الكتاب: تاريخ الخلفاء المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: حمدي الدمرداش الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز الطبعة: الطبعة الأولى: 1425هـ-2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تاريخ الخلفاء السيوطي الكتاب: تاريخ الخلفاء المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: حمدي الدمرداش الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز الطبعة: الطبعة الأولى: 1425هـ-2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة مقدمة المحقق ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد. نحمده سبحانه وتعالى ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله وإليه يرجع الأمر كله، بيده مقاليد السموات والأرض، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، وإليه المصير. وأشهد أن سيدنا وإمامنا وحبيبنا وقائدنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبيه، أول شافع وأول مشفع، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، صلى الله عليه وسلم وبارك ما تزينت الأرض بتوحيد رب العالمين. أما بعد .... فإن نبينا المصطفى قد افتتح تاريخ أمتنا الإسلامية، وخط بكفه الشريف أول كلمة في سطور ديوانه وصحائفه الخالدة، بعد هجرته النبوية الشريفة مباشرة، حينما وضع بيده المباركة أول حجر قام عليه مسجده الطاهر الذي أسس سعليه دولته التي امتدت وتوسعت وانتشرت ورفعت راياتها فوق كل بقعة من بقاع أرض الله. وبعد أن أدى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرسالة وبلغ الأمانة وصعدت روحه الشريفة الطاهرة إلى بارئها، توكل الله بحفظ دينه، وأوكل برفع قواعده رجالاً، حملوا أمر تلك الدولة التي وضع أسسها نبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأكملوا بكل ما آتاهم الله من قوة كتابة صحائف تاريخ الإسلام، فبلغ أمر الله شرق الأرض وغربها، ثم تحمل رجال آخرون مسئولية تدوين ما حدث في تلك القرون الماضية من خلافة وملك وما طرأ عليها من استقرار واضطراب، وما شهدت من بداية عهد قوم وانتهاء عهد آخرين. وممن قام بحمل هذه الأمانة الجليلة الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي الذي عنى بحفظ وتدوين تاريخ أمتنا الإسلامية في كتابه هذا الذي يبدأ بخلافة الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- وينتهي بعصر تأليف هذا الكتاب الذي سماه: تاريخ الخلفاء، وهو من الكتب الجليلة النافعة في هذا الميدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ولهذا رأت مكتبة نزار مصطفى الباز أن تعيد طباعة هذا الكتاب القيم فشرفتني بتكليفي بتحقيقه ليعم النفع جموع المسلمين وليزداد من أراد الاطلاع على تاريخ دولتنا الإسلامية معرفة بها وإدراكًا لجوانب قد تخفى عليه. 1- لما لم أقف على مخطوطة لهذا الكتاب، فقد قمت بمطابقة النسخ المطبوعة، واستخلصت منها هذه النسخة التي خرجت بهذه الصورة. 2- قمت بعمل ترجمة للمؤلف، وحرصت أن تكون على لسانه؛ ولذا نقلتها عنه متحدثًا عن نفسه. 3- قمت بتخريج الآيات القرآنية. 4- قمت بتخريج الأحاديث الواردة في الكتاب بعزوها إلى مخرجيها. 5- توضيح معاني الكلمات الغامضة والصعبة التي وردت في الكتاب. 6- عمل فهرس الكتاب. وأتركك عزيزي القارئ بين يدي الكتاب لتطالع ما أسهمت فيه من جهد متواضع بجانب ما بالكتاب من إبداع للمؤلف في سرد الحوادث التاريخية وترتيبها في إطار مادة علمية غزيرة، ومعرفة تاريخية واسعة. المحقق: حمدي الدمرداش محمد المنصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ترجمة المؤلف ... ترجمة الإمام السيوطي لم أقف على ترجمة للإمام السيوطي أوفى من ترجمته لنفسه في كتابه: حسن المحاضرة، حيث قال: "وإنما ذكرت ترجمتي في هذا الكتاب اقتداء بالمحدثين قبلي فقل أن ألف أحد منهم تاريخًا إلا ذكر ترجمته فيه، وممن وقع له ذلك الإمام عبد الغافر الفارسي في: تاريخ نيسابور، وياقوت الحموي في: معجم الأدباء، ولسان الدين ابن الخطيب في: تاريخ غرناطة، والحافظ تقي الدين الفارسي في: تاريخ مكة، والحافظ أبو الفضل بن حجر في: قضاة مصر، وأبو شامة في: الروضتين، وهو أورعهم وأزهدهم فأقول: أما جدي الأعلى همام الدين، فكان من أهل الحقيقية ومن مشايخ الطرق ومن دونه كانوا من أهل الوجاهة والرياسة، منهم من ولي الحكم ببلده، ومنهم من ولي الحسبة بها، ومنهم من كان تاجرًا في صحبة الأمير شيخون، وبنى مدرسة بأسيوط ووقف عليها أوقافًا، ومنهم من كان متمولاً ولا أعلم من خدم العلم حق خدمته إلا والدي. وأما نسبتنا بالخضيري فلا أعلم ما تكون إليه هذه النسبة إلا الخضيرية، محلة ببغداد، وقد حدثني من أثق به أنه سمع والدي -رحمه الله- يذكر أن جده الأعلى كان أعجميًّا، أو من الشرق، فالظاهر أن النسبة إلى المحلة المذكورة. وكان مولدي بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة وحملت في حياة أبي إلى الشيخ محمد المجذوب، رجل كان من كبار الأولياء بجوار المشهد النفيسي، فبرك علي، ونشأت يتيمًا فحفظت القرآن ولي دون ثماني سنين، ثم حفظت العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، وشرعت في الاشتغال بالعلم، من مستهل سنة أربع وستين فأخذت الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ، وأخذت الفرائض عن العلامة فرضى زمانه الشيخ شهاب الدين الشارمساحي الذي كان يقال: غنه بلغ السن العالية، وجاوز المائة بكثير -والله أعلم بذلك- قرأت عليه في شرحه على المجموع. وأجزت بتدريس اللغة العربية في مستهل سنة ست وستين، وقد ألفت في هذه السنة، فكان أول شيء ألفته: شرح الاستعاذة والبسملة، وأوقفت عليه شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البلقيني، فكتب عليه تقريظًا، ولازمته في الفقه إلى أن مات، فلازمت ولده، فقرأت عليه من أول التدريب لوالده إلى الوكالة، وسمعت عليه من أول الحاوي الصغير إلى العدد، ومن أول المنهاج إلى الزكاة، ومن أول التنبيه إلى قريب من الزكاة، وقطعة من الروضة، وقطعة من تكملة شرح المنهاج للزركشي، ومن إحياء الموات إلى الوصايا أو نحوها. وأجازني بالتدريس والإفتاء من سنة ست وسبعين، وحضر تصديري، فلما توفي لزمت شيخ الإسلام شرف الدين المناوي، فقرأت عليه قطعة من المنهاج، وسمعته عليه في التقسيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 إلى مجالس فاتتني، وسمعت دروسًا في شرح البهجة ومن حاشيته عليها ومن تفسير البيضاوي. ولزمت في الحديث والعربية شيخنا الإمام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي، فواظبت أربع سنين، وكتب لي تقريظًا على شرح ألفية ابن مالك وعلى جمع الجوامع في العربية تأليفي، وشهد لي غير مرة بالتقدم في العلوم بلسانه وبنانه، ورجع إلى قولي مجردًا في حديث، فإنه أورد في حاشيته على الشفاء حديث أبي الجمرا في الإسراء وعزاه إلى تخريج ابن ماجه، فاحتجت إلى إيراده بسنده، فكشفت ابن ماجه في مظنته فلم أجده فمررت على الكتاب كله فلم أجده فاتهمت نظري، فمررت مرة ثانية فلم أجده، فعدت ثالثة فلم أجده، ورأيته في معجم الصحابة لابن قانع، فجئت إلى الشيخ فأخبرته، فبمجرد ما سمع مني ذلك أخذ نسخته وأخذ القلم فضرب على لفظ: ابن ماجه، وألحق: ابن قانع، في الحاشية، فأعظمت ذلك وهبته لعظم منزلة الشيخ في قلبي واحتقاري في نفسي: فقلت: ألا تصبرون لعلكم تراجعون! فقال: إنما قلدت في قولي: ابن ماجه، البرهان الحلبي، ولم أنفك عن الشيخ إلى أن مات. ولزمت شيخنا العلامة أستاذ الوجود محيي الدين الكافينجي أربع عشرة سنة، فأخذت عنه الفنون من التفسير والأصول والعربية والمعاني وغير ذلك، وكتب لي إجازة عظيمة، وحضرت عند الشيخ سيف الدين الحنفي دروسًا عديدة في الكشاف والتوضيح وحاشيته عليه وتلخيص المفتاح والعضد. وشرعت في التصنيف في سنة ست وستين، وبلغت مؤلفاتي ثلاثمائة كتاب، سوى ما غسلته ورجعت عنه، وسافرت بحمد الله تعالى إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور ولما حججت شربت من ماء زمزم لأمور: منها أن أصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر. وأفتيت من مستهل سنة إحدى وسبعين، وعقدت إملاء الحديث من مستهل سنة اثنتين وسبعين، ورزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع على طريقة العرب والبلغاء، لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحدمن أشياخي فضلاً عمن دونهم. أما الفقه: فلا أقول ذلك فيه، بل شيخي فيه أوسع نظرًا، وأطول باعًا، ودون هذه السبعة في المعرفة: أصول الفقه والجدل والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض، ودونها القراءات، ولم آخذها عن شيخ، ودونها الطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأما علم الحساب: فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني، وإذا نظرت إلى مسألة تتعلق به، فكأنما أحاول جبلاً أحمله. وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى. أقول ذلك، تحدثًا بنعمة الله علي، لا فخرًا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيله بالفخر! وقد أزف الرحيل، وبدا الشيب، وذهب أطيب العمر، ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفًا بأقوالها وأدلتها العقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله، لا بحولي ولا بقوتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وقد كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئًا في المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت ابن الصلاح أفتى بتحريمه فتركته لذلك فعوضني الله تعالى عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم. وأما مشايخي في الرواية سماعًا وإجازة فكثير، أوردتهم في المعجم الذي جمعتهم فيه، وعدتهم نحو مائة وخمسين، ولم أكثر من سماع الرواية؛ لاشتغالي بما هو أهم، وهو قراءة الدراية1.   1 حسن المحاضرة "1: 533-933". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 خطبة المؤلف وفيها بيان الداعي إل تأليف الكتاب ... خطبةالمؤلف وفيها بيان الداعي إلى تأليف الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله الذي وعد فوفى، وأوعد فعفا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الشرفاء، ومسود الخلفاء، وعلى آله وصحبه أهل الكرم والوفاء؛ فهذا تاريخ لطيف ترجمت فيه الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الأمة، من عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى عهدنا هذا، على ترتيب زمانهم الأول فالأول، وذكرت في ترجمة كل منهم ما وقع أيامه من الحوادث المستغربة، ومن كان في أيامه من أئمة الدين وأعلام الأمة. منها: أن الإحاطة بتراجم أعيان الأمة مطلوبة، ولذوي المعارب محبوبة، وقد جمع جماعة تواريخ ذكروا فيها الأعيان مختلطين ولم يستوفوا، واستيفاء ذلك يوجب الطول والملال، فأردت أن أفرد كل طائفة في كتاب أقرب إلى الفائدة لمن يريد تلك الطائفة خاصة، وأسهل في التحصيل، فأفردت كتابًا في الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- وكتابًا في الصحابة ملخصًا من: الإصابة، لشيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر1، وكتابًا حافلاً في طبقات المفسرين، وكتابًا وجيزًا في طبقات الحفاظ لخصته من طبقات الذهبي2، وكتابًا جليلاً في طبقات النحاة واللغوين لم يؤلف قبله مثله، وكتابًا في طبقات الأصوليين، وكتابًا جليلاً في طبقات الأولياء، وكتابًا في طبقات الفرضيين، وكتابًا في طبقات البيانيين، وكتابًا في طبقات الكتَّاب -أعني أرباب الإنشاء- وكتابًا في طبقات أهل الخط المنسوب، وكتابًا في شعراء العرب الذين يحتج بكلامهم في العربية. وهذه تجمع غالب أعيان الأمة، واكتفيت في طبقات الفقهاء بما ألفه الناس في ذلك؛ لكثرته والاستغناء به، وكذلك اكتفيت في القراء بطبقات الذهبي، وأما القضاة فهم داخلون فيمن تقدم؛ ولم يبق من الأعيان غير الخلفاء مع تشوق النفوس إلى أخبارهم؛ فأفردت لهم هذا الكتاب، ولم أورد أحدًا مما ادَّعى الخلافة خروجًا ولم يتم له الأمر ككثير من العلويين وقليل من العباسيين. ولم أورد أحدًا من الخلفاء العبيديين؛ لأن إمامتهم غير صحيحة، لأمور: منها: أنهم غير قرشيين. وإنما سَمّتهم بالفاطميين جهَلة العوام، وإلا فجدهم مجوسي،   1 هو: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد الكناني العسقلاني ثم المصري الشافعي، شيخ الإسلام وإمام الحفاظ في زمانه، وحافظ الديار المصرية، قاضي القضاة ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وعانى أولاً الأدب والشعر فبلغ فيه، ثم طلب الحديث من سنة أربع وتسعين وسبعمائة فسمع الكثير، وصنّف التصانيف التي عمّ النف بها كـ "شرح البخاري" و"تهذيب التهذيب" و "تقريب التهذيب" و"الإصابة في معرفة الصحابة". توفي في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة. 2 هو: الإمام الحافظ المحدث، خاتمة الحفاظ، ومؤرخ الإسلام، وفرد الدهر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني ثم الدمشقي المقرئ، ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وطلب الحديث وله ثماني عشرة سنة، فسمع الكثير ورحل وعنى بهذا الشأن إلى أن رسخت فيه قدمه وتعب فيه وخدمه. من مؤلفاته: "طبقات الحفاظ" و"مختصر تهذيب الكمال" و"المغني" وغيرها توفي الذهبي يوم الاثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة بدمشق وأضر قبل موته بيسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قال القاضي عبد الجبار البصري: اسم جد الخلفاء المصريين سعيد، وكان أبوه حدادًا يهوديًّا نشابة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: القدّاح جد عبيد الله الذي يسمى بالمهدي كان مجوسيًّا، ودخل عبيد الله المغرب، وادّعى أنه علوي ولم يعرفه أحد من علماء النسب، وسَمّاهم جهلة الناس الفاطميين، وقال ابن خَلِّكان: أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله جد خلفاء مصر، حتى إن العزيز بالله بن المعز في أول ولايته صعد المنبر يوم الجمعة فوجد هناك ورقة فيها هذه الأبيات: إنا سمعنا نسبًا منكرًا ... يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما تدعي صادقًا ... فاذكر أبًا بعد الأب السابع وإن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع أولاً دع الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع فإن أنساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع وكتب العزيز إلى الأموي صاحب الأندلس كتابًا سبه فيه وهجاه، فكتب إليه الأموي: "أما بعد: فإنك قد عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لأجبناك" فاشتد ذلك على العزيز، فأفحمه عن الجواب -يعني أنه دعيٌ لا تعرف قبيلته. قال الذهبي: المحققون متفقون على أن عبيد الله المهدي ليس بعلوي، وما أحسن ما قاله حفيده المعز صاحب القاهرة -وقد سأله طباطبا العلوي عن نسبهم- فجذب نصف سيفه من الغمد وقال: هذا نسبي، ونثر على الأمراء والحاضرين وقال: هذا حسبي. ومنها: أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سبّ الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له، والْخَيِّرُ منهم رافضي1 خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة -رضي الله عنهم- ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة، ولا تصح لهم إمامة. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: كان المهدي عبيد الله باطنيًّا2 خبيثًا حريصًا على إزالة   1 هم: الذين كانوا مع زيد بن علي ثم تركوه؛ لأنهم طلبوا إليه أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: لقد كانا وزيري جدي فلا أتبرأ منهما، فرفضوه وتفرقوا عنه والزيدية من الشيعة، وقد يطلق بعض الناس اسم الرفض على كل من يتولى أهل البيت. 2 فرق الباطنية من أشد الفرق ضررًا على المسملين بل هي أشد ضررًا من اليهود والنصارى والمجوس وقد أسس دعوة الباطنية جماعة منهم: "ميمون بن ديصان" المعروف بالقدّاح، وكان مولى لجعر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز، ومنهم محمد بن الحسين الملقب بدندان وقد اجتمعوا مع ميمون بن ديصان في سجن والي العراق فأسسوا في ذلك السجن مذاهب الباطنية، ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن، وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، وقد انتشرت دعوتهم، ولم يمكنهم إظهار عبادة النيران فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تجمر المساجد كلها، وقد قال عنهم صاحب "الفرق بين الفرق": هم أعظم ضررًا من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء؛ ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمر والفروج، وأشاعوا الرفض. وقال الذهبي: كان القائم بن مهدي شرًّا من أبيه، زنديقًا، معلونًا، أظهر سب الأنبياء وقال: وكان العبيديون على ملة الإسلام شرًّا من التتر. وقال أبو الحسن القابسي: إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعبّاد أربعة آلاف رجل ليردوهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فياحبذا لو كان رافضيًّا فقط، ولكنه زنديق. وقال القاضي عياض: سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد -يعني خلفاء مصر- على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال: يختار القتل، ولا يعذر أحد في هذا الأمر، كان أول دخولهم قبل أن يعرف أمرهم، وأما بعد فقد وجب الفرار؛ فلا يعذر أحد بالخوف من إقامته؛ لأن المقام في موضع يطلب من أهل تعطيل الشرائع لا يجوز، وإنما قام من أقام من الفقهاء على المباينة؛ لئلا تخلو للمسلمين حدودهم فيفتنوهم عن دينهم. وقال يوسف الرعيني: أجمع العلماء بالقيروان على أن حال بين عبيد حال المرتدين والزنادقة؛ لما أظهروا من خلاف الشريعة. وقال ابن خَلِّكَان: وقد كانوا يدعون علم المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة، حتى إن العزيز صعد المنبر يومًا فرأى ورقة فيها مكتوب: بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة إن كنت أعطيت علم الغيب ... بَيِّن لنا كاتب البطاقة وكتبت إليه امرأة قصة فيها: بالذي أعز اليهود بميشا، والنصارى بابن نسطورا، وأذل المسلمين بك، إلا نظرت في أمري، وكان ميشا اليهودي عاملاً بالشام، وابن نسطورا النصراني بمصر. ومنها: أن مبايعتهم صدرت والإمام العباسي قائم موجود سابق البيعة فلا تصح؛ إذ لا تصح البيعة لإمامين في وقت واحد، والصحيح المتقدم. ومنها: أن الحديث ورد بأن هذا الأمر إذا وصل إلى بني العباس لا يخرج عنهم حتى يسلموه إلى عيسى ابن مريم أو المهدي؛ فعلم أن من تسمَّى بالخلافة مع قيامهم خارج باغ. فلهذه الأمور لم أذكر أحدًا من العبيديين ولا غيرهم من الخوارج، وإنما ذكرت الخليفة المتفق على صحة إمامته وعقد بيعته، وقد قدمت في أول الكتاب فصولاً فيها فوائد مهمة، وما أوردته من الوقائع الغريبة، والحوادث العجيبة، فهو ملخص من تاريخ الحافظ الذهبي، والعهدة في أمره عليه والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فصل: في بيان كونه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وسر ذلك قال البزار في مسنده: حدثنا عبد الفتاح بن وضاح الكوفي، حدثنا يحيى بن اليماني، حدثنا إسرائيل، عن أبي اليقظان، عن أبي وائل عن حذيفة، قال: قالوا: يا رسول الله ألا تستخلف علينا؟ قال: "إني أستخلف عليكم فتعصون خليفتي ينزل عليكم العذاب" أخرجه الحاكم في المستدرك1، وأبو اليقظان ضعيف. وأخرج الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم2. وأخرج أحمد والبيقهي في دلائل النبوة بسند حسن عن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر على يوم الجمل قال: أيها الناس، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئًا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقوامًا طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها. وأخرج الحاكم في المستدرك، وصححه البيهقي في الدلائل، عن أبي وائل قال: قيل لعلي: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم3. قال الذهبي: وعند الرافضة أباطيل في أنه عهد إلى علي -رضي الله عنه- وقد قال هذيل بن شرحبيل: أكان أبو بكر يتأمر على علي وصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وود أبو بكر أنه وجد عهدًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخزم4 أنفه بخزام؟. أخرجه ابن سعد، والبيهقي في الدلائل5. وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: قال علي: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قدم أبا بكر في الصلاة؛ فرضينا لدنيانا عمن رضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه لديننا؛ فقدمنا أبا بكر. وقال البخاري في تاريخه: روي عن ابن جمهان عن سفينة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "70/3" عن حذيفة. وقال الحاكم: عثمان بن عمير هذا أبو اليقظان. وقال الذهبي: ضعفوه، وشريك لين الحديث. 2 [متفق عليه] أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب الاستخلاف "7218/13"، ومسلم "1823/3". 3 أخرجه الحاكم في المستدرك "79/3"، والبيهقي في دلائل النبوة "223/7" عن أبي وائل. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 4 خزم: البعير بالخزامة وهي حلقة من شعر تجعل في وترة الأنف يشد فيها الزمام، ويقال لكل مثقوب: مخزوم. 5 أخرجه ابن سعد في الطبقات "529/1"، والبيهقي في دلائل النبوة "223/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وعمر وعثمان: هؤلاء الخلفاء بعدي قال البخاري: ولم يتابع على هذا؛ لأن عمر وعليًّا عثمان قالوا: لم يستخلف النبي -صلى الله عليه وسلم- انتهى. والحديث المذكور أخرجه ابن حبان قال: حدثنا أبو يعلى، حدثنا يحيى الجماني حدثنا حشرج عن سعيد بن جهمان عن سفينة: لما بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد وضع في البناء حجرًا وقال لأبي بكر: "ضع حجرك إلى جنب حجري". ثم قال لعمر: "ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر". ثم قال لعثمان: "ضع حجرك إلى جنب حجر عمر". ثم قال: "هؤلاء الخلفاء بعدي" قال أبو زرعة: إسناده لا بأس به، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه البيهقي في الدلائل وغيرها1. قلت: ولا منافاة بينه وبين قول عمر وعلي: إنه لم يستخلف؛ لأن مرادهما أنه عند الوفاة لم ينص على استخلاف أحد، وهذا إشارة وقعت قبل ذلك؛ فهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" 2 أخرجه الحاكم من حديث العرباض بن سارية، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 3 وغير ذلك من الأحاديث المشيرة إلى الخلافة.   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "13/3"، والبيهقي في دلائل النبوة "553/2" عن سفينة. وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "75/2" عن حذيفة بن اليمان. وقال الحاكم: صحيح. ووافقه الذهبي. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك "96،95/1" عن العرباض بن سارية. وقال الحاكم: صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فصل: في بيان أن الأئمة من قريش والخلافة فيهم قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا سكين بن عبد العزيز عن سيار بن سلامة عن أبي برزة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأئمة من قريش ما حكموا فعدلوا، ووعدوا فوفوا، واسترحموا فرحموا" أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى في مسنديهما والطبراني4. وقال الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا زيد بن الحباب حدثنا معاوية بن صالح حدثنا أبو مريم الأنصاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الملك في قريش، والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة" 5 إسناده صحيح. وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا الحاكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح عن كثير بن مرة عن عتبة بن عبدان، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة" 6 رجاله موثقون.   4 أخرجه أحمد في المسند "421/4"، وأبو يعلى في مسنده "3644/6"، والطبراني في الكبير "725/1". 5 أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب في فضل اليمن "3936/5" عن أبي هريرة. 6 أخرجه أحمد في المسند "185/4" عن عتبة بن عبدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقال البزار: حدثنا إبراهيم بن هانئ حدثنا الفيض بن الفضل حدثنا مسعر عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن ربيعة بن ماجد عن علي بن أبي طالب، قال صلى الله عليه سلم: "الأمراء من قريش، أبرارها أمراء أبرارها، وفجّارها أمراء فجارها" 1.   1 أخرجه البزار في مسنده "759/2" عن علي بن أبي طالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فصل: في مدة الخلافة في الإسلام قال الإمام أحمد: حدثنا بهزّ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا سعيد بن جمهان عن سفينة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الخلافة ثلاثون عامًا، ثم يكون بعد ذلك الملك2". أخرجه أصحاب السنن، وصححه ابن حبان وغيره. قال العلماء: لم يكن في الثلاثين بعده صلى الله عليه وسلم إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن. وقال البزار: حدثنا محمد بن سكين حدثنا يحيى بن حسان حدثنا يحيى بن حمزة عن مكحول عن أبي ثعلبة عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول دينكم بدء نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا وجبرية" 3. حديث حسن. وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا ابن عون، عن الشعبي عن جابر بن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال هذا الأمر عزيزًا، ينصرون على من ناوأهم4 عليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش5". أخرجه الشيخان وغيرهما، وله طرق وألفاظ منها: "لا يزال هذا الأمر صالِحًا"، ومنها: "لا يزال الأمر ماضيًا" رواهما أحمد6، ومنها عند مسلم: "لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلاً" 7، ومنها عنده: "إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي له فيهم اثنا عشر خليفة" 8، ومنها عنده: "لا يزال الإسلام عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفة" 9. ومنها عند البزار: "لا يزال أمر أمتي قائمًا حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" 10، ومنها عند أبي داود زيادة: "فلما رجع إلى منزله أتته قريش قالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: "ثم   2 أخرجه أبو داود "4646/4"، والترمذي "2226/4"، والنسائي في الكبرى "8155/5" عن سفينة. 3 أخرجه البزار في مسنده "1282/4" عن عبيدة بن الجراح. 4 ناوأ: أي عادى وفاخر، وناهض، يقال: ناوأت الرجل نواءً ومناوأة إذا عاديته. 5 أخرجه البخاري "7223،7222/13"، ومسلم "9/3 إمارة". 6 أخرجه أحمد في مسنده "98/5". 7 أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش "6/3 إمارة". 8 أخرجه مسلم في نفس المصدر السابق "1821/3". 9 أخرجه مسلم في نفس المصدر السابق "8/3 إمارة". 10 أخرجه البزار "190/5" مجمع. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجال الطبراني رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يكون الهرج1"2، ومنها عنده: "لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع الأمة عليه" 3 وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود: أنه سئل: كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم فقال: "اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل" 4. قال القاضي عياض: لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة، وقوة الإسلام، واستقامة أموره، والاجتماع على من يقوم بالخلافة، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم. قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري: كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه؛ لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: "كلهم يجتمع عليه الناس"، وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، إلى أن وقع أمر الحكمين5 في صفين فتسمّى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين أمر، بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك: اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولى نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن، وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك؛ لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فقتله مروان، ثم ثار على مروان بنو العباس إلى أن قتل. ثم كان أول خلفاء بني العباس السفاح، ولم تطل مدته مع كثرة من ثار عليه، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الاسم في البلاد، بعد أن كان في أيام   1 الْهَرَج: القتال والاختلاط، وقد هرج الناس يهرجون هرجًا إذا اختلطوا، وقد تكرر في الحديث وأصل الهرج: الكثرة في الشيء والاتساع وفيه: "بين يدي الساعة هرج". 2 أخرجه أبو داود في كتاب المهدي "4281/4". 3 أخرجه أبو داود نفس المصدر السابق "4279/4". 4 أخرجه أحمد في المسند "398/1"، والبزار في مسنده "190/5 مجمع" وقال الهيثمي: وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. 5 هما: عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع الأقطار من الأرض شرقًا وغربًا يمينًا وشمالًا مما غلب عليه المسملون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة. ومن انفراط الأمر أنه كان في المائة الخامسة بالأندلس وحدها ستة أنفس كلهم يتسمّى بالخلافة، ومعهم صاحب مصر العبيدي والعباسي ببغداد خارجًا عمن كان يدعي الخلافة في أقطار الأرض من العلوية والخوارج1. قال: فعلى هذا التأويل يكون المراد بقوله: "ثم يكون الهرج" يعني القتل الفاشي عن الفتن وقوعًا فاشيًا، ويستمر ويزداد، وكذا كان. وقيل: إن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم، ويؤيد هذا ما أخرجه مسدد في مسنده الكبير عن أبي الخلد أنه قال: "لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم" وعلى هذا فالمراد بقوله: "ثم يكون الهرج" أي: الفتن المؤذنة بقيام الساعة: من خروج الدّجال، وما بعده، انتهى. قلت: وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر خليفة الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهتدى من العباسيين؛ لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران أحدهما المهدي؛ لأنه من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم.   1 الخوارج: هم الذين أنكروا على علي -رضي الله عنه- التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان -رضي الله عنه- ومن ذريته وقاتلوه، فإن أطلقوا تكفيره فهم الغلاة منهم. "هدى الساري: 459". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فصل: في الأحاديث المنذرة بخلافة بني أمية قال الترمذي: حدثنا محمد بن غيلان حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا القاسم بن الفضل المدني عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: سوَّدت وجوه المؤمنين، فقال: لا تؤنبني رحمك الله؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1] ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3] يملكها بعدك بنو أمية يا محمد، قال القاسم: فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد ولا تنقص، قال الترمذي2: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم، وهو ثقة، ولكن شيخه مجهول، وأخرج هذا الحديث الحاكم في مستدركه، وابن جرير في تفسيره، قال الحافظ أبو الحجاج المزي: وهو حديث منكر، وكذا قال ابن كثير.   2 أخرجه الترمذي "3350/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقال ابن جرير في تفسيره، حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة، حدثت عن المهيمن بن عباس بن سهل حدثني أبي عن جدي، قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني الحكم بن أبي العاص ينزون1 على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكًا حتى مات، وأنزل الله في ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاس} [الإسراء: 60] إسناده ضعيف، ولكن له شواهد من حديث عبد الله بن عمر، ويعلى بن مرة، والحسين بن علي، وغيرهم، وقد أوردتها بطرقها في كتاب التفسير والمسند، وأشرت إليها في كتاب أسباب النزول.   1 ينزون: يقال نزوت على الشيء أنزو نزوًا إذا وثبت عليه، والتنزي أيضًا تسرع الإنسان إلى الشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فصل: في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس قال البزار: حدثنا يحيى بن يعلى بن منصور حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فدَيْك عن محمد بن عبد الرحمن العامري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: "فيكم النبوة والمملكة"2. العامري ضعيف، وقد أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، وابن عدي في الكامل، وابن عساكر من طرق عن ابن أبي فدَيْك. وقال الترمذي: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن ثور بن يزيد عن مكحول عن كريب عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: "إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك، حتى أدعو لهم بدعوة ينفعك الله بها وولدك"، فغدا وغدونا معه، وألبسنا كساء ثم قال: "اللهم اغفر للعباس ولولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبًا، اللهم احفظه في ولده" 3 هكذا أخرجه الترمذي في جامعه، وزاد رزين العبدري في آخره: "واجعل الخلافة باقية في عقبه" 4. قلت: هذا الحديث والذي قبله أصلح ما ورد في هذا الباب. وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثنا إسحاق عن إبراهيم بن أبي النضر عن يزيد بن ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت بني مروان يتعاورون5 على منبري، فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون على منبري، فسرني ذلك" 6. وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن المظفر، حدثنا عمر بن الحسن بن علي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبيد، حدثنا محمد بن صالح العدوي، حدثنا ابن جعفر التميمي،   2 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "517/6"، وابن عساكر في تاريخه "246/7". 3 أخرجه الترمذي "3762/5" وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. 4 باقية في عقبه: العقب: مؤخر القدم، انظر: القاموس المحيط "110/1" عقب. 5 يتعاورون: أي يختلفون ويتناوبون كلما مضى واحد خلفه آخر، وفيه الحديث المذكور. 6 أخرجه الطبراني في الكبير "1425/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العميّ، أخبرني علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلقّاه العباس، فقال: "ألا أبشرك يا أبا الفضل؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: "إن الله افتتح بي هذا الأمر، وبذريتك يختمه"1 إسناده ضعيف. وقد ورد من حديث علي بإسناد أضعف من هذا: أخرجه ابن عساكر من طريق محمد يونس الكديمي -وهو وضاع- عن إبراهيم بن سعيد الأشقر عن خليفة عن أبي هاشم عن محمد ابن الحنفية عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للعباس: "إن الله فتح هذا الأمر بي، ويختمه بولدك". وورد أيضًا من حيث ابن عباس أخرجه الخطيب في التاريخ ولفظه: "بكم يفتح هذا الأمر، وبكم يختم"2 وسيأتي بسنده في ترجمة المهتدي بالله، وورد أيضًا من حديث عمار بن ياسر أخرجه الخطيب. وقال في الحلية: حدثنا محمد بن المظفر، حدثنا نصر بن محمد، حدثنا علي بن أحمد السواق، حدثنا عمر بن راشد، حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح، عن أبيه عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون من ولد العباس ملوك تكون أمراء أمتي، يعز الله بهم الدين"3 عمر بن راشد ضعيف. وقال أبو نعيم في الدلائل: حدثنا الحسن بن إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا المنتصر بن نصر بن المنتصر، حدثنا أحمد بن راشد بن خثيم، ثنا عمي سعيد بن خثيم عن حنظلة عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حدثتني أم الفضل -رضي الله عنها- قالت: مررت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنك حامل بغلام، فإذا ولدت فأتيني به"، فلما ولدته أتيت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وألبأه4 من ريقه، وسماه عبد الله، وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء"، فأخرت العباس -وكان رجلاً لبّاسًا- فلبس ثيابه، ثم أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما بصر به قام فقبَّل بين عينيه، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هو ما أخبرتك، هو ابن الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم عليه السلام". وقال الديلمي في مسند الفردوس: أخبرنا عبدوس بن عبد الله كتابة، أخبرنا الحسين بن فتحويه حدثنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب المقري، حدثنا العباس بن علي النسائي، حدثنا يحيى بن يعلى الرازي، حدثنا سهل بن تمام، حدثنا الحارث بن شبل، حدثنا أم النعمان عن   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "315/1". 2 أخرجه الخطيب في تاريخه "117/4". 3أخرجه أبو نعيم في الحلية "316/1". 4 ألبأه من ريقه: أي صب ريقه في فيه، كما يصب اللبأ في فم الصبي، وهو أول ما يحلب عند الولادة، ولبأت الشاة ولدها: أرضعته اللبأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "سيكون لبني العباس راية، ولن تخرج من أيديهم ما أقاموا الحق" 1. وقال الدارقطني في الأفراد: حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي، حدثنا محمد بن هارون السعدي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الأنصاري، عن أبي يعقوب بن سليمان الهاشمي، قال: سمعت المنصور يقول: حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للعباس: "إذا سكن بنوك السواد، ولبسوا السواد، وكان شيعتهم أهل خراسان، لم يزل الأمر فيهم حتى يدفعوه إلى عيسى ابن مريم"2. أحمد بن إبراهيم ليس بشيء وشيخه مجهول، والحديث ضعيف، حتى إن ابن الجوزي ذكره في الموضوعات، وله شاهد أخرجه الطبراني في الكبير عن أحمد بن داود المكي عن محمد بن إسماعيل بن عون النيلي عن الحارث بن معاوية بن الحارث عن أبيه عن جده أبي أمه عن سلمة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "الخلافة في ولد عمي وصنو أبي3 حتى يسلموها إلى المسيح". وأخرجه الديلمي من وجه آخر عن أم سلمة رضي الله عنها. وقال العقيلي في كتاب الضعفاء: حدثنا أحمد بن محمد النصيبي، حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي، حدثنا أحمد بن سعيد الجبيري، حدثنا عبد العزيز بن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده أبي بكرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "يلي ولد العباس من كل يوم تليه بنو أمية يومين، ومن كل شهر شهرين"4. هذا حديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات وأعله ببكار، وليس كما قال، فإن بكارًا لم يتهم بكذب ولا وضع، بل قال فيه ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، ثم قال: وأرجو أنه لا بأس به، ولعمري فليس معنى الحديث ببعيد؛ فإن دولة العباسيين في حال علوها ونفوذ كلمتها في أقطار الأرض شرقًا وغربًا ما عدا أقصى المغرب، كانت من سنة بضع وثلاثين ومائة إلى سنة بضع وتسعين ومائتين، حتى تولى المقتدر، وفي أيامه انخرم النظام، وخرجت المغرب بأسرها عن أمره، ثم تتابع الفساد والاختلال في دولته وبعده كما سيأتي، فكانت أيام شموخ دولتهم ومملكتهم مائة وبضعًا وستين سنة، وهي ضعف أيام بني أمية الشامخة؛ فإنها كانت اثنتين وتسعين سنة، منها تسع سنين الأمر فيها لابن الزبير، فصفت ثلاثة وثمانين وكسرًا، وهي ألف شهر سواء. ثم وجدت للحديث شاهدًا، قال الزبير بن بكار في الموفقيات: حدثني علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال لمعاوية: لا تملكون يومًا إلا ملكنا يومين، ولا شهرًا إلا ملكنا شهرين، ولا حولاً إلا ملكنا حولين.   1 أخرجه الديلمي في مسند الفردوس "ح3442". 2 الموضوعات لابن الجوزي "344/1" 3 صنو أبي: الصنو: المثل، وفي رواية: "العباس صنوي" يريد أن أصل العباس وأصل أبي واحد. 4 أخرج العقيلي في الضعفاء "5/3". وابن الجوزي في الموضوعات "345/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقال الزبير في الموفقيات: حدثني علي بن المغيرة عن ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: الرايات السود لنا أهل البيت، وقال: لا يجيء هلاكها إلا من قبل المغرب. وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق: أنبأنا أبو القاسم بن بنان، أخبرنا أبو علي بن شاذان، حدثنا جعفر بن محمد الواسطي، حدثنا محمد بن يوسف الكديمي، حدثنا عبد الله بن سوار العنبري، حدثنا أبو الأشهب جعفر بن حيان، عن أبي رجاء العطاردي، عن عبد الله بن عباس، عن أبيه -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "اللهم انصر العباس وولد العباس"، قالها ثلاثًا، ثم قال: "يا عم، أما شعرت أن المهدي من ولدك موفقًا راضيًا مرضيًّا"1 ال كديمي وضّاع. وقال ابن سعد في الطبقات: حدثنا ابن عمر، حدثنا عمر بن عقبة الليثي، عن شعبة مولى ابن العباس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أرسل العباس بن عبد المطلب إلى بني عبد المطلب، فجمعهم عنده، وكان علي عنده بمنزلة لم يكن أحد بها، فقال العباس: يابن أخي، إن قد رأيت رأيًا لم أحب أن أقطع فيه شيئًا حتى أستشيرك، فقال علي: ما هو؟ قال: تدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله: إلى من هذا الأمر من بعده؟ فإن كان فينا لم نسمله والله ما بقي في الأرض منا طارق، وإن كان في غيرنا لم نطلبها بعد أبدًا، قال علي: يا عم، وهل هذا الأمر إلا إليك؟ وهل أحد ينازعكم في هذا الأمر؟ 2. فصل قال الديلمي في مسند الفردوس: أخبرنا أبو منصور بن خيرون، حدثنا أحمد بن علي، حدثنا بشرى بن عبد الله الرومي، حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر الفامي -يعرف بغندر- قال: قرئ على أبي شاكر مسرة بن عبد الله: حدثنا الحسن بن يزيد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا الأعمش، حدثنا إبراهيم بن جعفر الأنصاري، حدثنا أنس بن مالك مرفوعًا: "إذا أراد الله أن يخلق خلقًا للخلافة مسح على ناصيته بيمينه". مسرّة ذاهب الحديث متروك، وقد ورد من حديث أبي هريرة، أخرجه الديلمي من ثلاث طرق، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، وأخرجه الحاكم في مستدركه3، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.   1 أخرجه ابن عساكر في تاريخه "237/7". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "518/1". 3 أخرجه الحاكم في المستدرك "331/3". قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم كلهم هاشميون معروفون بشرف الأصل. وقال الذهبي ليسوا بمعتمدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فصل: في شأن البردة النبوية التي تداولها الخلفاء إلى آخر وقت أخرج السلفي في الطوريات بسنده إلى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن كعب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 زهير -رضي الله عنه- لما أنشد النبي -صلى الله عليه وسلم- قصيدته -بانت سعاد- رمى إليه ببردة كانت عليه، فلما كان زمن معاوية -رضي الله عنه- كتب إلى كعب؛ بعنا بردة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعشرة آلاف درهم. فأبى عليه، فلما مات كعب بعث معاوية إلى أولاده بعشرين ألف درهم، وأخذ منهم البردة التي هي عند الخلفاء آل العباس، وهكذا قال خلائق آخرون. وأما الذهبي فقال في تاريخه: أما البردة التي عند الخلفاء آل العباس فقد قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، في قصة غزوة تبوك: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى أهل أيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أمانًا لهم، فاشتراها أبو العباس السفاح بثلاثمائة دينار. قلت: فكانت التي اشتراها معاوية فقدت عند زوال دولة بني أمية. وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في الزهد1، عن عروة بن الزبير رضي الله عنه: أن ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يخرج فيه للوفد رداء حضرمي طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق وطووه بثياب تلبس يوم الأضحى والفطر. في إسناده ابن لهيعة. وقد كانت هذه البردة عند الخلفاء يتوارثونها ويطرحونها على أكتافهم في المواكب جلوسًا وركبوا، وكانت على المقتدر حين قتل، وتلوثت بالدم، وأظن أنها فقدت في فتنة التتار فإنا لله وإنا إليه راجعون.   1 أخرجه أحمد بن حنبل في الزهد "ص: 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فصل: في فوائد منثورة تقع في التراجم ولكن ذكرها في موضع واحد أنسب وأفيد قال ابن الجوزي: ذكر الصولي أن الناس يقولون، إن كل سادس يقوم للناس يخلع، قال: فتأملت هذا فرأيته عجبًا، اعتقد الأمر لنبينا -صلى الله عليه وسلم- ثم قام به بعده أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والحسن فخلع؛ ثم معاوية، ويزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وعبد الملك بن مروان، وابن الزبير فخلع؛ ثم الوليد، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد، وهشام، والوليد فخلع، ثم لم ينتظم لبني أمية أمر، فولي السفاح، والمنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين فخلع، ثم المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين فخلع، ثم المعتز، والمهتدي، والمعتمد، والمعتضد، والمستكفي، والمقتدر، فخلع مرتين ثم قتل؛ ثم القاهر، والراضي، والمتقي، والمستكفي، والمطيع، والطائع فخلع، ثم القادر، والقائم، والمقتدي، والمستظهر، والمسترشد، والراشد فخلع، هذا آخر كلام ابن الجوزي، قال الذهبي: وما ذكره ينخرم بأشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أحدهما: قوله وعبد الملك، وابن الزبير، وليس الأمر كذلك، بل الزبير خامس، وبعده عبد الملك، أوكلاهما خامس، أو أحدهما خليفة، والآخر خارج؛ لأن ابن الزبير سابق البيعة عليه، وإنما صحت خلافة عبد الملك من حين قتل ابن الزبير. والثاني: تركه لعدّ يزيد الناقص وأخيه إبراهيم الذي خلع ومروان، فيكون الأمين باعتبار عددهم تاسعًا. قلت: قد تقدم أن مروان ساقط من العدد؛ لأنه باغ، ومعاوية بن يزيد كذلك؛ لأن ابن الزبير بويع له بعد موت يزيد، وخالف عليه معاوية بالشام فهما واحد، وإبراهيم الذي بعد يزيد الناقص لم يتم له أمر؛ فإن قومًا بايعوه بالخلافة، وآخرين لم يبايعوه، وقوم كانوا يدعونه بالإمارة دون الخلافة، ولم يقم سوى أربعين يومًا أو سبعين يومًا؛ فعلى هذا مروان الحمار سادس؛ لأنه الثاني عشر من معاوية، والأمين بعده سادس. والثالث: أن الخلع ليس مقتصرًا على كل سادس؛ فإن المتعزر خلع، وكذا القاهر، والمتقي، والمستكفي. قلت: لا انخرام1 بهذا؛ فإن المقصود أن السادس لابد من خلعه، ولا ينافي هذا كون غيره أيضًا يخلع. ويقال زيادة على ما ذكره ابن الجوزي: ولي بعد الراشد المقتفي، والمستنجد، والمستضيء، والناصر، والظاهر، والمستنصر، وهو السادس فلم يخلع، ثم المستعصم، وهو الذي قتله التتار، وكان آخر دولة الخلفاء، وانقطعت الخلافة بعده إلى ثلاث سنين ونصف ثم أقيم بعده المستنصر فلم يُقم في الخلافة، بل بويع بمصر، وسار إلى العراق، فصادف التتار فقتل أيضًا، وتعطلت الخلافة بعده سنة، ثم أقيمت الخلافة بمصر، فأولهم الحاكم ثم المستكفي، ثم الواثق، ثم الحاكم، ثم المعتضد، ثم المتوكل وهو السادس فخلع، وولي المعتصم، ثم خلع بعده بخمسة عشر يومًا، وأعيد المتوكل ثم خلع، وبويع الواثق، ثم المعتصم، ثم خلع وأعيد المتوكل، فاستمر إلى أن مات، ثم المستعين، ثم المعتضد، ثم المستكفي، ثم القائم، وهو السادس من المعتصم ومن المعتصم الثاني فخلع، ثم المستنجد خليفة العصر، وهو الحادي والخمسون من خلفاء بني العباس. فوائد 1- يقال: لبني العباس فاتحة، وواسطة، وخاتمة؛ فالفاتحة المنصور، والواسطة المأمون، والخاتمة المعتضد. 2- خلفاء بني العباس كلهم أبناء سرَاري، إلا السفاح، والمهدي، والأمين. 3- ولم يل الخلافة هاشمي ابن هاشمية إلا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وابنه الحسن، والأمين، قاله الصولي.   1 أي: لا انقطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 4- ولم يل الخلافة من اسمه علي إلا علي بن أبي طالب، وعلي المكتفي. 5- قال الذهبي: قلت: غالب أسماء الخلفاء أفراد، والمثنى منهم قليل والمتكرر كثير: عبد الله، وأحمد، ومحمد، وجميع ألقاب الخلفاء أفراد إلى المستعصم آخر خلفاء العراقيين. ثم كررت الألقاب في الخلفاء المصريين، فكرر المستنصر، والمستكفي، والواثق، والحاكم، والمعتضد، والمتوكل، والمستعصم، والمستعين، والقائم، والمستنجد، وكلها لم يتكرر غير مرة واحدة إلا المستكفي، والمعتضد فكررا مرة أخرى؛ فتلقب بهما من الخلفاء العباسيين ثلاثة، ولم يتلقب أحد من خلفاء بني العباس بلقب أحد من بني عبيد إلا القائم، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، وأما المهدي والمنصور فسبق التلقب به لبني العباس قبل وجود بني عبيد. قال بعضهم: وما تلقب أحد بالقاهر فأفلح، لا من الخلفاء ولا من الملوك. قلت: وكذا المستكفي والمستعين، لقب بكل منهما اثنان من بني العباس فخلعا ونفيا. والمعتضد من أجلّ الألقاب وأبركها لمن يلقب به. 6- ولم يل الخلافة أحد بعد ابن أخيه إلا المقتفي بعد الراشد، والمستنصر بعد المعتصم، قاله الذهبي. 7- قال: ولم يل الخلافة ثلاثة إخوة إلا أولاد الرشيد: الأمين، والمأمون، والمعتصم، وأولاد المتوكل: المستنصر، والمعتز، والمعتمد، وأولاد المقتدر: الراضي، والمقتفي، والمطيع. 8- قال: وولي الأمر من أولاد عبد الملك أربعة، ولا نظير لذلك إلا في الملوك. قلت: بل له نظير في الخلفاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- فولي الخلافة من أولاد المتوكل محمد أربعة، بل خمسة: المستعين، والمعتضد، والمستكفي، والقائم، والمستنجد خليفة العصر. 9- ولم يل الخلافة أحد في حياة أبيه إلا أبو بكر الصديق، وأبو بكر الطائع بن المطيع، حصل لأبيه فالج فنزل لابنه عنها طوعًا. 10- قال العلماء: أول من ولي الخلافة وأبوه حي أبو بكر، وهو أول من عهد بها، وأول من اتخذ من بيت المال، وأول من سمى المصحف مصحفًا، وأول من سمّي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأول من اتخذ الدرة، وأول من أرّخ من الهجرة، وأول من أمر بصلاة التراويح، وأول من وضع الديوان، وأول من حمى الحمى عثمان، وهو أول من أقطع الإقطاعات أي أكثر من ذلك، وأول من زاد الأذان في الجمعة، وأول من رزق المؤذنين، وأول من أُرتج عليه في الخطبة، وأول من اتخذ صاحب الشرطة، وأول من استخلف وليّ العهد في حياته معاوية، وهو أول من أخذ الخصيان لخدمته، وأول من حملت إليه الرءوس عبد الله بن الزبير، وأول من ضرب اسمه على السكة عبد الملك بن مروان، وأول من منع من ندائه باسمه الوليد بن عبد الملك، وأول ما حدثت الألقاب لبني العباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقال ابن فضل الله: زعم بعضهم أن لبني أمية ألقابًا مثل ألقاب بني العباس. قلت: وكذا ذكر بعض المؤرخين أن لقب معاوية الناصر لدين الله، ولقب يزيد المستنصر، ولقب معاوية ابنه الراجح إلى الحق، ولقب مروان المؤتمن بالله، ولقب عبد الملك الموفق لأمر الله، ولقب ابنه الوليد المنتقم بالله، ولقب عمر بن عبد العزيز المعصوم بالله، ولقب يزيد بن عبد الملك القادر بصنع الله، ولقب يزيد الناقص الشاكر لأنعم الله. 11- أول ما تفرقت الكلمة في دولة السفاح، وأول خليفة قرّب المنجمين وعمل بأحكام النجوم المنصور، وهو أول خليفة استعمل مواليه في الأعمال وقدّمهم على العرب، أول من أمر بتصنيف الكتب في الرد على المخالفين المهدي، أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف والأعمدة الهادي، أول من لعب بالصوالجة في الميدان الرشيد. أول من دعي وكتب للخليفة بلقبه في أيامه الأمين. وأول من أدخل الأتراك الديوان المعتصم. وأول من أمر بتغيير أهل الذمة زيّهم المتوكل. أول من تحكمت الأتراك في قتله المتوكل، وظهر بذلك تصديق الحديث النبوي كما أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتركوا الترك ما تركوكم؛ فإن أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء" 1. أول من أحدث لبس الأكمام الواسعة وصغر القلانس2 المستعين. أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب المعتز. أول خليفة قهر وحجر عليه ووكل به المعتمد. أول من ولي الخلافة من الصبيان المقتدر. 12- آخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال الراضي، وهو آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة خطب وصلى بالناس دائمًا. وآخر خليفة جالس الندماء. وآخر خليفةكانت نفقته وجوائزه وعطاياه وخدمه وجارياته وخزائنه ومطابخه ومشاربه ومجالسه وحجابه وأموره جارية على ترتيب الخلافة الأولية، وهو آخر خليفة سافر بزيّ الخلفاء القدماء. 13- أول ما كررت الألقاب من المستنصر الذي تولى بعد المعتصم. 14- في الأوائل للعسكري: أول خليفة ولي في حياة أمه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم الأمين، ثم المتوكل، ثم المنتصر، ثم المستعين، ثم المعتز، ثم المعتضد، ثم المطيع، ولم يل الخلافة في حياة أبيه غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وزيد عليه الطائع. 15- وقال الصولي: لا نعرف امرأة ولدت خليفتين إلا ولادة أم الوليد وسليمان ابني عبد الملك، وشاهين أم يزيد الناقص وإبراهيم ابني الوليد والخيزران أم الهادي والرشيد. قلت: ويزاد أم العباس، وحمزة، وأم داود وسليمان أولاد المتوكل الأخير.   1 بنو قنطوراء: يقال: إن قنطوراء كانت جارية لإبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- ولدت له أولادًا منهم الترك والصين، انظر: النهاية "113/4" قنطر. 2 القلانس: جمع قلنسوه: بفتح القاف وضم السين أو بضمها وكسر السين تلبس في الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 16- فائدة: المتسمون بالخلافة من العبيديين أربعة عشر: ثلاثة بالمغرب: المهدي والقائم، والمنصور، وأحد عشر بمصر: المعز، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر والمستعلي، والآمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد. وكان ابتداء أمر مملكتهم سنة بضع وتسعين ومائتين، وانقراضها في سنة سبع وستين وخمسمائة. قال الذهبي: وهي الدولة المجوسية واليهودية، لا العلوية، والباطنية لا الفاطمية، وكانوا أربعة عشر متخلفًا، لا مستخلفًا. انتهى. 17- فائدة: المتسمون بالخلافة من الأمويين بالمغرب كانوا أحسن حالًا من العبيديين بكثير إسلامًا وسنة وعدلًا وفضلًا وعلمًا وجهادًا وغزوًا، وهم كثير حتى إنه اجتمع بالأندلس في عصر واحد ستة كلهم تسمّى بالخلافة. 18- فائدة: أفرد تواريخ الخلفاء بالتأليف جماعة من المتقدمين: منها تاريخ الخلفاء لنفطويه النحوي، مجلدان، انتهى إلى أيام القاهر. والأوراق للصّوليّ ذكر فيه العباسيين فقط وانتهى إليه. قلت: وقد وقفت عليه وتاريخ خلفاء بني العباس لابن الجوزي، رأيته أيضًا، انتهى إلى أيام الناصر، وتاريخ الخلفاء لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المروزي الكاتب أحد فحول الشعراء مات في سنة ثمانين ومائتين، وتاريخ خلفاء بني العباس للأمير أبي موسى هارون بن محمد العباسي. 19- فائدة: أخرج الخطيب في التاريخ بسنده عن محمد بن عبادة قال: لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- والمأمون. قلت: وهذا الحصر ممنوع، بل حفظه أيضًا الصديق -رضي الله عنه- على الصحيح، وصرح به جماعة منهم النووي في تهذيبه، وعلي -رضي الله عنه- وورد من طريق أنه حفظه كله بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. 20- فائدة: قال ابن الساعي: حضرت مبايعة الخليفة الظاهر؛ فكان جالسًا في شباك القبة بثياب بيض، وعليه الطرحة، وعلى كتفه بردة النبي -صلى الله عليه وسلم- والوزير قائم بين يديه على منبر، وأستاء الدار دونه بمرقاة وهو يأخذ البيعة على الناس. ولفظ المبايعة: أبايع سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على جميع الأنام أبا نصر محمدًا الظاهر بأمر الله، على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد أمير المؤمنين، وأن لا خليفة سواه، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الخلفاء الراشدون الخليفة الأول: ابو بكر الصديق رضي الله عنه ... الخلفاء الراشدون: أبو بكر الصديق1 رضي الله عنه أبو بكر الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمه: عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي، التيمي، يلتقي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرة. قال النووي في تهذيبه: وما ذكرناه -من أن اسم أبي بكر الصديق عبد الله- هو الصحيح المشهور، وقيل: اسمه عتيق، والصواب الذي عليه كافة العلماء أن عتيقًا لقب له لا اسم، ولقّب عتيقًا لعتقه من النار، كما ورد في حديث رواه الترمذي2، وقيل: لعتاقة وجهه -أي: حسنه وجماله- قاله مصعب بن الزبير، والليث بن سعد، وجماعة. وقيل: لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به. قال مصعب بن الزبير وغيره: وأجمعت الأمة على تسميته بالصديق؛ لأنه بادر إلى تصديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولازم الصدق، فلم تقع منه هناة، ما، ولا وقفة في حال من الأحوال، وكانت له في الإسلام المواقف الرفيعة مخنها قصته ليلة الإسراء، وثباته، وجوابه للكفار في ذلك، وهجرته مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك عياله وأطفاله، وملازمته في الغار وسائر الطريق، ثم كلامه يوم بدر ويوم الحديبية حين اشتبه على غيره الأمر في تأخر دخول مكة، ثم بكاؤه حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة"، ثم ثباته يوم وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخطبته الناس وتسكينهم، ثم قيامه في قضية البيعة لمصلحة المسلمين، ثم اهتمامه وثباته في بعث جيش أسامة بن زيد إلى الشام وتصميمه في ذلك، ثم قيامه في قتال أهل الردة ومناظرته للصحابة حتى حجهم بالدلائل، وشرح الله صدورهم لما شرح له صدره من الحق -وهو قتال أهل الردة- ثم تجهيزه الجيوش إلى الشام لفتوح وإمدادهم بالأمداد، ثم ختم ذلك بمهمّ من أحسن مناقبه وأجل فضائله، وهو استخلافه على المسلمين عمر -رضي الله عنه- وتفرسه فيه، ووصيته له، واستيداعه الله الأمة، فخلفه الله -عز وجل- فيهم أحسن الخلافة، وظهر لعمر الذي هو حسنة من حسناته وواحدة من فعلاته تمهيد الإسلام، وإعزاز الدين، وتصديق وعد الله تعالى بأنه يظهره على الدين كله، وكم للصديق من مناقب ومواقف وفضائل لا تحصى؟ هذا كلام النووي. وأقول: قد أردت أن أبسط ترجمة الصديق بعض البسط، ذاكرًا فيه جملة كثيرة مما وقفت عليه من حاله، وأرتب ذلك فصولاً.   1 تولى الخلافة من سنة 11هـ وحتى 13هـ. 2 أخرجه الترمذي "3679/5" وقال: هذا حديث غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فصل: في اسمه ولقبه تقدمت الإشارة إلى ذلك. قال ابن كثير: اتفقوا على أن اسمه عبد الله بن عثمان، إلا أن ما روى ابن سعد عن ابن سيرين أن اسمه عتيق، والصحيح أنه لقبه، ثم اختلف في وقت تلقيبه به وفي سببه، فقيل: لعتاقة وجهه -أي: لجماله- قاله الليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وغيرهم. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: لقدمه في الخير، وقيل: لعتاقة نسبه -أي: طهارته، إذ لم يكن في نسبه شيء يعاب به- وقيل: سمي به أولاً، ثم سمي بعبد الله. وروى الطبراني1 عن القاسم بن محمد أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- عن اسم أبي بكر، فقالت: عبد الله. فقال: إن الناس يقولون: عتيق. قالت: إن أبا قحافة كان له ثلاثة أولاد سماهم: عتيقًا، ومعتقًا، ومعيتقًا، وأخرج ابن مَنده، وابن عساكر عن موسى بن طلحة، قال: قلت لأبي طلحة: لِمَ سمّي أبو بكر عتيقًا؟ قال: كانت أمه لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، ثم قالت: اللهم إن هذا عتيق من الموت فهبه لي. وأخرج الطبراني2 عن ابن عباس قال: إنما سمي عتيقًا لحسن وجهه. وأخرج ابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: اسم أبي بكر الذي سماه به أهله عبد الله، ولكن غلب عليه اسم عتيق، وفي لفظ: ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سماه عتيقًا. وأخرج أبو يعلى في مسنده، وابن سعد، والحاكم وصححه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: والله إني لفي بيتي ذات يوم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في الفناء والستر بيني وبينهم إذ أقبل أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر" 3، وإن اسمه الذي سماه أهله عبد الله، فغلب عليه اسم عتيق. وأخرج الترمذي والحاكم، عن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر دخل على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقال: "يا أبا بكر، أنت عتيق النار" 4، فمن يومئذ سمي عتيقًا، وأخرج البزار، والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن الزبير، قال: كان اسم أبي بكر عبد الله، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أنت عتيق الله من النار" فسمي عتيقًا. وأما الصديق فقيل: كان يلقب به في الجاهلية؛ لما عرف منه من الصدق ذكره ابن مسدي.   1 أخرجه الطبراني في الكبير "6/1". وقال الهيثمي في مجمع الزوائد "41/9": وفيه قيس بن أبي قيس البخاري، فإن كان ثقة فإسناده حسن، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. 2 أخرجه الطبراني في الكبير "4/1". 3 أخرجه أبو يعلى في مسنده "4899/8"، وابن سعد في الطبقات "160/2"، والحاكم في المستدرك "62،61/3". وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صالح ضعفوه والسند مظلم. 4 أخرجه الترمذي "3679/5"، والحاكم في المستدرك "415/2". قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: بل إسحاق متروك، قاله أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وقيل: لمبادرته إلى تصديق رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيما كان يخبر به. قال ابن إسحاق عن الحسن البصري وقتادة: وأول ما اشتهر به صبيحة الإسراء. وأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسريَ به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: لقد صدق، إني لأصدقه بأبعد من ذلك -بخبر السماء غدوة وروحة، فلذلك سمي الصديق، إسناده جيد، وقد ورد ذلك من حديث أنس وأبي هريرة، أسندهما ابن عساكر وأم هانئ أخرجه الطبراني1. قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو معشر عن وهب مولى أبي هريرة، قال: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به، فكان بذي طوىً، قال: "يا جبريل، إن قومي لا يصدقوني"، قال: "يصدقك أبو بكر، وهو الصديق"، أخرجه الطبراني في الأوسط موصولا عن أبي وهب عن أبي هريرة2. وأخرج الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة قال: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أبي بكر، قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل، وعلى لسان محمد، كان خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصلاة، رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا، إسناده جيد. وأخرج الدارقطني والحاكم عن أبي يحيى، قال: لا أحصي كم سمعت عليًّا يقول على المنبر: إن الله سَمّى أبا بكر على لسان نبيه صديقًا3. وأخرجه الطبراني بسند جيد صحيح عن حكيم بن سعد قال: سمعت عليًّا يقول ويحلف: لأنزل الله اسم أبي بكر من السماء الصديق، وفي حديث أحد: "اسكن فإنما عليك نبي وصديق، وشهيدان" 4. وأم أبي بكر بنت عم أبيه، اسمها: سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب، وتكنى أم الخير، قاله الزهري، أخرجه ابن عساكر. فصل: في مولده، ومنشئه ولد بعد مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين وأشهر؛ فإنه مات وله ثلاث وستون سنة. قال ابن كثير: وأما ما أخرجه خليفة بن الخياط، عن يزيد بن الأصم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال   1 أخرجه الحاكم في المستدرك: "77،76/2" عن عائشة. وقال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فإن محمد بن كثير الصنعاني صدوق، ووافقه الذهبي. 2 أخرجه الطبراني في الأوسط "41 مجمع". وقال الهيثمي: وفي أحد إسناديه أبو وهب عن أبي هريرة ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك "62/3". وقال الحاكم: لولا مكان محمد بن سليمان العيدي من الجهالة لحكمت لهذا الإسناد بالصحة، ووافقه الذهبي. 4 أخرجه الطبراني في الكبير "14/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 لأبي بكر: "أنا أكبر أو أنت؟ " قال: أنت أكبر وأنا أسنّ منك. فهو مرسل غريب جدًّا، والمشهور خلافه، وإنما صح ذلك عن العباس. وكان منشؤه بمكة، لا يخرج منها إلا لتجارة، وكان ذا مال جزيل في قومه، ومروءة تامة، وإحسان، وتفضل فيهم، كما قال ابن الدّغنّة: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتحمل الكَلّ وتعين على نوائب الدهر، وتقري الضيف. قال النووي: وكان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشاورتهم، ومحببًا فيهم، وأعلم لمعالمهم، فلما جاء الإسلام آثره على ما سواه، ودخل فيه أكمل دخول. وأخرج الزبير بن بكار وابن عساكر عن معروف بن خربوذ قال: إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أحد عشرة من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية والإسلام فكان إليه أمر الدّيات والغرم، وذلك أن قريشًا لم يكن لهم ملك ترجع الأمور كلها إليه، بل كان في كل قبيلة ولاية عامة تكون لرئيسها، فكانت في بني هاشم السقاية، والرفادة، ومعنى ذلك أنه لا يأكل ولا يشرب أحد إلا من طعامهم وشرابهم، وكانت في بني عبد الدار: الحجابة، واللواء، والندوة -أي: لا يدخل البيت أحد إلا بإذنهم- وإذا عقدت قريش راية حرب عقدها لهم بنو عبد الدار، وإذا اجتمعوا لأمر إبرامًا أو نقصًا لا يكون اجتماعهم إلا بدار الندوة، ولا ينفذ إلا بها، وكانت لبني عبد الدار. فصل: كان أبو بكر رضي الله عنه أعف الناس في الجاهلية أخرج ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: والله ما قال أبو بكر شعرًا قط في جاهلية ولا إسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية. وأخرج أبو نعيم بسند جيد عنها، قالت: لقد حرّم أبو بكر الخمر على نفسه في الجاهلية. وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن الزبير قال: ما قال أبو بكر شعرًا قط. وأخرج ابن عساكر عن أبي العالية الرياحيّ، قال: قيل لأبي بكر الصديق في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ فقال: أعوذ بالله، فقيل: ولِمَ؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعًا في عرضه ومروءته، قال: فبلغ ذلك رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقال: "صدق أبو بكر، صدق أبو بكر" مرتين، مرسل غريب سندًا ومتنًا. فصل: في صفته رضي الله عنه أخرج ابن سعد عن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلاً قال لها: صِفي لنا أبا بكر، فقالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 رجل أبيض، نحيف، خفيف العارضين1، أجنأ2، لا يستمسك إزاره يسترخي على حقويه3، معروق الوجه4،، غائر العينين، ناتئ الجبهة5، عاري الأشاجع6. هذه صفته. وأخرج عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر كان يخضب بالحناء والكتم7. وأخرج عن أنس قال: قدم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- المدينة وليس في أصحابه أشمط8 غير أبي بكر، فلفّها بالحناء والكتم9. فصل: في إسلامه رضي الله عنه أخرج الترمذي وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال أبو بكر: ألست أحق الناس بها؟ أي الخلافة، ألست أول من أسلم؟ ألست صاحب كذا؟ ألست صاحب كذا؟ ألست صاحب كذا10. وأخرج ابن عساكر من طريق الحارث عن علي رضي الله عنه، قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق11. وأخرج ابن سعد عن أبي أروى الدوسي الصحابي -رضي الله عنه- قال: أول من أسلم أبو بكر الصديق. وأخرج الطبراني في الكبير، وعبد الله بن أحمد في زوائده الزهد، عن الشعبي، قال: سألت ابن عباس: أي الناس كان أول إسلامًا؟ قال: أبو بكر الصديق، ألم تسمع قول حسان: إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا   1 خفيف العارضين: المقصود بالعارض جهة الوجه. 2 أجنأ: الجنأ: ميل في الظهر، وقيل: في العنق. 3 حقويه: الأصل في الحقو: معقد الإزار، وجمعه "أحق وأحقاء" ثم سمي به الإزار للمجاورة. 4 معروق الوجه: عروق وجهه ظاهرة. 5 ناتئ الجهبة: ظاهر الجبين واضحه. 6 عاري الأشاجع: هي مفاصل الأصابع، واحدها أشجع، أي كان اللحم عليها قليلاً. 7 الكتم: هو نبت يخلط مع الوسمة ويصبغ به الشعر أسود، وقيل: هو الوسمة وهي بالتحريك. 8 أشمط: الشَّمَط: الشيب، والأشمط: الشيخ. 9 أخرجه ابن سعد في الطبقات "175/2-176". 10 أخرجه الترمذي "3667/5"، وابن حبان في صحيحه "6/9 إحسان". وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب. 11 أخرجه ابن سعد في الطبقات "161/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 خير البرية، أتقاها وأعدلها ... إلا النبي، وأوفاها بما حملا والثانيَ التاليَ المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدّق الرسلا وأخرج أبو نعيم1 في الحلية عن فرات بن السائب قال: سألت ميمون بن مهران، قلت: عليّ أفضل عندك أم أبو بكر وعمر؟ قال: فارتعد حتى سقطت عصاه من يده، ثم قال: ما كنت أظن أن أبقى إلى زمان يعدل بهما، لله درهما! كانا رأس الإسلام. قلت: فأبو بكر كان أول إسلامًا أم علي؟ قال: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- زمن بحيرا الراهب حين مرّ به، واختلف فيهما بينه وبين خديجة حتى أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد عليّ. وقد قال: إنه أول من أسلم خلائق من الصحابة والتابعين غيرهم، بل ادعى بعضهم الإجماع عليه. وقيل: أول من أسلم علي، وقيل: خديجة. وجمع بين الأقوال بأن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وعلي أول من أسلم من الصبيان، وخديجة أول من أسلمت من النساء، وأول من ذكر هذا الجمع الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- أخرجه عنه. وأخرج ابن أبي شيبة2 وابن عساكر، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قلت لمحمد بن الحنفية: هل كان أبو بكر أول القوم إسلامًا؟ قال: لا، قلت: فبمَ علا أبو بكر وسبق حتى لا يذكر أحد غير أبي بكر؟ قال: لأنه كان أفضلهم إسلامًا من حين أسلم حتى لحق بربه. وأخرج ابن عساكر بسند جيد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص أنه قال لأبيه سعد: أكان أبو بكر الصديق أولكم إسلامًا؟ قال: لا، ولكنه أسلم قبله أكثر من خمسة، ولكن كان خيرنا إسلامًا. قال ابن كثير3: والظاهر أن أهل بيته صلى الله عليه وسلم آمنوا قبل كل أحد: زوجته خديجة، ومولاه زيد، وزوجة زيد أم أيمن، وعلي، وورقة، انتهى. وأخرج ابن عساكر عن عيسى بن يزيد، قال: قال أبو بكر الصديق، كنت جالسًا بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدًا، فمرّ به أمية بن أبي الصلت، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال: كل دين يوم القيامة إلا ... ما قضى الله في الحقيقة بور أما إن هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت من قبل ذلك بني ينتظر ويبعث، قال: فخرجت إلى ورقة بن نوفل، وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصدر، فاستوقفته ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يابن أخي، إنا أهل الكتب والعلوم، إلا أن هذا النبي الذي ينتظر من أوسط العرب نسبًا -ولي علم بالنسب- وقومك   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "93،92/4". 2 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه "8/472/7". 3 أورده ابن كثير في البداية والنهاية "29،25/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أوسط العرب نسبًا، قلت: يا عم وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له، إلا أنه لا يظلم، ولا يظلم، ولا يظالم، فلما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمنت به وصدقته. وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته، وما تردد فيه" 1 عتم: أي لبثَ. قال البيهقي2: وهذا لأنه كان يرى دلائل نبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويسمع آثاره قبل دعوته، فحين دعاه كان قد سبقه له فيه تفكر ونظر، فأسلم في الحال؛ ثم أخرج عن أبي ميسرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا برز سمع من يناديه: يا محمد، فإذا سمع الصوت وَلَّى هاربًا، فأسر ذلك إلى أبي بكر، وكان صديقًا له في الجاهلية. وأخرج أبو نعيم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كلمت في الإسلام أحدًا إلا أَبَا عليّ، وراجعني الكلام، إلا ابن أبي قحافة، فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه" 3. وأخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركون لي صاحبي؟ هل أنتم تاركون لي صاحبي؟ إني قلت: أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعًا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت" 4. فصل: في صحبته ومشاهده قال العلماء: صحب أبو بكر النبي -عليه الصلاة والسلام- من حين أسلم إلى حين توفي، لم يفارقه سفرًا ولا حضرًا، إلا فيما أذن له عليه الصلاة والسلام في الخروج فيه من حج وغزو، وشهد معه المشاهد كلها، وهاجر معه، وترك عياله وأولاده رغبة في الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو رفيقه في الغار، قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وقام بنصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غير موضع، وله الآثار الجميلة في المشاهد، وثبت يوم أحد ويوم حنين، وقد فرّ الناس، كما سيأتي في فصل شجاعته. أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: تباشرت الملائكة يوم بدر، فقالوا: أما ترون الصديق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العريش؟ وأخرج أبو يعلى، والحاكم، وأحمد، عن علي قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر ولأبي بكر: "مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل" 5.   1 أورده ابن كثير في البداية والنهاية "27/3". 2 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "164/2". 3 أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان "325/2". 4 أخرجه البخاري "4640/8". 5 أخرجه أبو يعلى في مسنده "340/1"، وأحمد في المسند "117/1" بنحوه، والحاكم في المستدرك "68/3". وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وأخرج ابن عساكر عن ابن سيرين: أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يوم بدر مع المشركين، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي يوم بدر، فانصرفت عنك ولم أقتلك، فقال أبو بكر: لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك. قال ابن قتيبة: معنى أهدفت: أشرفت، ومنه قيل للبناء المرتفع: هدف. فصل: في شجاعته وأنه أشجع الصحابة رضي الله عنه أخرج البزار في مسنده عن علي أنه قال: أخبروني من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- عريشًا، فقلنا: من يكون مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لئلا يهوى إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا يهوى إليه أحد إلا هوى إليه؛ فهو أشجع الناس، قال علي رضي الله عنه: لقد رأيت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأخذته قريش، فهذا يجبأه1، وهذا يتلتله2، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا؟ قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجبأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم رفع على بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلّت3 لحيته ثم قال: أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه. وأخرج البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيانات من ربكم؟ 4. وأخرج الهيثم بن كليب في مسنده عن أبي بكر، قال: لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فكنت أول من فاء، وسيأتي تتمة الحديث في مسند ما رواه.   1 يجبأ: أي يخرج، يقال: جبأ عليه يجبأ إذا خرج، وفي حديث أسامة: "فلما رأونا جبئوا من أخبيتهم" أي: خرجوا. انظر: النهاية في غريب الحديث "233/1". 2 يتلتله: هو في الأصل: السوق بعنف، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "أتى بشارب فقال: تلتلوه" وهو أن يحرك ويستنكه ليعلم هل شرب أم لا. 3 اخضلّت لحيته: أي ابتلت بالدموع، يقال: خضل، واخضل إذا ندى. 4 أخرجه البخاري "3678/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وأخرج ابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما اجتمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً، أَلَحَّ أبو بكر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الظهور، فقال: يا أبا بكر، إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبًا، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، وضربوا في نواحي المسجد ضربًا شديدًا1. وسيأتي تتمة الحديث في ترجمة عمر رضي الله عنه. وأخرج ابن عساكر عن علي -رضي الله عنه- قال: لما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فصل: في إنفاقه ماله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه أجود الصحابة قال الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18،17] إلى آخر السورة. قال ابن الجوزي: أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر" فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ 2. وأخرج أبو يعلى من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا مثله. قال ابن كثير: وروى أيضًا من حديث علي، وابن عباس، وأنس، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، رضي الله عنهم، وأخرجه الخطيب عن سعيد بن المسيب مرسلاً، وزاد: وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه3. وأخرج ابن عساكر من طرق عن عائشة -رضي الله عنها- وعروة بن الزبير: أن أبا بكر -رضي الله عنه- أسلم يوم أسلم وله أربعون ألف دينار -وفي لفظ: أربعون ألف درهم- فأنفقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو سعيد الأعرابي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أسلم أبو بكر رضي الله عنه يوم أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم فخرج إلى المدينة في الهجرة وما له غير خمسة آلاف، كل ذلك ينفقه في الرقاب والعون على الإسلام. وأخرج ابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر أعتق سبعة كلهم يعذب في الله.   1 أورده ابن كثير في البداية والنهاية "30/3". 2 أخرجه أحمد في المسند "235/2". 3 أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه "21/8، 364/10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأخرج ابن شاهين في السنة، والبغوي في تفسيره، وابن عساكر عن ابن عمر قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنزل عليه جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ فقال: "يا جبريل أنفق ماله عليّ قبل الفتح"، قال: فإن الله تعالى يقرأ عليه السلام، ويقول: قل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط علي ربي!! أنا عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ. غريب، وسنده ضعيف جدًّا. وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة، وابن مسعود مثله، وسندهما ضعيف أيضًا. وأخرج ابن عساكر نحوه من حديث ابن عباس. وأخرج الخطيب بسند واهٍ أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هبط عليّ جبريل -عليه السلام- وعليه طنفسة1 وهو متخلل بها، فقلت له: يا جبريل، ما هذا؟ قال: إن الله تعالى أمر الملائكة أن تتخلل في السماء كتخلل أبي بكر في الأرض". قال ابن كثير: وهذا منكر جدًّا، وقال: ولولا أن هذا والذي قبله يتداوله كثير من الناس لكان الإعراض عنهما أولى. وأخرج أبو داود والترمذي، عن عمر بن الخطاب، قال: أمرنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر -إن سبقته يومًا- فجئت بنصف مالي، فقال رسو الله عليه الصلاة والسلام: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: لا أسبقه في شيء أبدًا2. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن البصري: أنا أبا بكر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقته فأخفاها، فقال: يا رسول الله هذه صدقتي ولله عندي معاد، وجاء عمر بصدقته فأظهرها، فقال: يا رسول الله هذه صدقتي ولي عند الله معاد، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "ما بين صدقتيكما كما كلمتيكما" 3. إسناده جيد لكنه مرسل. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر، فإن له عندنا يد يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر" 4.   1 طنفسة: بكسر الطاء والفاء وبضمهما وبكسر الطاء وفتح الفاء: هي البساط الذي خمل رقيق، وجمعه طنافس. 2 أخرجه أبو داود "1678/2"، والترمذي "3675/5" وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. 3 أخرجه أبو نعيم في الحلية "32/1". 4 أخرجه الترمذي "3661/5". وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وأخرج البزار عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: جئت بأبي قحافة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هلا تركت الشيخ حتى آتيه"، قال: بل هو أحق أن يأتيك، قال: "إننا نحفظه لأيادي ابنه عندنا"1. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "ما أحد عندي أعظم يدًا من أبي بكر، واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته". فصل: في علمه، وأنه أعلم الصحابة، وأذكاهم قال النووي في تهذيبه، ومن خطه نقلت: استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله -رضي الله عنه- في الحديث الثابت في الصحيحين: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه. واستدل الشيخ أبو إسحاق بهذا وغيره في طبقاته على أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أعلم الصحابة؛ لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو، ثم ظهرت لهم بمباحثته لهم أن قوله هو الصواب، فرجعوا إليه. وروينا عن ابن عمر أنه سئل: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال: أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ما أعلم غيرهما. وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الناس وقال: "إن الله تعالى خَيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن عبد خيّر، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقينّ باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر" 2. هذا كلام النووي. وقال ابن كثير: كان الصديق -رضي الله عنه- أقرأ الصحابة -أي: أعلمهم بالقرآن- لأنه عليه الصلاة والسلام قدّمه إمامًا للصلاة بالصحابة -رضي الله عنه- مع قوله: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله". وأخرج الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لاينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" 3.   1 أخرجه البزار "50/9 مجمع". وقال الهيثمي: وفيه عبد الله بن عبد الملك النهري، ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. 2 أخرجه البخاري "3654/7"، ومسلم "2382/4". 3 أخرجه الترمذي "3673/5". وقال أبو عيسى: حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وكان -مع ذلك- أعلمهم بالسنة، كلما رجع إليه الصحابة في غير موضع يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها، ليست عندهم، وكيف لا يكون كذلك وقد واظب على صحبة الرسول -عليه الصلاة والسلام- من أول البعثة إلى الوفاة؟ وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم، وإنما لم يروَ عنه من الأحاديث المسندة إلا القليل لقصر مدته، وسرعة وفاته بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا فلو طالت مدته لكثر ذلك عنه جدًّا، ولم يترك الناقلون عنه حديثًا إلا نقلوه، ولكن كان الذين في زمانه من الصحابة لا يحتاج أحد منهم أن ينقل عنه ما قدر شاركه هو في روايته؛ فكانوا ينقلون عنه ما ليس عندهم. وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبوب بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء؟ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رءوس المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر قضى به. وكان الصديق -رضي الله عنه- مع ذلك أعلم الناس بأنساب العرب، لا سيما قريش، أخرج ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن شيخ من الأنصار قال: كان جبير بن مُطعِم من أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق وكان أبو بكر الصديق من أنسب العرب. وكان الصديق مع ذلك غاية في علم تأويل الرؤيا، وقد كان يعبر الرؤيا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قال محمد بن سيرين -وهو المقدّم في هذا العلم بالاتفاق-: كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن سعد1. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس وابن عساكر عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أُأَوِّل الرؤيا وأن أعلمها أبا بكر" 2. قال ابن كثير: وكان من أفصح الناس وأخطبهم؛ قال الزبير بن بكار: سمعت بعض أهل العلم يقول: أفصح خطباء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وسيأتي في حديث السقيفة قول عمر رضي الله عنه: وكان من أعلم الناس   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "165/2". 2 أخرجه الديلمي في مسند الفردوس "32552/11 كنز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 بالله وأخوفهم له، وسيأتي من كلامه في ذلك وفي تعبير الرؤيا ومن خطبه جملة في فصل مستقل. ومن الدلائل على أنه أعلم الصحابة حديث صلح الحديبية حيث سأل عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك الصلح، وقال: علامَ نعطي الدَّنية في ديننا؟ فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ذهب إلى أبي بكر فسأله عما سأل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فأجابه كما أجابه النبي -عليه الصلاة والسلام- سواء بسواء. أخرجه البخاري وغيره1. وكان مع ذلك أسدّ الصحابة رأيًا، وأكملهم عقلاً، أخرج تمام الرازي في فوائده وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يقول: "أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تستشير أبا بكر" 2. وأخرج الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل: "أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما أراد أن يسرح معاذًا إلى اليمن استشار ناسًا من أصحابه فيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وأسيد بن حضير، فتكلم القوم كل إنسان برأيه، فقال: ما ترى يا معاذ؟ قلت: أرى ما قال أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره فوق سمائه أن يخطئ أبو بكر" 3. رواه ابن أبي أسامة في مسنده: "إن الله يكره في السماء أن يخطئ أبو بكر الصديق في الأرض". وأخرج الطبراني في الأوسط عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره أن يخطئ أبو بكر" 4 رجاله ثقات. فصل قال النووي في تهذيبه: الصدّيق أحد الصحابة الذين حفظوا القرآن كله، وذكر هذا أيضًا جماعة منهم ابن كثير في تفسيره، وأما حديث أنس: "جمع القرآن في عهد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أربعة" فمراده من الأنصار كما أوضحته في كتاب الإتقان، وأما ما أخرجه ابن أبي داود عن الشعبي قال: مات أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ولم يجمع القرآن كله، فهو مدفوع، أو مأوّل على أن المراد جمعه في المصحف على الترتيب الذي صنعه عثمان رضي الله عنه. فصل: في أنه أفضل الصحابة وخيرهم أجمع أهل السنة أن أفضل الناس -بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام- أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم سائر العشرة، ثم باقي أهل بدر، ثم باقي أهل أحد، ثم   1 أخرجه البخاري "3182/6"، ومسلم "1785/3". 2 أخرجه تمام في فوائده "ح1478". 3 أخرجه الطبراني في الكبير "124/20" 4 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح3961". وقال الهيثمي في المجمع "46/9": رجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 باقي أهل البيعة، ثم باقي أهل الصحابة، هكذا حكى الإجماع عليه أبو منصور البغدادي. وروى البخاري1 عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان -رضي الله عنهم- وزاد الطبراني في الكبير: فيعلم بذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا ينكره. وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر قال: كنا وفينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفضل أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا. وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: كنا معاشر أصحاب رسول الله، عليه الصلاة والسلام -ونحن متوافرون- نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت. وأخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر لأبي بكر: يا خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: أما إنك إن قلت ذاك فلقد سمعته يقول: ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر2. وأخرج البخاري عن محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين3. وأخرج أحمد وغيره عن علي قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعمر، قال الذهبي: هذا متواتر عن علي، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم. وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب قال: قال أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم4. وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر صعد المنبر ثم قال: ألا إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، فمن قال غير هذا فهو مفترٍ، عليه ما على المفتري؛ وأخرج أيضًا عن ابن أبي ليلى قال: قال علي: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر وإلا جلدته حد المفتري. وأخرج عبد الرحمن بن حميد في مسنده وأبو نعيم وغيرهما من طرق عن أبي الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد أفضل من أبي بكر، إلا أن   1 أخرجه الطبراني في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم "3655/7". 2 أخرجه الترمذي "3684/5". وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وليس إسناده بذاك. 3 أخرجه البخاري "3671/7". 4 أخرجه الترمذي "3656/5". والحاكم في المستدرك "66/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 يكون نبي" وفي لفظ: "على أحد من المسلمين بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر" 1. وقد ورد أيضًا من حديث جابر، ولفظه: "ما طلعت الشمس على أحد منكم أفضل منه". أخرجه الطبراني وغيره، وله شواهد من وجوه أخر تقضي له بالصحة أو الحسن، وقد أشار ابن كثير إلى الحكم بصحته. وأخرج الطبراني عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر الصديق خير الناس، إلا أن يكون نبي". وفي الأوسط عن أسعد بن زرارة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس جبريل أخبرني أن خير أمتك بعدك أبو بكر" 2. وأخرج الشيخان3 عن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ قال: "أبوبها"، قلت: ثم من؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب". وقد ورد هذا الحديث بدون: "ثم عمر" في رواية أنس وابن عمرو وابن عباس. وأخرج الترمذي والنسائي والحاكم عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أيّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح4. وأخرج الترمذي وغيره عن أنس قال: قال رسول الله -عليه الصلاة السلام- لأبي بكر وعمر: "هذان سيّدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين". وأخرج مثله عن علي5. وفي الباب عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عمار بن ياسر قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد أزرى على المهاجرين والأنصار6. وأخرج ابن سعيد عن الزهري قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لحسان بن ثابت "هل قلت في أبي بكر شيئًا؟ " قال: نعم، فقال: "قل وأنا أسمع"، فقال: والثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "532/3". 2 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح6444". وقال الهيثمي في المجمع "44/9": وفيه أبو غزية محمد بن موسى وهو ضعيف. 3 أخرجه البخاري "3656/7"، ومسلم "2348/4". 4 أخرجه الترمذي "3657/5"، والنسائي في الكبرى "9442/5"، والحاكم في المستدرك "73/3". 5 أخرجه الترمذي "3664/5". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. 6 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح836". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه ثم قال: "يا حسان هو كما قلت". فصل روى أحمد والترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"، وأخرج أبو يعلى من حديث بن عمر، وزاد فيه، "وأقضاهم عليّ" وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث شداد بن أوس وزاد "وأبو ذر أزهد أمتي وأصدقها، وأبو الدرداء أعبد أمتي وأتقاها، ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها" 1. وقد سئل شيخنا العلامة الكافينجي عن هذه التفصيلات: هل تنافي التفصيل السابق؟ فأجاب بأنه لا منافاة. فصل: فيما أنزل من الآيات في مدحه، أو تصديقه أو أمر من شأنه اعلم أني رأيت لبعضهم كتابًا في أسماء من نزل فيهم القرآن غير محرر ولا مستوعب، وقد ألفت في ذلك كتابًا حافلاً مستوعبًا محررًا، وأنا ألخص هنا ما يتعلق بالصديق رضي الله عنه: قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] أجمع المسلمون على أن الصاحب المذكور أبو بكر وسيأتي فيه أثر عنه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} قال: على أبي بكر؛ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تزل السكينة عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف، وأبي ابن خلف، ببردة وعشر أواقٍ، فأعتقه لله، فأنزل الله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلى قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 1-4] سعي أبي بكر، وأمية، وأُبَيّ. وأخرج ابن جرير عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال أبوه: أي بني، أراك تعتق أناسًا ضعافًا، فلو أنك تعتق رجالاً جلدًا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟ قال: أي أبت، أنا أريد ما عند الله، قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] إلى آخرها.   