة 264 خطبة الأعرابي السائل في المسجد الحرام 265 خطبة الأعرابي السائل في الجامع بالبصرة 265 صورة أخرى 266 صورة أخرى 266 أعرابي يستجدي 266 أعرابي يستجدي 267 أعرابي يستجدي 267 أعرابي يستجدي 268 أعرابية تستجدي 268 أعرابي يستجدي 268 أعرابي يستجدي 269 أعرابي يستجدي 269 أعرابي يستجدي 270 أعرابية تستجدي 270 أعرابي يستجدي 271 أعرابي يستجدي 271 أعرابي يستجدي 271 أعرابي يستجدي 271 أعرابي يستجدي 271 أعرابي يستجدي 272 أعرابي يستجدي 272 أعرابي يستجدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 رقم الصفحة الخطبة أو الوصية 272 أعرابي يسأل رجلا حاجة له 273 قولهم في بكاء الموتى 273 أعرابية تبكي ابنها 274 حديث امرأة سكنت البادية قريبا من قبور أهلها 275 حديث امرأة مات ابنها بين يديها 276 قولهم في الشكوى 276 أعرابي يشكو حاله 277 كلمات شتى في الشكوى 282 قولهم في العتاب والاعتذار 283 قولهم في المدح 292 قولهم في الذم 299 قولهم في الغزل 304 قولهم في الوصف 304 أعرابي يصف مطرا 305 أعرابي يصف مطرا 306 أعرابي يصف مطرا 307 ثلاثة غلمة من الأعراب يصفون مطرا 309 أعرابي يصف مطرا 310 أعرابي يصف مطرا 311 أعرابي يصف مطرا 312 أعرابي يصف مطرا 312 أعرابي يصف مطرا 313 أعرابي يصف مطرا 314 أعرابية تصف مطرا 314 أعرابية تصف مطرا 315 أعرابية تصف أرضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 رقم الصفحة الخطبة أو الوصية 316 رائد يصف أرضا جدبة 316 رائد يصف أرضا جدبة 317 رائد يصف أرضا جدبة 317 أعرابي يصف أرضه وماله 318 أعرابي يصف بلدا 319 أعرابي يصف أشد البرد 319 أعرابي يصف إبلا 319 أعرابي يصف ناقة 320 أعرابي يصف خيلا 320 أعرابي يصف خيلا 320 أعرابي يصف خيلا 320 أعرابي يصف فرسا 321 أعرابي يصف خاتما 321 أعرابي يصف أطيب الطعام 321 أعرابي يصف السويق 322 أعرابي يصف الجمال 322 أبو المخشن يصف ابنه 322 أعرابي يصف بنيه 323 أعرابي يصف أخويه 324 قولهم في الدعاء 324 دعاء أعرابي 326 دعاء أعرابي 326 دعاء أعرابي 327 دعاء أعرابي 328 دعاء أعرابي 328 دعاء أعرابي 329 دعاء أعرابي 329 دعاء أعرابي 329 دعاء أعرابي 329 دعاء أعرابي 330 دعاء أعرابي 330 دعاء أعرابي 330 دعاء أعرابي 330 دعاء أعرابي 332 دعاء أعرابي 332 دعاء أعرابي 332 دعاء أعرابي 333 أدعية شتى 337 نوادر وملح لبعض الأعراب الباب الرابع في خطب النكاح 344 خطبة قريش في الجاهلية 344 خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في زواج السيدة فاطمة 345 خطبة الإمام عل كرم الله وجهه 345 خطبة عتبة بن أبي سفيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 رقم الصفحة الخطبة أو الوصية 346 خطبة شبيب بن شيبة 346 خطبة الحسن البصري 346 خطبة ابن الفقير 247 خطبة عمر بن عبد العزيز 347 خطبة أخرى له 347 خطبة بلال 348 خطبة خالد بن صفوان 348 خطبة أعرابي 348 خطبة المأمون الباب الخامس 350 في خطب من أرتج عليهم ونوادر طريفة لبعض الخطباء 361 بدء الخطب وختامها تم الكتاب بحسن توفيقه وعونه تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368