1 أخرجه الترمذي "3791/5"، وأحمد في المسند "184/3" عن أنس بن مالك. وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عروة: أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أعتق سبعة كلهم يعذب في الله، وفيه نزلت: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17] إلى آخر السورة. وأخرج البزار عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] إلى آخر السورة في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه. وأخرج البخاري1 عن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر لم يكن يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين. وأخرج البزار وابن عساكر عن أسيد بن صفوان -وكانت له صحبة- قال: قال عليّ: والذي جاء بالحق محمد، وصدق به أبو بكر الصديق، قال ابن عساكر: هكذا الرواية بالحق ولعلها قراءة لعلي. وأخرج الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159] قال: نزلت في أبي بكر وعمر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شؤذب قال: نزلت: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن: 46] في أبي بكر -رضي الله عنه- وله طرق أخرى ذكرتها في أسباب النزول. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر وابن عباس في قوله تعالى: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِين} [التحريم: 4] قال: نزلت في أبي بكر وعمر. وأخرج عبد الله بن أبي حميد في تفسيره عن مجاهد قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} [الأحزاب: 56] قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركنا فيه، فنزلت هذه الآية: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] . وأخرج ابن عساكر عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين} [الحجر: 47] . وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر الصديق: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون} [الأحقاف: 15، 16] . وأخرج ابن عساكر عن ابن عيينة قال: عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن أبا بكر وحده، فإنه خرج من المعاتبة، ثم قرأ: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار} [التوبة: 40] . فصل: في الأحاديث الواردة في فضله مقرونًا بعمر، سوى ما تقدم أخرج الشيخان2 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بينا راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي، فالتفت إليه الذئب فقال: من   1 أخرجه البخاري "4614/8". 2 أخرجه البخاري "3663/7"، ومسلم "2388/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته، فقال: إني لم أخلق لهذا، ولكني خلقت للحرث". قال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر"، وما ثَمّ أبو بكر وعمر، أي: لم يكونا في المجلس، شهد لهما بالإيمان بذلك، لعلمه بكمال إيمانهما. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض، أما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر1". وأخرج أصحاب السنن وغيرهم عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة" 2. وذكر تمام العشرة. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الدرجات العُلا ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" 3. وأخرجه الطبراني من حديث جابر بن سمرة وأبي هريرة. وأخرج الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع إليه أحد منهم بصره، إلا أبو بكر وعمر، فإنما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما"4. وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ذات يوم فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهوآخذ بأيديهما، وقال: "هكذا نبعث يوم القيامة" 5. وأخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة. وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر" 6. وأخرج الترمذي، والحاكم صححه عن عبد الله بن حنطب أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رأى   1 أخرجه الترمذي "3680/5". وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب. 2 أخرجه أبو داود "4650/4"، والترمذي "3748/5"، وابن ماجه "133/1"، وأحمد في المسند "1/ 187، 188". 3 أخرجه الترمذي "3658/5" عن أبي سعيد. وأخرجه الطبراني في الكبير "2065/2" عن جابر بن سمرة. 4 أخرجه الترمذي "3668/5" وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث الحكم بن عطية. 5 أخرجه الترمذي "3669/5"، والحاكم في المستدرك "68/3" عن ابن عمر، وسكت عليه الحاكم وقال الذهبي: سعيد ضعيف. 6 أخرجه الترمذي "3692/5"، الحاكم في المستدرك "465/2". وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب وعاصم بن عمر ليس بالحافظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أبا بكر وعمر فقال: "هذان السمع والبصر"1، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمر وابن عمرو. وأخرج البزار والحاكم عن أبي أروى الدّوْسي، قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا فأقبل أبو بكر وعمر، فقال: "الحمد لله الذي أيدني بكما" 2. وورد أيضًا من حديث البراء بن عازب، أخرجه الطبراني في الأوسط. وأخرج أبو يعلى عن عمّار بن ياسر قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أتاني جبريل آنفًا، فقلت: يا جبريل، حدثني بفضائل عمر بن الخطاب، فقال: لو حدثتك بفضائل عمر منذ لبث نوح في قومه ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر". وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما" 3. وأخرجه الطبراني من حديث البراء بن عازب. وأخرج ابن سعد عن ابن عمر أنه سئل: من كان يفتي في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال: "أبو بكر وعمر، ولا أعلم غيرهما"4. وأخرج عن القاسم بن محمد قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لكل نبي خاصته من أمته، وإن خاصتي من أصحابي أبو بكر وعمر" 5. وأخرج ابن عساكر عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا بكر! زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالاً. رحم الله عمر! يقول الحق وإن كان مرًّا، تركه الحق وما له من صديق. رحم الله عثمان تستحيه الملائكة. رحم الله عليًّا اللهم أدر الحق معه حيث دار". وأخرج الطبراني عن سهل رضي الله عنه قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- من حجّة الوداع صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إن أبا بكر لم يسؤني قط، فاعرفوا له ذلك. أيها الناس، إني راضٍ عنه، وعن عمر، وعلي، وطلحة، والزبير،   1 أخرجه الترمذي "3671/5"، والحاكم في المستدرك "69/3". وقال أبو عيسى: هذاحديث مرسل، وعبد الله بن حنطب لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. 2 أخرجه البزار "51/9 مجمع"، والحاكم في المستدرك "74/3"، والطبراني في الأوسط "6258" وقال الهيثمي: وفيه عاصم بن عمر بن حفص وثقه ابن حبان وقال: يخطئ ويخالف وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات. 3 أخرجه أحمد في المسند "227/4" عن عبد الرحمن بن غنم. 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات "180/2". 5 أخرجه الطبراني في الكبير "10008/10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، والمهاجرين الأولين: فاعرفوا ذلك لهم" 1. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن أبي حازم قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين، فقال: ما كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كمنزلتهما منه الساعة. وأخرج ابن سعد عن بسطام بن مسلم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: "لا يتأمر عليكما أحد بعدي" 2. وأخرج ابن عساكر عن أنس مرفوعًا: "حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما كفر". وأخرج عن ابن مسعود قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفتهما من السنّة. وأخرج عن أنس مرفوعًا: "إني لأرجو لأمتي في حبهم لأبي بكر وعمر ما أرجو لهم في قول لا إله إلا الله". فصل: في الأحاديث الواردة في فضله وحده، سوى ما تقدم أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان"، فقال أبو بكر: ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فله يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: "نعم، فأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر" 3. وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي" 4. وأخرج الشيخان عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام". وقد ورد هذا الحديث من رواية ابن عباس، وابن الزبير، وابن مسعود، وجندب بن عبد الله، والبراء، وكعب بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبي واقد الليثي، وأبي المعلى، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عمر -رضي الله عنهم- وقد سردت طرقهم في الأحاديث المتواترة.   1 أخرجه الطبراني في الكبير "5640/6". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "191/2". 3 أخرجه البخاري "1897/4"، ومسلم "2/ 1027". 4 أخرجه أبو داود "4652/4"، والحاكم "73/3". وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وأخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي -عليه الصلاة والسلام- إذ أقبل أبو بكر فسلم، وقال: إنه كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي، فأبى عليّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثلاثًا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فلم يجده، فأتى النبي -عليه الصلاة والسلام- فجعل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمعر 1 حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم منه، مرتين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ " 2، مرتين، فما أوذي بعدها. وأخرج ابن عدي من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- نحوه، وفيه: فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لا تؤذوني في صاحبي، فإن الله بعثني بالهدى ودين الحق، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، ولولا أن الله سَمّاه صاحبًا لاتخذته خليلاً، ولكن أخوة الإسلام" 3. وأخرج ابن عساكر عن المقدام قال: استبّ عقيل بن أبي طالب وأبو بكر، قال: وكان أبو بكر نسّابًا، غير أنه تحرّج من قرابته من النبي -عليه الصلاة والسلام- فأعرض عنه، وشكا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقام رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في الناس، فقال: "ألا تدعون لي صاحبي؟ ما شأنكم وشأنه؟ فوالله ما منكم رجل إلا على باب بيته ظلمة، إلا باب أبي بكر، فإن على بابه النور، فوالله لقد قلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله، وخذلتموني وواساني واتبعني" 4. وأخرج البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" 5. وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم جنازة" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد اليوم منكم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" 6. وقد ورد هذا الحديث من رواية أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فحديث أنس أخرجه البيهقي في الأصل وفي آخره: "وجبت لك الجنة" وحديث عبد الرحمن أخرجه   1 يتمعّر: أي يتغير. 2 أخرجه البخاري "3661/7". 3 أخرجه الطبراني في الكبير "13383/12". 4 أخرجه ابن عساكر في تاريخه "363/5". 5 أخرجه البخاري "3665/7". 6 أخرجه مسلم "1028/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 البزار ولفظه: صلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- صلاة الصبح ثم أقبل على أصحابه بوجهه، فقال: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " فقال عمر: يا رسول الله لم أحدث نفسي بالصوم البارحة فأصبحت مفطرًا، فقال أبو بكر: ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائمًا، فقال: "هل أحد منكم اليوم عاد مريضًا؟ " فقال عمر: يا رسول الله لم نبرح فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاكٍ فجعلت طريقي إليه لأنظر كيف أصبح، فقال: "هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا"؟ فقال عمر صلينا يا رسول الله ثم لم نبرح، فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا بسائل فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن فأخذتها ودفعتها إليه؛ فقال: "أنت فأبشر بالجنة"، ثم قال كلمة أرضى بها عمر، وزعم أنه لم يرد خيرًا قط إلا سبقه إليه أبو بكر1. وأخرج أبو يعلى عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنت في المسجد أصلي فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر وعمر، فوجدني أدعو، فقال: "سل تعطه"، ثم قال: "من أحبَّ أن يقرأ القرآن غضًّا طريًّا فليقرأه بقراءة ابن أم عبد" فرجعت إلى منزلي، فأتاني أبو بكر فبشرني، ثم أتى عمر فوجد أبا بكر خارجًا قد سبقه، فقال: "إنك لسبّاقٌ بالخير" 2. وأخرج أحمد بسند حسن عن ربيعة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: جرى بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي كلمة كرهتها، وندم فقال لي: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا، قلت: لا أفعل، قال أبو بكر: لتقولن، أو لأستعدينّ عليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ما أنا بفاعل، فانطلق أبو بكر -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وانطلقت أتلوه، وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر! في أي شيء يستعدي عليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيغضب لغضبه، فيغضب الله -عز وجل- لغضبهما، فيهلك ربيعة قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا وانطلق أبو بكر -رضي الله عنه- وتبعته وحدي، حتى أتى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليّ رأسه فقال: "يا ربيعة ما لك والصديق؟ " فقلت: يا رسول الله كان كذا وكذا، فقال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصًا، فأبيت، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أجل! لا تردّ عليه، ولكن قل: قد غفر الله لك يا أبا بكر"، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. قال الحسن: فولى أبو بكر -رضي الله عنه- وهو يبكي3وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار" 4   1 أخرجه البزار "163/3 مجمع"، وقال الهيثمي: وفيه مبارك بن فضالة وهو ثقة وفيه كلام. 2 أخرجه أبو يعلى "1/ 16، 17، 8/ 5058، 5059" 3 أخرجه أحمد في المسند "59،58/4" 4 أخرجه الترمذي "3670/5". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وأخرج عبد الله بن أحمد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار". إسناده حسن. وأخرج البيهقي عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن في الجنة طيرًا كأمثال البخاتي1" قال أبو بكر: إنها لناعمة يا رسول الله، قال: "أنعم منها من يأكلها، وأنت ممن يأكلها2". وقد ورد هذا الحديث من رواية أنس. وأخرج أبو يعلى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "عرج بي إلى السماء، فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمي محمد رسول الله وأبو بكر الصديق خلفي"3. إسناده ضعيف، لكنه ورد أيضًا من حديث ابن عباس، وابن عمر، وأنس، وأبي سعيد، وأبي الدرداء -رضي الله عنهم- بأسانيد ضعيفة يشد بعضها بعضًا. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم عن سعيد بن جبير -رضي الله عنه- قال: قرأت عند النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة} [الفجر: 27] فقال أبو بكر: يا رسول الله إن هذا الحسن، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أما إن الملك سيقولها لك عند الموت" 4. وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُم} [النساء: 66] الآية، قال أبو بكر: يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت، فقال: "صدقت". وأخرج أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن عمر، حدثنا عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة، قال: دخل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه غديرًا فقال: "ليسبح كل رجل إلى صاحبه"، قال: فسبح كل رجل، حتى بقي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر حتى اعتنقه، وقال: "لو كنت متخذًا خليلاً حتى ألقى الله لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه صاحبي". تابعه وكيع عن عبد الجبار بن الورد، أخرجه ابن عساكر، وعبد الجبار ثقة، وشيخه ابن أبي مليكة إمام، إلا أنه مرسل وهو غريب جدًّا. قلت: أخرجه الطبراني في الكبير وابن شاهين في السنة5 ومن وجه آخر موصولاً عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق، وابن عساكر من طريق صدقة بن ميمون القرشي   1 بخاتيّ: هي جمال طوال الأعناق وتجمع أيضًا على بُختٍ، واللفظة معربة ومفردها بُخَيْتَة: الأنثى من الجمال، انظر: النهاية في غريب الحديث "101/1". 2 أخرجه البيهقي في البعث والنشور "ح122". 3 أخرجه أبو يعلى في مسنده "6607/11". 4 أخرجه ابن أبي حاتم "513/8 منثور"، وأبو نعيم في الحلية "284،283/4". 5 أخرجه البغوي "604/1"، وابن عساكر في تاريخه "400/7" عن ابن أبي مليكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 عن سليمان بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خصال الخير ثلاثمائة وستون خصلة، إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل فيه خصلة منها يدخل بها الجنة". قال أبو بكر: يا رسول الله أفيَّ شيء منها؟ قال: "نعم جمعًا من كل". وأخرج ابن عساكر من طريق أخرى، عن صدقة القرشي، عن رجل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خصال الخير ثلاثمائة وستون"، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لي منها شيء؟ قال: "كلها فيك، فهنيئًا لك يا أبا بكر". وأخرج ابن عساكر من طريق مجمع بن يعقوب الأنصاري عن أبيه قال: إن كانت حلقة النبي -صلى الله عليه وسلم- فتشتبك حتى تصير كالأسوار، وإن مجلس أبي بكر منها لفارغ، ما يطمع فيه أحد من الناس، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس، وأقبل عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- بوجهه، وألقى إليه حديثه، وسمع الناس. وأخرج ابن عساكر عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حبّ أبي بكر وشكره واجب على كل أمتي". وأخرج مثله في حديث سهل بن سعد. وأخرج عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر". فصل: فيما ورد من كلام الصحابة والسلف الصالح في فضله أخرج البخاري عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال عمر بن الخطاب: أبو بكر سيدنا1. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عمر -رضي الله عنه- قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم2. وأخرج ابن أبي خيثمة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، عن عمر -رضي الله عنه- قال: إن أبا بكر كان سابقًا مبرزًا. وقال عمر: لوددت أني شعرة في صدر أبي بكر، أخرجه مسدّد في مسنده. وقال: وددت أني من الجنة حيث أرى أبا بكر، أخرجه ابن أبي الدنيا، وابن عساكر. وقال: لقد كان ريح أبي بكر أطيب من ريح المسك، أخرجه أبو نعيم. وأخرج ابن عساكر عن علي أنه دخل على أبي بكر وهو مسجّى، فقال: ما أحد لقي الله بصحيفته أحب إليّ من هذا المسجى. وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حدثني عمر بن الخطاب أنه ما سبق أبا بكر إلى خير قط إلا سبقه به".   1 أخرجه البخاري "3754/7". 2 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان "36/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وأخرج الطبراني في الأوسط عن علي قال: والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر1. وأخرج في الأوسط أيضًا عن جحيفة، قال: قال عليّ: خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وعمر، لا يجتمع حُبّي وبغض أبي بكر وعمر في قلب مؤمن2. وأخرج في الكبير عن ابن عمر قال: ثلاثة من قريش أصبح قريش وجوهًا وأحسنها أخلاقًا، وأثبتها جنانًا، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان3. وأخرج ابن سعد عن إبراهيم النخعي قال: كان أبو بكر يسمى: "الأواه" لرأفته ورحمته4. وأخرج ابن عساكر عن الربيع بن أنس قال: مكتوب في الكتاب الأول: مثلُ أبي بكر الصديق مثل القطر، أينما وقع نفع. أخرج ابن عساكر عن الربيع بن أنس قال: نظرنا في صحابة الأنبياء فما وجدنا نبيًّا كان له صاحب مثل أبي بكر الصديق. وأخرج عن الزهري قال: من فضل أبي بكر أنه لم يشك في الله ساعة قط. وأخرج عن الزبير بن بكار قال: سمعت بعض أهل العلم يقول: خطباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما. وأخرج عن أبي حصين قال: ما ولد لآدم في ذريته بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر، ولقد قام أبو بكر يوم الردة مقام نبي من الأنبياء. فصل: أخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر، عن الشعبي قال: خص الله تبارك وتعالى أبا بكر بأربع خصال لم يخص بها أحد من الناس: سماه الصديق ولم يسم أحدًا الصديق غيره، وهو صاحب الغار مع رسول الله -صلى اله عليه وسلم- ورفيقه في الهجرة، وأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة والمسلمون شهود. وأخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف عن جعفر، قال: كان أبو بكر يسمع مناجاة جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يراه. وأخرج الحاكم عن ابن المسيب قال: كان أبو بكر من النبي -صلى الله عليه وسلم- مكان الوزير، فكان   1 أخرجه الطبراني في الأوسط "46/9 مجمع". وقال الهيثمي: وفيه أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل الحراني ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. 2 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح 996، 2749، 6922". 3 أخرجه الطبراني في الكبير "16/1". 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات "161/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يشاوره في جميع أموره، وكان ثانيه في الإسلام، وثانيه في الغار، وثانيه في العريش يوم بدر، وثانيه في القبر، ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدم عليه أحدًا1. فصل: في الأحاديث والآيات المشيرة إلى خلافته وكلام الأئمة في ذلك أخرج الترمذي وحسنه الحاكم وصححه عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" 2. وأخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء، والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وأخرج أبو القاسم البغوي بسند حسن عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يكون خلفي اثنا عشر خليفة: أبو بكر لا يلبث إلا قليلاً" صدر هذا الحديث مجمع على صحته، وارد من طرق عدة، وقد تقدم شرحه في أول هذا الكتاب، وفي الصحيحين في الحديث السابق: أنه صلى الله عليه وسلم لما خطب قرب وفاته وقال: "إن عبدًا خيره الله" الحديث، وفي آخره: "ولا يبقيَّن باب إلا سد، إلا باب أبي بكر"، وفي لفظ لهما: "لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" 3. قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين، وقد ورد هذا اللفظ من حديث أنس -رضي الله عنه- ولفظه: "سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر"4. أخرجه ابن عدي ومن حديث عائشة -رضي الله عنها- أخرجه الترمذي وغيره، ومن حديث أنس أخرجه البزار. وأخرج الشيخان عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ -كأنها تقول: الموت- فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" 5. وأخرج الحاكم وصححه عن أنس -رضي الله عنه- قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته فسألته: فقال: "إلى أبي بكر" 6. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله شيئًا، فقال لها: تعودين، فقالت: يا رسول الله! إن عدت فلم أجدك؟ -تعرض الموت-   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "63/3"، وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: في رواته مجهول. 2 أخرجه الترمذي "3662/5" والحاكم في المستدرك "75/3"، والطبراني في الكبير "53/9 مجمع" وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح، ووافقه الذهبي. 3 أخرجه البخاري "3904/7"، ومسلم "2/4 فضائل الصحابة". 4 أخرجه ابن عدي في الكامل "225/1" وأخرجه الترمذي "3678/5". وقال: هذا حديث غريب. 5 أخرجه البخاري "3659/7"، ومسلم "2386/4". 6 أخرجه الحاكم في المستدرك "77/3". وقال: هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فقال: "إن جئت فلم تجديني فأتي أبا بكر فإنه الخليفة من بعدي". وأخرج مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: "ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتابًا؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 1. وأخرج أحمد وغيره من طرق عنها، وفي بعضها قالت: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي فيه مات: "ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه أحد بعدي"، ثم قال: "دعيه، معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر". وأخرج مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سئلت: من كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مستخلفًا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر، قيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، قيل لها: ومن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح2. وأخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- اشتد مرضه، فقال: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" قالت عائشة: يا رسول الله، إنه رجل رقيق القلب، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، فقال: "مري أبا بكر فليصلِّ بالناس"، فعادت فقال: "مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف"، فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم3. هذا الحديث متواتر، وورد أيضًا من حديث عائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن زمعة، وأبي سعيد، وعلي بن أبي طالب، وحفصة -رضي الله عنها- وقد سقت طرقهم في الأحاديث المتواترة. وفي بعضها عن عائشة -رضي الله عنها- لقد راجعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبدًا، إلا أني كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا أن تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل لذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكر. وفي حديث ابن زمعة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة وكان أبو بكر غائبًا فتقدم عمر فصلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، لا، لا يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، يصل بالناس أبو بكر" 4. وفي حديث ابن عمر: كبر عمر، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- تكبيره فأطلع رأسه مغضبًا فقال: "أين ابن أبي قحافة؟ ". قال العلماء: في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق، وأحقهم بالخلافة، وأولاهم بالإمامة.   1 أخرجه مسلم "2378/4". 2 أخرجه مسلم "2385/4". 3 أخرجه البخاري "678/2"، مسلم "420/1". 4 أخرجه أبو داود "4661/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال الأشعري: قد علم بالضرورة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الصديق أن يصلي بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" 1. فدل على أنه أقرؤهم: أي أعلمهم بالقرآن. انتهى. وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة، منهم عمر -وسيأتي قوله في فصل المبايعة- ومنهم علي. وأخرج ابن عساكر عنه قال: لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر أن يصلي بالناس وإني شاهد، وما أنا بغائب، وما بي مرض فرضينا لدنيانا ما رضي به النبي -صلى الله عليه وسلم- لديننا. قال العلماء: وقد كان معروفًا بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد وأبوداود وغيرهما عن سهل بن سعد قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، وقال: "يا بلال! إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس" فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر فصلى2. وأخرج أبو بكر الشافعي في الغيلانيات، وابن عساكر عن حفصة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا أنت مرضت قدمت أبا بكر، قال: "لست أنا أقدمه، ولكن الله يقدمه". وأخرج الدارقطني في الأفراد، والخطيب، وابن عساكر عن علي -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سألت الله أن يقدمك ثلاثًا فأبى علي إلا تقديم أبي بكر" 3. وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: قال أبو بكر: يا رسول الله! ما أزال أراني أطأ في عذرات الناس، قال: "لتكونن من الناس بسبيل" قال: ورأيت في صدري كالرقمتين، قال: "سنتين" 4. وأخرج ابن عساكر عن أبي بكرة قال: أتيت عمر -وبين يديه قوم يأكلون- فرمى ببصره في مؤخر القوم إلى رجل فقال: ما تجد فيما تقرأ قبلك من الكتب؟ قال: خليفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصديقه. وأخرج ابن عساكر عن محمد بن الزبير قال: أرسلني عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أسأله عن أشياء، فجئته، فقلت له: اشفني فيما اختلف الناس فيه، هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- استخلف أبا بكر؟ فاستوى الحسن قاعدًا وقال: أو في شك هو لا أبا لك؟! إي والله الذي لا إله إلا هو لقد استخلفه، ولهو كان أعلم بالله، وأتقى له، وأشد له مخافة من أن يموت عليها لو لم يؤمره.   1 أخرجه أبو داود "582/1" والنسائي في سننه "779/2". 2 أخرجه أحمد "332/5"، وأبو داود "941/1". 3 أخرجه الخطيب في تاريخه "213/11"، وابن عساكر في تاريخه "32637/11". 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات "165/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأخرج ابن عدي عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي الرشيد: يا أبا بكر، كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون، قال: والله ما زدتني إلا غمًّا، قال: يا أمير المؤمنين مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية أيام، فدخل عليه بلال فقال: يا رسول الله! من يصلي بالناس؟ قال: مر أبا بكر يصلي بالناس، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسكوت الله وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعجبه، فقال: بارك الله فيك1. وقد استنبط جماعة من العلماء خلافة الصديق من آيات القرآن، فأخرج البيهقي عن الحسن البصري في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} [المائدة: 54] قال: هو والله أبو بكر وأصحابه، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الإسلام. وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال: لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب، فذكر قتال أبي بكر لهم، إلى أن قال: فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} [المائدة: 54] . وأخرج ابن أبي حاتم عن جويبر في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيد} [الفتح: 16] قال: هم بنو حنيفة، قال ابن أبي حاتم وابن قتيبة: هذه الآية حجة على خلافة الصديق؛ لأنه الذي دعا إلى قتالهم. وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري2: سمعت أبا العباس بن شريح يقول: خلافة الصديق في القرآن في هذه الآية، قال: لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبي بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة، قال: فدل ذلك على وجوب خلافة أبي بكر وافتراض طاعته، إذا أخبر الله أن المتولي عن ذلك يعذب عذابًا أليمًا، قال ابن كثير: ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان، وهما فرعا الصديق، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور: 55] الآية، قال ابن كثير: هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهدي قال: إن ولاية أبي بكر وعمر في كتاب الله، يقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور: 55] .   1 أخرجه ابن عدي في الكامل "26/4". 2 هو علي بن إسماعيل الأشعري: المنتسب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- وقد ذكر صاحب الملل والنحل أن أبا موسى الأشعري كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه، وتوفي أبو الحسن الأشعري سنة 324هـ، ومن أشهر كتبه: "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" و"الإبانة عن أصول الديانة" وهو مؤسس فرقة الأشعرية. الملل والنحل "94". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وأخرج الخطيب عن أبي بكر بن عياش قال: أبو بكر الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِين} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] فمن سماه صدّيقًا فليس يكذب وهم قالوا: يا خليفة رسول الله، قال ابن كثير: استنباط حسن. وأخرج البيهقي عن الزعفراني قال: سمعت الشافعي يقول: أجمع الناس على خلافة أبي بكر الصديق، وذلك أنه اضطر الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرًا من أبي بكر فولوه رقابهم. وأخرج أسد السنة في فضائله عن معاوية بن قرة: ما كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلال. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيئ وقد رأى الصحابة أن يستخلفوا أبا بكر1. وأخرج الحاكم وصححه الذهبي عن مرة الطيب قال: جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي فقال: ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة وأذلها ذلاً؟ -يعني: أبا بكر- والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً، قال: فقال علي: لطالما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان فلم يضره ذلك شيئًا، إنا وجدنا أبا بكر أهلاً لها2. فصل: في مبايعته رضي الله عنه روى الشيخان أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطب الناس مرجعه من الحج، فقال في خطبته: قد بلغني أن فلانًا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانًا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلته وتمت، ألا وإنها كانت كذلك، إلا أن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن عليًّا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة، وتخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان، فذكرا لنا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون، يا معشر المهاجرين؟ قلت: نؤيد إخواننا من الأنصار، فقال: عليكم ألا تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين؟ فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "79،78/3". وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "78/3" وسكت الحاكم، وقال الذهبي: سنده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 على الله بما هو أهله، وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا وتغصبونها من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وقد كنت زورت مقالة أعجبتني، أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحلم مني وأوقر، فقال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه، وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بداهته مثلها وأفضل منها حتى سكت، فقال: أما بعد، فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، ولم تعرف العرب هذا الأمر لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، فقال قائل من الأنصار: أن جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى خشيت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، أما والله ما وجدنا فيمن حضرنا أمرًا هو أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيهم فساد1. وأخرج النسائي وأبو يعلى والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر2. وأخرج ابن سعد والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، قال: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر، قام خطباء الأنصار، فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم، فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت فقال: أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم، فبايعه عمر، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، وصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير، فدعا بالزبير فجاء، فقال: قلت ابن عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحواريه! أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول   1 أخرجه البخاري "6830/12". 2 أخرجه النسائي "776/2"، وأبو يعلى في مسنده "1358/2"، والحاكم في المستدرك "67/3" وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الله. فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليًّا فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختنه على ابنته! أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعه1. وقال ابن إسحاق في السيرة: حدثني الزهري قال: حدثني أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله قد جمع أمركم على خيركم -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار- فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة، ثم تكلم أبو بكر وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، ولا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. وأخرج أبو موسى بن عقبة في مغازيه، والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف قال: خطب أبو بكر، فقال: والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط، ولا كنت راغبًا فيها ولا سألتها الله سرًّا ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرًا عظيمًا ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله، فقال علي والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصلي بالناس وهو حي2. وأخرج ابن سعد عن إبراهيم التميمي قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال: ابسط يدك لأبايعك، إنك أمين هذه الأمة على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو عبيدة لعمر: ما رأيت لك فهَّة قبلها منذ أسلمت! أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين؟! الفهَّة: ضعف الرأي3. وأخرج ابن سعد أيضًا عن محمد أن أبا بكر قال لعمر: ابسط يدك لأبايعك، فقال له عمر: أنت أفضل مني، فقال أبو بكر، أنت أقوى مني، ثم كرر ذلك، فقال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك، فبايعه4. وأخرج أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "169/2" والبيهقي في السنن "143/8". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "66/3". وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "168/2". 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات "171/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 في طائفة من المدينة، فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداء لك أبي وأمي ما أطيبك حيًّا وميتًا، مات محمد ورب الكعبة ... - فذكر الحديث، قال: وانطلق أبو بكر وعمر يتفاودان حتى أتوهم، فتكلم أبو بكر، فلم يترك شيئًا أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأنهم إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا لسلكت وادي الأنصار". ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم". فقال له سعد: صدقت، ونحن الوزراء، وأنتم الأمراء1. وأخرج ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: لما بويع أبو بكر رأى من الناس بعض الانقباض فقال: أيها الناس، ما يمنعكم؟ ألست أحقكم بهذا الأمر؟ ألست أول من أسلم؟ ألست؟ ألست؟ فذكر خصالًا. وأخرج أحمد عن رافع الطائي، قال: حدثني أبو بكر عن بيعته، وما قالته الأنصار، وما قاله عمر، قال: فبايعوني وقبلتها منهم، وتخوفت أن تكون فتنة يكون بعدها ردة. وأخرج ابن إسحاق وابن عابد في مغازيه عنه أنه قال لأبي بكر: ما حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين؟ قال: لم أجد من ذلك بدًّا، خشيت على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الفرقة. وأخرج أحمد عن قيس بن أبي حازم قال: إن لجالس عند أبي بكر الصديق بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهر، فذكر قصته، فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، ثم قال: أيها الناس، لوددت أن هذا كفانيه غيري، ولئن أخذتموني بسنّة نبيكم ما أطيقها، إن كان لمعصومًا من الشيطان، وإن كان لينزل عليه الوحي من السماء2. وأخرج ابن سعد عن الحسن البصري قال: لما بويع أبو بكر قام خطيبًا فقال: أما بعد فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم أقم به، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عبدًا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم، فراعوني، ما رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني، واعلموا أن لي شيطانًا يعتريني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني، ولا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم3. وأخرج ابن سعد والخطيب في رواية مالك عن عروة قال: لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني قد وليت أمركم، ولست بخيركم، ولكنه نزل القرآن، وسن النبي -صلى الله عليه وسلم- السنن، وعلمنا فعلمنا، فاعلموا -أيها الناس- أن أكيس الكيس التقي وأعجز العجز الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن   1 أخرجه أحمد في المسند "5/1". 2 أخرجه أحمد في المسند "14،13/1". 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "192/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإذا أحسنت فأعينوني، وإن أنا زغت فقوموني، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم1. قال مالك: لا يكون أحدًا إمامًا أبدًا إلا على هذا الشرط. وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتجت مكة، فسمع أبو قحافة ذلك، قال: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أمر جلل فمن قام بالأمر بعده؟ قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا واضع لما رفعت، ولا رافع لما وضعت. وأخرج الواقدي من طرق عن عائشة، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وغيرهم -رضي الله عنهم- أن أبا بكر بويع يوم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة2. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: لم يجلس أبو بكر الصديق في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر حتى لقي الله، ولم يجلس عمر في مجلس أبي بكر حتى لقي الله، ولم يجلس عثمان في مجلس عمر حتى لقي الله3. فصل: فيما وقع في خلافته والذي وقع في أيامه من الأمور الكبار: تنفيذ جيش أسامة، وقتال أهل الردة، ومانعي الزكاة، ومسيلمة الكذاب، وجمع القرآن. أخرج الإسماعيلي عن عمر -رضي الله عنه- قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتد من ارتد من العرب وقالوا: نصلي ولا نزكي، فأتيت أبا بكر فقلت: يا خليفة رسول الله! تألف الناس وارفق بهم فإنهم بمنزلة الوحش، فقال: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، جبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام، بماذا عسيت أن أتألفهم؟ بشعر مفتعل أو بسحر مفترى؟ هيهات هيهات! مضى النبي -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي، والله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي وإن منعوني عقالاً، قال عمر: فوجدته في ذلك أمضى مني وأحزم وأدب الناس على أمور هانت على كثير من مؤنتهم حين وليتهم. وأخرج أبو القاسم البغوي، وأبو بكر الشافعي في فوائده، وابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- اشرأب النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بفنائها   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "169/2". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "245/3" وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: ولم يخرجا لعمارة شيئًا. 3 أخرجه الطبراني في الأوسط "7919/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وفضلها، قالوا: أين يدفن النبي، صلى الله عليه وسلم؟ فما وجدنا عند أحد من ذلك علمًا، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه". قالت: واختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحد من ذلك علمًا، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة". قال الأصمعي: الهيض: الكسر للعظم، والاشرئباب: رفع الرأس. قال بعض العلماء: وهذا أول اختلاف وقع بين الصحابة -رضي الله عنهم- فقال بعضهم: ندفنه بمكة بلده الذي ولد بها، وقال آخرون: بل بمسجده، وقال آخرون: بل بالبقيع، وقال آخرون: بل في بيت المقدس مدفن الأنبياء، حتى أخبرهم أبو بكر بما عنده من علم قال ابن زنجوية: وهذه سنة تفرد بها الصديق من بين المهاجرين والأنصار، ورجعوا إليه فيها. وأخرج البيهقي وابن عساكر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبد الله، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب حول المدينة، واجتمع إليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رددت جيشًا وجهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا حللت لواء عقده، فوجه أسامة، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوهم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام. وأخرج عن عروة قال: جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه: "أنفذوا جيش أسامة"، فسار حتى بلغ الجرف، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول: لا تعجل، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثقل فلم يبرح حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قبض رجع إلى أبي بكر، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوف أن تكفر العرب، وإن كفرت كانوا أول من يقاتل، وإن لم تكفر مضيت، فإني معي سروات1 الناس وخيارهم، فخطب أبو بكر الناس، ثم قال: والله لأن تخطفني الطير أحب إلى من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبعثه. قال الذهبي: لما اشتهرت وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنواحي ارتدت طوائف كثيرة من العرب عن الإسلام، ومنعوا الزكاة، فنهض أبو بكر الصديق لقتالهم، فأشار عليه عمر وغيره أن يفتر عن قتالهم، فقال: والله لو منعوني عقالاً أو عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها   1 سروات الناس: أي أشرافهم ومفردها سَرِيٌ. النهاية في غريب الحديث "363/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وحسابه على الله". فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال وقد قال: "إلا بحقها". قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. أخرجه الشيخان وغيرهما1. وعن عروة قال: خرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار حتى بلغ نقعًا حذاء نجد، وهربت الأعراب بذراريهم، فكلم الناس أبا بكر، وقالوا: ارجع إلى المدينة وإلى الذرية والنساء، وأَمّر رجلاً على الجيش، ولم يزالوا به حتى رجع، وأَمّر خالد بن الوليد، وقال له: إذا أسلموا وأعطوا الصدقة، فمن شاء منكم أن يرجع فليرجع، ورجع أبو بكر إلى المدينة. وأخرج الدارقطني عن ابن عمر قال: لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: "شم سيفك ولا تفجعنا بنفسك"، وارجع إلى المدينة فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا2. وعن حنظلة بن علي الليثي أن أبا بكر بعث خالدًا وأمره أن يقاتل الناس على خمس، من تر ك واحدة منهن قاتله كما يقاتل من ترك الخمس جميعًا: على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وسار خالد ومن معه في جمادى الآخرة، فقاتل بين أسد، وغطفان، وقتل من قتل وأسر من أسر ورجع الباقون إلى الإسلام، واستشهد بهذه الواقعة من الصحابة عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم. وفي رمضان من هذه السنة ماتت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدة نساء العالمين، وعمرها أربع وعشرون سنة. قال الذهبي: وليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- نسب إلا منها، فإن عقب ابنته زينب انقرضوا، قاله الزبير بن بكار، وماتت قبلها بشهر أم أيمن، وفي شوال مات عبد الله بن أبي بكر الصديق. ثم سار خالد بجموعه إلى اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب في أواخر العام، والْتَقَى الجمعان، ودار الحصار أيامًا، ثم قتل الكذاب لعنه الله، قتله وحشي قاتل حمزة. واستشهد فيها خلق من الصحابة، أبو حذيفة بن عتبة، وسالم مولى أبي حذيفة، وشجاع بن وهب، وزيد بن الخطاب وعبد الله بن سهل، ومالك بن عمرو، والطفيل بن عمرو الدوسي، ويزيد بن قيس، وعامر بن البكير، وعبد الله بن مخرمة، والسائب بن عثمان بن مظعون، وعباد بن بشر، ومعن بن عدي، وثابت بن قيس بن شماس، وأبو دجانة سماك بن حرب، وجماعة آخرون تتمة سبعين. وكان لمسيلمة يوم قتل مائة وخمسون سنة ومولده قبل مولد عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم   1 أخرجه البخاري "1400،1399/3"، ومسلم "20/1". 2 أخرجه البخاري الدارقطني في غرائب مالك "14158/5 كنز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وفي سنة اثنتي عشرة بعث الصديق العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وكانوا قد ارتدوا، فالتقوا بجواثي، فنصر المسلمون، وبعث عكرمة بن أبي جهل، إلى عمان، وكانوا قد ارتدوا، وبعث المهاجر بن أبي أمية إلى أهل النجير، وكانوا قد ارتدوا وبعث زياد بن لبيد الأنصاري إلى طائفة من المرتدة، وفيها مات أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- والصعب بن جثامة الليثي، وأبو مرثد الغنوي، وفيها بعد فراغ قتال أهل الردة بعث الصديق -رضي الله عنه- خالد بن الوليد إلى أرض البصرة، فغزا الأيلة، فافتتحها وافتتح مدائن كسرى التي بالعراق صلحًا وحربًا، وفيها أقام الحج أبو بكر الصديق، ثم رجع فبعث عمرو بن العاص والجنود إلى الشام، فكانت وقعت أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، ونصر المسلمون وبشر بها أبو بكر وهو بآخر رمق، واستشهد بها عكرمة بن أبي جهل، وهشام بن العاص في طائفة وفيها كانت وقعت مرج الصفر1، وهزم المشركون، واستشهد بها الفضل بن العباس في طائفة. ذكر جمع القرآن أخرج البخاري عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلى بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن يجمعوه، وإني لأرى أن يجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، فرأيت الذي رأى عمر، قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم فقال أبو بكر: إنك شاب عاقل، ولا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، فقلت كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت، لم أجدهما مع غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُم} إلى آخرها [التوبة: 129،128] . فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما2. وأخرج أبو يعلى عن علي، قال: أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين.   1 مرج الصُّفَّر: كانت موقعة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وهي بين الواقوصة ودمشق، وقال: إن خالد بن سعيد بن العاص استشهد فيها وقيل: إن الذي استشهد فيها ابن له. 2 أخرجه البخاري "4679/8". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فصل: في أولياته منها: أنه أول من أسلم، وأول من جمع القرآن، وأول من سماه مصحفًا، وتقدم دليل ذلك. وأول من سُمّي خليفة. وأخرج أحمد عن أبي بكر بن أبي مليكة قال: قيل لأبي بكر، يا خليفة الله، قال: أنا خليفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا راضٍ به. ومنها أنه أول من ولي الخلافة وأبوه حي، وأول خليفة فرض له رعيته العطاء. أخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما استخلف أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين فسيأكل أهل أبي بكر من هذا المال، ويحترف المسلمون1. وأخرج ابن سعد عن عطاء بن السائب قال: لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أبراد، وهو ذاهب إلى السوق، فقال عمر: أين تريد؟ قال: إلى السوق، قال: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قال: انطلق، يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين، ليس بأفضلهم ولا أوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف إذا أخلقت شيئًا رددته وأخذت غيره، ففرضا له كل يوم نصف شاة، وما كساه في الرأس والبطن2. وأخرج ابن سعد عن ميمون قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإن لي عيالًا وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوه خمسمائة3. وأخرج الطبراني في مسنده عن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: لما احتضر أبو بكر قال: يا عائشة! انظري اللقحة4 التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبغ فيها والقطيفة5 التي كنا نلبسها! فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا نلي أمر المسلمين، فإذا مت فاردديه إلى عمر، فلما مات أبو بكر أرسلت به إلى عمر فقال عمر: رحمك الله يا أبا بكر! لقد أتعبت من جاء بعدك6. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي بكر بن حفص قال: قال أبو بكر لما احتضر لعائشة رضي الله عنها: يا بنية! إنا ولينا أمر المسلمين فلم نأخذ لنا دينارًا ولا درهَمًا، ولكنا أكلنا من جريش7 طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وإنه لم يبق عندنا من   1 أخرجه البخاري "2070/4". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "170/2". 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "171/2". 4 اللقحة: بالكسر والفتح، هي الناقة القريبة العهد بالنتاج والجمع لقح. النهاية "262/4". 5 قطيفة: كساء له خمل وفيه: "تعس عبد القطيفة"، النهاية "84/4". 6 أخرجه الطبراني في الكبير "38/1". 7 جريش طعامهم: الجرش: صوت يحصل من أقل شيء خشن، ويراد به القديد من الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فَيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضج، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر. ومنها: أنه أول من اتخذ بيت المال. أخرج ابن سعد عن سهل بن أبي خيثمة وغيره أن أبا بكر كان له بيت مال بالسنح ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال: عليه قفل، فكان يعطي ما فيه حتى يفرغ، فلما انتقل إلى المدينة حوله فجعله في داره، فقدم عليه مال، فكان يقسمه على فقراء الناس فيسوي بين الناس في القسم، وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيجعله في سبيل الله، واشترى قطائف أتى بها من البادية ففرقها في أرامل المدينة، فلما توفي أبو بكر ودفن دعا عمر الأمناء ودخل بهم في بيت مال أبي بكر منهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه شيئًا لا دينارًا ولا درهَمًا1. قلت: وبهذا الأثر يرد قول العسكري في الأوائل: إن أول من اتخذ بيت المال عمر، وإنه لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- بيت مال، ولا لأبي بكر -رضي الله عنه- وقد رددته عليه في كتابي الذي صنفته في الأوائل، ثم رأيت العسكري تنبه له في موقع آخر من كتابه، فقال: إن أول من ولي بيت المال أبو عبيدة بن الجراح لأبي بكر. ومنها: قال الحاكم: أول لقب في الإسلام لقب أبي بكر، رضي الله عنه: عتيق. فصل أخرج الشيخان عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا". فلما جاء مال البحرين بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر: من كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- دين أو عدة فليأتنا، فجئت وأخبرته، فقال: خذ، فأخذت، فوجدتها خمسمائة، فأعطاني ألفًا وخمسمائة2. فصل: في نبذ من حلمه وتواضعه أخرج ابن عساكر عن أنيسة قالت: نزل فينا أبو بكر ثلاث سنين قبل أن يستخلف، وسنة بعدما استخلف، فكانت جواري الحي يأتينه بغنمهن فيحلبهن لهن. وأخرج أحمد في الزهد عن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: السلام عليك يا خليفة رسول الله! قال: من بين هؤلاء أجمعين. وأخرج ابن عساكر عن أبي صالح الغفاري: أن عمر بن الخطاب كان يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "172،171/2" بنحوه. 2 أخرجه البخاري "2296/4" ومسلم "2314/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري. وأخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن الأصبهاني قال: جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر وهو على منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: انزل عن مجلس أبي، فقال: صدقت! إنه مجلس أبيك، وأجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن أمري، فقال: صدقت والله ما أتهمك1. فصل أخرج ابن سعد عن ابن عمر قال: "استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر على الحج في أول حجة كانت في الإسلام، ثم حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السنة المقبلة، فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر استعمل عمر بن الخطاب على الحج، ثم حج أبو بكر من قابل، فلما قبض أبو بكر واستخلف عمر استعمل عبد الرحمن بن عوف على الحج، ثم لم يزل عمر يحج سنيه كلها حتى قبض، فاستخلف عثمان، واستعمل عبد الرحمن بن عوف على الحج"2. فصل: في مرضه ووفاته، ووصيفته، واستخلافه عمر أخرج سيف والحاكم عن ابن عمر قال: كان سبب موت أبي بكر وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كمد مازال جسده يضوي حتى مات. يضوي: أي ينقص. أخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب: أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فقال الحارث لأبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والله إن فيها لسم سنة، وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة3. وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: ماذا نتوقع من هذه الدنيا الدنية وقد سم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسم أبو بكر4؟! وأخرج الواقدي والحاكم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يومًا باردًا، فحم خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى الصلاة، وتوفي ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة5.   1 أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان "99/2". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "165/2". 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "182/2". والحاكم في المستدرك "64/3". وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: رواه الليث وهو مرسل. 4 أخرجه الحاكم في المستدرك "64/3"، وسكت عليه الحاكم. وقال الذهبي: السري متروك. 5 أخرجه الحاكم في المستدرك "63/3"، وسكت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وأخرج ابن سعد وابن أبي الدنيا عن أبي السفر، قال: دخلوا على أبي بكر في مرضه، فقالوا: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا ندعوا لك طبيبًا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إلي فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد1. وأخرج الواقدي من طرق: أن أبا بكر لما ثقل دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب؟ فقال: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن بن عوف: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر؟ قال: أنت أخبرنا به، فقال: على ذلك، فقال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، وشاور معهما سعيد بن زيد، وأسيد بن حضير، وغيرهما من المهاجرين، والأنصار، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخير بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسخط، الذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أقوى عليه منه. ودخل عليه بعض الصحابة، فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى علظته؟ فقال أبو بكر: بالله تخوفني؟ أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من ورائك. ثم دعا عثمان، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختومًا، فبايع الناس ورضوا به، ثم دعا أبو بكر عمر خاليًا، فأوصاه بما أوصاه، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يديه، وقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيًا، فوليت عليهم خيرهم، وأقواهم عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، وفاخلفني فيهم، فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، اصلح اللهم ولاتهم، واجعله من خلفائك الراشدين، وأصلح له رعيته. وأخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود، قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: استأجره، والعزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه2.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "181/2". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "346،345/2"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وأخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة، قال: لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة، فقال: أيها الناس! إني قد عهدت عهدًا، أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام علي، فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر. وأخرج أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين قال: فإن مت من ليلتي فلا تنتظروا بي لغد، فإن أحب الأيام والليالي إلي أقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وأخرج مالك عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية، والله ما من الناس أحد أحب إليّ غنى منك، ولا أعز علي فقرًا بعدي منك، وإن كنت نحلتك جداد عشرين وسقا، فلو كنت جددته واحترزته كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هو أخواك وأختاك فاقسموه على كتاب الله، فقالت: يا أبت! والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، أراها جارية، وأخرجه ابن سعد، وقال في آخره: ذات بطن ابنة خارجة، وقد ألقى في روعي أنها جارية، فاستوصى بها خيرًا، فولدت أم كلثوم2. وأخرج ابن سعد عن عروة أن أبا بكر أوصى بخمس ماله، وقال: آخذ من مالي ما أخذ الله من فَيْءِ المسلمين. وأخرج من وجه آخر عنه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع، وأن أوصي بالربع أحب إلى من أن أوصي بالثلث، ومن أَوْصَى بالثلث لم يترك شيئًا3. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن الضحاك: أن أبا بكر وعليًّا أوصيا بالخمس من أموالهما لمن لا يرث من ذوي قرابتهما. أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: والله ما ترك أبو بكر دينارًا ولا درهَمًا ضرب الله سكته. وأخرج ابن سعد وغيره عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما ثقل أبو بكر تمثلت بهذا البيت لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد} [ق: 19] انظروا ثوبَيَّ هذين فاغسلوهما، وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت4. وأخرج أبو يعلى عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخلت على أبي بكر وهو في الموت فقلت:   1 أخرجه أحمد في المسند "8/1". 2 أخرجه مالك في الموطأ "40/752/2"، وابن سعد في الطبقات "179،178/2". 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "182/2". 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات "18/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 من لا يزال دمعه مقنعًا ... فإنه في مرة مدفوق فقال: لا تقولي هذا ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد} [ق: 19] ثم قال: في أي يوم توفي الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فتوفي ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: لما احتضر أبو بكر قعدت عائشة -رضي الله عنها- على رأسه، فقالت: وكل ذي إبل يومًا سيوردها ... وكل ذي سلب لابد مسلوب ففهمها أبو بكر، فقال: ليس كذلك يا ابنتاه، ولكنه كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد} [ق: 19] . وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها: أنها تمثلت بهذا البيت وأبو بكر يقضي: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فقال أبو بكر: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبادة بن قيس قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة قال لعائشة: اغسلي ثوبَيَّ هذين وكفنيني بهما، فإنما أبوك أحد رجلين: إمام مكسو أحسن الكسوة، أو مسلوم أسوأ السلب. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن أبي مليكة: أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس، ويعينها عبد الرحمن بن أبي بكر. وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب: أن عمر -رضي الله عنه- صلى على أبي بكر بين القبر والمنبر، وكبر عليه أربعًا. وأخرج عن عروة، والقاسم بن محمد: أن أبا بكر أوصى عائشة أن يدفن إلى جنب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلما توفي حفر له وجعل رأسه عند كتف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وألصق اللحد بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم2. وأخرج عن ابن عمر قال: نزل في حفرة أبي بكر: عمر، وطلحة، وعثمان، وعبد الرحمن بن أبي بكر. وأخرج من طرق عدة: أنه دفن ليلاً. وأخرج عن ابن المسيب: أن أبا بكر لما مات ارتجت مكة، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: مات ابنك، قال: رزء جليل، من قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر، قال صاحبه3. وأخرج عن مجاهد، أن أبا قحافة رد ميراثه من أبي بكر على ولد أبي بكر، ولم يعش أبو   1 أخرجه أحمد في المسند "7/1". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "190/2". 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "191/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأيامًا، ومات في المحرم سنة أربع عشرة، وهو ابن سبع وتسعين سنة. قال العلماء: لم يلِ الخلافة أحد في حياة أبيه إلا أبو بكر، ولم يرث خليفة أبوه إلا أبا بكر. وأخرج الحاكم عن ابن عمر قال: ولي أبو بكر سنتين وسبعة أشهر1. وفي تاريخ ابن عساكر بسنده عن الأعصمي قال: قال خفاف بن ندبة السلمي يبكي أبا بكر: ليس لحي فاعلمنه بقا ... وكل دنيا أمرها للفنا والملك في الأقوام مستودع ... عارية فالشرط فيه الأدا والمرء يسعى وله راصد ... تندبه العين ونار الصدا يهرم أو يقتل أو يقهره ... يشكوه سقم ليس فيه شفا إن أبا بكر هو الغيث إن ... لم تزرع الجوزاء بقلاً بما تالله لا يدرك أيامه ... ذو مئزر ناشٍ، ولا ذو ردا من يسعَ كي يدرك أيامه ... مجتهدًا شذ بأرض فضا فصل: فيما روي عنه من الحديث المسند قال النووي في تهذيبه: روي عن الصديق عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة حديث واثنين وأربعين حديثًا، وسبب قلة روايته، مع تقدم صحبته وملازمته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها وتحصيلها وحفظها. قلت: وقد ذكر عمر -رضي الله عنه- في حديث البيعة السابق: أن أبا بكر لم يترك شيئًا أنزل في الأنصار أو قد ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأنهم إلا ذكره، وهذا أدل دليل على كثرة محفوظه من السنة وسعة علمه بالقرآن الكريم، وروى عنه: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي، وابن عوف، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عمرو، وابن عباس، وأنس، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعقبة بن الحارث، وعبد الرحمن ابنه، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن مغفل، وعقبة بن عامر الجهني، وعمران بن حصين، وأبو برزة الأسلمي، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري، وأبو الطفيل الليثي، وجابر بن عبد الله، وبلال، وعائشة ابنته، وأسماء ابنته، ومن التابعين: أسلم مولى عمر، وواسط البجلي، وخلائق.   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "65/3"، وسكت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقد رأيت أن أسرد أحاديثه هنا على وجه وجيز، مبينًا عقب كل حديث من خرّجه، وسأفردها بطرقها في المسند إن شاء الله تعالى: الأول: حديث الهجرة، الشيخان وغيرهما1. الثاني: حديث البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 2. الدارقطني. الثالث: حديث: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" 3. أحمد. الرابع: حديث: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكل كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ"4. البزار، وأبو يعلى. الخامس: حديث: "لا يتوضأن أحدكم من طعام أكله حل له أكله" 5. البزار. السادس: حديث: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ضرب المصلين"6. أبو يعلى والبزار. السابع: حديث: "آخر صلاة صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفي في ثوب واحد"7. أبو يعلى. الثامن: حديث: "من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" 8. أحمد. التاسع: حديث: "أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" 9. البخاري، ومسلم. العاشر: حديث: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا تخفروا الله في عهده، فمن قتله طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه" 10. ابن ماجه. الحادي عشر: حديث: "ما قبض نبي قط حتى يؤمه رجلاً من أمته" 11. البزار. الثاني عشر: حديث: "ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله إلا غفر له" 12. أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وابن حبان.   1 أخرجه البخاري "3653/7"، ومسلم "2381/4". 2 أخرجه الدارقطني في سننه "34/1". 3 أخرجه أحمد في المسند "47/6،3/1". 4 أخرجه البزار "360/3"، وأبو يعلى في مسنده "2352/4". 5 أخرجه البزار "77/1". 6 أخرجه أبو يعلى في مسنده "89،88/1، 4144/7" والبزار "39/1" 7 أخرجه أبو يعلى في مسنده "3596،3548/6". 8 أخرجه أحمد في المسند "36،7/1". 9 أخرجه البخاري "834/2"، ومسلم "2705/4". 10 أخرجه ابن ماجه "3946،3945/2". 11 أخرجه البزار "3/1". 12 أخرجه أحمد "2/1" وأبو داود "1521/2" والترمذي "46/2"، وابن ماجه "1395/1" وابن حبان "10/2 إحسان"، وقال أبو عيسى: حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الثالث عشر: حديث: "ما قبض الله نبيًّا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه" 1. الترمذي. الرابع عشر: حديث: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 2. أبو يعلى. الخامس عشر: حديث: "إن الميت ينضح عليه الحميم ببكاء الحي" 3. أبو يعلى. السادس عشر: حديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإنها تقيم العوج وتدفع ميتة السوء، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان" 4. أبو يعلى. السابع عشر: حديث فرائض الصدقات بطوله، البخاري وغيره 5. الثامن عشر: حديث: عن ابن أبي مليكة قال: كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق، فيضرب بذراع ناقته فينيخها، فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ فقال: إن حبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني ألا أسأل الناس شيئًا.6 أحمد. التاسع عشر: حديث: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسماء بنت عميس حين نفست بمحمد بن أبي بكر أن تغتسل وتهل7. البزار، والطبراني. العشرون: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الحج أفضل؟ فقال: "العَجُّ والثَّجُّ" 8. الترمذي وابن ماجه9. الحادي والعشرون: حديث: أنه قبّل الحجر وقال: لولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك. الدارقطني10. الثاني والعشرون: حديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث ببراءة إلى أهل مكة: "لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" 11. الحديث، أحمد. الثالث والعشرون: حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة" 12. أبو يعلى.   1 أخرجه الترمذي "1018/3"، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب. 2 أخرجه البزار في مسنده "1278/4". 3 أخرجه أبو يعلى في مسنده "47/1". 4 أخرجه أبو يعلى في مسنده "1/ 85، 5/ 2707". 5 أخرجه البخاري "1454/3"، وأبو داود "1567/2"، والنسائي "2446/5". 6 أخرجه أحمد في المسند "11/1". 7 أخرجه البزار في مسنده "78/1"، والطبراني في الكبير "366/24". 8 العج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: سيلان دماء الهدي والأضاحي، النهاية "207/1، 184/3". 9 أخرجه الترمذي "827/3"، وابن ماجه "2924/2". 10 أخرجه الدارقطني في العلل "12506/5 كنز". 11 أخرجه أحمد في المسند "3/1". 12 أخرجه أبو يعلى في مسنده "118/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الرابع والعشرون: حديث انطلاقه عليه السلام إلى دار أبي الهيثم بن التيهان بطوله، أبو يعلى1. الخامس والعشرون: حديث: "الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والزائد والمستزيد في النار" 2. أبو يعلى، والبزار. السادس والعشرون: حديث: "ملعون من ضار مؤمنًا أو مكر به" 3. الترمذي. السابع والعشرون: حديث: "لا يدخل الجنة بخيل ولا خب4 ولا خائن ولا سيئ الملكة وأول من يدخل الجنة المملوك إذا أطاع ربه وأطاع سيده" 5. الثامن والعشرون: حديث: "الولاء لمن أعتق" 6. الضياء المقدسي في المختارة. التاسع والعشرون: حديث: "لا نورث، ما تركناه صدقة" 7. البخاري. الثلاثون: حديث: "إن الله إذا أطعم نبيًّا طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده" 8. أبو داود. الحادي والثلاثون: حديث: "كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق" 9. البزار. الثاني والثلاثون: حديث: "أنت ومالك لأبيك". قال أبو بكر: وإنما يعني بذلك النفقة، البيهقي10. الثالث والثلاثون: حديث: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار" 11. البزار. الرابع والثلاثون: حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" 12. الحديث، الشيخان وغيرهما. الخامس والثلاثون: حديث: "نعم عبد الله وأخو العشيرة ابن الوليد وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين" 13. أحمد. السادس والثلاثون: حديث: "ما طلعت الشمس على رجل خير من عمر" 14. الترمذي.   1 أخرجه أبو يعلى في مسنده "3288/6". 2 أخرجه أبو يعلى في مسنده "55/1، 1325/2"، والبزار "45/1". 3 أخرجه الترمذي "1941/4"، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب. 4 خب: الخب هو الخداع، الذي يسعى بين الناس. انظر النهاية في غريب الحديث "4/2". 5 أخرجه أحمد في المسند "4/1". 6 أخرجه الضياء "185/2". 7 أخرجه البخاري "3093/6". 8 أخرجه أبو داود "2973/3". 9 أخرجه البزار في مسنده "91،70/1". 10 أخرجه البيهقي في السنن "481/7". 11 أخرجه البزار في مسنده "22/1". 12 أخرجه البخاري "1399/3"، ومسلم "20/1"، وأبو داود "2640/3"، والترمذي "2607/5" وقال أبو عيسى: حسن صحيح. 13 أخرجه أحمد في المسند "8/1". 14 أخرجه الترمذي "3684/5"، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 السابع والثلاثون: حديث: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم، ومن أعطى أحدًا حمى الله فقد انتهك من حمى الله شيئًا بغير حقه فعليه لعنة الله" 1. أحمد. الثامن والثلاثون: حديث: "قصة ماعز ورجمه" 2. أحمد. التاسع والثلاثون: حديث: "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" 3. الترمذي. الأربعون: حديث: "أنه عليه الصلاة والسلام شاور في أمر الحرب" 4. الطبراني. الحادي والأربعون: حديث: لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه} [النساء: 123] الحديث5. الترمذي، وابن حبان، وغيرهما. الثاني والأربعون: حديث: "إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُم} [المائدة: 105] الحديث6. أحمد، والأربعة، وابن حبان. الثالث والأربعون: حديث: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" الشيخان. الرابع والأربعون: حديث: "اللهم طعنا وطاعونا" 7. أبو يعلى. الخامس والأربعون: حديث: "شيبتني هود" 8. الحديث، الدارقطني في العلل. السادس والأربعون: حديث: "الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل" 9. الحديث. أبو يعلى وغيره. السابع والأربعون: حديث: "قلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت"10. الحديث. الهيثم بن كليب في مسنده، وهو عند الترمذي وغيره من مسند أبي هريرة. الثامن والأربعون: حديث: "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فإن إبليس قال: أهلكت   1 أخرجه أحمد في المسند "6/1". 2 أخرجه أحمد في المسند "453/2". 3 أخرجه الترمذي "3559/5"، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نضيرة، وليس إسناده بالقوي. 4 أخرجه الطبراني في الكبير "46/1". 5 أخرجه الترمذي "3039/5"، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال: موسى بن عبيدة يضعف في هذا الحديث، وابن حبان "745/3 إحسان". 6 أخرجه أحمد "21/1"، وأبو داود "4338/4"، والترمذي "3057/5"، وابن ماجه "4005/2"، وقال أبو عيسى: حسن صحيح. 7 أخرجه أبو يعلى "62/1". 8 أخرجه الدارقطني في العلل "124،110/2". 9 أخرجه أبو يعلى "61،60،59،58/1"، وأبو نعيم في الحلية "3/ 31، 114". 10 أخرجه الترمذي "3529/5"، وقال: هذا الحديث حسن غريب من هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون" 1. أبو يعلى. التاسع والأربعون: حديث: "لمانزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي} [الحجرات: 2] قلت: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي الهرم السرار"2. البزار. الخمسون: حديث: "كل ميسر لما خلق له" أحمد3. الحادي والخمسون: حديث: "من كذب علي متعمدًا أو ردَّ عليّ شيئًا أمرت به فليتبوأ بيتًا من جهنم". أبو يعلى4. الثاني والخمسون: حديث: "ما نجاة هذا الأمر-الحديث- في لا إله إلا الله" 5. أحمد وغيره. الثالث والخمسون: حديث: "اخرج فناد في الناس من شهد أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة، فخرجت فلقيني عمر" الحديث6. أبو يعلى وهو محفوظ من حديث أبي هريرة غريب جدًّا من حديث أبي بكر. الرابع والخمسون: حديث: "صنفان من أمتي لا يدخلان الجنة المرجئة والقدرية" 7. الدارقطني في العلل. الخامس والخمسون: حديث: "سلو الله العافية" 8. أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وله من طرق كثيرة عنه. السادس والخمسون: حديث: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أمرًا قال: "اللهم خر واختر لي". الترمذي9. السابع والخمسون: حديث: "دعاء الدين: اللهم فارج الهم". الحديث، البزار والحاكم10.   1 أخرجه أبو يعلى "136/1". 2 أخرجه البزار "668/3". 3 أخرجه أحمد في مسنده "6/1". 4 أخرجه أبو يعلى "73/1". 5 أخرجه أحمد في مسنده "6/1". 6 أخرجه أبو يعلى "15/1". 7 القدرية: هم أتباع معبد بن خالد الجهني البصري، وهو أول من تكلم في القدر. والمرجئة: ثلاثة أصناف: صنف قالوا بالإرجاء في الإيمان وبالقدر على مذاهب القدرية المعتزلة كغيلان، وصنف منهم: قالوا بالإرجاء بالإيمان وبالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، وسموا مرجئة؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان، وصنف ثالث خارج عن الجبرية والقدرية، والصنف الأول داخل في الخبر الوارد في لعن القدرية، انظر الفرق بين الفرق "202،18". 8 أخرجه أحمد في مسنده "3/1"، والنسائي كتاب الجنائز "102"، وابن ماجه "3848/2". 9 أخرجه الترمذي "3516/5"، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زنفل وهو ضعيف عند أهل الحديث. 10 أخرجه البزار "62/1" والحاكم في مستدركه "515/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الثامن والخمسون: حديث: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" وفي لفظ: "لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام" 1. أبو يعلى. التاسع والخمسون: حديث: "ليس شيء من الجسد إلا وهو يشكو ذرب2 اللسان". أبو يعلى3. الستون: حديث: "ينزل الله ليلة النصف من شعبان فيغفر فيها لكل بشر ما خلا كافرًا أو رجلًا في قلبه شحناء". الدارقطني4. الحادي والستون: حديث: "إن الدجال يخرج بالمشرق من أرض يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان5 المطرقة". الترمذي، وابن ماجه6. الثاني والستون: حديث: "أعطيت سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب" الحديث. أحمد7. الثالث والستون: حديث: "الشفاعة" بطوله في تردد الخلائق إلى نبي بعد نبي، أحمد8. الرابع والستون: حديث: "لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا لسلكت وادي الأنصار" 9. أحمد. الخامس والستون: حديث: "قريش ولاة هذا الأمر، برهم تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم" 10. أحمد. السادس والستون: حديث: أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار عند موته وقال: "اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" 11. البزار والطبراني. السابع والستون: حديث: "إني لأعلم أرضًا يقال لها عمان، ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" 12. أحمد وأبو يعلى. الثامن والستون: حديث: "إن أبا بكر مر بالحسن وهو يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته، وقال: بأبي شبيه بالنبي ليس شبيهًا بعلي"13. البخاري وقال ابن كثير: وهو في حكم المرفوع؛ لأنه في قوة قوله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يشبه الحسن.   1 أخرجه أبو يعلى "84/83/1". 2 ذرب اللسان: هو تسلطه وفساد منطقه، من قولهم: "ذرب لسانه" إذا كان حاد اللسان لا يبالي ما قال. 3 أخرجه أبو يعلى "5/1". 4 الدارقطني "7462/3 كنز". 5 المجان المطرقة: أي التراس التي ألبست العقب شيئًا فوق شيء. النهاية في غريب الحديث "123/3". 6 أخرجه الترمذي "2237/4" وابن ماجه "4072/2"، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب ولا نعرفه إلا من حديث أبي التياح. 7 أخرجه أحمد "6/1". 8 أخرجه أحمد "4/1". 9 أخرجه أحمد "5/1". 10 أخرجه أحمد "5/1". 11 أخرجه البزار "3/1"، والطبراني في الكبير "552،45/1، 6/ 5425". 12 أخرجه أحمد "44/1"، وأبو يعلى "106/1". 13 أخرجه البخاري "3750/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 التاسع والستون: حديث: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور أم أيمن"1. مسلم. السبعون: حديث: "قتل السارق في الخامسة" 2. أبو يعلى والديلمي. الحادي والسبعون: حديث: "قصة أحد" 3. الطيالسي والطبراني. الثاني والسبعون: حديث: بينا أنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ رأيته يدفع عن نفسه شيئًا، ولا أرى شيئًا، فقلت: يا رسول الله، ما الذي تدفع؟ قال: "الدنيا، تطولت لي، فقلت: إليك عني، فقالت لي: أما إنك لست بمدركي" 4 البزار. هذا ما أورده ابن كثير في مسند الصديق من الأحاديث المرفوعة، وقد فاته أحاديث أخرى نتبعها لتكملة العدة التي ذكرها النووي. الثالث والسبعون: حديث: "اقتلوا الفرد كائنًا ما كان من الناس" 5. الطبراني في الأوسط. الرابع والسبعون: حديث: "انظروا دور من تعمرون، وأرض من تسكنون، وفي طريق من تمشون"6. الديلمي. الخامس والسبعون: حديث: "أكثروا من الصلاة علي، فإن الله وكل بقبري ملكًا، فإذا صلى رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة" 7. الديلمي. السادس والسبعون: حديث: "الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، والغسل يوم الجمعة كفارة" الحديث8. العقيلي في الضعفاء. السابع والسبعون: حديث: "إنما حر جهنم على أمتي مثل الحمام" 9. الطبراني. الثامن والسبعون: حديث: "إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان". ابن لآل في مكارم الأخلاق. التاسع والسبعون: حديث: "بشر من شهد بدرًا بالجنة" 10. الدارقطني في الأفراد. الثمانون: حديث: "الدين راية الله الثقيلة من ذا الذي يطيق حملها؟ " 11. الديلمي.   1 أخرجه مسلم "2454/4". 2 أخرجه أبو يعلى "3541،3539/6"، والديلمي في الفردوس "1275", 3 أخرجه أبو داود الطيالسي "ص99 ح725". 4 أخرجه البزار "254/10 مجمع"، وقال الهيثمي: وفيه عبد الواحد بن زيد الزاهد وهو ضعيف عند الجمهور وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يعتبر حديثه إذا كان فوقه ثقة ودونه ثقة، وبقية رجاله ثقات. 5 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح544". 6 أخرجه الديلمي في الفردوس "ح358". 7 أخرجه الديلمي في الفردوس "ح250". 8 أخرجه العقيلي في الضعفاء "220/2". 9 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح6599". 10 أخرجه الدارقطي في الأفراد "33892/12 كنز". 11 أخرجه الديلمي في الفردوس "ح3098". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الحادي والثمانون: حديث: "سورة يس تدعى المعمَّة المطعمة" 1. الحديث، الديلمي والبيهقي في الشعب. الثاني والثمانون: حديث: "السلطان العادل المتواضع كظل الله ورمحه في الأرض، ويرفع له كل يوم وليلة عمل ستين صديقًا"2. أبو الشيخ والعقيلي في الضعفاء، وابن حبان في كتاب الثواب. الثالث والثمانون: حديث: "قال موسى لربه: ما جزاء من عزى الثكلى؟ قال: أظله في ظلي" 3. ابن شاهين في الترغيب، والديلمي. الرابع والثمانون: حديث: "اللهم اشدد الإسلام بعمر بن الخطاب". الطبراني في الأوسط. الخامس والثمانون: حديث: "ما صيد صيد ولا عضدت عضاة ولا قطعت وشيجة إلا بقلة التسبيح" 4. ابن راهويه في مسنده. السادس والثمانون: حديث: "لو لم أبعث فيكم لبعث عمر" 5. الحديث، الديلمي. السابع والثمانون: حديث: "لو اتجر أهل الجنة لاتجروا بالبز" 6 أبو يعلى. الثامن والثمانون: حديث: "من خرج يدعو إلى نفسه أو إلى غيره وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فاقتلوه" 7. الديلمي في التاريخ. التاسع والثمانون: حديث: "من كتب عني علمًا أو حديثًا لم يزل يكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم أو الحديث" 8. الحاكم في التاريخ. التسعون: حديث: "من مشى حافيًا في طاعة الله لم يسأله الله يوم القيامة عمَّا افترض عليه". الطبراني في الأوسط9. الحادي والتسعون: حديث: "من سره أن يظله الله من فور جهنم، ويجعله في ظله، فلا يكن على المؤمنين غليظًا وليكن ربهم رحيمًا" 10. ابن لآل في مكارم الأخلاق، وأبو الشيخ، وابن حبان في الثواب. الثاني والتسعون: حديث: "من أصبح ينوي لله طاعة كتب الله له أجر يومه وإن عصاه" 11. الديلمي.   1 البيهقي في شعب الإيمان "2465/2". 2 أخرجه أبو الشيخ "14589/6 كنز". 3 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح6449". 4 أخرجه ابن راهويه في مسنده "1920/1 كنز". 5 أخرجه الديلمي في الفردوس "5127". 6 أخرجه أبو يعلى "5611/1". 7 أخرجه الديلمي "5493". 8 أخرجه ابن عساكر في تاريخه "28951/10 كنز". 9 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح6183". 10 أخرجه ابن لآل في مكارم الأخلاق، وأبو الشيخ "5985/3 كنز". 11 أخرجه الديلمي في الفردوس "5773". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الثالث والتسعون: حديث: "ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب" 1 الطبراني في الأوسط. الرابع والتسعون: حديث: "لا يدخل الجنة مفتر" 2 الديلمي ولم يسنده. الخامس والتسعون: حديث: "لا تحقرن أحدًا من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير" الديلمي3. السادس والتسعون: حديث: "يقول الله: إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا خلقي" 4، أبو الشيخ وابن حبان والديلمي. السابع والتسعون: حديث: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإزار، فأخذ بعضلة الساق، فقلت: يا رسول الله زدني؟ فأخذ بمقدم العضلة، فقلت: زدني، قال: "لا خير فيما هو أسفل من ذلك، قلت: هلكنا يا رسول الله، قال: يا أبا بكر سدد وقارب تنج" 5. أبو نعيم في الحلية. الثامن والتسعون: حديث: "كفى وكف علي في العدل سواء" 6. الديلمي وابن عساكر. التاسع والتسعون: حديث: "لا تغفلوا التعوذ من الشيطان، فإنكم إن لم تكونوا ترونه فإنه ليس عنكم بغافل" 7. الديلمي ولم يسنده. المائة: حديث: "من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة" 8. الطبراني في الأوسط. الحادي والمائة: حديث: "من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا" 9. الطبراني في الأوسط. الثاني والمائة: حديث: "رفع اليدين في الافتتاح والركوع والسجود والرفع" 10. البيهقي في السنن. الثالث والمائة: حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم أهدى جملًا لأبي جهل". الإسماعيلي في معجمه. الرابع والمائة: حديث: "النظر إلى علي عبادة" 11. ابن عساكر. فصل: فيما ورد عن الصديق من تفسير القرآن أخرج أبو القاسم البغوي عن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر عن آية فقال: أي أرض   1 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح3851". 2 أخرجه الديلمي في الفردوس "7615". 3 أخرجه الديلمي في الفردوس "7813". 4 أخرجه أبو الشيخ والديلمي "5991/3 كنز". 5 أخرجه أبو نعيم في الحلية "361/4". 6 أخرجه ابن عساكر "513/4"، وابن الجوزي في الواهيات "32921/11 كنز". 7 أخرجه الديلمي في الفردوس "7471". 8 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح7110". 9 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح617". 10 أخرجه البيهقي في السنن "26/1". 11 أخرجه ابن عساكر في تاريخه "77/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تسعني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم يرد الله؟!. وأخرج أبو عبيدة عن إبراهيم التميمي قال: سئل أبو بكر عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّا} [عبس: 31] فقال: أي أرض تسعني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!. وأخرج البيهقي وغيره عن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يكون صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان: أراه ما خلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر قال: إني لأستحيي أن أرد شيئًا قاله أبو بكر"1. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الأسود بن هلال، قال: قال أبو بكر لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} [الأنعام: 82] فقالوا: ثم استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة، قال: لقد حملتموها على غير المحمل، ثم قال: قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يميلوا إلى إله غيره، ولم يلبسوا إيمانهم بشرك2. وأخرج ابن جرير عن عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة} [يونس: 26] قال: النظر لوجه الله تعالى. وأخرج ابن جرير عن أبي بكر في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال: قد قالها الناس، فمن مات عليها فهو ممن استقام. فصل: فيما روى الصديق -رضي الله عنه- من الآثار الموقوفة قولًا، أو قضاء، أو خطبة، أو دعاء أخرج اللالكائي في السنة عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: فإن الله قدره عليّ ثم يعذبني، قال: نعم، يابن اللخناء! 3، أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن الزبير: أن أبا بكر قال وهو يخطب الناس: يا معشر الناس، استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء مغطيًا رأسي استحياء من الله. أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن عمرو بن دينار قال: قال أبو بكر: استحيو من الله، فوالله إني لأدخل الكنيف فأسند ظهري إلى الحائط حياء من الله. وأخرج أبو داود4 في سننه عن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق.   1 أخرجه البيهقي "231/6". 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية "30/1". 3 ابن اللخناء: اللخناء: هي المرأة التي لم تختن، وقيل: اللخنة: النتن، وقد لخن السقاء يلخن، وهي من عبارات الشتم عن العرب انظر: النهاية في غريب الحديث "244/4". 4 أخرجه أبو داود "1832/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، وقرأ في الثالثة: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية. [آل عمران: 8] . وأخرج ابن أبي خيثمة، وابن عساكر عن ابن عيينة قال: كان أبو بكر إذا عزى رجلًا قال: ليس مع العزاء مصيبة، وليس مع الجزع فائدة، الموت أهون مما قبله، وأشد مما بعده، اذكروا فَقْد النبي -صلى الله عليه وسلم- تصغر مصيبتكم، وأعظم الله أجركم. وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني عن سالم بن عبيد وهو صحابي قال: كان أبو بكر الصديق يقول لي: قم بيني وبين الفجر حتى أتسحر1. وأخرج عن أبي قلابة وأبي السفر قالا: كان أبو بكر الصديق يقول: أجيفوا الباب2 حتى نتسحر. وأخرج البيهقي وأبو بكر بن زياد النيسابوري في كتاب الزيادات، عن حذيفة بن أسيد قال: لقد أدركت أبا بكر وعمر وما يضحيان، إرادة أن يستن بهما. وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: شهدت على أبي بكر الصديق أنه قال: كلوا الطافي من السمك3. وأخرج الشافعي في الأم عن أبي بكر الصديق: أنه كره بيع اللحم بالحيوان. وأخرج البخاري عنه: أنه جعل الجد بمنزلة الأب، يعني في الميراث4. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن عطاء عن أبي بكر قال: الجد بمنزلة الأب ما لم يكن أب دونه، ابن الابن بمنزلة الابن ما لم يكن ابن دونه. وأخرج عن القاسم: أن أبا بكر أتى برجل انتفى من أبيه، فقال أبو بكر: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس. وأخرج عن ابن أبي مالك قال: كان أبو بكر إذا صلى على الميت قال: اللهم عبدك أسلمه الأهل والمال والعشيرة، والذنب عظيم، وأنت الغفور الرحيم. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن عمر: أن أبا بكر قضى بعاصم بن عمر بن الخطاب لأم عاصم، وقال: ريحها وشمها ولطفها خير له منك. وأخرج البيهقي عن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: إن أبي يريد أن يأخذ مالي كله يجتاحه، فقال لأبيه، إنما لك من ماله ما يكفيك، فقال: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"؟ فقال: نعم، وإنما يعني بذلك النفقة5.   1 أخرجه ابن أبي شيبة "2/ 441/ 2". 2 أجيفوا الباب: أي أغلقوا الباب وردوه. 3 أخرجه أبو داود "3815/4". 4 أخرجه البخاري "12ص19" تعليقًا. 5 أخرجه البيهقي في سننه "481/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وأخرج أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد. وأخرج البخاري عن ابن أبي مليكة عن جده: أن رجلًا عض يد رجل فأندر ثنيته فأهدرها أبو بكر1. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عكرمة: أن أبا بكر قضى في الأذن بخمس عشرة من الإبل، وقال: يواري شينها الشعر والعمامة. وأخرج البيهقي وغيره عن أبي عمران الجوني: أن أبا بكر بعث جيوشًا إلى الشام، وأمر عليهم يزيد بن أبي سفيان، فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتلوا امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقر شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تغرقن نخلًا، ولا تحرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن2. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي برزة الأسلمي، قال: غضب أبو بكر من رجل، فاشتد غضبه جدًّا، فقلت: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اضرب عنقه، قال: ويلك! ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم3. وأخرج سيف في كتاب الفتوح عن شيوخه: أن المهاجر بن أمية وكان أمير اليمامة رفع إليه امرأتان مغنيتان غنت إحداهما بشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقطع يدها، ونزع ثنيتها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين، فقطع يدها، ونزع ثنيتها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي فعلت في المرأة التي غنت بشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلولا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر، وأما التي غنت بهجاء المسلمين، فإن كانت ممن يدعي الإسلام فأدب وتعزير دون المثلة، وإن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم، ولو كنت تقدمت إليك في هذا لبلغت مكروهًا فاقبل الدعة، وإياك والمثلة في الناس، فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص. وأخرج مالك والدارقطني عن صفية بنت أبي عبيدة: أن رجلًا وقع على جارية بكر واعترف، فأمر به فجلد، ثم نفاه إلى فدك4. وأخرج أبو يعلى عن محمد بن حاطب قال: جيء إلى أبي بكر برجل قد سرق، وقد قطعت قوائمه، فقال أبو بكر: ما أجد لك شيئًا إلى ما قضى فيك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أمر بقتلك، فإنه كان أعلم بك، فأمر بقتله. وأخرج مالك عن القاسم بن محمد: أن رجلًا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر، فشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر   1 أخرجه البخاري "2266/4". 2 أخرجه البيهقي في سننه "90/9". 3 أخرجه أبو داود "4363/4"، والنسائي "4082/7"، وأحمد في مسنده "9/1". 4 أخرجه مالك في الموطأ "13/826/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم افتقدوا حليًّا لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر، فجعل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به، فاعترف الأقطع أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى، وقال أبو بكر: والله لدعائه على نفسه أشد عندي عليه من سرقته. وأخرج الدارقطني عن أنس: أن أبا بكر قطع في مجن قيمته خمسة دراهم1. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي صالح قال: لما قدم أهل اليمن زمان أبي بكر وسمعوا القرآن جعلوا يبكون، فقال أبو بكر: هكذا كنا، ثم قست القلوب، قال أبو نعيم: أي قويت واطمأنت بمعرفة الله تعالى. وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال أبو بكر: ارقبوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته2. وأخرج أبو عبيد في الغريب عن أبي بكر قال: طوبى لمن مات في النأنأة: أي في أول الإسلام قبل تحرك الفتن. وأخر الأربعة ومالك عن قبيصة قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس: فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر3. أخرج مالك والدارقطني عن القاسم بن محمد: أن جدتين أتتا أبا بكر تطلبان ميراثهما أم أم وأم أب، فأعطى الميراث لأم الأم، فقال له عبد الرحمن بن سهل الأنصاري وكان ممن شهد بدرًا، وهو أخو بني حارثة: يا خليفة رسول الله، أعطيت التي لو أنها ماتت لم يرثها، فقسمه بينهما4. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن عائشة -رضي الله عنها- حديث امرأة رفاعة التي طلقت منه، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، فلم يستطع أن يغشها وأرادت العود إلى رفاعة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وهذا القدر في الصحيح، وزاد عبد الرزاق: فقعدت ثم جاءت فأخبرته أنه مسها، فمنعها أن ترجع إلى زوجها الأول، وقال: "اللهم إن كان أنمى بها أن ترجع إلى رفاعة فلا يتم لها نكاحه مرة أخرى"، ثم أتت أبا بكر وعمر في خلافتهما فمنعاها5.   1 أخرجه الدارقطني في سننه "186/3". 2 أخرجه البخاري "3713/7". 3 أخرجه أبو داود "2894/3"، والترمذي "2101/2100/4"، وابن ماجه "2724/2"، والنسائي في الكبرى "5/ 9096"، ومالك في الموطأ "4/513/2". 4 أخرجه مالك في الموطأ "5/513/2"، والدارقطني في سننه "90/4". 5 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "11133/6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأخرج البيهقي عن عقبة بن عامر: أن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بعثاه يريدا إلى أبي بكر برأس بنان بطريق الشام، فلما قدم على أبي بكر أنكر ذلك، فقال له عقبة، يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم يصنعون ذلك بنا، قال: أفيستنان بفارس والروم، لا يحمل الرأس إنما يكفي الكتاب والخبر. وأخرج البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتلكمت، فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش، قالت: من أي قريش؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أو ما كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى قال: فهم أولئك الناس1. وأخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: تدري ما هذا؟ قال أبو بكر: ما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته فلقيني، فأعطاني هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه2. وأخرج أحمد في الزهد عن ابن سيرين قال: لم أعلم أحدًا استقاء من طعام أكله غير أبي بكر، وذكر القصة. وأخرج النسائي عن أسلم: أن عمر اطلع على أبي بكر وهو آخذ بلسانه، فقال: هذا الذي أوردني الموارد. وأخرج أبو عبيدة في الغريب عن أبي بكر أنه مر بعبد الرحمن بن عوف وهو يماظ جارًا له فقال له: لا تماظ جارك، فإنه يبقى ويذهب عنك الناس، المماظة: المنازعة والمخاصمة. وأخرج ابن عساكر عن موسى بن عقبة: أن أبا بكر الصديق كان يخطب فيقول: الحمد الله رب العالمين، أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت فإنه قد دنا أجلي وأجلكم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل ضلالاً مبينًا، أوصيكم بتقوى الله والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به، فإن جوامع هدى الإسلام بعد كلمة الإخلاص السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم فإنه من يطع الله وأولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أفلح وأدى الذي عليه من الحق، وإياكم واتباع الهوى، فقد أفلح من حفظ من الهوى والطمع والغضب.   1 أخرجه البخاري "3834/7". 2 أخرجه البخاري "3842/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب، ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي وغدًا ميت؟! فاعملوا يومًا بيوم، وساعة بساعة، وتوقوا دعاء المظلوم، وعدوا أنفسكم في الموتى، واصبروا فإن العمل كله بالصبر، واحذروا الحذر ينفع، واعملوا والعمل يقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته، وافهموا وتفهموا، واتقوا وتوقوا، فإن الله قد بين لكم ما أهلك به من كان قبلكم، وما نجى به من نجى قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه وما يحب من الأعمال، وما يكره، فإني لا آلوكم ونفسي، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم، فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم، واغتبطتم، وما تطوعتم به لدينكم فاجعلوه نوافل بين أيديكم تستوفوا لسلفكم، وتعطوا جرايتكم حين فقركم وحاجتكم إليها، ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا، قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه، وحلوا في الشقاء والسعادة فيما بعد الموت، إن الله ليس له شريك وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره، فإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلوا على نبيكم -صلى الله عليه وسلم- والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. وأخرج الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين} [الأنبياء: 90] ثم اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم، لا يطفأ نوره ولا تنقضي عجائبه، فاستضيئوا بنوره، وانتصحوا كتابه، واستضيئوا منه ليوم الظلمة، فإنه إنما خلقكم لعبادته، ووكل بكم كرامًا كاتبين، يعلمون ما تفعلون، ثم اعملوا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بإذن الله، سابقوا في آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فتردكم إلى أسوأ أعمالكم، فإن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم، ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، فالوحا الوحا1، ثم النجاء النجاء، فإن وراءكم طالبًا حثيثًا أمره سريع2. وأخرج ابن أبي الدنيا وأحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية عن يحيى بن أبي كثير: أن أبا بكر كان يقول في خطبته: أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك الذين   1 الوحا الوحا: أي السرعة السرعة، ويمد ويقصر يقال: "توحيت توحيًا" إذا أسرعت وهو منصوب على الإغراء بفعل مضمر. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "383/2"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وقال الذهبي: عبد الرحمن بن إسحاق كوفي ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 بنوا المدائن وحصنوها؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضعت أركانهم حين أخنى بهم الدهر1 وأصبحوا في ظلمات القبور! الوحا الوحا ثم النجاء النجاء2. وأخرج أحمد في الزهد عن سلمان قال: أتيت أبا بكر، فقلت: اعهد إلي فقال: يا سلمان، اتق الله، واعلم أنه سيكون فتوح فلا أعرفن ما كان حظك منها ما جعلته في بطنك أو ألقيته على ظهرك، واعلم أنه من صلى الصلوات الخمس، فإنه يصبح في ذمة الله، ويمسي في ذمة الله تعالى، فلا تقتلن أحدًا من أهل ذمة الله فتخفر الله في ذمته3 فيكبك الله في النار على وجهك. وأخرج عن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: يقبض الصالحون الأول فالأول حتى يبقى من الناس حثالة كحثالة التمر والشعير، لا يبالي الله بهم. وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن معاوية بن قرة: أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يقول في دعائه: اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم لقائك. وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن، قال: بلغني أن أبا بكر كان يقول في دعائه: اللهم إني أسألك الذي هو خير لي في عاقبة الأمر، اللهم اجعل آخر ما تعطيني من الخير رضوانك والدرجات العلا من جنات النعيم4. وأخرج عن عرفجة قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: من استطاع أن يبكي فليبك، وإلا فليتباك. وأخرج عن عزرة عن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: أهلكنا الأحمران: الذهب، والزعفران. وأخرج عن مسلم بن يسار عن أبي بكر قال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء، حتى في النكبة وانقطاع شسعه5، والبضاعة تكون في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها في غبنه6. وأخرج عن ميمون بن مهران، قال: أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين، فقلبه ثم قال: ما صيد من صيد ولا عضدت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح. وأخرج البخاري في الأدب وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الصنابحي: أنه سمع أبا بكر يقول: إن دعاء الأخ لأخيه في الله يستجاب7.   1 أخنى بهم الدهر: أي أسلمهم وأخفر ذمتهم. النهاية في غريب الحديث "86/2". 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية "34/1". 3 فتخفر الله في ذمته: أي تنقض عهده وذمامه وفعله الماضي: أخفر والهمزة للإزالة أي: أزلت خفارته، والخفارة: الحماية والكفالة. والخفارة: الذمام. انظر النهاية في غريب الحديث "52/2". 4 أخرجه أحمد في الزهد "ص: 139". 5 الشسع: أحد سيور النعل وهو الذي يدخل بين الأصبعين. النهاية "472/2". 6 أخرجه أحمد في الزهد "ص: 136". 7 أخرجه البخاري في الأدب المفرد "ح486"، وأحمد في الزهد "ص: 138". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وأخرج عبد الله في زوائد الزهد عن عبيد بن عمير، عن لبيد الشاعر: أنه قدم على أبي بكر فقال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال صدقت، فقال: وكل نعيم لا محالة زائل، فقال: كذبت، عند الله نعيم لا يزول، فلما ولي قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة من الحكمة. فصل: في كلماته الدالة على شدة خوفه من ربه أخرج أبو أحمد الحاكم عن معاذ بن جبل قال: دخل أبو بكر حائطًا وإذا بدبسي1 في ظل شجرة، فتنفس الصعداء، ثم قال: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر، وتستظل بالشجر، وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك. وأخرج ابن عساكر عن الأعصمي، قال: كان أبو بكر إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون. وأخرج أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني، قال: قال أبو بكر الصديق: لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. وأخرج أحمد في الزهد عن مجاهد، قال: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، قال: وحدثت أن أبا بكر كان كذلك. وأخرج عن الحسن قال: قال أبو بكر: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد. وأخرج عن قتادة قال: بلغني أن أبا بكر قال: وددت أني خضرة تأكلني الدواب. وأخرج عن ضمرة بن حبيب قال: حضرت الوفاة ابنًا لأبي بكر الصديق، فجعل الفتى يلحظ إلى وسادة، فلما توفي قالوا لأبي بكر: رأينا ابنك يلحظ إلى وسادة، فدفعوه عن الوسادة، فوجدوا تحتها خمسة دنانير أو ستة، فضرب أبو بكر بيده على الأخرى يرجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فلان ما أحسب جلدك يتسع لها. وأخرج عن ثابت البناني. أن أبا بكر كان يتمثل بهذا الشعر: لا تزال تنعى حبيبًا حتى تكونه ... وقد يرجو الفتى الرجا يموت دونه وأخرج ابن سعد عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر، وإن أبا بكر نزلت فيه قضية فلم يجد لها في كتاب الله أصلًا، ولا في السنة أثرًا، فقال: أجتهد رأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله.   1 الدبسي: هو طائر صغير قيل: هو ذكر اليمام وقيل: إنه منسوب إلى طير دبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فصل: فيما ورد عنه من تعبير الرؤيا أخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب قال: رأت عائشة -رضي الله عنها- كأنه وقع في بيتها ثلاثة أقمار، فقصتها على أبي بكر وكان من أعبر الناس، فقال: إن صدقت رؤياك ليدفنن في بيتك خير أهل الأرض ثلاثًا، فلما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا عائشة! هذا خير أقمارك. وأخرج أيضًا عن عمر بن شرحبيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتني أردفت غنمًا سودًا ثم أردفتها غنمًا بيضًا حتى ما ترى السود فيها". فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما الغنم السود فإنها العرب يسلمون ويكثرون، والغنم البيض الأعاجم يسلمون حتى لا يرى العرب فيهم من كثرتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذلك عبرها الملك سحرًا". وله عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتني على بئر أنزع1 فيها فوردتني غنم سود، ثم ردفعها غنم عفر" 2، فقال أبو بكر: دعني أعبرها فذكر نحوه. وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين قال: كان أعبر هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر. وأخرج ابن سعد عن ابن شهاب قال: رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- رؤيا، فقصها على أبي بكر، فقال: "رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة، فسبقتك بمرقاتين ونصف"، قال: يا رسول الله يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة، وأعيش بعدك سنتين ونصف. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه، عن أبي قلابة: أن رجلًا قال لأبي بكر الصديق: رأيت في النوم أني أبول دمًا، قال أنت رجل تأتي امرأتك وهي حائض، فاستغفر الله ولا تعد. فائدة أخرج البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن بريدة، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن العاص في سرية فيهم أبو بكر وعمر، فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو ألا ينوروا نارًا فغضب عمر، فهم أن يأتيه، فنهاه أبو بكر، وأخبره أنه لم يستعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا لعلمه بالحرب، فهدأ عنه. وأخرج البيهقي من طريق أبي معشر عن بعض مشيختهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأُؤَمّر الرجل على القوم فيهم من هو خير منه؛ لأنه أيقظ عينًا وأبصر بالحرب". فصل أخرج خليفة بن خياط وأحمد بن حنبل وابن عساكر عن يزيد بن الأصم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: "أنا أكبر أو أنت" قال: أنت أكبر وأكرم، وأنا أسن منك مرسل غريب جدًّا. فإن صح عد هذا الجواب من فرط ذكائه وأدبه والمشهور أن هذا الجواب للعباس، وقد   1 أنزع فيها: أي أستقي منها الماء باليد، وأصل النزع: الجلب والقلع. 2 غنم عُفْر: جمع عفراء، والعفرة بياض ليس بالقاطع ولكنه كلون عفر الأرض وهو وجهها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقع أيضًا لسعيد بن يربوع وأخرجه الطبراني، ولفظه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أينا أكبر" قال: أنت أكبر وأخير مني، وأنا أقدم. وأخرج أبو نعيم أن أبا بكر قيل له: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا تستعمل أهل بدر؟ قال: إني أرى مكانهم، ولكني أكره أن أدنسهم بالدنيا. وأخرج أحمد في الزهد عن إسماعيل بن محمد: أن أبا بكر قسم قسمًا فسوى فيه بين الناس فقال له عمر: تسوي بين أصحاب بدر وسواهم من الناس؟ فقال أبو بكر: إنما الدنيا بلاغ، وخير البلاغ أوسعه، وإنما فضلهم في أجورهم1. فصل أخرج أحمد في الزهد عن أبي بكر بن حفص قال: بلغني أن أبا بكر كان يصوم الصيف ويفطر الشتاء. وأخرج ابن سعد عن حيان الصائغ، قال: كان نقش خاتم أبي بكر: نعم القادر الله. فائدة أخرج الطبراني عن موسى بن عقبة قال: لا نعلم أربعة أدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبناءهم إلا هؤلاء الأربعة: أبو قحافة، وابنه أبو بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن، وأبو عتيق ابن عبد الرحمن واسمه محمد2. وأخرج ابن مندة وابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما أسلم أبو أحد من المهاجرين إلا أبو أبي بكر. فائدة أخرج ابن سعد والبزار بسند حسن عن أنس قال: كان أسن أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر، وسهيل بن عمرو بن بيضاء. فائدة أخرج البيهقي في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما كان عام الفتح خرجت ابنة لأبي قحافة فلقيتها الخيل، وفي عنقها طوق من ورق فاقتطعه إنسان من عنقها، فلما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد قام أبو بكر وقال: أنشد بالله والإسلام طوق أختي، فوالله ما أجابه أحد، ثم قال الثانية فما أجابه أحد، ثم قال: يا أخته احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة اليوم في الناس لقليل3. فائدة رأيت بخط الحافظ الذهبي: من كان فرد زمانه في فنه: أبو بكر الصديق في النسب، عمر بن الخطاب في القوة في أمر الله، عثمان بن عفان في الحياء، على في القضاء، أُبَيّ بن   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "1/ 37"، وأحمد في الزهد "ص: 137". 2 أخرجه الطبراني في الكبير "1/ 11". 3 أخرجه البيهقي في الدلائل "5/ 95". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كعب في القراءة، زيد بن ثابت في الفرائض، أبو عبيدة بن الجراح في الأمانة، ابن عباس في التفسير، أبو ذر في صدق اللهجة، خالد بن الوليد في الشجاعة، الحسن البصري في التذكير، وهب بن منبه في القصص، ابن سيرين في التعبير، نافع في القراءة، أبو حنيفة في الفقه، ابن إسحاق في المغازي، مقاتل في التأويل، الكلبي في قصص القرآن، الخليل في العروض، فضيل بن عياض في العبادة، سيبويه في النحو، مالك في العلم، الشافعي في فقه الحديث، أبو عبيدة في الغريب، علي بن المديني في العلل، يحيى بن معين في الرجال، أبو تمام في الشعر، أحمد بن حنبل في السنة، البخاري في نقد الحديث، الجنيد في التصوف، محمد بن نصر المروزي في الاختلاف، الجبائي في الاعتزال، الأشعري في الكلام، محمد بن زكريا الرازي في الطب، أبو معشر في النجوم، إبراهيم الكرماني في التعبير، ابن نباته في الخطب، أبو الفرج الأصبهاني في المحاضرة، أبو القاسم الطبراني في العوالي، ابن حزم في الظاهر، أبو الحسن البكري في الكذب، الحريري في مقاماته، ابن مندة في سعة الرحلة، المتنبي في الشعر، الموصلي في الغناء، الصولي في الشطرنج، الخطيب البغدادي في سرعة القراءة، علي بن هلال في الخط، عطاء السليمي في الخوف، القاضي الفاضل في الإنشاء، الأصمعي في النوادر، أشعب في الطمع، معبد في الغناء، ابن سينا في الفلسفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الخليفة الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه ... عمر بن الخطاب رضي الله عنه1 عمر بن الخطاب: بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، أمير المؤمنين، أبو حفص، القرشي، العدوي، الفاروق. أسلم في السنة السادسة من النبوة، وله سبع وعشرون سنة، قاله الذهبي. وقال النووي: ولد عمر بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة في الجاهلية، فكانت قريش إذا وقعت الحرب بينهم أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرًا، أي: رسولًا، وإذا نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر، بعثوه منافرًا أو مفاخرًا. وأسلم قديمًا بعد أربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأة، وقيل: بعد تسعة وثلاثين رجلًا وثلاث وعشرين امرأة وقيل: بعد خمسة وأربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأة فما هو إلا أن أسلم فظهر الإسلام بمكة وفرح به المسلمون. قال: وهو أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحد كبار علماء الصحابة وزهادهم. روي له عن النبي خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثًا. روى عنه عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي ذر، وعمرو بن   1 تولى الخلافة سنة 13هـ، وحتى 23هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عبسة، وابنه عبد الله، وابن الزبير، وأنس، وأبو هريرة، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، وخلائق آخرون من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم. أقول: وأنا ألخص هنا فصولًا فيها جملة من الفوائد تتعلق بترجمته. فصل: في الأخبار الواردة في إسلامه أخرج الترمذي عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل ابن هشام" 1. أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما. وأخرج الحاكم عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة" 2. وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي بكر الصديق وفي الكبير من حديث ثوبان. وأخرج أحمد عن عمر قال: خرجت أتعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: والله هذا شاعر كما قالت قريش، فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، 41] الآيات، فوقع في قلبي الإسلام كل موقع3. وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر قال: كان أول إسلام عمر أن عمر قال: ضرب أختي المخاض ليلاً، فخرجت من البيت، فدخلت في أستار الكعبة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل الحجر وعليه بتان، وصلى لله ما شاء الله، ثم انصرف، فسمعت شيئًا لم أسمع مثله، فخرج، فاتبعته، فقال: "من هذا؟ " فقلت: عمر، فقال: "يا عمر! ما تدعني لا ليلاً ولا نهارًا؟ " فخشيت أن يدعو علي، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: "يا عمر! أسره"، قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك. وأخرج ابن سعد وأبو يعلى والحاكم والبيهقي في الدلائل عن أنس -رضي الله عنه- قال: خرج عمر متقلدًا سيفه، فلقيه رجل من بني زهرة، فقال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدًا، قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدًا؟ فقال: ما أراك إلى قد صبأت، قال: أفلا أدلك على العجب؟! إن ختنك4 وأختك قد صبئا وتركا   1 أخرجه الترمذي "3681/5"، والطبراني في الكبير "10314/10"، وقال أبو عيسى: حسن صحيح غريب. 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "83/3"، والطبراني في الأوسط "ح1771"، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 3 أخرجه أحمد في المسند "17/1". 4 الختن: يطلق على أبي الزوجة، والأختان من قبل المرأة، والأحماء من قبل الرجل. النهاية "10/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 دينك، فمشى عمر فأتاهما وعندهما خباب، فلما سمع بحس عمر توارى بالبيت، فدخل، فقال: ما هذه الهينمة1؟ وكانوا يقرءون طه، قالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا، قال: فلعلكما قد صبأتما، فقال له ختنه: يا عمر إن كان الحق في غير دينك، فوثب عليه عمر، فوطأه وطأ شديدًا، فجاءت أخته، لتدفعه عن زوجها، فنفحها نفحة بيد، فدمي وجهها، فقالت، وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم، فأقرأه، وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت أخته: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب، فقرأ طه حتى انتهى إلى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج، فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك ليلة الخمس: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، أو بعمرو بن هشام". وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصل الدار التي في أصل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار، وعلى بابها حمزة وطلحة وناس، فقال حمزة: هذا عمر إن يرد الله به خيرًا يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينًا، قال: والنبي -صلى الله عليه وسلم- داخل يوحى إليه، فخرج حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، فقال: "ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة"، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبد الله ورسوله2. وأخرج البزار والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أسلم قال: قال لنا عمر: كنت أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينا أنا في يوم حار بالهاجرة3 في بعض طريق مكة إذ لقيني رجل فقال: عجبًا لك يابن الخطاب! إنك تزعم إنك وإنك، وقد دخل عليك الأمر في بيتك، قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد أسلمت، فرجعت مغضبًا حتى قرعت الباب، قيل: من هذا؟ قلت: عمر، فتبادروا فاختفوا مني، وقد كانوا يقرءون صحيفة بين أيديهم، تركوها ونسوها، فقامت أختي تفتح الباب، فقلت: يا عدوة نفسها أصبأت؟ وضربتها بشيء كان في يدي على رأسها، فسال الدم وبكت، فقالت: يابن الخطاب! ما كنت فاعلًا فافعل، فقد صبأت، قال: ودخلت حتى جلست على السرير، فنظرت إلى الصحيفة، فقلت: ما هذا؟ ناولينيها، قالت: لست من أهلها إنك لا تطهر من الجنابة، وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون، فما زلت بها حتى ناولتنيها، ففتحتها فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، فلما مررت باسم من أسماء الله تعالى ذعرت منه، فألقيت الصحيفة، ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها فإذا فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي   1 الهينمة: الكلام الخفي الذي لا يفهم والياء زائدة. النهاية "290/5". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "233/2"، وأبو يعلى "3275/4"، والحاكم في المستدرك "83/3"، والبيهقي في الدلائل "219/2". 3 هي اشتداد الحر نصف النهار. النهاية "246/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الأَرْضِ} [الصف: 1] فذعرت، فقرأت إلى: {بِاللَّهِ وَرَسُولِه} [الصف: 11] فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، فخرجوا إلي مبادرين وكبروا وقالوا: أبشر فقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين فقال: "اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك: إما أبو جهل ابن هشام وإما عمر". ودلوني على النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت في أسفل الصفا فخرجت حتى قرعت الباب فقالوا: من؟ قلت: ابن الخطاب، وقد علموا شدتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما اجترأ أحد على فتح الباب حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افتحوا له". ففتحوا لي فأخذ رجلان بعضدي حتى أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "خلوا عنه"، ثم أخذ بمجامع قميصي وجذبني إليه ثم قال: "أسلم يابن الخطاب، اللهم اهده". فشهدت، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وكانوا مستخفين فلم أشأ أن أرى رجلاً يَضرب ويُضرب إلا رأيته ولا يصيبني من ذلك شيء. فجئت إلى خالي أبي جهل وكان شريفًا فقرعت عليه الباب فقال: من هذا؟ فقلت: ابن الخطاب وقد صبأت، فقال: لا تفعل، ثم دخل وأجاف الباب دوني؛ فقلت: ما هذا بشيء. فذهبت إلى رجل من عظماء قريش فناديته، فخرج إلي، فقلت له مثل مقالتي لخالي، فقال لي مثل ما قال لي خالي فدخل وأجاف الباب دوني، فقلت: ما هذا بشيء إن المسلمون يضربون ولا أضرب، فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك؟ قلت: نعم، قال: فإذا جلس الناس في الحجر فأت فلانًا -لرجل لم يكن يكتم السر- فقل بينك وبينه إني قد صبأت فإنه قل ما يكتم السر فجئت وقد اجتمع الناس في الحجر فقلت فيما بيني وبينه قال: أو قد فعلت، فقال: بأعلى صوته إن ابن لخطاب قد صبأ فبادروا إليّ فمازلت أضربهم ويضربونني واجتمع علي الناس فقال خالي: ما هذه الجماعة؟ قيل: عمر قد صبأ، فقام على الحجر فأشار بكمه ألا إني قد أجرت ابن أختي فتكشفوا عني، فكنت لا أشاء أن أرى أحدًا من المسلمين يضرب ويضرب إلا رأيته، فقلت ما هذا بشيء قد يصيبني فقلت: جوارك رد عليك، فمازلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام1. وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سألت عمر -رضي الله عنه- لأي شيء سميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، فخرجت إلى المسجد فأسرع أبو جهل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسبه، فأخبر حمزة، فأخذ قوسه وخرج إلى المسجد إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل، فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل، فنظر إليه فعرف أبو جهل الشر في وجهه، فقال: مالك يا أبا عمارة؟ فرفع القوس فضرب بها أخدعه فقطعه، فسالت الدماء، فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر، قال: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختفٍ في دار الأرقم المخزومي فانطلق حمزة فأسلم فخرجت بعده بثلاثة أيام، فإذا   1 أخرجه البزار "1748/5"، والطبراني في الأوسط "ح4749"، وأبو نعيم في الحلية "41/1"، والبيهقي في الدلائل "216/2-219". 2 الأخدع: عرق في جانب العنق ويقابله عرق آخر في الجانب الآخر. النهاية "14/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فلان المخزومي، فقلت له: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ فقال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقًّا مني، قلت: ومن هو؟ قال: أختك وختنك، فانطلقت، فوجدت الباب مغلقًا، وسمعت همهمة ففتح لي الباب، فدخلت، فقلت: ما هذا الذي أسمع عندكم؟ قالوا: ما سمعت شيئًا، فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني، فضربته ضربة فأدميته، فقامت إلي أختي فأخذت برأسي، وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك، فاستحييت حين رأيت الدماء، فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب، فقالت أختي: إنه لا يمسه إلا المطهرون، فإن كنت صادقًا فقم واغتسل، فقمت واغتسلت وجئت فجلست فأخرجوا إلي صحيفة فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقلت: أسماء طيبة طاهرة: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1، 2] إلى قوله: {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} قال: فتعظمت في صدري، وقلت: من هذا فرت قريش، فأسلمت وقلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فإنه في دار الأرقم، فأتيت الدار، فضربت الباب، فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر، قال: وإن كان عمر، افتحوا له الباب، فإن أقبل قبلنا منه، وإن أدبر قتلناه، فسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج فتشهد عمر، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل مكة، قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألسنا على حق؟ قال: "بلى" قلت: ففيم الإخفاء؟ فخرجنا صفين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليّ وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة شديدة، لم يصبهم من قبل مثلها، فسماني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفاروق يومئذ؛ لأنه أظهر الإسلام وفرق بين الحق والباطل1. وأخرج ابن سعد عن ذكوان قال: قلت لعائشة: من سَمّى عمر الفاروق؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن ماجه والحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أسلم عمر نزل جبريل، فقال: يا محمد! لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر2. وأخرج البزار والحاكم وصححه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم اليوم منا، وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الأنفال: 64] . وأخرج البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر3. وأخرج ابن سعد والطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كان إسلام عمر فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمامته رحمة، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي إلى البيت حتى   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "40/1". 2 أخرجه ابن ماجه "103/1"، والحاكم في المستدرك "84/3"، وقال الحاكم: صحيح، وقال الذهبي: عبد الله ضعفه الدارقطني. 3 أخرجه البخاري "3684/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا1. وأخرج ابن سعد والحاكم عن حذيفة: قال: لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما قتل عمر كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدًا2. وأخرج الطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب. إسناده صحيح حسن. وأخرج ابن سعد عن صهيب قال: لما أسلم عمر -رضي الله عنه- أظهر الإسلام ودعا إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به. وأخرج ابن سعد عن أسلم مولى عمر قال: أسلم عمر في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة، وهو ابن ست وعشرين سنة. فصل: في هجرته رضي الله عنه أخرج ابن عساكر عن علي قال: ما علمت أحدًا هاجرمختفيًا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهمًا، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعًا، ثم صلى ركعتين عند المقام، ثم أتى حلقهم واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده، وترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد. وأخرج عن البراء -رضي الله عنه- قال: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير، ثم ابن أم مكتوم، ثم عمر بن الخطاب في عشرين راكبًا، فقلنا: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو على أثري، ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه- معه. قال النووي: شهد عمر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد كلها، وكان ممن ثبت معه يوم أحد. فصل: في الأحاديث الواردة في فضله، غير ما تقدم في ترجمة الصديق رضي الله عنه أخرج الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، قلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرتك، فوليت مدبرًا". فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ 3.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "235/2"، والطبراني في الكبير "8806/9". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "314/2"، والحاكم في المستدرك "84/3"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 3 أخرجه البخاري "3680/7"، ومسلم "2395/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وأخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا نائم شربت -يعني اللبن- حتى أنظر الري يجري في أظافري ثم ناولته عمر" قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "العلم" 1. وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره"، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "الدين" 2. وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا قط إلا سلك فجًّا غير فجك" 3. وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه سلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" 4 أي ملهمون. وأخرج الترمذي عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". قال ابن عمر: وما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر5. وأخرج الترمذي، والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" 6. وأخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري، وعصمة بن مالك، وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عمر. وأخرج الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر" 7. وأخرج ابن ماجه والحاكم عن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخل الجنة" 8.   1 أخرجه البخاري "3681/7"، ومسلم "2391/4". 2 أخرجه البخاري "3691/7"، ومسلم "2390/4". 3 أخرجه البخاري "3683/7"، ومسلم "2390/4". 4 أخرجه البخاري "3689/7". 5 أخرجه الترمذي "3682/5". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، من هذا الوجه. 6 أخرجه الترمذي "3686/5"، والحاكم في المستدرك "85/3". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شرح بن هاعان، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 7 أخرجه الترمذي "3691/5"، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. 8 أخرجه ابن ماجه "104/1"، والحاكم في المستدرك "84/3"، سكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: موضوع وفي إسناده كذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وأخرج ابن ماجه والحاكم عن أبي ذر قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به" 1. وأخرج أحمد والبزار عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". وأخرجه الطبراني من حديث عمر بن الخطاب، وبلال، ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة -رضي الله عنهم- وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عمر2. وأخرج ابن منيع في مسنده عن علي -رضي الله عنه- قال: كنا أصحاب محمد لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر. وأخرج البزار عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عمر سراج أهل الجنة"، وأخرجه ابن عساكر من حديث أبي هريرة، والصعب بن جثامة. وأخرج البزار عن قدامة بن مظعون، عن عمه عثمان بن مظعون، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا غلق3 الفتنة"، وأشار بيده إلى عمر، "لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم". وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أقرئ عمر السلام، وأخبره أن غضبه عز، ورضاه حكم4. وأخرج ابن عساكر عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان يفرق5 من عمر" وأخرج أحمد من طريق بريدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان ليفرق منك يا عمر" 6. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما في السماء ملك إلا وهو يوقر عمر، ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفرق عمر". وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله باهى بأهل عرفة عامة، وباهى بعمر خاصة" 7، وأخرج في الكبير مثله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرج الطبراني والديلمي عن الفضل بن العباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحق بعدي مع عمر حيث كان" 8.   1 أخرجه ابن ماجه "108/1"، والحاكم في المستدرك "87/3"، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، وقال الذهبي: على شرط مسلم. 2 أخرجه أحمد في المسند "401/2"، والبزار "66/9 مجمع"، وقال الهيثمي: ورجال البزار رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة. 3 الغلق بالتحريك: ضيق الصدر وقلة الصبر. النهاية "380/3". 4 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح6293". 5 أي: يخاف، والفرق بالتحريك: الخوف والفزع يقال: فرق يفرق فرقًا. النهاية "438/3". 6 أخرجه أحمد في المسند "353/5". 7 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح1273". 8 أخرجه الطبراني في الكبير "38/25ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأخرج الشيخان عن ابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنه قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب1 عليها دلو، فنزعت منها إلى ما شاء الله ثم أخذها أبو بكر فنزع ذنوبًا2 أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستقى، فاستحالت في يده غربًا3، فلم أر عبقريًّا من الناس يفري فريه، حتى روى الناس، وضربوا بعطن" 4. قال النووي في تهذيبه: قال العلماء: هذه إشارة إلى خلافة أبي بكر وعمر، وكثرة الفتوح، وظهوره الإسلام في زمن عمر. وأخرج الطبراني عن سديسة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه". وأخرجه الدارقطني في الإفراد من طريق سديسة عن حفصة. وأخرج الطبراني عن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل: ليبك الإسلام على موت عمر". وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أبغض عمر فقد أبغضني، ومن أحب عمر فقد أحبني، وإن الله باهى بالناس عشية عرفة عامة، وباهى بعمر خاصة، وإنه لم يبعث الله نبيًّا إلا كان في أمته محدث، وإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر". قالوا: يا نبي الله كيف محدث؟ قال: "تتكلم الملائكة على لسانه" 5 إسناده حسن. فصل: في أقوال الصحابة والسلف فيه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما على ظهر الأرض رجل أحب إلي من عمر، أخرجه ابن عساكر. وقيل لأبي بكر في مرضه: ماذا تقول لربك وقد وليت عمر؟ أقول له وليت عليهم خيرهم، أخرجه ابن سعد. وقال علي رضي الله عنه: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. أخرجه الطبراني في الأوسط. وقال ابن عمر رضي الله عنه: ما رأيت أحدًا قط بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من حين قبض أحد ولا أجود من عمر، أخرجه ابن سعد.   1 القليب: البئر التي لم تطو، ويذكر ويؤنث. النهاية "98/4". 2 أي: دلوًا ملأى بالماء ولا يقال لها ذلك وهي فارغة. انظر مختار الصحاح "224". 3 أي: تحولت دلوًا عظيمًا وهي التي تتخذ من جلد الثور، فإذا فتحت الراء فهو الماء السائل بين البئر والحوض. النهاية "349/3". 4 أخرجه البخاري "3682/7"، ومسلم "2393/4". 5 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح6722". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أحياء الأرض في كفة ميزان لرجح علم عمر بعلمهم، ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم. أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم. وقال حذيفة رضي الله عنه: كأن علم الناس كان مدسوسًا في حجر عمر. وقال حذيفة: والله ما أعرف رجلًا لا تأخذه في الله لومة لائم إلا عمر. وقالت عائشة رضي الله عنها -وذكرت عمر-: كان والله أحوذيًّا نسيجًا وحده. وقال معاوية رضي الله عنه: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرًا لبطن، أخرجه الزبير بن بكار في الموفقيات. وقال جابر رضي الله عنه: دخل علي على عمر -وهو مسجى- قال: رحمة الله عليك ما من أحد أحب إلي أن ألقى الله بما في صحيفته بعد صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا المسجى. أخرجه الحاكم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله تعالى. أخرجه الطبراني والحاكم. وسئل ابن عباس عن أبي بكر، فقال: كان كالخير كله، وسئل عن عمر، فقال: كان كالطير الحذر الذي يرى أن له بكل طريق شوكًا يأخذه، وسئل عن علي فقال: مليء عزمًا وحزمًا وعلمًا ونجدة. أخرجه في الطيوريات. وأخرجه الطبراني عن عمير بن ربيعة أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار: كيف تجد نعتي؟ قال: أجد نعتك قرنًا من حديد، قال: وما قرن من حديد؟ قال: أمير شديد لا تأخذه في الله لومة لائم، قال: ثم مه؟ قال: ثم يكون من بعدك خليفة تقتله فئة ظالمة، قال: ثم مه؟ قال: ثم يكون البلاء. وأخرج أحمد والبزار والطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: فضل عمر بن الخطاب الناس بأربع: بذكر الأسرى يوم بدر، أمر بقتلهم فأنزل الله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَق} الآية. [الأنفال: 68] وبذكر الحجاب، أمرنساء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحتجبن، فقالت له زينب: وإنك علينا يابن بالخطاب والوحي ينزل علينا في بيوتنا، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} الآية. [الأحزاب: 53] وبدعوة النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم أيد الإسلام بعمر". وبرأيه في أبي بكر، كان أول من بايعه1. وأخرج ابن عساكر عن مجاهد قال: كنا نحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر فلما أصيب بثت. وأخرج عن سالم بن عبد الله قال: أبطأ خبر عمر على أبي موسى، فأتى امرأة في بطنها   1 أخرجه أحمد في المسند "456/1"، والبزار "1784/5"، والطبراني في الكبير "8828/9". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 شيطان، فسألها عنه، فقالت: حتى يجيئني شيطاني، فجاء، فسألته عنه، فقال: تركته، مؤتزرًا بكساء يهنأ إبل الصدقة، وذاك رجل لا يراه شيطان إلا خر لمنخريه، الملك بين عينيه، وروح القدس ينطق بلسانه. فصل قال سفيان الثوري: من زعم أن عليًّا كان أحق بالولاية من أبي بكر وعمر فقد أخطأ وخطأ أبا بكر والمهاجرين والأنصار. وقال شريك: ليس يقدم عليًّا على أبي بكر وعمر أحد فيه خير. وقال أبو أسامة: أتدرون من أبو بكر، وعمر؟ هما أبو الإسلام وأمه. وقال جعفر الصادق: أنا بريء ممن ذكر أبا بكر وعمر إلا بخير. فصل: في موافقات عمر رضي الله عنه قد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين. أخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن. وأخرج ابن عساكر عن علي قال: إن في القرآن لرأيًا من رأي عمر. وأخرج عن ابن عمر مرفوعًا: ما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر. وأخرج الشيخان عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] . وقلت: يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغيرة، فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن فنزلت كذلك1. وأخرج مسلم عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر، وفي مقام إبراهيم، ففي هذا الحديث خصلة رابعة2. وفي التهذيب للنووي: نزل القرآن بموافقته في أسرى بدر، وفي الحجاب، وفي مقام إبراهيم، وفي تحريم الخمر، فزاد خصلة خامسة، وحديثها في السنن ومستدرك الحاكم أنه قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فأنزل الله تحريمها. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن أنس، قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع، نزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} الآية. [المؤمنون: 12] فلما نزلت قلت أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] .   1 أخرجه البخاري "402/1". 2 أخرجه مسلم "2399/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فزاد في هذا الحديث خصلة سادسة، وللحديث طريق آخر عن ابن عباس أوردته في التفسير المسند. ثم رأيت في كتاب: فضائل الإمامين، لأبي عبد الله الشيباني قال: وافق عمر ربه في أحد وعشرين موضعًا، فذكر هذه الستة. وزاد سابعًا: قصة عبد الله بن أبي، قلت: حديثها في الصحيح عنه، قال: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلاة عليه، فقام إليه، فقمت حتى وقفت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أو على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا كذا؟ فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية. [التوبة: 84] . وثامنا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْر} الآية. [البقرة: 219] . وتاسعًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية. [النساء: 43] قلت: هما مع آية المائدة خصلة واحدة، والثلاثة في الحديث السابق. وعاشرًا: لما أكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الاستغفار لقوم قال عمر: سواء عليهم، فأنزل الله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية. [المنافقون: 6] قلت: أخرجه الطبراني عن ابن عباس. الحادي عشر: لما استشار عليه الصلاة والسلام الصحابة في الخروج إلى بدر أشار عمر بالخروج، فنزلت: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} الآية. [الأنفال: 5] . الثاني عشر: لما استشار عليه الصلاة والسلام الصحابة في قصة الإفك قال عمر: من زوجكها يا رسول الله؟ قال: "الله"، قال: أفتظن أن ربك دلس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! فنزلت كذلك. الثالث عشر: قصته في الصيام لما جامع زوجته بعد الانتباه، وكان ذلك محرمًا في أول الإسلام فنزل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَام} الآية. [البقرة: 187] قلت: أخرجه أحمد في مسنده. الرابع عشر: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيل} الآية. [البقرة: 97] قلت: أخرجه ابن جرير وغيره من طرق عديدة، وأقربها للموافقة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى: أن يهوديًّا لقي عمر، فقال: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدو لنا، فقال له عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين، فنزلت على لسان عمر. الخامس عشر: قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} الآية. [النساء: 65] قلت: أخرج قصتها ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود، قال: اختصم رجلان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فأتيا إليه، فقال الرجل: قضى لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا، فقال: ردنا إلى عمر، فقال: أكذاك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فخرج إليهما مشتملاً1 عليه سيفه فضرب الذي   1 أي: متجللاً ومتوشحًا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قال: ردنا إلى عمر، فقتله، وأدبر الآخر، فقال: يا رسول الله! قتل عمر-والله- صاحبي، فقال: "ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن"، فأنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} الآية. [البقرة: 125] فأهدر دم الرجل وبرئ عمر من قتله، وله شاهد موصول أوردته في التفسير المسند. السادس عشر: الاستئذان في الدخول، وذلك أنه دخل عليه غلامه، وكان نائمًا، فقال: اللهم حرم الدخول، فنزلت آية الاستئذان. السابع عشر: قوله في اليهود: إنهم قوم بهت. الثامن عشر: قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 39، 40] . قلت: أخرج قصتها ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله، وهي في أسباب النزول. التاسع عشر: رفع تلاوة الشيخ والشيخة إذا زنيا، الآية. العشرون: قوله يوم أحد لما قال أبو سفيان: أفي القوم فلان؟ لا نجيبه فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: أخرج قصته أحمد في مسنده. قال: ويضم إلى هذا ما أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب: الرد على الجهمية، من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله: أن كعب الأحبار قال: ويل لملك الأرض من ملك السماء، فقال عمر: إلا من حاسب نفسه، فقال كعب: والذي نفسي بيده إنها في التوراة لتابعتها، فخرّ عمر ساجدًا. ثم رأيت في الكامل لابن عدي من طريق عبد الله بن نافع -وهو ضعيف- عن أبيه عن عمر: أن بلالًا كان يقول -إذا أذن-: أشهد أن لا إله إلا الله، حي على الصلاة، فقال له عمر قل في أثرها: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل كما قال عمر. فصل: في كراماته رضي الله عنه أخرج البيهقي وأبو نعيم، كلاهما في دلائل النبوة، واللالكائي في شرح السنة، والديرعاقولي في فوائده، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء، والخطيب في رواة مالك عن نافع عن ابن عمر، قال: وجه عمر جيشًا، ورأس عليهم رجلاً يدعى سارية، فبينما عمر يخطب جعل ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثًا، ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتًا ينادي: يا سارية الجبل، ثلاثًا، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم الله، قال: قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك، وذلك الجبل الذي كان سارية عنده بنهاوند من أرض العجم1، قال ابن حجر في الإصابة2: إسناده حسن.   1 أخرجه البيهقي في الدلائل "370/6"، وابن عساكر في تاريخه "1/6/7". 2 أورده ابن حجر في الإصابة "3/ 52، 53". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وأخرج ابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر، قال: كان عمر يخطب يوم الجمعة، فعرض في خطبته أن قال: يا سارية الجبل، من استرعى الذئب ظلم، فالتفت الناس بعضهم لبعض، فقال لهم علي: ليخرجن مما قال، فلما فرغ سألوه فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وإنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجه واحد، وإن جاوزوا هلكوا، فخرج مني ما تزعمون أنكم سمعتموه، قال: فجاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا صوت عمر في ذلك اليوم قال: فعدلنا إلى الجبل ففتح الله علينا. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عمرو بن الحارث قال: بينما عمر بن الخطاب على المنبر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة فقال: يا سارية الجبل، مرتين أو ثلاثًا، ثم أقبل على خطبته، فقال بعض الحاضرين: لقد جن! إنه لمجنون، فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان يطمئن إليه، فقال: لشد ما ألومهم عليك إنك لتجعل لهم على نفسك مقالًا، بينا أنت تخطب إذ أنت تصيح يا سارية الجبل، أي شيء هذا؟ قال: إني والله ما ملكت ذلك، رأيتهم يقاتلون عند جبل يؤتون من بين أيديهم ومن خلفهم، فلم أملك أن قلت: يا سارية الجبل، ليلحقوا بالجبل، فلبثوا إلى أن جاء رسول سارية بكتابه: إن القوم لقونا يوم الجمعة، فقاتلناهم حتى إذا حضرت الجمعة ودار حاجب الشمس سمعنا مناديًا ينادي: يا سارية الجبل مرتين، فلحقنا بالجبل، فلم نزل قاهرين لعدونا حتى هزمهم الله وقتلهم، فقال أولئك الذين طعنوا عليه: دعوا هذا الرجل فإنه مصنوع له. وأخرج أبو القاسم بن بشران في فوائده من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر بن الخطاب لرجل: ما اسمك؟ قال جمرة، قال ابن من؟ قال ابن شهاب: قال: ممن؟ من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال الحرة، قال بأيها؟ قال: بذات لظى، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، فرجع الرجل فوجد أهله قد احترقوا1. وأخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد نحوه، وأخرجه ابن دريد في الأخبار المنثورة، وابن الكلبي في الجامع وغيرهم. وقال أبو الشيخ في كتاب العظمة، حدثنا أبو الطيب، حدثنا علي بن داود، حدثنا عبد الفتاح بن صالح، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمّن حدثه، قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص حين دخل يوم من أشهر العجم، فقالوا: يا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان إحدى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الثياب والحلي أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون أبدًا في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا والنيل لا يجري   1 أخرجه مالك في الموطأ "25/973/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قليلاً ولا كثيرًا، حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب له أن: قد أصبت بالذي قلت، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، وبعث بطاقة في داخل كتابه، وكتب إلى عمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة في داخل كتابي فألقها في النيل، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر: أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجرِ، وإن كان الله يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم، فأصبحوا وقد أجراه الله تعالى ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السنّة عن أهل مصر إلى اليوم1. وأخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب، قال: إن كان الرجل ليحدث عمر الحديث فيكذبه الكذبة فيقول: احبس هذه، ثم يحدثه بالحديث فيقول: احبس هذه، فيقول له: كل ما حدثتك حق إلا ما أمرتني أن أحبسه. وأخرج عن الحسن قال: إن كان أحد يعرف الكذب إذا حدث به فهو عمر بن الخطاب. وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هدبة الحمصي قال: أخبر عمر بأن أهل العراق قد حصبوا2 أميرهم فخرج غضبان، فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إنهم قد لبسوا علي فألبس عليهم، وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية: لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم، قلت: أشار به إلى الحجاج، قال ابن لهيعة: وما ولد الحجاج يومئذ3. فصل: في نبذ من سيرته أخرج ابن سعد عن الأحنف بن قيس قال: كنا جلوسًا بباب عمر، فمرت جارية، فقالوا: سرية أمير المؤمنين، قال: ما هي لأمير المؤمنين بسرية، ولا تحل له، إنها من مال الله، فقلنا: فماذا يحل له من مال الله تعالى؟ قال: إنه لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتين: حلة للشتاء، وحلة للصيف، وما أحج به وأعتمر، وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين4. وقال خزيمة بن ثابت: كان عمر إذا استعمل عاملاً كتب له، واشترط عليه ألا يركب برذونًا5، ولا يأكل نقيًا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلت عليه العقوبة. وقال عكرمة بن خالد وغيره: إن حفصة وعبد الله وغيرهما كلموا عمر، فقالوا: لو   1 أخرجه أبو الشيخ في العظمة "ح940". 2 أي: رموه بالحصباء رجمًا. النهاية "394/1". 3 أخرجه البيهقي في الدلائل "487/6". 4 أخرجه ابن سعد "239/2". 5 الدابة، وقال الكسائي: يقال للأنثى برذونة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أكلت طعامًا طيبًا كان أقوى لك على الحق، قال: أكلكم على هذا الرأي؟ قالوا: نعم، قال: قد علمت نصحكم، ولكني تركت صاحبي على جادة، فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل. قال: وأصاب الناس سنة، فما أكل عامئذ سمنًا، ولا سمينًا. وقال ابن مليكة: كلم عتبة بن فرقد عمر في طعامه، فقال: ويحك آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها؟. وقال الحسن: دخل عمر على ابنه عاصم وهو يأكل لحمًا، فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا1 إليه، قال: أو كلما قرمت إلى شيء أكلته؟ كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى. وقال أسلم: قال عمر: لقد خطر على قلبي شهوة السمك الطري، قال: فرحل يرفأ1 راحلته، وسار أربعًا مقبلاً، وأربعًا مدبرًا، واشترى مكتلاً، فجاء به، وعمد إلى الراحلة، فغسلها، فأتى عمر، فقال: انطلق حتى أنظر إلى الراحلة، فنظر وقال: أنسيت أن تغسل هذا العرق الذي تحت أذنيها، عذبت بهيمة في شهوة عمر؟! لا والله لا يذوق عمر مكتلك. وقال قتادة: كان عمر يلبس -وهو خليفة- جبة من صوف مرقوعة بعضها بأدم، ويطوف في الأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس، ويمر بالنكث3 والنوى فيلتقطه ويلقيه في منازل الناس ينتفعون به. وقال أنس: رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قيمصه وقال أبو عثمان النهدي: رأيت على عمر إزارًا مرفوعًا بأدم، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: حججت مع عمر، فما ضرب فسطاطًا ولا خباء، كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة ويستظل تحته، وقال عبد الله ابن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء، وقال الحسن: كان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط حتى يعاد منها أيامًا، وقال أنس: دخلت حائطًا فسمعت عمر يقول، وبيني وبينه جدار، عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ والله لتتقين الله يابن الخطاب أو ليعذبنك الله، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ نبتة من الأرض فقال: ليتني كنت هذه النبتة، يا ليتني لم أكن شيئًا، ليت أمي لم تلدني، وقال عبد الله بن عمر بن حفص: حمل عمر بن الخطاب قربة على عنقه، فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها، وقال محمد بن سيرين، قدم صهر لعمر عليه، فطلب أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر، وقال: أردت أن ألقى الله ملكًا خائنًا؟ ثم أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم، وقال النخعي: كان عمر يتجر وهو خليفة، وقال أنس: تقرقر بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة، وكان قد حرم على نفسه السمن فنقر بطنه   1 أي: اشتدت الشهوة إلى اللحم حتى لا يصبر عنه. النهاية في غريب الحديث "49/4". 2 أي: يصلح، ومنه رفأ الثوب: أصلحه وبابه قطع ومعناه أيضًا: نمى من النماء. 3 بالكسر هو الخيط الخلق من صوف أو شعر أو وبر سُمّي به؛ لأنه ينقض ثم يعاد فتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بإصبعه وقال: إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس، وقال سفيان بن عيينة: قال عمر بن الخطاب: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي وقال أسلم: رأيت عمر بن الخطاب يأخذ بأذن الفرس، ويأخذ بيده الأخرى أذنه، ثم ينزو على متن الفرس، وقال ابن عمر: ما رأيت عمر غضب قط فذكر الله عنده أو خوف أن قرأ عنده إنسان أية من القرآن إلا وقف عما كان يريد، وقال بلال لأسلم: كيف تجدون عمر؟ فقال: خير الناس إلا أنه إذا غضب فهو أمر عظيم، فقال بلال: لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه، وقال الأحوص بن حكيم عن أبيه: أتى عمر بلحم فيه سمن، فأبى أن يأكلهما، وقال: كل واحد منهما أدم. وأخرج هذه الآثار كلها ابن سعد. وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: قال عمر: هان شيء أصلح به قومًا أن أبدلهم أميرًا مكان أمير1. فصل: في صفته رضي الله عنه أخرج ابن سعد والحاكم عن ذر قال: خرجت مع أهل المدينة في يوم عيد، فرأيت عمر يمشي حافيًا شيخًا أصلع آدم أعسر طوالًا مشرفًا على الناس كأنه على دابة، قال الواقدي لا يعرف عندنا أن عمر كان آدم، إلا أن يكون رآه عام الرمادة فإنه كان تغير لونه حين أكل الزيت2. وأخرج ابن سعد عن ابن عمر أنه وصف عمر فقال: رجل أبيض تعلوه حمرة طوال أصلع أشيب. وأخرج عن عبيد بن عمير قال: كان عمر يفوق الناس طولًا. وأخرج عن سلمة بن الأكوع قال: كان عمر رجلًا أعسر يسر يعني يعتمل بيديه جميعًا، وأخرج ابن عساكر عن أبي رجاء العطاردي قال: كان عمر رجلًا طويلًا جسيمًا أصلع شديد الصلع أبيض شديد الحمرة في عارضيه خفة، سبلته كبيرة، وفي أطرافها صهبة. وفي تاريخ ابن عساكر من طرق أن أم عمر بن الخطاب: حنتمة بنت هشام بنت المغيرة أخت أبي جهل بن هشام، فكان أبو جهل خاله. فصل: في خلافته رضي الله عنه ولي الخلافة بعهد أبي بكر في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. قال الزهري: استخلف عمر يوم توفي أبو بكر، وهو يوم الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة، أخرجه الحاكم، فقام بالأمر أتم قيام.   1 أخرجه ابن سعد "245/2". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "276/2"، والحاكم في المستدرك "81/3". وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وكثرت الفتوح في أيامه ففي سنة أربع عشرة فتحت دمشق ما بين صلح وعنوة، وحمص، وبعلبك صلحًا، والبصرة والأبلة، كلاهما عنوة. وفيها جمع عمر الناس على صلاة التراويح، قاله العسكري في الأوائل. وفي سنة خمس عشرة فتحت الأردن كلها عنوة إلا طبرية فإنها فتحت صلحًا، وفيها كانت وقعت اليرموك والقادسية. قال ابن جرير، وفيها مصر سعد الكوفة، وفيها فرض عمر الفروض، ودون الدواوين، وأعطى العطاء على السابقة. وفي سنة ست عشرة فتحت الأهواز والمدائن، وأقام بها سعد الجمعة في إيوان كسرى، وهي أول جمعة جمعت بالعراق، وذلك في صفر، وفيها كانت وقعة جلولاء، وهزم يزدجرد بن كسرى وتقهقر إلى الري، وفيها فتحت تكريت، وفيها سار عمر ففتح بيت المقدس، وخطب بالجابية خطبته المشهورة، وفيها فتحت قنسرين عنوة، وحلب، وأنطاكية، ومنبج صلحًا، وسروج عنوة، وفيها فتحت قرقيسياء صلحًا، وفي ربيع الأول كتب التاريخ من الهجرة بمشورة علي. وفي سنة سبع عشرة زاد عمر في المسجد النبوي، وفيها كان القحط بالحجاز، وسمي عام الرمادة واستقى عمر للناس بالعباس. أخرج ابن سعد، عن نيار الأسلمي: أن عمر لما خرج يستسقي خرج وعليه برد الرسول صلى الله عليه وسلم1. وأخرج عن ابن عون قال: أخذ عمر بيد العباس ثم رفعها، وقال: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك أن تذهب عنا المحل2، وأن تسقينا الغيث، فلم يبرحوا حتى سقوا، فأطبقت السماء عليهم أيامًا3. وفيها فتحت الأهواز صلحًا. وفي سنة ثمان عشرة فتحت جنديسابور صلحًا، وحلوان عنوة، وفيها كان طاعون عمواس، وفيها فتحت الرها، وسيميساط عنوة، وحران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة وقيل: صلحًا والموصل ونواحيها عنوة. وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية عنوة. وفي سنة عشرين فتحت مصر عنوة، وقيل: مصر صلحًا إلا الإسكندرية فعنوة، وقال   1 أخرجه ابن سعد "273/2". 2 المحل في الأصل: انقطاع المطر، وأمحلت الأرض والقوم، وأرض محل وزمن محل وماحل. 3 أخرجه ابن سعد "274/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 علي بن رباح: المغرب كله عنوة، وفيها فتحت تستر، وفيها هلك قيصر عظيم الروم، وفيها أجلى عمر اليهود عن خيبر وعن نجران، وقسم خيبر ووادي القرى. وفي سنة إحدى وعشرين فتحت الإسكندرية عنوة، ونهاوند، ولم يكن للأعاجم بعدها جماعة، وبرقة وغيرها. وفي سنة اثنتين وعشرين فتحت أذربيجان عنوة، وقيل: صلحًا والدينور عنوة، وماسبذان عنوة، وهمذان عنوة، وطرابلس المغرب، والري، وعسكر، وقومس. وفي سنة ثلاث وعشرين كان فتح كرمان، وسجستان، ومكران من بلاد الجبل وأصبهان ونواحيها. مقتله ووصيته وفي آخرها كانت وفاة سيدنا عمر -رضي الله عنه- بعد صدوره من الحج، شهيدًا. قال سعيد بن المسيب: لما نفر عمر من منى أناخ بالأبطح، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل، أخرجه الحاكم1. وقال أبو صالح السمان: قال كعب الأحبار لعمر: أجدك في التوارة تقتل شهيدًا، قال: وأنى لي بالشهادة وأنا؟ بجزيرة العرب؟! وقال أسلم: قال عمر: اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك2. أخرجه البخاري. وقال معدان بن أبي طلحة: خطب عمر فقال: رأيت كأن ديكًا نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو راضٍ عنهم3. أخرجه الحاكم. وقال الزهري: كان عمر -رضي الله عنه- لا يأذن لصبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يذكر له غلامًا عنده جملة صنائع، ويستأذنه أن يدخل المدنية، ويقول: إن عنده أعمالًا كثيرة فيها منافع للناس، إنه حداد، نقاش، نجار، فأذن له عمر أن يرسله إلى المدينة، وضرب عليه المغيرة مائة درهم في الشهر، فجاء إلى عمر يشتكي شدة الخراج، فقال: ما خراجك بكثير، فانصرف ساخطًا يتذمر، فلبث عمر ليالي ثم دعاه فقال: ألم أخبر أنك تقول: أو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح؟ فالتفت إلى عمر عابسًا وقال: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فلما ولى قال عمر لأصحابه: أوعدني   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "92،91/3". وسكت عليه. 2 أخرجه البخاري "1890/4". 3 أخرجه الحاكم في المستدرك "90/3". وسكت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 العبد آنفًا، ثم اشتمل أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين، نصابه في وسطه، فكمن بزاوية من زوايا المسجد في الغلس1، فلم يزل هناك حتى خرج عمر يوقظ الناس للصلاة، فلما دنى منه طعنه ثلاث طعنات2. أخرجه ابن سعد. وقال عمرو بن ميمون الأنصاري: إن أبا لؤلؤة عبد المغيرة طعن عمر بخنجر له رأسان، وطعن معه اثني عشر رجلًا مات منهم ستة، فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوبًا، فلما اغتم فيه قتل نفسه. وقال أبو رافع: كان أبو لؤلؤة عبد المغيرة يصنع الأرحاء، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إن المغيرة قد أثقل علي فكلمه، فقال: أحسن إلى مولاك، ومن نية عمر أن يكلم المغيرة فيه، فغضب، وقال: يسع الناس كلهم عدله غيري، وأضمر قتله، واتخذ خنجرًا وشحذه وسَمَّه، وكان عمر يقول: أقيموا صفوفكم قبل أن يكبر، فجاء فقام حذاءه في الصف وضربه في كتفه وفي خاصرته فسقط عمر، وطعن ثلاثة عشر رجلًا معه فمات منهم ستة، وحمل عمر إلى أهله، وكادت الشمس تطلع، فصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس بأقصر سورتين، وأتي عمر بنبيذ فشربه فخرج من جرحه فلم يتبين، فسقاه لبنًا فخرج من جرحه، فقالوا: لا باس عليك، فقال: إن يكن بالقتل بأس فقد قتلت فجعل الناس يثنون عليه ويقولون: كنت، وكنت، فقال: أما والله لوددت أني خرجت منهاكفافًا لا علي ولا لي، وأن صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلمت لي، وأثنى عليه ابن عباس فقال: لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من هول المطلع، وقد جعلتها شورى في عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وأمر صهيبًا أن يصلي بالناس، وأجل الستة ثلاثًا3. أخرجه الحاكم. وقال ابن عباس: كان أبو لؤلؤة مجوسيًّا. وقال عمرو بن ميمون: قال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، ثم قال لابنه: يا عبد الله انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوها، فقال: إن وفى مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فاسأل في بني عدي، فإن لم تفِ أموالهم فاسأل في قريش، اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه، فذهب إليها فقالت: كنت أريده -تعني المكان- لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي، فأتى عبد الله فقال: قد أذنت، فحمد الله تعالى وقيل له: أوصِ يا أمير المؤمنين واستخلف، قال: ما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو راضٍ عنهم، فسمى الستة، وقال: يشهد عبد الله بن عمر معهم وليس له من الأمر شيء، فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من   1 ظلمة آخر الليل، مختار الصحاح "478" غلس. 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "292/2". 3 أخرجه الحاكم في المستدرك "91/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 عجز ولا خيانة، ثم قال: أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وأوصيه بالمهاجرين والأنصار، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا في مثل ذلك من الوصية، فلما توفي خرجنا به نمشي، فسلم عبد الله بن عمر وقال: عمر يستأذن، فقالت عائشة: أدخلوه، فأدخل في موضع هناك مع صاحبيه، فلما فرغوا من دفنه ورجعوا اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، قال: فخلا هؤلاء الثلاثة، فقال عبد الرحمن: أنا لا أريدها، فأيكما يبرأ من هذا الأمر ونجعله إليه؟ والله عليه والإسلام لينظر أفضلهم في نفسه وليحرص على صلاح الأمة، فسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: اجعلوه إلي، والله علي لا آلوكم عن أفضلكم، قالا: نعم، فخلا بعلي وقال: لك من القدم في الإسلام والقرابة من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قد علمت، والله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئت أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن؟ قال: نعم، ثم خلا بالآخر فقال له كذلك، فلما أخذ ميثاقهما بايعه عثمان وبايعه علي. وفي مسند أحمد عن عمر أنه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حي استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن لكل نبي أمينًا، وأميني أبو عبيدة بن الجراح". فإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل، فإن سألني ربي: لم استخلفته؟ قلت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة". وقد ماتا في خلافته1. وفي المسند أيضًا عن أبي رافع: أنه قيل لعمر عند موته في الاستخلاف، فقال: قد رأيت مع أصحابي حرصًا سيئًا، ولو أدركني أحد رجلين ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح. أصيب عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، ودفن يوم الأحد مستهل المحرم الحرام، وله ثلاث وستون سنة، وقيل: ست وستون سنة، وقيل: إحدى وستون، وقيل: ستون، ورجحه الواقدي وقيل: تسع وخمسون، وقيل: خمس أو أربع وخمسون، وصلى عليه صهيب في المسجد. وفي تهذيب المزني: كان نقش خاتم عمر: كفى بالموت واعظًا يا عمر. وأخرج الطبراني عن طارق بن شهاد قال: قالت أم أيمن يوم قتل عمر: اليوم وهي الإسلام2. وأخرج عبد الرحمن بن يسار قال: شهدت موت عمر بن الخطاب، فانكسفت الشمس يومئذ. ورجاله ثقات.   1 أخرجه أحمد في مسنده "1/ 18". 2 أخرجه الطبراني في الكبير "25/ 221". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فصل: في أوليات عمر رضي الله عنه قال العسكري: هو أول من سُمّي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ من الهجرة، وأول من اتخذ بيت المال، وأول من سن قيام شهر رمضان، وأول من عس1 بالليل، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من ضرب في الخمر ثمانين، وأول من حرم المتعة، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات، وأول من اتخذ الديوان، وأول من فتح الفتوح ومسح السواد، وأول من حمل الطعام من مصر في بحر أيلة إلى المدينة، وأول من احتبس صدقة في الإسلام، وأول من أعال الفرائض وأول من أخذ زكاة الخيل، وأول من قال: أطال الله بقاءك، قاله لعلي، وأول من قال: أيدك الله قاله لعلي. هذا آخر ما ذكره العسكري. وقال النووي في تهذيبه: هو أول من اتخذ الدرة، وكذا ذكره ابن سعد في الطبقات قال: لقد قيل بعده: لدرة عمر أهيب من سيفكم، قال: وهو أول من استقضى القضاء في الأمصار، وأول من مصّر الأمصار: الكوفة، والبصرة، والجزيرة، والشام، ومصر، والموصل. وأخرج ابن عساكر عن إسماعيل بن زياد قال: مر علي بن أبي طالب على المساجد في رمضان وفيها القناديل فقال: نور الله على عمر في قبره كما نور علينا في مساجدنا. فصل قال ابن سعد: اتخذ عمر دار الدقيق، فجعل فيها الدقيق، والسويق، والتمر، والزبيب، وما يحتاج إليه: يعين به المنقطع، ووضع فيما بين مكة والمدينة بالطريق ما يصلح من ينقطع به، وهدم المسجد النبوي، وزاد فيه ووسع وفرشه بالحصباء، وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز إلى الشام، وأخرج أهل نجران إلى الكوفة، وهو الذي أخر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم، وكان ملصقًا بالبيت2. فصل: في نبذ من أخباره وقضاياه أخرج العسكري في الأوائل، والطبراني في الكبير، والحاكم من طريق ابن شهاب، أن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة: لأي شيء كان يكتب: "من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، في عهد أبي بكر؟ ثم كان عمر يكتب أولا: "من خليفة أبي بكر"، فمن أول من كتب: "من أمير المؤمنين"؟ فقال حدثتني الشفاء وكانت من المهاجرات أن أبا بكر كان يكتب: "من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكان عمر يكتب: "من خليفة خليفة   1 أي: كان يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة. النهاية "236/3". 2 أخرجه ابن سعد "244/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حتى كتب عمر إلى عامل العراق أن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة، ودخلا، فوجدا عمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، فدخل عليه عمرو فقال: السلام عليك يا أمير المؤمين! فقال: ما بدا لك في هذا الاسم؟ لتخرجن مما قلت، فأخبره، وقال: أنت الأمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب بذلك من يومئذ1. وقال النووي في تهذيبه: سماه بهذا الاسم عدي بن حاتم ولبيد بن ربيعة حين وفدا عليه من العراق، وقيل: سماه به المغيرة بن شعبة، وقيل: إن عمر قال للناس: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين، وكان قبل ذلك يقال له: خليفة خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعدلوا عن تلك العبارة لطولها. وأخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: كان يكتب: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان عمر بن الخطاب أرادوا أن يقولوا: خليفة خليفة رسول الله، قال عمر: هذا يطول، قالوا: لا، ولكنا أمرناك علينا، فأنت أميرنا، قال: نعم، أنتم المؤمنون وأنا أميركم فكتب: أمير المؤمنين. وأخرج البخاري في تاريخه، عن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من الهجرة بمشورة علي. وأخرج السلفي في الطيوريات بسند صحيح، عن ابن عمر، عن عمر: أنه أراد أن يكتب السنن، فاستخار الله شهرًا فأصبح وقد عزم له، ثم قال: إني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتابًا، فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله. وأخرج ابن سعد عن شداد قال: كان أول كلام تكلم به عمر حين صعد المنبر أن قال: اللهم إني شديد فليني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخني. وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وغيرهما من طرق، عن عمر أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي اليتيم من ماله: إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإن أيسرت قضيت. وأخرج ابن سعد عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب كان إذا احتاج أتى صاحب البيت، فاستقرضه، فربما أعسر فيأتيه صاحب المال يتقاضاه فيلزمه، فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه، فقضاه2. وأخرج ابن سعد عن البراء بن معرور، أن عمر خرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى شكوى، فنعت له العسل، وفي بيت المال عكة3، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فهي حرام علي، فأذنوا له4.   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "3/ 81، 82"، وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: صحيح. 2 أخرجه ابن سعد "238/2". 3 هي وعاء من جلد مستدير، يختص جسمها وهو بالسمن أخص. النهاية "284/3". 4 أخرجه ابن سعد 240/2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وأخرج عن سالم بن عبد الله: أن عمر كان يدخل يده في دبرة البعير، ويقول: إني لخائف أن أسأل عما بك. وأخرج عن ابن عمر قال: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله، فقال: لا أعلمن أحدًا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة. وروينا من غير وجه: أن عمر بن الخطاب خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرًا؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقًا عليها بابها، وهي تقول: تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزحزح من هذا السرير جوانبه ولكنني أخشى رقيبًا موكلًا ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه مخافة ربي والحياء يصدني ... وأكرم بعلي أن تنال مراتبه فكتب إلى عماله بالغزو ألا يغيب أحد أكثر من أربعة أشهر. وأخرج ابن سعد عن زاذان عن سلمان أن عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهَمًا أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر1. وأخرج عن سفيان بن أبي العرجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكًا فهذا أمر عظيم، فقال قائل: يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقًا، قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقًّا ولا يضعه إلا في الحق، وأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا ويعطي هذا، فسكت عمر2. وأخرج عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ركب عمر فرسًا، فانكشف ثوبه عن فخذه، فرأى أهل نجران بفخذه شامة سوداء، فقالوا: هذا الذي نجد في كتابنا أنه يخرجنا من أرضنا. وأخرج عن سعد الجاري: أن كعب الأحبار قال لعمر إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها، فإذا مت لم يزالوا يقحمون فيها إلى يوم القيامة. وأخرج عن أبي معشر قال: حدثنا أشياخنا أن عمر قال: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لا جبرية فيها، باللين الذي لا وهن فيه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن حيكم عن عمير قال: كتب عمر بن الخطاب: ألا لا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحدًا الحد حتى يطلع الدرب لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن الشعبي قال: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب: إن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليفة شيء من الشجر، تخرج مثل   1 أخرجه ابن سعد " 2/ 262". 2 أخرجه ابن سعد "263،262/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 آذان الحمير، ثم تنشق عن مثل اللؤلؤ، ثم يخضر، فيكون كالزمرد الأخضر، ثم يحمر فيكون كالياقوت الأحمر، ثم يينع فينضج فيكون كأطيب فالوذج أكل، ثم ييبس فيكون عصمة، للمقيم وزادًا للمسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أدري هذه الشجرة إلا من شجر الجنة، فكتب إليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم: إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا هي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله، فـ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب} الآية. [آل عمران: 59] . وأخرج ابن سعد عن ابن عمر: أن عمر أمر عماله فكتبوا أموالهم، منهم سعد بن أبي وقاص فشاطرهم عمر في أموالهم، فأخذ نصفًا وأعطاهم نصفًا. وأخرج عن الشعبي: أن عمر كان إذا استعمل عاملًا كتب ماله. وأخرج عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: مكث عمر زمانًا لا يأكل من بيت المال شيئًا، حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة1، فأرسل إلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستشارهم فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر، فما يصلح لي منه فقال علي: غداء وعشاء، فأخذ بذلك عمر2. وأخرج عن ابن عمر: أن عمر حج سنة ثلاث وعشرين فأنفق في حجته ستة عشر دينارًا، فقال: يا عبد الله، أسرفنا في هذا المال. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن قتادة والشعبي قالا: جاءت عمر امرأة فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، فقال عمر: لقد أحسنت الثناء على زوجك، فقال كعب بن سوار: لقد شكت، فقال عمر: كيف؟ قال: تزعم أنه ليس لها من زوجها نصيب، قال: فإذ قد فهمت ذلك فاقض بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين أحل الله لنا من النساء أربعًا، فلها من كل أربعة أيام يوم، ومن كل أربع ليال ليلة3. وأخرج عن ابن جرير قال: أخبرني من أصدقه أن عمر بينما هو يطوف سمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه فلولا حذار الله لا شيء مثله ... لزحزح من هذا السرير جوانبه فقال عمر: ما لك؟ قالت: أغزيت زوجي منذ أشهر، وقد اشتقت إليه، فقال: أردت سوءًا؟ قالت: معاذ الله، فقال: فاملكي عليك نفسك، فإنما هو البريد إليه، فبعث إليه، ثم دخل على حفصة فقال: إني سائلك على أمر قد أهمني فافرجيه عني، كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فخفضت رأسها واستحيت، قال: فإن الله لا يستحيي من الحق، فأشارت بيديها ثلاثة أشهر، وإلا فأربعة أشهر، فكتب عمر ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر4.   1 أي: الجوع والضعف، وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء، النهاية "37/2". 2 أخرجه ابن سعد "263/2". 3 أخرجه عبد الرزاق "12586/7". 4 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "12593/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وأخرج عن جابر بن عبد الله: أنه جاء إلى عمر يشكو إليه ما يلقى من النساء، فقال عمر: إنا لنجد ذلك، حتى إني لأريد الحاجة فتقول لي: ما تذهب إلا إلى فتيات بني فلان تنظر إليهن، فقال له عبد الله بن مسعود: أما بلغك أن إبراهيم -عليه السلام- شكا إلى الله خلق سارة، فقيل له: إنها خلقت من ضلع، فألبسها على ما كان فيها ما لم تر عليه خربة في دينها؟ وأخرج عن عكرمة بن خالد قال: دخل ابن لعمر بن الخطاب عليه وقد ترجل ولبس ثيابًا حسانًا، فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربته؟ قال: رأيته قد أعجبته نفسه، فأحببت أن أصغرها إليه1. وأخرج عن معمر عن ليث بن أبي سليم: أن عمر بن الخطاب قال: لا تسموا الحكم ولا أبا الحكم، فإن الله هو الحكم، ولا تسموا الطريق السكة. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الضحاك قال: قال أبو بكر: والله لوددت أني كنت شجرة إلى جنب الطريق، فمر علي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني2 ثم أخرجني بعرًا، ولم أكن بشرًا، فقال عمر: ياليتني كنت كبش أهلي، سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم من يحبون فذبحوني لهم، فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدًا ثم أكلوني، ولم أكن بشرًا3. وأخرج ابن عساكر عن أبي البختري قال: كان عمر بن الخطاب يخطب على المنبر، فقام إليه الحسين بن علي رضي الله عنه، فقال: انزل عن منبر أبي، فقال عمر: منبر أبيك لا منبر أبي، من أمرك بهذا؟ فقام علي فقال: والله ما أمره بهذا أحد، أما لأوجعنك يا غدر، فقال: لا توجع ابن أخي، فقد صدق، منبر أبيه. إسناده صحيح. وأخرج الخطيب في أدب الراوي عن مالك من طريقه عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يتنازعان في المسألة بينهما حتى يقول الناظر: إنهما لا يجتمعان أبدًا، فما يفترقان إلا على أحسنه وأجمله. وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: أول خطبة خطبها عمر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبي، فمن كان بحضرتنا بشرناه بأنفسنا، ومن غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة، ومن يحسن نزده حسنًا، ومن يسيء نعاقبه ويغفر الله لنا ولكم4. وأخرج عن جبير بن الحويرث: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- استشار المسلمين في تدوين الديوان، فقال له علي: تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تمسك منه شيئًا،   1 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "12647/7". 2 لاك: اللوك: إدارة الشيء في الفم، ازدرد اللقمة ونحوها أي: بلعها، انظر مختار الصحاح "270". 3 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان "787/1". 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات "238/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقال عثمان: أرى مالًا كثيرًا يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن يلتبس الأمر، فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة، يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانًا، وجندوا جنودًا فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من نساب قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا فبدءوا ببني هاشم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه على الخلافة، فلما نظر فيه عمر قال: ابدءوا بقرابة النبي -صلى الله عليه وسلم- الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله1. وأخرج عن سعيد بن المسيب قال: دون عمر الديوان في المحرم سنة عشرين. وأخرج عن الحسن قال: كتب عمر إلى حذيفة: أن أعطي الناس أعطيتهم وأرزاقهم، فكتب إليه: إنا قد فعلنا وبقي شيء كثير، فكتب إليه عمر: إنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا لآل عمر، اقسمه بينهم. وأخرج ابن سعد عن جبير بن مطعم قال: بينما عمر واقف على جبل عرفة سمع رجلًا يصرخ، ويقول: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعه رجل آخر وهم يعتافون فقال: ما لك! فك الله لهواتك؟ فأقبلت على الرجل فصحت عليه، فقال جبير: فإني الغد واقف مع عمر على العقبة يرميها إذ جاءت حصاة عائرة2 ففتقت رأس عمر فقصدت، فسمعت رجلًا من الجبل يقول: أشعرت ورب الكعبة ولا يقف عمر هذا الموقف بعد العام أبدًا، وقال جبير: فإذا هو الذي صرخ فينا بالأمس، فاشتد ذلك علي3. وأخرج عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين إذ صدرنا عن عرفة مررت بالمحصب فسمعت رجلًا على راحتله يقول: أين كان عمر أمير المؤمنين؟ فسمعت رجلًا آخر يقول: ههنا كان أمير المؤمنين، فأناخ راحلته ثم رفع عقيرته4 فقال: عليك سلام من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق فلم يتحرك ذلك الركب ولم يدر من هو، فكنا نتحدث أنه من الجن، فقدم عمر من تلك الحجة، فطعن بالخنجر فمات5.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "2/ 253، 254". 2 حصاة عائرة: لا يدري من رماها، النهاية "328/3". 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "284/2". 4 أي: رفع صوته بالغناء، قيل: أصله أن رجلًا قطعت رجله فكان يرفع المقطوعة على الصحيحة ويصيح من شدة وجعها بأعلى صوته فقيل لكل رافع صوته: رفع عقيرته. النهاية "275/3". 5 أخرجه ابن سعد في الطبقات "283/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وأخرج عن عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا كذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء. وأخرج عن النخعي أن رجلًا قال لعمر: ألا تستخلف عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله! والله ما أردت الله بهذا، أستخلف رجلًا لم يحسن أن يطلق امرأته؟ وأخرج عن شداد بن أوس عن كعب قال: كان في بني إسرائيل ملك إذا ذكرناه ذكرنا عمر، وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلى جنبه نبي يوحى إليه، فأوحى الله إلى النبي أن يقول له: اعهد عهدك، واكتب إلي وصيتك، فإنك ميت إلى ثلاثة أيام، فأخبره النبي بذلك، فلما كان اليوم الثالث وقع بين الجدار والسرير، ثم جاء إلى ربه، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني أعدل في الحكم، وإذا اختلفت الأمور اتبعت هداك وكنت وكنت، فزد في عمري حتى يكبر طفلي وتربو أمتي، فأوحى الله إلى النبي أنه قال كذا وكذا وقد صدق وقد زدته في عمره خمس عشرة سنة، ففي ذلك ما يكبر طفله وتربو أمته، فلما طعن عمر قال كعب: لئن سأل عمر ربه ليبقينه الله، فأخبر بذلك عمر، فقال: اللهم اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم1. وأخرج عن سليمان بن يسار أن الجن ناحت على عمر. وأخرج الحاكم2 عن مالك بن دينار قال: سمع صوت بجبل تبالة حين قتل عمر رضي الله عنه: لِيَبْكِ على الإسلام من كان باكيًا ... فقد أوشكوا صرعي وما قدم العهد وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملها من كان يوقن بالوعد وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن أبي راشد البصري قال: قال عمر لابنه: اقتصدوا في كفني، فإنه إن كان لي عند الله خير بدلني ما هو خير منه، وإن كنت غير ذلك سلبني فأسرع سلبي، اقتصدوا في حفرتي، فإنه إن كان لي عند الله خير أوسع لي فيها مد بصري، وإن كنت على غير ذلك ضيقها علي حتى تختلف أضلاعي، ولا تخرج معي امرأة، ولا تزكوني بما ليس فِيَّ، فإن الله أعلم بي، فإذا خرجتم فأسرعوا في المشي، فإنه إن كان لي عند الله خير قدمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت غير ذلك ألقيتم عن رقابكم شرًّا تحملونه. فصل أخرج ابن عساكر عن ابن عباس: أن العباس قال: سألت الله حولًا بعدما مات عمر أن يرينيه في المنام، فرأيته بعد حول، وهو يسلت العرق عن جبينه، فقلت: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، ما شأنك؟ فقال: هذا أوان فرغت، وإن كاد عرش عمر ليهد لولا أني لقيت رءوفًا رحيمًا.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "299/2". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "94/3"، وسكت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وأخرج أيضًا عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى عمر في المنام، فقال: كيف صنعت؟ قال: متى فارقتكم؟ قال: منذ اثنتي عشرة سنة، قال: إنما انفلت الآن من الحساب. وأخرج ابن سعد عن سالم بن سالم بن عبد الله بن عمر قال: سمعت رجلًا من الأنصار يقول: دعوت الله أن يريني عمر في المنام، فرأيته بعد عشر سنين، وهو يمسح العرق في جبينه، فقلت: يا أمير المؤمنين ما فعلت؟! قال: الآن فرغت، ولولا رحمة ربي لهلكت1 وأخرج الحاكم2 عن الشعبي، قال: رثت عاتكة بنت زيد عمرو بن نفيل عمر، فقالت: عين جودي بعبرة ونحيب ... لا تملي على الإمام الصليب فجعتني المنون بالفارس ... المعلم يوم الهياج والتأنيب عصمة الدين والمعين على ... الدهر وغيث الملهوف والمكروب قل لأهل الضراء والبؤس: موتوا ... إذ سقتنا المنون كأس شعوب فصل: فيمن مات من الصحابة رضي الله عنهم أيامه مات في أيام عمر -رضي الله عنه- من الأعلام: عتبة بن غزوان، والعلاء بن الحضرمي، وقيس بن السكن، وأبو قحافة والد الصديق -رضي الله عنه- وسعد بن عبادة، وسهيل بن عمرو، وابن أم مكتوم المؤذن، وعياش بن أبي ربيعة، وعبد الرحمن أخو الزبير بن العوام، وقيس بن أبي صعصعة أحد من جمع القرآن، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه أبو سفيان، ومارية أم السيد إبراهيم، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والفضل بن العباس، وأبو جندل بن سهيل، وأبو مالك الأشعري، وصفوان بن المعطل، وأبي بن كعب، وبلال المؤذن، وأسيد بن حضير، والبراء بن مالك أخو أنس، وزينب بنت جحش، وعياض بن غنم، وأبو الهيثم بن التيهان، وخالد بن الوليد، والجارود سيد بني عبد القيس، والنعمان بن مقرن، وقتادة بن النعمان، والأقرع بن حابس، وسودة بنت زمعة، وعويم بن ساعدة، وغيلان الثقفي، وأبو محجن الثقفي، وخلائق آخرون من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "317/2". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "94/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الخليفة الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه ... عثمان بن عفان رضي الله عنه1 عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن   1تولى الخلافة سنة 23 هـ وحتى 35هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشي، الأموي المكي، ثم المدني أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الله، أبو ليلى. ولد في السنة السادسة من الفيل، وأسلم قديمًا، وهو ممن دعاه الصديق إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين: الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة. وتزوج رقية بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة، وماتت عنده في ليالي غزوة بدر، فتأخر عن بدر لتمريضها، بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له بسهمه وأجره، فهو معدود في البدريين بذلك. وجاء البشير بنصر المسلمين ببدر يوم دفنوها بالمدينة، فزوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدها أختها أم كلثوم، وتوفيت عنده سنة تسع من الهجرة. قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره، ولذلك سمي ذو النورين: فهو من السابقين الأولين، وأول المهاجرين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، وأحد الصحابة الذين جمعوا القرآن، بل قال ابن عباد: لم يجمع القرآن من الخلفاء إلا هو والمأمون. وقال ابن سعد: استخلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، وإلى غطفان. روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة حديث، وستة وأربعون حديثًا. روى عنه زيد بن خالد الجهني، وابن الزبير، والسائب بن يزيد، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، وسلمة بن الأكوع، وأبو أمامة الباهلي، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن مغفل، وأبو قتادة، وأبو هريرة، وآخرون من الصحابة، رضي الله عنهم، وخلائق من التابعين منهم: أبان بن عثمان، وعبيد الله بن عدي، وعمران، وغيرهم. أخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن حاطب، قال: ما رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان إذا حدث- أتم حديثًا ولا أحسن من عثمان بن عفان، إلا أنه كان رجلًا يهاب الحديث1. وأخرج عن محمد بن سيرين قال: كان أعلمهم بالمناسك عثمان، وبعده ابن عمر. وأخرج البيهقي في سننه، عن عبد الله بن أبان الجعفي قال: قال لي خالي حسين الجعفي: تدري لِمَ سُمّي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا، قال: لم يجمع بين بنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان، فلذلك سمي ذا النورين2. وأخرج أبو نعيم عن الحسن قال: إنما سُمّي عثمان بن عفان ذا النورين؛ لأنه لا نعلم أحدًا أغلق بابه على ابنتي نبي غيره.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "180/2". 2 أخرجه البيهقي في السنن "73/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وأخرج خيثمة في فضائل الصحابة، وابن عساكر عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن عثمان بن عفان؟ فقال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، كان ختن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنتيه. وأخرج الماليني بسند فيه ضعف، عن سهل بن سعد قال: قيل لعثمان: ذو النورين؛ لأنه ينتقل من منزل إلى منزل في الجنة، فتبرق له برقتين، لذلك قيل له ذلك. وقال: إنه كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو فلما كان الإسلام ولدت له رقية عبد الله، فاكتنى به. وأمه: أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن مناف، وأمها: أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، وتوأمة أبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأم عثمان بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وكان أول الناس إسلامًا بعد أبي بكر، وعلي، وزيد بن حارثة. وأخرج ابن عساكر من طرق: أن عثمان كان رجلًا ربعة: ليس بالقصير، ولا بالطويل، حسن الوجه، أبيض مشربًا حمرة، بوجهه نمشات جدري، كثير اللحية، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، خدل الساقين، طويل الذراعين، شعره قد كسا ذراعيه، جعد الرأس أصلع، أحسن الناس ثغرًا، جمته أسفل من أذنيه يخضب بالصفرة، وكان قد شد أسنانه بالذهب. وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن حزم المازني قال: رأيت عثمان بن عفان فما رأيت قط ذكرًا ولا أنثى أحسن وجهًا منه. وأخرج عن موسى بن طلحة قال: كان عثمان بن عفان أجمل الناس. وأخرج ابن عساكر عن أسامة بن زيد قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزل عثمان بصحفة لحم، فدخلت، فإذا رقية -رضي الله عنها- جالسة، فجعلت مرة أنظر إلى وجه رقية، ومرة أنظر إلى وجه عثمان، فلما رجعت سألني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي: "دخلت عليهما؟ " قلت: نعم، قال: "فهل رأيت زوجًا أحسن منهما"؟ قلت: لا، يا رسول الله. وأخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، قال: لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية، فأوثقه رباطًا، وقال: ترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أدعك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدًا، ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه1. وأخرج أبو يعلى عن أنس قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط" 2.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "79/2". 2 أخرجه أبو يعلى "4437/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وأخرج ابن عدي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته أم كلثوم قال لها: "إن بعلك أشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد" 1. وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا نشبه عثمان بأبينا إبراهيم". فصل: في الأحاديث الواردة في فضله غير ما تقدم وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع ثيابه حين دخل عثمان، وقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة" 2. وأخرج البخاري عن أبي عبد الرحمن السلمي: أن عثمان حين حوصر أشرف عليهم، فقال: أنشدكم بالله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي، ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة؟ " فجهزتهم، ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر بئر رومة فله الجنة؟ " فحفرتها، فصدقوه بما قال3. وأخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله! عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقال عثمان: يا رسول الله! علي مائتا بعيرٍ بأحلاساها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقال عثمان: يا رسول الله عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله يقول: "ما على عثمان ما عمل بعد هذه شيء" 4. وأخرج الترمذي عن أنس، والحاكم وصححه، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" مرتين5. وأخرج الترمذي عن أنس قال: لما أمرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل مكة، فبايع الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان بن عفان في حاجة الله وحاجة رسوله"، فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعثمان خيرًا من أيديهم لأنفسهم.   1 أخرجه ابن عدي في الكامل "134/5". 2 أخرجه مسلم "2401/4". 3 أخرجه البخاري "2778/5". 4 أخرجه الترمذي "3700/5"، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث السكن بن المغيرة. 5 أخرجه الترمذي "3701/5"، والحاكم في المستدرك "102/3"، وقال أبو عيسى: حسن غريب من هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنة فقال: "يقتل فيها هذا مظلومًا" لعثمان. وأخرج الترمذي، والحاكم وصححه، وابن ماجه، عن مرة بن كعب قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر فتنة يقر بها، فمر رجل مقنع في ثوب قال: "هذا يومئذ على الهدى" فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان، فأقلبت إليه بوجهي فقلت: هذا؟ قال: "نعم" 1. وأخرج الترمذي والحاكم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عثمان، إنه لعل الله يقمصك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني". وأخرج الترمذي عن عثمان أنه قال يوم الدار: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد إلَيّ عهدًا، فأنا صابر عليه. وأخرج الحاكم عن أبي هريرة قال: اشترى عثمان الجنة من النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين: حيث حفر بئر رومة، وحيث جهز جيش العسرة. وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عمان من أشبه أصحابي بي خلقًا". وأخرج الطبراني عن عصمة بن مالك قال: لما ماتت بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم- تحت عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوجوا عثمان، لو كان لي ثالثة لزوجته، وما زوجته إلا بالوحي من الله" 2. وأخرج ابن عساكر عن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لعثمان: "لو أن لي أربعين ابنة زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة". وأخرج ابن عساكر عن زيد بن ثابت قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مر بي عثمان وعندي ملك من الملائكة فقال: شهيد يقتله قومه، إنا نستحي منه". وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحيي من الله ورسوله". وأخرج ابن عساكر عن الحسن: أنه ذكر عنده حياء عثمان، فقال: إن كان ليكون جوف البيت والباب عليه مغلق فيضع ثوبه ليفيض عليه الماء، فيمنعه الحياء أن يرفع صلبه". فصل: في خلافته رضي الله عنه بويع بالخلافة بعد دفن عمر بثلاث ليالٍ، فروي: أن الناس كانوا يجتمعون في تلك الأيام إلى عبد الرحمن بن عوف يشاورونه ويناجونه فلا يخلو به رجل ذو راي فيعدل بعثمان أحدًا،   1 أخرجه الترمذي "3704/5"، والحاكم في المستدرك "102/3". 2 أخرجه الطبراني في الكبير "490/17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ولما جلس عبد الرحمن للمبايعة حمد الله وأثنى عليه وقال في كلامه: إني رأيت الناس يأبون إلا عثمان، أخرجه ابن عساكر عن المسور بن مخرمة، وفي رواية: أما بعد يا علي، فإني قد نظرت في الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلًا، ثم أخذ بيد عثمان فقال: نبايعك على سنة الله وسنة رسوله وسنة الخليفتين بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه المهاجرون والأنصار. وأخرج ابن سعد عن أنس قال: أرسل عمر إلى أبي طلحة الأنصاري قبل أن يموت بساعة فقال: كن في خمسين من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت، فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحدًا يدخل عليهم ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمِّروا أحدهم1. وفي مسند أحمد عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليًّا؟ قال: ما ذنبي؟ قد بدأت بعلي فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر؟ فقال: فيما استطعت، ثم عرضت ذلك على عثمان فقال: نعم. ويروى: أن عبد الرحمن قال لعثمان في خلوة: إن لم أبايعكم فمن تشير علي؟ قال: علي، وقال لعلي: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: عثمان، ثم دعا الزبير فقال: إن لم أبايعك فمن تشير عليّ؟ قال: علي أو عثمان، فم دعا سعدًا، فقال: من تشير علي؟ فأما أنا وأنت فلا نريدها، فقال عثمان، ثم استشار عبد الرحمن والأعيان فرأى هوى أكثرهم في عثمان. وأخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: لما بويع عثمان أمرنا خير من بقي ولم نأل2. وفي هذه السنة من خلافته فتحت الري، وكانت فتحت وانتقضت، وفيها أصاب الناس رعاف كثير، فقيل لها: سنة الرعاف، وأصاب عثمان رعاف حتى تخلف عن الحج وأوصى، وفيها فتح من الروم حصون كثيرة، وفيها ولى عثمان الكوفة سعد بن أبي وقاص وعزل المغيرة. وفي سنة خمس وعشرين عزل عثمان سعدًا عن الكوفة، وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو صحابي أخو عثمان لأمه، وذلك أول ما نقم عليه؛ لأنه آثر أقاربه بالولايات، وحكى أن الوليد صلى بهم الصبح أربعًا وهو سكران، ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ وفي سنة ست وعشرين زاد عثمان في البيت الحرام، ووسعه واشترى أماكن للزيادة، وفيها فتحت سابور. وفي سنة سبع وعشرين غزا معاوية قبرص، فركب البحر بالجيوش، وكان معهم عبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام بنت ملحان الأنصارية، فسقطت عن دابتها، فماتت شهيدة هناك،   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "84/1". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "85/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرها بهذا الجيش، ودعا لها بأن تكون منهم فدفنت بقبرص، وفيها فتحت أرجان، ودرا بجرد، وفيها عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي السرح، فغزا أفريقية فافتتحها سهلًا وجبلًا، فأصاب كل إنسان من الجيش ألف دينار، وقيل: ثلاثة آلاف دينار، ثم فتحت الأندلس في هذا العام. فصل كان معاوية يلح على عمر بن الخطاب في غزو قبرص، وركوب البحر لها، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: أن صف لي البحر وراكبه، فكتب إليه: إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أراع العقول، تزداد فيه العقول قلة والسيئات كثرة، وهم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا فرق، فلما قرأ عمر الكتاب كتب إلى معاوية: والله لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا، قال ابن جرير: فغزا معاوية قبرص في أيام عثمان فصالحه أهلها على الجزية. وفي سنة تسع وعشرين فتحت إصطخر عنوة، وفسا، وغير ذلك، وفيها زاد عثمان في مسجد المدينة ووسعه، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من الحجارة، وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع. وفي سنة ثلاثين فتحت جور وبلاد كثيرة من أرض خراسان، وفتحت نيسابور صلحًا، وقيل: عنوة، وطوس وسرخس كلاهما صلحًا، وكذا مرو، وبيهق، ولما فتحت هذه البلاد الواسعة كثر الخراج على عثمان، وأتاه المال من كل وجه، حتى اتخذ له الخزائن وأدر الأرزاق وكان يأمر للرجل بمائة ألف بدرة في كل بدرة أربعة آلاف أوقية. وفي سنة إحدى وثلاثين توفي أبو سفيان بن حرب والد معاوية، وفيها مات الحكم بن أبي العاص عم عثمان رضي الله عنه. وفي سنة اثنتين وثلاثين توفي العباس بن عبد المطلب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصلى عليه عثمان، وفيها توفي عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة من السابقين الأولين، تصدق مرة بأربعين ألفًا وبقافلة جاءت من الشام كما هي، وفيها مات عبد الله بن مسعود الهذلي أحد القراء الأربعة، ومن أهل السوابق في الإسلام، ومن علماء الصحابة المشهورين بسعة العلم، وفيها مات أبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم، ولي قضاء دمشق لمعاوية، وفيها توفي أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري صادق اللهجة، وفيها مات زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان. وفي سنة ثلاث وثلاثين توفي المقداد بن الأسود في أرضه بالجرف وحمل إلى المدينة، وفيه غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الحبشة. وفي سنة أربع وثلاثين أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص ورضوا بأبي موسى الأشعري، وفي سنة خمس وثلاثين كان مقتل عثمان. قال الزهري: ولي عثمان الخلافة اثنتي عشرة سنة يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 شيئًا، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأن عمر كان شديدًا عليها، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر وكتب لمروان بخمس إفريقيه، وأعطى أقرباءه وأهل بيته المال، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه ذلك. أخرجه ابن سعد. وأخرج ابن عساكر من وجه آخر عن الزهري قال: قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان مقتل عثمان؟ وما كان شأن الناس وشأنه؟ ولم خذله أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن المسيب: قتل عثمان مظلومًا، ومن قتله كان ظالِمًا، ومن خذله كان معذورًا، فقلت: كيف كان ذلك؟ قال: إن عثمان لما ولي كره ولايته نفر من الصحابة؛ لأن عثمان كان يحب قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيرًا ما يولي بني أمية ممن لم يكن له مع رسول الله صحبة، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد، وكان عثمان يستعتب فيهم فلا يعزلهم، وذلك في سنة خمس وثلاثين، فلما كان في الست الأواخر استأثر بني عمه فولاهم وما أشرك معهم، وأمرهم بتقوى الله، فولى عبد الله بن أبي سرح مصر فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه، وقد كان قبل ذلك من عثمان هنات إلى عبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، فكانت بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد حنقت على عثمان لحال عمار بن ياسر، وجاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فكتب إليه كتابًا يتهدد فيه، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتى عثمان فقتله، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل، فنزلوا المسجد وشكوا إلى الصحابة في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان بكلام شديد، وأرسلت عائشة -رضي الله عنها- إليه فقالت: تقدم إليك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت؟! فهذا قد قتل منهم رجلًا فأنصفهم من عاملك، ودخل عليه علي بن أبي طالب فقال: إنما يسألونك رجلًا مكان رجل، وقد ادعوا قبله دمًا، فاعزله عنهم واقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه، فقال لهم: اختاروا رجلًا أوليه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقالوا: استعمل علينا محمد بن أبي بكر، فكتب عهده وولاه وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح، فخرج محمد ومن معه، فلما كان على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط خبطًا كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ما قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين، وجهني إلى عام مصر، فقال له رجل: هذا عامل مصر، قال: ليس هذا ما أريد، وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه رجلًا، فأخذه فجاء به إليه، فقال: غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أنا غلام أمير المؤمنين، ومرة يقول: أنا غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة، قال: معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتابًا، وكانت معه إداوة قد يبست فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإداوة فإذا بها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجيء إليّ يتظلم منك ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله تعالى، فلما قرءوا الكتاب فزعوا وأزمعوا، فرجعوا إلى المدينة، فجمعوا طلحة، والزبير، وعليًّا، وسعدًا، ومن كان من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم فضوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام وأقرءوهم الكتاب، فلم يبقَ أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر حنقًا وغيظًا وقام أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتم لما قرءوا الكتاب وحاصر الناس عثمان سنة خمس وثلاثين وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم، فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من الصحابة كلهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب، والغلام، والبعير، فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به. قال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر قط، وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى وكان مروان عنده في الدار فخرج أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- من عنده غضابًا، وشكوا في أمره، وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل، إلا أن قومًا قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحثه، ونعرف حال الكتاب، وكيف يأمر بقتل رجل من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بغير حق؟ فإن يكن عثمان كتبه عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان، ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشى عليه القتل، وحاصر الناس عثمان، ومنعوه الماء، فأشرف على الناس فقال: أفيكم علي؟ فقالوا: لا، قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا، فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليًّا فيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليًّا، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه فبلغ عليًّا أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا، وقال للحسن والحسين: إذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدًا يصل إليه وبعث الزبير ابنه، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ويسألونه إخراج مروان، فلما رأى الناس ذلك رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بالدماء على بابه، وأصاب مروانَ سهمٌ وهو في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي، فخشى محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيروها فتنة، فأخذ بيد الرجلين فقال لهما: إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد، ولكن اذهبوا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم به أحد، فتسور محمد وصاحباه من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان، ولا يعلم أحد ممن كان معه؛ لأن كل من كان معه كانوا فوق البيوت، ولم يكن معه إلا امرأته، فقال لهما محمد: مكانكما، فإن معه امرأته حتى أبدأكما بالدخول، فإذا أن ضبطته فادخلا فتوجآه حتى تقتلاه، فدخل محمد فأخذ1بلحيته، فقال له عثمان: والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني، فتراخت يده، ودخل الرجلان عليه فتوجآه حتى قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما كان في الدار من الجلبة، وصعدت امرأته إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل، فدخل الناس فوجدوه مذبوحا، وبلغ الخبر عليًّا، وطلحة، والزبير، وسعد، ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان، فوجدوه مقتولًا، فاسترجعوا، وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين وشتم محمد بن طلحة، وعبد الله بن الزبير، وخرج وهو غضبان حتى أتى منزله وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له: نبايعك فمد يدك فلابد من أمير، فقال علي: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضي به من أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى عليًّا، فقالوا له: ما نرى أحدًا أحق بها منك؟ مد يدك نبايعك، فبايعوه، وهرب مروان وولده وجاء علي إلى امرأة عثمان فقا لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل عليه رجلان لا أعرفهما ومعهما محمد بن أبي بكر، وأخبرت عليًّا والناس بما صنع محمد فدعا علي محمدًا فسأله عما ذكرت امرأة عثمان؟ فقال محمد: لم تكذب، قد والله دخلت عليه وأنا أريد قتله فذكرني أبي فقمت عنه وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا أمسكته، فقالت امرأته: صدق ولكنه أدخلهما. وأخرج ابن عساكر عن كنانة مولى صفية وغيره قالوا: قتل عثمان رجل من أهل مصر أزرق أشقر، يقال له: حمار. وأخرج أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالًا ثلاثًا: إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددًا وقوة، وأنت على الحق وهم على باطل، وإما أن نخرق لك بابًا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على راحلتك، فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: إما أن أخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم". فلن أكون أنا وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وأخرج ابن عساكر عن أبي ثور الفهمي قال: دخلت على عثمان وهو محصور فقال: لقد اختبأت عند ربي عشرًا، وإني لرابع أربعة في الإسلام، وأنكحني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنته، ثم توفيت فأنكحني ابنته الأخرى، وما تغنيت، ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام قط، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان قتل عثمان في أوسط أيام التشريق من سنة خمس وثلاثين، وقيل: قتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة، ودفن ليلة السبت، بين المغرب والعشاء، في حش كوكب بالبقيع، وهو أول من دفن به، وقيل: كان يوم قتله يوم الأربعاء، وقيل: يوم الاثنين لستٍ بقين من ذي الحجة، وكان له يوم قتل اثنتان وثمانون سنة، وقيل: إحدى وثمانون سنة، وقيل: أربع وثمانون وقيل: ست وثمانون، وقيل ثمانٍ أو تسع وثمانون، وقيل: تسعون قال قتادة: صلى عليه الزبير ودفنه وكان أوصى بذلك إليه. وأخرج ابن عدي وابن عساكر من حديث أنس مرفوعًا: "إن لله سيفًا مغمودًا في غمده ما دام عثمان حيًّا، فإذا قتل عثمان جرد ذلك السيف فلم يغمد إلى يوم القيامة". تفرد به عمرو بن فائد، وله مناكير. وأخرج ابن عساكر عن زيد بن أبي حبيب قال: بلغني أن عامة الركب الذين ساروا إلى عثمان عامتهم جنوا. وأخرج عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه آمن به في قبره. وأخرج عن ابن عباس قال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء. وأخرج عن الحسن قال: قتل عثمان وعلي غائب في أرض له، فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ. وأخرج الحاكم وصححه عن قيس بن عباد قال: سمعت عليًّا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحيي أن أبايع قومًا قتلوا عثمان، وإني لأستحيي من الله أن أبايع وعثمان لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما رجع الناس فسألوني البيعة، قلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه ثم جاءت عزيمة فبايعت فقالوا: يا أمير المؤمنين، فكأنما صدع قلبي،   1 أخرجه أحمد في المسند "64/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقلت: اللهم، خذ مني لعثمان حتى ترضي1. وأخرج ابن عساكر عن أبي خلدة الحنفي قال: سمعت عليًّا يقول: إن بني أمية يزعمون أني قتلت عثمان، ولا والله الذي لا إله إلا هو ما قتلت ولا مالأت، ولقد نهيت فعصوني. وأخرج عن سمرة قال: إن الإسلام كان في حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان لا تسد إلى يوم القيامة، وإن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها ولم تعد فيهم. وأخرج عن محمد بن سيرين قال: لم تفقد الخيل البلق2 في المغازي والجيوش حتى قتل عثمان، ولم يختلف في الأهلة حتى قتل عثمان، ولم تر هذه الحمرة التي في آفاق السماء حتى قتل الحسين. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن سلام يدخل على محاصري عثمان فيقول: لا تقتلوه، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقى الله أجذم لا يد له، وإن سيف الله لم يزل مغمودًا، وإنكم والله إن قتلتموه ليسلنَّه الله، ثم لا يغمده عنكم أبدًا، وماقتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفًا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفًا قبل أن يجتمعوا. وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: خصلتان لعثمان ليستا لأبي بكر ولا لعمر رضي الله عنهما: صبره على نفسه حتى قتل، وجمعه الناس على المصحف. وأخرج الحاكم3 عن الشعبي قال: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك حيث قال: فكف يديه ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله صب عليهم ... العداوة والبغضاء بعد التواصل؟ وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار الرياح الجوافل؟ فصل أخرج ابن سعد عن موسى بن طلحة قال: رأيت عثمان يخرج يوم الجمعة وعليه ثوبان أصفران فيجلس على المنبر، فيؤذن المؤذن، وهو يتحدث يسأل الناس عن أسعارهم، وعن مرضاهم. وأخرج عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان يلي وضوء الليل بنفسه، فقيل له: لو   1 أخرجه الحاكم في المستدرك "95/3"، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 2 بالتحريك: سواد وبياض كالبلقة بالضم وارتفاع التحجيل. القاموس المحيط "222/3". 3 أخرجه الحاكم في المستدرك "105/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أمرت بعض الخدم فكفوك، قال لا، الليل لهم يستريحون فيه. وأخرج ابن عساكر عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم عثمان: "آمنت بالذي خلق فسوى". وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عمر: أن جهجاه الغفاري قام إلى عثمان وهو على المنبر يخطب، فأخذ العصا من يده فكسرها على ركبته فما حال الحول على جهجاه حتى أرسل الله في رجله الأكلة، فمات منها. فصل: في أوليات عثمان رضي الله عنه قال العسكري في الأوائل: هو أول من أقطع القطائع، وأول من حمى الحمى، وأول من خلفض صوته بالتكبير، وأول من خلق المسجد1، وأول من أمر بالأذان الأول في الجمعة، وأول من رزق المؤذنين، وأول من أرتج عليه في الخطبة فقال: أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيعلمنا الله. أخرجه ابن سعد، وأول من قدم الخطبة في العيد على الصلاة، وأول من فوض إلى الناس إخراج زكاتهم، وأول من ولي الخلافة في حياة أمه، وأول من اتخذ صاحب شرطة، وأول من اتخذ المقصورة في المسجد خوفًا أن يصيبه ما أصاب عمر، وهذا ما ذكره العسكري، قال: وأول ما وقع الاختلاف بين الأمة فخطأ بعضهم بعضا في زمانه في أشياء نقموها عليه وكانوا قبل ذلك يختلفون في الفقه، ولا يخطئ بعضهما بعضا. قلت: بقى من أوائله أنه أول من هاجر إلى الله بأهله من هذه الأمة كما تقدم، وأول من جمع الناس على حرف واحد في القراءة. وأخرج ابن عساكر عن حكيم بن عباد بن حنيف قال: أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهى سمن الناس، طيران الحمام، والرمي على الجلاهقات فاستعمل عليها عثمان من بني ليث سنة ثمان من خلافته فقصها وكسر الجلاهقات2. فصل: فيمن مات من الأعلام في أيام عثمان رضي الله عنه مات في أيام عثمان من الأعلام: سراقة بن مالك بن جعشم، وجبار بن صخر، وحاطب بن أبي بلتعة، وعياض بن زهير، وأبو أسيد الساعدي، وأوس بن الصامت، والحارث بن نوفل، وعبد الله بن حذافة، وزيد بن خارجة الذي تكلم بعد الموت، ولبيد الشاعر، والمسيب والد سعيد، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومعبد بن العباس، ومعيقيب   1 من باب: صنع وجمل إذ أظهر فيه الصنيع والجميل ومعناه طيبه بطيب الخلوق النهاية "70/2". 2 الجلاهق: البندق ومنه قوس الجلاهق، مختار الصحاح "106". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ابن أبي فاطمة الدوسي، وأبو لبابة بن عبد المنذر، ونعيم بن مسعود الأشجعي، وآخرون من الصحابة. ومن غير الصحابة الحطيئة الشاعر، وأبو ذؤيب الشاعر الهذلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الخليفة الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... علي بن أبي طالب رضي الله عنه1 رضي الله عنه واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، واسمه شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، واسم زيد بن كلاب بن بمرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة، أبو الحسن، وأبو تراب، كناه بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأمه فاطمة بنت أسد بن هشام، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا، قد أسلمت وهاجرت. وعلي رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة سيدة نساء العالمين -رضي الله عنها- وأحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العلماء الربانيين، والشجعان المشهورين، والزهاد المذكورين، والخطباء المعروفين، وأحد من جمع القرآن وعرضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه أبو الأسود الدؤلي وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو أول خليفة من بني هاشم، وأبو السبطين، أسلم قديما، بل قال ابن عباس وأنس وزيد بن الأرقم وسليمان الفارسي وجماعة: إنه أول من أسلم، ونقل بعضهم الإجماع عليه. وأخرج أبو يعلى عن علي -رضي الله عنه- قال: بعث الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء وكان عمره حين أسلم عشر سنين، وقيل: تسع، وقيل: ثمان، وقيل: دون ذلك، قال الحسن بن زيد بن الحسن: ولم يعبد الأوثان قط لصغره، أخرجه ابن سعد2. ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره أن يقيم بعده بمكة أياما حتى يؤدي عنه أمانة الودائع والوصايا التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يلحقه بأهله، ففعل ذلك، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا وسائر المشاهد إلا تبوك فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، وله في جميع المشاهد آثار مشهورة، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء في مواطن كثيرة، وقال سعيد بن المسيب: أصابت عليًا يوم أحد ست عشرة ضربة، وثبت في الصحيحن: أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الراية في يوم خيبر، وأخبر أن الفتح يكون على يديه3 وأحواله في الشجاعة وآثاره في الحروب مشهورة. وكان علي شيخًا سمينًا، أصلع، كثير الشعر، ربعة إلى القصر4 عظيم البطن، عظيم اللحية جدًّا، قد ملأت ما بين منكبيه بيضاء كأنها قطن، آدم شديد الأدمة. وقال جابر بن عبد الله: حمل علي الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه.   1 تولى الخلافة 35هـ وحتى40هـ. 2 أخرجه أبو يعلى "446/1"، وابن سعد "55/2". 3 أخرجه البخاري "2942/6"، ومسلم "2405/4". 4 رجل ربعة: أي مربوع الخلق لا طويل ولا قصير. مختار الصحاح "230". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ففتحوها، وإنهم جروه بعد ذلك، فلم يحمله إلا أربعون رجلًا، أخرجه ابن عساكر. وأخرج ابن إسحاق في المغازى وابن عساكر عن أبي رافع، أن عليًّا تناول بابًا عند الحصن حصن خيبر فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله علينا، ثم ألقاه، فلقد رأيتنا ثمانية نفر نجهد أن نقلب ذلك الباب، فما استطعنا أن نقلبه. وروى البخاري في الأدب عن سهل بن سعد قال: إن كان أحب أسماء علي -رضي الله عنه- إليه أبو تراب، وإن كان ليفرح أن يدعى به، وما سماه أبا تراب إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك أنه غاضب يومًا فاطمة فخرج، فاضطجع إلى الجدار في المسجد، فجاءه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد امتلأ ظهره ترابًا فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسح التراب عن ظهره ويقول: "اجلس أبا تراب" 1. روي له عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا. روى عنه بنوه الثلاثة: الحسن والحسين، ومحمد ابن الحنفية، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وأبو موسى، وأبو سعيد، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبد الله، وأبو أمامة، وأبو هريرة، وخلائق من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين. فصل: في الأحاديث الواردة في فضله قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الفضائل ما ورد لعلي -رضي الله عنه- أخرجه الحاكم. وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي" 2. أخرجه أحمد والبزار من حديث أبي سعيد الخدري، والطبراني من حديث أسماء بنت قيس، وأم سلمة، وحبشي بن جنادة وابن عمر وابن عباس، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم. وأخرجا عن سهل بن سعد: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، فبات الناس يدكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به، فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه ودعا له، فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية3. يدكون: أي يخوضون ويتحدثون. وقد أخرج هذا الحديث الطبراني من حديث ابن عمر، وعلي، وابن أبي ليلى وعمران بن حصين، والبزار من حديث ابن عباس.   1 أخرجه البخاري في الأدب المفرد "ح851". 2 أخرجه البخاري "7/ 3706"، ومسلم "31/4 فضائل صحابة"، وأحمد "173/1". 3 أخرجه البخاري "3701/7"، ومسلم "2406/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُم} [آل عمران: 61] دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا، وفاطمة، وحسنًا، حسينًا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" 1. وأخرج الترمذي عن أبي سريحة، وأبو زيد بن الأرقم، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" 2. وأخرجه أحمد عن علي، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن أرقم، وعمرو ذي مر، وأبو يعلى عن أبي هريرة، والطبراني عن ابن عمر، ومالك بن الحويرث وحبشي بن جنادة، وجرير، وسعد بن أبي وقاص، وأبي سعيد الخدري، وأنس، والبزار عن ابن عباس، وعمارة، وبريدة، وفي أكثرها زيادة: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". ولأحمد عن الطفيل قال: جمع على الناس سنة خمس وثلاثين في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يوم غدير خم ما قال لما قام، فقام إليه ثلاثون من الناس فشهدوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه". وأخرج الترمذي، والحاكم وصححه، عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم"، قيل يا رسول الله سمهم لنا؟ قال: "علي منهم -يقول ذلك ثلاثا- وأبو ذر، والمقداد، وسلمان" 3. وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه عن حبشي بن جنادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علي مني، وأنا من علي" 4. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: آخى رسول الله بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك، ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في الدنيا والآخرة". وأخرج مسلم عن علي قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إِلَيّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق5. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليًّا.   1 أخرجه مسلم "32/4 فضائل صحابة". 2 أخرجه الترمذي "3713/5"، وقال أبو عيسى: حسن صحيح. 3 أخرجه الترمذي "3718/5"، والحاكم "130/3"، وقال أبو عيسى: حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي: ما خرج مسلم لأبي ربيعة. 4 أخرجه الترمذي "3719/5"، والنسائي في الكبرى "8454/5"، وابن ماجه "119/1"، وقال أبو عيسى: حسن غريب. 5 أخرجه مسلم "78/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وأخرج البزار، والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله، وأخرج الترمذي والحاكم عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم، وعلي بابها". هذا حديث حسن على الصواب، لا صحيح كما قال الحاكم، ولا موضوع كما قاله جماعة منهم ابن الجوزي والنووي وقد بينت حاله في التعقبات على الموضوعات. وأخرج الحاكم وصححه عن علي قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم، ولا أدري ما القضاء، فضرب صدري بيده ثم قال: "اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه، فوالذي فلق الحبة ما شككت في القضاء بين اثنين". وأخرج ابن سعد عن علي أنه قيل له: مالك أكثر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا؟ قال: إني كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكت ابتدأني. وأخرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال عمر بن الخطاب: عي أقضانا. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود -رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي. وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: إذا حدثنا ثقة عن علي فتيا لا نعدوها. وأخرج عن سعيد ابن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب يتعوذ بالله من معضلة ليس فيها أبو الحسن. وأخرج عنه قال: لم يكن أحد من الصحابة يقول: سلوني إلا علي. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أفرض أهل المدينة وأقضاها علي بن أبي طالب. وأخرج عن عائشة رضي الله عنها: أن عليًّا ذكر عندها، فقالت: أما إنه أعلم من بقي بالسنة. وقال مسروق: انتهى علم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمر، وعلي، وابن مسعود، وعبد الله رضي الله عنهم. وقال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: كان لعلي ما شئت من ضرس قاطع في العلم، وكان له البسطة في العشيرة، والقدم في الإسلام والعهد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والفقه في السنة والنجدة في الحرب، والجود في المال. وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس من شجر شتى وأنا وعلي من شجرة واحدة" 1. وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ما أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر عليًّا إلا بخير2.   1 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح4162". 2 أخرجه الطبراني في الكبير "11687/11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما نزل في علي. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت في علي ثلاثمائة آية. وأخرج البزار عن سعد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "لا يحل لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك ". وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غضب لم يجترئ أحد أن يكلمه إلا علي. وأخرج الطبراني والحاكم عن ابن مسعود -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "النظر إلى علي عبادة" 1. إسناده حسن، وأخرجه الطبراني، والحاكم أيضًا من حديث عمران بن حصين. وأخرجه ابن عساكر من حديث أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، ومعاذ بن جبل، وأنس، وثوبان، وجابر بن عبد الله، وعائشة رضي الله عنهم. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: كانت لعلي ثماني عشرة منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة. وأخرج أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب: لقد أعطي علي ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من أن أعطى حمر النعم، فسئل وما هن؟ قال: تزوجه ابنته فاطمة، وسكناه المسجد لا يحل لي فيه ما يحل له، والراية يوم خيبر. وروى أحمد بسند صحيح عن ابن عمر نحوه. وأخرج أحمد وأبو يعلى بسند صحيح عن علي قال: ما رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجهي، وتفل في عيني، يوم خيبر حين أعطاني الراية2. وأخرج أبو يعلى والبزار عن سعد بن أبي وقاص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى عليًّا فقد آذاني". وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أم سلمة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب عليًّا فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض عليًّا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله" 3. وأخرج أحمد والحاكم وصححه، عن أم سلمة قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سب عليًّا فقد سبني" 4.   1 أخرجه الطبراني في الكبير "10006/10"، والحاكم "142/3"، وقال الحاكم: صحيح ووافقه الذهبي. 2 أخرجه أحمد في مسنده "99،78/1"، وأبو يعلى "593/1". 3 أخرجه الطبراني في الكبير "901/23". 4 أخرجه أحمد "323/6"، والحاكم "121/3"، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وأخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "إنك تقاتل على القرآن كما قاتلت على تنزيله". وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم عن علي، قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن فيك مثلًا من عيسى، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به". ألا وإنه يهلك في اثنين: محب مفرط يفرطني بما ليس فيّ، مبغض مفترٍ يحمله شنآني على أن يبهتني. وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "علي مع القرآن والقرآن مع علي، ولا يفترقان حتى يردا على الحوض" 1. وأخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمار بن ياسر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أشقى الناس رجلان: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه -يعني: قرنه- حتى تبتل منه هذه من الدم، يعني: لحيته". وقد ورد ذلك من حديث علي، وصهيب، وجابر بن سمرة، وغيرهم. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: اشتكى الناس عليًّا فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينا خطيبًا فقال: "لا تشكوا عليًّا، فوالله إنه لأخيشن في ذات الله، أو سبيل الله" 2. فصل: في مبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وما نشأ عن ذلك قال ابن سعد: بويع علي بالخلافة الغد من قتل عثمان بالمدينة فبايعه جميع من كان بها من الصحابة -رضي الله عنهم- وقال: إن طلحة والزبير بايعا كارهين غير طائعين، ثم خرجا إلى مكة وعائشة -رضي الله عنها- بها، فأخذاها وخرجا بها إلى البصرة يطلبون بدم عثمان، وبلغ ذلك عليًّا فخرج إلى العراق، فلقي بالبصرة طلحة والزبير وعائشة ومن معهم، وهي وقعة الجمل، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وقتل بها طلحة والزبير وغيرهما وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألفًا، وأقام علي بالبصرة خمس عشرة ليلة، ثم انصرف إلى الكوفة، ثم خرج عليه معاوية بن أبي سفيان ومن معه بالشام، فبلغ عليًّا فسار إليه، فالتقوا بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين، ودام القتال بها أيامًا، فرفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها، مكيدة من عمرو بن العاص، فكره الناس الحرب، وتداعوا إلى الصلح، وحكموا الحكمين، فحكم عليٌ أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا رأس الحول بأذرح، فينظروا في أمر الأمة فافترق الناس، ورجع معاوية إلى الشام، وعلي إلى الكوفة، فخرجت عليه الخوراج من أصحابه ومن كان معه وقالوا: لا حكم إلا لله، وعسكروا بحروراء، فبعث إليهم ابن عباس، فخاصمهم   1 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح4878". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "134/3"، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وحجهم، فرجع منهم قوم كثير، وثبت قوم، وساروا إلى النهروان، فعرضوا للسبيل، فسار إليهم على فقتلهم بالنهروان، وقتل منهم ذا الثدية، ذلك سنة ثمان وثلاثين، اجتمع الناس بأذرح في شعبان من هذه السنة، وحضرها سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما من الصحابة فقدم عمرو أبا موسى الأشعري مكيدة منه، فتكلم فخلع عليًّا، وتكلم عمرو فأقر معاوية، وبايع له، فتفرق الناس على هذا، وصار علي في خلاف مع أصحابه حتى صار يعض علي أصبعه ويقول: أعصى ويطاع معاوية؟ وانتدب ثلاثة نفر من الخوارج: عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكير التميمي، فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ويريحوا العباد منهم، فقال ابن ملجم: أنا لكم بعلي، وقال البرك: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو بن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، وتعاهدوا على أن ذلك يكون في ليلة واحدة ليلة حادي عشر أو ليلة سابع عشر رمضان، ثم توجه كل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه، فقدم ابن ملجم الكوفة، فلقي أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريدون إلى ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين، فاستيقظ علي سحرًا، فقال لابنه الحسن، رأيت الليلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ فقال لي: "ادع الله عليهم"، فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرًا لي منهم، وأبدلهم بي شرًّا لهم مني، ودخل ابن الذباح المؤذن على علي، فقال: الصلاة، فخرج علي من الباب ينادي: أيها الناس الصلاة الصلاة، فاعترضه ابن ملجم، فضربه بالسيف، فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه، فشد عليه الناس من كل جانب، فأمسك وأوثق، وأقام علي الجمعة والسبت، وتوفي ليلة الأحد وغسله الحسن والحسين، وعبد الله بن جعفر، وصلى عليه الحسن، ودفن بدار الإمارة بالكوفة ليلًا، ثم قطعت أطراف ابن ملجم، وجعل في قوصرة وأحرقوه بالنار. وهذا كله كلام ابن سعد، وقد أحسن في تلخيصه هذه الوقائع، ولم يوسع فيها الكلام كما صنع غيره؛ لأن هذا هو اللائق بهذا المقام، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا". وقال: "بحسب أصحابي القتل" 1. وفي المستدرك2 عن السدي، قال: كان عبد الرحمن بن ملجم المرادي عشق امرأة من الخوارج يقال لها: قطام، فنكحها وأصدقها ثلاثة آلاف درهم، وقتل علي، وفي ذلك قال الفرزدق: فلم أر مهرًا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المصمم فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم   1 أخرجه ابن سعد "66/2". 2 أخرجه الحاكم في المستدرك "143/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قال أبو بكر بن عياش: عمى قبر علي لئلا ينبشه الخوارج. وقال شريك: نقله ابنه الحسن إلى المدينة. وقال المبرد عن محمد بن حبيب: أول من حول من قبر إلى قبر علي رضي الله عنه. وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما قتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حملوه ليدفنوه مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فبينما هم في مسيرهم ليلًا إذ ند1 الجمل الذي هو عليه، فلم يدر أين ذهب؟ ولم يقدر عليه، قال: فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب، وقال غيره: إن البعير وقع في بلاد طيئ فأخذوه فدفنوه. وكان لعلي حين قتل ثلاث وستون سنة، وقيل: أربع وستون، وقيل: خمس وستون، وقيل: سبع وخمسون، وقيل: ثمان وخمسون، وكان له تسع عشرة سرية. فصل: في نبذ من أخبار علي وقضاياه وكلماته رضي الله عنه قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا هشيم، حدثنا حجاج، حدثني شيخ من فزارة: سمعت عليًّا يقول: الحمد لله الذي جعل عدونا يسألنا عما نزل به من أمر دينه إن معاوية كتب إلي يسألني عن الخنثى المشكل، فكتبت إليه أن يورثه من قبل مباله، وقال هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن علي مثله. وأخرج ابن عساكر عن الحسن قال: لما قدم علي البصرة قام إليه ابن الكواء، وقيس بن عباد، فقالا له: ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه، تتولى على الأمة تضرب بعضهم ببعض؟ أعهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليك؟ فحدثنا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت، فقال: أما أن يكون عندي عهد من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك فلا، والله لئن كنت أول من صدق به فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي من النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلا بردي هذا، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل قتلًا، ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أيامًا وليالي، يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال: "أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس"، فلما قبض الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا، وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي أمير الدين، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلًا، ولم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم تقطع منه البراءة، فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جنوده، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزوا إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي، فلما قبض تولاها عمر، فأخذها بسنة صاحبه، وما يعرف من أمره، فبايعنا عمر،   1 أي: شرد وذهب على وجهه ومنه: "فند بعير منها". النهاية "35/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ولم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم تقطع منه البراءة، فأديت إلى عمر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بيدي الحدود بسوطي، فلما قبض تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وسالفتي وفضلي، وأنا أظن ألا يعدل بي، ولكن خشى ألا يعمل الخليفة بعده ذنبًا إلا لحقه في قبره، فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة منه لآثر بها ولده، فبرئ منها إلى رهط من قريش ستة أنا أحدهم، فلما اجتمع الرهط ظننت ألا يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن بن عوف مواثيقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم أخذ بيد عثمان بن عفان وضرب بيده على يده، فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزوا إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي، فلما أصيب نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي قد أخذ له الميثاق قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين، وأهل هذين المصرين، فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: عرض لعلي رجلان في خصومة، فجلس في أصل جدار، فقال له رجل: الجدار يقع، فقال علي: امض، كفى بالله حارسًا، فقضى بينهما، فقام، ثم سقط الجدار. وفي الطيوريات بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: نسمعك تقول في الخطبة: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين، فمن هم؟ فاغرورقت عيناه، فقال: هم حبيباي: أبو بكر وعمر، إماما الهدى، وشيخا الإسلام، ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدى الصراط المستقيم، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله. وأخرج عبد الرزاق عن حجر المدري قال: قال لي علي بن أبي طالب: كيف بك إذا أمرت أن تلعنني؟ قال: وكائن ذلك؟ قال: نعم، قلت: فكيف أصنع؟ قال: العني ولا تبرأ مني، قال: فأمرني محمد بن يوسف أخو الحجاج وكان أميرًا على اليمن، أن ألعن عليًّا، فقلت: إن الأمير أمرني أن ألعن عليًّا فالعنوه، لعنه الله، فما فطن لها إلا رجل. وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل1 عن زاذان: أن عليًّا حدث بحديث فكذبه رجل، فقال له علي: أدعو عليك إن كانت كاذبًا؟ قال: ادع فدعا عليه، فلم يبرح حتى ذهب بصره. وأخرج عن زر بن حبيش قال: جلس رجلان يتغديان مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع   1 أخرجه الطبراني في الأوسط "ح1812". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضعا الغداء بين أيديهما مر بهما رجل، فسلم، فقالا: اجلس وتغد، فجلس وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال خذاها عوضًا مما أكلت لكما، ونلته من طعامكما، فتنازعا، فقال صاحب الخمسة أرغفة: لي خمسة دراهم، ولك ثلاثة، وقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين، فارتفعا إلى أمير المؤمنين علي، فقصّا عليه قصتهما فقال لصاحب الثلاثة: قد عرض عليك صاحبك ما عرض، وخبزه أكثر من خبزك، فارضَ بالثلاثة، فقال: والله لا رضيت عنه إلا بمر الحق، فقال علي: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد، وله سبعة دراهم، فقال الرجل سبحان الله قال: هو ذلك، قال: فعرفني الوجه في مر الحق حتى أقبله، فقال علي: أليس للثمانية أرغفة أربعة وعشرون ثلثًا أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس، ولا يعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقل؟ فتحملون في أكلكم على السواء، قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث، وإنما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث، وله خمسة عشر ثلثًا، وأكل منها ثمانية، وبقى له سبعة أكلها صاحب الدراهم وأكل لك واحدة من تسعة، فلك واحد بواحدك، وله سبعة، فقال الرجل رضيت الآن. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عطاء قال: أتي عليٌ برجل وشهد عليه رجلان أنه سرق، فأخذ في شيء من أمور الناس، وتهدد شهود الزور، وقال: لا أوتي بشاهد زور , إلا فعلت به كذا وكذا، ثم طلب الشاهدين، فلم يجدهما فخلى سبيله. وقال عبد الرزاق في المصنف: حدثنا الثوري، عن سليمان الشيباني، عن رجل، عن علي: أنه أتي برجل، فقيل له: زعم هذا أنه احتلم بأمي، فقال: اذهب فأقمه بالشمس، فاضرب ظله. وأخرجه ابن عساكر عن طريق جعفر بن محمد عن أبيه: أن خاتم علي بن أبي طالب كان من ورق نقشه: نعم القادر الله. وأخرج عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم علي: الملك لله. وأخرج عن المدائني قال: لما دخل على الكوفة دخل عليه رجل من حكماء العرب فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد زِنْتَ الخلافة، ومازانتك، ورفعتها ومارفعتك، وهي كانت أحوج إليك منك إليها. وأخرج عن مجمع: أن عليًّا كان يكنس بيت المال، ثم صلى فيه، رجاء أن يشهد له أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين. وقال أبو القاسم الزجاجي في أماليه: حدثنا أبو جعفر محمد بن رستم الطبري، حدثنا أبو الحاتم السجستاني، حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي، حدثنا سعيد بن سلم الباهلي، حدثنا أبي، عن جدي، عن أبي الأسود الدؤلي، أو قال: عن جدي أبي الأسود عن أبيه، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فرأيته مطرقًا مفكرًا، فقلت: فيمَ تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لَحْنًا، فأردت أن أصنع كتابًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، وبقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد ثلاثة، فألقى إلي صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: الكلمة: اسم، وفعل، وحرف، فالاسم: ما أنبأ عن المسمى، والفعل: ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف: ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر، ولا مضمر، قال أبو الأسود: فجمعت منه أشياء، وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت منها: إن، أن، وليت، ولعل، وكأن، لم أذكر لكن فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها فقال: بل هي منها فزدها فيها. وأخرج ابن عساكر عن ربيعة بن ناجد قال: قال علي: كونوا في الناس كالنحلة في الطير، إنه ليس في الطير شيء إلا وهو يستضعفها، ولو يعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب. وأخرج عن علي قال: كونوا بقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، فإنه لن يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل عمل يتقبل؟ وأخرج عن يحيى بن جعدة قال: قال علي بن أبي طالب: يا حملة القرآن اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يجلسون حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى إن الرجل يغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله. وأخرج عن علي قال: التوفيق خير قائد، وحسن الخلق خير قرين، والعقل خير صاحب، والأدب خير ميراث، ولا وحشة أشد من العجب. وأخرج عن الحارث قال: جاء رجل إلى علي فقال: أخبرني عن القدر؟ فقال: طريق مظلم لا تسلكه، قال: أخبرني عن القدر؟ قال: بحر عميق لا تلجه، قال: أخبرني عن القدر؟ قال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه، قال: أخبرني عن القدر؟ قال: يا أيها السائل إن الله خلقك لما شاء أو لما شئت؟ قال: بل لما شاء، قال: فيستعملك لما شاء. وأخرج عن علي قال: إن للنكبات نهايات ولابد أحد إذا نكب من أن ينتهي إليها، فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها، فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها. وأخرج عن علي أنه قيل له: ما السخاء؟ قال: ما كان منه ابتداء، فأما ما كان عن مسألة فحياء وتكرم. وأخرج عن علي: أنه أتاه رجل فأثنى عليه فأطراه، وكان قد بلغه عنه قبل ذلك، فقال له علي: إني لست كما تقول، وأنا فوق ما في نفسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وأخرج عن علي قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والنقص في اللذة، قيل: وما النقص في اللذة؟ قال: لا ينال شهوةً حلالًا إلا جاءه ما ينغصه إياها. وأخرج عن علي بن ربيعة أن رجلًا قال لعلي: ثبتك الله -وكان يبغضه- قال علي: على صدرك. وأخرج عن الشعبي قال: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان عثمان يقول الشعر، وكان علي أشعر الثلاثة: وأخرج عن نبيط الأشجعي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بهمها الصدر الرحيب وأوطنت المكاره واطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوب ولم ير لانكشاف الضر وجه ... ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غوث ... يجيء به القريب المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها الفرج القريب وأخرج عن الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب لرجل كره له صحبة رجل: فلا تصحب أخا الجهل ... وإيّاك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليمًا حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذ ما هو ما شاه وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه قياس النعل بالنعل ... إذا ما هو حاذاه وأخرج عن المبرد قال: كان مكتوبًا على سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه: للناس حرص على الدنيا بتدبير ... وصفوها لك ممزوج بتكدير لم يرزقوها بعقل بعدما قسمت ... لكنهم رزقوها بالمقادير كم من أديب لبيب لا تساعده؟ ... وأحمق نال دنياه بتقصير لو كان عن قوة أو عن مغالبة ... طار البزاة بأرزاق العصافير وأخرج عن حمزة بن حبيب الزيات قال: كان علي بن أبي طالب يقول: ولا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحًا فإني رأيت غواة الرجال ... لا يدعون أديمًا صحيحًا وأخرج عن عقبة بن أبي الصهباء قال: لما ضرب ابن ملجم عليًّا دخل عليه الحسن وهو باك فقال له علي: يا بني احفظ عني أربعًا وأربعًا، قال: وما هن يا أبت؟ قال: أغنى الغنى: العقل، وأكبر الفقر: الحمق، وأوحش الوحشة: العجب، وأكرم الكرم: حسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الخلق، قال فالأربع الأخرى؟ قال: إياك ومصاحبة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة الكذاب فإنه يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب، وإياك ومصادقة البخيل فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه. وأخرج ابن عساكر عن علي أنه أتاه يهودي فقال له: متى كان ربنا؟ فتمعر وجه علي وقال: لم يكن فكان، هو كان ولا كينونة، كان بلا كيف، كان ليس له قبل ولا غاية، انقطعت الغايات دونه، فهو غاية كل غاية. فأسلم اليهودي. وأخرج الدراج في جزئه المشهور بسند مجهول عن ميسرة عن شريح القاضي قال: لما توجه علي إلى صفين افتقد درعًا له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد يهودي، فقال لليهودي: الدرع درعي لم أبع ولم أهب، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال: نصير إلى القاضي، فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أصغروهم من حيث أصغرهم الله". فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين؟ فقال: نعم هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي لم أبع ولم أهب، فقال شريح: أيش تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي، فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي، فقال شريح شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه، أشهد أن هذا هو الحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وإن الدرع درعك. فصل وأما كلامه في تفسير القرآن فكثير، وهو مستوفي في كتابنا: التفسير المسند بأسانيده، وقد أخرج ابن سعد عن علي قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيمَ نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلبًا عقولًا، ولسانًا صادقًا ناطقًا1. وأخرج ابن سعد وغيره عن أبي الطفيل، قال علي: سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، وفي سهل أم في جبل2. وأخرج ابن أبي داود عن محمد بن سيرين قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبطأ علي عن بيعة أبي بكر، فلقيه أبو بكر فقال: أكرهت إمارتي؟ فقال: لا، ولكن آليت ألا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة، حتى أجمع القرآن، فزعموا أنه كتبه على تنزيله، فقال محمد: لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه علم.   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات "6/2". 2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "6/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فصل: في نبذ من كلماته الوجيزة والمختصرة البديعة قال علي رضي الله عنه: الحزم سوء الظن. أخرجه أبو الشيخ وابن حبان، وقال: القريب: من قربته المودة وإن بعد نسبه، والبعيد: من باعدته العداوة وإن قرب نسبه ولا شيء أقرب من يد إلى جسد، وإن اليد إذا فسدت قطعت، وإذا قطعت حسمت، أخرجه أبو نعيم. وقال: خمس خذوهن عني: لا يخافن أحد منكم إلا ذنبه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من لا يعلم إذا سئل عمَّا لا يعلم أن يقول: الله أعلم، وإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان، وإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، أخرجه سعيد بن منصور في سننه. وقال: الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ لأنه لا خير في عبادة لا علم فيها ولا علم لا فهم معه ولا قراءة لا تدبر فيها، أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن. وقال: وأبردها على كبدي إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول: الله أعلم. أخرجه ابن عساكر. وقال: من أراد أن ينصف الناس من نفسه فليحب لهم ما يحب لنفسه، أخرجه ابن عساكر. وقال: سبع من الشيطان: شدة الغضب، وشدة العطاس، وشدة التثاؤب، والقيء، والرعاف، والنجوى، والنوم عند الذكر. وقال: كلوا الرمان بشحمه، فإنه دباغ المعدة. أخرجه الحاكم في التاريخ. وقال: يأتي على الناس زمان المؤمن فيه أذل من الأمة. أخرجه سعيد بن منصور. ولأبي الأسود الدؤلي يرثي عليًّا رضي الله عنه: ألا يا عين ويحك أسعدينا ... ألا تبكي أمير المؤمنينا وتبكي أم كلثوم عليه ... بعبرتها وقد رأت اليقينا ألا قل للخوارج حيث كانوا ... فلا قرت عيون الحاسدينا أفي شهر الصيام فجعتمونا ... بخبر الناس طرًّا أجمعينا؟ قتلتم خير من ركب المطايا ... وذللها ومن ركب السفينا ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمبينا وكل مناقب الخيرات فيه ... وحب رسول رب العالمينا لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حسبًا ودينًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إذا استقبلت وجه أبي حسين ... رأيت البدر فوق الناظرينا وكنا قبل مقتله بخير ... نرى مولى رسول الله فينا يقيم الحق لا يرتاب فيه ... ويعدل في العدى والأقربينا وليس بكاتم علمًا لديه ... ولم يخلق من المتكبرينا كأن الناس إذا فقدوا عليًّا ... نعام حار في بلد سنينًا فلا تشمت معاوية بن صخر ... فإن بقية الخلفاء فينا فصل: فيمن مات في زمانه من الأعلام مات في أيام علي من الأعلام موتًا وقتلًا: حذيفة بن اليمان، والزبير بن العوام، وطلحة، وزيد بن صوحان، وسلمان الفارسي، وهند بن أبي هالة، وأويس القرني، وخباب بن الأرت، وعمار بن ياسر، وسهل بن حنيف، وصهيب الرومي، ومحمد بن أبي بكر الصديق، وتميم الداري، وخوات بن جبير، وشرحبيل بن المسمط، وأبو ميسرة البدري، وصفوان بن عسال، وهشام بن حكيم، وأبو رافع مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- وآخرون. الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه1 الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبو محمد، سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وريحانته وآخر الخلفاء بنصه. أخرجه ابن سعد عن عمران بن سليمان، قال: الحسن والحسين اسمان من أسماء أهل الجنة ما سمت العرب بهما في الجاهلية. ولد الحسن -رضي الله عنه- في نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وروي له عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وروت عنه عائشة -رضي الله عنها- وخلائق من التابعين، منهم: ابنه الحسن، وأبو الحوراء ربيعة بن سنان، والشعبي، وأبو وائل، وابن سيرين. وكان شبيهًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسن، وعق عنه يوم سابعه، وحلق شعره، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة، وهو خامس أهل الكساء. قال أبو أحمد العسكري: لم يكن هذا الاسم يعرف في الجاهلية. وقال المفضل: إن الله حجب اسم الحسن والحسين حتى سمى بهما النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنيه. وأخرج البخاري عن أنس قال: لم يكن أحد أشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي2. وأخرج الشيخان عن البراء قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحسن على عاتقه وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه" 3.   1 تولى الخلافة 40هـ وحتى 41هـ. 2 أخرجه البخاري "3752/7". 3 أخرجه البخاري "3749/7"، ومسلم "4422/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وأخرج البخاري عن أبي بكر قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر والحسن إلى جانبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" 1. وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هما ريحانتاني من الدنيا" 2. يعني: الحسن والحسين. وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسن سيدا شباب أهل الجنة" 3. وأخرج الترمذي عن أسامة بن زيد، قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- والحسن والحسين على وركيه فقال: "هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما". وأخرج عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: "الحسن والحسين". وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد حمل الحسن على رقبته، فلقيه رجل فقال: نعم المركب ركبت يا غلام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ونعم الراكب هو". وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن الزبير قال: أشبه أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- به وأحبهم إليه الحسن بن علي، رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته، أو قال: ظهره، فما ينزله حتى يكون هو الذي نزل، ولقد رأيته وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر. وأخرج ابن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله يدلع لسانه للحسن بن علي، فإذا رأى الصبي حمرة اللسان يهش إليه. وأخرج الحاكم عن زهير بن الأرقم قال: قام الحسن بن علي يخطب، فقام رجل من أزد شنوءة فقال: أشهد لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعه في حبوته وهو يقول: "من أحبني فليحبه، وليبلغ الشاهد الغائب". ولولا كرامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما حدثت به أحدًا"4. وكان الحسن -رضي الله عنه- له مناقب كثيرة، سيدًا، حليمًا، ذا سكينة ووقار وحشمة، جوادًا، ممدوحًا، يكره الفتن والسيف، تزوج كثيرًا، وكان يجيز الرجل الواحد بمائة ألف. وأخرج الحاكم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: لقد حج الحسن خمسًا وعشرين حجة ماشيًا، وإن النجائب5 لتقاد معه6. وأخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق قال: ما تكلم عندي أحد كان أحب إذا تكلم ألا   1 أخرجه البخاري "3746/7". 2 أخرجه البخاري "3753/7". 3 أخرجه الترمذي "3781/5"، وقال: حديث حسن غريب، والحاكم في مستدركه "167/3". 4 أخرجه الحاكم "174/3". 5 جمع نجيبة، وهي الناقة الكريمة الحسيبة. القاموس المحيط "135/1". 6 أخرجه الحاكم "169/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بين الحسن وعمرو بن عثمان خصومة في الأرض، فعرض الحسن أمرًا لم يرضه عمرو، فقال الحسن، فليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، قال: فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه. وأخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق قال: كان مروان أميرًا علينا، فكان يسب عليًّا كل جمعة على المنبر، وحسن يسمع فلا يرد شيئًا، ثم أرسل إليه رجلًا يقول له: بعلي وبعلي وبعلي وبك وبك، وما وجدت مثلك إلا مثل البغلة، يقال لها: من أبوك؟ فتقول: أمي الفرس، فقال الحسن: ارجع إليه فقل له: إني والله لا أمحو عنك شيئًا مما قلت بأن أسبك ولكن موعدي وموعدك الله فإن كنت صادقًا جزاك الله بصدقك وإن كنت كاذبًا فالله أشد نقمة. وأخرج ابن سعد عن زريق بن سوار قال: كان بين الحسن وبين مروان كلام، فأقبل عليه مروان، فجعل يغلظ له، والحسن ساكت فامتخط مروان بيمينه، فقال له الحسن: ويحك أما علمت أن اليمين للوجه، والشمال للفرج، أف لك فسكت مروان. وأخرج ابن سعد عن أشعث بن سوار عن رجل قال: جلس رجل إلى الحسن، فقال: إنك جلست إلينا على حين قيام منها، أفتأذن؟ وأخرج ابن سعد عن علي بن زيد بن جدعان قال: أخرج الحسن من ماله لله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى إنه يعطي نعلًا ويمسك نعلًا، ويعطي خفًّا ويمسك خفًّا. وأخرج ابن سعد عن علي بن الحسين: قال: كان الحسن مطلاقًا للنساء، وكان لا يفارق امرأة إلا وهي تحبه، وأحصن تسعين امرأة. وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: كان الحسن يتزوج ويطلق، حتى خشيت أن يورثنا عداوة في القبائل. وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قال علي: يا أهل الكوفة، لا تزوجوا الحسن فإنه رجل مطلاق، فقال رجل من همدان والله لنزوجنه، فما رضي أمسك وما كره طلق. وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن حسن، قال: كان الحسن رجلًا كثير نكاح النساء، وكن قلما يحظين عنده، وكان قل امرأة تزوجها إلا تحبه وصبت إليه. وأخرج ابن عساكر عن جويرية بن أسماء قال: لما مات الحسن بكى مروان في جنازته، فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟ فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا، وأشار بيده إلى الجبل. وأخرج ابن عساكر عن المبرد قال: قيل للحسن بن علي: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إلى من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختارها الله له، وهذا حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 مبايعة الحسن بالخلافة ولي الحسن -رضي الله عنه- الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعته أهل الكوفة، فأقام فيها ستة أشهر وأيامًا، ثم سار إليه معاوية، والأمر إلى الله، فأرسل إليه الحسن يبذل له تسليم الأمر إليه، على أن تكون له الخلافة من بعده، وعلى ألا يطالب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان أيام أبيه، وعلى أن يقضي ديونه، فأجاب معاوية إلى ما طلب، فاصطلحا على ذلك فظهرت المعجزة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: "يصلح الله به بين فئتين من المسلمين" ونزل له عن الخلافة، وقد استدل البلقيني بنزوله عن الخلافة، التي هي أعظم المناصب، على جواز النزول عن الوظائف، وكان نزوله عنها في سنة إحدى وأربعين، في شهر ربيع الأول، وقيل: الآخر، وقيل: في جمادى الأولى، فكان أصحابه يقولون له: يا عار المؤمنين، فيقول: العار خير من النار، وقال له رجل السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال: لست بمذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلكم على الملك. ثم ارتحل الحسن عن الكوفة إلى المدينة فأقام بها. وأخرج الحاكم عن جبير بن نفير قال: قلت للحسن: إن الناس يقولون: إنك تريد الخلافة، فقال: قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت ويسالمون من سالمت، فتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم أبتزها بأتياس أهل الحجاز1. وفاته توفي الحسن -رضي الله عنه- بالمدينة مسمومًا، سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس، دس إليها يزيد بن معاوية أن تسمه فيتزوجها، ففعلت، فلما مات الحسن بعثت إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها، فقال: إنا لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا؟ وكانت وفاته سنة تسع وأربعين، وقيل: في خامس ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وجهد به أخوه أن يخبره بمن سقاه، فلم يخبره، وقال: الله أشد نقمة إن كان الذي أظن وإلا فلا يقتل بي والله بريء. وأخرج ابن سعد عن عمران بن عبد الله بن طلحة قال: رأى الحسن كأن بين عينيه مكتوبا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] فاستبشر به أهل بيته، فقصوها على سعيد بن المسيب، فقال: إن صدقت رؤياه فقل ما بقي من أجله، فما بقي إلا أيام حتى مات. وأخرج ابن عساكر والبيهقي عن طريق أبي المنذر هشام بن محمد عن أبيه قال: أضاق الحسن بن علي، وكان عطاؤه في كل سنة مائة ألف، فحبسها عنه معاوية في إحدى السنين فأضاق إضاقة شديد، قال: فدعوت بدواة لأكتب إلى معاوية لأذكره نفسي، ثم أمسكت فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقال: كيف أنت يا حسن؟ فقلت: بخير يا أبت،   1 أخرجه الحاكم "170/3"، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وشكوت إليه تأخر المال عني، فقال: أدعوت بدواة لتكتب إلى مخلوق مثلك تذكره ذلك؟ فقلت: نعم يا رسول الله، فكيف أصنع؟ فقال: قل: اللهم اقذف في قلبي رجاءك واقطع رجائي عمن سواك حتى لا أرجو أحدًا غيرك، اللهم وما ضعفت عنه قوتي، وقصر عنه عملي، ولم تنته إليه رغبتي، ولم تبلغه مسألتي، ولم يجر على لساني مما أعطيت أحدًا من الأولين والآخرين من اليقين فخصني به يا رب العالمين، قال: فوالله ما ألححت به أسبوعًا حتى بعث إلي معاوية بألف ألف وخمسمائة ألف، فقلت الحمد الله الذي لا ينسى من ذكره ولا يخيب من دعاه، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت بخير يا رسول الله، وحدثته بحديثي، فقال: يا بني هكذا من رجا الخالق، ولم يرجُ المخلوق. وفي الطيوريات عن سليم بن عيسى قارئ أهل الكوفة قال: لما حضرت الحسن الوفاة جزع فقال له الحسين: يا أخي ما هذا الجزع؟ إنك ترد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى علي وهما أبواك وعلى خديجة وفاطمة وهما أماك، وعلى القاسم والطاهر وهما خالاك، وعلى حمزة وجعفر وهما عماك، فقال له الحسن: أي أخي إني داخل في أمر من أمر الله تعالى لم أدخل في مثله، وأرى خلقًا من خلق الله لم أر مثله قط. قال ابن عبد البر: وروينا من وجوه أنه لما احتضر قال لأخيه: يا أخي إن أباك استشرف لهذا الأمر، فصرف الله عنه ووليها أبو بكر، ثم استشرف لها وصرفت عنه إلى عمر، ثم لم يشك وقت الشورى أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلم قتل عثمان بويع علي، ثم نوزع حتى جرد السيف فما صفت له، وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا النبوة والخلافة، فلا أعرفن ما استخلفك سفهاء الكوفة فأخرجوك، وقد كنت طلبت من عائشة -رضي الله عنها- أن أدفن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: نعم، فإذا مت فاطلب ذلك إليها وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم فلما مات أتى الحسين إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقالت: نعم وكرامة، فمنعهم مروان، فلبس الحسين ومن معه السلاح حتى رده أبو هريرة، ثم دفن بالبقيع إلى جنب أمه رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 عهد بن أمية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ... عهد بني أمية: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه1 معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، الأموي، أبو عبد الرحمن، أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة، وشهد حُنينًا وكان من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامه، وكان أحد الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. روي له عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة حديث وثلاثة وستون حديثًا، روى عنه من الصحابة: ابن عباس، وابن الزبير، وأبو الدرداء، وجرير البجلي، والنعمان بن بشير، وغيرهم، ومن التابعين: ابن المسيب، وحميد بن عبد الرحمن وغيرهم.   1 تولى الخلافة 41هـ 60هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وكان من الموصوفين بالدهاء، والحلم، وقد ورد في فضله أحاديث قلما ثبتت. أخرج الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هاديًا مهديًّا" 1. وأخرج أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب" 2. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير قال: قال معاوية ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاوية إذا ملكت فأحسن" 3. وكان معاوية رجلًا طويلًا، أبيض، جميلًا، مهيبًا، وكان عمر ينظر إليه فيقول: هذا كسرى العرب، وعن علي قال: لا تكرهوا إمرة معاوية، فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرءوس تندر عن كواهلها، وقال المقبري: تعجبونه من دهاء هرقل وكسرى وتدعون معاوية؟ وكان يضرب بحلمه المثل، وقد أفرد ابن أبي الدنيا وأبو بكر بن أبي عاصم تصنيفًا في حلم معاوية. وقال ابن عون: كان الرجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك، فيقول: بالخشب، فيقول: إذن نستقيم. وقال قبيصة بن جابر: صحبت معاوية، فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا، ولا أبطأ جهلًا، ولا أبعد أناة منه. ولما بعث أبو بكر الجيوش إلى الشام سار معاوية مع أخيه يزيد بن أبي سفيان فلما مات يزيد استخلفه على دمشق، فأقره عمر، ثم أقره عثمان وجمع له الشام كله، فأقام أميرًا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة. قال كعب الأحبار: لن يملك أحد هذه الأمة ما ملك معاوية، قال الذهبي: توفي كعب قبل أن يستخلف معاوية، قال: وصدق كعب فيما نقله، فإن معاوية بقي خليفة عشرين سنة لا ينازعه أحد الأمر في الأرض، بخلاف غيره ممن بعده، فإنه كان لهم مخالف، وخرج عن أمرهم بعض الممالك، وخرج معاوية على علي كما تقدم، وتسمى بالخلافة ثم خرج على الحسن، فنزل له الحسن عن الخلافة، فاستقر فيها من ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، فسمى هذا العام عام الجماعة، لاجتماع الأمة فيه على خليفة واحد، وفيه ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة. وفي سنة ثلاث وأربعين فتحت الرخج وغيرها من بلاد سجستان، وودان من برقة، وكور من بلاد السودان، وفيها استخلف معاوية زياد بن أبيه، وهي أول قضية غير فيها حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام، ذكره الثعالبي وغيره. وفي سنة خمس وأربعين فتحت القيقان.   1 أخرجه الترمذي "3842/5"، وقال: حديث حسن غريب. 2 أخرجه أحمد "127/4". 3 أخرجه ابن أبي شيبة "182/280/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وفي سنة خمسين فتحت قوهستان عنوة، وفيها دعا معاوية أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد، فبايعوه، وهو أول من عهد بالخلافة لابنه، وأول من عهد بها في صحته، ثم إنه كتب إلى مروان بالمدينة أن يأخذ البيعة، فخطب مروان فقال: إن أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم ولده يزيد سنة أبي بكر وعمر، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال: بل سنة كسرى وقيصر وإن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما، ولا في أحد من أهل بيتهما. ثم حج معاوية سنة إحدى وخمسين، وأخذ البيعة لابنه فبعث إلى ابن عمر فتشهد وقال: أما بعد يابن عمر، إنك كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك فيها أمير، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين أو أن تسعى في فساد ذات بينهم، فحمد ابن عمر الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار، وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا رجل منهم، فقال: يرحمك الله، فخرج ابن عمر، ثم أرسل إلى ابن أبي بكر فتشهد ثم أخذ في الكلام، فقطع عليه كلامه، وقال: إنك لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لنعيدنها عليك جذعة1، ثم وثب ومضى، فقال معاوية: اللهم اكفنيه بما شئت، ثم قال: على رسلك أيها الرجل، لا تشرفن على أهل الشام فإني أخاف أني يسبقوني بنفسك حتى أخبر العشية أنك قد بايعت، ثم كن بعد على ما بدا لك من أمرك، ثم أرسل إلى ابن الزبير، فقال: يابن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من جحر دخل في آخر، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما، وحملتهما على غير رأيهما، فقال ابن الزبير: إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها وهلم ابنك فلنبايعه، أرأيت إذا بايعنا ابنك معك لأيكم نسمع ونطيع؟ لا تجتمع البيعة لكما أبدًا، ثم راح، فصعد معاوية المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار2، زعموا أن ابن عمر وابن أبي بكر وابن الزبير لن يبايعوا يزيد، وقد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له، فقال أهل الشام: والله لا نرضى حتى يبايعوا له على رءوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم، فقال: سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالشر، لا أسمع هذه المقالة من أحد منكم بعد اليوم، ثم نزل، فقال الناس: بايع ابن عمر وابن أبي بكر، وابن الزبير، وهم يقولون: لا والله ما بايعنا، فيقول الناس: بلى، وارتحل معاوية فلحق بالشام. وعن ابن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد: إن كان خيرًا رضينا، وإن كان بلاء صبرنا.   1 الجذعة: هي ناقة ما قبل الثنى. والمقصود هنا: الشدة والقوة: القاموس المحيط "12/3". 2 أي ذات عيب ويقال للسلعة: ذات عوار أي: عيب وقد يضم. مختار الصحاح "462". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وأخرج الخرائطي في الهواتف عن حميد بن وهب قال: كانت هند بنت عتبة بن ربيعة عند الفاكه بن المغيرة، وكان من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا البيت ذات يوم فقام الفاكه وهند فيه، ثم خرج الفاكه لبعض حاجاته، وأقبل رجل ممن كان يغشى البيت، فولجه، فلما رأى المرأة ولى هاربًا، فأبصره الفاكه، فانتهى إليها فضربها برجله، وقال: من هذا الذي كان عندك؟ قالت: ما رأيت أحدًا، ولا انتبهت حتى أنبهتني، فقال لها: الحقي بأهلك، وتكلم فيها الناس، فخلا بها أبوها فقال لها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني بذاك، فإن يكن الرجل صادقًا دسست إليه من يقتله فتنقطع عنا المقلة، وإن يكن كاذبًا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، قال: فحلفت له بما كانوا يحلفون به في الجاهلية أنه كاذب عليها، فقال عتبة للفاكه: إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف ومعهم هند ونسوة معها تأنس بهن، فلما شارفوا البلاد تنكرت حال هند وتغير وجهها، فقال لها أبوها: يا بنية إني أرى ما بك من تغير الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك، قالت: لا والله يا أبتاه، وما ذاك لمكروه، ولكني أعرف أنكم تأتون بشرًا يخطئ ويصيب، فلا آمنه أن يسمني بسيماء تكون عليّ سبة في العرب، فقال لها: إني سوف أختبره لك قبل أن ينظر في أمرك، فصفر بفرسه حتى أدلى، ثم أدخل في إحليله حبة من الحنطة، وأوكأ1 عليها بسير، وصبحوا الكاهن، فنحر لهم وأكرمهم، فلما تغدوا قال له عتبة: إنا جئناك في أمر، وقد خبأت لك خبيئًا أختبرك به فانظر ما هو؟ قال: برة في كمرة2، قال: أريد أبين من هذا، قال: حبة من بر في إحليل مهر، فقال عتبة: صدقت، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهن ويضرب كتفها ويقول انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية، ولتلدين ملكًا يقال له معاوية، فنظر إليها الفاكه فأخذ بيدها فنثرت يدها من يده وقالت: إليك، والله لأحرصن أن يكون ذلك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان فجاءت بمعاوية4. مات معاوية في شهر رجب سنة ستين، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير، وقيل: إنه عاش سبعًا وسبعين سنة، وكان عنده شيء من شعر رسول الله -صلى الله عليه سلم- وقلامة أظفاره فأوصى أن يجعل في فمه وعينيه، وقال: افعلوا ذلك وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين. فصل: في نبذ من أخباره أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن جمهان قال: قلت لسفينة: إن بني أمية يزعمون   1 أي ربط: من ربط الوكاء أي: ربطه. والوكاء هو ما يشد به رأس القربة مختار الصحاح "735". 2 هي رأس الذكر بالتحريك، وجمعها كمر. القاموس المحيط "133/2". 3 الرسح: قلة لحم العجز والفخذين وكل ذئب أرسخ لخفة وركيه والرسحاء: القبيحة. 4 أخرجه ابن أبي شيبة "181/279/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أن الخلافة فيهم، قال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من أشر الملوك، وأول الملوك: معاوية. وأخرج البيهقي وابن عساكر عن إبراهيم بن سويد الأرمني، قال: قلت لأحمد بن حنبل: من الخلفاء؟ قال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي قلت: فمعاوية؟ قال: لم يكن أحق بالخلافة في زمان علي من علي. وأخرج السلفي في الطيوريات عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن علي ومعاوية، فقال: اعلم أن عليًّا كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤه عيبًا فلم يجدوا فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيادًا منهم له. وأخرج ابن عساكر عن الملك بن عمير قال: قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية، فقال: من أنت؟ قال: جارية بن قدامة، قال: وما عسيت أن تكون؟ هل أنت إلا نحلة؟ قال: لا تقل فقد شبهتني بها حامية اللسعة، حلوة البصاق، والله ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب وما أمية إلا تصغير أمة. وأخرج عن الفضل بن سويد قال: وفد جارية بن قدامة على معاوية، فقال له معاوية: أنت الساعي مع علي بن أبي طالب، والموقد النار في شعلك تجوس قرى عربية1 تسفك دماءهم؟ قال جارية: يا معاوية دع عنك عليًّا فما أبغضنا عليًّا منذ أحببناه، ولا غششناه منذ صحبناه، قال: ويحك يا جارية، ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية، قال: أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية، قال: لا أم لك، قال: أما ما ولدتني، وإن قوائم السيوف التي لقينانك بها بصفين في أيدينا، قال: إنك لتهددني، قال: إنك لم تملكنا قسرة، ولم تفتحنا عنوة، ولكن أعطيتنا عهودًا ومواثيق، فإن وفيت لنا وفينا، وإن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجلًا مدادًا وأذرعًا شدادًا، وأسنة حدادًا فإن بسطت إلينا فترًا من غدر، زلفنا إليك بباع من ختر2، قال معاوية: لا أكثر الله في الناس أمثالك. وأخرج عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الصحابي أنه دخل على معاوية فقال له معاوية: ألست من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكني ممن حضره فلم ينصره، قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم تنصره المهاجرون والأنصار، فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجبًا عليهم أن ينصروه، قال: ما منعك يا أمير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟ فقال معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشعر: لا ألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادا وقال الشعبي: أول من خطب الناس قاعدًا معاوية: وذلك حين كثر شحمه وعظم بطنه. أخرجه ابن أبي شيبة.   1 تتخلل فتطلب ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي: يطلبها وفيه: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَار} . 2 هو الغدر يقال: ختر يختر فهو خاتر وختار للمبالغة. النهاية في غريب الحديث "9/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال الزهري: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. وقال سعيد بن المسيب: أول من أحدث الأذان في العيد معاوية، أخرجه ابن أبي شيبة، وقال: أول من نقص التكبير معاوية، أخرج ابن أبي شيبة. وفي الأوائل للعسكري قال: معاوية أول من وضع البريد في الإسلام، وأول من اتخذ الخصيان لخاص خدمته وأول من عبثت به رعيته، وأول من قيل له: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، وأول من اتخذ ديوان الخاتم، وولاه عبيد الله بن أوس الغساني، وسلم إليه الخاتم وعلى فصه مكتوب: لكل عمل ثواب، واستمر ذلك في الخلفاء العباسيين إلى آخر الوقت، وسبب اتخاذه له أنه أمر لرجل بمائة ألف، ففك الكتاب وجعله مائتي ألف، فلما رفع الحساب إلى معاوية أنكر ذلك، واتخذ ديوان الخاتم من يومئذ، وهو أول من اتخذ المقصورة بالجامع، وأول من أذن في تجريد الكعبة، وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئًا فوق شيء. وأخرج الزبير بن بكار في الموفقيات: عن ابن أخي الزهري قال: قلت للزهري: من أول من استحلف في البيعة؟ قال: معاوية: استحلفهم بالله، فلما كان عبد الملك بن مروان استحلفهم بالطلاق والعتاق. وأخرج العسكري في كتاب الأوائل عن سليمان بن عبد الله بن معمر قال: قدم معاوية مكة أو المدينة، فأتى المسجد فقعد في حلقة فيها: ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأقبلوا عليه وأعرض عنه ابن عباس فقال: وأنا أحق بهذا الأمر من هذا المعرض وابن عمه، فقال ابن عباس: وَلِمَ؟ ألتقدم في الإسلام أم سابقة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو قرابة منه؟ قال: لا، ولكني ابن عم المقتول، قال: فهذا أحق به يريد ابن أبي بكر قال: إن أباه مات موتًا، قال: فهذا أحق به، يريد ابن عمر، قال: إن أباه قتله كافر، قال: فذاك أدحض لحجتك، إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمك فقتلوه. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: قدم معاوية المدينة، فلقيه أبو قتادة الأنصاري، فقال معاوية: تلقاني الناس كهلم غيركم يا معشر الأنصار، قال: لم يكن لنا دواب، فقال: فأين النواضح؟ قال: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، ثم قال أبو قتادة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: "إنكم سترون بعدي أثرة"، فقال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر قال: فاصبروا، فبلغ عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، فقال: ألا أبلغ معاوية بن حرب ... أمير المؤمنين نبأ كلامي فإنا صابرون ومنظروكم ... إلى يوم التغابن والخصام وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن جبلة بن سحيم، قال: دخلت على معاوية بن أبي سفيان، وهو في خلافته, وهو في عنقه حبل، وصبي يقوده، فقلت له: يا أمير المؤمنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أتفعل هذا؟ قال: يا لكع1 اسكت، فإني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كان له صبي فليتصاب له"، قال ابن عساكر: غريب جدًّا. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن الشعبي قال: دخل شاب من قريش على معاوية، فأغلظ عليه، فقال له: يابن أخي، أنهاك عن السلطان يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد2. وأخرج عن الشعبي قال: قال زياد: استعملت رجلًا، فكثر خراجه، فخشى أن أعاقبه ففر إلى معاوية، فكتبت إليه: إن هذا أدب سوء لمن قبلي، فكتب إلي: إنه ليس ينبغي لي ولا لك أن نسوس الناس بسياسة واحدة، أن نلين جميعًا فتمرح الناس في المعصية أو نشتد جميعًا فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون للشدة والفظاظة، وأكون للين والرأفة3. وأخرج عن الشعبي قال: سمعت معاوية يقول: ما تفرقت أمة قط إلا ظهر أهل الباطل على أهل الحق إلا هذه الأمة. وفي الطيوريات عن سليمان المخزومي قال: أذن معاوية للناس إذنًا عامًّا، فلما احتفل المجلس قال: أنشدوني ثلاثة أبيات لرجل من العرب كل بيت قائم بمعناه، فسكتوا، ثم طلع عبد الله بن الزبير، فقال: هذا مقوال العرب وعلامتها أبو خبيب قال: مهيم؟ قال: أنشدني ثلاثة أبيات لرجلٍ من العرب كل بيت قائم بمعناه، قال: بثلاثمائة ألف، قال: وتساوي؟ قال: أنت بالخيار وأنت وافٍ كافٍ، قال: هات، فأنشده للأفوه الأودي: بلوت الناس قرنًا بعد قرن ... فلم أر غير ختال وقال قال: صدق، هيه، قال: ... ولم أر في الخطوب أشد وأصعب من معاداة الرجال ... قال: صدق، هيه، قال: وذقت مرارة الأشياء طرًّا ... فما طعم أمر من السؤال قال: صدق، ثم أمر له بثلاثمائة ألف. وأخرج البخاري والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيره، واللفظ له، من طرق: أن مروان خطب بالمدينة وهو على الحجاز من قبل معاوية فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيًا حسنًا وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، وفي لفظ: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، وإن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولاجعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن أباك النبي صلى الله عليه وسلم؟   1أي: لئيم أو أحمق ومن لا يتجه لمنطق ولا غيره، القاموس المحيط "85/3". 2 أخرجه ابن أبي شيبة "20/250/2". 3 أخرجه ابن أبي شيبة "21/251/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فقالت عائشة: كذب مروان، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان بعض من لعنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم1. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عروة قال: قال معاوية: لا حلم إلا التجارب2. وأخرج ابن عساكر عن الشعبي قال: دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد، فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللكبير والصغير. وأخرج أيضًا عنه قال: كان القضاة أربعة والدهاة أربعة، فأما القضاة: فعمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأما الدهاة: فمعاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد. وأخرج عن قبيصة بن جابر قال: صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلًا أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله منه، وصحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه، وصحبت معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناة منه، وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلًا أنصع طرفًا ولا أحلم جليسًا منه، وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها. وأخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال: أن عقيل بن أبي طالب سأل عليًّا فقال: إني محتاج وإني فقير فأعطني، فقال: اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم، فألح عليه فقال الرجل: خذ بيده وانطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل: دق هذه الأقفال، وخذ ما في هذه الحوانيت، قال: تريد أن تتخذني سارقًا، قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقًا، أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم، قال: لآتين معاوية، قال: أنت وذاك فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف ثم قال: اصعد المنبر فاذكر ما أولاك به علي وما أوليتك، فصعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني أخبركم أني أردت عليًّا على دينه فاختار دينه، وأني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه. وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عقيلًا دخل على معاوية، فقال: معاوية: هذا عقيل وعمه أبو لهب فقال عقيل: هذا معاوية عمته حمالة الحطب. وأخرج ابن عساكر عن الأوزاعي قال: دخل خريم بن فاتك على معاوية ومئزره مشمر، وكان حسن الساقين، فقال معاوية: لو كانت هاتان الساقان لامرأة فقال خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. مات أيام معاوية من الأعلام: صفوان بن أمية، وحفصة، وأم حبيبة، وصفية، وميمونة، وسودة، وجويرية، وعائشة أمهات المؤمنين -رضي الله عنهم- ولبيد الشاعر،   1 أخرجه البخاري "4069/7"، والنسائي "1077/2". 2 أخرجه ابن أبي شيبة "25/251/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وعثمان بن طلحة الحجبي، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن سلام الحبر، ومحمد بن مسلمة، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، وأبو بكرة، وكعب بن مالك، والمغيرة بن شعبة، وجرير البجلي، وأبو أيوب الأنصاري، وعمران بن حصين، وسعيد بن زيد، وأبو قتادة الأنصاري، وفضالة بن عبيد، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وجبير بن مطعم، وأسامة بن زيد، وثوبان، وعمرو حزم، وحسان بن ثابت، وحكيم بن حزام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو اليسر، وقثم بن العباس، وأخوه عبيد الله، وعقبة بن عامر، وأبو هريرة سنة تسع وخمسين وكان يدعو: اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين، وإمارة الصبيان، فاستجيب له وخلائق آخرون، رضي الله عنهم جميعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 يزيد بن معاوية أبو خالد الأموي 1 يزيد بن معاوية، أبوخالد، ولد سنة خمس أو ست وعشرين، كان ضخمًا كثير اللحم كثير الشعر، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية. روى عن أبيه وعنه: ابنه خالد، وعبد الملك بن مروان. جعله أبوه ولي عهده، وأكره الناس على ذلك كما تقدم. قال الحسن البصري: أفسد أمر الناس اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت، ونال من القراء، فحكم الخوارج، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة. والمغيرة بن شعبة، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة فكتب إليه معاوية: إذا قرأت كتابي فأقبل معزولًا، فأبطأ عنه فلما ورد عليه قال: ما أبطأ بك؟ قال: أمر كنت أوطئه وأهيئه، قال وما هو: قال: البيعة ليزيد من بعدك قال: أو قد فعلت؟ قال: نعم، قال: ارجع إلى عملك، فلما خرج قال له أصحابه؟ ما وراءك؟ قال: وضعت رجل معاوية في غرز غي لا يزال فيه إلى يوم القيامة، قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة. وقال ابن سيرين: وفد عمرو بن حزم على معاوية فقال له: أذكرك الله في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بمن تستخلف عليها، فقال: نصحت وقلت برأيك وإنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، وابني أحق. وقال عطية بن قيس: خطب معاوية فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لولده وأنه ليس ما صنعت به أهلًا فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك. فلما مات معاوية بايعه أهل الشام، ثم بعث أهل المدينة من يأخذ له البيعة، فأبى الحسين وابن الزبير أن يبايعاه، وخرجا من ليلتهما إلى مكة. فأما ابن الزبير فلم يبايع ولا دعا إلى نفسه، وأما الحسين فكان أهل الكوفة يكتبون إليه   1 تولى الخلافة 60هـ وحتى 64هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية، وهو يأبى، فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهمومًا يجمع الإقامة مرة ويريد المسير إليهم مرة أخرى، فأشار عليه ابن الزبير بالخروج، وكان ابن العباس يقول له: لا تفعل، وقال له ابن عمر: لا تخرج، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها -يعني: الدنيا- واعتنقه وبكى وودعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا الحسين بالخروج، ولعمري قد رأى في أبيه وأخيه عبرة، وكلمه في ذلك أيضًا جابر بن عبد الله وأبو سعيد وأبو واقد الليثي وغيرهم، فلم يطع أحدًا منهم، وصمم على المسير إلى العراق، فقال له ابن عباس: والله إني لأظنك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان، فلم يقبل منه، فبكى ابن عباس، وقال: أقررت عين ابن الزبير، ولما رأى ابن عباس عبد الله بن الزبير قال له: قد أتى ما أحببت، وهذا الحسين يخرج ويتركك والحجاز، ثم تمثل: يا لك من قنبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري وبعث أهل العراق إلى الحسين والرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة ومعه طائفة من آل بيته رجالًا ونساء وصبيانًا، فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله، فوجه إليهم جيشًا أربعة آلاف عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فخذله أهل الكوفة كما هو شأنهم مع أبيه من قبله، فلما رهقه السلاح عرض عليه الاستسلام والرجوع والمضي إلى يزيد فيضع يده في يده، فأبوا إلا قتله، فقتل وجيء برأسه في طست حتى وضع بين يدي ابن زياد، لعن الله قاتله وابن زياد معه ويزيد أيضًا. وكان قتله بكربلاء، وفي قتله قصة فيها طول لا يحتمل القلب ذكرها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقتل معه ستة عشر رجلًا من أهل بيته. ولما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضًا، وكان قتله يوم عاشوراء، وكسفت الشمس ذلك اليوم، واحمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لازالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك اليوم ولم تكن ترى فيها قبلها. وقيل: إنه لم يقلب حجر بالبيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط، وصار الورس الذي في عسكرهم رمادًا، ونحروا ناقة في عسكرهم، فكانوا يرون في لحمها مثل النيران، وطبخوها فصارت مثل العلقم، وتكلم رجل في الحسين بكلمة، فرماه الله بكوكبين من السماء فطمس بصره. قال الثعالبي: روت الرواة من غير وجه عن عبد الملك بن عمير الليثي قال: رأيت في هذا القصر -وأشار إلى قصر الإمارة بالكوفة- رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد على ترس، ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك، فحدثت بهذا الحديث عبد الملك فتطير منه وفارق مكانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأخرج الترمذي عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة -وهي تبكي- فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما لك يا رسول الله؟ قال: شهدت قتل الحسين آنفًا1. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنصف النهار أشعث أغبر، وبيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه، لم أزل ألتقطه منذ اليوم، فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ2. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أم سلمة قالت: سمعت الجن تبكي على حسين وتنوح عليه. وأخرج ثعلب في أماليه عن أبي خباب الكلبي قال: أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب، أخبرني بما بلغني أنكم تسمعون نوح الجن، فقال: ما تلقى أحدًا إلا أخبرك أنه سمع ذلك، قلت: فأخبرني بما سمعت أنت، قال: سمعتهم يقولون: مسح الرسول جبينه ... فله بريق في الخدود أبواه من عليا قريش ... وجده خير الجدود ولما قتل الحسين وبنو أبيه بعث ابن زياد برءوسهم إلى يزيد، فسر بقتلهم أولًا، ثم ندم لما مقته المسملون على ذلك، وأبغضه الناس، وحق لهم أن يبغضوه. وأخرج أبو يعلى في مسنده بسند ضعيف عن أبي عبيدة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أمر أمتي قائمًا بالقسط، حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد" 3. قال نوفل بن أبي الفرات: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فذكر رجل يزيد، فقال: قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فقال: تقول أمير المؤمنين؟ وأمر به، فضرب عشرين سوطًا. وفي سنة ثلاث وستين بلغه أن أهل المدينة خرجوا عليه وخلعوه، فأرسل إليهم جيشًا كثيفًا وأمرهم بقتالهم، ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير، فجاءوا وكانت وقعة الحرة على باب طيبة، وما أدراك ما وقعة الحرة؟ ذكرها الحسن مرة فقال: والله ما كاد ينجو منهم أحد، قتل فيها خلق من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن غيرهم، ونهبت المدينة، وافتض فيها ألف عذراء، فإنا لله وإنا إليه راجعون قال صلى الله عليه وسلم: "من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين4". رواه مسلم. وكان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي. وأخرج الواقدي من طرق: أن عبد الله بن حنظلة الغسيل قال: والله ما خرجنا على يزيد   1 أخرجه الترمذي "3771/5"، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب. 2 أخرجه البيهقي في الدلائل "471/6". 3 أخرجه أبو يعلى "871/2". 4 أخرجه مسلم "1366/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنه رجل ينكح أمهات الأولاد، والبنات، والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة. قال الذهبي: ولما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل، مع شربه الخمر وإتيانه المنكرات، اشتد عليه الناس، وخرج عليه غير واحد، ولم يبارك الله في عمره، وسار جيش الحرة إلى مكة لقتال ابن الزبير، فمات أمير الجيش بالطريق، فاستخلف عليه أميرًا، وأتوا مكة، فحاصروا ابن الزبير وقاتلوه ورموه بالمنجنيق، وذلك في صفر سنة أربع وستين، واحترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة وسقفها وقرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل وكانا في السقف، وأهلك الله يزيد في نصف شهر ربيع الأول من هذا العام، فجاء الخبر بوفاته والقتال مستمر، فنادى ابن الزبير: يا أهل الشام إن طاغيتكم قد أهلك، فانقلبوا وذلوا وتخطفهم الناس، ودعا ابن الزبير إلى بيعة نفسه, وتسمى بالخلافة، وأما أهل الشام فبايعوا معاوية بن يزيد، ولم تطل مدته كما سيأتي. ومن شعر يزيد: آب هذا الهم فاكتنعا1 ... وأمر النوم فامتنعا راعيًا للنجم أرقبه ... فإذا ما كوكب طلعا حام حتى إنني لأرى ... أنه بالغور قد وقعا ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا نزهة حتى إذا بلغت ... نزلت من جلق بيعا في قباب وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمر قال: أبو بكر الصديق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، ابن عفان ذو النورين قتل مظلومًا يؤتى كفلين من الرحمة، معاوية وابنه ملكا الأرض المقدسة، والسفاح، وسلام، والمنصور، وجابر، والمهدي، والأمين، وأمير الغضب، كلهم من بني كعب بن لؤي، كلهم صالح لا يوجد مثله. قال الذهبي: له طرق عن ابن عمر، ولم يرفعه أحد. وأخرجه الواقدي عن أبي جعفر الباقر قال: أول من كسا الكعبة الديباج يزيد بن معاوية. مات في أيام يزيد من الأعلام سوى الذين قتلوا مع الحسين، وفي وقعة الحرة: أم سلمة أم المؤمنين وخالد بن عرفطة، وجرهد الأسلمي، وجابر بن عتيك، وبريدة بن الحصيب، ومسلمة بن مخلد، وعلقمة بن قيس النخعي الفقيه، ومسروق، والمسور بن مخرمة، وغيرهم رضي الله عنهم، وعدة المقتولين بالحرة من قريش والأنصار ثلاثمائة وستة رجال.   1 اكتنع في الأمر: طمع فيه، واكتنع الأمر: قَرُبَ، القاموس المحيط "82/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 معاوية بن يزيد 1 معاوية بن يزيد بن معاوية، أبو عبد الرحمن -ويقال له: أبو يزيد، ويقال: أبو ليلى- استخلف بعهد من أبيه في ربيع الأول سنة أربع وستين، وكان شابًّا صالِحًا، ولما استخلف كان مريضًا، فاستمر مريضًا إلى أن مات، ولم يخرج إلى الباب، ولا فعل شيئًا من الأمور، ولا صلى بالناس، وكانت مدة خلافته أربعين يومًا، وقيل: شهرين، وقيل: ثلاثة أشهر، ومات وله إحدى وعشرون سنة، وقيل: عشرون سنة؛ ولما احتضر قيل له: ألا تستخلف؟ قال: ما أصبت من حلاوتها فلم أتحمل مرارتها؟.   1 تولى الخلافة 64هـ ومات في نفس العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 عبد الله بن الزبير 1 عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، الأسدي، كنيته أبو بكر، وقيل: أبو خبيب -بضم الخاء المعجمة- صحابي ابن صحابي. وأبوه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنها- وأم أبيه صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم. ولد بالمدينة بعد عشرين شهرًا من الهجرة، وقيل: في السنة الأولى، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة، وفرح المسلمين بولادته فرحًا شديدًا؛ لأن اليهود كانوا يقولون: سحرناهم فلا يولد لهم ولد، فحنكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتمرة لاكها، وسماه عبد الله، وكنّاه أبا بكر، باسم جده الصديق وكنيته، وكان صومًا قوامًا، طويل الصلاة، وصولًا للرحم، عظيم الشجاعة، قسم الدهر ثلاث ليال: ليلة يصلي قائمًا حتى الصباح، وليلة راكعًا، وليلة ساجدًا حتى الصباح. روي له عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة وثلاثون حديثًا، روى عنه أخوه عروة، وابن أبي مليكة، وعباس بن سهل، وثابت البناني، وعطاء، وعبيدة السلماني، وخلائق آخرون، وكان ممن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، وفر إلى مكة، ولم يدع نفسه، لكن لم يبايع، فوجد عليه يزيد وجدًا شديدًا، فلما مات يزيد بويع له با لخلافة، وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وجدد عمارة الكعبة؛ فجعل لها بابين على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها ستة أذرع من الحجر لما حدثته خالته عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبق خارجًا عنه إلا الشام ومصر فإنه بويع بهما معاوية بن يزيد، فلم تطل مدته، فلما مات أطاع أهلها ابن الزبير وبايعوه، ثم خرج مروان بن الحكم فغلب على الشام ثم مصر، واستمر إلى أن مات سنة خمس وستين، وقد عهد إلى ابنه عبد الملك. والأصح ما قاله الذهبي أن مروان لا يعد في أمراء المؤمنين، بل هو باغٍ خارج على ابن الزبير، ولا عهده إلى ابنه بصحيح، وإنما صحت خلافة عبد الملك من حين قتل ابن الزبير، وأما ابن الزبير فإنه استمر بمكة خليفة إلى أن تغلب عبد الملك فجهز لقتاله الحجاج في أربعين   1 تولى الخلافة 64هـ وحتى 65هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ألفًا، فحصره بمكة أشهرًا، ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابن الزبير أصحابه وتسللوا إلى الحجاج، فظفر به وقتله وصلبه، وذلك يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى -وقيل: الآخرة- سنة ثلاث وسبعين. وأخرج ابن عساكر عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: إني لفوق أبي قبيس حين وضع المنجنيق على ابن الزبير، فنزلت صاعقة كأني أنظر إليها تدور كأنها حمار أحمر فأحرقت من أصحاب المنجنيق نحوًا من خمسين رجلًا. وكان ابن الزبير فارس قريش في زمانه، له المواقف المشهودة. أخرج أبو يعلى في مسنده عن ابن الزبير: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم، فلما فرغ قال له: "يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد"، فلما ذهب شربه، فلما رجع قال: "ما صنعت بالدم"؟ قال: عمدت إلى أن أخفى موضع فجعلته فيه، قال: "لعلك شربته"، قال: نعم، قال: "ويل للناس منك وويل لك من الناس"، فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم. وأخرج عن نوف البكالي قال: إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء، وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مصليًا أحسن صلاة من ابن الزبير، وكان يصلي في الحجر، والمنجنيق يصيب طرف ثوبه فما يلتفت إليه، وقال مجاهد: ما كان باب من العبادة يعجز الناس عنه إلا تكلفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبق البيت فجعل يطوف سباحة، وقال عثمان بن طلحة: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة: لا شجاعة، ولا عبادة، ولا بلاغة: وكان صيتًا إذا خطب تجاوبه الجبال. وأخرج ابن عساكر عن عروة أن النابغة الجعدي أنشد عبد الله بن الزبير: حكيت لنا الصديق لما وليتنا ... وعثمان، والفاروق، فارتاح معدم وسويت بين الناس في الحق، فاستوى ... فعاد صباحًا حالك اللون أسحم وأخرج عن هشام بن عروة وخبيب قال: أول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير وكان كسوتها المسوح والأنطاع. وأخرج عن عمر بن قيس قال: كان لابن الزبير مائة غلام؛ يتكلم كل غلام منهم بلغة؛ وكان ابن الزبير يكلم كل منهم بلغته، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه، قلت: هذا رجل لم يرد الله طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين. وأخرج عن هشام بن عروة قال: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير -وهو صغير- السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام. وأخرج عن أبي عبيدة قال: جاء عبد الله بن الزبير الأسدي إلى عبد الله بن الزبير بن العوام فقال: يا أمير المؤمنين، إني بيني وبينك رحمًا من قبل فلانة فقال ابن الزبير: نعم، هذا كما ذكرت، وإن فكرت في هذا أصبت؛ الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد وإلى أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 واحدة، فقال: يا أمير المؤمنين إن نفقتي نفدت، قال: ما كنت ضمنت لأهلك أنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم، قال: يا أمير المؤمنين ناقتي قد نقبت، قال: أنجد بها تبرد خفها، وارفعها بسبت، واخفضها بهلب، وسر عليها البردين، قال: يا أمير المؤمنين إنما جئتك مستحملًا ولم آتك مستوصفًا، لعن الله ناقة حملتني إليك فقال ابن الزبير: إن وراكبها، فخرج الأسدي يقول: أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن، ولا أمية في البلاد من الأعياص أو من آل حرب ... أغر كغرة الفرس الجواد وقلت لصحبتي: أدنوا ركابي ... أفارق بطن مكة في سواد ومالي حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري قال: لم يحمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأس إلى المدينة قط، ولا يوم بدر، وحمل إلى أبي بكر رأس فكره ذلك، وأول من حملت إليه الرءوس عبد الله بن الزبير. وفي أيام ابن الزبير كان خروج المختار الكذاب الذي ادعى النبوة، فجهز ابن الزبير لقتاله، إلى أن ظفر به في سنة سبع وستين وقتله، لعنه الله. مات في أيام ابن الزبير من الأعلام: أسيد بن حضير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والنعمان بن بشير، وسليمان بن صرد، وجابر بن سمرة، وزيد بن أرقم، وعدي بن حاتم، وابن عباس، وأبو واقد الليثي، وزيد بن خالد الجهني، وأبو الأسود الدؤلي وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 عبد الملك بن مروان 1 عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب أبو الوليد، ولد سنة ست وعشرين، وبويع بعهد من أبيه في خلافة ابن الزبير فلم تصح خلافته، وبقي متغلبًا على مصر والشام ثم غلب على العراق وما والاها إلى أن قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين؛ فصحت خلافته من يومئذ، واستوثق له الأمر. ففي هذا العام هدم الحجاج الكعبة وأعادها على ما هي عليه الآن، ودس على ابن عمر من طعنه بحربة مسمومة، فمرض منها ومات. وفي سنة أربع وسبعين سار الحجاج إلى المدينة، وأخذ يتعنت على أهلها، ويستخف ببقايا من فيها من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختم في أعناقهم وأيديهم، يذلهم بذلك، كأنس، وجابر بن عبد الله، وسهل بن سعد الساعدي، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفي سنة خمس وسبعين حج بالناس عبد الملك الخليفة، وسير الحجاج أميرًا على العراق. وفي سنة سبع وسبعين فتحت هرقلة، وهدم عبد العزيز بن مروان جامع مصر، وزيد فيه من جهاته الأربع.   1 تولى الخلافة 65هـ وحتى86هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وفي سنة ثلاث وثمانين فتحت حصن سنان من ناحية المصيصة، وكانت غزوة أرمينية، وصنهاجة بالمغرب. وفي سنة ثلاث وثمانين بنيت مدينة واسط، بناها الحجاج. وفي سنة أربع وثمانين فتحت المصيصة وأدوية من المغرب. وفي سنة خمس وثمانين بنيت مدينة أردبيل، ومدينة برذعة، بناهما عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي. وفي سنة ست وثمانين فتح حصن بولق، وحصن الأخرم. وفيها كان طاعون الفتيات، وسمي بذلك؛ لأنه بدأ في النساء. وفيها مات الخليفة عبد الملك في شوال، وخلف سبعة عشر ولدًا، قال أحمد بن عبد الله العجلي: كان عبد الملك أبخر الفم1، وإنه ولد لستة أشهر، وقال ابن سعد: كان عبد الملك بن مروان عابدًا زاهدًا ناسكًا بالمدينة قبل الخلافة، وقال يحيى الغساني: كان عبد الملك بن مروان كثيرًا ما يجلس إلى أم الدرداء فقالت له مرة: بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت الطلاء بعد النسك والعبادة، قال: إي والله، والدماء قد شربتها، وقال نافع: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرًا ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان، وقال أبو الزناد: فقهاء المدينة: سعيد بن المسيب، وعبد الملك بن مروان، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وقال ابن عمر: ولد الناس أبناء وولد مروان أبًا، وقال عبادة بن نسي: قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا، فمن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابنًا فيها فاسألوه، وقال سحيم مولى أبي هريرة رضي الله عنه: دخل عبد الملك -وهو شاب- على أبي هريرة -رضي الله عنه، فقال أبو هريرة: هذا يملك العرب، وقال عبيدة بن رياح الغساني: قالت أم الدرداء لعبد الملك: ما زلت أتخيل هذا الأمر فيك منذ رأيتك، قال: وكيف ذاك؟ قالت: ما رأيت أحسن منك محدثًا ولا أعلم منك مستمعًا، وقال الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت لي عليه الفضل، إلا عبد الملك بن مروان، فإنني ما ذكرته حديثًا إلا وزادني فيه، ولا شعرًا إلا وزادني فيه. وقال الذهبي: سمع عبد الملك من عثمان، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأم سلمة، وبربرة، وابن عمر: ومعاوية. روى عنه: عروة، وخالد بن معدان، ورجاء بن حيوة، والزهري، ويونس بن ميسرة، وربيعة بن يزيد، وإسماعيل بن عبيد الله، وحريز بن عثمان وطائفة. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: أسلم يهودي اسمه يوسف، وكان قرأ الكتب، فمر بدار مروان، فقال: ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار، فقلت له: إلى متى؟ قال: حتى تجيء رايات سود من قبل خراسان.   1 أي: أنتن الفم من البخر بالتحريك، القاموس المحيط "382/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وكان صديقًا لعبد الملك بن مروان، فضرب يومًا على منكبيه، وقال: اتق الله في أمة محمد إذا ملكتهم، فقال: دعني ويحك ما شأني وشأن ذلك؟ فقال: اتق الله في أمرهم، قال: وجهز يزيد جيشًا إلى أهل مكة، فقال عبد الملك: أعوذ بالله أيبعث إلى حرم الله؟ فضرب يوسف منكبه وقال: جيشك إليهم أعظم. وقال يحيى الغساني: لما نزل مسلم بن عقبة دخلت مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- فجلست إلى جنب عبد الملك، فقال لي عبد الملك: أمن هذا الجيش أنت؟ قلت: نعم، قال: ثكلتك أمك أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام، وإلى ابن حواري النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنكه النبي -صلى الله عليه وسلم- أما والله إن جئته نهارًا وجدته صائمًا، ولئن جئته ليلًا لتجدنه قائمًا، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعًا في النار، فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه. وقال ابن أبي عائشة: أفضى الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك. وقال مالك: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أول من صلى في المسجد ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه، كانوا إذا صلى الإمام الظهر قاموا فصلوا إلى العصر، فقيل لسعيد بن المسيب: لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء، فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصوم، وإنما العبادة التفكر في أمر الله والورع عن محارم الله. وقال مصعب بن عبد الله: أول من سمي في الإسلام عبد الملك: عبد الملك بن مروان، وقال يحيى بن بكير: سمعت مالكًا يقول: أول من ضرب الدنانير عبد الملك، وكتب عليها القرآن، وقال مصعب: كتب عبد الملك على الدنانير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] وفي الوجه الآخر: لا إله إلا الله، وطوقه بطوق من فضة، وكتب فيه: ضرب بمدينة كذا، وكتب خارج الطوق: محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق. وفي الأوائل للعسكري بسنده: كان عبد الملك أول من كتب في صدور الطوامير1: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مع التاريخ، فكتب ملك الروم: إنكم أحدثتم في طواميركم شيئًا من ذكر نبيكم، فاتركوه وإلا أتاكم من دنانيرنا ذكر ما تكرهون، فعظم ذلك على عبد الملك، فأرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية فشاوره، فقال: حرم دنانيرهم، واضرب للناس سككًا فيها ذكر الله وذكر رسوله، ولا تعفهم مما يكرهون في الطوامير، فضرب الدنانير للناس سنة خمس وسبعين، وقال العسكري: وأول خليفة بخل عبد الملك، وكان يسمى: رشح الحجارة، لبخله، ويكنى: أبا الذبان، لبخره، قال: وهو أول من غدر في الإسلام، وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وأول من نهي عن الأمر بالمعروف، ثم أخرج   1 الطوامير: الثوب الخلق والجمع أطمار وأحد الطوامير وهو الصحيفة، مختار الصحاح "397". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بسنده عن ابن الكلبي قال: كان مروان بن الحكم ولي العهد عمرو بن سعيد بن العاص بعد ابنه، فقتله عبد الملك، وكان قتله أول غدر في الإسلام فقال بعضهم: يا قوم لا تغلبوا عن رأيكم فلقد ... جربتم الغدر من أبناء مروانا أمسوا وقد قتلوا عمرًا وما رشدوا ... يدعون غدرًا بعهد الله كيسانا ويقتلون الرجال البزل ضاحية ... لكي يولوا أمور الناس ولدانا تلاعبوا بكتاب الله فاتخذوا ... هواهم في معاصي الله قرآنا وأخرج بإسناد فيه الكديمي، وهو متهم بالكذب، عن ابن جريج عن أبيه قال: خطبنا عبد الملك بن مروان بالمدينة بعد قتل ابن الزبير عام حج سنة خمس وسبعين، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فلست بالخليفة المستضعف -يعني: عثمان- ولا الخليفة المداهن -يعني: معاوية- ولا الخليفة المأفون1 -يعني: يزيد- ألا وإن من كان قبلي من الخلفاء كانوا يأكلون ويطعمون من هذه الأموال، إلا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، تكلفوننا أعمال المهاجرين ولا تعملون مثل أعمالهم؟ فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم، هذا عمرو بن سعيد قرابته قرابته وموضعه موضعه قال برأسه هكذا فقلنا بأسيافنا هكذا، ألا وإنا نحمل لكم كل شيء إلا وثوبًا على أمير أو نصب راية، ألا وإن الجامعة التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي، والله لا يفعل أحد فعله إلا جعلتها في عنقه، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه، ثم نزل. ثم قال العسكري: وعبد الملك أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية وأول من رفع يديه على المنبر. قلت: فتمت له عشرة أوائل منها خمسة مذمومة. وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن محمد بن سيرين قال: أول من أحدث الأذان في الفطر والأضحى بنو مروان، فإما أن يكون عبد الملك أو أحدًا من أولاده 2. وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني غير واحد أن أول من كسا الكعبة بالديباج عبد الملك بن مروان، وإن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا: أصاب، ما نعلم لها من كسوة أوفق منه. وقال يوسف بن الماجشون، كان عبد الملك إذا قعد للحكم قيم على رأسه بالسيوف. وقال الأصمعي: قيل لعبد الملك: يا أمير المؤمنين عجل عليك الشيب، فقال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة؟. وقال محمد بن حرب الزيادي: قيل لعبد الملك بن مروان: من أفضل الناس؟ قال: من تواضع عن رفعة، وزهد في قدرة، وأنصف عن قوة.   1 هو الضعيف العقل والرأس. مختار الصحاح "19". 2 أخرجه ابن أبي شيبة "11/75/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقال ابن عائشة: كان عبد الملك إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق قال: أعفني من أربع وقل بعدها ما شئت: لا تكذبني فإن الكذوب لا رأي له، ولا تجبني فيما لا أسألك فإن فيما أسألك عنه شغلًا، ولا تطرني فإني أعلم بنفسي منك، ولا تحملني على الرعية فإني إلى الرفق بهم أحوج. وقال المدائني: لما أيقن عبد الملك بالموت قال: والله لوددت أني كنت منذ ولدت إلى يومي هذا حمالًا، ثم أوصى بنيه بتقوى الله، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وقال: كونوا بني أم بررة، وكونوا في الحرب أحرارًا، وللمعروف منارًا، فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها، وإن المعروف يبقى أجره وذكره، واحلوا في مرارة، ولينوا في شدة، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني: إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش باليد عزت فلم تكسر، وإن هي بددت ... فالكسر والتوهين للمتبدد يا وليد اتق الله فيما أخلفك فيه، إلى أن قال: وانظر الحجاج فأكرمه فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك، فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا. وقال غيره: لما احتضر عبد الملك دخل عليه ابنه الوليد، فتمثل بهذا: كما عائد رجلًا وليس يعوده ... إلا ليعلم هل يراه يموت فبكى الوليد، قال: ما هذا؟ أتحن حنين الأمة؟ إذا أنا مت، فشمر، وائترز، والْبَسْ جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه. قلت: لو لم يكن من مساوي عبد الملك إلا الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة -رضي الله عنهم- يهينهم ويذلهم قتلًا وضربًا وشتمًا وحبسًا، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يحصى، فضلًا عن غيرهم، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختمًا، يريد بذلك ذلهم، فلا رحمه الله ولا عفا عنه. ومن شعر عبد الملك: لعمري لقد عمرت في الدهر برهة ... ودانت لي الدنيا بوقع البواتر فأضحى الذي قد كان مما يسرني ... كلمح مضى في المزمنات الغوابر فيا ليتني لم أعن بالملك ساعة ... ولم أله لي لذات عيش نواضر وكنت كذي طمرين عاش ببلغة ... من الدهر حتى زار ضنك المقابر وفي تاريخ ابن عساكر عن إبراهيم بن عدي قال: رأيت عبد الملك بن مروان وقد أتته أمور أربعة في ليلة فما تنكر ولا تغير وجهه: قتل عبيد الله بن زياد، وقتل حبيش بن دلجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 بالحجاز، وانتقاض ما كان بينه وبين ملك الروم، وخروج عمرو بن سعيد إلى دمشق. وفيه عن الأصمعي قال: أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية. وأسند السلفي في الطيوريات: أن عبد الملك بن مروان خرج يومًا، فلقيته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، قال: ما شأنك؟ قالت: توفي أخي وترك ستمائة دينار، فدفع إليّ من ميراثه دينار واحد، فقيل، هذا حقك، فعمي الأمر فيها على عبد الملك فأرسل إلى الشعبي فسأله، فقال: نعم، هذا توفي فترك ابنتين فلهما الثلثان أربعمائة دينار، وأمًا فلها السدس مائة، وزوجة فلها الثمن خمسة وسبعون، واثني عشر أخًا فلهم أربعة وعشرون، فبقى لهذه دينار. وقال ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا أبو سفيان الحميري حدثنا خالد بن محمد القرشي، قال: قال عبد الملك بن مرون، من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية، ومن أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية1. وقال أبو عبيدة: لما أنشد الأخطل كلمته لعبد الملك التي يقول فيها: شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلامًا إذا قدروا قال: خذ بيده يا غلام فأخرجه، ثم ألق عليه من الخلع ما يغمره، ثم قال: إن لكل قوم شاعرًا، وشاعر بني أمية الأخطل. وقال الأصمعي: دخل الأخطل على عبد الملك، فقال: ويحك صف لي السكر، قال: أوله لذة، وآخره صداع، وبين ذلك حالة لا أصف لك مبلغها، فقال: ما مبلغها؟ قال: لملكك يا أمير المؤمنين عندها أهون على من شسع نعلي، وأنشأ يقول: إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير خرجت أجر الذيل تيها كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير قال الثعالبي: كان عبد الملك يقول: ولدت في رمضان، وفطمت في رمضان، وختمت القرآن في رمضان وبلغت الحلم في رمضان، ووليت في رمضان، وأتتني الخلافة في رمضان، وأخشى أن أموت في رمضان، فلما دخل شوال وأمن مات. وممن مات في أيام عبد الملك من الأعلام: ابن عمر، وأسماء بنت الصديق، وأبو سعيد بن المعلى، وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وسلمة بن الأكوع، والعرباض بن سارية، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وأسلم مولى عمر، وأبو إدريس الخولاني، وشريح القاضي، وأبان بن عثمان بن عفان، والأعشى الشاعر، وأيوب بن القرية الذي يضرب به المثل في الفصاحة، وخالد بن يزيد بن معاوية،   1 أخرجه ابن أبي شيبة "180/279/7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وذر بن حبيش، وسنان بن سلمة بن المحبق، وسويد بن غفلة، وأبو وائل، وطارق بن شهاب، ومحمد ابن الحنفية، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وأبو عبيد بن عبد الله بن مسعود، وعمرو بن حريث، وعمرو بن سلمة الجرمي، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الوليد بن عبد الملك 1. الوليد بن عبد الملك، أبو العباس، قال الشعبي: كان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب. قال روح بن زبناع: دخلت يومًا على عبد الملك -وهو مهموم- فقال: فكرت فيمن أوليه أمر العرب، فلم أجده، فقلت أين أنت من الوليد؟ قال: إنه لا يحسن النحو، فسمع ذلك الوليد، فقام من ساعته، وجمع أصحاب النحو، وجلس معهم في بيت ستة أشهر، ثم خرج وهو أجهل مما كان، فقال عبد الملك: أما إنه قد أعذر. وقال أبو الزناد: كان الوليد لحانًا، قال على منبر المسجد النبوي: يا أهلُ المدينة. وقال أبو عكرمة الضبي؟ قرأ الوليد على المنبر: يا لَيْتُها كانت القاضية، وتحت المنبر عمر بن عبد العزيز و سليمان بن عبد الملك ، فقال سليمان: وددتها والله. وكان الوليد جبّارًا، ظالِمًا. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن شوذب قال: قال عمر بن عبد العزيز -وكان الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وعثمان بن جبارة بالحاجز، وقرة بن شريك بمصر-: امتلأت الأرض والله جورًا2. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن إبراهيم بن أبي زرعة، أن الوليد قال له: أيحاسب الخليفة؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنت أكرم على الله أم داود؟ إن الله جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال: {يَا دَاوُود} الآية [ص: 26] ، لكنه أقام الجهاد في أيامه، وفتحت في خلافته فتوحات عظيمة، وكان ذلك يختن الأيتام، ويرتب لهم المؤدبين، ويرتب للزمني من يخدمهم، وللأضراء من يقودهم، وعمر المسجد النبوي ووسعه، ورزق الفقهاء والضعفاء والفقراء، وحرم عليهم سؤال الناس، وفرض لهم ما يكفيهم، وضبط الأمور أتم ضبط. وقال ابن أبي عبلة: رحم الله الوليد وأين مثل الوليد؟ افتتح الهند والأندلس، وبنى مسجد دمشق، وكان يعطيني قطع الفضة أقسمها على قراء مسجد بيت المقدس. ولي الوليد الخلافة بعهد من أبيه في شوال سنة ست وثمانين، ففي سنة سبع وثمانين شرع في بناء جامع دمشق، وكتب بتوسيع المسجد النبوي وبنائه، وفيها فتحت بيكند، وبخارى، وسردانية، ومطمورة، وقميقم، وبحيرة الفرسان عنوة، وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فوقف يوم النحر غلطًا، وتألم لذلك. وفي سنة ثمانٍ وثمانين فتحت جرثومة، وطوانة.   1 تولى الخلافة 86 وحتى 69هـ. 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية "309/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وفي سنة تسع وثمانين فتحت جزيرتا منورقة وميورقة. وفي سنة إحدى وتسعين فتحت نسف، وكش، وشومان، ومدائن وحصون من بحر أذربيجان. وفي سنة اثنتين وتسعين فتح الأندلس بأسره، ومدينة أرامبيل وقتربون. وفي سنة ثلاث وتسعين فتحت الديبل، وغيرها ثم الكرخ، وبرهم، وباجة، والبيضاء، وخوارزم، وسمرقند، والصغد. وفي سنة أربع وتسعين فتحت كابل، وفرغانة، والشاش، وسندرة، وغيرها. وفي سنة ست وتسعين فتحت طوس، وغيرها، وفيها مات الخليفة الوليد في نصف جمادى الآخرة، وله إحدى وخمسون سنة. قال الذهبي: أقام الجهاد في أيامه، وفتحت فيها الفتوحات العظيمة، كأيام عمر بن الخطاب. قال عمر بن عبد العزيز: لما وضعت الوليد في لحده إذا هو يركض بين أكفانه، يعني ضرب الأرض برجله. ومن كلام الوليد: لولا أن الله ذكر آل لوط في القرآن ما ظننت أن أحدًا يفعل هذا. مات في أيام الوليد من الأعلام: عتبة بن عبد السلمي، والمقدام بن معد يكرب، وعبد الله بن بشر المازني، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو العالية، وجابر بن زيد، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد، والسائب بن خلاد، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، وبلال بن أبي الدرداء، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن جبير شهيدًا، قتله الحجاج لعنه الله، وإبراهيم النخعي، ومطرف، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، والعجاج الشاعر، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 سليمان بن عبد الملك 1 سليمان بن عبد الملك، أبو أيوب، كان من خيار ملوك بني أمية. ولي الخلافة بعهد من أبيه بعد أخيه في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين. روى قليلًا عن أبيه، وعبد الرحمن بن هبيرة، روى عنه ابنه عبد الواحد، والزهري. وكان فصيحًا، مفوهًا، مؤثرًا للعدل، محبًّا للغزو، ومولده سنة ستين. ومن محاسنه: أن عمر بن العزيز كان له كالوزير، فكان يمتثل أوامره في الخير، فعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجن العراق وأحيا الصلاة لأول مواقيتها، وكان بنو أمية أماتوها بالتأخير. قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لمواقيتها، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز.   1 تولى الخلافة 96هـ، وحتى99هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وكان سليمان ينهى عن الغناء، وكان من الأكلة المذكورين، أكل في مجلس سبعين رمانة، وخروفًا، وست دجاجات، ومكوك1 زبيب طائفي. قال يحيى الغساني: نظر سليمان في المرآة، فأعجبه شبابه وجماله، فقال: كان محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، وكان أبو بكر صديقًا، وكان عمر فاروقًا، وكان عثمان حيِيًّا، وكان معاوية حليمًا، وكان يزيد صبورًا، وكان عبد الملك سائسًا، وكان الوليد جبارًا، وأنا الملك الشاب، فما دار عليه الشهر حتى مات. وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر صفر سنة تسع وتسعين، وفتح في أيامه جرجان، وحصن الحديد، وسردانية، وشقى، وطبرستان، ومدينة الصقالبة. مات في أيامه من الأعلام: قيس بن أبي حازم، ومحمود بن لبيد، والحسن بن الحسين بن علي، وكريب مولى ابن عباس، وعبد الرحمن بن الأسود النخعي، وآخرون. قال عبد الرحمن بن حسان الكناني: مات سليمان غازيًا بدابق، فلما مرض قال لرجاء بن حيوة: من لهذا الأمر من بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب، قال: فابني الآخر؟ قال: صغير، قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز، قال: أتخوف إخوتي لا يرضون، قال: تولي عمر ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتابًا، وتختم عليه, وتدعوهم إلى بيعته مختومًا، قال: لقد رأيت، فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد ودفعه إلى رجاء، وقال: اخرج إلى الناس فليبايعوا على ما فيه مختومًا، فخرج، فقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب، قالوا: ومن فيه؟ قال: هو مختوم، لا تخبروا بمن فيه حتى يموت؟ قالوا: لا نبايع، فرجع إليه فأخبره، فقال: انطلق إلى صاحب الشرط والحرس، فأجمع الناس ومرهم بالبيعة، فمن أبى فاضرب عنقه، فبايعوا. قال رجاء: فبينما أنا راجع إذا هشام، فقال لي: يا رجاء قد علمت موقعك منا، وأن أمير المؤمنين قد صنع شيئًا ما أدري ما هو؟ وإني تخوفت أن يكون قد أزالها عني، فإن يكون قد عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمر نفس حتى أنظر، فقلت: سبحان الله! يستكتمني أمير المؤمنين أمرًا أطلعك عليه؟ لا يكون ذلك أبدًا، ثم لقيت عمر بن عبد العزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص منه ما دام حيًّا، قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين أمرًا وأطلعك عليه؟ ثم مات سليمان وفتح الكتاب، فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فتغيرت وجوه بني عبد الملك، فلما سمعوا: "وبعده يزيد بن عبد الملك"، تراجعوا، فأتوا عمر، فسلموا عليه بالخلافة، فعقر به، فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه2، فدنوا به إلى المنبر   1 المكوك: طاس يشرب ومكيال يسع صاعًا ونصفًا أو نصف رطل أو ثماني أواقٍ. القاموس "330/3". 2 الضبعين: لعضدين كلهما أو أوسطهما بحملهما أو الإبط إلى نصف العضد من أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وأصعدوه فجلس طويلًا لا يتكلم، فقال لهم رجاء: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه، فبايعوه ومد يده إليهم، ثم قام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إني لست بفارض ولكني منفذ، ولست بمبتدع، ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ، ثم نزل، فأتاه صاحب المراكب فقال: ما هذا؟ قال: مركب الخليفة، قال: لا حاجة لي فيه، ائتوني بدابتي، فأتوه بدابته، وانطلق إلى منزله، ثم دعا بدواة، وكتب بيده إلى عمال الأمصار. قال رجاء: كنت أظن أنه سيضعف، فلما رأيت صنعه في الكتاب، علمت أنه سيقوى. يروى أن مروان بن عبد الملك وقع بينه وبين سليمان في خلافته كلام، فقال له سليمان: يابن اللخناء، ففتح مروان فاه ليجيبه، فأمسك عمر بن عبد العزيز بفيه، وقال: أنشدك الله إمامك وأخوك وله السن، فسكت، وقال: قتلتني، والله لقد زدت في جوفي أحر من النار، فما أمسى حتى مات. وأخرج ابن أبي الدنيا عن زياد بن عثمان، أنه دخل على سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب، فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يقول: من أحب البقاء فليوطن نفسه على المصائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه 1 عمر بن عبد العزيز بن مروان، الخليفة الصالح، أبو حفص، خامس الخلفاء الراشدين. قال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، أخرجه أبو داود في سننه2. ولد عمر بحلوان، قرية بمصر، وأبوه أمير عليها سنة إحدى، وقيل: ثلاث وستين وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان بوجه عمر شجة، ضربته دابة في جبهته، وهو غلام، فجعل أبوه يمسح الدم عنه، ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد، أخرجه ابن عساكر. وكان عمر بن الخطاب يقول: من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلًا، أخرجه الترمذي في تاريخه، فصدق ظن أبيه فيه. وأخرج ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال: ليت شعري! من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا 3. وأخرج عن ابن عمر قال: كنا نتحدث أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر، يعمل بمثل عمل عمر، فكان بلال بن عبد الله بن عمر بوجهه شامة، وكانوا يرون أنه هو، حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز4.   1 تولى الخلافة 99هـ، وحتى101هـ. 2 أخرجه أبو داود "4/ 4631". 3 أخرجه ابن سعد "15/4". 4 أخرجه ابن سعد "15/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 روى عمر بن عبد العزيز عن أبيه، وأنس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وابن قارظ، ويوسف بن عبد الله بن سلام، وعامر بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن، والربيع بن سمرة، وطائفة. وروى عنه: الزهري، ومحمد بن المنكدر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومسلمة بن عبد الملك، ورجاء بن حيوة، وخلائق كثيرون. جمع القرآن وهو صغير، وبعثه أبوه إلى المدينة يتأدب بها، فكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم، فلما توفي أبوه طلبه عبد الملك إلى دمشق وزوجه ابنته فاطمة. وكان قبل الخلافة على قدم الصلاح أيضًا، إلا أنه كان يبالغ في التنعم، فكان الذين يعيبونه من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنعم والاختيال في المشية، فلما ولي الوليد الخلافة أمر عمر على المدينة، فوليها من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين، وعزل، فقدم الشام. ثم إن الوليد عزم على أن يخلع أخاه سليمان من العهد، وأن يعهد إلى ولده، فأطاعه كثير من الأشراف طوعًا وكرهًا، فامتنع عمر بن عبد العزيز، وقال لسليمان، في أعناقنا بيعة، وصمم، فطين عليه الوليد، ثم شفع فيه بعد ثلاث، فأدركوه وقد مالت عنقه، فعرفها له سليمان، فعهد إليه بالخلافة. قال زيد بن أسلم عن أنس رضي الله عنه: ما صليت وراء إمام بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الفتى -يعني: عمر بن عبد العزيز- وهو أمير على المدينة، قال زيد بن أسلم: فكان يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود. له طرق عن أنس، أخرجه البيهقي في سننه وغيره1. وسئل محمد بن علي بن الحسين عن عمر بن عبد العزيز، فقال: هو نجيب بني أمية، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. وقال ميمون بن مهران: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة. وأخرج أبو نعيم بسند صحيح عن رياح بن عبيدة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة، وشيخ متوكئ على يده، فقلت في نفسي: إن هذا الشيخ جافٍ، فلما صلى ودخل لحقته، فقلت: أصلح الله الأمير، من الشيخ الذي كان يتكئ على يدك؟ قال: يا رياح رأيته؟ قلت: نعم، قال: ما أحسبك إلا رجلًا صالِحًا، ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة، وأني سأعدل فيها2. وأخرج أيضًا عن أبي هاشم أن رجلًا جاء إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، وأبا بكر عن يمينه, وعمر عن شماله، فإذا رجلان يختصمان وأنت بين يديه   1 أخرجه البيهقي في السنن "115/3"، وأبو داود "888/1"، والنسائي "980/2". 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية "254/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 جالس، فقال لك: يا عمر إذا عملت فاعمل بعمل هذين -لأبي بكر وعمر- فاستحلف له عمر بالله لرأيت هذا، فحلف له، فبكى عمر1. بويع بالخلافة بعهد من سليمان، في صفر سنة تسع وتسعين كما تقدم، فمكث فيها سنتين وخمسة أشهر، نحو خلافة الصديق -رضي الله عنه- ملأ الأرض عدلًا، وردّ المظالم، وسن السنن الحسنة، ولما قرئ كتاب العهد باسمه عقر2 وقال: والله إن هذا الأمر ما سألته الله قط؛ وقدم إليه صاحب المراكب مركب الخليفة فأبى وقال: ائتوني ببغلتي: قال الحكم بن عمر: شهدت عمر بن عبد العزيز حين جاءه أصحاب المراكب يسألونه العلوفة ورزق خدمتها، قال: ابعث بها إلى أمصار الشام يبيعونها فيمن يريد، واجعل أثمانها في مال الله، تكفيني بغلتي هذه الشهباء. وقال عمر بن ذر: لما رجع عمر من جنازة سليمان قال له مولاه: مالي أراك مغتمًّا؟ قال: لمثل ما أنا فيه فليغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إليّ فيه ولا طالبه مني. وعن عمرو بن مهاجر وغيره: أن عمر لما استخلف قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- ألا وإني لست بفارض ولكني منفذ، ولست بمبتدع، ولكني متبع، ولست بخير من أحدكم، ولكني أثقلكم حملًا، وإن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وعن الزهري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب في الصدقات، فكتب إليه بالذي سأل، وكتب إليه: إنك إن عملت بمثل عمل عمر في زمانه ورجاله، في مثل زمانك ورجالك كنت عند الله خيرًا من عمر. وعن حماد: أن عمر لما استخلف بكى فقال: يا أبا فلان، أتخشى علي؟ قال: كيف حبك الدرهم؟ قال: لا أحبه، قال: لا تخف فإن الله سيعينك. وعن مغيرة قال: جمع عمر حين استخلف بني مروان، فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له فدك ينفق منها ويعول منها على صغير بني هاشم ويزوج منها أيمهم، وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى، فكانت كذلك حياة أبي بكر ثم عمر، ثم أقطعها مروان، ثم صارت لعمر بن عبد العزيز، فرأيت أمرًا منعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ليس لي بحق، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وعن الليث قال: ولما ولي عمر بدأ بلحمته3 وأهل بيته، فأخذ ما بأيديهم، وسَمّى أموالهم مظالم.   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "336/5". 2 أي: لم يستطع أن يتقدم أو يتأخر من مفاجأة الروع. النهاية "273/3". 3 اللحمة بالضم: القرابة. مختار الصحاح "594". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقال أسماء بن عبيد: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا عطايا فمنعتناها ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي لما يصلح عيالي؟ فقال عمر: أحبكم من كفانا مؤنته، ثم قال له: أكثر ذكر الموت، فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش صيقه عليك. وقال فرات بن السائب: قال عمر بن عبد العزيز لامرأته فاطمة بنت عبد الملك -وكان عندها جوهر أمر لها به أبوها لم ير مثله-: اختاري إما أن تردي حليك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد، قالت: لا بل أختارك عليه وعلى أضعافه، فأمر به فحمل حتى وضع في بيت مال المسلمين -فلما مات عمر واستخلف يزيد قال لفاطمة: إن شئت رددته إليك، قالت: لا والله، ما أطيب به نفسًا في حياته وأرجع فيه بعد موته. وقال عبد العزيز: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إن مدينتنا قد خربت فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالًا نرمها به فعل، فكتب إليه عمر: إذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل ونقِ طرقها من الظلم؛ فإنه مرمتها، والسلام. وقال إبراهيم السكوني: قال عمر بن عبد العزيز: ما كذبت منذ علمت أن الكذب شين على أهله. وقال قيس بن جبير: مثل عمر في بني أمية مثل مؤمن آل فرعون. وقال ميمون بن مهران: إن الله كان يتعاهد الناس بنبي بعد نبي، وإن الله تعاهد الناس بعمر بن عبد العزيز. وقال وهب بن منبه: إن كان في هذه الأمة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز. وقال محمد بن فضالة: مر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز براهب في الجزيرة؛ فنزل إليه الراهب ولم ينزل لأحد قبله، وقال: أتدري لم نزلت إليك؟ قال: لا، قال: لحق أبيك، إنا نجده في أئمة العدل بموضع رجب من الأشهر الحرم، ففسره أيوب بن سويد بثلاثة متوالية: ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، أبي بكر وعمر، وعثمان، ورجب منفرد منها عمر بن عبد العزيز. وقال حسن القصاب: رأيت الذئاب ترعى مع الغنم بالبادية في خلافة عمر بن عبد العزيز، فقلت: سبحان الله! ذئب في غنم لا يضرها؟ فقال الراعي: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس. وقال مالك بن دينار: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء: من هذا الصالح الذي قام على الناس خليفة؟ عدله كفّ الذئاب عن شائنا. وقال موسى بن أعين: كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الشاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 والذئب ترعى في مكان واحد، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب للشاة قلت: ما نرى الرجل الصالح إلا قد هلك، فحسبوه فوجدوه مات تلك الليلة. وقال الوليد بن مسلم: بلغنا أن رجلًا كان بخراسان قال: أتاني آتٍ في المنام فقال: إذا قام أشج بني مروان فانطلق فبايعه فإنه إمام عدل، فجعلت أسأل كلما قام خليفة، حتى قام عمر بن عبد العزيز، فأتاني ثلاث مرات في المنام، فارتحلت إليه فبايعته. وعن حبيب بن هند الأسلمي قال: قال لي سعيد بن المسيب: إنما الخلفاء ثلاثة: أبو بكر، وعمر، وعمر بن عبد العزيز، قلت له: أبو بكر وعمر قد عرفناهما، فمن عمر؟ قال: إن عشت أدركته، وإن مت كان بعدك، قلت: ومات ابن المسيب قبل خلافة عمر. وقال ابن عون: كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء قال: نهى عنه إمام الهدى، يعني: عمر بن عبد العزيز. وقال الحسن: إن كان مهدي فعمر بن عبد العزيز، وإلا فلا مهدي إلا عيسى ابن مريم. وقال مالك بن دينار: الناس يقولون: مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها. وقال يونس بن أبي شبيب: شهدت عمر بن عبد العزيز وإن حجزة إزاره1 لغائبة في عكنه2، ثم رأيته بعد ما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسك لفعلت. وقال ولده عبد العزيز: سألني أبو جعفر المنصور: كم كانت غلة أبيك حين أفضت الخلافة إليه؟ قلت: أربعين ألف دينار، قال: فكم كانت حين توفي؟ قلت: أربعمائة دينار، ولو بقي لنقصت. وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: ألا تغسلون قميصه؟ قالت: والله ما له قميص غيره. قال أبو أمية الخصي غلام عمر: دخلت يومًا على مولاتي فغدتني عدسًا فقلت: كل يوم عدس؟ قالت: يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين. قال: دخل عمر الحمام يومًا فأطلى فولى عانته بيده. قال: ولما احتضر بعثني بدينار إلى أهل الدير، وقال: إن بعتموني موضع قبري وإلا تحولت عنكم، فأتيتهم فقالوا: لولا أنّا نكره أن يتحول عنّا ما قبلناه. وقال عون بن المعمر: دخل عمر على امرأته فقال: يا فاطمة عندك درهم أشتري به عنبًا؟ فقالت: لا، وقالت: وأنت أمير المؤمنين لا تقدر على درهم تشتري به عنبًا؟ قال: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدًا في جنهم3.   1 أي: مَشَدُّ إزاره تجمع على حجز، النهاية "344/1". 2 الطي في البطن من السمن بالجمع "عكن" و "أعكان". مختار الصحاح "449". 3 أخرجه أبو نعيم في الحلية "259/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقالت فاطمة امرأته: ما أعلم أنه اغتسل لا من جنابة ولا من احتلام منذ استخلف الله حتى قبضه. وقال سهل بن صدقة: لما استخلف عمر سمع في منزله بكاء، فسألوا عن ذلك، فقالوا: إن عمر خير جواريه فقال: قد نزل بي أمر قد شغلني عنكم، فمن أحب أن أعتقه أعتقته، ومن أحب أن أمسكه أمسكته، وإن لم يكن مني إليها حاجة، فبكين إياسًا منه، قالت فاطمة امرأته: كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته أجمع1. وقال الوليد بن أبي السائب: ما رأيت أحدًا قط أخوف من عمر2. وقال سعيد بن سويد: صلى عمر بالناس الجمعة -وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه- فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعطاك، فلو لبست، فنكس مليًّا ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند القدرة. وقال ميمون بن مهران: سمعت عمر يقول: لو أقمت فيكم خمسين عامًا ما استكملت فيكم العدل، إني لأريد الأمر وأخاف ألا تحمله قلوبكم فأخرج معه طمعًا من الدنيا، فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا. وقال إبراهيم بن ميسرة: قلت لطاوس: هو المهدي؟ -يعني: عمر بن عبد العزيز- قال: هو مهدي، وليس به، إنه لم يستكمل العدل كله. وقال عمر بن أسيد: والله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح بماله كله، قد أغنى عمر الناس. وقال جويرية: دخلنا على فاطمة ابنة علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- فأثنت على عمر بن عبد العزيز، وقالت: لو كان بقي لنا ما احتجنا بعد إلى أحد. وقال عطاء بن أبي رباح: حدثتني فاطمة امرأة عمر أنها دخلت عليه وهو في مصلاه تسيل دموعه على لحيته، فقالت: يا أمير المؤمنين ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت من أمر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أسودها وأحمرها؛ فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد؛ فعلمت أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة؛ فخشيت ألا تثبت لي حجة؛ فبكيت. وقال الأوزاعي: إن عمر بن عبد العزيز كان جالسًا في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جندًا؟ فقال رجل منهم: لم تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وفناء، وإني أكره أن تدنسوه   1 أخرج أبو نعيم في الحلية "260،259/5". 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية "260/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 بأرجلكم، فكيف أوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم؟ هيهات لكم هيهات! فقالوا له: لِمَ؟ أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجلًا من المسلمين حبسه عني طول شقته. وقال حميد: أملى عليّ الحسن رسالة إلى عمر بن عبد العزيز فأبلغ، ثم شكا الحاجة والعيال، فأمر بعطائه. وقال الأوزاعي: كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلًا حبسه ثلاثة أيام، ثم عاقبه، كراهة أن يجعل في أول غضبه. وقال جويرية بن أسماء: قال عمر بن عبد العزيز: إن نفسي تواقة، لم تعطَ من الدنيا شيئًا إلا تقات إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت ما لا شيء فوقه من الدنيا تاقت نفسي إلى ما هو أفضل منه -يعني: الجنة1. وقال عمرو بن مهاجر: كانت نفقة عمر بن عبد العزيز كل يوم درهمين. وقال يوسف بن يعقوب الكاهلي: كان عمر يلبس الفروة الكبل، وكان سراج بيته على ثلاث قصبات فوقهن طين. وقال عطاء الخراساني: أمر عمر غلامه أن يسخن له ماء، فانطلق فسخن قمقمًا2 في مطبخ العامة، فأمر عمر أن يأخذ بدرهم حطبًا يضعه في المطبخ. وقال عمرو بن مهاجر: كان عمر يسرج عليه الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها، ثم أسرج عليه سراجه. وقال الحكم بن عمر: كان للخليفة ثلاثمائة حرسي وثلاثمائة شرطي، فقال عمر للحرس، إن لي عندكم بالقدر حاجزًا وبالأجل حارسًا، من أقام منكم فله عشرة دنانير، ومن شاء فليلحق بأهله. وقال عمرو بن مهاجر: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحًا، فأهدى له رجل من أهل بيته تفاحًا، فقال: ما أطيب ريحه وأحسنه ارفعه يا غلام للذي أتى به وأقرئ فلانًا السلام وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث نحب، فقلت: يا أمير المؤمنين ابن عمك، ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأكل الهدية، فقال: ويحك إن الهدية كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- هدية وهي اليوم لنا رشوة3. وقال إبراهيم بن ميسرة: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب أحدًا في خلافته، غير رجل واحد تناول من معاوية، فضربه ثلاثة أسواط. وقال الأوزاعي: لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان يجري عليهم من أرزاق   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "331/5". 2 إناء صغير من خزف أو نحاس وقد يتخذ من الفضة ونحوها. 3 أخرجه أبو نعيم في الحلية "294/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الخاصة كلموه في ذلك، فقال: لن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال فإنما حقكم فيه كحق رجل بأقصى برك الغماد. وقال أبو عمر: كتب عمر بن عبد العزيز برد أحكام من أحكام الحجاج مخالفة لأحكام الناس. وقال يحيى الغساني: لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقبًا، فكتبت إليه أعلمه حال البد وأسأل: آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة؟ فكتب إليه أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة: فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحه الله. قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقة ونقبًا. وقال رجاء بن حيوة: سمرت ليلة عند عمر، فغشى السراج -وإلى جانبه وصيف- قلت: ألا أنبهه؟ قال: لا، قلت أفلا أقوم؟ قال: ليس من مروءة الرجل استخدامه ضيفه: فقام إلى بطة الزيت1 وأصلح السراج ثم رجع، وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز. وقال نعيم كاتبه: قال عمر: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة. وقال مكحول: لو حلفت لصدقت ما رأيت أزهد ولا أخوف من عمر بن عبد العزيز. وقال سعيد بن أبي عروبة: كان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله. وقال عطاء: كان عمر بن عبد العزيز يجمع في كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة. وقال عبيد الله بن العيزار، خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فقال: أيها الناس، أصلحوا إسراركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلًا ليس بينه وبين آدم أب حي لعرق له في الموت، والسلام عليكم2. وقال وهيب بن الورد: اجتمع بنو مروان إلى باب عمر بن عبد العزيز فقالوا لابنه عبد الملك: قل لأبيك: إن من كان قبله من الخلفاء كان يعطينا ويعرف لنا موضعنا، وإن أباك قد حرمنا في يديه، فدخل على أبيه فأخبره، فقال لهم: إن أبي يقول لكم: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الزمر: 13] . وقال الأوزاعي: قال عمر بن عبد العزيز: خذوا من الرأي ما يصدق من كان قبلكم، ولا تأخذوا ما هو خلاف لهم؛ فإنهم خير منكم وأعلم. وقال: قدم جرير، فطال مقامه بباب عمر بن عبد العزيز، ولم يلتفت إليه، فكتب إلى عون بن عبد الله وكان خصيصًا بعمر:   1 شيء مشقوق يوضع فيه الزيت. مختار الصحاح "56". 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية "265/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 يا أيها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن قال جويرية بن أسماء: لما استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه بلال بن أبي بردة فهنأه، وقال: من كانت الخلافة شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها، وأنت كما قال مالك بن أسماء: وتزيدين أطيب الطيب طيبًا ... أن تمسيه، أين مثلك أينا؟ وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا قال جعونة: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جعل عمر يثني عليه، فقال: يا أمير المؤمنين لو بقي كنت تعهد إليه؟ قال: لا، قال: ولِمَ أنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زين في عيني منه ما زين في عين الولد من ولده. وقال غسان عن رجل من الأزد: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله وإيثاره تخف عنك المئونة، وتحسن لك من الله المعونة. وقال أبو عمرو: دخلت ابنة أسامة بن زيد على عمر بن عبد العزيز فقام لها ومشى إليها، ثم أجلسها في مجلسه وجلس بين يديها، وما ترك لها حاجة إلا قضاها. وقال الحجاج بن عنبسة: اجتمع بنو مروان فقالوا: لو دخلنا على أمير المؤمنين فعطفناه علينا بالمزاح، فدخلوا، فتكلم رجل منهم فمزح، فنظر إليه عمر، فوصل له رجل كلامه بالمزاح، فقال: لهذا اجتمعتم؟ لأخس الحديث، ولما يورث الضغائن؟ إذا اجتمعتم فأفيضوا في كتاب الله، فإن تعديتم ذلك ففي السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن تعديتم ذلك فعليكم بمعاني الحديث. وقال إياس بن معاوية بن قرة: ما شبهت عمر بن عبد العزيز إلا برجل صناع حسن الصنعة ليس له أداة يعمل بها، يعني لا يجد من يعينه. وقال عمر بن حفص: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملًا من الخير. وقال يحيى الغساني: كان عمر ينهى سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية ويقول: ضمنهم الحبس حتى يحدثوا توبة: فأتى سليمان بحروري، فقال له سليمان: هيه، فقال الحروري: وماذا أقول؟ يا فاسق ابن الفاسق، فقال سليمان عليّ بعمر بن عبد العزيز، فلما جاء قال: اسمع مقالة هذا، فأعادها الحروري، فقال سليمان لعمر: ماذا ترى عليه؟ فسكت، قال: عزمت عليك لتخبرني بماذا ترى عليه، قال: أرى عليك أن تشتمه كما شتمك: قال، ليس الأمر كذلك، فأمر به سليمان فضربت عنقه، وخرج عمر فأدركه خالد صاحب الحرس، فقال: يا عمر كيف تقول لأمير المؤمنين ما أرى عليه إلا أن تشتمه كما شتمك؟ والله لقد كنت متوقعًا أن يأمرني بضرب عنقك، قال: ولو أمرك لفعلت؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 إي والله، فلما أفضت الخلافة إلى عمر جاء خالد فقام مقام صاحب الحرس، فقال عمر: يا خالد ضع هذا السيف عنك وقال: اللهم إني قد وضعت لك خالدًا فلا ترفعه أبدًا، ثم نظر في وجوه الحرس فدعا عمرو بن مهاجر الأنصاري، وقال: يا عمرو، والله لتعلمن أنه ما بيني وبينك قرابة إلا قرابة الإسلام، ولكن سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في وضع تظن ألا يراك أحد، فرأيتك تحسن الصلاة، وأنت رجل من الأنصار، خذ هذا السيف فقد وليتك حرسي. وقال شعيب: حدثت أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنت قائل لربك غدًا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تحيها؟ فقال أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرًا يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقًا يكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق في سببي محجمة من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة؟ وقال معمر: قال عمر بن عبد العزيز: قد أفلح من عصم من المراء، والغضب، والطمع. وقال أرطأة بن المنذر: قيل لعمر بن عبد العزيز: لو اتخذت حرسًا واحترزت في طعامك وشرابك، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف شيئًا دون القيامة فلا تؤمن خوفي. وقال عدي بن الفضل: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب، فقال: اتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، فإنه إن كان لأحدكم رزق في رأس جبل أو حضيض أرض يأته. وقال أزهر: رأيت عمرو بن عبد العزيز يخطب الناس وعليه قميص مرقوع. وقال عبد الله بن العلاء: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب في الجمع بخطبة واحدة يرددها ويفتتحها بسبع كلامات: الحمد الله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ثم يوصي بتقوى الله، ويتكلم، ثم يختم خطبته الأخيرة بهؤلاء الآيات: {يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر: 53] إلى تمامها. وقال حاجب بن خليفة البرجمي: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحباه فهو دين نأخذ به، وننتهي إليه، وما سن سواهما فإنا نرجئه. أسند جميع ما قدمته أبو نعيم في الحلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: دخلنا على عمر بن عبد العزيز يوم العيد -والناس يسلمون عليه- ويقولون: تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد عليهم ولا ينكر عليهم. قلت: هذا أصل حسن للتهنئة بالعيد، والعام، والشهر. وأخرج عن جعونة قال: ولي عمر بن عبد العزيز عمرو بن قيس السكوني الصائفة، فقال: اقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، ولا تكن في أولهم فتقتل، ولا في آخرهم فتفشل، ولكن كن وسطًا حيث يرى مكانك ويسمع صوتك. وأخرج عن السائب بن محمد قال: كتب الجراح بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤنين أن يأذن لي في ذلك، فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم، والسلام. وأخرج عن أمية بن زيد القرشي قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا أملى على كُتّابه قال: اللهم إني أعوذ بك من شر لساني. وأخرج عن صالح بن جبير قال: ربما كلمت عمر بن عبد العزيز في الشيء فيغضب، فأذكر أن في الكتاب مكتوبًا اتق غضبة الملك الشاب، فأرفق به حتى يذهب غضبه، فيقول لي بعد ذلك: لا يمنعك يا صالح ما ترى منا أن تراجعنا في الأمر إذا رأيته. وأخرج عن عبد الحليم بن محمد المخزومي قال: قدم جرير بن عطية بن الخطفى على عمر بن عبد العزيز، فذهب ليقول، فنهاه عمر، فقال: إنما أذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاذكره، فقال: إن الذي ابتعث النبي محمدًا ... جعل الخلافة للأمير العادل رد المظالم حقها بيقينها ... عن جورها، وأقام ميل المائل والله أنزل في القرآن فريضة ... لابن السبيل، وللفقير العائل إني لأرجو منك خيرًا عاجلًا ... والنفس مغرمة بحب العاجل فقال له عمر: ما أجد لك في كتاب الله حقًّا، قال: بلى يا أمير المؤمنين، إنني ابن سبيل، فأمر له من خاصة ماله بخمسين دينارًا. وفي الطيوريات أن جرير بن عثمان الرحبي دخل مع أبيه على عمر بن عبد العزيز، فسأله عمر عن حال ابنه، ثم قال له: علمه الفقه الأكبر، قال: وما الفقه الأكبر؟ قال: القناعة وكف الأذى. وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن محمد بن كعب القرظي قال: دعاني عمر بن عبد العزيز، فقال: صف لي العدل، فقلت: بخ1! سألت عن أمر جسيم، كن لصغير الناس   1 كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرر للمبالغة "بَخْ بَخْ" فإن وصلت خفضت ونونت فقلت: "بَخٍ بَخٍ". مختار "42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أبًا، وكبيرهم ابنًا، وللمثل منهم أخًا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وعلى قدر أجسادهم، ولا تضربن لغضبك سوطًا واحدًا فتعد من العادين. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري: أن عمر بن عبد العزيز كان يتوضأ مما مست النار، حتى كان يتوضأ من السكر1. وأخرج عن وهيب أن عمر بن عبد العزيز قال: من عد كلامه من عمله قل كلامه. وقال الذهبي: أظهر غيلان القدر في خلافة عمر بن عبد العزيز، فاستتابه، فقال: لقد كنت ضالًا فهديتني، فقال عمر: اللهم إن كان صادقًا وإلا فاصلبه واقطع يديه ورجليه، فنفذت فيه دعوته، فأخذ في خلافة هشام بن عبد الملك وقطعت أربعته، وصلب بدمشق في القدر. وقال غيره: كان بنو أمية يسبون علي بن أبي طالب في الخطبة فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبطله، وكتب إلى نوابه بإبطاله، وقرأ مكانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} الآية، [النحل: 90] ، فاستمرت قراءتها في الخطبة إلى الآن. وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن الأنباري حدثنا أحمد بن عبيد قال: قال عمر بن عبد العزيز قبل خلافته: انْهَ الفؤاد عن الصبا ... وعن انقياد للهوى فلعمر ربك إن في ... شيب المفارق والجلا لك واعظًا لو كنت ... تتعظ اتعاظ ذوي النهى حتى متى لا ترعوي ... وإلى متى، وإلى متى؟ ما بعد أن سميت كهلًا ... واستلبت اسم الفتى بلي الشباب وأنت إن ... عمرت رهن للبلى وكفى بذلك زاجرًا ... للمرء عن غي، كفى فائدة قال الثعالبي في لطائف المعارف: كان عمر بن الخطاب أصلع، وعثمان، وعلي ومروان بن الحكم، وعمر بن عبد العزيز، ثم انقطع الصلع عن الخلفاء. فائدة قال الزبير بن بكار: قال الشاعر في فاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز: بنت الخليفة والخليفة جدها ... أخت الخلائف والخليفة زوجها قال: فلم تكن امرأة تستحق هذا النسب إلى يومنا هذا غيرها. قلت: ولا يقال في غيرها هذا إلى يومنا هذا.   1 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "671/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فصل: في ذكر مرضه ووفاته قال أيوب: قيل لعمر بن عبد العزيز: لو أتيت المدينة فإن مت دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: والله لأن يعذبني الله بكل عذاب إلا النار أحب إليّ من أن يعلم الله من أني أراني لذلك الموضع أهلًا. وقال وليد بن هشام: قيل لعمر في مرضه: ألا تتداوى؟ فقال: لقد علمت الساعة التي سقيت فيها، ولو كان شفائي أن أمسح شحمة أذني أو أوتى بطيب فأرفعه إلى أنفي ما فعلت. وقال عبيد بن حسان: لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عني، فقعد مسلمة وفاطمة على الباب: فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَة} الآية، [القصص: 83] ، ثم هدأ الصوت، فدخلوا فوجدوه قد قبض، رضي الله عنه. وقال هشام: لما جاء نعي عمر بن عبد العزيز قال الحسن البصري: مات خير الناس. وقال خالد الربعي: إنا نجد في التوراة أن السموات والأرض تبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحًا. وقال يوسف بن ماهك: بينا نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا كتاب رق من السماء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار 1. وقال قتادة: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ولي العهد من بعده: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر إلى يزيد بن عبد الملك، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني كتبت وأنا دنف من وجعي، وقد علمت أني مسئول عما وليت، يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة، ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئًا، فإن رضي عني فقد أفلحت ونجوت من الهوان الطويل، وإن سخط عليّ فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته، وأن يمن علي برضوانه والجنة؛ فعليك بتقوى الله، الرعية الرعية، فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلًا، والسلام2. أسند هذا كله أبو نعيم في الحلية. توفي عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- بدير سمعان -بكسر السين- من أعمال حمص لعشر بقين -وقيل: لخمس بقين- من رجب سنة إحدى ومائة، وله حينئذ تسع وثلاثون سنة وستة أشهر، وكانت وفاته بالسم، كانت بنو أمية قد تبرموا به؛ لكونه شدد عليهم وانتزع من أيديهم كثيرًا مما غصبوه، وكان قد أهمل التحرز فسقوه السم.   1 أخرجه أبو نعيم في الحلية "337/5". 2 أخرجه أبو نعيم في الحلية "274/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قال مجاهد: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما يقول الناس في؟ قلت: يقولون: مسحور، قال: ما أنا بمسحور، وإني لأعلم الساعة التي سقيت فيها، ثم دعا غلامًا له، فقال له: ويحك، ما حملك على أن تسقيني السم؟ قال: ألف دينار أعطيتها وعلي أن أعتق، قال: هاتها، قال: فجاء بها فألقاها في بيت المال، وقال: اذهب حيث لا يراك أحد. مات في أيامه من الأعلام: أبو أمامة سعد بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسالم بن أبي الجعد، وبسر بن سعيد، وأبو عثمان النهدي، وأبو الضحى، وشهر بن حوشب الشامي، وحنش بن عبد الله الصنعاني، ومسلم بن يسار البصري، وعيسى بن طلحة بن عبد الله القرشي التيمي أحد أشراف قريش وعقلائها وعلمائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يزيد بن عبد الملك بن مروان 1 يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو خالد، الأموي، الدمشقي. ولد سنة إحدى وسبعين، وولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان كما تقدم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما ولي يزيد قال: سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فأتى بأربعين شيخًا فشهدوا له ما على الخلفاء حساب ولا عذاب. وقال ابن الماجشون: لما مات عمر بن عبد العزيز قال يزيد: والله ما عمر بأحوج إلى الله مني، فأقام أربعين يومًا يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، ثم عدل عن ذلك. وقال سليم بن بشير: كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك حين احتضر: سلام عليك، أما بعد فإني لا أراني إلا لما بي، فالله الله في أمة محمد؛ فإنك تدع الدنيا لمن لا يحمدك، وتفضي إلى من لا يعذرك، والسلام. وفي سنة اثنتين خرج يزيد بن المهلب على الخلافة، فوجه إليه مسلمة بن عبد الملك بن مروان فهزم يزيد وقتل، وذلك بالعقير موضع بقرب كربلاء. قال الكلبي: نشأت وهم يقولون: ضحى بنو أمية يوم كربلاء بالدين، ويوم العقير بالكرم. مات يزيد في أواخر شعبان سنة خمس ومائة. وممن مات في خلافته من الأعلام: الضحاك بن مزاحم، وعدي بن أرطأة، وأبو المتوكل الناجي، وعطاء بن يسار، ومجاهد، ويحيى بن وثاب مقرئ الكوفة، وخالد بن معدان، والشعبي عالم العراق، وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وأبو قلابة الجرمي، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وآخرون.   1 تولى الخلافة 101هـ وحتى 105هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 هشام بن عبد الملك 1 هشام بن عبد الملك، أبو الوليد، ولد سنة نيف وسبعين واستخلف بعهد من أخيه يزيد.   1 تولى الخلافة 105هـ وحتى 125هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قال مصعب بن الزبير: رأى عبد الملك في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات فسأل سعيد بن المسيب: فقال: يملك من ولده لصلبه أربعة، فكان آخرهم هشام. وكان هشام حازمًا عاقلًا كان لا يدخل بيت ماله مالًا حتى يشهد أربعون قسامة، لقد أخذ من حقه، ولد أعطي لكل ذي حق حقه. وقال الأصمعي: أسمع رجل مرة هشامًا كلامًا، فقال له: يا هذا، ليس لك أن تسمع خليفتك. قال: وغضب مرة على رجل فقال: والله لقد هممت أن أضربك سوطًا. وقال سحبل بن محمد: ما رأيت أحدًا من الخلفاء أكره إليه الدماء ولا أشد عليه من هشام. وعن هشام أنه قال: ما بقي شيء من لذات الدنيا إلا وقد نلته إلا شيئًا واحدًا أخًا أرفع مؤنة التحفظ فيما بيني وبينه. وقال الشافعي: لما بنى هشام الرصافة بقنسرين أحب ألا يخلو يومًا لا يأتيه في غم، فما انتصف النهار حتى أتته ريشة بدم من بعض الثغور، فأوصلت إليه، فقال: ولا يومًا واحدًا. وقيل: إن هذا البيت له ولم يحفظ له سواه: إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال مات في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة. وفي سنة سبع من أيامه فتحت قيصرية الروم بالسيف، وفي سنة ثمانٍ فتحت خنجرة على يد البطال الشجاع المشهور، وفي سنة اثنتي عشرة فتحت خرشنة في ناحية ملطية. وممن مات في أيامه من الأعلام: سالم بن عبد الله بن عمر، وطاوس، وسليمان بن يسار، وعكرمة مولى ابن عباس، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكثير عزة الشاعر، ومحمد بن كعب القرظي، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الصحابي آخرهم موتًا، وجرير، والفرزدق، وعطية العوفي، ومعاوية بن قوة، ومكحول، وعطاء بن أبي رباح، وأبو جعفر الباقر، ووهب بن منبه، وسكينة بنت الحسين، والأعرج، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر، وابن عامر مقرئ الشام، وابن كثير مقرئ مكة، وثابت البناني، ومالك بن دينار، وابن محيصن المقرئ، وابن شهاب الزهري، وخلائق آخرون. ومن أخبار هشام: أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: أراد هشام بن عبد الملك أن يوليني خراج مصر، فأبيت، فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينه الحول، فنظر إليّ نظر منكر، وقال: لتلين طائعًا، أو لتلين كارهًا، فأمسكت عن الكلام حتى سكن غضبه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتكلم؟ قال: نعم، قلت: إن الله قال في كتابه العزيز: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} الآية [الأحزاب: 72] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فوالله يا أمير المؤمنين، ما غضب عليهن إذ أبين، ولا أكرهن إذ كرهن، وما أنا بحقيق أن تغضب علي إذ أبيت، وتكرهني إذا كرهت، فضحك وأعفاني. وأخرج عن خالد بن صفوان قال: وفدت على هشام بن عبد الملك، فقال: هات يابن صفوان: قلت: إن ملكًا من الملوك خرج متنزهًا إلى الخورنق، وكان ذا علم مع الكثرة والغلبة، فنظر وقال لجلسائه: لمن هذا؟ قالوا: للملك، قال: فهل رأيتم أحدًا أعطي مثل ما أعطيت؟ وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة فقال: إنك قد سألت عن أمر، أفتأذن لي بالجواب؟ قال: نعم، قال: أرأيت ما أنت فيه، أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثًا وهو زائل عنك إلى غيرك كما صار إليك؟ قال: كذا هو، قال: فتعجب بشيء يسير لا تكون فيه إلا قليلًا، وتنقل عنه طويلًا فيكون عليك حسابًا؟ قال: ويحك فأين المهرب؟ وأين المطلب؟ وأخذته قشعريرة، قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة الله بما ساءك وسرك، وإما أن تنخلع من ملكك، وتضع تاجك، وتلقي عنك أطمارك، وتعبد ربك، قال: إني مفكر الليلة وأوافيك السحر، فلما كان السحر قرع عليه بابه فقال: إني اخترت هذا الجبل وفلوات الأرض، وقد لبست على أمساحي، فإن كنت لي رفيقًا لا تخالف، فلزم الجبل حتى ماتا، وفيه يقول عدي بن زياد العبادي: أيها الشامت المعير بالدهـ ... ـر أأنت المبرأ الموفور؟ أم لديك العهد الوثيق من الأ ... يام؟ بل أنت جاهل مغرور من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير؟ أين كسرى كسرى الملوك أبو سا ... سان أم أين قبله سابور؟ وبنو الأصفر الكرام ملوك الـ ... روم، لم يبق منهم مذكور وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجـ ... لة تجبى إليه والخابور شاده مرمرًا، وجلله كل ... سا، فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون، فبالمـ ... لك عنه، فبابه مهجور وتذكر رب الخورنق إذ أشـ ... ـرف يومًا، وللهدى تذكير سره ماله، وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرض والسدير فارعوى قلبه، وقالك وما غبـ ... ـطة حتى إلى الممات يصير؟ ثم بعد الفلاح والملك والأ ... مة وارتهموا هناك القبور ثم طاروا كأنهم ورق جـ ... ـف فألوت به الصبا والدبور قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته، وأمر بابنتيه وطي فرشه، ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان وقالوا: ما أردت إلى أمير المؤمنين؟ أفسدت عليه لذته، فقال: إليكم عني، فإني عاهدت الله ألا أخلو بملك إلا ذكرته بالله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الوليد بن يزيد بن عبد الملك 1 الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، الخليفة الفاسق، أبو العباس.   1 تولى الخلافة 125هـ وحتى 126هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ولد سنة تسعين، فلما احتضر أبوه لم يمكنه أن يستخلفه؛ لأنه صبي، فعقد لأخيه هشام، وجعل هذا ولي العهد من بعد هشام، فتسلم الأمر عند موت هشام في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة. وكان فاسقًا، شريبًا للخمر، منتهكًا لحرمات الله، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة، فمقته الناس لفسقه، وخرجوا عليه فقتل في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين. وعنه أنه لما حوصر قال: ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع عنكم المؤن؟ ألم أعط فقراءكم؟ فقالوا: ما ننقم عليك في أنفسنا، لكن ننقم عليك انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. ولما قتل وقطع رأسه وجيء به يزيد الناقص نصبه على رمح، فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد، فقال: بعدًا له أشهد أنه كان شروبًا للخمر، ماجنًا، فاسقًا، ولد راودني على نفسي. وقال المعافى الجويري: جمعت شيئًا من أخبار الوليد ومن شعره الذي ضمنه له فجربه من خرقه وسخافته, وما صرح به من الإلحاد في القرآن والكفر بالله. وقال الذهبي: لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك. وذكر الوليد مرة عند المهدي فقال رجل: كان زنديقًا، فقال المهدي: مه، خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق. وقال مروان بن أبي حفصة: كان الوليد من أجمل الناس وأشدهم وأشعرهم. وقال أبو الزناد: كان الزهري يقدح أبدًا عن هشام في الوليد ويعيبه، ويقول: ما يحل لك إلا خلعه، فما يستطيع هشام، ولو بقي الزهري إلى أن يملك الوليد لفتك به. وقال الضحاك بن عثمان، أراد هشام أن يخلع الوليد ويجعل العهد لولده، فقال الوليد: كفرت يدًا من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن بالفضل والمن رأيتك تبني جاهدًا في قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني أراك على الباقين تجني ضغينة ... فيا ويحهم إن مت من شر ما تجني كأني بهم يومًا وأكثر قيلهم ... ألا ليت أنا حين يا ليت لا تغني وقال حماد الراوية: كنت يومًا عند الوليد، فدخل عليه منجمان، فقالا: نظرنا فيما أمرتنا فوجدناك تملك سبع سنين، قال حماد: فأردت أن أخدعه فقلت: كذبا ونحن أعلم بالآثار وضروب العلم، وقد نظرنا في هذا فوجدناك تملك أربعين سنة، فأطرق ثم قال: لا ما قالا يكسرني، ولا ما قلت يغرني، والله لأجبين المال من حلة جباية من يعيش الأبد، ولأصرفنه في حقه صرف من يموت الغد. وقد ورد في مسند أحمد حديث: "ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له: الوليد لهو أشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 على هذه الأمة من فرعون لقومه"1. وقال ابن فضل الله في المسالك: الوليد بن يزيد، الجبار العنيد، لقبًا ما عداه، ولقمًا سلكه فما هداه، فرعون ذلك العصر الذاهب، والدهر المملوء بالمعائب، يأتي يوم القيامة يقدم قومه فيوردهم النار، ويرديهم العار، وبئس الورد المورود، والمورد المردي في ذلك الموقف المشهود، رشق المصحف بالسهام، وفسق ولم يخفف الآثام. وأخرج الصولي عن سعيد بن سليم قال: أنشد ابن ميادة الوليد بن يزيد شعره الذي يقول فيه: فضلتم قريشًا، غير آل محمد ... وغير بني مروان أهل الفضائل فقال له الوليد: أراك قد قدمت علينا آل محمد، فقال ابن ميادة: ما أره يجوز غير ذلك، وابن ميادة هذا هو القائل في الوليد أيضًا من قصيدة طويلة: هممت بقول صادق أن أقوله ... وإني على رغم العداة لقائله رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا ... شديدًا بأعباء الخلافة كاهله   1 أخرجه أحمد في المسند "18/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 يزيد الناقص أبو خالد بن الوليد 1 يزيد الناقص، أبو خالد ابن الوليد بن عبد الملك، لقب بالناقص، لكونه نقص الجند من أعطياتهم، ووثب على الخلافة، وقتل ابن عمه الوليد، وتملك. وأمه شاهفرند بنت فيروز، بن يزدجرد، وأم فيروز بنت شيرويه بن كسرى، وأم شيرويه بنت خاقان ملك الترك، وأم فيرون بنت قيصر عظيم الروم، فلهذا قال يزيد يفتخر: أنا ابن كسرى، وأبي مروان ... وقيصر جدي، وجدي خاقان قال الثعالبي: أعرق الناس في الملك والخلافة من طرفيه. ولما قتل يزيدُ الوليدَ قام خطيبًا فقال: أما بعد، إني والله ما خرجت أشَرًا ولا بطَرًا ولا طمعًا ولا حرصًا على الدنيا ولا رغبة في الملك، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي ولكن خرجت غضبًا لله ولدينه، وداعيًا إلى كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- حين درست معالم الهدى، وطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار المستحل الحرمة، والراكب البدعة، فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيكم ظلمة لا تقلع عنكم على كثرة من ذنوبكم وقسوة من قلوبكم، وأشفقت أن يدعو كثيرًا من الناس إلى ما هو عليه فيجيبه، فاستخرت الله في أمري، ودعوت من أجابني من أهلي وأهل ولايتي، فأراح الله منه البلاد والعباد، ولاية من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أيها الناس، إن لكم عندي إن وليت أموركم ألا أضع لبنة ولا حجرًا على حجر ولا أنقل مالًا من بلد حتى أسد ثغره، وأقسم بين مصالحه ما تقوون به؛ فإن فضل رددته إلى البلد الذي يليه، حتى تستقيم المعيشة وتكونوا فيه سواء، فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت   1 تولى الخلافة 126هـ وحتى 126هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 لكم فأنا لكم، وإن ملت فلا بيعة لي عليكم، وإن رأيتم أحدًا أقوى مني عليها فأردتم بيعته فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته، وأستغفر الله لي ولكم. وقال عثمان بن أبي العاتكة: أول من خرج بالسلاح في العيدين يزيد بن الوليد، خرج يومئذ بين صفين من الخيل عليهم السلاح من باب الحصن إلى المصلى. وعن أبي عثمان الليثي، قال يزيد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا. وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي -رحمه الله- يقول: لما ولي يزيد بن الوليد دعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه، وقرب أصحاب غيلان. ولم يمتنع يزيد بالخلافة، بل مات من عامه في سابع ذي الحجة، فكانت خلافته ستة أشهر ناقصة، وكان عمره خمسًا وثلاثين سنة، وقيل: ستًا وأربعين سنة، ويقال: إنه مات بالطاعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك 1 إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، أبو إسحاق. بويع بالخلافة بعد موت أخيه يزيد الناقص، فقيل: إنه عهد إليه، وقيل: لا. قال برد بن سنان: حضرت يزيد بن الوليد وقد احتضر فأتاه قطن، فقال: أنا رسول من وراء بابك، يسألونك بحق الله لما وليت أمرهم أخاك إبراهيم، فغضب فقال: أنا أولي إبراهيم؟ ثم قال: يا أبا العلاء، إلى من ترى أعهد؟ قلت: أمر نهيتك عن الدخول فيه فلا أشير عليك في آخره. قال: وأغمى عليه حتى حسبته قد مات فقعد قطن، فافتعل كتابًا بالعهد على لسان يزيد ودعا ناسًا فاستشهدهم عليه، ولا والله ما عهد يزيد شيئًا. ومكث إبراهيم في الخلافة سبعين ليلة، ثم خلع، خرج عليه مروان بن محمد وبويع، فهرب إبراهيم، ثم جاء وخلع نفسه من الأمر، وسلمه إلى مروان، وبايع طائعًا. وعاش إبراهيم بعد ذلك إلى سنة اثنتين وثلاثين، فقتل فيمن قتل من بني أمية في وقعة السفاح. وفي تاريخ ابن عساكر: سمع إبراهيم من الزهري، وحكى عن عمه هشام، وحكى عنه ابنه يعقوب، وأمه أم ولد، وهو أخو مروان الحمار لأمه. وكان خلعه يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من صفر سنة سبع وعشرين ومائة. وقال المدائني: لم يتم لإبراهيم أمر، كان قوم يسلمون عليه بالخلافة، وقوم يسلمون بالإمرة، وأبى قوم أن يبايعوا له، وقال بعض شعرائهم:   1 تولى الخلافة 126هـ وحتى 127هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 نبايع إبراهيم في كل جمعة ... ألا إن أمرا أنت واليه ضائع وقال غيره: كان نقش خاتم إبراهيم: إبراهيم يثق بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مروان الحمار 1 مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية، أبو عبد الملك بن محمد بن مروان بن الحكم، ويلقب بالجعدي نسبة إلى مؤدبه الجعد بن درهم، وبالحمار؛ لأنه لا يجف له لبد في محاربة الخارجين عليه. كان يصل السير بالسير، ويصبر على مكاره الحرب، ويقال في المثل: فلان أصبر من حمار في الحروب؛ فلذلك لقب به. وقيل: لأن العرب تسمى كل مائة سنة حمارًا، فلما قارب ملك بني أمية مائة سنة لقبوا مروان بالحمار لذلك. ولد مروان بالجزيرة وأبوه متوليها سنة اثنتين وسبعين، وأمه أم ولد، وولي قبل الخلافة ولايات جليلة، وافتتح قونية سنة خمس ومائة، وكان مشهورًا بالفروسية، والإقدام، والرجولة، والدهاء، والعسف، فلما قتل الوليد وبلغه ذلك وهو على أرمينية دعا إلى بيعة من رضيه المسلمون فبايعوه، فلما بلغه موت يزيد أنفق الخزائن، وسار فحارب إبراهيم فهزمه، وبويع مروان وذلك في نصف صفر سنة سبع وعشرين، واستوثق له الأمر، فأول ما فعل أمر بنبش يزيد الناقص، فأخرجه من قبره وصلبه لكونه قتل الوليد. ثم إنه لم يتهنَ بالخلافة؛ لكثرة من خرج عليه من كل جانب إلى سنة اثنتين وثلاثين، فخرج عليه بنو العباس، وعليهم عبد الله بن علي عم السفاح فسار لحربهم، فالتقى الجمعان بقرب الموصل، فانكسر مروان، فرجع إلى الشام، فتبعه عبد الله، ففر مروان إلى مصر، فتبعه صالح أخو عبد الله، فالتقيا بقرية بوصير، فقتل مروان بها في ذي الحجة من السنة. ومات في أيامه من الأعلام: السدي الكبير، ومالك بن دينار الزاهد، وعاصم بن أبي النجود المقري، ويزيد بن أبي حبيب، وشيبة بن نصاح المقري، ومحمد بن المنكدر، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع مقرئ المدينة، وأبو أيوب السختياني، وأبو الزناد، وهمام بن منبه، وواصل بن عطاء المعتزلي. وأخرج الصولي عن محمد بن صالح قال: لما قتل مروان الحمار قطع رأسه ووجه به إلى عبد الله بن علي فنظر إليه وغفل، فجاءت هرة، فاقتلعت لسانه وجعلت تمضغه، فقال عبد الله بن علي: لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم هرة لكفانا ذلك.   1 تولى الخلافة 127هـ وحتى 132هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 عهد بني العباس في العراق السفاح أول خلفاء بني العباس ... عهد بني العباس بالعراق: السفاح أول خلفاء بني العباس1 السفاح أول خلفاء بني العباس: أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم. ولد سنة ثمانٍ ومائة -وقيل: سنة أربع- بالحميمة من ناحية البلقاء، ونشأ بها، وبويع بالكوفة وأمه ريطة الحارثية. حدث عن أخيه إبراهيم بن محمد الإمام، وروى عنه عمه عيسى بن علي، وكان أصغر من أخيه المنصور. أخرج أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن، يقال له: السفاح فيكون إعطاؤه المال حثيا" 2. وقال عبيد الله العيشي: قال أبي: سمعت الأشياخ يقولون: والله لقد أفضت الخلافة إلى بني العباس وما في الأرض أحد أكثر قارئًا للقرآن، ولا أفضل عابدًا ولا ناسكًا منهم. قال ابن جرير الطبري: كان بدء أمر بني العباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم العباس عمه أن الخلافة تئول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك. وعن رشدين بن كريب: أن أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية خرج إلى الشام، فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال: يابن عم، إن عندي علمًا أريد أن أنبذه إليك، فلا تطلعن عليه أحدًا، إن هذا الأمر الذي ترتجيه الناس فيكم، قال: قد علمته فلا يسمعنه منك أحد. وروى المدائني عن جماعة أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال: لنا ثلاثة أوقات: موت يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق بإفريقية فعند ذلك تدعو لنا دعاة، ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم بالمغرب، فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية، ونقضت البربر بعث محمد الإمام رجلًا إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا من آل محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا يسمّي أحدًا، ثم وجه أبا مسلم الخراساني وغيره، وكتب إلى النقباء فقبلوا كتبه، ثم لم ينشب أن مات محمد، فعهد إلى ابنه إبراهيم، فبلغ خبره مروان، فسجنه، ثم قتله، فعهد إلى أخيه عبد الله، وهو السفاح، فاجتمع إليه شيعتهم، وبويع بالخلافة بالكوفة في ثالث ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وصلى بالناس الجمعة، وقال في الخطبة: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا   1 تولى الخلافة 132هـ وحتى 136هـ. 2 أخرجه أحمد في المسند "80/3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به الذابين عنه، ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن، إلى أن قال: فلما قبض الله نبيه قام بالأمر أصحابه إلى أن وثب بنو حرب ومروان فجاروا واستأثروا فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فانتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، لم تفتروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدت في أعطياتكم مائة مائة؛ فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير. وكان عيسى بن علي إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول: إن أربعة عشر رجلًا خرجوا من دارهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم، شديدة قلوبهم، ولما بلغ مروان مبايعة السفاح خرج لقتاله فانكسر كما تقدم، ثم قتل، وقتل في مبايعة السفاح من بني أمية وجندهم ما لا يحصى من الخلائق، وتوطدت له الممالك إلى أقصى المغرب. قال الذهبي: بدولته تفرقت الجماعة، وخرج عن الطاعة ما بين تاهرت وطبنة إلى بلاد السودان، وجميع مملكة الأندلس، وخرج بهذه البلاد من تغلب عليها واستمر ذلك. مات السفاح بالجدري في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة، وكان قد عهد إلى أخيه أبي جعفر، كان في سنة أربع وثلاثين قد انتقل إلى الأنبار، وصيرها دار الخلافة. ومن أخبار السفاح، قال الصولي: من كلامه: إذا عظمت القدرة قلت الشهوة، وقل تبرع إلا معه حق مضاع، وقال: إن من أدنياء الناس ووضعائهم من عدّ البخل حزمًا، والحلم ذلًّا، وقال: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة، والصبر حسن إلا على ما أوقع الدين وأوهن السلطان، والأناة محمودة إلا عند إمكان الفرصة. قال الصولي: وكان السفاح أسخى الناس، ما وعد عدة فأخرها عن وقتها، ولا قام من مجلسه حتى يقضيها، وقال له عبد الله بن حسن مرة: سمعت بألف ألف درهم وما رأيتها قط، فأمره بها فأحضرت، وأمر بحملها معه إلى منزله. قال: وكان نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله وبه يؤمن. وقل ما يروى له من الشعر. وقال سعيد بن مسلم الباهلي: دخل عبد الله بن حسن على السفاح مرة، والمجلس غاص ببني هاشم والشيعة ووجوه الناس، ومعه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال له: إن عليًّا جدك كان خيرًا مني وأعدل، ولي هذا الأمر، أفأعطى جديك الحسن والحسين -وكان خيرًا منك- شيئًا؟ وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، فانصرف ولم يحر جوابًا، وعجب الناس من جواب السفاح. قال المؤرخون: في دولة بني العباس افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الديوان، وأدخل الأتراك في الديوان، واستولت الديلم، ثم الأتراك وصارت لهم دولة عظيمة، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف، ويملكهم بالقهر. قالوا: وكان السفاح سريعًا إلى سفك الدماء، فأتبعه في ذلك عماله في المشرق والمغرب، وكان مع ذلك جوادًا بالمال. مات في أيامه من الأعلام: زيد بن أسلم، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وربيعة الرأي فقيه أهل المدينة، وعبد الملك بن عمير، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرمي وعبد الحميد الكاتب المشهور، قتل ببوصير مع مروان، ومنصور بن المعتمر، وهمام بن منبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 المنصور أبو جعفر عبد الله 1 المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأمه سلامة البربرية أم ولد، ولد سنة خمس وتسعين، وأدرك جده ولم يرو عنه. وروى عن أبيه، وعن عطاء بن يسار، وعنه ولده المهديّ، وبويع بالخلافة بعهد من أخيه، وكان فحل بني العباس هيبة وشجاعة وحزمًا ورأيًا وجبروتًا، جماعًا للمال، تاركًا اللهو واللعب، كامل العقل، جيد المشاركة في العلم والأدب، فقيه النفس، قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه، وهو الذي ضرب أبا حنيفة -رحمه الله- على القضاء، ثم سجنه، فمات بعد أيام، وقيل: إنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه، وكان فصيحًا بليغًا، مفوّهًا، خليقًا للإمارة، وكان غاية في الحرص والبخل، فلقب: أبا الدوانيق، لمحاسبته العمال والصناع على الدوانيق والحبات. أخرج الخطيب عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "منا السفاح، ومنا المنصور، ومنا المهدي" 2. قال الذهبي: منكر منقطع. وأخرج الخطيب وابن عساكر وغيرهما من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: منا السفاح، ومنا المنصور، ومنا المهدي3. قال الذهبي: إسناده صالح. وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن محمد بن جابر عن الأعمش عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "منا القائم، ومنا المنصور، ومنا السفاح، ومنا المهدي، فأما القائم فتأتيه الخلافة ولم يهرق فيها محجمة دم4، وأما المنصور فلا تلد له راية، وأما السفاح فهو يسفح المال والدم، وأما المهدي فيملؤها عدلًا كما ملئت ظلمًا" 5. وعن المنصور قال: رأيت كأني في الحرم، وكأن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في   1 تولى الخلافة 136هـ وحتى 158هـ. 2 أخرجه الخطيب في تاريخه "63/1". 3 أخرجه الخطيب وأبو نعيم في الدلائل وابن عساكر "38687/14 كنز". 4 محجمة من دم: المحجمة: القارورة، وقد "احتجم" من الدم. انظر: مختار الصحاح "124". 5 أخرجه الخطيب في تاريخه "399/9". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الكعبة وبابها مفتوح، فنادى منادٍ: أين عبد الله؟ فقام أخي أبو العباس حتى صار على الدرجة، فأدخل، فما لبث أن خرج ومعه قناة عليها لواء أسود قدر أربعة أذرع، ثم نودي: أين عبد الله؟ فقمت على الدرجة، فأصعدت وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وعمر، وبلال، فعقد لي، وأوصاني بأمته، وعممني بعمامة، فكان كورها ثلاثة وعشرين، وقال: خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة. تولى المنصور الخلافة في أول سنة سبع وثلاثين ومائة، فأول ما فعل أن قتل أبا مسلم الخراساني صاحب دعوتهم وممهّد مملكتهم. وفي سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة كان دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي إلى الأندلس، واستولى عليها، وامتدت أيامه، وبقيت الأندلس في يد أولاده، إلى بعد الأربعمائة، وكان عبد الرحمن هذا من أهل العلم والعدل، وأمه بربرية. قال أبو المظفر الأبيوردي: فكانوا يقولون: ملك الدنيا ابنا بربريتين: المنصور، وعبد الرحمن بن معاوية. وفي سنة أربعين شرع في بناء مدينة بغداد. وفي سنة إحدى وأربعين كان ظهور الراوندية القائلين بالتناسخ؛ فقتلهم المنصور، وفيها فتحت طبرستان. قال الذهبي: في سنة ثلاث وأربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث، والفقه، والتفسير، فصنف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن، وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة -رحمه الله- الفقه والرأي، ثم بعد يسير صنف هشيم، والليث، وابن لهيعة، ثم ابن المبارك وأبو يوسف، وابن وهب، وكثر تدوين العلم وتبويبه، ودونت كتب العربية، واللغة، والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة. وفي سنة خمس وأربعين كان خروج الأخوين محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فظفر بهما المنصور فقتلهما وجماعة كثيرة من آل البيت، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبل شيئًا واحدًا، وآذى المنصور خلقًا من العلماء ممن خرج معهما أو أمر بالخروج قتلًا وضربًا وغير ذلك: منهم أبو حنيفة، وعبد الحميد بن جعفر وابن عجلان، وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس -رحمه الله- وقيل: إن في أعناقنا بيعة للمنصور، قال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين. وفي سنة ست وأربعين كانت غزوة قبرص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وفي سنة سبع وأربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد، وكان السفاح عهد إليه من بعد المنصور، وكان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما، فكافأه بأن خلعه مكرهًا، وعهد إلى ولده المهدي. وفي سنة ثمانٍ وأربعين توطّدت الممالك كلها للمنصور، وعظمة هيبته في النفوس، ودانت له الأمصار، ولم يبقَ خارجًا عنه سوى جزيرة الأندلس فقط، فإنها غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني، لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل الأمير فقط، وكذلك بنوه. وفي سنة تسع وأربعين فرغ من بناء بغداد. وفي سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير أستاذسيس، واستولى على أكثر مدن خراسان، وعظم الخطب، واستفحل الشر، واشتد على المنصور الأمر، وبلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، فعمل معهم أجشم المروزي مصافًا، فقتل أجشم واستبيح عسكره، فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش عرمرم1 يسدّ الفضاء، فالتقى الجمعان، وصبر الفريقان، وكانت وقعة مشهورة يقال: قتل فيها سبعون ألفًا، وانهزم أستاذسيس فالتجأ إلى جبل، وأمر الأمير خازم في العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم، وكانوا أربعة عشر ألفًا، ثم حاصروا أستاذسيس مدة، ثم سلم نفسه فقيدوه وأطلقوا أجناده، وكان عددهم ثلاثين ألفًا، انتهى. وفي سنة إحدى وخمسين بنى الرصافة وشيدها. وفي سنة ثلاث وخمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال، فكانوا يعملونها بالقصب والورق ويلبسونها السواد، فقال أبو دلامة. وكنا نرجّى من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جلّلت بالبرانس وفي سنة ثمانٍ وخمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري، وعباد بن كثير، فحبسا، وتخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج، فلم يوصله الله مكة سالِمًا، بل قدم مريضًا ومات، وكفاهما الله شره، وكانت وفاته بالبطن في ذي الحجة ودفن بين الحجون وبين بئر ميمون، وقال سلم الخاسر: قفل الحجيج وخلفوا ابن محمد ... رهنًا بمكة في الضريح الملحد شهدوا المناسك كلها وإمامهم ... تحت الصفائح2 محرمًا لم يشهد ومن أخبار المنصور، أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة، فبينا هو يدخل منزل من المنازل قبض عليه صاحب الرّصد، فقال: زن   1 جيش عرمرم: أي كثير العدد. 2 الصفائح: هي السيوف العريضة في الجيش: انظر القاموس "243/1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 درهمين قبل أن تدخل: قال: خلِّ عني فإني رجل من بني هاشم، قال: زن درهمين، فقال: خل عني فإني من بني عم النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: زن درهمين، قال: خلِّ عني فإني رجل قارئ لكتاب الله، قال: زن درهمين، قال: خل عني فإني رجل عالم بالفقه والفرائض، قال: زن درهمين، فلما أعياه أمره وزن الدرهمين، فرجع ولزم جمع المال والتدنق فيه حتى لقب بأبي الدوانيق. وأخرج عن الربيع بن يونس الحاجب قال: سمعت المنصور يقول: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان وعلي، والملوك أربعة: معاوية، وعبد الملك، وهشام، وأنا. وأخرج عن مالك بن أنس قال: دخلت على أبي جعفر المنصور فقال: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: أبو بكر وعمر، قال: أصبت وذلك رأي أمير المؤمنين. وأخرج عن إسماعيل الفهري قال: سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في خطبته: أيها الناس، إنما أن سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلًا، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم في كتابه إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل، فإنه سميع مجيب. وأخرجه الصولي، وزاد في أوله أن سبب هذه الخطبة أن الناس بَخّلوه، وزاد في آخره: فقال بعض الناس: أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه. وأخرج عن الأصمعي وغيره أن المنصور صعد المنبر فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، اذكر من أنت في ذكره، فقال: مرحبًا مرحبًا، لقد ذكرت جليلًا، وخوفت عظيمًا، وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، والموعظة منا بدت، ومن عندنا خرجت، وأنت يا قائلها فاحلف بالله ما الله أردت بها، وإنما أردت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر فأهون بها من قائلها، واهتبلها من الله، ويلك إني قد غفرتها، وإياكم معشر الناس وأمثالها ... وأشهد أن محمد عبده ورسوله، فعاد إلى خطبته فكأنه يقرؤها في قرطاس. وأخرج من طرق أن المنصور قال لابنه المهدي: يا أبا عبد الله، الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلًا من ظلم من هو دونه. وقال: لا تبرمنّ أمرًا حتى تفكر فيه؛ فإن فكرة العاقل مرآته تريه قبيحه وحسنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وقال: أي بنيّ استدم النعمة بالشكر، والمقدرة بالعفو، والطاعة بالتأنف، والنصر بالتواضع والرحمة للناس. وأخرج عن مبارك بن فضالة قال: كنا عند المنصور، فدعا برجل ودعا بالسيف، فقال المبارك، يا أمير المؤمنين، سمعت الحسن يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا كان يوم القيامة قام منادٍ من عند الله ينادي: ليقم الذين أجرهم على الله؛ فلا يقوم إلا من عفا". فقال المنصور: خلّوا سبيله. وأخرج عن الأصمعي قال: أتى المنصور برجل يعاقبه، فقال: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدل، والتجاوز فضل، ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين، فعفا عنه. وأخرج عن الأصمعي قال: لقي المنصور أعرابيًّا بالشام، فقال: أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت، قال: إن الله لا يجمع علينا حشفًا وسوء كيل، ولايتكم والطاعون؟. وأخرج عن محمد بن منصور البغدادي قال: قام بعض الزهاد بين يدي المنصور فقال: إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشترِ نفسك ببعضها، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده، فأفحم المنصور وأمر له بمال، فقال: لو احتجت إلى مالك ما وعظتك. وأخرج عن عبد السلام بن حرب: أن المنصور بعث إلى عمرو بن عبيد، فجاءه فأمر له بمال، فأبى أن يقبله، فقال له المنصور: والله لتقبلنه، فقال: والله لا أقبله، فقال له المهدي: قد حلف أمير المؤمنين، فقال: أمير المؤمنين أقوى على كفارة اليمين من عمك، فقال له المنصور: سل حاجتك؟ قال: أسألك ألا تدعوني حتى آتيك، ولا تعطيني حتى أسألك، فقال: علمت أني جعلت هذا وليّ عهدي؟ فقال: يأتيه الأمر يوم يأتيه وأنت مشغول. وأخرج عن عبد الله بن صالح قال: كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أخرجها من يده إلا ببينة، فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد، فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق، فلما جاءه الكتاب قال: ملأتها والله عدلًا، وصار قضاتي تردني إلى الحق. وأخرج من وجه آخر أن المنصور وشى إليه بسوار، فاستقدمه، فعطس المنصور، فلم يشمّته سوار، فقال: ما يمنعك من التشميت؟ قال: لأنك لم تحمد الله، فقال: قد حمدت في نفسي، قال: شَمّتك في نفسي قال: ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لم تحابِ غيري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وأخرج عن نمير المدني قال: قدم المنصور المدينة، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه، وأنا كاتبه، فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء، فأمرني أن أكتب إليه بالحضور وإنصافهم، فاستعفيت فلم يعفني، فكتبت الكتاب ثم ختمته، وقال: والله لا يمضي بك غيرك، فمضيت به إلى الربيع، فدخل عليه ثم خرج، فقال للناس: إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا يقومنّ معي أحد، ثم جاء هو والربيع، فلم يقم له القاضي، بل حلّ رداءه واحتبى به، ثم دعا بالخصوم، فادّعوا، فقضى لهم على الخليفة، فلما فرغ قال له المنصور، جزاك الله عن دينك أحسن الجزاء قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار. وأخرج عن محمد بن حفص العجلي قال: ولد لأبي دلامة ابنة، فغدا على المنصور فأخبره، وأنشد: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس ثم أخرج أبو دلامة خريطة1، فقال المنصور: ما هذه؟ قال: اجعل فيها ما تأمر لي به، فقال: املئوها دراهم، فوسعت ألفي درهم. وأخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال: قيل للمنصور: هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة، أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، يقول المستملي، من ذكرت رحمك الله، قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما هم الدّنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، برد الآفاق، ونقلة الحديث. وأخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمح بالعفو، قال: لأن بني مروان لم تبلَ رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقةً واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة. وأخرج عن يونس بن حبيب قال: كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه وأرزاقه، وأبلغ في كتابه؛ فوقع المنصور في القصة: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه، وأمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك، فاكتف بالبلاغة. وأخرج عن محمد بن سلام قال: رأت جارية المنصور قميصه مرقوعًا، فقالت: خليفة وقميصه مرقوع فقال: ويحك أما سمعت قول ابن هرمة: قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق، وجيب قميصه مرقوع   1 الخريطة: وعاء من أدم وغيره، انظر: القاموس المحيط "370/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وقال العسكري في الأوائل: كان المنصور في ولد العباس كعبد الملك في بني أمية في بخله، رأى بعضهم عليه قميصًا مرقوعًا، فقال: سبحان من ابتلى أبا جعفر بالفقر في ملكه وحدا به سلم الحادي، فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة فأجازه بنصف درهم، فقال: لقد حدوت بهشام، فأجازني بعشرة آلاف، فقال: ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال يا ربيع وكّل به من يقبضها منه، فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهابًا وإيابًا بغير شيء. وفي كتاب الأوائل للعسكري: كان ابن هرمة شديد الرغبة في الخمر، فدخل على المنصور فأنشده: له لحظات من خفا في سريرة ... إذا كرهًا فيها عقاب ونائل فأمّ الذي أمّنت آمنة الردى ... وأمّ الذي حاولت بالثكل ثاكل فأعجب به المنصور، وقال: ما حاجتك؟ قال: تكتب إلى عاملك بالمدينة ألا يحدّني إذا وجدني سكران، فقال: لا أعطل حدًّا من حدود الله، قال: تحتال لي، فكتب إلى عامله: من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة، واجلد ابن هرمة ثمانين. فكان العون إذا مر به وهو سكران، يقول: من يشتري مائة بثمانين؟! ويتركه ويمضي. قال: وأعطاه المنصور في هذه المرة عشرة آلاف درهم، وقال له: يا إبراهيم احتفظ بها؛ فليس لك عندنا مثلها، فقال: إني ألقاك على الصراط بختمة الجهبذ. ومن شعر المنصور، وشعره قليل: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإنّ فساد الرأي أن تترددا ولا تمهل الأعداء يومًا بقدرة ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي: كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة، فأدخلني منزله، فقدّم إليّ طعامًا لا لحم فيه ثم قال: يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟ قالت: لا، فاستلقى وقرأ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129] فلما ولي الخلافة وفدتُ إليه فقال: كيف سلطاني من سلطان بني أمية؟ قلت: ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئًا إلا رأيته في سلطانك، فقال: إنا لا نجد الأعوان، قلت: قال عمر بن عبد العزيز: إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برًّا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرًا أتوه بفجورهم، فأطرق. ومن كلام المنصور: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة خلال: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. أسنده الصولي. وقال: إذا مدّ عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبّلها، أسنده أيضًا. وأخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: مما يؤثر من ذكاء المنصور أنه دخل المدينة فقال للربيع: اطلب لي رجلًا يعرفني دور الناس، فجاءه رجل، فجعل يعرفه الدور، إلا أنه لا يبتدئ به حتى يسأله المنصور، فلما فارقه أمر له بألف درهم، فطالب الرجل الربيع بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فقال: ما قال لي شيئًا، وسيركب فذكره، فركب مرة أخرى، فجعل يعرفه، ولا يرى موضعًا للكلام، فلما أراد أن يفارقه قال الرجل مبتدئًا، وهذه يا أمير المؤمنين دار عاتكة التي يقول فيها الأحوص: يا بيت عاتكة الذي أتغزل ... حذر العدى وبك الفؤاد موكل فأنكر المنصور ابتداءه، فأمرّ القصيدة على قلبه فإذا فيها: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل فضحك وقال: ويلك يا ربيع أعطه ألف درهم. وأسند الصولي عن إسحاق الموصلي قال: لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب ولا غناء، بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة، وبينهم وبينها عشرون ذراعًا، وبينهما وبينه كذلك، وأول من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهدي. وأخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: قال المنصور لقثم بن العباس بن عبد الله بن العباس، وكان عامله على اليمامة والبحرين: ما القثم؟ ومن أي شيء أخذ؟ فقال: لا أدري، فقال: اسمك اسم هاشمي لا تعرفه؟ أنت والله جاهل، قال: فإن رأى أمير المؤمنين أن يفيدينه، قال: القثم الذي ينزل بعد الأكل ويقثم الأشياء يأخذها ويثلمها. روي أن المنصور ألَحّ عليه ذباب، فطلب مقاتل بن سليمان، فسأله: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به الجبارين. وقال محمد بن علي الخراساني: المنصور أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية بالعربية، ككتاب كليلة ودمنة، وإقليدس، وهو أول من استعمل مواليه على الأعمال وقدمهم على العرب، وكثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة العرب وقيادتها، وهو أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد علي، وكان قبل ذلك أمرهم واحدًا. أحاديث من رواية المنصور: قال الصولي: كان المنصور أعلم الناس بالحديث والأنساب، مشهورًا بطلبه، قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، حدثنا أبو محمد الجوهري، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن الشخير، حدثنا أحمد بن إسحاق أبو بكر الملحمي، حدثنا أبو عقيل أنس بن سلم الأنطرطوشي، حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، عن المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه عن جده، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يتختّم في يمينه"1. وقال الصولي: حدثنا محمد بن زكريا اللؤلؤي، حدثنا جهم بن السباق الرياحي، حدثني بشر بن المفضل، سمعت الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور   1 أخرجه ابن عساكر في تاريخه "17402/6 كنز"، وأبو داود "4229/4"، والترمذي "1742/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تأخر عنها هلك" 1. وقال الصولي: حدثنا محمد بن موسى، حدثنا سليمان بن أبي شيخ، حدثنا أبو سفيان الحميري، سمعت المهدي يقول: حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرنا أميرًا وفرضنا له فرضًا، فما أصاب من شيء فهو غلول". وقال الصولي: حدثنا جبلة بن محمد، حدثنا أبي، عن يحيى بن حمزة الحضرمي، عن أبيه قال: ولاني المهدي القضاء، فقال: اصلب في الحكم، فإني أبي حدثني عن أبيه، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلومًا يقدر أن ينصره فلا يفعل". وقال الصولي حدثنا محمد بن العباس بن الفرج حدثني أبي، عن الأصمعي حدثني جعفر بن سليمان، عن المنصور، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" 2. وقال الصولي: حدثنا أبو إسحاق محمد بن هارون بن عيسى، حدثنا الحسن بن عبيد الله الحصيبي، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثني المأمون، عن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: لا تسافروا في محاق الشهر، ولا إذا كان القمر في العقرب. مات في أيام المنصور من الأعلام: ابن المقفع، وسهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن، وخالد بن يزيد المصري الفقيه، وداود بن أبي هند، وأبو حازم سلمة بن دينار الأعرج، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني، ويونس بن عبيد، وسليمان الأحول، وموسى بن عقبة صاحب المغازي، وعمرو بن عبيد المعتزلي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والكلبي، وأبو إسحاق، وجعفر بن محمد الصادق، والأعمش، وشبل بن عباد مقرئ مكة، ومحمد بن عجلان المعدني الفقيه، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وابن جريج، وأبو حنيفة، وحجاج بن أرطأة، وحَمّاد الراوية، ورؤبة الشاعر، والجريري، وسليمان بن التميمي، وعاصم الأحول، وابن شبرمة الضبي، ومقاتل بن حبان، ومقاتل بن سليمان، وهاشم بن عروة، وأبو عمرو بن العلاء، وأشعب الطماع، وحمزة بن حبيب الزيات، والأوزاعي، وخلائق آخرون.   1 أخرجه الطبراني في الكبير "2638/3"، وأبو نعيم في الحلية "306/4"، والحاكم في المستدرك "343/2". 2 أخرجه الخطيب في تاريخه "271/10، 271/11"، والطبراني في الكبير "11621/11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 المهدي: أبو عبد الله محمد بن المنصور 1 المهدي: أبو عبد الله محمد بن المنصور: ولد بأيذج سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل:   1 تولى الخلافة 158هـ وحتى 169هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 سنة ست وعشرين، وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية. وكان جوادًا ممدّحًا مليح الشكل، محببًا إلى الرعية، حسن الاعتقاد، تتبّع الزنادقة، وأفنى منهم خلقًا كثيرًا، وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين، روى الحديث عن أبيه، وعن مبارك بن فضالة، حدث عنه يحيى بن حمزة، وجعفر بن سليمان الضبعي، ومحمد بن عبد الله الرقاشي، وأبو سفيان سعيد بن يحيى الحميري، قال الذهبي: وما علمت قيل فيه جرحًا ولا تعديلًا. وأخرج ابن عدي من حديث عثمان مرفوعًا: "المهدي من ولد العباس عمي" 1 تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم، وكان يضع الحديث، وأورد الذهبي هنا حديث ابن مسعود مرفوعًا: "المهدي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي" 2 أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. ولما شبّ المهدي أمّره أبوه على طبرستان وما والاها، وتأدب، وجالس العلماء وتميز، ثم إن أباه عهد إليه، فلما مات بويع بالخلافة، ووصل الخبر إليه ببغداد، فخطب الناس فقال: إن أمير المؤمنين عبد دعي فأجاب، وأمر فأطاع واغرورقت عيناه، فقال: قد بكى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عند فراق الأحبة، ولقد فارقت عظيمًا، وقلّدت جسيمًا، فعند الله أحتسب أمير المؤمنين، وبه أستعين على خلافة المسلمين، أيها الناس أسرّوا مثل ما تعلنون من طاعتكم نهبكم العافية، وتحمدوا العاقبة، واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم وطوى الإصر3 عنكم، وأهال عليكم السلامة من حيث رآه الله مقدمًا ذلك، والله لأفنين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم. قال نفطويه: لما حصلت الخزائن في يدي المهدي أخذ في رد المظالم؛ فأخرج أكثر الذخائر ففرقها، وبر أهله ومواليه. وقال غيره: أول من هنأ المهدي بالخلافة وعزّاه بأبيه أبو دلامة، فقال: عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلى4، وأخرى تذرف تبكي وتضحك تارة، ويسوؤها ... ما أنكرت، ويسرها ما تعرف فيسوؤها موت الخليفة محرم ... ويسرها أن قام هذا الأرأف ما إن رأيت كما رأيت، ولا أرى ... شعرًا أسرحه وآخر ينتف هلك الخليفة يا لدين محمد ... وأتاكم من بعده من يخلف أهدى لهذا الله فضل خلافة ... ولذاك جنات النعيم تزخرف   1 أخرجه ابن عدي في الكامل "196/3". 2 أخرجه أبو داود "4282/4"، والترمذي "2231/4". وقال أبو عيسى: حسن صحيح. 3 الإصر: يطلق الإصر على العهد، والذنب أيضًا الثقل. انظر: مختار الصحاح "18". 4 جذلي: الجذل: الفرح أي فرحة مسرورة. انظر: مختار الصحاح "97". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وفي سنة تسع وخمسين بايع المهدي بولاية العهد لموسى الهادي، ثم من بعده لهارون الرشيد، ولديه. وفي سنة ستين فتحت أربد من الهند عنوة؛ وفيها حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة أنهم يخافون هدمها؛ لكثرة ما عليها من الأستار، فأمر بها فجردت، واقتصر على كسوة المهدي، وحمل المهدي الثلج إلى مكة، قال الذهبي: لم يتهيأ ذلك لملك قط. وفي سنة إحدى وستين أمر المهدي بعمارة طريق مكة، وبنى بها قصورًا، وعمل البرك، وأمر بترك المقاصير التي في جوامع الإسلام، وقصر المنابر، وصيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي سنة ثلاث وستين وما بعدها كثرت الفتوح بالروم. وفي سنة ست وستين تحول المهدي إلى قصره المسمى بعيساباذ، وأمر فأقيم له البريد من المدينة النبوية، ومن اليمن ومكة إلى الحضرة، بغالًا وإبلًا. قال الذهبي: وهو أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق. وفيها وفيما بعدها جدّ المهدي في تتبع الزنادقة، وإبادتهم، والبحث عنهم في الآفاق والقتل على التهمة. وفي سنة سبع وستين أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام، وأدخل في ذلك دورًا كثيرة. وفي سنة تسع وستين مات المهدي: ساق خلف صيد، فاقتحم الصيد خربة، وتبعه الفرس فدق ظهره في بابها، فمات لوقته، وذلك لثمانٍ بقين من المحرم، وقيل: إنه مات مسمومًا. وقال سلم الخاسر يرثيه: وباكية على المهدي عبري ... كأن بها، وما جنت جنونًا وقد خمشت محاسنها، وأبدت ... غدائرها، وأظهرت القرونا لئن بلى الخليفة بعد عز ... لقد أبقى مساعي ما بلينا سلام الله عدة كل يوم ... على المهدي حين ثوى رهينا تركنا الدين والدنيا جميعًا ... بحيث ثوى أمير المؤمنينا ومن أخبار المهدي قال الصولي: لما عقد المهدي العهد لولده موسى قال مروان بن أبي حفصة: عقدت لموسى بالرصافة بيعة ... شد الإله بها عرى الإسلام موسى الذي عرفت قريش فضله ... ولها فضيلتها على الأقوام بمحمد بعد النبي محمد ... حي الحلال ومات كل حرام مهدي أمته الذي أمست به ... للذل آمنة وللإعدام موسى ولي عهد بالخلافة بعده ... جفت بذاك مواقع الأقلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقال آخر: يابن الخليفة إن أمة أحمد ... تاقت إليك بطاعة أهواؤها ولتملأن الأرض عدلًا كالذي ... كانت تحدث أمة علماؤها حتى تمنى لو ترى أمواتها ... من عدل حكمك ما ترى أحياؤها فعلى أبيك اليوم بهجة ملكها ... وغدًا عليك إزارها ورداؤها وأسند الصولي أن امرأة اعترضت المهدي، فقالت: يا عصبة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- انظر في حاجتي: فقال المهدي: ما سمعتها من أحد قط، اقضوا حاجتها. وأعطوها عشرة آلاف درهم. وقال قريش الختلي: رفع صالح بن عبد القدوس البصري إلى المهدي في الزندقة، فأراد قتله، فقال: أتوب إلى الله، وأنشد لنفسه: ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه فصرفه، فلما قرب من الخروج ردّه، فقال: ألم تقل: والشيخ لا يترك أخلاقه؟ قال: بلى، قال: فكذلك أنت لا تدع أخلاقك حتى تموت، ثم أمر بقتله. وقال زهير: قدم على المهدي بعشرة محدثين: منهم فرج بن فضالة، وغياث بن إبرهيم -وكان المهدي يحب الحمام- فلما أدخل غياث قيل له: حدّث أمير المؤمنين، فحدثه عن فلان عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا سبق إلا في حافر أو نصل" وزاد فيه: "أو جناح" فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم، فلما قام قال: أشهد أن قفاك قفا كذاب، وإنما استجلبت ذلك، ثم أمر بالحمام فذبحت. وروي أن شريكًا دخل على المهدي، فقال له: لا بدّ من ثلاث: إما أن تلي القضاء، أو تؤدب ولدي وتحدثهم، أو تأكل عندي أكلة؟ ففكر ساعة ثم قال: الأكلة أخف عليّ، فأمر المهدي بعمل ألوان من المخ المعقود بالسكر وغير ذلك، فأكل، قال الطباخ: لا يفلح بعدها، قال: فحدثهم بعد ذلك، وعلمهم العلم، وولي القضاء لهم. وأخرج البغويّ في الجعديات عن حمدان الأصبهاني قال: كنت عند شريك، فأتاه ابن المهدي، فاستند وسأل عن حديث، فلم يلتفت شريك، ثم أعاد فعاد، فقال: كأنك تستخف بأولاد الخلفاء، قال: لا، ولكن العلم أزيد عنده أهله من أن يضيعوه، فجثا على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم. ومن شعر المهدي ما أنشده الصولي: ما يكف الناس عنا ... ما يملّ الناس منا إنما همتهم أن ... ينبشوا ما قد دفنّا لو سكنّا بطن أرض ... فلكانوا حيث كنّا وهمُ إن كاشفونا ... في الهوى يومًا مجنّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وأسند الصولي عن محمد بن عمارة، قال: كان للمهدي جارية شغف بها، وهي كذلك، إلا أنها تتحاماه كثيرًا، فدس إليها من عرف ما في نفسها، فقالت: أخاف أن يملني ويدعني فأموت، فقال المهدي في ذلك: ظفرت بالقلب مني ... غادة مثل الهلال كلما صحّ لها وُدّ ... يَ جاءت باعتلال لا لحب الهجر مني ... والتنائي عن وصالي بل لإبقاء على حبي ... لها خوف الملال وله في نديمه عمر بن بزيع: ربّ تّمم لي نعيمي ... بأبي حفص نديمي إنما لذة عيشي ... في غناء وكروم وجوار عطرات ... وسماع ونعيم قلت: شعر المهدي أرق وألطف من شعر أبيه وأولاده بكثير. وأسند الصولي عن ابن كريمة، قال: دخل المهدي إلى حجرة جارية على غفلة، فوجدها وقد نزعت ثيابها وأرادت لبس غيرها، فلما رأته غطت بيدها فقصرت كفها عنه فضحك وقال: نظرت في القصر عيني ... نظرة وافق حيني ثم خرج فرأى بشارًا فأخبره وقال: أجز، فقال بشار: سترته إذ رأتني ... دونه بالراحتين فبدا لي منه فضل ... تحت طي العكنتين وأسند عن إسحاق الموصلي، قال: كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء تشبيهًا بالمنصور نحوًا من سنة، ثم ظهر لهم، فأشير عليه أن يحتجب، فقال: إنما اللذة مع مشاهدتهم. وأسند عن مهدي بن سابق قال: صاح رجل بالمهدي وهو في موكبه: قل للخليفة حاتِمٌ لك خائن ... فخف الإله وأعفنا من حاتم إن العفيف إذا استعان بخائن ... كان العفيف شريكه في المأثم فقال المهدي: يعزل كل عامل لنا يدعى حاتِمًا وأسند عن أبي عبيدة قال: كان المهدي يصلي بنا الصلوات الخمس في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يومًا، فقال أعرابي: لست على طهر، وقد رغبت في الصلاة خلفك، فأمر هؤلاء بانتظاري، فقال: انتظروه، ودخل المحراب، فوقف إلى أن قيل: جاء الرجل، فكبر فعجب الناس من سماحة أخلاقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وأسند عن إبراهيم بن نافع أن قومًا من أهل البصرة تنازعوا إليه في نهر من أنهار البصرة، فقال: إن الأرض لله في أيدينا للمسلمين، فما لم يقع له ابتياع منها يعود ثمنه على كافتهم وفي مصلحتهم، فلا سبيل لأحد عليه فقال القوم: هذا النهر لنا بحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه قال: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له". وهذه موات، فوثب المهدي عند ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى ألصق خده بالتراب وقال: سمعت لما قال وأطعت، ثم عاد، وقال: بقي أن تكون هذه الأرض مواتًا حتى لا أعرض فيها، وكيف تكون مواتًا والماء محيط بها من جوانبها؟ فإن أقاموا البينة على هذا سلمت. وأسند عن الأصمعي قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثَنّى بملائكته فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} الآية [الأحزاب: 56] آثره بها من بين الرسول إذ خصكم بها من بين الأمم. قلت: وهو أول من قال ذلك في الخطبة، وقد استسنها الخطباء إلى اليوم. ولما مات قال أبو العتاهية وقد علقت المسوح على قباب حرمه: رحن في الموشى وأصبحن عليهنّ المسوح ... كل نطّاح من الدهر له يوم نطوح لست بالباقي ولو عمّرت ما عمّر نوح ... نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح فصل: ذكر أحاديث من رواية المهدي قال الصولي: حدثني أحمد بن محمد بن صالح التمار، حدثنا يحيى بن محمد القرشي، حدثنا أحمد بن هشام، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن مسلم المدائني -وهو ثقة صدوق- قال: سمعت المهدي يخطب فقال: حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبة من العصر إلى مغيربان الشمس، حفظها من حفظها، ونسيها من نسيها، فقال: "ألا إن الدنيا حلوة خضرة" 1 الحديث بطوله. وقال الصولي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثني أبو يعقوب بن حفص الخطابي، سمعت المهدي يقول: حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن وفدًا من العجم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أحفوا لحاهم وأعفو شواربهم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خالفوهم، اعفوا لحاكم واحفوا شواربكم" 2 وإحفاء الشارب، أخذ ما نزل على الشفة منه، ووضع المهدي يده على أعلى شفته.   1 أخرجه أحمد في المسند "19/3"، وأبو نعيم في الحلية "311/7". 2 أخرجه الطبراني في الكبير "11724/11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقال منصور بن مزاحم ومحمد بن يحيى بن حمزة، عن يحيى بن حمزة قال: صلى بنا المهديّ المغرب فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال: حدثني أبي عن أبيه عن ابن إسحاق: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت للمهدي: نأثره عنك؟ قال: نعم. قال الذهبي: هذا إسناد متصل، لكن ما علمت أحدًا احتج بالمهدي ولا بأبيه في الأحكام، تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم. وقال ابن عدي: كان يضع الحديث. قلت: لم ينفرد به، بل وجدت له متابعًا. مات في أيام المهدي من الأعلام: شعبة، وابن أبي ذئب، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم الزاهد، وداود الطائي الزاهد، وبشار بن برد أول شعراء المحدثين، وحماد بن سلمة، وإبراهيم بن طهمان، والخليل بن أحمد صاحب العروض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الهادي أبو محمد، موسى بن المهدي 1 الهادي أبو محمد موسى بن المهدي بن المنصور، وأمه أم ولد بربرية اسمها الخيزران؛ ولد بالري سنة سبع وأربعين ومائة، وبويع بالخلافة بعد أبيه بعهد منه. قال الخطيب: ولم يل الخلافة قبله أحد في سنه، فأقام فيها سنة وأشهرًا، وكان أبوه أوصاه بقتل الزنادقة، فجدّ في أمرهم، وقتل منهم خلقًا كثيرًا؛ وكان يسمّى موسى أطبق؛ لأن شفته العليا كانت تقلص، فكان أبوه وكّل به في صغره خادمًا كلما رآه مفتوح الفم قال: موسى أطبق، فيفيق على نفسه ويضم شفتيه، فشهر بذلك. قال الذهبي: وكان يتناول المسكر، ويلعب، ويركب حمارًا فارهًا، ولا يقيم أبهة الخلافة، وكان مع هذا فصيحًا، قادرًا على الكلام، أديبًا، تعلوه هيبة وله سطوة وشهامة. وقال غيره: كان جبارًا، وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة، والقسيّ الموترة؛ فاتبعه عماله به في ذلك، وكثر السلاح في عصره. مات في ربيع الآخر سنة سبعين ومائة؛ واختلف في سبب موته؛ فقيل: إنه دفع نديمًا له من جرف على أصول قصب قد قطع فتعلق النديم به فوقع فدخلت قصبة في منخره، فماتا جميعًا. وقيل: أصابته قرحة في جوفه. وقيل: سمته أمه الخيزران لما عزم على قتل الرشيد ليعهد إلى ولده. وقيل: كانت أمه حاكمة مستبدة بالأمور الكبار، وكانت المواكب تغدو إلى بابها، فزجرهم عن ذلك، وكلمها بكلام وقح، وقال: لئن وقف ببابك أمير لأضربن عنقه! أما   1 تولى الخلافة 169هـ وحتى 170هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو سبحة؟ فقامت ما تعقل من الغضب، فقيل: إنه بعث إليها بطعام مسموم، فأطعمت منه كلبًا فانتثر فعملت على قتله لما وعك بأن غموا وجهه ببساط جلسوا على جوانبه؛ وخلّف سبعة بنين. ومن شعر الهادي في أخيه هارون لما امتنع من خلع نفسه. نصحت لهارون فرد نصيحتي ... وكل امرئ لا يقبل النصح نادم وأدعوه للأمر المؤلف بيننا ... فيبعد عنه؛ وهو في ذاك ظالم ولولا انتظاري منه يومًا إلى غد ... لعاد إلى ما قلته وهو راغم ومن أخبار الهادي، أخرج الخطيب عن الفضل قال: غضب الهادي على رجل فكلم فيه، فرضي، فذهب يعتذر، فقال له الهادي: إن الرضا قد كفاك مؤنة الاعتذار. وأخرج عن عبد الله بن مصعب قال: دخل مروان بن أبي حفصة على الهادي فأشنده مديحًا له، حتى إذا بلغ قوله: تشابه يومًا بأسه ونواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل فقال له الهادي: أيما أحب إليك ثلاثون ألف معجّلة، أو مائة ألف تدور في الديوان؟ قال: تعجّل الثلاثون ألفًا، وتدور المائة ألف، قال: بل تعجلان لك جميعًا، فحمل له ذلك. وقال الصولي: لا تعرف امرأة ولدت خليفتين إلا الخيزران أم الهادي والرشيد، وولادة بنت العباس العبسية زوج عبد الملك بن مروان، ولدت الوليد وسليمان، وشاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى، ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد الناقص وإبراهيم، ووليا الخلافة. يزاد على ذلك باي خاتون سرّية المتوكل الأخير، ولدت العباس وحمزة ووليا الخلافة، وكزل سريته أيضًا ولدت داود وسليمان وولياها. ثم قال الصولي: لا يعرف خليفة ركب البريد إلا الهادي من جرجان إلى بغداد. قال: وكان نقش خاتمه: الله ثقة موسى، وبه يؤمن. قال الصولي: ولسلم الخاسر في الهادي يمدحه: موسى المطر ... غيث بكر ثم انهمر ... ألوى المرر كم اعتسر ... وكم قدر ثم غفر ... عدل السير باقي الأثر ... خير وشر نفع وضر ... خير البشر فرع مضر ... بدرٌ بدر لمن نظر ... هو الوزر لمن حضر ... والمفتخر لمن غبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قال: وهذا على جزء جزء مستفعلن مستفعلن، وهو أول من عمله، ولم نسمع لمن قبله شعرًا على جزء جزء. وأسند الصولي عن سعيد بن سلم قال: إني لأرجو أن يغفر الله للهادي بشيء رأيته منه، حضرته يومًا وأبو الخطاب السعدي ينشده قصيدة في مدحه، إلى أن قال: يا خير من عقدت كفاه حجزته ... وخير من قلّدته أمرها مضر فقال له الهادي: إلا من؟ ويلك! قال سعيد: ولم يكن استثنى في شعره، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما يعني من أهل هذا الزمان، ففكر الشاعر فقال: إلا النبيّ رسول الله، إن له ... فضلًا، وأنت بذالك الفضل تفتخر فقال: الآن أصبت وأحسنت، وأمر له بخمسين ألف درهم. وقال المدائني: عزّى الهادي رجلًا في ابن له فقال: سرّك وهو فتنة وبلية، ويحزنك وهو ثواب ورحمة. وقال الصولي: قول سَلم الخاسر في الهادي جامعًا بين العزاء والهناء. لقد قام موسى بالخلافة والهدى ... ومات أمير المؤمنين محمد فمات الذي غم البرية فقده ... وقام الذي يكفيك من يتفقد وقال مروان بن أبي حفصة كذلك ... لقد أصبحت تختال في كل بلدة بقبر أمير المؤمنين المقابر ... ولو لم تسكّن بابنه بعد موته لما برحت تبكي عليه المنابر ... ولو لم يقم موسى عليها حنينًا كما حنّ الصفيا العشائر حديث من رواية الهادي: قال الصولي: حدثني محمد بن زكريا هو الغلابي، حدثني محمد بن عبد الرحمن المكي، حدثنا قسورة بن السكن القهري، حدثنا المطلب بن عكاشة المري، قال: قدمنا على الهادي شهودًا على رجل شتم قريشًا وتخطى إلى ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجلس لنا مجلسًا أحضر فيه فقهاء زمانه، وأحضر الرجل فشهدنا عليه، فتغير وجه الهادي، ثم نكس رأسه ثم رفعه فقال: سمعت أبي المهديّ يحدث، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد، عن أبيه علي، عن أبيه عبد الله بن عباس، قال: من أراد هوان قريش أهانه الله، وأنت يا عدو الله لم ترضَ بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيت إلى ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- اضربوا عنقه1، أخرجه الخطيب من طريق الصولي، والحديث هكذا في هذه الرواية موقوف، وقد ورد مرفوعًا من وجه آخر. مات في أيام الهادي من الأعلام: نافع قارئ المدينة، وغيره.   1 أخرجه الخطيب في تاريخه "110/3"، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان "109/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الرشيد هارون أبو جعفر 1 الرشيد هارون أبو جعفر بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. استخلف بعهد من أبيه عند موت أخيه الهادي ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة. قال الصولي: هذه الليلة ولد فيها عبد الله المأمون، ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة، وقام خليفة وولد خليفة إلا هذه الليلة، وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر. حدث عن أبيه وجده، ومبارك بن فضالة، وروى عنه ابنه المأمون وغيره، وكان من أمير الخلفاء وأجلّ ملوك الدنيا، وكان كثير الغزو والحج، كما قال فيه أبو المعالي الكلابي: فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدوّ على طمر ... وفي أرض الترفه فوق كور مولده بالريّ -حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان- في سنة ثمانٍ وأربعين ومائة، وأمه أم ولد، تسمى الخيزران، وهي أم الهادي، وفيها يقول مروان بن أبي حفصة: يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسى يسوس العالمين ابناك وكان أبيض، طويلًا، جميلًا، مليحًا، فصيحًا، له نظر في العلم والأدب. وكان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، لا يتركها إلا لعلة، ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم. وكان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص. وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن، فقال: لئن ظفرت به لأضربنّ عنقه. وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه، وسيما إذا وعظ، وكان يحب المديح، ويجيز عليه الأموال الجزيلة، وله شعر. دخل عليه مرة بن السماك الواعظ، فبالغ في احترامه، فقال له ابن السماك، تواضعك في شرفك أشرف من شرفك؛ ثم وعظه فأبكاه، وكان يأتي بنفسه إلى بيت الفضيل بن عياض. قال عبد الرزاق: كنت مع الفضيل بمكة، فمرّ هارون، فقال فضيل: الناس يكرهون هذا، وما في الأرض أعز عليّ منه، لو مات لرأيت أمورًا عظامًا. قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي -صلى الله عليه وسلم- بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي، وحدثته بحديثه صلى الله عليه وسلم: "وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل" 2. فبكى حتى انتحب.   1 تولى الخلافة170هـ وحتى193هـ. 2 أخرجه الخطيب في تاريخه "7/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وحدثته يومًا حديث: "احتج آدم وموسى" 1 وعنده رجل من وجوه قريش، فقال القرشي: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد، وقال: النطعَ2 والسيفَ، زنديق يطعن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو معاوية: فما زلت أسكنه، وأقول: يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة، حتى سكن. وعن أبي معاوية أيضًا قال: أكلت مع الرشيد يومًا، ثم صبّ على يدي رجل لا أعرفه، ثم قال الرشيد: تدري من يصب عليك؟ قلت: لا: قال: أنا إجلالًا للعلم. وقال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعًا عند الذكر من ثلاثة: الفضيل بن عياض، والرشيد، وآخر. قال عبيد الله القواريري: لما لقي الرشيد الفضيل قال له: يا حسن الوجه، أنت المسئول عن هذه الأمة؟ حدثنا ليث عن مجاهد: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب} [البقرة: 166] ؛ قال: الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا، فجعل هارون يبكي ويشهق. ومن محاسنه أنه لما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء، وأمر الأعيان أن يعزوه في ابن المبارك. قال نفطويه: كان الرشيد يقتفي آثار جده أبي جعفر، إلا في الحرص، فإنه لم ير خليفة قبله أعطى منه: أعطى مرة سفيان بن عيينه مائة ألف، وأجاز إسحاق الموصلي مرة بمائتي ألف، وأجاز مروان بن أبي حفصة مرة على قصيدة خمسة آلاف دينار، وخلعة، وفرسًا من مراكبه، وعشرة من رقيق الروم، وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: يا أصمعي ما أغفلك عنا وأجفاك لنا قلت: والله يا أمير المؤمنين ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك، فسكت، فلما تفرق الناس قال: ما لاقتني؟ قلت: كفّاك كفّ ما تليق درهمًا ... جوادًا وأخرى تعطي بالسيف الدما فقال: أحسنت، وهكذا فكن، وقرنًا في الملا، وعلمنا في الخلا، وأمر لي بخمسة آلاف دينار. وفي مروج المسعودي قال: رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما، فقال له يحيى بن خالد البرمكي، كان يختطف الروم الناس من المسجد الحرام، وتدخل مراكبهم إلى الحجاز، فتركه. وقال الجاحظ: اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف -رحمه الله- وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عمّ أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع، أنبه الناس وأعظمهم، ومغنيه إبراهيم الموصلي، وزجته زبيدة.   1 أخرجه البخاري "6614/11"، ومسلم "2652/4". 2 النطع: بالكسر وبالفتح وبالتحريك بساط من الأديم جمعها: أنطاع، ونطوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقال غيره: كانت أيام الرشيد كلها خير كأنها من حسنها أعراس. وقال الذهبي: أخبار الرشيد يطول شرحها، ومحاسنه جمة؛ وله أخبار في اللهو واللذات المحظورة والغناء، سامحه الله. مات في أيامه من الأعلام: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة، والقاسم بن معين، ومسلم بن خالد الزنجي، ونوح الجامع، والحافظ أبو عوانة اليشكري، وإبراهيم بن سعد الزهري، وأبو إسحاق الفزاري، وإبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي، وأسد الكوفي من كبار أصحاب أبي حنيفة، وإسماعيل بن عياش، وبشر بن الفضل، وجرير بن عبد الحميد، وزياد البكائي، وسليم المقرئ صاحب حمزة، وسيبويه إمام العربية، وضيغم الزاهد، وعبد الله العمري الزاهد، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن إدريس الكوفي، وعبد العزيز بن أبي حازم، والدراوردي، والكسائي شيخ القراء والنحاة، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة؛ كلاهما في يوم، وعليّ بن مسهر، وغنجار، وعيسى بن يونس السبيعي، والفضيل بن عياض، وابن السماك الواعظ، ومروان بن أبي حفصة الشاعر، والمعافى بن عمران الموصلي، ومعتمر بن سليمان، والمفضل بن فضالة قاضي مصر، وموسى بن ربيعة أبو الحكم المصري أحد الأولياء، والنعمان بن عبد السلام الأصبهاني، وهشيم، ويحيى بن أبي زائدة، ويزيد بن زريع، ويونس بن حبيب النحوي، ويعقوب بن عبد الرحمن قارئ المدينة، وصعصعة بن سلام عالم الأندلس أحد أصحاب مالك، وعبد الرحمن بن القاسم أكبر أصحاب مالك، والعباس بن الأحنف الشاعر المشهور، وأبو بكر بن عياش المقرئ، ويوسف بن الماجشون، وخلائق آخرون كبار. ومن الحوادث في أيامه: في سنة خمس وسبعين افترى عبد الله بن مصعب الزبيري على يحيى بن عبد الله بن حسن العلوي أنه طلب إليه أن يخرج معه على الرشيد، فباهله1 يحيى بحضرة الرشيد وشبك يده في يده؛ وقال: قل اللهم إن كنت تعلم أن يحيى لم يدعني إلى الخلاف والخروج على أمير المؤمنين هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب2 من عندك، آمين رب العالمين، فتلجلج الزبيري وقالها، ثم قال يحيى مثل ذلك وقاما، فمات الزبيري ليومه. وفي سنة ست وسبعين فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح العباسي. وفي سنة تسع وسبعين اعتمر الرشيد في رمضان، ودام على إحرامه إلى أن حج، ومشى من مكة إلى عرفات. وفي سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى، سقط منها رأس منارة الإسكندرية.   1 المباهلة: هي الملاعنة بأن يلاعن الرجل الرجل أو المرأة، انظر: مختار الصحاح "67". 2 اسحتني بعذاب: أسحته: استاصله: وقرئ: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَاب} انظر مختار الصحاح "288". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وفي سنة إحدى وثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة، وهو الفاتح له. وفي سنة ثلاث وثمانين خرج الخزر على أرمينية، فأوقعوا بأهل الإسلام، وسفكوا، وسبوا أزيد من مائة ألف نسمة، وجرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله. وفي سنة سبع وثمانين أتاه كتاب من ملك الروم: نقفور، بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة: ريني، ملكة الروم. وصورة الكتاب: من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب: أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبل كانت أقامتك مقام الرخّ وأقامت نفسها مقام البيذق، فحملت إليك من أموالها أحمالًا، وذلك لضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبًا حتى لم يمكن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه من الخوف، واستعجم الرأي على الوزير، فدعا الرشيد بدواة، وكتب على ظهر كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه، لا ما تسمعه. ثم سار ليومه، فلم يز حتى نازل مدينة هرقل، وكانت غزوة مشهورة وفتحًا مبينًا فطلب نقفور الموادعة1، والتزم بخراج يحمله كل سنة، فأجيب. فلما رجع الرشيد إلى الرقة نقض الكلب العهد لإياسه من كرّة الرشيد في البرد، فلم يجترئ أحد أن يبلغ الرشيد نقضه، بل قال عبد الله بن يوسف التيمي: نقض الذي أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير وقال أبو العتاهية أبياتًا، وعرضت على الرشيد، فقال: أو قد فعلها؟ فكرّ راجعًا في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى بلغ مراده، وحاز جهاده. وفي ذلك يقول أبو العتاهية: ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق للصواب غدا هارون يرعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب وفي سنة تسع وثمانين فادى الروم حتى لم يبقَ بممالكهم في الأسر مسلم. وفي سنة تسعين فتح هرقلة، وبثّ جيوشه بأرض الروم، فافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة، وافتتح يزيد بن مخلد ملقونية، وسار حميد بن معيوف إلى قبرص فهدم وحرق، وسبى من أهلها ستة عشر ألفًا.   1 الموادعة: أي المصالحة، والتوادع: التصالح. انظر: مختار الصحاح "714". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وفي سنة اثنتين وتسعين توجه الرشيد نحو خراسان، فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال: يا صباح لا أحسبك تراني بعدها، فقلت: بل يردك الله سالِمًا، ثم قال: ولا أحسبك تدري ما أجد، فقلت: لا والله، فقال: تعالَ حتى أريك، وانحرف عن الطريق، وأومأ إلى الخواص فتنحوا، ثم قال: أمانة الله يا صباح أن تكتم عليّ، وكشف عن بطنه فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم، ولكل واحد من ولديّ علي رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين، ونسيت الثالث، ما منهم أحد إلا ويحصي أنفاسي، ويعدّ أيامي، ويستطيل دهري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو ببرذون، فيجيئون به أعجف ليزيد في علتي، ثم دعا ببرذون فجاءوا به كما وصف، فنظر إليّ ثم ركبه، وودعني وسار إلى جرجان، ثم رحل منها في صفر سنة ثلاث وتسعين وهو عليل إلى طوس، فلم يزل بها إلى أن مات. وكان الرشيد بايع بولاية العهد لابنه محمد في سنة خمس وسبعين، ولقبه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، لحرص أمه زبيدة على ذلك، قال الذهبي: فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة، حيث بايع لابنه عبد الله من بعد الأمين في سنة اثنتين وثمانين، ولقبه المأمون، وولاه ممالك خراسان بأسرها، ثم بايع لابنه القاسم من بعد الأخوين في سنة ست وثمانين، ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي، فلما قسّم الدنيا بين هؤلاء الثلاثة قال بعض العقلاء، لقد ألقى بأسهم بينهم، وغائلة ذلك تضر بالرعية، وقالت الشعراء في البيعة المدائح، ثم إنه علّق نسخة البيعة في البيت العتيق، وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي: خير الأمور مغبة ... وأحقّ أمر بالتمام أمر قضى أحكامه ... الرحمن في البيت الحرام وقال عبد الملك بن صالح في ذلك: حب الخليفة حب لا يدين له ... عاصي الإله وشار يلقح الفتنا الله قلّد هارونًا سياسته ... لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا وقلّد الأرض هارونٌ لرأفته ... بنا أمينًا ومأمونًا ومؤتمنًا قال بعضهم: وقد زوى الرشيد الخلافة عن ابنه المعتصم، لكونه أميًّا، فساقها الله إليه، وجعل الخلفاء بعده كلهم من ذريته، ولم يجعل من نسل غيره من أولاد الرشيد خليفة، وقال سلم الخاسر في العهد للأمين: قل للمنازل بالكثيب الأعفر ... أسقيت غادية السحاب الممطر قد بايع الثقلان مهديّ الهدى ... لمحمد ابن زبيدة ابنة جعفر قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخلافة للهجان الأزهر فهو الخليفة عن أبيه وجده ... شهدا عليه بمنظر وبمخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فحشت زبيدة فاه جوهرًا باعه بعشرين ألف دينار فصل: في نبذ من أخبار الرشيد، عفا الله عنه أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك قال: لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك، إن أباك قد طاف بي، فشغف بها، فأرسل إلى أبي يوسف، فسأله: أعندك في هذا شيء؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أو كلما ادعت أمة شيئًا ينبغي أن تصدق، لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة، قال ابن المبارك: فلم أدر ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين، أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها، قال: اهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك، وصيره في رقبتي. وأخرج أيضًا عن عبد الله بن يوسف قال: قال الرشيد لأبي يوسف: إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة؟ قال: نعم، تهبها لبعض ولدك، ثم تتزوجها. وأخرج عن إسحاق بن راهويه قال: دعا الرشيد أبا يوسف ليلًا فأفتاه، فأمر له بمائة ألف درهم، فقال أبو يوسف، إن رأى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح، فقال: عجلوها، فقال بعض من عنده: إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة، فقال أبو يوسف: قد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني، ففتحت. وأسند الصولي عن يعقوب بن جعفر قال: خرج الرشيد في السنة التي ولي الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم، وانصرف في شعبان؛ فحج بالناس آخر السنة، وفرق بالحرمين مالًا كثيرًا، وكان رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر؛ فاغزُ وحجّ ووسع على أهل الحرمين، ففعل هذا كله. وأسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال: أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولي الخلافة، فدخل دارًا، فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على الحائط: ألا يا أمير المؤمنين أما ترى ... فديتك هجران الحبيب كبيرًا فدعا بدواة، وكتب تحته بخطه: بلى والهدايا المشعرات وما مشى ... بمكة مرفوع الأظل حسيرًا وأخرج عن سعيد بن مسلم قال: كان فهمُ الرشيد فهمَ العلماء، وأنشده العماني في صفة فرس: كأنّ أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا فقال الرشيد: دع كأن وقل: تخال أذنيه، حتى يستوي الشعر. وأخرج عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال: حلف الرشيد أن يدخل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 جارية له أيامًا، وكان يحبها، فمضت الأيام ولم تسترضه، فقال: صدّ عني إذ رآني مفتتن ... وأطال الصبر لما أن فطن كان مملوكي وأصبح مالكي ... إن هذا من أعاجيب الزمن ثم أحضر أبا العتاهية، فقال: أجزهما فقال: عزّة الحب أرته ذلّتي ... في هواه، وله وجه حسن فلهذا صرت مملوكًا له ... ولهذا شاع ما بي وعلن وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقًا، فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لِمَ تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك، قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلها ما فيها حرف نطق به؟ قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا؟ وأخرج الصولي عن إسحاق الهاشمي قال: كنا عند الرشيد، فقال: بلغني أن العامة يظنون فِيّ بغض علي بن أبي طالب، والله ما أحب أحدًا حبي له، ولكن هؤلاء أشد الناس بغضًا لنا، وطعنًا علينا، وسعيًا في فساد ملكنا بعد أخذنا بثأرهم، ومساهمتنا إياهم ما حويناه، حتى إنهم لأميل إلى بني أمية منهم إلينا، فأما ولده لصلبه فهم سادة الأهل، والسابقون إلى الفضل، ولقد حدثني أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمد بن علي عن أبيه عن ابن عباس أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحسن والحسين: "من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني"، وسمعه يقول: "فاطمة سيدة نساء العالمين غير مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم" 1. روى أن ابن السماك دخل على الرشيد يومًا، فاستسقى، فأتى بكوز، فلما أخذه قال: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله تعالى، فلما شربها قال: أسألك لو منعت خروجها من بدنك، بماذا كنت تشتري خروجها؟ قال: بجميع ملكي، قال: إن ملكًا قيمته شربة ماء وبوله لجدير ألا ينافس فيه، فبكى هارون بكاء شديدًا. وقال ابن الجوزي: قال الرشيد لشيبان: عظني، قال: لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف، فقال الرشيد: فسّر لي هذا، قال: من يقول لك: أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله. وفي كتاب الأوراق للصولي بسنده: لما ولي الرشيد الخلافة واستوزر يحيى بن خالد قال إبراهيم الموصلي:   1 أخرجه الترمذي "3873/5". وقال: حسن غريب من هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ألم تر أن الشمس كانت مريضة ... فلما أتى هارون أشرق نورها تلبست الدنيا جمالًا بملكه ... فهارون واليها، ويحيى وزيرها فأعطاه مائة ألف درهم، وأعطاه يحيى خمسين ألفًا. ولداود بن رزين الواسطي فيه: بهارون لاح النور في كل بلدة ... وقام به في عدل سيرته النهج إمام بذات الله أصبح شغله ... فأكثر ما يعنى به الغزو الحج تضيق عيون الخلق عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج تفسحت الآمال في جود كفه ... فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك -رحمه الله- قال: وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين، قال: ثم رحل لسماعه السلطان صلاح الدين بن أيوب إلى الإسكندرية، فسمعه على بن طاهر بن عوف، ولا أعلم لهما ثالثًا. ولمنصور النمري فيه: جعل القرآن إمامه ودليله ... لما تخيره القرانُ ذمامًا وله فيه من قصيدة: إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع ويقال: إنه أجازه عليه بمائة ألف. وقال الحسن بن فهم: كان الرشيد يقول: من أحب ما مدحت به إلي: أبو أمين ومأمون ومؤتمن ... أكرم به والدًا برًّا وما ولدا وقال إسحاق الموصلي: دخلت على الرشيد فأنشدته: وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلًا له في العالمين خليل وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئًا أن يكون ينيل عطائي عطاء المكثرين تكرمًا ... ومالي كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل فقال: لا كيف إن شاء الله، يا فضل أعطه مائة ألف درهم، لله در أبيات يأتينا بها ما أجود أصولها، وأحسن فصولها فقلت: يا أمير المؤمنين، كلامك أحسن من شعري، فقال: يا فضل أعطه مائة ألف أخرى. وفي الطيوريات بسنده إلى إسحاق الموصلي قال: قال أبو العتاهية لأبي نواس: البيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الذي مدحت به الرشيد لوددت أني كنت سبقتك به إليه: قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله وقال محمد بن علي الخراساني: الرشيد أول خليفة لعب بالصوّالجة والكرة، ورمي النشاب في البرجاس، وأول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس. وقال الصولي: هو أول من جعل للمغنين مراتب وطبقات. ومن شعر الرشيد يرثي جاريته هيلانة أورده الصولي: قاسيت أوجاعًا وأحزانًا ... لما استخصّ الموت هيلانا فارقت عيشي حين فارقتها ... فما أبالي كيف ما كانا كانت هي الدنيا، فلما ثوت ... في قبرها فارقت دنيانا قد كثر الناس ولكنني ... لست أرى بعدك إنسانًا والله لا أنساك ما حركت ... ريح بأعلى نجد أغصانًا وله أيضًا، أنشده الصولي: يا ربة المنزل بالفرك ... وربة السلطان والملك ترفقي بالله في قتلنا ... لسنا من الديلم والترك مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان، ودفن بها في ثالث جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وله خمس وأربعون سنة، وصلى عليه ابنه صالح. قال الصولي: خلّف الرشيد مائة ألف ألف دينار، ومن الأثاث والجوهر والورق والدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار وخمسة وعشرون ألف دينار. وقال غيره: غلط جبريل بن بختيشوع على الرشيد في علته في علاج عالجه به كان سبب منيته، فهمّ أن يفصل أعضاءه فقال: أنظرني إلى غد، فإنك تصبح في عافية، فمات ذلك اليوم، وقيل: إن الرشيد رأى منامًا أنه يموت بطوس، فبكى وقال: احفروا لي قبرًا، فحفر له، ثم حمل في قبة على جمل، وسيق به حتى نظر إلى القبر، فقال: يابن آدم تصير إلى هذا؟ وأمر قومًا فنزلوا فختموا فيه ختمة، وهو في محفة على شفير القبر، ولما مات بويع لولده الأمين في العسكر -وهو حينئذ ببغداد- فأتاه الخبر، فصلى بالناس الجمعة، وخطب، ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه، وأخذ رجاء الخادم البرد والقضيب والخاتم، وسار على البريد في اثني عشر يومًا من مَرْوَ، حتى قدم بغداد في نصف جمادى الآخرة، فدفع ذلك إلى الأمين، ولأبي الشيص يرثي الرشيد: غربت في الشرق شمس ... فلها عيني تدمع ما رأينا قط شمسًا ... غربت من حيث تطلع وقال أبو نواس جامعًا بين العزاء والهناء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في مأتم وفي عرس القلب يبكي والعين ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي أنس يضحكنا القائم الأمين ويبكينا ... وفاة الإمام بالأمس بدران بدرٌ أضحى ببغداد في ... الخلد وبدر بطوس في الرمس ومما رواه الرشيد من الحديث، قال الصولي: حدثنا عبد الرحمن بن خلف، حدثني جدي الحصين بن سليمان الضبي، سمعت الرشيد يخطب فقال في خطبته: حدثني مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" 1. حدثني محمد بن علي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نظفوا أفواهكم فإنها طريق القرآن" 2.   1 أخرجه البخاري "1417/3"، ومسلم "1016/2" 2 أخرجه الديلمي "1804/1 كنز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الأمين محمد، أبو عبد الله 1 الأمين محمد أبو عبد الله بن الرشيد، كان ولي عهد أبيه، فولي الخلافة بعده، وكان من أحسن الشباب صورة، أبيض، طويلًا، جميلًا، ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة معروفة؛ يقال: إنه قتل مرة أسدًا بيده، وله فصاحة وبلاغة، وأدب وفضيلة، لكن كان سيئ التدبير؛ كثير التبذير، ضعيف الرأي، أرعن، لا يصلح للإمارة، فأول ما بويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للعب بالكرة، ثم في سنة أربع وتسعين عزل أخاه القاسم عما كان الرشيد ولاه، ووقعت الوحشة بينه وبين أخيه المأمون، وقيل: إن الفضل بن الربيع علم أن الخلافة إذا أفضت إلى المأمون لم يبقِ عليه، فأغرى الأمين به، وحثه على خلعه، وأن يولي العهد لابنه موسى، ولما بلغ المأمون عزل أخيه القاسم قطع البريد عن الأمين وأسقط اسمه من الطرز والضرب، ثم إن الأمين أرسل إليه يطلب منه أن يقدم موسى على نفسه، ويذكر أنه قد سماه الناطق بالحق، فرد المأمون ذلك وأباه، وخامر الرسول معه، وبايعه بالخلافة سرًّا، ثم كان يكتب إليه بالأخبار ويناصحه من العراق، ولما رجع وأخبر الأمين بامتناع المأمون أسقط اسمه من ولاية العهد، وطلب الكتاب الذي كتبه الرشيد وجعله بالكعبة، فأحضروه ومزقه، وقويت الوحشة، ونصح الأمين أولو الرأي، وقال له خزيمة بن خازم: يا أمير المؤمنين، لن ينصحك من كذبك، ولن يغشك من صدقك، لا تجرئ القوّاد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا بيعتك وعهدك، فإن الغادر مغلول والناكث مخذول، فلم ينتصح، وأخذ يستميل القواد بالعطاء، وبايع العهد لابنه موسى، ولقبه الناطق بالحق، وهو إذ ذاك طفل رضيع، فقال بعض الشعراء في ذلك: أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير وجهل المشير لواط الخليفة أعجوبة ... وأعجب منه حلاق الوزير   1 تولى الخلافة 193هـ وحتى 198هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فهذا يدوس وهذا يداس ... كذاك لعمري خلاف الأمور فلو يستعفان هذا بذاك ... لكانا بعرضة أمر ستير وأعجب من ذا وذا أننا ... نبايع للطفل فينا الصغير ومن ليس يحسن غسل استه ... ولم يخل من بوله حجر ظير وما ذاك إلا بفضل وبكر ... يريدان طمس الكتاب المنير وما ذان لولا انقلاب الزما ... ن في العير هذان أو في النفير ولما تيقن المأمون خلعه، تسمى بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك، وولي الأمين عليّ بن عيسى بن ماهان بلاد الجبال همذان ونهاوند وقم وأصبهان في سنة خمس وتسعين، فخرج علي بن عيسى من بغداد في نصف جمادى الآخرة ومعه الجيش لقتال المأمون في أربعين ألفًا في هيئة لم ير مثلها، وأخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، فأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين في أقل من أربعة آلاف، فكانت الغلبة له، وذبح عليّ وهزم جيشه، وحملت رأسه إلى المأمون، فطيف بها في خراسان، وسلّم على المأمون بالخلافة، وجاء الخبر الأمين وهو يتصيد السمك فقال للذي أخبره: ويلك دعني فإن كوثرًا صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئًا بعد. وقال عبد الله بن صالح الجرمي: لما قتل عليّ أرجف الناس ببغداد إرجافًا شديدًا، وندم الأمين على خلعه أخاه، وطمع الأمراء فيه، وشغبوا جندهم لطلب الأرزاق من الأمين، واستمر القتال بينه وبين أخيه، وبقي أمر الأمين كل يوم في الإدبار لانهماكه في اللعب والجهل، وأمر المأمون في ازدياد إلى أن يبايعه أهل الحرمين وأكثر البلاد بالعراق، وفسد الحال على الأمين جدًّا، وتلف أمر العسكر، ونفدت خزائنه، وساءت أحوال الناس بسبب ذلك، وعظم الشر وكثر الخراب والهدم من القتال ورمي المجانيق والنفط حتى درست1 محاسن بغداد وعملت فيها المراثي، ومن جملة ما قيل في بغداد. بكيت دمًا على بغداد لما ... فقدت غضارة العيش الأنيق. أصابتها من الحسّاد ... فأفنت أهلها بالمنجنيق ودام حصار بغداد خمسة عشر شهرًا، ولحق غالب العباسيين وأركان الدولة بجند المأمون، ولم يبقَ مع الأمين يقاتل عنه إلا غوغاء بغداد والحرافشة، إلى أن استهلت سنة ثمانٍ وتسعين فدخل طاهر بن الحسين بغداد بالسيف قسرًا، فخرج الأمين بأمه وأهله من القصر إلى مدينة المنصور، وتفرق عامة جنده وغلمانه وقل عليهم القوت والماء. قال محمد بن راشد: أخبرني إبراهيم بن المهدي أنه كان مع الأمين بمدينة المنصور قال: فطلبني ليلة فأتيت، فقال: ما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر وضوءه في الماء، فهل لك في الشراب؟ قلت: شأنك، فشربنا، ثم دعا بجارية اسمها ضعف، فتطيرت من اسمها، فأمرها أن تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي.   1 درست: درس الرسم: أي عفا، والمعنى: انتهت ومحيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ... وأيسر ذنبًا منك ضرّج بالدم فتطير بذلك، وقال: غني غير هذا، فغنت: أبكي فراقهم عني فأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء مازال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا، وريب الدهر عدّاء فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم ... حتى أؤوب وما في مقلتي ماء فقال لها: لعنك الله ما تعرفين غير هذا؟ فقالت: ظننت أنك تحب هذا ثم غنت: أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك وملك ذي العرش دائم أبدًا ... ليس بفانٍ ولا بمشترك فقال لها: قومي لعنك الله فقامت فعثرت في قدح بلور له قيمة فكسرته، فقال: ويحك يا إبراهيم أما ترى؟ والله ما أظن أمري إلا قرب، فقلت: بل يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، فسمعت صورتًا من دجلة: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان} [يوسف: 41] فوثب محمد مغتمًّا، وقتل بعد ليلتين، أخذ وحبس في موضع ثم أدخل عليه قوم من العجم ليلًا فضربوه بالسيف ثم ذبحوه من قفاه وذهبوا برأسه إلى طاهر فنصبها على حائط بستان، ونودي: هذا رأس المخلوع محمد، وجرت جثته بحبل، ثم بعث طاهر بالرأس والبرد والقضيب والمصلى وهو من سعف مبطن إلى المأمون، واشتد على المأمون قتل أخيه، وكان يحب أن يرسل إليه حيًّا ليرى فيه رأيه، فحقد بذلك على طاهر بن الحسين، وأهمله نسيًا منسيًّا إلى أن مات طريدًا بعيدًا، وصدق قول الأمين فإنه كان كتب بخطه رقعة إلى طاهر بن الحسين لما انتدب لحربه فيها: يا طاهر، ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا فكان جزاؤه عندنا إلا السيف، فانظر لنفسك أو دع، يلوّح بأبي مسلم وأمثاله الذين بذلوا نفوسهم في النصح لهم فكان مآلهم القتل منهم، ولإبراهيم بن المهدي في قتل الأمين: عوجًا بمغني طلل دائر ... بالخلد ذات الصخر والآجر والمرمر المسنون يطلى به ... والباب باب الذهب الناضر وأبلغا عني مقالًا ... إلى المولى عن المأمور والآمر قولًا له يابن ولي الهدي ... طهّر بلاد الله من طاهر لم يكفه أن حزّ أوداجه ... ذبح الهدايا بمدى الجازر حتى أتى يسحب أوصاله ... في شطن، هذا مدى السائر قد برد الموت على جفنه ... فطرفه منكسر الناظر ومما قيل فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لِمَ نبكيك؟ لماذا؟ للطرب ... يا أبا موسى وترويج اللعب ولترك الخمس في أوقاتها ... حرصًا منك على ماء العنب وشنيف أنا لا أبكي له ... وعلى كوثر لا أخشى العطب لم تكن تصلح للملك، ولم ... تعطك الطاعة بالملك العرب لم نبكيك؟ لما عرضتنا ... للمجانيق وطورًا للسّلب ولخزيمة بن الحسن على لسان زبيدة قصيدة يقول فيها: أتى طاهر لا طهر الله طاهرًا ... فما طاهر فيما أتى بمطهّر فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرًا ... وأنهب أموالي، وأخرب أدؤري يعزّ على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور تذكّر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر قال ابن جرير: لما ملك الأمين ابتاع الخصيان، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته، ورفض النساء والجواري، وقال غيره: لما ملك وجّه إلى البلدان في طلب الملهين وأجرى لهم الأرزاق، واقتنى الوحوش والسباع والطيور، واحتجب عن أهل بيته وأمرائه، واستخفّ بهم، ومحق ما في بيوت الأموال، وضيع الجواهر والنفائس، وبنى عدة قصور للهو في أماكن، وأجاز مرة من غنى له: هجرتك حتى قلت لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قلت ليس له صبر بملء زورقه ذهبًا، وعمل خمس حراقات، جمع حراقة -بالفتح والتشديد- ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدو على خلقة الأسد، والفيل، والعقاب، والحية، والفرس، وأنفق في عملها أموالًا فقال أبو نواس: سخر الله الأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب فإذا ما ركابه سرن برًّا ... سار في الماء راكبًا ليث غاب أسدًا باسطًا ذراعيه يهوى ... أهرت الشّدق كالح الأنياب قال الصولي: حدثنا أبو العيناء، حدثنا محمد بن عمرو الرومي، قال: خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمة في وجهه، فجعل الأمين يمسح الدم عن وجهه ثم قال: ضربوا قرة عيني ... ومن أجلي ضربوه أخذ الله لقلبي ... من أناس أحرقوه ولم يقدر على زيادة، فأحضر عبد الله بن التيمي الشاعر، فقال له: قل عليهما، فقال: ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه وصله حلو، ولكن ... هجره مر كريه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 من رأى الناس له ... الفضل عليهم حسدوه مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه فأوقر له ثلاث بغال دراهم، فلما قتل الأمين جاء التيمي إلى المأمون وامتدحه، فلم يأذن له، فالتجأ إلى الفضل بن سهل، فأوصله إلى المأمون فلما سلم عليه قال: هيه يا تيمي: مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه فقال التيمي: نصر المأمون عبد الله ... لما ظلموه نقض العهد الذي قد ... كان قدمًا أكدوه لم يعامله أخوه ... بالذي أوصى أبوه فعفا عنه، وأمر له بعشرة آلاف درهم. وقيل: إن سليمان بن منصور رفع إلى الأمين أن أبا نواس هجاه، فقال: يا عم أقتله بعد قوله؟: أهدى الثناء إلى الأمين محمد ... ما بعده بتجارة مرتبصُ صدق الثناء على الأمين محمد ... ومن الثناء تكذب وتخرص قد ينقص البدر المنير إذا استوى ... وبهاء نور محمد ما ينقص وإذا بنو المنصور عد خصالهم ... فمحمد ياقوتها المتخلّص قال أحمد بن حنبل: إني لأرجو أن يرحم الله الأمين بإنكاره على إسماعيل بن علية، فإنه أدخل عليه، فقال: يابن الفاعلة أنت الذي تقول كلام الله مخلوق؟ قال المسعودي: ما ولي الخلافة إلى وقتنا هذا هاشمي ابن هاشمية سوى علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، والأمين؛ فإن أمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، واسمها أمة العزيزة، وزبيدة لقب لها. وقال إسحاق الموصلي: اجتمعت في الأمين خصائل لم تكن في غيره، كان أحسن الناس وجهًا، وأسخاهم، وأشرف الخلفاء أبًا وأمًّا، حسن الأدب، عالِمًا بالشعر، لكن غلب عليه الهوى واللعب، وكان مع سخائه بالمال بخيلًا بالطعام جدًّا. وقال أبو الحسن الأحمر: كنت ربما أنسيت البيت الذي يستشهد به في النحو، فينشدنيه الأمين، وما رأيت في أولاد الملوك أذكى منه ومن المأمون. وكان قتله في المحرم سنة ثمانٍ وتسعين ومائة، وله سبع وعشرون سنة. مات في أيامه من الأعلام: إسماعيل بن علية، وغندر، وشقيق البلخي الزاهد، وأبو معاوية الضرير، ومؤرج السدوسي، وعبد الله بن كثير المقرئ، وأبو نواس الشاعر، وعبد الله بن وهب صاحب مالك، وورشٌ المقرئ، ووكيع، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وقال علي بن محمد النوفلي، وغيره: لم يدع للسفاح، ولا للمنصور، ولا للمهدي، ولا للهادي، ولا للرشيد على المنابر بأوصافهم، ولا كتبت في كتبهم حتى ولي الأمين؛ فدعي له بالأمين على المنابر، وكتب عنه: من عبد الله محمد الأمين أمير المؤمنين، وكذا قال العسكري في الأوائل: أول من دعي له بلقبه على المنابر الأمين. ومن شعر الأمين يخاطب أخاه المأمون ويعيره بأمه لما بلغه عنه أنه يعدد مثالبه ويفضل نفسه عليه، أنشده الصولي: لا تفخرنّ عليك بعد بقية ... والفخر يكمل للفتى المتكامل وإذا تطاولت الرجال بفضلها ... فاربع؛ فإنك لست بالمتطاول أعطاك ربك ما هويت، وإنما ... تلقى خلاف هواك عند مراجل تعلو المنابر كل يوم آملًا ... ما لست من بعدي إليه بواصل فتعيب من يعلو عليك بفضله ... وتعيد في حقي مقال الباطل قلت: هذا نظم عالٍ، فإن كان له فهو أحسن من نظم أخيه وأبيه. قال الصولي: ومما رواه جماعة له في خادمه كوثر، وقد سقاه، وهو على بساط نرجس والبدر قد طلع، وقد رواه بعضهم للحسين بن الضحاك الخليع، وكان نديمه لا يفارقه: وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني أراه لست أراكا وإذا ما تنفس النرجس الغـ ... ـض توهّمته نسيم ثناكا خدعٌ للمنى تعللني فيك ... بإشراق ذا ونكهة ذاكا لأقيمنّ ما حييت على الشكر ... لهذا وذاك إذا حكياكا وله في خادمه أيضًا: ما يريد الناس من ... صبٍّ بمن يهوى كثيب كوثر ديني ودنياي ... وسقمي وطبيبي أعجز الناس الذي ... يلحى محبًّا في حبيب وله لما يئس من الملك وعلا عليه طاهر: يا نفس قد حق الحذر ... أين المفر من القدر؟ كل امرئ مما يخا ... ف ويرتجيه على خطر من يرتشف صفو الزما ... ن يغصّ يومًا بالكدر وأسند الصولي أن الأمين قال لكاتبه: اكتب من عبد الله محمد أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين، سلام عليك. أما بعد؛ فإن الأمر قد خرج بيني وبين أخي إلى هتك الستور، وكشف الحرم، ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد لشتات ألفتنا، واختلاف كلمتنا، وقد رضيت أن تكتب لي أمانًا لأخرج إلى أخي، فإن تفضل عليّ فأهلٌ لذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وإن قتلني فمروة كسرة مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، ولأن يفترسني السبع أحب إليّ من أن ينبحني الكلب فأبى طاهر عليه. وأسند عن إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال: كان أبي يكلم الأمين والمأمون بكلام يتفصحان به ويقول: كان أولاد الخلفاء من بني أمية يخرج بهم إلى البدو حتى يتفصّحوا، وأنتم أولى بالفصاحة منهم. قال الصولي: ولا نعرف للأمين رواية في الحديث إلا هذا الحديث الواحد: حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال: رأيت عند الحسين بن الضحاك جماعة من بني هاشم فيهم بعض أولاد المتوكل، فسألوه عن الأمين وأدبه، فوصف الحسين أدبًا كثيرًا، قيل: فالفقه، قال: كان المأمون أفقه منه، قيل: فالحديث، قال: ما سمعت منه حديثًا إلا مرة؛ فإنه نعي إليه غلام له مات بمكة، فقال: حدثني أبي، عن أبيه، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أبيه، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من مات محرمًا حشر ملبيًا". قال الثعالبي في لطائف المعارف: كان أبو العيناء يقول: لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد؛ فإن المنصور جدها، والسفاح أخو جدها، والمهديّ عمها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها، والواثق والمتوكل ابنا ابن زوجها، وأما ولاة العهد فكثير. ونظيرتها من بني أمية عاتكة بنت يزيد بن معاوية: يزيد أبوها، ومعاوية جدها، ومعاوية بن يزيد أخوها، ومروان بن الحكم حموها، وعبد الملك زوجها، ويزيد ابنها، والوليد بن يزيد ابن ابنها، والوليد وهشام وسليمان بنو زوجها، ويزيد وإبراهيم ابنا الوليد بن عبد الملك ابنا ابن زوجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المأمون عبد الله أبو العباس 1 المأمون: عبد الله أبو العباس بن الرشيد؛ ولد سنة سبعين ومائة في ليلة لجمعة منتصف ربيع الأول، وهي الليلة التي مات فيها الهادي واستخلف أبوه، وأمه أم ولد اسمها مراجل ماتت في نفاسها به، وقرأ العلم في صغره. سمع الحديث من أبيه، وهشيم، وعباد بن العوام، ويوسف بن عطية، وأبي معاوية الضرير، وإسماعيل بن علية، وحجاج الأعور، وطبقتهم. وأدبه اليزيدي، وجمع الفقهاء من الآفاق، وبرع في الفقه، والعربية، وأيام الناس ولما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهرَ فيها؛ فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن. روى عنه: ولده الفضل، ويحيى بن أكثم، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي، والأمير عبد الله بن طاهر، وأحمد بن الحارث الشيعي، ودعبل الخزاعي، وآخرون.   1 تولى الخلافة 198هـ وحتى 218هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وكان أفضل رجال بني العباس حزمًا، وعزمًا، وحلمًا، وعلمًا، ورأيًّا، ودهاء، وهيبة، وشجاعة، وسؤددًا، وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن، ولم يلِ الخلافة من بني العباس أعلم منه، وكان فصيحًا مفوّهًا، وكان يقول: معاوية بعمره، وعبد الملك بحجّاجه، وأنا بنفسي؛ وكان يقال: لبني العباس فاتحة، وواسطة، وخاتمة، فالفاتحة السفاح، والواسطة المأمون، والخاتمة المعتضد، وقيل: إنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثًا وثلاثين ختمة، وكان معروفًا بالتشيع، وقد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن والعهد بالخلافة إلى علي الرضا كما سنذكره. قال أبو معشر المنجم: كان المأمون أمّارًا بالعدل، فقيه النفس، يعدّ من كبار العلماء. وعن الرشيد قال: إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابع -يعني نفسه- لنسبته، وقد قدمت محمدًا عليه، وإني لأعرف أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدمت عبد الله عليه. استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمانٍ وتسعين وهو بخراسان، واكتنى بأبي جعفر. قال الصولي: وكانوا يحبون هذه الكنية؛ لأنها كنية المنصور، وكان لها في نفوسهم جلالة وتفاؤل بطول عمر من كنى بها كالمنصور والرشيد. وفي سنة إحدى ومائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد، وجعل ولي العهد من بعده علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق، حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل: إنه هم أن يخلع نفسه ويفوض الأمر إليه، وهو الذي لقبه الرضا، وضرب الدراهم باسمه، وزوجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة، فاشتد ذلك على بني العباس جدًّا، وخرجوا عليه وبايعوا إبراهيم بن المهدي، ولقب: المبارك، فجهز المأمون لقتاله، وجرت أمور وحروب، وسار المأمون إلى نحو العراق، فلم ينشب علي الرضا أن مات في سنة ثلاث، فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلي، وقد مات، فردوا جوابه أغلظ جواب، فسار المأمون، وبلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده، فاختفى في ذي الحجة، فكانت أيامه سنتين إلا أيامًا، وبقي في اختفائه مدة ثماني سنين. ووصل المأمون إلى بغداد في صفر سنة أربع، فكلمه العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخضرة، فتوقف، ثم أجاب إلى ذلك. وأسند الصولي أن بعض آل بيته قالت: إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب والأمر فيك أقدر منك على برهم والأمر فيهم، فقال: إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولى لم يولِ أحدًا من بني هاشم شيئًا، ثم عمر ثم عثمان كذلك، ثم ولي علي فولّى عبد الله بن عباس البصرة، وعبيد الله اليمن، ومعبدًا مكة، وقثم البحرين، وما ترك أحدًا منهم حتى ولاه شيئًا؛ فكانت هذه منّة في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وفي سنة عشر تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، وبلغ جهازها ألوفًا كثيرة، وقام أبوها بخلع القواد وكلفتهم مدة سبعة عشر يومًا، وكتب رقاعًا فيها أسماء ضياع له، ونثرها على القواد والعباسيين؛ فمن وقعت في يده رقعة باسم ضيعة تسلمها، ونثر صينية ملئت جوهرًا بين يدي المأمون عندما زفت إليه. وفي سنة إحدى عشرة أمر المأمون بأن ينادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، وإن أفضل الخلق بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب. وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافًا إلى تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر، فاشمأزت النفوس منه، وكاد البلد يفتتن، ولم يلتئم له من ذلك ما أراد، فكفذ عنه إلى سنة ثماني عشرة. وفي سنة خمس عشرة سار المأمون إلى غزو الروم، ففتح حصن قرة عنوة، وحصن ماجدة، ثم صار إلى دمشق، ثم عاد في سنة ست عشرة إلى الروم وافتتح عدة حصون، ثم عاد إلى دمشق، ثم توجه إلى مصر ودخلها؛ فهو أول من دخلها من الخلفاء العباسيين، ثم عاد في سنة سبع عشرة إلى دمشق والروم. وفي سنة ثماني عشرة امتحن الناس بالقول بخلق القرآن، فكتب إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين في امتحان العلماء كتابًا يقول فيه: وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل جهالة بالله، وعمىً عنه، وضلالة عن حقيقة دينه، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، وذلك أنهم ساووا بين الله وبين ما أنزل من القرآن؛ فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] فكل ما جعله الله فقد خلقه، كما قال الله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وقال: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَق} [طه: 99] فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها، وقال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت} [هود: 1] والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه، ثم انتسبوا إلى السنة، وأظهروا أنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر؛ فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السّمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم، إلى أن قال: فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظًّا، وأوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه والهائل على أعدائه من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه وتطرح شهادته ولا يوثق به من عمى عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبالتوحيد، وكان عمّا سوى ذلك أعمى وأضل سبيلًا، ولعمر أمير المؤمنين، إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه، وتخرّص الباطل، ولم يعرف الله حق معرفته، فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا، وامتحنهم فيما يقولون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي، ولا واثق بمن لا يوثق بدينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق، واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك. وكتب المأمون إليه أيضًا في أشخاص سبعة أنفس -وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي- فأشخصوا إليه، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه، فردهم من الرقة إلى بغداد، وسبب طلبهم أنهم توقفوا أولًا ثم أجابوه تقيّةً. وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث، ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة، ففعل ذلك، فأجابه طائفة، وامتنع آخرون؛ فكتب يحيى بن معين وغيره يقولون: أجبنا خوفًا من السيف. ثم كتب المأمون كتابًا آخر من جنس الأول إلى إسحاق، وأمره بإحضار من امتنع، فأحضر جماعة منهم أحمد بن حنبل، وبشر بن وليد الكندي، وأبو حسان الزيادي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، وعبيد الله بن عمرو القواريري، وعلي بن الجعد، وسجادة، والذيال بن الهيثم، وقتيبة بن سعيد، وسعدويه الواسطي، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرس، وابن علية الأكبر، ومحمد بن نوح العجلي، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم، وعرض عليهم كتاب المأمون فعرّضوا ووروا ولم يجيبوا ولم ينكروا، فقال لبشر بن الوليد: ما تقول؟ قال: قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة، قال: والآن فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب، قال: أقول: كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه، ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول؟ قال: القرآن كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا أطعنا، وأجاب أبو حسان الزيادي بنحو من ذلك، ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول؟ قال: كلام الله، قال أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، لا أزيد على هذا، ثم امتحن الباقين وكتب بجواباتهم، وقال ابن البكاء الأكبر: أقول: القرآن مجعول ومحدث لورود النص بذلك، فقال له إسحاق بن إبراهيم: والمجعول مخلوق؟ قال: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قال لا أقول مخلوق، ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون، فورد عليه كتاب المأمون: بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة وملتمسوا الرئاسة فيما ليسوا له بأهل فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية، ويقول في الكتاب: فأمّا ما قال بشر فقد كذب، لم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، فإن تاب فأشهر أمره، وإن أصر على شركه ودفع أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 القرآن مخلوقًا بكفره وإلحاده فاضرب عنقه، وابعث إلينا برأسه، وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه فإن أجاب وإلا فاضرب عنقه، وأما علي بن أبي مقاتل فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلل وتحرم؟ وأما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي يسرقه من الأنبار ما يشغله، وأما أحمد بن يزيد العوام وقوله: إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله، لا في سنه، جاهل يحسن الجواب إذا أدب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك، وأما أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير الؤمنين قد عرف فحوى مقالته، واستدل على جهله وأفنه بها، وأما الفضل بن غانم فأعلمه أنه لم يخفَ على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، يعني في ولاية القضاء، وأما الزياد فأعلمه أنه كانت منتحلًا ولاء أوّل دعيّ، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه، وذكر أنه إنما قيل له: الزيادي، لأمر من الأمور. قال: وأما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبّه خساسة عقله بخساسة متجره، وأما ابن نوح والمعروف بأبي معمر وابن حاتم فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف عن التوحيد، وإن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله إلا لإربائهم وما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركًا وصاروا للنصارى شبهًا؟ وأما ابن شجاع فأعلمه أنك صاحبه بالأمس والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام، وأما سعدويه الواسطي فقل له قبح الله رجلًا بلغ به التصنع للحديث والحرص على الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة وأما المعروف بسجادة وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس العلماء القول بأن القرآن مخلوق فأعلمه أن في شغله بإعداد النوى وحكّه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد، وأما القواريري ففيما تكشّف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه، وأما يحيى العمري فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف، وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتديًا بمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي محتاج إلى أن يعلم، وقد كان أمير المؤمنين وجّه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن فجمجم عنها، وتلجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميمًا، فأنصصه عن إقراره، فإن كان مقيمًا عليه فأشهر ذلك وأظهره، ومن لم يرجع عن شركه -ممن سميت بعد بشر وابن المهدي- فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم، فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف. قال: فأجابوا كلهم عند ذلك، إلا أحمد بن حنبل، وسجادة، ومحمد بن نوح، والقواريري، فأمر بهم إسحاق فقيدوا، ثم سألهم من الغد -وهم في القيود- فأجاب سجادة، ثم عاودهم ثالثًا فأجاب القواريري، ووجّه بأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إلى الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين، فغضب وأمر بإحضارهم إليه، فحملوا إليه، فبلغتهم وطأة المأمون قبل وصولهم، إليه، ولطف الله بهم، وفرج عنهم. وأما المأمون فمرض بالروم، فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه وهو يظن أنه لا يدركه، فأتاه وهو مجهود وقد نفذت الكتب إلى البلدان فيها: من عبد الله المأمون وأخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده، بهذا النص، فقيل: إن ذلك وقع بأمر المأمون، وقيل: بل كتبوا ذلك وقت غشيٍ أصابه. ومات المأمون يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة بالبذندون من أقصى الروم، ونقل إلى طرسوس، فدفن بها. قال المسعودي: كان نزل على عين البذندون، فأعبجه بردُ مائها وصفاؤها وطيبُ حسن الموضع، وكثرة الخضرة، فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة، فأعجبته، فلم يقدر أحد أن يسبح في العين لشدة بردها، فجعل لمن يخرجها سيفًا، فنزل فراش فاصطادها وطلع، فاضطربت وفرت إلى الماء، فتنضح صدر المأمون ونحره وابتل ثوبه، ثم نزل الفراش ثانية فأخذها، فقال المأمون: تلقى الساعة، فأخذته رعدة، فغطي باللحف -وهو يرتعد ويصيح- فأوقدت حوله نار، فأتى بالسمكة، فما ذاقها لشغله بحاله، ثم أفاق المأمون من غمرته، فسأل عن تفسير المكان بالعربي؟ فقيل: مد رجليك، فتطير به، ثم سأل عن اسم البقعة، فقيل: الرقة، وكان فيما علم من مولده أنه يموت بالرقة، فكان يتجنب نزول الرقة فرقًا من الموت لما سمع هذا من الروم عرف وأيس، وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه، ولما وردت وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي: هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ... مون أو عن ملكه المأسوس خلّفوه بعرصتي طرطوس ... مثل ما خلّفوا أباه بطوس قال الثعالبي: لا يعرف أب وابن من الخلفاء أبعد قبرًا من الرشيد والمأمون. قال: وكذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد، ولم يرَ الناس مثلهم: فقبر عبد الله بالطائف، وعبيد الله بالمدينة، والفضل بالشام، وقثم بسمرقند، ومعبد بإفريقية. فصل: في نبذ من أخبار المأمون قال نفطويه: حدثنا حامد بن العباس بن الوزير قال: كنا بين يدي المأمون، فعطس، فلم نشمته، فقال: لم لا تشمتونني؟ قلنا: أجللناك يا أمير المؤمنين، قال: لست من الملوك التي تتجال عن الدعاء. وأخرج ابن عساكر عن أبي محمد اليزيدي قال: كنت أؤدب المأمون، فأتيته يومًا -وهو داخل- فوجهت إليه بعض الخدم يعلمه بمكاني، فأبطأ ثم وجهت إليه آخر، فأبطأ فقلت: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة، فقيل: أجل، ومع هذا إنه إذا فارقك تعرم على خدمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ولقوا منه أذى شديدًا، فقومه بالأدب، فلما خرج أمرت بحمله، فضربته سبع درر، قال: فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منه منديلًا، فمسح عينيه من البكاء، وجمع ثيابه، وقام إلى فرشه، فقعد متربعًا، ثم قال ليدخل، فدخل، فقمت عن المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه، ثم خرج، فجئت فقلت: لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر، فقال لي: يا أبا محمد، ما كنت أطلع الرشيد على هذه، فكيف بجعفر؟ إني أحتاج إلى أدب. وأخرج عن عبد الله بن محمد التيمي قال: أراد الرشيد سفرًا، فأمر الناس أن يتأهبوا لذلك، وأعملهم أنه خارج بعد الأسبوع، فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمعوا إلى المأمون، فسألوه أن يستعلم ذلك، ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر، فكتب إليه المأمون: يا خير من دبت المطي به ... ومن تقدى بسرجه فرس هل غاية في المسير نعرفها ... أم أمرنا في المسير ملتبس؟ ما علم هذا إلا إلى ملك ... من نوره في الظلام نقتبس إن سرت سار الرشاد متبعًا ... إن تقف فالرشاد محتبس فقرأها الرشيد، فسر بها، ووقع فيها: يا بني ما أنت والشعر، إنما الشعر أرفع حالات الدنى، وأقل حالات السرى. تقدّى: أي استمر. وأخرج عن الأصمعي قال: كان نقش خاتم المأمون: عبد الله بن عبد الله. وأخرج عن محمد بن عبد الله قال: لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان بن عفان والمأمون. قلت: وقد رددت هذا الحصر فيما تقدم. وأخرج عن ابن عيينة قال: جمع المأمون العلماء، وجلس للناس، فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلّف ستمائة دينار، أعطوني دينارًا وقالوا: هذا نصيبك، قال: فحسب المأمون ثم كسر الفريضة، ثم قال لها: هذا نصيبك، قال له العلماء كيف علمت يا أمير المرمنين؟ فقال: هذا الرجل خلف ابنتين؟ قالت: نعم، قال: فلهن الثلثان أربعمائة، وخلف والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون، وبالله ألك اثنا عشر أخًا؟ قالت: نعم، قال: أصابهم ديناران، ديناران، وأصابك دينار. وأخرج عن محمد بن حفص الأنماطي قال: تغدينا مع المأمون في يوم عيد فوضع على مائدته أكثر من ثلاثمائة لون، قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه، فقال: هذا نافع لكذا، ضار لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليتجنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا، ومن قصد قلة الغذاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فليقتصر على هذا، فقال له يحيى بن أكثم يا أمير المؤمنين، إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت هومس في حسابه، أو في الفقه كنت على بن أبي طالب -رضي الله عنه- في علمه، أو ذكر السخاء كنت حاتم طيئ في صفته، أو صدق الحديث كنت أبا ذر في لهجته، أو الكرم أنت كعب بن مامة في فعاله، أو الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه فسرّ بهذا الكلام، وقال: إن الإنسان إنما فضل بعقله، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم، ولا دم أطيب من دم. وأخرج عن يحيى بن أكثم: ما رأيت أكمل من المأمون، بت عنده ليلة فانتبه فقال: يا يحيى انظر إيش عند رجلي؟ فنظرت فلم أر شيئًا، فقال: شمعة، فتبادر الفراشون، فقال: انظروا، فنظروا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها، فقلت: قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب، فقال: معاذ الله ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم فقال: يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر، إما قريب وإما بعيد، فتأملت ما قرب فكان ما رأيت. وأخرج عن عمارة بن عقيل قال: قال لي ابن أبي حفصة الشاعر: أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ فقلت: من ذا يكون أفرس منه؟ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره، من غير أن يكون سمعه، قال: إني أنشدته بيتًا أجدت فيه فلم أره تحرك له وهو هذا: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا ... بالدين، والناس في الدنيا مشاغيل فقلت له: ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولًا عنها، فهو المطوق لها؟ ألا قلت كما قال عمك في الوليد: فلا هو في الدنيا يضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله قال ابن عساكر: أخبرنا أبو العز بن كادش، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني النضر بن شميل قال: دخلت على المأمون يمرو على أطمار، فقال لي: يا نصر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق، قال: لا، ولكنك تتقشف، فتجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز"، قلت: صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم: حدثني عوف الأعرابي، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها ولجمالها كان فيه سداد -بالكسر- من عوز". وكان المأمون متكئًا فاستوى جالسًا، وقال: السداد لحن يا نضر؟ قلت: نعم ههنا، وإنما لحن هشيم وكان لحانًا، فقال: ما الفرق بينهما؟ قلت: السداد -بالفتح- القصد في السبيل، والسداد -بالكسر- البلغة وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ما سددت به شيئًا فهو سداد، قال: أفتعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فأطرق المأمون مليًّا، ثم قال: قبح الله من لا أدب له ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب، قلت: قول ابن بيض في الحكم بن مروان: تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يومًا فلم أقم أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها ... لأي وجه إلا إلى الحكم؟ متى يقول حاجبًا سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم قد كنت أسلمت فيك مقتبلًا ... هيهات ادخل فأعطني سلمى أسلمت: أسلفت، مقتبلًا: آخذًا قبيلًا: أي كفيلا. قال: أنشدني أنصف بيت قالته العرب، قلت: قول ابن أبي عروبة المديني: إني وإن كان ابن عمي عاتبًا ... لمزاحم من خلفه وورائه ومفيد نصري وإن كان امرأً ... متزحزحًا في أرضه وسمائه وأكون والي سره، وأصونه ... حتى يحن إلى وقت أدائه وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه وإذا دعا باسمي ليركب مركبًا ... صعبًا قعدت له على سيسائه وإذا أتى من وجهه بطريقة ... لم أطلع فيما وراء خبائه وإذا ارتدى ثوبًا جميلًا لم أقل: ... يا ليبت أن علي حسن ردائه قال: أنشدني أقنع بيت قالته العرب، فأنشدته قول ابن عبدل: إني امرؤ لم أزل، وذاك من ... الله، أديبًا أعلم الأدبا أقيم بالدار ما اطمأن بي الـ ... دار، وإن كنت نازحًا طربًا لا أحتوي خلة الصديق، ولا ... أتبع نفسي شيئًا إذا ذهبا أطلب ما يطلب الكريم من الـ ... رزق بنفسي، وأجمل الطلبا إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعة رغبا والعبد لا يطلب العلاء، ولا ... يعطيك شيئًا إلا إذا رهبا مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن شيئًا إلا إذا ضربا لم أجد عروة العلائق إلا الـ ... دين لما اختبرت والحسبا قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعيس رحلا ولا قتبا ويحرم الرزق ذو المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قال: أحسنت يا نضر، وأخذ القرطاس، فكتب شيئًا لا أدري ما هو، ثم قال: كيف تقول أفعل من التراب؟ قلت: أترب، قال: ومن الطين؟ قلت: طن، قال: فالكتاب ماذا؟ قلت: مترب مطين، قال: هذه أحسن من الأول، فكتب لي بخمسين ألف درهم، ثم أمر الخادم أن يوصلني إلى الفضل بن سهل، فمضيت معه، فلما قرأ الكتاب قال: يا نضر لحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا! ولكن هشيم لحانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه، فأمر لي من عنده بثلاثين ألفًا، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفًا. وأخرج الخطيب1 عن محمد بن زياد الأعرابي قال: بعثت إلى المأمون، فصرت إليه، هو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم، فرأيتهما موليين، فجلست، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة فسمتعه يقول ليحيى: يا أبا محمد ما أحسن أدبه رآنا موليين فجلس، ثم رآنا مقبلين فقام، ثم رد علي السلام، فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة: نحن بنات طارق نمشي على ... النمارق مشي قطا الهمارق من طارق هذا؟ فنظرت في نسبها، فلم أجده فقلت: يا أمير المؤمنين ما أعرف في نسبها، فقال: إنما أرادت النجم، وانتسبت إليه لحسنها، من قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِق} [الطارق: 1] فقلت: فأيده يا أمير المؤمنين، فقال: أنا بؤبؤ هذا الأمر وابن بؤبؤه، ثم رمى إليّ بعنبرة كان يقلبها في يده بعتها بخمسة آلاف درهم. وأخرج عن أبي عبادة قال: كان المأمون أحد ملوك الأرض، وكان يجب له هذا الاسم على الحقيقة. وأخرج عن ابن أبي دؤاد قال: دخل رجل من الخوارج على المأمون، فقال له المأمون ما حملك على خلافنا؟ قال: آية في كتاب الله، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} [المائدة: 44] قال: ألك علم بأنها منزلة؟ قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل، قال: صدقت، السلام عليك يا أمير المؤمنين. وأخر ابن عساكر عن محمد بن منصور، قال: قال المأمون: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من هو دونه. وأخرج عن سعيد بن مسلم قال: قال المأمون: لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو ليذهب عنهم الخوف، ويخلص السرور إلى قلوبهم. وأخرج عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية، فقال له: والله لأقتلنك، فقال يا أمير المؤمنين تأنَّ علي، فإن الرفق نصف العفو، قال: وكيف وقد حلفت لأقتلنك؟ فقال: لأن تلقى الله حانثًا خيرًا من أن تلقاه قاتلًا؛ فخلّى سبيله. وأخرج الخطيب عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح، قال: بت عند المأمون ليلة، فنام القيم الذي كان يصلح السراج، فقام المأمون وأصلحه وسمعته يقول: ربما أكون في المتوضأ   1 أخرجه الخطيب في تاريخه "281/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فيشتمني الخدام ويفترون عليّ، ولا يدرون أني أسمع، فأعفو عنهم1. وأخرج الصولي عن عبد الله بن البواب، قال: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا وجلس مرة يستاك على دجرة من وراء ستر -ونحن قيام بين يديه- فمر ملاح وهو يقول: أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني -وقد قتل أخاه- قال: فوالله ما زاد على أن تبسم وقال لنا: ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل؟ وأخرج الخطيب عن يحيى بن أكثم قال: ما رأيت أكرم من المأمون، بت عنده ليلة فأخذه سعال، فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه2. وكان يقول: أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى. وأخرج ابن عساكر عن يحيى بن خالد البرمكي قال: قال لي المأمون: يا يحيى اغتنم قضاء حوائج الناس فإني الفلك أدور والدهر أجور من أن يترك لأحد حالًا، أو يبقى لأحد نعمة. وأخرج عن عبد الله بن محمد الزهري قال: قال المأمون: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدر تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء. وأخرج عن العتبي قال: سمعت المأمون يقول: ما أقبح اللجاجة بالسلطان، وأقبح من ذلك بالضجر من القضاة قبل التفهم، وأقبح منه سخافة الفقهاء بالدين، وأقبح منه البخل بالأغنياء، والمزاح بالشيوخ، والكسل بالشباب، والجبن بالمقاتل. وأخرج عن علي بن عبد الرحيم المروزي قال: قال المأمون: أظلم الناس لنفسه من يتقرب إلى من يبعده، ويتواضع لمن لا يكرمه، ويقبل مدح من لا يعرفه. وأخرج عن مخارق قال: أنشدت المأمون قول أبي العتاهية: وإني لمحتاج إلى ظل صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه فقال لي: أعد فأعدت سبع مرات، فقال: يا مخارق، خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب. وأخرج عن هدبة بن خالد قال: حضرت غداء المأمون، فلما رفعت المائدة جعل ألتقط ما في الأرض، فنظر إلي المأمون، فقال: أما شبعت؟ قلت: بلى، ولكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أكل ما تحت مائدة أمن من الفقر". فأمر لي بألف دينار.   1 أخرجه الخطيب في تاريخه "46/11". 2 أخرجه الخطيب في تاريخه "191/14". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وأخرج عن الحسن بن عبدوس الصفار قال: لما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، أهدى الناس إلى الحسن، فأهدى له رجل فقير مزودين في أحدهما ملح، وفي الآخر أشنان، وكتب إليه، جعلت فداك! خفة البضاعة قصرت ببعد الهمة، وكرهت أن تطوى صحيفة أهل البر ولا ذكر لي فيها، فوجهت إليك بالمبتدأ به ليمنه وبركته، وبالمختوم به لطيبه ونظافته، فأخذ الحسن المزودين ودخل بهما على المأمون، فاستحسن ذلك، وأمر بهما ففرغا وملئا دنانير. وأخرج الصولي عن محمد بن القاسم قال: سمعت المأمون يقول: أنا والله ألذ العفو حتى أخاف ألا أوجر عليه، ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إليّ بالذنوب. وأخرج الخطيب عن منصور البرمكي قال: كان للرشيد جارية، وكان المأمون يهواها؛ فبينما هي تصب على الرشيد من إبريق معها والمأمون خلفه، إذ أشار إليها بقبلة، فزجرته بحاجبها، وأبطأت عن الصب، فنظر إليها هارون فقال: ما هذا؟ فتلكأت عليه، فقال: إن لم تخبريني لأقتلنك، فقالت: أشار إلي عبد الله بقبلة، فالتفت إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه فاعتنقه، وقال: أتحبها؟ قال: نعم، قال: قم فادخل بها في تلك القبة، فقام، فلما خرج قال له: قل في هذا شعرًا، فقال: ظبي كنيت بطرفي ... عن الضمير إليه قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه ورد أحسن رد ... بالكسر من حاجبيه فما برحت مكاني ... حتى قدرت عليه وأخرج ابن عساكر عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: سمعت بعض النخاسين يقول: عرضت على المأمون جارية شاعرة فصيحة متأدبة شطرنجية، فساومته في ثمنها بألفي دينار، فقال المأمون: إن هي أجازت بيتًا أقوله ببيت من عندها أشتريها بما تقول وزدتك، فأنشد المأمون: ماذا تقولين فيمن شفه أرق ... من جهد حبك حتى صار حيرانًا فأجازته: إذا وجدنا مُحِبًا قد أضر به ... داء الصبابة أوليناه إحسانًا وأخرج الصولي عن الحسين الخليع قال: لما غضب علي المأمون ومنعني رزقًا لي عملت قصيدة أمتدحه بها ودفعتها إلى من أوصلها إليه، وأولها: أجرني فإني قد ظمأت إلى الوعد ... متى تنجز الوعد المؤكد بالعهد أعيذك من خلف الملوك، وقد ترى ... تقطع أنفاسي عليك من الوجد أيبخل فرد الحسن عني بنائل ... قليل وقد أفردته بهوى فرد إلى أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه، والله أعلم بالعبد ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مفرقة بين الضلالة والرشد فقال المأمون: قد أحسن إلا أنه القائل: أعيناي جودا وابكيا لي محمدًا ... ولا تذخرا دمعًا عليه وأسعدا فلا تمت الأشياء بعد محمد ... ولا زال شمل الملك فيه مبددًا ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدنيا طريدًا مشردًا فهذا بذاك، ولا شيء له عندنا، فقال له الحاجب: فأين عادة أمير المؤمنين في العفو؟ فقال: أما هذا فنعم، فأمر له بجائزة، ورد رزقه عليه. وأخرج عن علية عن حماد بن إسحاق قال: لما قدم المأمون بغداد جلس للمظالم كل يوم أحد إلى الظهر. وأخرج عن محمد بن العباس قال: كان المأمون يحب لعب الشطرنج شديدًا، ويقول: هذا يشحذ الذهن، واقترح فيها أشياء. وكان يقول: لا أسمعن أحدًا يقول: تعال حتى نلعب، ولكن يقول: نتداول، أو نتناقل، ولَمْ يكن حاذقًا بها. وكان يقول: أنا أدبر الدنيا فأتسع لذلك، وأضيق عن تدبير شبرين في شبرين. وأخرج عن ابن أبي سعيد قال: هجا دعبل المأمون، فقال: إني من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد فلما سمعها المأمون لم يزد على أن قال: ما أقل حياء دعبل! متى كانت خاملًا وقد نشأت في حجر الخلفاء؟ ولم يعاقبه. وأخرج من طرق عدة: أن المأمون كان يشرب النبيذ. وأخرج عن الجاحظ قال: كان أصحاب المأمون يزعمون أن لون وجهه وجسده لون واحد، سوى ساقيه فإنهما صفراوان كأنمهما طليتا بالزعفران. وأخرج عن إسحاق الموصلي قال: قال المأمون: ألذ الغناء ما طرب له السامع، خطأ كان أو صوابًا. وأخرج عن علي بن الحسين قال: كان محمد بن حامد واقفًا على رأس المأمون وهو يشرب، فاندفعت عريب، فغنت بشعر النابغة الجعدي: كحاشية البرد اليماني المسهم فأنكر المأمون ألا تكون ابتدأت بشيء، فأمسك القوم، فقال: نفيت من الرشيد، لئن لم أصدق عن هذا لأقررن بالضرب الوجيع عليه، ثم لأعاقبن عليه أشد العقوبة، ولئن صدقت لأبلغن الصادق أمله، فقال محمد بن حامد: أنا يا سيدي أومأت لها بقبلة، فقال: الآن جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الحق، صدقت أتحب أن أزوجك بها؟ قال: نعم، فقال المأمون: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين، لقد زوجت محمد بن حامد عريب مولاتي، ومهرتها عنه أربعمائة درهم، على بركة الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- خذ بيدها فقامت معه، فصار المعتصم إلى الدهليز، فقال له: الدلالة، قال: لك ذاك، قال: دلالتي أن تغنيني الليلة، فلم تزل تغنيه إلى السحر وابن حامد على الباب، ثم خرجت، فأخذت بيده، ومضت عليه. وأخرج عن أبي دؤاد قال: أهدى ملك الروم إلى المأمون هدية، فيها مائتا رطل مسك ومائتا جلد سمور، فقال: أضعفوها له ليعلم عز الإسلام. وأخرج عن إبراهيم بن الحسن قال: قال المدائني للمأمون: إن معاوية قال: بنو هاشم أسود وأحداء، ونحن أكثر سيدًا، فقال المأمون: إنه قد أقر وادعى، فهو في ادعائه خصم، وفي إقراره مخصوم. وأخرج عن أبي أمامة قال: حدثني بعض أصحابنا أن أحمد بن أبي خالد قرأ القصص يومًا على المأمون، فقال: فلان الثريدي -وهو اليزيدي- فضحك المأمون، وقال: يا غلام هات طعامًا لأبي العباس فإنه أصبح جائعًا، فاستحيا وقال: ما أنا بجائع، ولكن صاحب القصة أحمق نقط الياء بنقط الثاء، فقال: علي ذلك، فجاءه بطعام، فأكل حتى انتهى، ثم عاد فمر في قصة: فلاح الحمصي، فقال الخبيصي فضحك المأمون، وقال يا غلام جامة فيها خبيص، فقال: إن صاحب القصة كان أحمق، فتح الميم فصارت كأنها سنتان، فضحك، وقال: لولو حمقهما لبقيت جائعًا. وأخرج عن أبي عباد قال: ما أظن الله خلق نفسًا هي أنبل من نفس المأمون ولا أكرم. وكان قد عرف شره 1 أحمد بن أبي خالد، فكان إذا وجهه في حاجة غداه قبل أن يرسله، ورفع إليه في قصة: إن رأى أمير المؤمنين أن يجري على ابن أبي خالد نزلًا فإنه يعين الظالم بأكله، فأجرى المأمون ألف درهم كل يوم لمائدته. وكان مع هذا يشره إلى طعام الناس، فقال دعبل الشعر: شكرنا الخليفة إجراءه ... على ابن أبي خالد نزله فكف أذاه عن المسلمين ... وصير في بيته شغله وأخرج عن ابن أبي دؤاد قال: سمعت المأمون يقول لرجل: إنما هو غدر أو يمن، وقد وهبتهما لك، ولا تزال تسيء وأحسن، وتذنب وأغفر، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك. وأخرج عن الجاحظ قال: قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلًا أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي، والمأمون.   1 الشره: غلبة الحرص والمعنى هنا غلبة الحرص على الطعام. مختار الصحاح "337". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وأخرج السلفي في الطيوريات عن حفص المدائني قال: أتى المأمون بأسود قد ادعى النبوة وقال: أنا موسى بن عمران، فقال له المأمون: إن موسى بن عمران أخرج يده من جيبه بيضاء فأخرج يدك بيضاء حتى أومن بك، فقال الأسود: إنما جعل ذلك لموسى لما قال له فرعون: أنا ربكم الأعلى، فقل أنت كما قال فرعون حتى أخرج يدي بيضاء، وإلا لم تبيض. وأخرج أيضًا: أن المأمون قال: ما انفتق علي فتق إلا وجدت سببه جور العمال. وأخرج ابن عساكر عن يحيى بن أكثم قال: كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها، ونعله في يده، فوقف على طرف البساط وقال: السلام عليكم، فرد عليه المأمون، فقال: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت فيه، جلسته باجتماع الأمة أم بالمغالبة والقهر؟ قال: لا بهذا ولا بهذا، بل كان يتولى أمر المسلمين من عقد لي ولأخي، فلما صار الأمر إلي علمت أني محتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في المشرق والمغرب على الرضا بي، ورأيت أني متى خليت الأمر اضطرب حبل الإسلام، ومرج أمرهم، وتنازعوا، وبطل الجهاد والحج، وانقطعت السبل، فقمت حياطة للمسلمين إلى أن يجمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه الأمر، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وذهب. وأخرج عن محمد بن المنذر الكندي قال: حج الرشيد، فدخل الكوفة، فطلب المحدثين فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، فبعث إليهما الأمين والمأمون، فحدثهما ابن إدريس بمائة حديث، فقال المأمون: يا عم أتأذن لي أن أعيدها من حفظي؟ قال: افعل، فأعادها، فعجب من حفظه. وقال بعضهم: استخرج المأمون كتب الفلاسفة واليونان من جزيرة قبرص، هكذا ذكره الذهبي مختصرًا. وقال الفاكهي: أول من كسا الكعبة الديباج الأبيض المأمون، واستمر ذلك بعده إلى أيام الخليفة الناصر، إلا أن محمود بن سبكتكين كساها في خلال هذه المدة ديباجًا أصفر. ومن كلام المأمون: لا نز هة ألذ من النظر في عقول الرجال، وقال: أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يدبر وإذا أدبر أن يقبل، وقال: أحسن المجالس ما نظر فيه إلى الناس، وقال الناس ثلاثة: فمنهم مثل الغذاء لابد منه على كل حال، ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض، ومنهم كالداء مكروه على كل حال. وقال: ما أعياني جواب أحد مثلما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة، قدمه أهلها فشكا عاملهم، فقلت: كذبت، بل هو رجل عادل، فقال صدق أمير المؤمنين وكذبت أنا، قد خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد خذه واستعمله على بل آخر يشملهم من عدله وإنصافه مثل الذي شملنا، فقلت: قم في غير حفظ الله، عزلته عنكم. ومن شعر المأمون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسري مذيع فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع وله في الشطرنج: أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين إلفين معروفين بالكرم تذاكرا الحرب فاحتالا لها حيلًا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم هذا يغير على هذا، وذاك على ... هذا يغير، وعين الحزم لم تنم فانظر إلى فطن جالت بمعرفة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم وأخرج الصولي عن محمد بن عمرو، قال: دخل أصرم بن حميد على المأمون -وعنده المعتصم- فقال: يا أصرم، صفني وأخي، ولا تفضل واحدًا منا على صاحبه، فأنشد بعد قليل: رأيت سفينة تجري ببحر ... إلى بحرين دونهما البحور إلى ملكين ضوؤهما جميعًا ... سواء، حار دونهما البصير كلا الملكين يشبه ذاك هذا ... وذا هذا، وذاك وذا أمير فإن يك ذاك ذا أو ذاك هذا ... فلي في ذا وذاك معًا سرور رواق المجد ممدود على ذا ... وهذا وجهه بدر منير ذكر أحاديث من رواية المأمون: قال البيهقي: سمعت الإمام أبا عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا أحمد الصيرفي، سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول: صليت العصر في الرصافة خلف المأمون في المقصورة يوم عرفة، فلما سلم كبر الناس، فرأيت المأمون خلف الدرابزين وهو يقول: لا يا غوغاء، لا يا غوغاء، غدًا سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم- فلما كان يوم الأضحى حضرت إلى الصلاة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا، حدثنا هشيم بن بشير، حدثنا ابن شبرمة عن الشعبي عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن دينار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه، ومن ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة" 1. الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلًا، اللهم أصلحني واستصلحني، وأصلح على يدي. قال الحاكم: هذا الحديث لم نكتبه إلا عن أبي أحمد وهو عندنا ثقة مأمون، ولم يزل في القلب منه شيء حتى ذاكرت به أبا الحسن الدارقطني فقال: هذه الرواية عندنا صحيحة عن جعفر، فقلت: هل من متابع فيه لشيخنا أبي أحمد؟ فقال: نعم، ثم قال: حدثني الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات، حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الروزباذي، حدثنا محمد بن عبد الملك التاريخي -قال الدارقطني: وما فيهم إلا ثقة مأمون- حدثنا جعفر الطيالسي، حدثنا يحيى بن معين، قال: سمعت المأمون، فذكر الخطبة والحديث.   1 أخرجه البيهقي في السنن "276/9"، والبيهقي في شعب الإيمان "3727/5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وقال الصولي: حدثنا جعفر الطيالسي، حدثنا يحيى بن معين، قال: خطبنا المأمون ببغداد يوم الجمعة، ووافق يوم عرفة، فلما سلم كبر الناس، فأنكر التكبير ثم وثب حتى أخذ بخشب المقصورة وقال: يا غوغاء، ما هذا التكبير في غير أيامه؟ حدثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة والكبير في غد ظهرًا عند انقضاء التلبية إن شاء الله تعالى. وقال الصولي: حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، قال: كنا عند المأمون، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلق عيال الله، فأحب عباد الله إلى الله -عز وجل- أنفعهم لعياله" 1. فصاح المأمون، وقال: اسكت، أنا أعلم بالحديث منك، حدثنيه يوسف بن عطية الصفار، عن ثابت، عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الخلق عيال الله، فأحب عباد الله أنفعهم لعياله". أخرجه من هذا الطريق ابن عساكر، وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده وغيره من طرق عن يوسف بن عطية. وقال الصولي: حدثنا المسيح بن حاتم العكلي، حدثنا عبد الجبار بن عبد الله، قال: سمعت المأمون يخطب، فذكر في خطبته الحياء فوصفه ومدحه، ثم قال: حدثنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن أبي بكرة وعمران بن حصين قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء: والجفاء في النار" 2. أخرجه ابن عساكر من طريق يحيى بن أكثم عن المأمون. وقال الحاكم: حدثنا الحسين بن تميم، حدثنا الحسين بن فهم، حدثنا يحيى بن أكثم القاضي، قال: قال لي المأمون يومًا: يا يحيى، إني أريد أن أحدث، فقلت: ومن أولى بهذا من أمير المؤمنين؟ فقال: ضعوا لي منبرًا فصعد وحدث، فأول حديث حدثنا به: عن هشيم، عن أبي الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار". ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثًا، ثم نزل، فقال لي: يا يحيى، كيف رأيت مجلسنا؟ قلت: أجل مجلس يا أمير المؤمنين، تفقه الخاصة والعامة، فقال: لا وحياتك ما رأيت لكم حلاوة، وإنما المجلس لأصحاب الخلقان والمحابر3. وقال الخطيب: حدثنا أبو الحسن علي بن القاسم الشاهد، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن عثمان، حدثنا الحسين بن عبيد الله الأبزاري، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: لما فتح المأمون مصر قال له قائل: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي كفاك أمر عدوك، وأدان لك العراقين والشامات ومصر، وأنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ويحك! إلا أنه بقيت لي خلة، وهو أن أجلس في مجلس ويستملي يحيى فيقول لي: من ذكرت رضي   1 أخرجه ابن عدي "154،153/7". 2 أخرجه ابن عساكر "294/245/4". 3 الخلقان: جمع خلق وهو البالي ومنه ثوب خلق. مختار الصحاح "187". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الله عنك؟ فأقول: حدثنا الحمادان حماد بن سلمة وحماد بن زيد قالا: حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عال ابنتين أو ثلاثًا أو أختين أو ثلاثًا حتى يمتن أو يموت عنهن، كان معي كهاتين في الجنة" 1، وأشار بالمسبحة والوسطى. قال الخطيب: في هذا الخبر غلط فاحش، ويشبه أن يكون المأمون رواه عن رجل عن الحمادين، وذلك أن مولد المأمون سنة سبعين، ومات حماد بن سلمة في سنة سبع وستين قبل مولده بثلاث سنين، وأما حماد بن زيد فمات في تسع وسبعين. وقال الحاكم: حدثنا ابن يعقوب بن إسماعيل الحافظ، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال وقف المأمون يومًا للأذان ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه رجل غريب بيده محبرة، فقال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث منقطع به، فقال له المأمون: إيش تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر فيه شيئًا، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم وحدثنا حجاج، وحدثنا فلان، حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب ثانٍ، فلم يذكر شيئًا، فذكره المأمون، ثم نظر إلى أصحابه فقال: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول: أنا من أصحاب الحديث، أعطوه ثلاثة دراهم. وقال ابن عساكر: حدثنا محمد بن إبراهيم الغزي، حدثنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن السري التفليسي، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي، أخبرني عبيد الله بن محمد الزاهد العكبري، حدثنا عبد الله بن محمد بن مسيح، حدثنا محمد بن المغلس، حدثنا محمد بن السري القنطري، حدثنا علي بن عبد الله، قال: قال يحيى بن أكثم: بت ليلة عند المأمون، فانتبهت في جوف الليل وأنا عطشان فتقلبت، فقال: يا يحيى ما شأنك؟ قلت: عطشان، فوثب من مرقده فجاءني بكوز من ماء، فقلت يا أمير المؤمنين ألا دعوت بخادم ألا دعوت بغلام؟ قال: لا حدثني أبي عن أبيه عن جده، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد القوم خادمهم" 2. وقال الخطيب: حدثنا الحسن بن عثمان الواعظ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحاكم الواسطي، حدثني أحمد بن الحسن الكسائي، حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني، حدثني يحيى بن أكثم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: حدثني الرشيد، حدثني المهدي، حدثني المنصور عن أبيه عن عكرمة، عن ابن عباس، حدثني جرير بن عبد الله سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سيد القوم خادمهم" 3. وقال ابن عساكر: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد، حدثنا القاضي أبو المظفر هناد بن إبراهيم النسفي، حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان الغنجار، حدثنا أبو أحمد علي بن محمد بن عبد الله المروزي، حدثنا أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن   1 أخرجه الخطيب في تاريخه "81/11". 2 أخرجه ابن عساكر "9/ 24835/ كنز". 3 أخرجه الخطيب في تاريخه "187/10". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الكاتب، حدثني محمد بن قدامة بن إسماعيل صاحب النضر بن شميل، حدثنا أبو حذيفة البخاري، قال: سمعت المأمون أمير المؤمنين يحدث عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مولى القوم منهم" 1، قال محمد بن قدامة: فبلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا عنه، فأمر له بعشرة آلاف درهم. وفي أيام المأمون أحصى أولاد العباس، فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفًا، ما بين ذكر وأنثى، وذلك في سنة مائتين. وفي أيامه مات من الأعلام: سفيان بن عيينة، والإمام الشافعي، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، ويونس بن بكير راوي المغازي، وأبو مطيع البلخي صاحب أبي حنيفة -رحمه الله- ومعروف الكرخي الزاهد، وإسحاق بن بشر صاحب كتاب المبتدأ، وإسحاق بن الفرات قاضي مصر، ومن أجلة أصحاب مالك، وأبو عمرو الشيباني اللغوي، وأشهب صاحب مالك، والحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة، وحماد بن أسامة الحافظ، وروح بن عبادة، وزيد بن الحباب، وأبو داود الطيالسي، والغازي بن قيس من أصحاب مالك، وأبو سليمان الداراني الزاهد المشهور، وعلي الرضا بن موسى الكاظم، والفراء إمام العربية، وقتيبة بن مهران صاحب الإمالة، وقطرب النحوي، والواقدي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، والنضر بن شميل، والسيدة نفسية، وهشام أحد النحاة الكوفيين، واليزيدي، واليزيد بن هارون، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي قارئ البصرة، وعبد الرزاق، وأبو العتاهية الشاعر، وأسد السنة، وأبو عاصم النبيل، والفريابي، وعبد الملك بن الماجشون، وعبد الله بن الحكم، وأبو زيد الأنصاري صاحب العربية، والأصمعي وخلائق آخرون.   1 أخرجه ابن عساكر "29642/10كنز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن الرشيد 1 المعتصم بالله، أبو إسحاق، محمد بن الرشيد، ولد سنة ثمانين ومائة، كذا قال الذهبي، وقال الصولي: في شعبان سنة ثمانٍ وسبعين. وأمه أم ولد، من مولدات الكوفة، اسمها ماردة، وكانت أحظى الناس عند الرشيد، روى عن أبيه، وأخيه المأمون، وروى عنه: إسحاق الموصلي، وحمدون بن إسماعيل، وآخرون. وكان ذا شجاعة، وقوة، وهمة، وكان عريًّا من العلم. فروى الصولي، عن محمد بن سعيد، عن إبراهيم بن محمد الهاشمي، قال: كان مع المعتصم غلام في الكتاب يتعلم معه، فمات الغلام، فقال له الرشيد أبوه: يا محمد مات غلامك، قال: نعم يا سيدي واستراح من الكتاب، فقال: وإن الكتاب ليبلغ منك هذا، دعوه لا تعلموه، قال: فكان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة.   1 تولى الخلافة 218هـ وحتى 227هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقال الذهبي: كان المعتصم من أعظم الخلفاء وأهيبهم، لولا ما شان سؤدده بامتحان العلماء بخلق القرآن. وقال نفطويه والصولي: للمعتصم مناقب، وكان يقال له: المثمن؛ لأنه ثامن الخلفاء من بني العباس، والثامن من ولد العباس، وثامن أولاد الرشيد، وملك سنة ثماني عشرة، وملك ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومولده سنة ثمانٍ وسبعين، وعاش ثمانيًا وأربعين سنة، وطالعه العقرب، وهو ثامن برج، وفتح ثمانية فتوح، وقتل ثمانية أعداء، وخلف ثمانية أولاد، ومن الإناث كذلك، ومات لثمانٍ بقين من ربيع الأول. وله محالسن، وكلمات فصيحة، وشعر لا بأس به، غير أنه إذا غضب لا يبالي من قتل. وقال ابن أبي دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلي، ويقول: يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك، فأمتنع، فيقول: إنه لا يضرني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلًا عن الأسنان. وقال نفطويه: وكان من أشد الناس بطشًا، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره. وقال غيره: هو أول خليفة أدخل الأتراك الديوان. وكان يتشبه بملوك الأعاجم، ويمشي مشيتهم، وبلغ غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفًا. وقال ابن يونس: هجا دعبل المعتصم ثم نذر به، فخاف وهرب حتى قدم مصر ثم خرج إلى المغرب، والأبيات التي هجاه بها هذه: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم يأتنا في ثمانٍ منهم الكتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... غداة ثووا فيها وثامنهم كلب وإني لأزهى كلبهم عنك رغبة ... لأنك ذو ذنب وليس له ذنب لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم ... وصيف وأشناس، وقد عظم الخطب وإني لأرجو أن ترى من مغيبها ... مطالع شمس قد يغص بها الشرب وهمك تركي عليه مهانة ... فأنت له أم وأنت له أب بويع له بالخلافة بعد المأمون، في شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين فسلك ما كان المأمون عليه وختم به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن، فكتب إلى البلاد بذلك، وأمر المعلمين أن يعلموا الصبيان ذلك، وقاسى الناس منه مشقة في ذلك، وقتل عليه خلقًا من العلماء، وضرب الإمام أحمد بن حنبل، وكان ضربه في سنة عشرين، وفيها تحول المعتصم من بغداد وبنى سر من رأى، ولك أنه اعتنى باقتناء الترك، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم، وبذل فيهم الأموال، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد، ويؤذون الناس، وضاقت بهم البلد، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا: إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك، قال: وكيف تحاربونني؟ قالوا: بسهام الأسحار، قال: لا طاقة لي بذلك؛ فكان ذلك سبب بنائه: سر من رأى، وتحول إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وفي سنة ثلاث وعشرين غزا المعتصم الروم، فأنكاهم نكاية عظيمة لم يسمع بمثلها لخليفة، وشتت جموعهم، وخرب ديارهم، وفتح عمورية بالسيف، وقتل منها ثلاثين ألفًا وسبى مثلهم وكان لما تجهز لغزوها حكم المنجمون أن ذلك طالع نحس، وأنه يكسر، فكان من نصره وظفره ما لم يخف، فقال في ذلك أبو تمام قصيدته المشهورة، وهي هذه: السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين، لا في السبعة الشهب أين الرواية؟ أم أين النجوم؟ وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرصًا وأحاديثًا ملفقة ... ليست بعجم إذا عدت ولا عرب مات المعتصم يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين، وكان قد ذلل العدو بالنواحي، ويقال: إنه قال في مرض موته: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] ولما احتضر جعل يقول: ذهبت الحيلة فليس حيلة، وقيل: جعل يقول: أو خذ من بين هذا الخلق، وقيل: إنه قال: اللهم إنك تعلم أني أخافك من قبلي، ولا أخافك من قبلك، وأرجوك من قبلك، ولا أرجوك من قبلي، ومن شعره: قرب النحام واعجل يا غلام ... واطرح السرج عليه واللجام أعلم الأتراك أني خائض ... لجة الموت فمن شاء أقام وكان قد عزم على المسير إلى أقصى الغرب؛ ليملك البلاد التي لم تدخل في ملك بني العباس لاستيلاء الأموي عليها؛ فروى الصولي عن أحمد بن الخصيب قال: قال لي المعتصم: إن بني أمية ملكوا وما لأحد منا ملك، وملكنا نحن ولهم بالأندلس هذا الأموي، فقدر ما يحتاج إليه لمحاربته، وشرع في ذلك فاشتدت علته ومات. وقال الصولي: سمعت المغيرة بن محمد يقول: يقال: إنه لم يجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعها بباب المعتصم، ولا ظفر ملك قط كظفره، أسر ملك أذربيجان، وملك طبرستان، وملك استيسان، وملك الشياصح، وملك فرغانة، وملك طخارستان، وملك الصفة، وملك كابل. وقال الصولي: وكان نقاش خاتمه: الحمد الله الذي ليس كمثله شيء. ومن أخبار المعتصم -أخرج الصولي عن أحمد اليزيدي قال: لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان وجلس فيه دخل عليه الناس، فعمل إسحاق الموصلي قصيدة فيه ما سمع أحد بمثلها في حسنها، إلا أنه افتتحها بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك؟! فتطير المعتصم، وتطير الناس، وتغامزوا، وتعجبوا كيف ذهب هذا على إسحاق مع فهمه وعلمه وطول خدمته للملوك؟ وخرب المعتصم القصر بعد ذلك. وأخرج عن إبراهيم بن العباس، قال: كان المعتصم إذا تكلم بلغ ما أراد وزاد عليه، وكان أول من ثرد الطعام وكثره، حتى بلغ ألف دينار في اليوم. وأخرج عن أبي العيناء قال: سمعت المعتصم يقول: إذا نصر الهوى بطل الرأي. وأخرج عن إسحاق قال: كان المعتصم يقول: من طلب الحق بماله وعليه أدركه. وأخرج عن محمد بن عمر الرومي، قال: كان للمعتصم غلام يقال له: عجيب، لم ير الناس مثله قط، وكان مشغوفًا به، فعمل فيه أبياتًا، ثم دعاني، وقال: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب، لحب أمير المؤمنين لي، وميلي إلى اللعب وأنا حدث، فلم أنل ما نالوا، وقد عملت في عجيب أبياتًا، فإن كانت حسنة وإلا فاصدقني، حتى أكتمها، ثم أنشد شعرًا. لقد رأيت عجيبًا ... يحكي الغزال الربيبا الوجه منه كبدر ... والقدر يحكي القضيبا وإن تناول سيفًا ... رأيت ليثًا حريبًا وإن رمى بسهام ... كان المجيد المصيبا طبيب ما بي من الحب ... فلا عدمت الطبيبا إني هويت عجيبًا ... هوى أراه عجيبًا فحلفت له بأيمان البيعة أنه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء، فطابت نفسه، وأمر لي بخمسين ألف درهم. وقال الصولي: حدثنا عبد الواحد بن العباس الرياشي قال: كتب ملك الروم إلى المعتصم كتابًا يهدده فيه، فلما قرئ عليه قال للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فقد قرأت كتابك وسمعت خطابك، والجواب ما ترى، لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار. وأخرج الصولي عن الفضل اليزيد قال: وجه المعتصم إلى الشعراء ببابه: من منكم يحسن أن يقول فينا كما قال منصور النمري في الرشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع من لم يكن بأمين الله معتصمًا ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع إن أخلف القطر لم تخلف فواضله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع فقال أبو وهيب: فينا من يقول خيرًا منه فيك، وقال: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها: ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر تحكى أفاعيله في كل نائبة ... الليث والغيث والصمصامة الذكر ولما مات رثاه وزيره محمد بن عبد الملك، جامعًا بين العزاء والهناء، فقال: قلد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين اذهب فنعم الحفيظ كنت ... على الدنيا ونعم الظهير للدين ما يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون حديث رواه المعتصم: قال الصولي حدثنا العلائي، حدثنا عبد الملك بن الضحاك، حدثني هشام بن محمد، حدثني المعتصم، قال: حدثني أبي الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن أبيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى قوم من بني فلان يتبخترون في مشيهم، فعرف الغضب في وجهه، ثم قرأ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن} [الإسرم: 60] فقيل له: أي شجرة هي يا رسول الله حتى نجتثها؟ فقال: "ليست بشجرة نبات إنما هم بنو أمية، إذا ملكوا جاروا، وإذا ائتمنوا خانوا"، وضرب بيده على ظهر عمه العباس، فقال: "يخرج الله من ظهرك يا عم رجلًا يكون هلاكهم على يده". قلت: الحديث موضوع، وآفته العلائي. وقال ابن عساكر: أنبأنا أبو القاسم علي بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن أحمد، حدثني علي بن الحسين الحافظ، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن طالب البغدادي، حدثنا ابن خلاد، حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الضبيعي، حدثنا إسحاق بن يحيى معاذ، قال: كنت عند المعتصم أعوده، فقلت: أنت في عافية، فقال: كيف وقد سمعت الرشيد يحدث عن أبيه المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده، عن ابن عباس مرفوعًا: "من احتجم في يوم الخميس فمرض فيه، مات فيه". قال ابن عساكر: سقط منه رجلان بين ابن الضبيعي وإسحاق، ثم أخرجه من طريق أخرى عن الضبيعي، عن أحمد بن محمد بن الليث، عن منثور بن النضر، عن إسحاق. وممن مات في أيام المعصتم من الأعلام: الحميدي شيخ البخاري، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأبو غسان المهدي، وقالون المقرئ، وخلاد المقرئ، وآدم بن أبي إياس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وعفان، والقعنبي، وعبدان المروزي، وعبد الله بن صالح كاتب الليث، وإبراهيم بن المهدي، وسليمان بن حرب، وعلي بن محمد المدائني، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وقرة بن حبيب، وعارم، ومحمد بن عيسى الطباع الحافظ، وأصبغ بن الفرج الفقيه المالكي، وسعدويه الواسطي، وأبو عمر الجرمي النحوي، ومحمد بن سلام البيكندي، وسنيد، وسعيد بن كثير بن عفير، ويحيى بن يحيى التميمي، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الواثق بالله هارون 1 الواثق بالله هارون، أبو جعفر -وقيل: أبو القاسم- ابن المعتصم بن الرشيد. أمه أم ولد رومية، اسمها قراطيس. ولد لعشر بقين من شعبان سنة ست وتسعين ومائة، وولي الخلافة بعهد من أبيه، بويع له في تاسع عشر ربيع الأول سنة سبع وعشرين. وفي سنة ثمانٍ وعشرين استخلف على السلطنة أشناس التركي، وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجًا مجوهرًا، وأظن أنه أول خليفة استخلف سلطانًا، فإن الترك إنما كثروا في أيام أبيه. وفي سنة إحدى وثلاثين ورد كتابه إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في ذلك، ثم رجع في آخر أمره. وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي، وكان من أهل الحديث، قائمًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أحضره من بغداد إلى سامرا مقيدًا، وسأله عن القرآن، فقال: ليس بمخلوق، وعن الرؤية في القيامة، فقال: كذا جاءت الرواية، وروى له الحديث، فقال الواثق له: تكذب، فقال للواثق: بل تكذب أنت، فقال: ويحك! يرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟! إنما كفرت بربي وصفته، ما تقولون فيه؟ فقال: جماعة من فقهاء المعتزلة الذين حوله: هو حلال الضرب، فدعا بالسيف، وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربًّا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد، فمشى إليه، فضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها، وصلبت جثته في سر من رأى، واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل، فأنزله ودفنه. ولما صلب كتب ورقة وعلقت في أذنه، فيها: هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره، ووكل بالرأس من يحفظه ويصرفه عن القبلة برمح، فذكر الموكل به أنه رآه بالليل يستدير إلى القبلة، فقرأ سورة يس بلسان طلق، رويت هذه الحكاية من غير وجه.   1 تولى الخلافة 227هـ، حتى 232هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وفي هذه السنة استفك من الروم ألفًا وستمائة أسير مسلم، فقال ابن أبي دؤاد قبحه الله: من قال من الأسارى القرآن مخلوق خلصوه وأعطوه دينارين، ومن امتنع دعوه في الأسر. قال الخطيب: كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن، ويقال: إنه رجع عنه قبل موته. وقال غيره: حمل إليه رجل فيمن حمل مكبّلًا بالحديد من بلاده، فلما دخل -وابن أبي دؤاد حاضر- قال المقيد: أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه، أعلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يدع الناس إليه، أم شيء لم يعلمه؟ قال ابن أبي دؤاد بل علمه، قال: فكان يسعه ألا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم؟ قال: فبهتوا وضحك الواثق، وقام قابضًا على فمه ودخل بيتًا، ومد رجليه وهو يقول: وسع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسكت عنه ولا يسعنا، فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار، وأن يردّ إلى بلده، ولم يمتحن أحدًا بعدها، ومقت ابن أبي دؤاد من يومئذ. والرجل المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي شيخ أبي داود والنسائي. قال ابن أبي الدنيا: كان الواثق أبيض، تعلوه صفرة، حسن اللحية، وفي عينيه نكتة. قال يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير. وقال غيره: كان الواثق وافر الأدب، مليح الشعر، وكان يحب خادمًا أهدي له من مصر، فأغضبه الواثق يومًا، ثم إنه سمعه يقول لبعض الخدم، والله إنه ليروم أن أكلمه من أمس فما أفعل، فقال الواثق. ياذا الذي بعذابي ظل مفتخرًا ... ما أنت إلا مليك جار إذا قدرا لولا الهوى لتجارينا على قدر ... وإن أفق منه يومًا ما فسوف ترى ومن شعر الواثق في خادمه: مهج يملك المهج ... بسجى اللحظ والدّعج حسن القد مخطف ... ذو دلال وذو غنج ليس للعين إن بدا ... عنه باللحظ منعرج وقال الصولي: كان الواثق يسمى المأمون الأصغر لأدبه وفضله، وكان المأمون يعظمه ويقدمه على ولده، وكان الواثق أعلم الناس بكل شيء، وكان شاعرًا، وكان أعلم الخلفاء بالغناء. وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت، وكان حاذقًا بضرب العود، راوية للأشعار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 والأخبار. وقال الفضل اليزيدي: لم يكن في خلفاء بني العباس أكثر رواية للشعر من الواثق، فقيل له: كان أروى من المأمون؟ فقال: نعم، كان المأمون قد مزج بعلم العرب علم الأوائل من النجوم والطب والمنطق، وكان الواثق لا يخلط بعلم العرب شيئًا. وقال يزيد المهلبي: كان الواثق كثير الأكل جدًّا. وقال ابن فهم: كان للواثق خوان من ذهب مؤلف من أربع قطع يحمل كل قطعة عشرون رجلًا، وكل ما على الخوان من غضارة وصفحة، وسكرجة من ذهب، فسأله ابن أبي دؤاد ألا يأكل عليه للنهي عنه، فأمر أن يكسر ذلك ويضرب ويحمل إلى بيت المال. وقال الحسين بن يحيى: رأى الواثق في النوم كأنه يسأل الله الجنة، وأن قائلًا يقول له: لا يهلك على الله إلا من قلبه مرت، فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك، فلم يعرفوا معناه، فوجه إلى أبي محلم وأحضره، فسأله عن الرؤيا والمرت، فقال أبو محلم: المرت: القفر الذي لا ينبت شيئًا، فالمعنى على هذا لا يهلك على الله إلا من قلبه خالٍ من الإيمان خلو المرت من النبات، فقال له الواثق: أريد شاهدًا من الشعر في المرت، فبادر بعض من حضر فأنشد بيتًا لبني أسد: ومرت مروتاة يحار بها القطا ... ويصبح ذو علم بها وهو جاهل فضحك أبو محلم، وقال: والله لا أبرح حتى أنشدك، فأنشده للعرب مائة قافية معروفة لمائة شاعر معروف في كل بيت ذكر المرت، فأمر له الواثق بمائة ألف دينار. وقال حمدون بن إسماعيل: ما كان في الخلفاء أحد أحلم من الواثق، ولا أصبر على أذى ولا خلاف منه. وقال أحمد بن حمدون: دخل هارون بن زياد مؤدب الواثق إليه، فأكرمه إلى الغاية، فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا الفعل؟ فقال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله. ومن مديح علي بن الجهم فيه: وثقت بالملك الواثق بالله النفوس ... ملك يشقى به المال ولا يشقى الجليس أسد يضحك من شداته الحرب العبوس ... أنس السيف به واستوحش الطلق النفيس يا بني العباس يأبى الله إلا أن تروسوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 مات الواثق بـ: سر من رأى، يوم الأربعاء لستٍ بقين من ذي الحجة سنة مائتين واثنتين وثلاثين ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين: الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ما ضر أهل قليل من تفارقهم ... وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا وحكي أنه لما مات ترك وحده واشتغل الناس بالبيعة للمتوكل، فجاء جرذون فاستل عينه فأكلها. مات في أيامه من الأعلام: مسدد، وخلف بن هشام البزار المقرئ، وإسماعيل بن سعيد الشالخي شيخ أهل طبرستان، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو تمام الطائي الشاعر، ومحمد بن زياد بن الأعرابي اللغوي، والبويطي صاحب الشافعي مسجونًا مقيدًا في المحنة وعلي بن المغيرة الأثرم اللغوي، وآخرون. ومن أخبار الواثق: أسند الصولي عن جعفر بن الرشيد قال: كانّا بين يدي الواثق وقد اصطبح، فناوله خادمه مهج وردًا ونرجسًا، فأنشد في ذلك بعد يوم لنفسه: حياك بالنرجس والورد ... معتدل القامة والقد فألهبت عيناه نار الهوى ... وزاد في اللوعة والوجد أملت بالملك له قربة ... فصار ملكي سبب البعد ورنحته سكرات الهوى ... فمال بالوصل إلى الصد إن سئل البذل ثنى عطفه ... وأسبل الدمع على الخد غر بما تجنيه ألحاظه ... لا يعرف الإنجاز للوعد مولى تشكي الظلم من عبده ... فأنصفوا المولى من العبد قال: فأجمعوا أنه ليس لأحد من الخلفاء مثل هذه الأبيات. وقال الصولي: حدثني عبد الله بن المعتز قال: أنشدني بعض أهلنا للواثق وكان يهوى خادمين لهذا يوم يخدمه فيه، ولهذا يوم يخدمه فيه: قلبي قسيم بين نفسين ... فمن رأى روحًا بجسمين يغضب ذا إن جاد ذا بالرضا ... فالقلب مشغول بشجوين وأخرج عن الحزنبل قال: غنى في مجلس الواثق بشعر الأخطل: وشاد مربح بالكاس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فقال: أسوار أو سئار؟ فوجه إلى ابن الأعرابي يسأل عن ذلك، فقال: سوار وثاب، يقول: لا يثب على ندمائه، وسئار مفضل في الكأس سؤرًا، وقد رويا جميعًا، فأمر الواثق لابن الأعرابي بعشرين ألف درهم. وقال: حدثني ميمون بن إبراهيم، حدثني أحمد بن الحسين بن هشام قال: تلاحى الحسين بن الضحاك ومخارق يومًا في مجلس الواثق في أبي نواس وأبي العتاهية أيهما أشعر؟ فقال الواثق: اجعلا بينكما خطرًا، فجعلا بينهما مائتي دينار، فقال الواثق: من ههنا من العلماء؟ فقيل: أبو محلم، فأحضره فسئل عن ذلك، فقال: أبو نواس أشعر، وأذهب في فنون العرب، وأكثر افتنانًا من أفانين الشعر، فأمر الواثق بدفع الخطر إلى الحسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 المتوكل على الله جعفر 1 المتوكل على الله: جعفر أبو الفضل بن المعتصم بن الرشيد، أمه أم ولد اسمها شجاع، ولد سنة خمس-وقيل: سبع- ومائتين، وبويع له في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وبعد الواثق، فأظهر الميل إلى السنة، ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وفي سنة أربع وثلاثين. واستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة، فاجتمع إليه أيضًا نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه أيضًا نحو من ثلاثين ألف نفس، وتوفّر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له، حتى قال قائلهم: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم. وقال أبو بكر ابن الخبازة في ذلك: وبعد، فإن السنة اليوم أصبحت ... معزّزة حتى كأن لم تذلل تصول وتسطو إذ أقيم منارها ... وحط منار الإفك والزور من عل وولّى أخو الإبداع في الدين هاربًا ... إلى النار يهوى مدبرًا غير مقبل شفى الله منهم بالخليفة جعفر ... خليفته ذي السنة المتوكل خليفة ربي وابن عم نبيه ... وخير بني العباس من منهم ولي   1 تولى الخلافة سنة 232هـ، وحتى 247هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وجامع شمل الدين بعد تشتت ... وفاري رءوس المارقين بمنصل أطال بنا رب العباد بقاءه ... سليمًا من الأهوال غير مبدل وبوّأه النصر للدين جنة ... يجاور في روضاتها خير مرسل وفي هذه السنة أصاب ابن أبي دؤاد فالج صيره حجرًا ملقى، فلا آجره الله. ومن عجائب هذه السنة أنه هبت ريح بالعراق شديدة السموم، ولم يعهد مثلها أحرقت زرع الكوفة، والبصرة، وبغداد، وقتلت المسافرين، ودامت خمسين يومًا واتصلت بهمذان، وأحرقت الزرع والمواشي، واتصلت بالموصل وسنجار، ومنعت الناس من المعاش في الأسواق، ومن المشي في الطرقات، وأهلكت خلقًا عظيمًا. وفي السنة التي قبلها جاءت زلزلة مهولة بدمشق، سقطت منها دور، وهلك تحتها خلق، وامتدت إلى أنطاكية فهدمتها، وإلى الجزيرة فأحرقتها، وإلى الموصل فيقال: هلك من أهلها خمسون ألفًا. وفي سنة خمس وثلاثين ألزم المتوكل النصارى بلبس الغل. وفي سنة ست وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وخرّب، وبقى صحراء، وكان المتوكل معروفًا بالتعصب فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك: بالله إن كانت أمية قد أتت ... قتل ابن بنت نبيها مظلومًا فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ... هذا لعمري قبره مهدومًا أسفوا على ألا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميمًا وفي سنة سبع وثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر: أبي بكر محمد بن أبي الليث، وأن يضربه، ويطوف به على حمار ففعل -ونعم ما فعل- فإنه كان ظالِمًا من رءوس الجهمية، وولي القضاء بَدَلَه الحارث بن مسكين من أصحاب مالك، وبعد تمنع، وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطًا ليرد المظالم إلى أهلها. وفي هذه السنة ظهرت نار بعسقلان أحرقت البيوت والبيادر، ولم تزل تحرق إلى ثلث الليل، ثم كفت. وفي سنة ثمانٍ وثلاثين كبست الروم دمياط، ونهبوا وأحرقوا، وسبوا منها ستمائة أمة، وولو مسرعين في البحر. وفي سنة أربعين سمع أهل خلاط صيحة عظيمة من جو السماء، فمات منها خلق كثير، ووقع بَردٌ بالعراق كبيض الدجاج، وخسف بثلاث عشرة قرية بالمغرب. وفي سنة إحدى وأربعين ماجت النجوم في السماء، وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل، وكان أمرًا مزعجًا لم يعهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وفي سنة اثنتين وأربعين زلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس، وأعمالها، والريّ، وخراسان، ونيسابور، وطبرستان، وأصبهان، وتقطعت الجبال، وتشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل في الشق، ورجمت قرية السويداء بناحية مصر من السماء، وَوُزنَ حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال، وسار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين، ووقع بحلب طائر أبيض دون الرخمة في رمضان فصاح: يا معشر الناس اتقوا الله، الله، الله، الله، وصاح أربعين صوتًا ثم طار وجاء من الغد ففعل كذلك، وكتب البريد بذلك، وأشهد عليه خمسمائة إنسان سمعوه. وفيها حج من البصرة إبراهيم بن مطهر الكاتب على عجلة تجرها الإبل، وتعجب الناس من ذلك. وفي سنة ثلاث وأربعين قدم المتوكل دمشق، فأعجبته، وبنى له القصر بداريًّا وعزم على سكناها، فقال يزيد بن محمد المهلبي أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق فإن تَدَع العراق وساكنيه ... فقد تبلي المليحة بالطلاق فبدا له ورجع بعد شهرين أو ثلاثة. وفي سنة أربع وأربعين قتل المتوكل يعقوب بن السِّكِّيت الإمام في العربية فإنه ندبه إلى تعليم أولاده، فنظر المتوكل يومًا إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت: من أحب إليك هما أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر -يعني: مولى عليّ- خير منهما، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات، وقيل: أمر بسلّ لسانه فمات وأرسل إلى ابنه بديته، وكان المتوكل رافضيًّا. وفي سنة خمس وأربعين عمت الزلازل الدنيا، فأخربت المدن والقلاع والقناطر وسقط من أنطاكية جبل في البحر، وسمع من السماء أصوات هائلة وزلزلت مصر، وسمع أهل بلبيس من ناحية مصر صيحة هائلة، فمات خلق من أهل بلبيس، وغارت عيون مكة، فأرسل المتوكل مائة ألف دينار لإجراء الماء من عرفات إليها، وكان المتوكل جودًا ممدّحًا، يقال: ما أعطى خليفة شاعرًا ما أعطى المتوكل، وفيه يقول مروان بن أبي الجنوب: فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا فقال: لا أمسك حتى يغرقك جودي، وكان أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفًا. ودخل عليه علي بن الجهم يومًا وبيديه درتان يقلبهما، فأنشده قصيدة له، فرمى إليه بدرة فقلبها، فقال: تستنقص بها وهي والله خير من مائة ألف؟ فقال: لا ولكني فكرت في أبيات أعملها آخذ بها الأخرى فقال: قل، فقال: يسر من را إمام عدل ... تغرف من بحره البحار الملك فيه وفي بنيه ... ما اختلفت الليل والنهار يرجى ويخشى بكل خطب ... كأنه جنة ونار يداه في الجود ضرتان ... عليه كلتاهما تغار لم تأت من اليمن شيئًا ... إلا أتت مثلها اليسار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فرمى إليه بالدرة الأخرى. قال بعضهم: سلّم على المتوكل بالخلافة ثمانية كل واحد منهم أبوه خليفة: منصور بن المهدي، والعباس بن الهادي، وأبو أحمد بن الرشيد، وعبد الله بن الأمين، وموسى بن المأمون، وأحمد بن المعتصم، ومحمد بن الواثق، وابنه المنتصر. وقال المسعودي: لا يعلم أحد متقدم في جد ولا هزل إلا وقد حظي في دولته، ووصل إليه نصيب وافر من المال، وكان منهمكًا في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف ووطئ الجميع. وقال علي بن الجهم: كان المتوكل مشغوفًا بقبيحة أم ولده المعتز لا يصبر عنها، فوقفت له يومًا -وقد كتبت على خديها بالغالية جعفرًا- فتأملها وأنشأ يقول: وكاتبة المسك في الخد جعفرًا ... بنفسي محط المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطرًا من المسك خدها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرًا وفي كتاب المحن للسلمي أن ذا النون أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية، فأنكر عليه عبد الله بن الحكم -وكان رئيس مصر من جلة أصحاب مالك- وأنه أحدث علمًا لم يتكلم فيه السلف، ورماه بالزندقة، فدعاه أمير مصر وسأله عن اعتقاده، فتكلم، فرضي أمره، وكتب به إلى المتوكل فأمر بإحضاره، فحمل على البريد، فلما سمع كلامه أولع به وأحبه وأكرمه، حتى كان يقول: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بذا النون. كان المتوكل بايع بولاية العهد لابنه المنتصر، ثم المعتز، ثم المؤيد، ثم إنه أراد تقديم المعتز لمحبته لأمه، فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد، فأبى فكان يحضره مجلس العامة، ويحط منزلته ويتهدده ويشتمه ويتوعده، واتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لأمور، فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه، فدخل عليه خمسة وهو في جوف الليل في مجلس لهوهٍ، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان وذلك في خامس شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. ورؤي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بقليل من السنة أحييتها، ولما قتل رثته الشعراء، ومن ذلك قول يزيد المهلبي: جاءت منيته والعين هاجعة ... هلا أتته المنايا والقنا قصد خليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يضع مثله روح ولا جسد وكان من حظاياه وصيفة تسمى محبوبة شاعرة عالمة بصنوف العلم عوّادة فلما قتل ضمت إلى بُغا الكبير، فأمر بها يومًا للمنادمة، فجلست منكسة فقال: غني، فاعتلت فأقسم عليها وأمر بالعود، فوضع في حجرها فغنت ارتجالًا: أي عيش يلذ لي ... لا أرى فيه جعفرًا؟ ملك قد رأيته ... في نجيع معفرًا كل من كان ذا هيام ... وسقم فقد برا غير محبوبه التي ... لو ترى الموت يشترى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 لاشترته بما حوتـ ... ـه يداه لتقبرا إن موت الحزين أطـ ... يب، من أن يعمرا فغضب بُغا، وأمر بها فسجنت، فكان آخر العهد بها. ومن الغرائب أن المتوكل قال للبحتري: قل فيّ شعرًا وفي الفتح بن خاقان فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني، فقل في هذا المعنى، فقال: يا سيدي كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي؟ لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ ... ـح ولا عرفتك ما عشت فقدي أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي حذرًا أن تكون إلفًا لغيري ... إذ تفردت بالهوى فيك وحدي فقتلا معًا كما تقدم. ومن أخبار المتوكل، أخرج ابن عساكر أن المتوكل رأى في النوم كأن سكرًا سليمًا نيئًا سقط عليه من السماء مكتوبًا عليه جعفر المتوكل على الله، فلما بويع خاض الناس في تسميته فقال بعضهم: نسميه المنتصر، فحدث المتوكل أحمد بن أبي دؤاد بما رأى في منامه، فوجده موافقًا فأمضى، وكتب به إلى الآفاق. وأخرج عن هشام بن عمار قال: سمعت المتوكل يقول: واحسرتا على محمد بن إدريس الشافعي، كنت أحب أن أكون في أيامه فأراه وأشاهده، وأتعلم منه، فإني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام وهو يقول: أيها الناس إن محمد بن إدريس المطّلبي قد صار إلى -رحمة الله- وخلف فيكم علمًا حسنًا فاتبعوه تهدوا، ثم قال: اللهم ارحم محمد بن إدريس رحمة واسعة، وسهل علي حفظ مذهبه، وانفعني بذلك. قلت: استفدنا من هذا أن المتوكل كان متمذهبًا بمذهب الشافعي، وهو أول من تمذهب من الخلفاء. وأخرج عن أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن المعدل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم له غير أحمد بن المعدل فقال المتوكل لعبيد الله: إن هذا لا يرى بيعتنا، فقال له: بلى يا أمير المؤمنين، ولكن في بصره سوءًا، فقال أحمد بن المعدل: يا أمير المؤمنين ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فيلتبوأ مقعده من النار". فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه. وأخرج عن يزيد المهلبي قال: قال لي المتوكل: يا مهلبي، إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني. وأخرج عن عبد الأعلى بن حماد النرسي قال: دخلت على المتوكل فقال: يا أبا يحيى ما أبطأك عنا منذ ثلاث لم نرك، كنا هممنا لك بشيء، فصرفناه إلى غيرك، فقلت: يا أمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 المؤمنين جزاك الله عن هذا الهم خيرًا، ألا أنشدك بهذا المعنى بيتين؟ قال: بلى، فأنشدته: لأشكرنك معروفًا هممت به ... إنّ اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إذ لم يمضه قدر ... فالرزق بالقدر المحتوم مصروف فأمر لي بألف دينار وأخرج عن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قال: دخلت على المتوكل لما توفيت أمه، فقال: يا جعفر، ربما قلت البيت الواحد، فإذا جاوزته خلطت، وقد قلت: تذكرت لَمّا فرق لدهر بيننا ... فعزّيت نفسي بالنبي محمد فأجازه بعض من حضر المجلس بقوله: وقلت لها: إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في وأخرج عن الفتح بن خاقان قال: دخلت يومًا على المتوكل، فرأيته مطرقًا متفكرًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الفكر؟ فوالله ما على ظهر الأرض أطيب منك عيشًا، ولا أنعم منك بالًا فقال: يا فتح أطيب عيشًا مني رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه. وأخرج عن أبي العيناء قال: أهديت إلى المتوكل جارية شاعرة اسمها فضل فقال لها: أشاعرة أنت؟ قالت: هكذا زعم من باعني واشتراني، فقال: أنشدينا شيئًا من شعرك، فأنشدته: استقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو ابن سبع بعد عشرينا إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الملك ثمانينا لا قدّس الله امرأً لم يقل ... عند دعائي لك: آمينا وأخرج عن علي بن الجهم قال: أهدي إلى المتوكل جارية يقال لها: محبوبة: قد نشأت بالطائف، وتعلمت الأدب، وروت الأشعار فأغرى المتوكل بها، ثم إنه غضب عليها، ومنع جواري القصر من كلامها، فدخلت عليه يومًا، فقال لي: قد رأيت محبوبة في منامي كأني صالحتها وصالحتني، فقلت: خيرًا يا أمير المؤمنين، فقال: قم بنا لننظر ما هي عليه، فقمنا حتى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب على العود وتقول: أدور في القصر لا أرى أحدًا ... أشكو إليه ولا يكلمني حتى كأني أتيت معصية ... ليست له توبة تخلصني فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني؟ حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني فصاح المتوكل، فخرجت، فأكبت على رجليه تقبلها، فقالت: يا سيدي رأيتك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ليلتي هذه كأنك قد صالحتني، قال: وأنا والله قد رأيتك، فردّها إلى مرتبتها، فلما قتل المتوكل صارت إلى بُغا، وذكر الأبيات السابقة. وأخرج عن علي أن البحتري قال يمدح المتوكل فيما رفع من المحنة، ويهجو ابن أبي دؤاد بقوله: أمير المؤمنينا لقد شكرنا ... إلى آبائك الغرّ الحسان رددت الدين فذًّا بعد أن قد ... أراه فرقتين تخاصمان قصمت الظالمين بكل أرض ... فأضحى الظلم مجهول المكان وفي سنة رمت متجبريهم ... على قدر بداهية عيان فما أبقت من ابن أبي دؤاد ... سوى حسد يخاطب بالمعاني تحير فيه سابور بن سهل ... فطاوله ومناه الأماني إذا أصحابه اصطحبوا بليل ... أطالوا الخوض في خلق القرآن وأخرج عن أحمد بن حنبل قال: سهرت ليلة ثم نمت، فرأيت في نومي كأن رجلًا يعرج بي إلى السماء وقائلًا يقول: ملك يقاد إلى مليك عادل ... متفضل في العفو ليس بجائر ثم أصبحنا فجاء نعي المتوكل من سر من رأى إلى بغداد. وأخرج عن عمرو بن شيبان الجهنمي قال: رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل في المنام قائلًا يقول: يا نائم العين في أوطار جسمان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان؟ وافى إلى الله مظلومًا تضج له ... أهل السموات من مثنى ووحدان وسوف يأتيك أخي مسومة ... توقعوها لها شأن من الشان فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم ... فقد بكاه جميع الإنس والجان ثم رأيت المتوكل في النوم بعد أشهر، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بقليل من السنة أحييتها، قلت: فما تصنع ههنا؟ قال أنتظر محمدًا ابني أخاصمه إلى الله. أحاديث من رواية المتوكل قال الخطيب: أخبرنا أبو الحسين الأهوازي، حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم القاضي، حدثنا محمد بن هارون الهاشمي، حدثنا محمد بن شجاع الأحمر قال: سمعت المتوكل يحدث عن يحيى بن أكثم، وعن محمد بن عبد المطلب، عن سفيان، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير، بن عبد الله، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "من حرم الرفق حرم الخير" 1. أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من وجه آخر عن جرير.   1 أخرجه الخطيب "166/7"، والطبراني في الكيير "2274،2273/2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقال ابن عساكر: أخبرنا نصر بن أحمد بن مقاتل السوسي، حدثني جدي أبو محمد، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الأهوازي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الأزدي، حدثنا أبو الطيب محمد بن داران غندر، حدثنا هارون بن عبد العزيز بن أحمد العباسي، حدثنا أحمد بن الحسن المقرئ البزار، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عيسى الكسائي وأحمد بن زهير وإسحاق بن إبراهيم بن إسحاق، فقالوا: حدثنا علي بن الجهم قال: كنت عند المتوكل فتذاكروا عنده الجمال، فقال: إن حسن الشعر لمن الجمال، ثم قال: حدثني المعتصم، حدثني المأمون، حدثنا الرشيد، حدثنا المهدي، حدثنا المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس، قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمة1 إلى شحمة أذنيه كأنها نظام اللؤلؤ، وكان من أجمل الناس، وكان أسمر رقيق اللون، لا بالطويل ولا بالقصير، وكان لعبد المطلب جمة إلى شحمة أذنيه وقال لنا المتوكل: كان للمعتصم جمة، وكذلك للمأمون، والرشيد، والمهدي، والمنصور، ولأبيه محمد، ولجده علي، ولأبيه عبد الله بن عباس. قلت: هذا الحديث مسلسل من ثلاثة أوجه: بذكر الجمة، والآباء وبالخلفاء، وفي إسناده ست خلفاء. مات في أيام خلافة المتوكل من الأعلام: أبو ثور، والإمام أحمد بن حنبل، وإبراهيم بن المنذر الخزامي، وإسحاق بن راهويه النديم، وروح المقرئ، وزهير بن حرب، وسحنون، وسليمان الشاذكوني، وأبو مسعود العسكري، وأبو جعفر النفيلي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأخوه، وديك الجن الشاعر، وعبد الملك بن حبيب إمام المالكية، وعبد العزيز بن يحيى الغول أحد أصحاب الشافعي، وعبيد الله بن عمر القواريري، وعلي بن المديني، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ويحيى بن معين، ويحيى بن نكير، ويحيى بن يحيى، ويوسف الأزرق المقرئ، وبشر بن الوليد الكندي المالكي، وابن أبي دؤاد ذاك الكلب لا رحمه الله، وأبو بكر الهذلي العلاف شيخ الاعتزال ورأس أهل الضلال، وجعفر بن حرب من كبار المعتزلة، وابن كلاب المتكلم والقاضي يحيى بن أكثم، والحارث المحاسبي، وحرملة صاحب الشافعي، وابن السكيت، وأحمد بن منيع، وذو النون المصري الزاهد، وأبو تراب النخشبي، وأبو عمر الدوري المقرئ، ودعبل الشاعر، وأبو عثمان المازني النحوي، وخلائق آخرون.   1 الجمة: هي مجتمع شعر الرأس. مختار الصحاح "112". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 المنتصر بالله محمد أبو جعفر 1 المنتصر بالله: محمد، أبو جعفر-وقيل: أبو عبد الله- بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد، أمه أم ولد رومية اسمها حبشية. وكان مليح الوجه، أسمر، أعين، أقنى، ربعة، جسيمًا، بطينًا، مليحًا، مهيبًا،   1 تولى الخلافة 247هـ وحتى 248هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وافر العقل، راغبًا في الخير، قليل الظلم، محسنًا إلى العلويين، وصولًا لهم، أزال عن آل أبي طالب ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين، وردّ على آل الحسين فدَك، فقال يزيد المهلبي في ذلك: ولقد بررت الطالبية بعدما ... ذموا زمانًا بعدها وزمانًا ورددت ألفة هاشم فرأيتهم ... بعد العداوة بينهم إخوانًا بويع له بعد قتل أبيه في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، فخلع أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد الذي عقده لهما المتوكل بعده، وأظهر العدل والإنصاف في الرعية، فمالت إليه القلوب مع شدة هيبتهم له، وكان كريمًا حليمًا. ومن كلامه: لذة العفو أعذب من لذة التشفي، وأقبح أفعال المقتدر الانتقام. ولما ولي صار يسبّ الأتراك ويقول: هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه، وهموا به، فعجزوا عنه، لأنه كان مهيبًا، شجاعًا، فطنًا، متحرزًا، فتحيلوا إلي أن دسوا إليه طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في مرضه، فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات ويقال: إن ابن طيفور نسي ذلك ومرض، فأمر غلامه ففصده بتلك الريشة، فمات أيضًا، وقيل: بل سم في كمثراة، وقيل: مات بالخوانيق، ولما احتضر قال: يا أماه ذهبت مني الدنيا والآخرة، عاجلت أبي فعوجلت. مات في خامس ربيع الآخر سنة ثمانٍ وأربعين، عن ست وعشرين سنة أو دونها، فلم يتمتع بالخلافة إلا أشهرًا معدودة دون ستة أشهر، وقيل: إنه جلس في بعض الأيام للهو، وقد استخرج من خزائن أبيه فرشًا، فأمر بفرشها في المجلس، فرأى بعض البسط دائرة فيها فارس وعليه تاج وحوله كتابة فارسية، فطلب من يقرأ ذلك، فأحضر رجل، فنظره فقطب، فقال: ما هذه؟ قال: لا معنى لها، فألح عليه، فقال: أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي لم أمتمع بالملك إلا ستة أشهر، فتغير وجه المنتصر، وأمر بإحراق البساط وكان منسوجًا بالذهب. وفي لطائف المعارف للثعالي: أعرق الخلفاء في الخلافة المنتصر، فإنه هو وآباؤه الخمسة خلفاء، وكذلك أخواه المعتز والمعتمد. قلت: أعرق منه المعتصم الذي قتله التتار، فإن أباءه الثمانية خلفاء. قال الثعالبي: ومن العجائب أن أعرف الأكاسرة في الملك -وهو شيرويه- قتل أباه فلم يعش بعده إلا ستة أشهر، وأعرق الخلفاء في الخلافة -وهو المنتصر- قتل أباه فلم يتمتع بعده سوى ستة أشهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 المستعين بالله أبو العباس 1 المستعين بالله: أبو العباس أحمد بن المعتصم بن الرشيد، وهو أخو المتوكل.   1 تولى الخلافة 248هـ، وحتى 252هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين، وأمه م ولد اسمها مخارق، وكان مليحًا أبيض بوجهه أثر جدري ألثغ1، ولما مات المنتصر اجتمع القواد وتشاوروا وقالوا: متى وليتم أحدًا من أولاد المتوكل لا يبقي منا باقية، فقالوا: ما لها إلا أحمد بن المعتصم ولد أستاذنا، فبايعوه وله ثمانٍ وعشرون سنة، واستمر إلى أول سنة إحدى وخمسين، فتنكر له الأتراك، لما قتل وصيفًا وبغا، ونفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل، ولم يكن للمستعين مع وصيف وبغا أمر حتى قيل في ذلك: خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا ولما تنكر له الأتراك خاف، وانحدر من سامرا إلى بغداد، فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع، فامتنع، فقصدوا الحبس، وأخرجوا المعتز بالله وبايعوه، وخلعوا المستعين، ثم جهز المعتز جيشًا كثيفًا لمحاربة المستعين، واستعد أهل بغداد للقتال مع المستعين، فوقعت بينهما وقعات، ودام القتال أشهرًا، وكثر القتل، وغلت الأسعار، وعظم البلاء، وانحل أمر المستعين، فسعوا في الصلح على خلع المستعين، وقام في ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكدة، فخلع المستعين نفسه في أول سنة اثنتين وخمسين، وأشهد عليه القضاة وغيرهم، فأحدر إلى واسط، فأقام بها تسعة أشهر محبوسًا موكلًا به أمين، ثم رد إلى سامرا، وأرسل المعتزل إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله، فقال: والله لا أقتل أولاد الخلفاء، فندب له سعيد الحاجب، فذبحه في ثالث شوال من السنة وله إحدى وثلاثون سنة. وكان خَيِّرًا، فاضلًا، بليغًا، أديبًا، وهو أول من أحدث لبس الأكمام الواسعة، فجعل عرضها نحو ثلاثة أشبار، وصغر القلانس وكانت قبله طوالًا. مات في أيامه من الأعلام: عبد بن حميد، وأبو الطاهر بن السرح، والحارث بن مسكين، والبزي المقرئ، وأبو حاتم السجستاني، والجاحظ، وآخرون.   1 اللثغة في اللسان: أن تصير الراء غينًا أو لامًا، والسين ثاء. مختار الصحاح "592". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 المعتز بالله محمد 1 المعتز بالله: محمد -وقيل: الزبير- أبو عبد الله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد. ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وأمه أم ولد رومية تسمى قبيحة، وبويع له عند خلع المستعين في سنة اثنتين وخمسين، وله تسع عشرة سنة؛ ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه. وكان بديع الحسن، قال علي بن حرب، أحد شيوخ ابن المعتز في الحديث: ما رأيت خليفة أحسن منه، وهو أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب، وكان الخلفاء قبل يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة.   1 تولى الخلافة 252هـ وحتى 255هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وأول سنة تولى مات أشناس الذي كان الواثق استحلفه على السلطنة، وخلف خمسمائة ألف دينار، فأخذها المعتز، وخلع خلعة الملك على محمد بن عبد الله بن طاهر، وقلده سيفين، ثم عزله وخلع خلعة الملك على أخيه -أعني: أخا المعتز أبا أحمد- وتوجه بتاج من ذهب، وقلنسوة مجوهرة، ووشاحين مجوهرين، وقلده سيفين، ثم عزله عن عامه ونفاه إلى واسط، وخلع على بغا الشرابي، وألبسه تاج الملك؛ فخرج على المعتز به سنة، فقتل وجيء إليه برأسه. وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من العهد، وضربه وقيده فمات بعد أيام، فخشى المعتز أن يتحدث عنه أنه قتله أو احتال عليه، فأحضر القضاة حتى شاهدوه وليس به أثر، وكان المعتز مستضعفًا من الأتراك، فاتفق أن جماعة من كبارهم أتوه وقالوا: يا أمير المؤمنين أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف، وكان المعتز يخاف منه، فطلب من أمه مالًا لينفقه فيهم، فأبت عليه وشحت نفسها، ولم يكن بقى في بيوت المال شيء، فاجتمع الأتراك على خلعه، ووافقهم صالح بن وصيف، ومحمد بن بغا، فلبسوا السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة، فبعثوا إلى المعتز أن اخرج إلينا، فبعث يقول: قد شربت دواء وأنا ضعيف، فهجم عليه الجماعة، وجروا برجله، وضربوه بالدبابيس، وأقاموه في الشمس في يوم صائف، وهم يلطمون وجهه ويقولون: اخلع نفسك، ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب والشهود وخلعوه، ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة -وهي يومئذ سامرا- محمد بن الواثق، وكان المعتز قد أبعده إلى بغداد، فسلم المعتز إليه بالخلافة وبايعه، ثم إن الملأ أخذو المعتز بعد خمس ليالٍ من خلعه، فأدخلوه الحمام فلما اغتسل عطش، فمنعوه الماء، ثم أخرج -وهو أول ميت مات عطشًا- فسقوه ماء بثلج، فشربه وسقط ميتًا، وذلك في شهر شعبان المعظم سنة خمس وخمسين ومائتين، واختفت أمه قبيحة، ثم ظهرت في رمضان، وأعطت صالح بن وصيف مالًا عظيمًا، من ذلك ألف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار، وسفط فيه مكوك زمرد، وسفط فيه لؤلؤ حب كبار، وكيلجة ياقوت أحمر، وغير ذلك، فقومت السفاط بألفي دينار، فلما رأى ابن وصيف ذلك قال: قبحها الله؛ عرضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذا، فأخذ الجميع ونفاها إلى مكة، فبقيت بها إلى أن تولى المعتمد، فردها إلى سامرا، وماتت سنة أربع وستين. مات في أيام المعتز من الأعلام: سري السقطي الزاهد، وهارون بن سعيد الأيلي، والدارمي صاحب المسند، والعتبي صاحب المسائل العتبية في مذهب مالك، وآخرون رحمهم الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 المهتدي بالله محمد بن الواثق 1 المهتدي بالله الخليفة الصالح: محمد أبو إسحاق -وقيل: أبو عبد الله- بن الواثق بن المعتصم بن الرشيد   1 تولى الخلافة 252هـ، وحتى 255هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أمه أم ولد تسمى وردة، ولد في خلافة جده سنة بضع عشرة ومائتين، وبويع بالخلافة لليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وما قبل بيعته أحد حتى أتى بالمعتز، فقام المهتدي له وسلم عليه بالخلافة، وجلس بين يديه، فجيء بالشهود فشهدوا على المعتز أنه عاجز عن الخلافة، فاعترف بذلك ومد يده فبايع المهتدي، فارتفع حينئذ المهتدي إلى صدر المجلس. وكان المهتدي أسمر، رقيقًا، مليح الوجه، ورعًا متعبدًا، عادلًا، قويًّا في أمر الله، بطلًا، شجاعًا لكنه لم يجد ناصرًا ولا معينًا. قال الخطيب: لم يزل صائمًا منذ ولي إلى أن قتل، وقال هاشم بن القاسم: كنت بحضرة المهتدي عشية في رمضان، فوثبت لأنصرف، فقال لي: اجلس، فجلست، وتقدم فصلى بنا، ثم دعا بالطعام، فأحضر طبق خلاف وعليه رغيف من الخبز النقي، وفيه آنية فيها ملح طعام وخل وزيت، ودعاني إلى الأكل، فابتدأت آكل ظانًا أنه سيؤتي بطعام، فنظر إليّ وقال: ألم تك صائمًا؟ قلت: بلى، قال: أفلست عازمًا على الصوم؟ فقلت: كيف لا وهو رمضان؟ فقال: كل واستوف فليس ههنا من الطعام غير ما ترى، فعجبت ثم قلت: ولِمَ يا أمير المؤمنين؛ وقد أسبغ الله نعمته عليك؟! فقال: إن الأمر ما وصفت، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك فغرت على بني هاشم، فأخذت نفسي بما رأيت. وقال جعفر بن عبد الواحد: ذاكرت المهتدي بشيء، فقلت له: كان أحمد بن حنبل يقول به، ولكنه كان يخالف -أشير إلى من مضى من آبائه- فقال: رحم الله أحمد حنبل والله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي لتبرأت منه، ثم قال لي: تكلم بالحق وقل به، فإن الرجل يتكلم بالحق فينبل في عيني. وقال نفطويه: حدثني بعض الهاشميين أنه وجد للمهتدي سفط في جبة صوف وكساء كان يلبسه بالليل ويصلي فيه، وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء، وحسم أصحاء السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه، ويجلس الكتاب بين يديه، فيعملون الحساب، وكان لا يخل بالجلوس الاثنين والخميس، وضرب جماعة من الرؤساء، ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد، وكره مكانه؛ لأنه نسب عنده إلى الرفض. وقدم موسى بن بغا من الري يريد سامرا لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز، وأخذ أموال أمه ومعه جيشه، فصاحت العامة على ابن وصيف: يا فرعون! قد جاءك موسى، فطلب موسى من بغا الإذن على المهتدي، فلم يأذن له، فهجم بمن معه عليه وهو جالس في دار العدل فأقاموه، وحملوه على فرس ضعيفة، وانتهبوا القصر، وأدخلوا المهتدي إلى دار ناجود وهو يقول: يا موسى اتق الله، ويحك! ما تريد؟ قال: والله ما نريد إلا خيرًا، فاحلف لنا ألا تمالئ صالح بن وصيف، فحلف لهم، فبايعوه حينئذ ثم طلبوا صالِحًا ليناظروه على أفعاله، فاختفى، وندبهم المهتدي إلى الصلح فاتهموه أنه يدري مكانه، فجرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 في ذلك كلام، ثم تكلموا في خلعه، فخرج إليهم المهتدي من الغد متلقدًا بسيفه، فقال: قد بلغني شأنكم، لست كمن تقدمني مثل المستعين والمعتز، والله ما خرجت إليكم إلا وأن متحنط، وقد أوصيت، وهذا سيفي، والله لأضربن ما استمسكت قائمته بيدي، أما دين، أما حياء، أما دعة؟ لم يكن الخلاف على الخلفاء والجرأة على الله؟ ثم قال: ما أعلم علم صالح، فرضوا وانفضوا، ونادى موسى بن بغا: من جاء بصالح فله عشرة آلاف دينار، فلم يظفر به أحد، واتفق أن بعض الغلمان دخل زقاقًا وقت الحر، فرأى بابًا مفتوحًا فدخل فمشى في دهليز مظلم، فرأى صالِحًا نائمًا فعرفه -وليس عنده أحد- فجاء إلى موسى فأخبره، فبعث جماعة فأخذوه وقطعت رأسه وطيف به، وتألم المهتدي لذلك في الباطن، ثم رحل موسى ومعه بكيال إلى السن في طلب مساور، فكتب المهتدي إلى بكيال أن يقتل موسى ومفلحًا أحد أمراء الأتراك أيضًا أو يمسكهما، ويكون هو الأمير على الأتراك كلهم، فأوقف بكيال موسى على كتابه، وقال: إني لست أفرح بهذا، وإنما هذا يعمل علينا كلنا، فأجمعوا على قتل المهتدي، وساروا إليه، فقاتل عن المهتدي المغاربة، والفراغنة، والأشروسنية، وقتل من الأتراك في يوم أربعة آلاف، ودام القتال إلى أن هزم جيش الخليفة، وأمسك هو فعصر على خصيتيه فمات، وذلك في رجب سنة ست وخمسين، فكانت خلافته سنة إلا خمسة عشر يومًا، وكان لما قامت الأتراك عليه ثار العوام، وكتبوا رقاعًا وألقوها في المساجد: يا معشر المسلمين! ادعو الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن عبد العزيز أن ينصره الله على عدوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 المعتمد على الله أبو العباس 1 المعتمد على الله أبو العباس -وقيل: أبو جعفر- أحمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ولد سنة تسع وعشرين ومائتين وأمه رومية اسمها فتيان، ولما قتل المهتدي وكان المعتمد محبوسًا بالجوسق، فأخرجوه وبايعوه، ثم إنه استعمل أخاه الموفق طلحة على المشرق، وصير ابنه جعفرًا ولي عهد، وولاه مصر والمغرب، لقبه المفوض إلى الله، وانهمك المعتمد في اللهو واللذات، واشتغل عن الرعية، فكرهه الناس، وأحبوا أخاه طلحة. وفي أيامه دخلت الزنج البصرة وأعمالها وأخربوها، وبذلوا السيف وأحرقوا وخربوا وسبوا، وجرى بينهم وبين عسكره عدة وقعات وأمير عسكره في أكثرها الموفق أخوه، وأعقب ذلك الوباء الذي لا يكاد يتخلف عن الملاحم بالعراق، فمات خلق لا يحصون، ثم أعقبه هزات وزلازل، فمات تحت الردم ألوف من الناس، واستمر القتال مع الزنج من حين تولى المعتمد سنة ست وخمسين إلى سنة سبعين، فقتل فيه رأس الزنج لعنه الله واسمه بهبوذ، وكان ادعى أنه أرسل إلى الخلق فرد الرسالة وأنه مطلع على المغيبات. وذكر الصولي أنه قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف آدمي، وقتل في يوم واحد   1 تولى الخلافة من سنة 256هـ حتى سنة 279هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان له منبر في مدينته يصعد عليه ويسب عثمان، وعليًّا، ومعاوية، وطلحة، والزبير، وعائشة، رضي الله عنهم. وكان ينادي على المرأة العلوية في عسكره بدرهمين وثلاثة وكان عند الواحد من الزنج العشر من العلويات يطؤهن ويستخدمهن. ولما قتل هذا الخبيث دخل برأسه بغداد على رمح، وعملت قباب الزينة، وضج الناس بالدعاء للموفق، ومدحه الشعراء، وكان يومًا مشهودًا، وأمن الناس وتراجعوا إلى المدن التي أخذها، وهي كثيرة كواسط ورامهرمز. وفي سنة ستين من أيامه وقع غلاء مفرط بالحجاز والعراق، وبلغ كر الحنطة في بغداد مائة وخمسين دينارًا، وفيها أخذت الروم بلد لؤلؤة. وفي سنة إحدى وستين بايع المعتمد بولاية العهد بعده لابنه المفوض إلى الله جعفر، ثم من بعده لأخيه الموفق طلحة، وولى ولده المغرب، والشام، والجزيرة، وأرمينية، وولى أخاه المشرق والعراق، وبغداد، والحجاز، واليمن، وفارس، وأصبهان، والري، وخراسان، وطبرستان، وسجستان، والسند، وعقد لكل منهما لواءين: أبيض، وأسود، وشرط إن حدث به حدث أن الأمر لأخيه إن لم يكن ابنه جعفر قد بلغ، وكتب العهد وأنفذه مع قاضي القضاة ابن أبي الشوارب ليعلقه في الكعبة. وفي سنة ست وستين وصلت عساكر الروم إلى ديار بكر، ففتكوا، وهرب أهل الجزيرة، والموصل، وفيها وثبت الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها. وفي سنة سبع وستين استولى أحمد بن عبد الله الحجابي على خراسان، وكرمان، وسجستان، وعزم على قصد العراق، وضرب السكة باسمه، وعلى الوجه الآخر اسم المعتمد، وهذا محل الغرابة، ثم إنه في آخر السنة قتله غلمانه، فكفى الله شره. وفي سنة تسع وستين اشتد تخيل المعتمد من أخيه الموفق، فإنه كان خرج عليه في سنة أربع وستين ثم اصطلحا، فلما اشتد تخيله منه هذا العام كاتب المعتمد ابن طولون نائبه بمصر، واتفقا على أمر، فخرج ابن طولون حتى قدم دمشق، وخرج المعتمد من سامرا على وجه التنزه، وقصده دمشق، فلما بلغ ذلك الموفق كتب إلى إسحاق بن كنداج ليرده فركب ابن كنداج من نصيبين إلى المعتمد، فلقيه بين الموصل والحديثة، فقال: يا أمير المؤمنين! أخوك في وجه العدو وأنت تخرج عن مستقرك ودار ملكك، ومتى صح هذا عنده رجع عن مقاومة الخارجي، فيغلب عدوك على ديار آبائك، في كلمات أخر، ثم وكل بالمعتمد جماعة، وسم على طائفة من خواصه، ثم بعث إلى المعتمد يقول: ما هذا بمقام فارجع، فقال: المعتمد: فاحلف لي أنك تنحدر معي ولا تسلمني، فحلف له، وانحدر إلى سامرا فتلقاه صاعد بن مخلد كاتب الموفق، فسلمه إسحاق إليه، فأنزله في دار أحمد بن الخصيب، ومنعه من نزول دار الخلافة، ووكل به خمسمائة رجل يمنعون من الدخول إليه، ولما بلغ الموفق ذلك بعث إلى إسحاق بخلع وأموال، وأقطعه ضياع القواد الذين كانوا مع المعتمد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ولقبه ذا السندين: ولقب صاعدًا ذا الوزارتين، وأقام صاعد في خدمة المعتمد، ولكن ليس للمعتمد حل ولا ربط وقال المعتمد في ذلك: أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعًا عليه؟ وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا ... وما من ذاك شيء في يديه إليه تحمل الأموال طرًّا ... ويمنع بعض ما يجبى إليه وهو أول خليفة قهر وحجر عليه ووكل به، ثم أدخل المعتمد واسط، ولما بلغ ابن طولون ذلك جمع الفقهاء، والقضاة، والأعيان، وقال: قد نكث الموفق بأمير المؤمنين فاخلعوه من العهد، فخلعوه إلا القاضي بكار بن قتيبة فإنه قال: أنت أوردت علي من المعتمد كتابًا بولايته العهد فأورد علي كتابًا آخر منه بخلعه، فقال: إنه محجور عليه ومقهور، فقال: لا أدري، فقال ابن طولون: غرك الناس بقولهم: ما في الدنيا مثل بكار، أنت شيخ قد خرفت، وحبسه وقيده وأخذ منه جميع عطاياه من سنين، فكانت عشرة آلاف دينار، فقيل: إنها وجدت في بيت بكار بختمها، وبلغ الموفق ذلك، فأمر بلعن ابن طولون على المنابر. ثم في شعبان من سنة سبعين أعيد المعتمد إلى سامرا ودخل بغداد، ومحمد بن طاهر بين يديه بالحربة والجيش في خدمته كأنه لم يحجر عليه ومات ابن طولون في هذه السنة، فولى الموفق ابنه العباس أعماله، وجهزه إلى مصر في جنود العراق، وكان خمارويه بن أحمد بن طولون أقام على ولايات أبيه بعده، فوقع بينه وبين أبي العباس بن الموفق وقعة عظيمة بحيث جرت الأرض من الدماء، وكان النصر للمصريين. وفي هذه السنة انبثق ببغداد في نهر عيسى بثق، فجاء الماء إلى الكرخ فهدم سبعة آلاف دار. وفيها نازلت الروم طرسوس في مائة ألف، فكانت النصرة للمسلمين، وغنموا ما لا يحصى، وكان فتحًا عظيمًا عديم المثل. وفيها ظهرت دعوة المهدي عبيد الله بن عبيد جد بني عبيد خلفاء المصريين الروافض، في اليمن، وأقام على ذلك إلى سنة ثمانٍ وسبعين، فحج تلك السنة واجتمع بقبيلة من كتامة، فأعجبهم حاله، فصحبهم إلى مصر، ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب، فكان ذلك أول شأن المهدي. وفي سنة إحدى وسبعين، قال الصولي: ولي هارون بن إبراهيم الهاشمي الحسبة فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس، فتعاملوا بها على كره ثم تركوها. وفي سنة ثمانٍ وسبعين غار نيل مصر، فلم يبقَ منه شيء، وغلت الأسعار، وفيها مات الموفق، واستراح منه المعتمد. وفيها ظهرت القرامطة1 بالكوفة وهم نوع من الملاحدة يدعون أنه لا غسل من الجنابة،   1 القرامطة: كان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة، يظهر الزهد والتقشف ويخسف الخوص، ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين == الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وأن الخمر حلال، ويزيدون في أذانهم: وأن محمد ابن الحنفية رسول الله وأن الصوم في السنة يومان: يوم النيروز، ويوم المهرجان، وأن الحج والقبلة إلى بيت المقدس، وأشياء أخرى، ونفق قولهم على الجهال، وأهل البر، وتعب الناس بهم. وفي سنة تسع وسبعين ضعف أمر المعتمد جدًّا، لتمكن أبي العباس بن الموفق من الأمور، وطاعة الجيش له، فجلس المعتمد مجلسًا عامًّا، وأشهد فيه على نفسه أنه خلع ولده المفوض من ولاية العهد، وبايع لأبي العباس، ولقبه المعتضد، وأمر المعتضد في هذه السنة ألا يقعد في الطريق منجم ولا قصاص، واستحلف الوراقين ألا يبيعوا كتب الفلاسفة والجدل. ومات المعتمد بعد أشهر من هذه السنة فجأة، فقيل: إنه سم، وقيل: بل نام فغم في بساط، وذلك ليلة الاثنين لإحدى عشرة بقيت من رجب، وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة، إلا أنه كان مقهورًا مع أخيه الموفق لاستيلائه على الأمور، ومات وهو كالمحجور عليه من بعض الوجوه من جهة المعتضد أيضًا. وممن مات في أيامه من الأعلام: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والربيع الجيزي، والربيع المرادي، والمزني، ويونس بن عبد الأعلى، والزبير بن بكار، وأبو الفضل الرياشي، ومحمد بن يحيى الذهلي، وحجاج بن يوسف الشاعر، والعجلي الحافظ، وقاضي القضاة ابن أبي الشوارب، والسوسي المقرئ، وعمر بن شبة، وأبو زرعة الرازي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والقاضي بكار، وداود الظاهري، وابن دارة، وبقي بن مخلد، وابن قتيبة، وأبو حاتم الرازي، وآخرون. ومن قول عبد الله بن المعتز في المعتمد يمدحه: يا خير من تزجى المطي له ... ويمر حبل العهد موثقه أضحى عنان الملك مقتسرًا ... بيديك تحبسه وتطلقه فاحكم لك الدنيا وساكنها ... ما طاش سهم أنت موفقه ومن شعر المعتمد لما حجر عليه: أصبحت لا أملك دفعًا لما ... أسام من خسف ومن ذلة تمضي أمور الناس دوني، ولا ... يشعرني في ذكرها قلتي إذا اشتهيت الشيء ولوا به ... عني، وقالوا: ههنا علتي قال الصولي: كان له وراق يكتب شعره بماء الذهب.   == وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة المفروضة عليه خمسون صلاة، في اليوم والليلة حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من أهل بيت الرسول، فلم يزل يقعد إليه جماعة فيخبرهم من ذلك بما تعلق قلوبهم ثم فشا بعد ذلك أمرهم وأحدثوا دينًا غير الإسلام، ورأوا السيف على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا من بايعهم على دينهم ومن شرائعهم زعمهم أن الصوم يومان في السنة وهما المهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام، والخمر حلال ولا غسل من الجنابة إلا الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ورثاه أبو سعيد الحسن بن سعيد النيسابوري بقوله: لقد قر طرف الزمان النكد ... وكان سخيفًا كليلًا رمد وبلغت الحادثات المنى ... بموت إمام الهدى المعتمد ولم يبقَ لي حذره بعده ... فدون المصائب فلتجتهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المعتضد بالله أحمد 1 المعتضد بالله: أحمد أبو العباس ابن ولي العهد الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد، ولد في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وقال الصولي: في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وأمه أم ولد اسمها صواب -وقيل: حرز، وقيل: ضرار- وبويع له في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين بعد عمه المعتمد، وكان ملكًا شجاعًا، مهيبًا، ظاهر الجبروت، وافر العقل، شديد الوطأة، من أفراد خلفاء بني العباس، وكان يقدم على الأسد وحده لشجاعته، وكان قليل الرحمة: إذا غضب على قائد أمر بأن يلقى في حفرة ويطم عليه، وكان ذا سياسة عظيمة. قال عبد الله بن حمدون: خرج المعتضد يتصيد، فنزل إلى جانب مقثأة -وأنا معه- فصاح الناطور، فقال: علي به، فأحضر، فسأله، فقال: ثلاثة غلمان نزلوا المقثأة فأخربوها، فجيء بهم فضربت أعناقهم من الغد في المقثأة، ثم كلمني بعد مدة فقال: اصدقني فيما ينكر علي الناس، قلت: الدماء، قال: والله ما سفكت دمًا حرامًا منذ وليت، قلت: فلم قتلت أحمد بن الطيب؟ قال: دعاني إلى الإلحاد، قلت: فالثلاثة الذين نزلوا المقثأة؟ قال: والله ما قتلتهم، وإنما قتلت لصوصًا قد قتلوا، وأوهمت أنهم هم. وقال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث صباح الوجوه روم، فنظرت إليهم، فلما أردت القيام قال لي: أيها القاضي، والله ما حللت سراويلي على حرام قط. ودخلت مرة، فدفع إلي كتابًا، فنظرت فيه، فإذا هو قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: أمختلق؟ قلت: لا ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر بالكتاب فأحرق. وكان المعتضد شهمًا، جلدًا، موصوفًا بالرجولة، قد لقى الحروب، وعرف فضله، فقام بالأمر أحسن قيام، وهابه الناس، ورهبوه أحسن رهبة، وسكنت الفتن في أيامه لفرط هيبته. وكانت أيامه طيبة، كثيرة الأمن والرخاء. وكان قد أسقط المكوس، ونشر العدل، ورفع الظلم عن الرعية. وكان يسمى السفاح الثاني؛ لأنه جدد ملك بني العباس، وكان قد خلق وضعف، وكاد يزول، وكان في اضطراب من وقت قتل المتوكل، وفي ذلك يقول ابن الرومي يمدحه:   1 تولى الخلافة 279هـ وحتى 289هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 هنيئًا بني العباس، إن إمامكم ... إمام الهدى والبأس والجود أحمد كما بأبى العباس أنشئ ملككم ... كذا بأبي العباس أيضًا يجدد إمام يظل الأمس يعمل نحوه ... تلهف ملهوف ويشتاقه الغد وقال في ذلك ابن المعتز أيضًا: أما ترى ملك بني هاشم ... عاد عزيزًا بعد ما ذللا يا طالبًا للملك كن مثله ... تستوجب الملك، وإلا فلا وفي أول سنة استخلف فيها منع الوراقين من بيع كتب الفلاسفة وما شاكلها، ومنع القصاص والمنجمين من القعود في الطريق، وصلى بالناس صلاة الأضحى، فكبر في الأولى ستًّا، وفي الثانية واحدة، ولم تسمع منه الخطبة. وفي سنة ثمانين دخل داعي المهدي إلى القيروان، وفشا أمره، ووقع القتال بينه وبين صاحب إفريقية، وصار أمره في زيادة. وفيها ورد كتاب من الدبيل أن القمر كسف في شوال، وأن الدنيا أصبحت مظلمة إلى العصر فهبت رياح سوداء، فدامت إلى ثلث الليل، وأعقبها زلزلة عظيمة أذهبت عامة المدينة، فكان عدة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسين ألفًا. وفي سنة إحدى وثمانين فتحت مكورية في بلاد الروم. وفيها غارت مياه الري وطبرستان، حتى بيع الماء ثلاثة أرطال بدرهم، وقحط الناس، وأكلوا الجيف. وفيها هدم المعتضد دار الندوة بمكة، وصيرها مسجدًا إلى جانب المسجد الحرام. وفي سنة اثنتين وثمانين أبطل ما يفعل في النيروز، من وقيد النيران، وصب الماء على الناس وأزال سنة المجوس. وفيها زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، فدخل عليها في ربيع الأول، وكان في جهازها أربعة آلاف تكة مجوهرة، وعشر صناديق جوهر؛ وفي سنة ثلاث وثمانين كتب إلى الآفاق بأن يورث ذوو الأرحام، وأن يبطل ديوان المواريث، وكثر الدعاء للمعتضد. وفي سنة أربع وثمانين ظهرت بمصر حمرة عظيمة حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الرجل فيراه أحمر، وكذا الحيطان، فتضرع الناس بالدعاء إلى الله تعالى، وكانت من العصر إلى الليل. قال ابن جرير: وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوفه عبيد الله الوزير اضطراب العامة، فلم يلتفت، وكتب كتابًا في ذلك، ذكر فيه كثيرًا من مناقب علي، ومثالب معاوية، فقال له القاضي يوسف: يا أمير المؤمنين! أخاف الفتنة عند سماعه، فقال: إن تحركت العامة وضعت السيف فيها، قال: فما تصنع بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك؟ وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت كانوا إليهم أميل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فأمسك المعتضد عن ذلك. وفي سنة خمس وثمانين هبت ريح صفراء بالبصرة ثم صارت خضراء، ثم صارت سوداء، وامتدت في الأمصار، ووقع عقبها برد، وزنة البردة مائة وخمسون درهَمًا، وقلعت الريح نحو خمسمائة نخلة، ومطرت قرية حجارة سودًا وبيضًا. وفي سنة ست وثمانين ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي، وقويت شوكته -وهو أبو أبي طاهر سليمان الذي يأتي أنه قلع الحجر الأسود- ووقع القتال بينه وبين عسكر الخليفة، وأغار على البصرة ونواحيها، وهزم جيش الخليفة مرات. ومن أخبار المعتضد ما أخرجه الخطيب وابن عساكر عن أبي الحسين الخصيبي، قال: وجه المعتضد إلى القاضي أبي حازم يقول: إن لي على فلان مالًا، وقد بغلني أن غرماء أثبتوا عندك، وقد قسطت لهم من ماله، فاجعلنا كأحدهم، فقال أبو حازم: قل له: أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه! - ذاكر لما قال لي وقت قلدني: إنه قد أخرج الأمر من عنقه وجعله في عنقي، ولا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة، فرجع إليه فأخبره، فقال: قل له: فلان وفلان يشهدان -يعني: رجلين جليلين- فقال: يشهدان عندي، وأسأل عنهما؟ فإن زكيا قبلت شهادتهما، وإلا أمضيت ما قد ثبت عندي، فامتنع أولئك من الشهادة فزعًا، ولم يدفع إلى المعتضد شيئًا. قال ابن حمدون النديم: غرم المعتضد على عمارة البحيرة ستين ألف دار، وكان يخلو فيها مع جواريه وفيهن محبوبته دريرة، فقال ابن بسام: ترك الناس بحيره ... وتخلى في البحيرة قاعدًا يضرب بالطبل ... على حر دريرة فبلغ ذلك المعتضد فلم يظهر أنه بلغه، ثم أمر بتخريب تلك العمارات ثم ماتت دريرة في أيام المعتضد، فجزع عليها جزعًا شديدًا، وقال يرثيها: يا حبيبًا لم يكن يعـ ... ـدله عندي حبيب أنت عن عيني بعيد ... ومن القلب قريب ليس لي بعدك في شـ ... ـيء من اللهو نصيب لك من قلبي على قلـ ... ـبي وإن بنت رقيب وخيال منك مذ غبـ ... ـت خيال لا يغيب لو تراني كيف لي بعـ ... ـدك عول ونحيب؟ وفؤادي حشوه من ... حرق الحزن لهيب لتيقنت بأني ... فيك محزون كئيب ما أرى نفسي وإن سلـ ... ـيتها عنك تطيب لي دمع ليس يعصيـ ... ـني وصبر ما يجيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وقال بعضهم يمدح المعتضد، وهي على جزء جزء: طيف ألم ... بذي سلم بين الخيم ... يطوي الأكم جاد نعم ... يشفي السقم ممن لثم ... وملتزم فيه هضم ... إذا يضم داوى الألم ... ثم انصرم فلم أنم ... شوقًا وهم اللوم ذم ... كم ثم كم لوم الأصم؟ ... أحمد لم كل الثلم ... مما انهدم هو العلم ... والمعتصم خير النسم ... خالًا وعم حوى الهمم ... وما احتلم طود أشم ... سمح الشيم جلا الظلم ... كالبدر تم رعى الذمم ... حمى الحرم فلم يؤم ... خص وعم بما قسم ... له النعم مع النقم ... والخير جم إذا ابتسم ... والماء دم واعتل المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين علة صعبة، كان مزاجه قد تغير من كثرة إفراطه في الجماع، ثم تماسك، فقال ابن المعتز: طار قلبي بجناح الوجيب ... جزعًا من حادثات الخطوب وحذرًا أن يشاك بسوء ... أسد الملك وسيف الحروب ثم انتكس، مات يوم الاثنين لثمانٍ بقين منه. وحكى المسعودي قال: شكوا في موت المعتضد، فتقدم إليه الطبيب وجس نبضه ففتح عينيه، ورفس الطبيب برجله، فدحاه أذرعًا فمات الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته، ولما احتضر أنشد: تمنع من الدنيا فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرناقا ولا تأمنن الدهر، إني أمنته ... فلم يبقَ لي حالًا، ولم يرعَ لي حقًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوًّا، ولم أمهل على ظنة خلقًا وأخليت دور الملك من كل بازل ... وشتتهم غربًا، ومزقتهم شرقًا فلما بلغت النجم عزًّا ورفعة ... ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقا رماني الردى سهمًا فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلًا ملقى فأفسدت دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى؟ فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى نعمة لله أم ناره ألقى؟ ومن شعر المعتضد: يا لاحظي بالفتور والدعج ... وقاتلي بالدلال والغنج أشكو إليك الذي لقيت من الـ ... ـوجد فهل لي إليك من فرج؟ حللت بالظرف والجمال من الـ ... ـناس محل العيون والمهج وله، أنشد الصولي: لم يلق من حر الفراق ... أحد كما أن منه لاق يا سائلي عن طعمه ... ألفيته مر المذاق جسمي يذوب، ومقلتي ... عبري، وقلبي ذو احتراق ما لي أليف بعدكم ... إلا اكتئابي واشتياقي فالله يحفظكم جميعًا ... في مقام وانطلاق ولابن المعتز يرثيه: يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدًا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا أستغفر الله، بل ذا كله قدر، ... رضيت بالله ربًّا واحدًا صمدًا يا ساكن القبر في غبراء مظلمة ... بالظاهرية مقصى الدار منفردًا أين الجيوش التي قد كنت تنجبها؟ ... أين الكنوز التي أحصيتها عددًا؟ أين السرير الذي قد كنت تملؤه ... مهابة من رأته عينه ارتعدا؟ أين الأعادي الأولى ذللت مصعبهم؟ ... أين الليوث التي صيرتها بددًا؟ أين الجياد التي حجلتها بدم ... وكن يحملن منك الضيغم الأسدا؟ أين الرماح التي غديتها مهجًا ... مذ مت ما وردت قلبًا ولا كبدًا؟ أين الجنان التي تجري جداولها ... وتستجيب إليها الطائر الغردا؟ أين الوصائف كالغزلان راتعة ... يسحبن من حلل موشية جددا؟ أين الملاهي؟ وأين الراح تحسبها ... ياقوتة كسيت من فضة زردا؟ أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيًا ... صلاح ملك بني العباس إذ فسدا؟ ما زلت تقسر منهم كل قسورة ... وتحطم العالي الجبار معتمدًا ثم انقضيت، فلا عين ولا أثر ... حتى كأنك يومًا لم تكن أحدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 مات في أيام المعتضد من الأعلام: ابن المواز المالكي، وابن أبي الدنيا، وإسماعيل القاضي، والحارث بن أبي أسامة، وأبو العيناء، والمبرد، وأبو سعيد الخراز شيخ الصوفية، والبحتري الشاعر، وخلائق آخرون. وخلف المعتضد من الأولاد أربعة ذكور، ومن الإناث إحدى عشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المكتفي بالله أبو محمد 1 المكتفي بالله: أبو محمد علي بن المعتضد، ولد في غرة ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وأمه تركية اسمها جيجك، وكان يضرب بحسنها المثل حتى قال بعضهم: قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي والله لا كلمتها، ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي وعهد إليه أبوه، فبويع في مرضه يوم الجمعة بعد العصر لإحدى عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين. قال الصولي: وليس من الخلفاء من اسمه علي إلا هو وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولا من يكنى أبا محمد سوى الحسن بن علي، والهادي، والمكتفي. ولما بويع له عند موت أبيه كان غائبًا بالرقة، فنهض بأعباء البيعة الوزير أبو الحسن القاسم بن عبيد الله، وكتب له فوافى بغداد في سابع جمادى الأولى، ومر بدجلة في سمارية وكان يومًا عظيمًا، وسقط أبو عمر القاضي من الزحمة في الجسر، وأخرج سالِمًا، ونزل المكتفي بدار الخلافة، وقالت الشعراء، وخلع على القاسم الوزير سبع خلع، وهدم المطامير التي اتخذها أبوه وصيرها مساجد، وأمر برد البساتين والحوانيت التي أخذها أبوه من الناس ليعملها قصرًا إلى أهلها، وسار سيرة جميلة، فأحبه الناس ودعوا له. وفي هذه السنة زلزلت بغداد زلزلة عظيمة أيامًا، وفيها هبت ريح عظيمة بالبصرة قلعت عامة نخلها، ولم يسمع بمثل ذلك. وفيها خرج يحيى بن زكرويه القرمطي، فاستمر القتال بينه وبين عسكر الخليفة إلى أن قتل في سنة تسعين، فقام عوضه أخوه الحسين، وأظهر شامة في وجهه وزعم أنها آيته، وجاء ابن عمه عيسى بن مهرويه، وزعم أن لقبه المدثر، وأنه المعني في السورة، ولقب غلامًا له: المطوق بالنور، وظهر على الشام، وعاث وأفسد، وتسمى بأمير المؤمنين المهدي، ودعي له على المنابر، ثم قتل الثلاثة في سنة إحدى وتسعين. وفي هذه السنة فتحت أنطالية -باللام- من بلاد الروم عنوة، وغنم منها ما لا يحصى من الأموال. وفي سنة اثنتين زادت دجلة زيادة لم ير مثلها حتى خربت بغداد، وبلغت الزيادة أحدًا وعشرين ذراعًا.   1 تولى الخلافة 28هـ، وحتى 295هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ومن شعر الصولي يمدح المكتفي الخليفة ويذكر القرمطي: قد كفى المكتفي الخليفة ... ما كان قد حذر إلى أن قال: آل عباس أنتم ... سادة الناس والغرر حكم الله أنكم ... حكماء على البشر وأولو الأمر منكم ... صفوة الله والخير من رأى أن مؤمنًا ... من عصاكم فقد كفر أنزل الله ذاكم ... قبل في محكم السور قال الصولي: سمعت المكتفي يقول في علته: والله ما آسى إلا على سبعمائة ألف دينار صرفتها من مال المسلمين في أبنية ما احتجت إليها، وكنت مستغنيًا عنها، أخاف أن أسأل عنها، وإني أستغفر الله منها. مات المكتفي شابًّا في ليلة الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين، وخلف ثمانية أولاد ذكور وثماني بنات. وممن مات في أيامه من الأعلام: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وثعلب إمام العربية، وقنبل المقرئ، وأبو عبد الله البوشنجي الفقيه، والبزار صاحب المسند، وأبو مسلم الكجي، والقاضي أبو حازم، وصالح جزرة، ومحمد بن نصر المروزي الإمام، وأبو الحسين النوري شيخ الصوفية، وأبو جعفر الترمذي شيخ الشافعية بالعراق. ورأيت في تاريخ نيسابور لعبد الغافر عن ابن أبي الدنيا قال: لما أفضت الخلافة إلى المكتفي كتبت إليه بيتين: إن حق التأديب حق الأبوه ... عند أهل الحجي وأهل المروه وأحق الرجال أن يحفظوا ذا ... ك ويرعوه أهل البيت النبوه قال فحمل إِلَيّ عشرة آلاف درهم، وهذا يدل على تأخر ابن أبي الدنيا إلى أيام المكتفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 المقتدر بالله أبو الفضل 1 المقتدر بالله: أبو الفضل جعفر بن المعتضد، ولد في رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وأمه رومية -وقيل: تركية، اسمها غريب، وقيل: شغب- ولما اشتدت علة أخيه المكتفي سأل عنه، فصح عنده أنه احتلم فعهد إليه، ولم يلِ الخلافة قبله أصغر منه؛ فإنه وليها وله ثلاث عشرة سنة، فاستصباه الوزير العباس بن الحسن، فعمل على خلعه، ووافقه جماعة على أن يولوا عبد الله بن المعتز، فأجاب ابن المعتز بشرط ألا يكون فيها دم، فبلغ المقتدر ذلك، أصبح حال العباس، ودفع إليه أموالًا أرضته، فرجع عن ذلك، وأما الباقون فإنهم   1 تولى الخلافة من سنة 295هـ، وحتى سنة319هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ركبوا عليه في العشرين من ربيع الأول سنة ست والمقتدر يلعب الأكرة، فهرب ودخل وأغلقت الأبواب، وقتل الوزير وجماعة، وأرسل إلى ابن المعتز فجاء وحضر القواد والقضاة والأعيان، وبايعوه بالخلافة ولقبوه الغالب بالله، فاستوزر محمد بن داود بن الجراح، واستقضى أبا المثنى أحمد بن يعقوب، ونفذت الكتب بخلافة ابن المعتز. قال المعافى بن زكريا الجريري: لما خلع المقتدر وبويع ابن المعتز دخلوا على شيخنا محمد بن جرير الطبري، فقال: ما الخبر؟ قيل: بويع ابن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ قيل: محمد بن داود، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قيل: أبو المثنى، فأطرق ثم قال: هذا الأمر لا يتم، قيل له: وكيف؟ قال: كل واحد ممن سميتهم متقدم في معناه عالي الرتبة والزمان مدبر والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا اضمحلال، وما أرى لمدته طولًا. وبعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد بن طاهر لكي ينتقل ابن المعتز إلى دار الخلافة، فأجاب، ولم يكن بقي معه إلا طائفة يسيرة، فقالوا: يا قوم! نسلم هذا الأمر ولا نجرب نفوسنا في دفع ما نزل بنا، فلبسوا السلاح وقصدوا المخرم وبه ابن المعتز، فلما رآهم من حوله ألقى الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا منهزمين بلا قتال، وهرب ابن المعتز، ووزيره وقاضيه، ووقع النهب والقتل في بغداد، وقبض المقتدر على الفقهاء والأمراء الذين خلعوه، وسلموا إلى يونس الخازن فقتلهم إلا أربعة -منهم القاضي أبو عمر- سلموا من القتل، وحبس ابن المعتز، ثم أخرج فيما بعد ميتًا، واستقام الأمر للمقتدر؛ فاستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات، فسار أحسن سيرة، وكشف المظالم، حض المقتدر على العدل، ففوض إليه الأمر لصغره، واشتغل باللعب واللهو، وأتلف الخزائن. وفي هذه السنة أمر المقتدر ألا يستخدم اليهود والنصارى، وأن يركبوا بالأكف. وفيها غلب أمر المهدي بالمغرب، وسلم عليه بالإمامة، ودعي له بالخلافة، وبسط في الناس العدل والإحسان، فانحرفوا إليه، وتمهدت له المغرب، وعظم ملكه، وبنى المهدية، وهرب أمير إفريقية زيادة الله بن الأغلب إلى مصر، ثم أتى العراق، وخرجت المغرب عن أمر بني العباس من هذا التاريخ؛ فكانت مدة ملكهم جميع الممالك الإسلامية مائة وبضعًا وستين سنة، ومن هنا دخل النقص عليهم. قال الذهبي: اختل النظام كثيرًا في أيام المقتدر لصغره. وفي سنة ثلاثمائة ساخ جبل بالدينور في الأرض، وخرج من تحته ماء كثير أغرق القرى، وفيها ولدت بغلة فلوًّا 1، فسبحان القادر على ما يشاء!. وفي سنة إحدى وثلاثمائة ولي الوزارة علي بن عيسى؛ فسار بعفة وعدل وتقوى، وأبطل الخمور، وأبطل المكوس2 ما ارتفاعه في العام خمسمائة ألف دينار، وفيها أعيد القاضي أبو عمر إلى القضاء، وركب المقتدر من داره إلى الشماسية وهي أول ركبة ركبها وظهر فيها للعامة.   1 الفلوّ: المهر. 2 المكوس: دراهم تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق والمسماة الآن بالضريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وفيها أدخل الحسين الحلاج مشهورًا على جمل إلى بغداد، فصلب حيًّا، ونودي عليه هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع، وأشيع عنه أنه ادعى الإلهية، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف، ويكتب إلى أصحابه من النور الشعشعاني، ونوظر فلم يوجد عنده شيء من القرآن، ولا الحديث، ولا الفقه. وفيها سار المهدي الفاطمي يريد مصر في أربعين ألفًا من البربر، فحال النيل بينه وبينها، فرجع إلى الإسكندرية، وأفسد فيها وقتل، ثم رجع فسار إليه المقتدر إلى برقة، وجرت لهم حروب، ثم ملك الفاطمي الإسكندرية والفيوم من هذا العام. وفي سنة اثنتين ختن المقدر خمسة من أولاده، فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار، وختن معهم طائفة من الأيتام، وأحسن إليهم. وفيها صلى العيد في جامع مصر، ولم يكن يصلى فيه العيد قبل ذلك، فخطب بالناس علي بن أبي شيخة من الكتاب نظرًا، وكان من غلطه أن قال: اتقو الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مشركون. وفيها أسلم الديلم علي يد الحسن بن علي العلوي الأطروش، وكان مجوسيًّا. وفي سنة أربع وقع الخوف ببغداد من حيوان يقال له: الزبزب، ذكر الناس أنهم يرونه بالليل على الأسطحة وأنه يأكل الأطفال، ويقطع ثدي المرأة، فكانوا يتحارسون ويضربون بالطاسات ليهرب، واتخذ الناس لأطفالهم مكاب، ودام عدة ليالٍ. وفي سنة خمس قدمت رسل ملك الروم بهدايا، وطلبت عقد هدنة؛ فعمل المقتدر موكبًا عظيمًا، فأقام العسكر وصفهم بالسلاح -وهم مائة وستون ألفًا- من باب الشماسية إلى دار الخلافة، وبعدهم الخدام وهم سبعة آلاف خادم، ويليهم الحجاب وهم سبعمائة حاجب، وكانت الستور التي نصبت على حيطان دار الخلافة ثمانية وثلاثين ألف ستر من الديباج، والبسط اثنين وعشرين ألفًا، وفي الحضرة مائة وسبع في السلاسل، إلى غير ذلك. وفي هذه السنة وردت هدايا صاحب عمان، وفيها طير أسود يتكلم بالفارسية والهندية أفصح من الببغاء. وفي سنة ست فتح مارستان أم المقتدر، وكان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف دينار. وفيها صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته، وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعة؛ فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطبها. وفيها عاد القائم محمد بن المهدي الفاطمي إلى مصر فأخذ أكثر الصعيد. وفي سنة ثمانٍ غلت الأسعار ببغداد وسغبت1 العامة لكون حامد بن العباس ضمن السواد وجدد المظالم، ووقع النهب، وركب الجند فيها، وشتتهم العامة، ودام القتال أيامًا، وأحرق العامة الحبس، وفتحوا السجون، ونهبوا الناس، ورجموا الوزير، واختلفت أحوال الدولة   1 السغب: الجوع، والمسغبة المجاعة. انظر مختار الصحاح "ص: 300". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 العباسية جدًّا، وفيها ملكت جيوش القائم الجزيرة من الفسطاط، واشتد قلق أهل مصر، وتأهبوا للحروب وجرت أمور وحروب يطول شرحها. وفي سنة تسع قتل الحلاج بإفتاء القاضي أبو عمر والفقهاء والعلماء أنه حلال الدم، وله في أحواله السنية أخبار أفردها الناس بالتصنيف. وفي سنة إحدى عشرة أمر المقتدر برد المواريث إلى ما صيرها المعتضد من توريث ذوي الأرحام. وفي سنة اثنتي عشرة فتحت فرغانة على يد والي خراسان. وفي سنة أربع عشرة دخلت الروم ملطية بالسيف. وفيها جمدت دجلة بالموصل، وعبرت عليها الدواب، وهذا لم يعهد. وفي سنة خمس عشرة دخلت الروم دمياط، وأخذوا من فيها وما فيها، وضربوا الناقوس في جامعها، وفيها ظهرت الديلم على الري والجبال فقتل خلق وذبحت الأطفال. وفي سنة ست عشرة بنى القرمطي دارًا سماها دار الهجرة، وكان في هذه السنين قد كثر فساده وأخذه البلاد وفتكه المسلمين، واشتد الخطب به، وتمكنت هيبته في القلوب، وكثر أتباعه، وبث السرايا، وتزلزل له الخليفة، وهزم جيش المقتدر غير مرة، وانقطع الحج في هذه السنين خوفًا من القرامطة، ونزح أهل مكة عنها، وقصدت الروم ناحية خلاط، وأخرجوا المنبر من جامعها وجعلوا الصليب مكانه. وفي سنة سبع عشرة خرج مؤنس الخادم الملقب بالمظفر على المقتدر؛ لكونه بلغه أن يريد أن يولي إمرة الأمراء هارون بن غريب مكان مؤنس، وركب معه سائر الجيش والأمراء والجنود، وجاءوا إلى دار الخلافة، فهربت خواص المقتدر وأخرج المقتدر بعد العشاء، وذلك في ليلة رابع عشر المحرم من داره، وأمه، وخالته وحرمه ونهب لأمه ستمائة ألف دينار، وأشهد عليه بالخلع، وأحضر محمد بن المعتضد، وبايعه مؤنس والأمراء، ولقبوه القاهر بالله وفوضت الوزارة إلى أبي علي بن مقلة، وذلك يوم السبت وجلس القاهر يوم الأحد، وكتب الوزير عنه إلى بلاد، وعمل الموكب يوم الاثنين، فجاء العسكر يطلبون رزق البيعة ورزق السنة، ولم يكن مؤنس حاضرًا، فارتفعت الأصوات، فقتلوا الحاجب ومالوا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر ليردوه إلى الخلافة، فحملوه على أعناقهم إلى دار مؤنس إلى قصر الخلافة، وأخذ القاهر فجيء به وهو يبكي ويقول: الله الله في نفسي فاستنداه وقبله، وقال له: يا أخي أنت والله لا ذنب لك، والله لا جرى عليك مني سوء أبدًا، فطب نفسًا، وسكن الناس، وعاد الوزير فكتب إلى الأقاليم بعود الخلافة إلى خلافته، وبذل المقتدر الأموال في الجند. وفي هذه السنة سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فوفاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي، فقتل الحجيج في المسجد الحرام قتلًا ذريعًا، وطرح القتلى في بئر زمزم، وضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره، قم اقتلعه، وأقام بها أحد عشر يومًا، ثم رحلوا وبقي الحجر الأسود عندهم أكثر من عشرين سنة، ودفعه لهم فيه خمسون ألف دينار، فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع. وقيل: إنهم لما أخذوه هلك تحته أربعون جملًا من مكة إلى هجر، فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن. قال محمد بن الربيع بن سليمان: كنت بمكة سنة القرامطة؛ فصعد رجل لقلع الميزاب وأنا أراه: فعيل صبري وقلت: يا رب ما أحلمك، فقسط الرجل على دماغه فمات، وصعد القرمطي على باب الكعبة وهو يقول: أنا بالله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا ولم يفلح أبو طاهر القرمطي بعدها، وتقطع جسده بالجدري. وفي هذه السنة هاجت فتنة كبرى ببغداد بسبب قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] فقالت الحنابلة: معناها يقعده الله على عرشه، وقال غيرهم: بل هي الشفاعة، ودام الخصام، واقتتلوا جماعة كثيرة. وفي سنة تسع عشرة نزل القرمطي الكوفة، وخاف أهل بغداد من دخوله إليها، فاستغاثوا ورفعوا أصواتهم والمصاحف، وسبوا المقتدر، وفيها دخلت الديلم الدينور وسبوا وقتلوا. وفي سنة عشرين ركب مؤنس على المقتدر، فكان معظم جند مؤنس البربر، فلما التقى الجمعان رمى البربر المقتدر بحربة سقط منها إلى الأرض ثم ذبحه بالسيف، وشيل رأسه على رمح، وسلب ما عليه، وبقي مكشوف العورة حتى ستر بالجيش، ثم حفر له بالموضع ودفن، وذلك يوم الأربعاء لثلاثٍ بقين من شوال. وقيل: إن وزيره أخذ له ذلك اليوم طالعًا، فقال له المقتدر: أي وقت هو؟ قال: وقت الزوال، فتطير وهم بالرجوع، فأشرفت خيل مؤنس، ونشبت الحرب. وأما البربري الذي قتله فإن الناس صاحوا عليه، فسار نحو دار الخلافة ليخرج القاهر فصادفه حمل شوك فزحمه إلى دكان لحمام فعلقه كلاب، وخرج الفرس من مشواره من تحته فمات؛ فحطه الناس وأحرقوه بالحمل والشوك. وكان المقتدر جيد العقل، صحيح الرأي لكنه كان مؤثرًا للشهوات والشراب مبذرًا، وكان النساء غلبن عليه، فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها، وأعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة ووزنها ثلاثة مثاقيل، وأعطى زيدان القهرمان سبحة جوهر لم ير مثلها، وأتلف أموالًا كثيرة، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان غير الصقالبة والروم والسود، وخلف اثني عشر ولدًا ذكرًا، وولي الخلافة من أولاده ثلاثة: الراضي، والمتقي، والمطيع، وكذلك اتفق للمتوكل، والرشيد. وأما عبد الملك فولي الأمر من أولاده أربعة، ولا نظير لذلك إلا في الملوك، كذا قال الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قلت: في زماننا ولي الخلافة من أولاد المتوكل خمسة: المستعين العباس، والمعتضد داود، والمستكفي سليمان، والقائم حمزة، والمستنجد يوسف، ولا نظير لذلك. وفي لطائف المعارف للثعالبي نادرة: لم يلِ الخلافة من اسمه جعفر إلا المتوكل والمقتدر، فقتلا جميعًا، المتوكل ليلة الأربعاء، والمقتدر يوم الأربعاء. ومن محاسن المقتدر ما حكاه ابن شاهين: أن وزيره علي بن عيسى أراد أن يصلح بين ابن صاعد وبين أبي بكر بن أبي داود السجستاني، فقال الوزير: يا أبا بكر! أبو محمد أكبر منك، فلو قمت إليه، قال: لا أفعل، فقال الوزير: أنت شيخ زيف، فقال ابن أبي داود: الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: من؟ فقال: هذا، ثم قام ابن أبي داود وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل أن رزقي يصل إليّ على يديك؟ والله لا أخذت من يدك شيئًا أبدًا، فبلغ المقتدر ذلك، فصار يزن بيده، ويبعث به في طبق على يد الخادم. مات في أيام المقتدر من الأعلام: محمد بن داود الظاهري، ويوسف بن يعقوب القاضي، وابن شريح شيخ الشافعية، والجنيد شيخ الصوفية، وأبو عثمان الحيري الزاهد، وأبو بكر البرديجي، وجعفر الفريابي، وابن بسام الشاعر، والنسائي صاحب السنن، والجبائي شيخ المعتزلة، وابن المواز النحوي، وابن الجلاء شيخ الصوفية، وأبو يعلى الموصلي صاحب المسند، والأشناني المقرئ، وابن سيف من كبار قراء مصر، وأبو بكر الروياني صاحب المسند، وابن المنذر الإمام، وابن جرير الطبري، والزجاج النحوي، وابن خزيمة، وابن زكريا الطبيب، والأخفش الصغير، وبنان الجمال، وأبو بكر بن أبي داود السجستاني، وابن السراج النحوي، وأبو عوانة صاحب الصحيح، وأبو القاسم البغوي المسند، وأبو عبيد بن حربويه، والكعبي شيخ المعتزلة، وأبو عمر القاضي، وقدامة الكتاب، وخلائق آخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 القاهر بالله أبو منصور 1 القاهر بالله: أبو منصور محمد بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل. أمه أم ولد اسمها فتنة؛ لما قتل المقتدر أحضر هو ومحمد بن المكتفي، فسألوا ابن المكتفي أن يتولى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمي هذا أحق به، فكلم القاهر، فأجاب، فبويع، ولقب القاهر بالله كما لقب به في سنة سبع عشرة، فأول ما فعل أن صادر آل المقتدر، وعذبهم، وضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب. وفي سنة إحدى وعشرين شغب عليه الجند، واتفق مؤنس وابن مقلة وآخرون على خلعه بابن المكتفي، فتحيل القاهر عليه إلى أن أمسكهم وذبحهم وطين على ابن المكتفي بين حائطين، وأما ابن مقلة فاختفى، فأحرقت داره، ونهبت دور المخالفين، ثم أطلق أرزاق الجند فسكنوا، واستقام الأمر للقاهر، وعظم في القلوب، وزيد في ألقابه: المنتقم من أعداء دين الله، ونقش ذلك على السكة.   1 تولى الخلافة 319هـ، وحتى سنة 322هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وفي هذه السنة أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين، ونفى المخانيث، وكسر آلات اللهو، وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سواذج، وكان مع ذلك لا يصحو من السكر، ولا يفتر عن سماع الغناء. وفي سنة اثنتين وعشرين ظهرت الديلم، وذلك لأن أصحاب مرداويج دخلوا أصبهان، وكان من قواده على بن بويه، فاقتطع مالًا جليلًا، فانفرد عن مخدومه، ثم التقى هو ومحمد بن ياقوت نائب الخليفة، فهزم محمد، واستولى ابن بويه على فارس، وكان بويه فقيرًا صعلوكًا يصيد السمك، رأى كأنه بال فخرج عن ذكره عمود نار، ثم تشعب العمود حتى ملأ الدنيا، فعبرت بأن أولاده يملكون الدنيا، ويبلغ سلطانهم على قدر ما احتوت عليه النار، فمضت السنون وآل الأمر على هذا إلى أن صار قائدًا لمرداويج بن زياد الديلمي، فأرسله يستخرج له مالًا من الكرخ، فاستخرج خمسمائة ألف درهم، وأتى همذان ليملكها، فغلق أهلها في وجهه الأبواب، فقاتلهم وفتحها عنوة، وقيل: صلحًا ثم سار إلى شيراز. ثم إنه قل ما عنده من المال، فنام على ظهره، فخرجت حية من سقف المجلس، فأمر بنقضه، فخرجت صناديق ملأى ذهبًا، فأنفقها في جنده. وطلب -خياطًا يخيط له شيئًا، وكان أطروشا- فظن أنه قد سعى به، فقال: والله ما عندي سوى اثني عشر صندوقًا، لا أعلم ما فيها، فأحضرت فوجدت فيها مالًا عظيمًا. وركب يومًا، فساخت قوائم فرسه، فحفروه، فوجدوا فيها كنزًا، واستولى على البلاد وخرجت خراسان وفارس عن حكم الخلافة. وفي هذه السنة قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافة القاهر، ألقاه على رأسه في بئر وطمت، وذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية، واشتراها، فحقد عليه. وفيها تحرك الجند عليه؛ لأن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه، ويقول لهم: إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم، وغير ذلك، فأجمعوا على الفتك به، فدخلوا عليه بالسيوف، فهرب، فأدركوه وقبضوا عليه في سادس جمادى الآخرة وبايعوا أبا العباس محمد بن المقتدر ولقبوه: الراضي بالله، ثم أرسلوا إلى القاهر الوزير والقضاة أبا الحسين بن القاضي أبي عمر، والحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب، وأبا طالب بن البهلول، فجاءوه، فقيل له: ما تقول؟ قال: أنا أبو منصور محمد بن المعتضد، لي في أعناقهم بيعة وفي أعناق الناس، ولست أبرئكم، ولا أحللكم منها، فقوموا، فقاموا، فقال الوزير: يخلع ولا نفكر فيه، أفعاله مشهورة، وقال القاضي أبو الحسين: فدخلت على الراضي وأعدت عليه ما جرى، وأعملته أني أرى إمامته فرضًا، فقال: انصرف ودعني وإياه، فأشار سيماء مقدم الحجرية على الراضي بسمله، فكحله بمسمار محمي. قال محمد الأصبهاني: كان سبب خلع القاهر سوء سيرته، وسفكه الدماء فامتنع من الخلع، فسملوا عينيه حتى سالتا على خديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وقال الصولي: كان أهوج، سفاكًا للدماء، قبيح السيرة، كثير التلون والاستحالة، مدمن الخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل. وكان قد صنع حربة يحميها، فلا يطرحها حتى يقتل بها إنسانًا. قال علي بن محمد الخراساني: أحضرني القاهر يومًا والحربة بين يديه، فقال: أسألك عن خلفاء بني العباس، عن أخلاقهم وشيمهم، قلت: أما السفاح فكان مسارعًا إلى سفك الدماء، واتبعه عماله على مثل ذلك، وكان مع ذلك سمحًا وصولًا بالمال، قال: فالمنصور؟ قلت: كان أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد أبي طالب، وكانوا قبلها متفقين، وهو أول خليفة قرب المنجمين، وأول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية، ككتاب كليلة ودمنة، وكتاب إقليدس، وكتاب اليونان، فنظر الناس فيها وتعلقوا بها، فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي والسير، والمنصور أول من استعمل مواليه وقدمهم على العرب، قال: فالمهدي؟ قلت: كان جوادًا عادلًا منصفًا، رد ما أخذ أبوه من الناس غصبًا، وبالغ في إتلاف الزنادقة، وبنى المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، قال: فالهادي؟ قلت: كان جبارًا متكبرًا، فسلك عماله طريقه على قصر أيامه، قال: فالرشيد؟ قلت: كان مواظبًا على الغزو والحج، وعمر القصور والبرك بطريق مكة، وبنى الثغور: كأذنة، وطرسوس، والمصيصة، ومرعش، وعم الناس إحسانه، وكان في أيامه البرامكة، وما اشتهر من كرمهم، وهو أول خليفة لعب بالصوالجة، ورمى النشاب في البرجاس ولعب بالشطرنج من بني العباس، قال: فالأمين؟ قلت: كان جوادًا، إلا أنه انهمك في لذاته، ففسدت الأمور قال: فالمأمون؟ قلت: سلك طريقه، وغلب عليه النجوم والفلسفة، وكان حليمًا جوادًا، قال: فالمعتصم؟ قلت: غلب عليه حب الفروسية والتشبه بملوك الأعاجم، واشتغل بالغزو والفتوح، قال: فالواثق؟ قلت: سلك طريقة أبيه، قال: فالمتوكل؟ قلت: خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقادات، ونهى عن الجدال، والمناظرات، والأهواء، وعاقب عليها، وأمر بقراءة بالحديث وسماعه، ونهى عن القول بخلق القرآن، فأحبه الناس، ثم سأل عن باقي الخلفاء، وأنا أجيبه بما فيهم، فقال لي: سمعت كلامك، وكأني أشاهد القوم، ثم قام. وقال المسعودي: أخذ القاهر من مؤنس وأصحابه مالًا عظيمًا، فلما خلع وسمل طولب بها فأنكر، فعذب بأنواع، فلم يقر بشيء، فأخذه الراضي بالله، فقربه وأدناه، وقال له: قد ترى مطالبة الجند بالمال، وليس عندي شيء, والذي عندك فليس بنافع لك، فاعترف به، فقال: أما إذا فعلت هذا فالمال مدفون في البستان وكان قد أنشأ بتسانًا فيه أصناف الشجر، حملت إليه من البلاد، وزخرفه، وعمل فيه قصرًا، وكان الراضي مغرمًا بالبستان والقصر، فقال: وفي أي مكان المال منه؟ فقال: أنا مكفوف، لا أهتدي إلى مكان فاحفر البستان تجده؟ فحفر الراضي البستان وأساسات القصرن وقلع الشجر، فلم يجد شيئًا، فقال له: وأين المال؟ فقال: وهل عندي مال؟ وإنما كان حسرتي في جلوسك في البستان وتنعمك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فأردت أن أفجعك فيه، فندم الراضي وحبسه، فأقام إلى سنة ثلاث وثلاثين، ثم أطلقوه وأهملوه، فوقف يومًا بجامع المنصور بين الصفوف وعليه مبطنة بيضاء، وقال: تصدقوا علي، فأنا من قد عرفتم، وذلك في أيام المستكفي ليشنع عليه، فمنع من الخروج إلى أن مات سنة تسع وثلاثين في جمادى الأولى عن ثلاث وخمسين سنة، وكان له من الولد: عبد الصمد، وأبو القاسم، وأبو الفضل، وعبد العزيز. ومات في أيامه من الأعلام: الطحاوي شيخ الحنفية، وابن دريد، وأبو هاشم الجبائي، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الراضي بالله أبو العباس 1 الراضي بالله: أبو العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل. ولد سنة سبع وتسعين ومائتين، وأمه أم ولد رومية اسمه ظلوم، بويع له يوم خلع القاهر، فأمر ابن مقلة أن يكتب كتابًا فيه مثالب القاهر ويقرأ على الناس. وفي هذا العام -أي عام اثنتين وعشرين وثلاثمائة- من خلافته مات مرداويج مقدم الديلم بأصبهان، وكان قد عظم أمره، وتحدثوا أنه يريد قصد بغداد، وأنه مسالم لصاحب المجوس، وكان يقول: أنا أرد دولة العجم، وأمحق دولة العرب. وفيها بعث على بن بويه إلى الراضي يقاطعه على البلاد التي استولى عليها بثمانمائة ألف ألف درهم كل سنة، فبعث له لواء وخلعًا، ثم أخذ ابن بويه يماطل بحمل المال. وفيها مات المهدي صاحب المغرب، وكانت أيامه خمسًا وعشرين سنة، وهو جد خلفاء المصريين الذين يسمونهم الجهلة الفاطميين، فإن المهدي هذا ادعى أنه علوي، وإنما جده مجوسي، قال القاضي أبو بكر الباقلاني: جد عبيد الله الملقب بالمهدي مجوسي، دخل عبيد الله المغرب وادعى أنه علوي، ولم يعرفه أحد من علماء النسب، وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء، ليتمكن من إغواء الخلق وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمور والفروج، وأشاعوا الرفض، وقام بالأمر بعد موت هذا ابنه القائم بأمر الله أبو القاسم محمد. وفي هذه السنة ظهر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بأبي القراقر، وقد شاع عنه أنه يدعي الإلهية؟ وأنه يحيي الموتى، فقتل وصلب وقتل معه جماعة من أصحابه. وفيها توفي أبو جعفر السجزي أحد الحجاب، قيل: بلغ من العمر مائة وأربعين سنة وحواسه جيدة، وفيها انقطع الحج من بغدد إلى سنة سبع وعشرين. وفي سنة ثلاث وعشرين تمكن الراضي الله، وقلد ابنيه أبا الفضل وأبا جعفر المشرق والمغرب.   1 تولى الخلافة سنة 322هـ وحتى 329هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وفيها كانت واقعة شنبوذ المشهورة واستتابته عن القراءة بالشاذ والمحضر الذي كتب عليه، وذلك بحضرة الوزير أبي علي بن مقلة، وفيها في جمادى الأولى هبت ريح عظيمة ببغداد واسودت الدنيا، وأظلمت من العصر إلى المغرب. وفيها في ذي القعدة انقضت النجوم سائر الليل انقضاضًا عظيمًا ما رؤي مثله. وفي سنة أربع وعشرين تغلب محمد بن رائق أمير واسط ونواحيها، وحكم على البلاد وبطل أمر الوزارة والدواوين، وتولى هو الجميع وكتابه، وصارت الأموال تحمل إليه، وبطلت بيوت المال، وبقي الراضي معه صورة وليس له من الخلافة إلا الاسم. وفي سنة خمس وعشرين اختل الأمر جدًّا، وصارت البلاد بين خارجي قد تغلب عليها أو عامل لا يحمل مالًا، وصاروا مثل ملوك الطوائف، ولم يبقَ بيد الراضي غير بغداد والسواد مع كون يد ابن رائق عليه، ولما ضعف أمر الخلافة في هذه الأزمان ووهت أركان الدولة العباسية، وتغلبت القرامطة والمبتدعة على الأقاليم، قويت همة صاحب الأندلس الأمير عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني وقال: أنا أولى الناس بالخلافة، وتسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، واستولى على أكثر الأندلس، وكانت له الهيبة الزائدة والجهاد والغزو والسيرة المحمودة، استأصل المتغلبين، وفتح سبعين حصنًا، فصار المسمون بأمير المؤمنين ثلاثة: العباسي ببغداد وهذا بالأندلس، والمهدي بالقيروان. وفي سنة ست وعشرين خرج بجكم على ابن رائق، فظهر عليه، واختفى ابن رائق، فدخل بجكم بغداد، فأكرمه الراضي، ورفع منزلته، ولقبه أمير الأمراء، وقلده إمارة بغداد وخراسان، وفي سنة سبع وعشرين كتب أبو علي عمر بن يحيى العلوي إلى القرمطي-وكان يحبه- أن يطلق طريق الحاج ويعطيه عن كل جمل خمسة دنانير، فأذن وحج الناس، وهي أول سنة أخذ فيها المكس من الحجاج. وفي ثمانٍ وعشرين غرقت بغداد غرقًا عظيمًا حتى بلغت زيادة الماء تسعة عشر ذراعًا، وغرق الناس والبهائم، وانهدمت الدور. وفي سنة تسع وعشرين اعتل الراضي، ومات في شهر ربيع الآخر وله إحدى وثلاثون سنة ونصف، وكان سمحًا، كريمًا، أديبًا، شاعرًا، فصيحًا، محبًّا للعلماء، وله شعر مدون، وسمع الحديث من البغوي وغيره. قال الخطيب: للراضي فضائل: منها أنه آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الندماء، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين، وآخر خليفة سافر بزي القدماء، ومن شعره: كل صفوٍ إلى كدر ... كل أمر إلى حذر ومصير الشباب للموت ... فيه أو الكدر در در المشيب من ... واعظ ينذر البشر أيها الآمل الذي ... تاه في لجة الغرر أين من كان قبلنا؟ ... ذهب الشخص والأثر ربّ فاغفر خطيئتي ... أنت يا خير من غفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ذكر أبو الحسن بن زرقويه عن إسماعيل الخطبي قال: وجه إلى الراضي ليلة الفطر، فجئت إليه، فقال يا إسماعيل قد عزمت في غد على الصلاة بالناس، فما الذي أقول إذا انتهيت إلى الدعاء لنفسي؟ فأطرقت ساعة ثم قلت: قل يا أمير المؤمنين: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل: 19] فقال لي: حسبك، ثم تبعني خادم فأعطاني أربعمائة دينار. مات في أيامه من الأعلام: نفطويه، وابن مجاهد المقرئ، وابن كأس الحنفي، وابن أبي حاتم، ومبرمان، وابن عبد ربه صاحب العقد، والإصطخري شيخ الشافعية، وابن شنبوذ، وأبو بكر الأنباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 المتقي لله أبو إسحاق 1 المتقي لله: أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل. بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، وأمه أمة اسمها خلوب، وقيل: زهرة، ولم يغير شيئًا قط، ولا تسرى على جاريته التي كانت له، وكان كثير الصوم والتعبد، ولم يشرب نبيذًا قط، وكان يقول: لا أريد نديمًا غير المصحف، ولم يكون له سوى الاسم، والتدبير لأبي عبد الله أحمد بن علي الكوفي كاتب بجكم. وفي هذه السنة من ولايته سقطت القبة الخضراء بمدينة المنصور، وكانت تاج بغداد، ومأثرة بني العباس، وهي من بناء المنصور، وارتفاعها ثمانون ذراعًا وتحتها إيوان طوله عشرون ذراعًا في عشرين ذراعًا، وعليها تمثال فارس بيده رمح فإذا استقبل بوجهه جهة علم أن خارجيًّا يظهر من تلك الجهة، فسقط رأس هذه القبة في ليلة ذات مطر ورعد. وفي هذه السنة قبل بجكم التركي، فولي إمرة الأمراء مكانه كورتكين الديلمي، وأخذ المتقي حواصل بجكم التي كانت ببغداد، وهي زيادة على ألف ألف دينار، وفي هذا العام ظهر ابن رائق، فقاتل كورتكين ببغداد، فهزم كورتكين واختفى، وولي ابن رائق إمرة الأمراء مكانه. وفي سنة ثلاثين كان الغلاء ببغداد، فبلغ كر الحنطة ثلاثمائة وستة عشر دينارًا واشتد القحط وأكلو الميتات، وكان قحطًا لم يرَ ببغداد مثله أبدًا. وفيها خرج أبو الحسن علي بن محمد اليزيدي، فخرج لقتاله الخليفة وابن رائق، فهزما وهربا إلى الموصل، ونهبت بغداد ودار الخلافة، فلما وصل الخليفة إلى تكريت وجد هناك سيف الدولة أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان، وأخاه الحسن، وقتل ابن رائق غيلة، فولى الخليفة مكانه الحسن بن حمدان، ولقبه ناصر الدولة، وخلع على أخيه ولقبه سيف الدولة وعاد إلى بغداد وهما معه، فهرب اليزيد إلى واسط، ثم ورد الخبر في ذي القعدة أن اليزيدي يريد بغداد، فاضطرب الناس، وهرب وجوه أهل بغداد، وخرج الخليفة ليكون مع ناصر الدولة، وسار سيف الدولة لقتال اليزيدي، فكانت بينهما وقعة هائلة بقرب المدائن،   1 تولى الخلافة سنة 329هـ، وحتى333هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وهزم اليزيدي، فعاد بالويل إلى واسط، فساق سيف الدولة إلى واسط، فانهزم اليزيدي إلى البصرة. وفي سنة إحدى وثلاثين وصلت الروم إلى أرزن، وميافارقين، ونصيبين، فقتلوا سبوا، ثم طلبوا منديلًا في كنيسة الرها، يزعمون أن المسيح مسح به وجهه، فارتسمت صورته فيه على أنهم يطلقون جميع من سبوا، فأرسل إليهم وأطلقوا الأسرى. وفيها هاج الأمراء بواسط على سيف الدولة، فهرب في البريد يريد بغداد، ثم سار إلى الموصل أخوه ناصر الدولة خائفًا لهرب أخيه، وسار من واسط تورون فقصد بغداد وقد هرب منه سيف الدولة إلى الموصل فدخل تورون بغداد في رمضان فخلع عليه المتقي، وولاه أمير الأمراء، ثم وقعت الوحشة بين المتقي، وتورون، فأرسل تورون أبا جعفر بن شيرزاد، من واسط إلى بغداد، فحكم عليها وأمر ونهى، فكاتب المتقي بن حمدان بالقدوم عليه، فقدم في جيش عظيم، واستتر ابن شيرزاد، فسار المتقي بأهله إلى تكريت، وخرج ناصر الدولة بجيش كثير من الأعراب والأكراد إلى قتال تورون، فالتقيا بعكبرا، فانهزم ابن حمدان والمتقي إلى الموصل، ثم تلاقوا مرة أخرى، فانهزم ابن حمدان والخليفة إلى نصيبين، فكتب الخليفة إلى الإخشيد صاحب مصر أن يحضر إليه، ثم بان له من بني حمدان الملل والضجر، فراسل الخليفة تورون في الصلح، فأجاب وبالغ في الإيمان، ثم حضر الإخشيد إلى المتقي وهو بالرقة وقد بلغه مصالحة تورون، فقال: يا أمير المؤمنين أنا عبدك وابن عبدك، وقد عرفت الأتراك وفجورهم وغدرهم، فالله الله في نفسك، سر معي إلى مصر فهي لك، وتأمن على نفسك، فلم يقبل، فرجع الإخشيد إلى بلاده، وخرج المتقي من الرقة إلى بغداد في رابع المحرم سنة ثلاث وثلاثين، وخرج للقائه تورون، فالتقيا بين الأنبار وهيت، فترجل تورون وقبّل الأرض، فأمره المتقي بالركوب، فلم يفعل، ومشى بين يديه إلى المخيم الذي ضربه له، فلما نزل قبض عليه وعلى ابن مقلة ومن معه، ثم كحل الخليفة وأدخل بغداد مسمول العينين، وقد أخذ منه الخاتم والبردة والقضيب، وأحضر تورون عبد الله بن المكتفي وبايعه بالخلافة، ولقب المستكفي بالله، ثم بايعه المتقي المسمول، وأشهد على نفسه بالخلع مع ذلك لعشر بقين من المحرم -وقيل: من صفر- ولما كحل قال القاهر: صرت وإبراهيم شيخ عمى ... لابد للشيخين من مصدر ما دام تورون له امرأة ... مطاعة فالميل في المجمر ولم يحل الحول على تورون حتى مات، وأما المتقي فإنه أخرج إلى جزيرة مقابلة للسندية فسجن بها، فأقام بالسجن خمسًا وعشرين سنة إلى أن مات في شعبان سنة سبع وخمسين. وفي أيام المتقي كان ابن حمدي اللص ضمنه ابن شيرزاد لما تغلب على بغداد اللصوصية بها بخمسة وعشرين ألف دينار في الشهر، فكان يكبس بيوت الناس بالمشعل والشمع، ويأخذ الأموال، وكان أسكورج الديلمي قد ولي شرطة بغداد، فأخذه ووسطه وذلك سنة اثنتين وثلاثين. مات في أيام المتقي من الأعلام: أبو يعقوب النهرجوري أحد أصحاب الجنيد، والقاضي أبو عبد الله المحاملي، وأبو بكر الفرغاني الصوفي، والحافظ أبو العباس بن عقدة، وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ولاد النحوي، وآخرون. ولما بلغ القاهر أنه سمل قال: صرنا اثنين نحتاج إلى ثالث، فكان كذلك، سمل المستكفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 المستكفي بالله أبو القاسم 1 المستكفي بالله: أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بن المعتضد، أمه أم ولد اسمها أملح الناس، بويع بالخلافة عند خلع المتقي، في صفر سنة ثلاث وثلاثين وعمره إحدى وأربعون سنة، ومات تورون في أيامه، ومعه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد فطمع في المملكة، وحلف العساكر لنفسه، فخلع عليه الخليفة، ثم دخل أحمد بن بويه بغداد فاختفى ابن شيرزاد، ودخل ابن بويه دار الخلافة، فوقف بين يدي الخليفة فخلع عليه ولقبه: معز الدولة، ولقب أخاه عليًّا: عماد الدولة، وأخاهما الحسن: ركن الدولة، وضرب ألقابهم على السكة، ولقب المستكفي نفسه: إمام الحق، وضرب ذلك على السكة، ثم إن معز الدولة قوي أمره وحجر على الخليفة، وقدر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط، وهو أول من ملك العراق من الديلم، وأول من أظهر السعاة ببغداد، وأغرى المصارعين والسباحين، فانهمك شباب بغداد في تعلم المصارعة والسباحة، حتى صار السباح يسبح وعلى يده كانون وفوقه قدرة، فيسبح حتى ينضج اللحم. ثم إن معز الدولة تخيل من المستكفي، فدخل عليه في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين فوقف -والناس وقوف على مراتبهم- فتقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة فمد يديه إليهما ظنًّا أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض، وجراه بعمامته، وهاجم الديلم دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها، فلم يبق فيها شيء، ومضى معز الدولة إلى منزله، وساقوا المستكفي ماشيًا إليه، وخلع، وسملت عيناه يومئذ، وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر، وأحضروا الفضل بن المقتدر وبايعوه، ثم قدموا ابن عمه المستكفي، فسلم عليه بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخلع، ثم سجن إلى أن مات سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائة وله ست وأربعون سنة وشهران وكان يتظاهر بالتشيع.   1 تولى الخلافة سنة 333 هـ وحتى 334هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 المطيع لله أبو القاسم 1 المطيع لله: أبو القاسم الفضل بن المعتضد، أمه أم ولد اسمها شغلة ولد سنة إحدى وثلاثمائة، وبويع له بالخلافة، عند خلع المستكفي في جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وقرر له معز الدولة كل يوم نفقة مائة دينار فقط. وفي هذه السنة من خلافته اشتد الغلاء ببغداد حتى أكلوا الجيف، والروث وماتوا على الطرق، وأكلت لحومهم، وبيع العقار بالرغفان، ووجدت الصغار مشوية مع المساكين، واشترى لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم، والكر سبعة عشر قنطارًا بالدمشقي. وفيها وقع بين معز والدولة وبين ناصر الدولة ابن حمدان فخرج لقتاله ومعه المطيع، ثم   1 تولى الخلافة سنة 334 هـ وحتى 363هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 رجع والمطيع معه كالأسير، وفيها مات الإخشيد صاحب مصر وهو محمد بن طفج الفرغاني، والإخشيد ملك الملوك، وهو لقب لكن من ملك فرغانة كما أن الأصبهذ لقب ملك طبرستان، وصول ملك جرجان، وخاقان ملك الترك، والأفشين ملك أشرو سنة، وسامان ملك سمرقند، وكان الإخشيد شجاعًا مهيبًا، ولي مصر من قبل القاهر، وكان له ثمانية آلاف مملوك، وهو أستاذ كافور، وفيها مات القائم العبيدي صاحب المغرب، وقام بعده ولي عهده ابنه المنصور بالله إسماعيل، وكان القائم شرًّا من أبيه، زنديقًا ملعونًا، أظهر سب الأنبياء، وكان مناديه ينادي: العنوا الغار وما حوى، وقتل خلقًا من العلماء. وفي سنة خمس وثلاثين جدد معز الدولة الأيمان بينه وبين المطيع، وأزال عنه التوكيل، وأعاده إلى دار الخلافة. وفي سنة ثمانٍ وثلاثين سأل معز الدولة أن يشرك مع في الأمر أخاه علي بن بويه عماد الدولة، ويكون من بعده، فأجابه المطيع، ثم لم ينشب أن مات عماد الدولة من عامه، فأقام المطيع أخاه ركن الدولة والد عضد الدولة. وفي سنة تسع وثلاثين أعيد الحجر الأسود إلى موضعه، وجعل له طوق فضة يشد به، ووزنه ثلاثة آلاف وسبعمائة وستون درهمًا ونصف. وقال محمد بن نافع الخزاعي: تأملت الحجر الأسود -وهو مقلوع- فإذا السواد في رأسه فقط، وسائره أبيض، وطوله قدر عظم الذراع. وفي سنة إحدى وأربعين ظهر قوم من التناسخية فيهم شاب يزعم أن روح علي انتقلت إليه، وامرأته تزعم أن روح فاطمة انتقلت إليها، وآخر يدعي أنه جبريل، فضربوا، فتعززوا بالانتماء إلى أهل البيت، فأمر معز الدولة بإطلاقهم لميله إلى أهل البيت؛ فكان هذا من أفعاله الملعونة، وفيها مات المنصور العبيدي صاحب المغرب بالمنصورية التي مصرها، وقام بالأمر ولي عهده ابنه معد، ولقب بالمعز لدين الله -وهو الذي بنى القاهرة- وكان المنصور حسن السيرة بعد أبيه وأبطل المظالم فأحبه الناس، وأحسن أيضًا ابنه السيرة، وصفت له المغرب. وفي سنة ثلاث وأربعين خطب صاحب خراسان للمطيع، ولم يكن خطب له قبل ذلك، فبعث إليه المطيع اللواء والخلع. وفي سنة أربع وأربعين زلزلت مصر زلزلة صعبة هدمت البيوت ودامت ثلاث ساعات، وفزع الناس إلى الله بالدعاء. وفي سنة ست وأربعين نقص البحر ثمانين ذراعًا، وظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعهد، وكان بالري ونواحيها زلازل عظيمة، وخسف ببلد الطالقان، ولم يفلت من أهلها إلا نحو ثلاثين رجلًا، وخسف بمائة وخمسين قرية من قرى الري، واتصل الأمر إلى حلوان فخسف بأكثرها، وقذفت الأرض عظام الموتى، وتفجرت منها المياه، وتقطع بالري جبل، وعلقت قرية بين السماء والأرض بمن فيها نصف النهار، ثم خسف بها وانخرقت الأرض خروقًا عظيمة، وخرج منها مياه منتنة ودخان عظيم، هكذا نقل ابن الجوزي. وفي سنة سبع وأربعين عادت الزلائل بقم وحلوان والجبال، فأتلفت خلقًا عظيمًا، وجاء جراد طبق الدنيا، فأتى على جميع الغلات والأشجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وفي سنة خمسين بنى معز الدولة ببغداد دارًا هائلة عظيمة أساسها في الأرض ستة وثلاثون ذراعًا، وفيها قلد القضاء أبا العباس عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وركب بالخلع من دار معز الدولة وبين يديه الدبادب، والبوقات، وفي خدمته الجيش، وشرط على نفسه أن يحمل في كل سنة إلى خزانة معز الدولة مائتي ألف درهم، وكتب عليه بذلك سجلًا، وامتنع المطيع من تقلده ومن دخوله عليه، وأمر أن لا يمكن من الدخول إليه أبدًا. وفيها ضمن معز الدولة الحسبة ببغداد والشرطة، وكل ذلك عقب ضعفه ضعفها وعوفي منها، فلا كان الله عافاه، وفيها أخذت الروم جزيرة إقريطش من المسلمين، وكانت فتحت في حدود الثلاثين والمائتين وفيها توفي صاحب الأندلس الناصر لدين الله، وقام بعده ابنه الحاكم. وفي سنة إحدى وخمسين كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد لعنة معاوية، ولعنة من غصب فاطمة حقها من فدك، ومن منع الحسن أن يدفن مع جده، ولعنة من نفى أبا ذر، ثم إن ذلك محي في الليل، فأراد معزل الدولة أن يعيده فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما محي: لعن الله الظالمين لآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصرحوا بلعنة معاوية فقط. وفي سنة اثنتين وخمسين يوم عاشوراء ألزم معز الدولة الناس بغلق الأسواق ومنع الطباخين من الطبيخ ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقوا عليها المسوح، وأخرجوا النساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المآتم على الحسين، وهذا أو يوم نيح عليه فيه ببغداد، واستمرت هذه البدعة سنين، وفي ثاني عشر ذي الحجة منها عمل عيد غدير خم، وضربت الدبادب، وفي هذه السنة بعث بعض بطارقة الأرمن إلى ناصر الدولة ابن حمدان رجلين ملتصقين عمرهما خمس وعشرون سنة، والالتصاق في الجنب، ولهما بطنان وسرتان، ومعدتان، ويختلف أوقات جوعهما وعطشهما وبولهما، ولكل واحد كفان، وذراعان ويدان وفخذان، وساقان، وإحليلان، وكان أحدهما يميل إلى النساء والآخر يميل إلى المرد، ومات أحدهما وبقى أياما وأخوه حي فأنتن، وجمع ناصر الدولة الأطباء على أن يقدروا على فصل الميت، من الحي، فلم يقدروا، ثم مرض الحي من رائعة الميت ومات. وفي سنة أربع وخمسين ماتت أخت معز الدولة، فنزل المطيع في طيارة إلى دار معز الدولة يعزيه، فخرج إليه معز الدولة، ولم يكلفه الصعود من الطيارة، وقبل الأرض مرات، ورجع الخليفة إلى داره، وفيها بنى يعقوب ملك الروم قيسارية قريبًا من بلاد المسلمين، وسكنها ليغير كل وقت. وفي سنة ست وخمسين مات معز الدولة، فأقيم ابنه بختيار مكانه في السلطة ولقبه المطيع: عز الدولة. وفي سنة سبع ملك القرامطة دمشق، ولم يحج أحد فيها لا من الشام ولا من مصر، وعزموا على قصد مصر ليملكوها، فجاء العبيديون فأخذوها، وقامت دولة الرفض في الأقاليم: المغرب، ومصر، والعراق، وذلك أن كافور الإخشيدي صاحب مصر لما مات اختل النظام وقلت الأموال على الجند، فكتب جماعة إلى المعز يطلبون منه عسكرًا ليسلموا إليه مصر، فأرسل مولاه جوهرًا القائد في مائة ألف فارس، فملكها ونزل موضع القاهرة اليوم واختطها، وبنى دار الإمارة للمعز، وهي المعروفة الآن بالقصرين، وقطع خطبة بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 العباس، وألبس الخطباء البياض، وأمر أن يقال في الخطبة: اللهم صلّ على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، وصلّ على الأئمة آباء أمير المؤمنين المعزل بالله، وذلك كله في شهر شعبان سنة ثمانٍ وخمسين. في ثم ربيع الآخر سنة تسع وخمسين أذنوا في مصر بـ: حي على خير العمل، وشرعوا في بناء الجامع الأزهر، ففرغ في رمضان سنة إحدى وستين. وفي سنة تسع وخمسين انقض بالعراق كوكب عظيم أضاءت منه الدنيا حتى صار كأنه شعاع الشمس، وسمع بعد انقضاضه صوت كالرعد الشديد. وفي سنة ستين أعلن المؤذنون بدمشق في الأذان بـ: حي على خير العمل، بأمر من جعفر بن فلاح نائب دمشق للمعز بالله، ولم يجسر أحد على مخالفته. وفي سنة اثنتين وستين صادر السلطان بختيار المطيع، فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة فإن أحببتم اعتزلت، فشدد عليه حتى باع قماشه، وحمل أربعمائة ألف درهم وشاع في الألسنة أن الخليفة صودر، وفيها قتل رجل من أعوان الموالي ببغداد، فبعث الوزير أبو الفضل الشيرازي من طرح النار من النحاسين إلى السماكين، فاحترق حريق عظيم لم ير مثله، واحترقت الأموال وأناس كثيرون في الدور والحمامات، وهلك الوزير من عامه، ولا رحمه الله!. وفي رمضان من هذه السنة دخل المعز إلى مصر ومعه توابيت آبائه. وفي سنة ثلاث وستين قلد المطيع القضاء أبا الحسن محمد ابن أم شيبان الهاشمي بعد تمنع، وشرط لنفسه شروطًا، منها: أن لا يرتزق على القضاء، ولا يخلع عليه، ولا يشفع إليه فيما يخالف الشرع، وقرر لكاتبه في كل شهر ثلاثمائة درهم، ولحاجبه مائة وخمسين، للفارض على بابه مائة، ولخازن ديوان الحكم والأعوان ستمائة، وكتب له عهد صورته: هذا ما عهد به عبد الله الفضل المطيع لله أمير المؤمنين إلى محمد بن صالح الهاشمي، حين دعاه إلى ما يتولاه من القضاء بين أهل مدينة السلام مدينة المنصور، والمدينة الشرقية من الجانب الشرقي، والجانب الغربي، والكوفة، وسقى الفرات وواسط، وكرخي، وطريق الفرات، ودجلة، وطريق خراسان، وحلوان، وقرميسين، وديار ربيعة، وديار بكر، والموصل، والحرمين، واليمين، ودمشق، وحمص، وجند قنسرين، والعواصم، ومصر، والإسكندرية، وجند فلسطين، والأردن، وأعمال ذلك كلها، ومن يجري من ذلك من الأشراف على من يختاره من العباسيين بالكوفة، وسقى الفرات وأعمال ذلك وما قلده إياه من قضاء القضاة، وتصفح أحوال الحكام، والاستشراف على ما يجري عليه أمر الأحكام من سائر النواحي، والأمصار التي تشتمل عليها المملكة، وتنتهي إليها الدعوة وإقرار من يحمد هديه وطريقه، والاستبدال بمن يذم شيمته وسجيته، احتياطًا للخاصة والعامة، وحنوا على الملة والذمة، عن علم بأنه المقدم في بيته وشرفه، المبرز في عفافته، الزكي في دينه وأمانته، الموصوف في ورعه ونزاهته، المشار إليه بالعلم والحجى، المجمع عليه في الحلم والنهى البعيد من الأدناس، اللابس من التقى أجمل اللباس، النقي الحبيب المحبو بصفاء الغيب، العالم بمصالح الدنيا، العارف بما يفسد سلامة العقبى، أمره بتقوى الله فإنها الجنة الواقية، وليجعل كتب الله في كل ما يعمل فيه رويته، ويرتب عليه حكمه وقضيه، إمامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الذي يفزع إليه، وأن يتخذ سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منارًا يقصده، ومثالًا يتبعه، وأن يراعي الإجماع، وأن يقتدي بالأئمة الراشدين، وأن يعمل اجتهاده فيما لا يوجد فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع، وأن يحضر مجلسه من يستظهر بعمله ورأيه، وأن يسوي بين الخصمين إذا تقدما إليه في لحظة ولفظه، ويوفي كلًا منهما من إنصافه وعدله، وحتى يأمن الضعيف حيفه، وييأس القوي من ميله، وأمره أن يشرف على أعوانه وأصحابه، ومن يعتمد عليه من أمنائه وأسبابه، إشرافًا يمنع من التخطي إلى السيرة المحظورة، ويدفع عن الإسفاف إلى المكاسب المحجورة. وذكر من هذا الجنس كلامًا طويلًا. قلت: كان الخلفاء يولون القاضي المقيم ببلدهم القضاء بجميع الأقاليم والبلاد التي تحت ملكهم، ثم يستنيب القاضي من تحت أمره من شاء في كل إقليم وفي كل بلد؛ ولهذا كان يلقب قاضي القضاة، ولا يلقب به إلا من هو بهذه الصفة، ومن عداه بالقاضي فقط أو قاضي بلد كذا وأما الآن فصار في البلد الواحد أربعة مشتركون، كل منهم يلقب قاضي القضاة، ولعل آحاد نواب أولئك كان في حكمه أضعاف ما كان في حكم الواحد من قضاة القضاة الآن، ولقد كان قاضي القضاة إذ ذاك أوسع حكمًا من سلاطين هذا الزمان. وفي هذه السنة -أعني: سنة ثلاث وستين- حصل للمطيع فالج، وثقل لسانه فدعاه حاجب عز الدولة الحاجب سبكتكين إلى خلع نفسه، وتسليم الأمر إلى ولده الطائع لله، ففعل، وعقد له الأمر في يوم الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة، فكانت مدة خلافة المطيع تسعًا وعشرين سنة وأشهرًا، وأثبت خلعه على القاضي ابن أم شيبان، وصار بعد خلعه يسمى الشيخ الفاضل قال الذهبي: كان المطيع وابنه مستضعفين مع بني بويه، ولم يزل أمر الخلفاء في ضعف إلى أن استخلف المقتفي لله، فانصلح أمر الخلافة قليلًا، وكان دست الخلافة لبني عبيد الرافضة بمصر أميز، وكلمتهم أنفذ ومملكتهم تناطح مملكة العباسيين في وقتهم، وخرج المطيع إلى واسط مع ولده، فمات في المحرم سنة أربع وستين، قال ابن شاهين: خلع نفسه غير مكره فيما صح عندي، قال الخطيب: حدثني محمد بن يوسف القطان، سمعت أبا الفضل التميمي، سمعت المطيع لله، سمعت شيخي ابن منيع، سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذل. وممن مات في أيام المطيع من الأعلام: الخرقي شيخ الحنابلة، وأبو بكر الشبلي الصوفي، وابن القاص إمام الشافعية، وأبو رجاء الأسواني، وأبو بكر الصولي، والهيثم بن كليب الشاشي، وأبو الطيب الصعلوكي، وأبو جعفر النحاس النحوي، وأبو نصر الفارابي، وأبو إسحاق المروزي إمام الشافعية، وأبو القاسم الزجاج النحوي، والكرخي شيخ الحنفية، والدينوري صاحب المجالسة، وأبو بكر الضبعي، والقاضي أبو القاسم التنوخي، وابن الحداد صاحب الفروع، وأبو علي بن أبي هريرة من كبار الشافعية، وأبو عمر الزاهد، والمسعودي صاحب مروج الذهب، وابن درستويه، وأبو علي الطبري أول من جرد الخلاف، والفاكهي صاحب تاريخ مكة، والمنتهى الشاعر، وابن حبان صاحب الصحيح، وابن شعبان من أئمة المالكية، وأبو علي القالي، وأبو الفرج صاحب الأغاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الطائع لله أبو بكر 1 الطائع لله: أبو بكر عبد الكريم بن المطيع، أمه أم ولد اسمها هزار، نزل له أبوه عن الخلافة وعمره ثلاث وأربعون سنة، فركب وعليه البردة ومعه الجيش وبين يديه سبكتكين وخلع من الغد على سبكتكين خلع السلطنة، وعقد له اللواء، ولقبه: نصر الدولة، ثم وقع بين عز الدولة وسبكتكين، فدعا سبكتكين الأتراك لنفسه فأجابوه، وجرى بينه وبين عز الدولة حروب. وفي ذي الحجة من هذه السنة -أي: سنة ثلاث وستين وثلاثمائة- أقيمت الخطبة والدعوة بالحرمين للمعز العبيدي. وفي سنة أربع وستين قدم عضد الدولة بغداد لنصرة عز الدولة على سبكتكين فأعجبته بغداد وملكها، فعمل عليها واستمال الجند، فشغبوا على عز الدولة، فأغلق بابه، وكتب عضد الدولة عن الطائع إلى الآفاق باستقرار الأمر لعضد الدولة، فوقع بين الطائع وبين عضد الدولة، فقطعت الخطبة للطائع بسبب ذلك ببغداد وغيرها من يوم العشرين من جمادى الأولى إلى أن أعيدت في عاشر رجب، وفي هذه السنة وبعدها غلا الرفض وفار بمصر، والشام، والمشرق، والمغرب، ونودي بقطع صلاة التراويح من جهة العبيدي. وفي سنة خمس وستين نزل ركن الدولة ابن بويه عما بيده من الممالك لأولاده، فجعل لعضد الدولة فارس وكرمان، ولمؤيد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور. وفي رجب منها عمل مجلس الحكم في دار السلطان عز الدولة، وجلس قاضي القضاة ابن معروف وحكم؛ لأن عز الدولة التمس ذلك ليشاهد مجلس حكمه كيف هو. وفيها كانت وقعة بين عز الدولة وعضد الدولة، وأسر فيها غلام تركي لعز الدولة، فجن عليه، واشتد حزنه، وامتنع من الأكل، وأخذ في البكاء، واحتجب عن الناس، وحرم على نفسه الجلوس في الدست، وكتب إلى عضد الدولة يسأله أن يرد الغلام إليه، ويتذلل، فصار ضحكة بين الناس، وعوتب فما ارعوى لذلك، وبذل في فداء الغلام جاريتين عوديتين كان قد بذل له في الواحدة مائة ألف دينار، وقال للرسول: إن توقف عليك في رده فزد ما رأيت، ولا تفكر، فقد رضيت أن آخذه وأذهب إلى أقصى الأرض، فرده عضد الدولة عليه. وفيها أسقط الخطبة من الكوفة لعز الدولة، وأقيمت لعضد الدولة. وفيها مات المعز لدين الله العبيدي صاحب مصر، وأول من ملكها من العبيديين، وقام بالأمر بعده ابنه نزار ولقب: العزيز.   1 تولى الخلافة 363هـ وحتى 393هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وفي سنة ست وستين مات المنتصر بالله الحكم بن الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس، وقام بعده ابنه المؤيد بالله هشام. وفي سنة سبع وستين التقى عز الدولة، فظفر عضد الدولة، وأخذ عز الدولة أسيرًا، وقتله بعد ذلك، وخلع الطائع على عضد الدولة خلع السلطنة، وتوجه بتاج مجوهر، وطوقه، وسوره، وقلده سيفًا، وعقد له لواءين بيده: أحدهما مفضض على رسم الأمراء، والآخر مذهب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، وكتب له عهدًا، وقرئ بحضرته، ولم يبقَ أحد إلا تعجب، ولم تجرِ العادة بذلك، إنما كان يدفع العهد إلى الولاة بحضرة أمير المؤمنين، فإذا أخذه قال أمير المؤمنين: هذا عهدي إليك فاعمل به. وفي سنة ثمانٍ وستين أمر الطائع أن تضرب الدبادب على باب عضد الدولة في وقت الصبح والمغرب والعشاء، وأن يخطب له على منابر الحضرة. قال ابن الجوزي: وهذان أمران لم يكونا من قبله، ولا أطلقا لولاة العهود وقد كان معز الدولة أحب أن تضرب له الدبادب بمدينة السلام، فسأل المطيع في ذلك فلم يأذن له، وما حظى عضد الدولة بذلك إلا لضعف أمر الخلافة. وفي سنة تسع وستين ورد رسول العزيز صاحب مصر إلى بغداد، وسأل عضد الدولة الطائع أن يزيد في ألقابه: تاج الملة، ويجدد الخلع عليه ويلبسه التاج، فأجابه. وجلس الطائع على السرير وحوله مائة بالسيوف والزينة، وبين يديه مصحف عثمان وعلى كتفه البردة وبيده القضيب، وهو متقلد بسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضربت ستارة بعثها عضد الدولة، وسأل أن تكون حجابًا للطائع حتى لا يقع عليه عين أحد من الجند قبله. ودخل الأتراك والديلم، وليس مع أحد منهم حديد، ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين، ثم أذن لعضد الدولة فدخل، ثم رفعت الستارة وقبل عضد الدولة الأرض، فارتاع زياد القائد لذلك، وقال لعضد الدولة: ما هذا أيها الملك؟ أهذا هو الله؟! فالتفت إليه وقال: هذا خليفة الله في الأرض. ثم استمر يمشي ويقبل الأرض سبع مرات، فالتفت الطائع إلى خالص الخادم، وقال: استدنه، فصعد عضد الدولة، فقبل الأرض مرتين، فقال له: ادن إلي، فدنا، وقبلرجله، وثنى الطائع يمينه عليه وأمره، فجلس على الكرسي بعد أن كرر عليه: اجلس، وهو يستعفي، فقال له: أقسمت عليك لتجلسن، فقبل الكرسي وجلس، فقال له الطائع: قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل الله من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي، فتول ذلك، فقال: يعينني الله على طاعة مولانا أمير المؤمنين وخدمته، ثم أفاض عليه الخلع وانصرف. قلت: انظر إلى هذا الأمر، وهو الخليفة المستضعف الذي لم تضعف الخلافة في زمن أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ما ضعفت في زمنه، ولا قوى أمر سلطان ما قوى أمر عضد الدولة. وقد صار الأمر في زماننا إلى أن الخليفة يأتي السلطان يهنئه برأس الشهر، فأكثر ما يقع من السلطان في حقه أن ينزل عن مرتبته، ويجلسا معًا خارج المرتبة، ثم يقوم الخليفة ويذهب كأحد الناس، ويجلس السطان في دست مملكته. ولقد حدثت أن السلطان الأشرف برسباي لما سافر إلى آمد لقتال العدو وصحب الخليفة معه وكان الخليفة راكبًا أمامه يحجبه، والهيبة والعظمة للسلطان والخليفة كآحاد الأمراء الذين في خدمة السلطان. وفي سنة سبعين خرج من همذان عضد الدولة، وقدم بغداد، فتلقاه الطائع، ولم تجرِ عادة بخروج الخلفاء لتلقي أحد. فلما توفيت بنت معز الدولة ركب المطيع إليه، فعزاه، فقبل الأرض، وجاء رسول عضد الدولة يطلب من الطائع أن يتلقاه، فما وسعه التأخر. وفي سنة اثنتين وسبعين مات عضد الدولة، فولى الطائع مكانه في السلطنة ابنه صمصام الدولة، ولقبه: شمس الملة، وخلع عليه سبع خلع، وتوجه، وعقد له لواءين، ثم في سنة ثلاث وسبعين مات مؤيد الدولة أخو عضد الدولة. وفي سنة خمس وسبعين هم صمصام الدولة أن يجعل المكس على ثياب الحرير والقطن مما ينسج ببغداد ونواحيها، ووقع له ضمان ذلك ألف ألف درهم في السنة، فاجتمع الناس في جامع المنصور، وعزموا على المنع من صلاة الجمعة، وكاد البلد يفتتن، فأعفاهم من ضمان ذلك. وفي سنة ست وسبعين قصد شرف الدولة أخاه صمصام الدولة، فانتصر عليه وكحله، ومال العسكر إلى شرف الدولة، وقدم بغداد، وركب الطائع إليه يهنئه بالبلاد، وعهد إليه بالسلطنة، وتوجه، وقرئ عهده والطائع يسمع. وفي سنة ثمانٍ وسبعين أمر شرف الدولة برصد الكواكب السبعة في سيرها كما فعل المأمون، وفيها اشتد الغلاء ببغداد جدًّا، وظهر الموت بها، ولحق بالبصرة حر وسموم تتساقط منه، وجاءت ريح عظيمة بفم الصلح حرقت الدجلة، حتى ذكر أنه بانت أرضها، وأغرقت كثيرًا من السفن، واحتملت زورقًا منحدرًا وفيه دواب، فطرحت ذلك في أرض جوخى فشوهد بعد أيام. وفي سنة تسع وسبعين مات شرف الدولة، وعهد إلى أخيه أبي نصر، فجاءه الطائع إلى دار المملكة يعزيه، فقبل الأرض غير مرة، ثم ركب أبو نصر إلى الطائع وحضر الأعيان، فخلع الطائع على أبي نصر سبع خلع أعلاها سوداء، وعمامة سوداء، وفي عنقه طوق كبير، وفي يده سواران، ومشى الحجاب، بين يديه بالسيوف، ثم قبل الأرض بين يدي الطائع، وجلس على كرسي، وقرئ عهده؛ ولقبه الطائع: بهاء الدولة، وضياء الملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وفي سنة إحدى وثمانين قبض على الطائع، وسببه: أنه حبس رجلًا من خواص بهاء الدولة، فجاء بهاء الدولة وقد جلس الطائع في الرواق متقلدًا سيفًا، فلما قرب بهاء الدولة قبل الأرض وجلس على كرسي، وتقدم أصحاب بهاء الدولة فجذبوا الطائع من سريره، وتكاثر الديلم، فلفوه في كساء وأصعد إلى دار السلطنة، وارتج البلد، ورجع بهاء الدولة، وكتب على الطائع أيمانًا بخلع نفسه، وأنه سلم الأمر إلى القادر بالله ليحضر وهو بالبطيحة. واستمر الطائع في دار القادر بالله مكرمًا محترمًا في أحسن حال؛ حتى إنه حمل إليه ليلة شمعة قد أوقد نصفها، فأنكر ذلك، فحملوا إليه غيرها إلى أن مات ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين، وصلى عليه القادر بالله في داره وشيعه الأكابر والخدم، ورثاه الشريف الرضي بقصيدة، وكان شديد الانحراف على آل أبي طالب وسقطت الهيبة في أيامه جدًّا حتى هجاه الشعراء. مات في أيام الطائع من الأعلام: ابن السني الحافظ، وابن عدي، والقفال الكبير، والسيرافي النحوي، وأبو سهل الصعلوكي، وأبو بكر الرازي الحنفي، وابن خالويه، والأزهري إمام اللغة، وأبو إبراهيم الفارابي صاحب ديوان الأدب، والرفاء الشاعر، وأبو زيد المروزي الشافعي، والداركي، وأبو بكر الأبهري شيخ المالكية، وأبو الليث السمرقندي إمام الحنفية، وأبو علي الفارسي النحوي وابن الجلاب المالكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 القادر بالله أبو العباس 1 القادر بالله: أبو العباس أحمد إبن إسحاق بن المقتدر. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وأمه أمة واسمها تمنى، وقيل: دمنة. بويع له بالخلافة بعد خلع الطائع، وكان غائبًا، فقدم في عاشر رمضان، وجلس الغد جلوسًا عامًّا، وهنئ. وأنشد بين يديه الشعراء، ومن ذلك قول الشريف الرضي: شرف الخلافة يا بني العباس ... اليوم جدده أبو العباس ذا الطود أبقاه الزمان ذخيرة ... من ذلك الجبل العظيم الراسي قال الخطيب: وكان القادر من الستر والديانة والسيادة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات وحسن الطريقة على صفة اشتهرت عنه وعرف به كل أحد، مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد تفقه على العلامة أبي بشر الهروي الشافعي، وقد صنف كتابًا في الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، وإكفار المعتزلة، والقائلين بخلق القرآن، وكان ذلك الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث، بجامع المهدي، وبحضرة الناس، ترجمه ابن الصلاح في طبقات الشافعية.   1 تولى الخلافة 393هـ وحتى 422هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقال الذهبي: في شوال من سنة ولايته عقد مجلس عظيم، وحلف القادر وبهاء الدولة كل منهما لصاحبه بالوفاء، وقلده القادر ما وراء بابه مما تقام فيه الدعوة. وفيها دعا صاحب مكة أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي إلى نفسه، وتلقب بالراشد بالله، وسلم عليه بالخلافة، فانزعج صاحب مصر، ثم ضعف أمر أبي الفتوح وعاد إلى طاعة العزيز العبيدي. وفي سنة اثنتين وثمانين ابتاع الوزير أبو نصر سابور بن أزدشير دارًا بالكرخ وعمرها وسماها دار العلم، ووقفها على العلماء، ووقف بها كتبًا كثيرة. وفي سنة أربع وثمانين عاد الحاج العراقي من الطريق، واعترضهم الأصيفر الأعرابي، ومنعهم الجواز، إلا برسمه، فعادوا ولم يحجوا، ولا حج أيضًا أهل الشام ولا اليمن، إنما حج أهل مصر. وفي سنة سبع وثمانين مات السلطان فخر الدولة، وأقيم ابنه رستم مقامه في السلطنة بالري وأعمالها، وهو ابن أربع سنين ولقبه القادر: مجد الدولة. وقال الذهبي: ومن الأعجوبات هلاك تسعة ملوك على نسق في سنتي سبع وثمانين وثمانٍ وثمانين: منصور بن نوح ملك ما وراء النهر، وفخر الدولة ملك الري والجبال، والعزيز العبيدي صاحب مصر، وفيهم يقول أبو منصور عبد الملك الثعالبي: ألم ترَ مذ عامين أملاك عصرنا ... يصيح بهم للموت والقتل صائح فنوح بن منصور طوته يد الردى ... على حسرات ضمنتها الجوانح ويا بؤس منصور، ففي يوم سرخس ... تمزق عنه ملكه وهو طائح وفرق عنه الشمل بالسمل، واغتدى ... أميرًا ضريرًا تعتريه الجوائح وصاحب مصر قد مضى بسبيله ... ووالي الجبال غيبته الضرائح وصاحب جرجانية في ندامة ... ترصده طرف من الحين طامح وخوارزم شاه شاه وجه نعيمه ... وعن له يوم من النحس طالح وكان علا في الأرض يخطبها أبو ... علي إلى أن طوحته الطوائح وصاحب بست ذلك الضيغم الذي ... براثنه للمشرقين مفاتح أناخ به من صدمة الدهر كلكل ... فلم تغن عنه والمقدر سافح جيوش إذا أربت على عدد الحصى ... تغص بها قيعانها والصحاصح ودارت على صمصام دولة بويه ... دوائر سوء سلبهن فوادح وقد جاز والي الجوزجان قناطر الـ ... ـحياة فوافته المنايا الطوامح وذكر الذهبي أن العزيز صاحب مصر مات سنة ست وثمانين، وفتحت له -زيادة على آبائه- حمص، وحماة، وحلب، وخطب له بالموصل، وباليمن، وضرب اسمه فيها على السكة والأعلام، وقام بالأمر بعده ابنه منصور ولقب: الحاكم بأمر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وفي سنة تسعين ظهر بسجستان معدن ذهب، فكانوا يصفون من التراب الذهب الأحمر. وفي سنة ثلاث وتسعين أمر نائب دمشق الأسود الحاكمي بمغربي فطيف به على حمار، ونودي عليه: هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر، ثم ضرب عنقه -رحمه الله- ولا رحم قاتله، ولا أستاذه الحاكم. وفي سنة أربع وتسعين قلد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوي قضاء القضاة والحج والمظالم ونقابة الطالبيين، وكتب له من شيراز العهد، فلم ينظر في القضاء؛ لامتناع القادر من الإذن له. وفي سنة خمس وتسعين قتل الحاكم بمصر جماعة من الأعيان صبرًا، وأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع، وأمر العمال بالسب. وفيها أمر بقتل الكلاب، وأبطل الفقاع والمولوخيا، ونهى عن السمك الذي لا قشر له، وقتل جماعة ممن باع ذلك بعد نهيه. وفي سنة ست وتسعين أمر الناس بمصر والحرمين إذا ذكر الحاكم أن يقوموا ويسجدوا في السوق، وفي مواضع الاجتماع. وفي سنة ثمانٍ وتسعين وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة في بغداد، وكاد الشيخ أبو حامد الإسفرائيني يقتل يها، وصاح الرافضة ببغداد: يا حاكم، يا منصور فأحفظ القادر من ذلك، وأنفذ الفرسان الذين على بابه لمعاونة أهل السنة فانكسر الروافض. وفيها هدم الحاكم بيعة قمامة التي بالمقدس، وأمر بهدم جميع الكنائس التي بمصر، وأمر النصارى بأن تحمل في أعناقهم الصلبان طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال بالمصري، واليهود أن يحملوا في أعناقهم قرم الخشب في زنة الصلبان، وأن يلبسوا العمائم السود، فأسلم طائفة منهم، ثم بعد ذلك أذن في إعادة البيع والكنائس وأذن لمن أسلم أن يعود إلى دينه لكونه مكرهًا. وفي سنة تسع وتسعين عزل أبو عمرو قاضي البصرة، وولي القضاء أبو الحسن بن أبي الشوارب، فقال العصفري الشاعر: عندي حديث طريف ... بمثله يتغنى عن قاضيين: يعزى ... هذا، وهذا يهنى وذا يقول: جبرنا ... وذا يقول: استرحنا ويكذبان جميعًا ... ومن يصدق منا وفيها وهي سلطان بني أمية بالأندلس، وانخرم نظامهم. وفي سنة أربعمائة نقصت دجلة نقصانًا لم يعهد، واكتريت لأجل جزائر ظهرت، ولم يكن قبل ذلك قط. وفي سنة اثنتين نهى الحاكم عن بيع الرطب، وحرقه، وعن بيع العنب، وأباد كثيرًا من الكروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وفي سنة أربع منع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلًا ونهارًا، واستمر ذلك إلى أن مات. وفي سنة إحدى عشرة قتل الحاكم لعنه الله بحلوان -قرية بمصر- وقام بعده ابنه علي، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وتضعضعت دولتهم في أيامه؛ فخرجت عنهم حلب وأكثر الشام. وفي سنة اثنتين وعشرين توفي القادر بالله ليلة الاثنين عشر من ذي الحجة، عن سبع وثمانين سنة، ومدة خلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر. وممن مات في أيامه من الأعلام: أبو أحمد العسكري الأديب، والرماني النحوي، وأبو الحسن الماسرجسي شيخ الشافعية، وأبو عبيد الله المرزباني، والصاحب ابن عباد -وهو وزير مؤيد الدولة، وهو أول من سمي بالصاحب من الوزراء- والدارقطني الحافظ المشهور، وابن شاهين، وأبو بكر الأودني إمام الشافعية، ويوسف بن السيرافي، وابن زولاق المصري، وأبن أبي زيد المالكي شيخ المالكية، وأبو طالب المكي صاحب: قوت القلوب، وابن بطة الحنبلي، وابن سمعون الواعظ، والخطابي، والحاتمي اللغوي، والأدفوي أبو بكر، وزاهر السرخسي شيخ الشافعية، وابن غلبون المقرئ، والكشميهني راوي الصحيح، والمعافي بن زكريا النهرواني، وابن خويز منداد، وابن جني، والجوهري صاحب: الصحاح، وابن فارس صاحب: المجمل، وابن منده الحافظ، والإسماعيلي شيخ الشافعية، وأصبغ بن الفرج شيخ المالكية، وبديع الزمان أول من عمل المقامات، وابن لال، وابن أبي زمنين، وأبو حيان التوحيدي، والوأواء الشاعر، والهروي صاحب: الغريبين وأبو الفتح البستي الشاعر، والحليمي شيخ الشافعية، وابن الفارض، وأبو الحسن القابسي، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو الطيب الصعلوكي، وابن الأكفاني، وابن نباتة صاحب الخطب، والصيمري شيخ الشافعية، والحاكم صاحب المستدرك، وابن كج، والشيخ أبو حامد الإسفرائيني، وابن فورك، والشريف الرضي، وأبو بكر الرازي صاحب الألقاب، والحافظ عبد الغني بن سعيد، وابن مردويه، وهبة الله بن سلامة الضرير المفسر، وأبو عبد الرحمن السلمي شيخ الصوفية، وابن البواب صاحب الحظ، وعبد الجبار المعتزلي، والمحاملي إمام الشافعية، وأبو بكر القفال شيخ الشافعية، والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، واللالكائي، وابن الفخار عالم الأندلس، وعلي بن عيسى الربعي النحوي، وخلائق آخرون. قال الذهبي: كان في هذا العصر رأس الأشعرية: إبو إسحاق الإسفرائيني، ورأس المعتزلة: القاضي عبد الجبار، ورأس الرافضة: الشيخ المقتدر، ورأس الكرامية: محمد بن الهيضم، ورأس القراء: أبو الحسن الحمامي، ورأس المحدثين: الحافظ عبد الغني بن سعيد، ورأس الصوفية: أبو عبد الرحمن السلمي، ورأس الشعراء: أبو عمر بن دراج، ورأس المجودين: ابن البواب، ورأس الملوك: السلطان محمود بن سبكتكين. قلت: ويضم إلى هذا رأس الزنادقة: الحاكم بأمر الله، ورأس اللغويين الجوهري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ورأس النحاة، ابن جني، ورأس البلغاء، البديع، ورأس الخطباء، ابن نباتة، ورأس المفسرين: أبو القاسم بن حبيب النيسابوري، ورأس الخلفاء: القادر بالله، فإنه من أعلامهم، تفقه وصنف، وناهيك بأن الشيخ تقي الدين ابن الصلاح عده من الفقهاء الشافعية، وأورده في طبقاتهم، ومدته في الخلافة أطول المدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 القائم بأمر الله أبو جعفر 1 القائم بأمر الله: أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، ولد في نصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وأمه أم ولد أرمنية اسمها: بدر الدجى، وقيل: قطر الندى. ولي الخلافة بعد موت أبيه في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة، سنة اثنتين وعشرين وكان ولي عهده في الحياة، وهو الذي لقبه القائم بأمر الله. وقال ابن الأثير: كان جميلًا، مليح الوجه، أبيض، مشربًا حمرة، حسن الجسم، ورعًا، دينًا، زاهدًا، عالِمًا، قوي اليقين بالله تعالى، كثير الصدقة والصبر، له عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، مؤثرًا للعدل والإحسان وقضاء الحوائج، لا يرى المنع من شيء طلب منه. قال الخطيب: ولم يزل أمر القائم بالله مستقيمًا إلى أن قبض عليه في سنة خمسين وأربعمائة، وكان السبب في ذلك أن أرسلان التركي -المعروف بالبساسيري- كان قد عظم أمره واستفحل شأنه لعدم نظارئه، وانتشر ذكره، وتهيبته أمراء العرب والعجم، ودعي له على المنابر، وجبى الأموال، وخرب القرى، ولم يكن القائم يقطع أمرًا دونه، ثم صح عنده سوء عقيدته، وبلغه أنه عزم على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة، فكاتب الخليفة أبا طالب محمد بن ميكال سلطان الغز المعروف بطغرلبك -وهو بالري- يستنهضه في القدوم، ثم أحرقت دار البساسيري. وقدم طغرلبك في سنة سبع وأربعين، فذهب البساسيري إلى الرحبة، وتلاحق به خلق من الأتراك، وكاتب صاحب مصر، فأمده بالأموال، وكاتب تبال أخا طغرلبك، وأطمعه بمنصب أخيه، فخرج تبال واشتغل به طغرلبك. ثم قدم البساسيري بغداد في سنة خمسين ومعه الراية المصرية، ووقع القتال بينه وبين الخليفة، ودعي لصاحب مصر المستنصر بجامع المنصور، وزيد في الأذان: حي على خير العمل، ثم خطب له في كل الجوامع إلا جامع الخليفة، ودام القتال شهرًا. ثم قبض البساسيري على الخليفة في ذي الحجة، وسيره إلى غابة، وحبسه بها، وأما طغرلبك فظفر بأخيه وقتله، ثم كاتب متولي غابة في رد الخليفة إلى داره مكرمًا، فحصل الخليفة في مقر عزه في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين، ودخل بأبهة عظيمة والأمراء والحجاب بين يديه. وجهز طغرلبك جيشًا فحاربوا البساسيري، فظفروا به، فقتل، وحمل رأسه إلى بغداد.   1 تولى الخلافة 422هـ وحتى 467هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ولما رجع الخليفة إلى داره لم ينم بعدها إلا على فراش مصلاه، ولزم الصيام والقيام، وعفا عن كل من آذاه، ولم يسترد شيئًا مما نهب من قصره إلا بالثمن، وقال: هذه أشياء احتسبناها عند الله، ولم يضع رأسه بعدها على مخدة، ولما نهب قصره لم يوجد فيه شيء من آلات الملاهي. وروي أنه لما سجنه البساسيري كتب قصته وأنفذها إلى مكة، فعلقت في الكعبة فيها: إلى الله العظيم من المسكين عبده، اللهم إنك العالم بالسرائر، المطلع على الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك، واطلاعك على خلقك، عن إعلامي، هذا عبد قد كفر نعمك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك حتى تعدى علينا بغيًا، وأساء إلينا عتوًّا وعدوًا، اللهم قل الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع العالم، المنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من بين يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين. وفي سنة ثمانٍ وعشرين مات الظاهر العبيدي صاحب مصر، وأقيم ابنه المستنصر بعده -وهو ابن سبع سنين- فأقام في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر. قال الذهبي: ولا أعلم أحدًا في الإسلام -لا خليفة ولا سلطان- أقام هذه المدة، وفي أيامه كان الغلاء بمصر الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف، فأقام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وحتى قيل: إنه بيع رغيف بخمسين دينارًا. وفي سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قطع المعز بن باديس الخطبة للعبيدي بالمغرب وخطب لبني العباس. وفي سنة إحدى وخمسين كان عقد الصلح بين السلطان إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وبين السلطان جغري بك بن سلجوق أخي طغرلبك صاحب خراسان بعد حروب كثيرة، ثم مات جغري بك في السنة، وأقيم مكانه ابنه ألب أرسلان. وفي سنة أربع وخمسين زوج الخليفة ابنته لطغرلبك بعد أن دافع بكل ممكن، وانزعج واستعفى، ثم لان لذلك برغم منه، وهذا أمر لم ينله أحد من ملوك بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكمهم فيهم. قلت: والآن زوج خليفة عصرنا ابنته من واحد من مماليك السلطان، فضلًا عن السلطان فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم قدم طغرلبك في سنة خمس وخمسين فدخل بابنة الخليفة، وأعاد المواريث والمكوس، وضمن بغداد بمائة وخمسين ألف دينار، ثم رجع إلى الري فمات بها في رمضان، فلا عفا الله عنه، وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عضد الدولة ألب أرسلان صاحب خراسان، وبعث إليه القائم بالخلع والتقليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قال الذهبي: وهو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد، وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك، وافتتح بلادًا كثيرة من بلاد النصارى، واستوزر فظلم الملك، فأبطل ما كان عليه الوزير قبله عميد الملك من سب الأشعرية، وانتصر للشافعية وأكرم إمام الحرمين، وأبا القاسم القشيري، وبنى النظامية، قيل: وهي أول مدرسة بنيت للفقهاء. وفي سنة ثمانٍ وخمسين ولدت بباب الأزج صغيرة لها رأسان ووجهان ورقبتان على بدن واحد، وفيها ظهر كوكب كأنه دارة القمر ليلة تمامه بشعاع عظيم، وهال الناس ذلك، وأقام عشر ليالٍ، ثم تناقص ضوؤه وغاب. في سنة تسع وخمسين فرغت المدرسة النظامية ببغداد، وقرر لتدريسها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فاجتمع الناس، فلم يحضر واختفى، فدرس ابن الصباغ صاحب الشامل، ثم تلطفوا بالشيخ أبي إسحاق حتى أجاب ودرس. وفي سنة ستين كانت بالرملة الزلزلة الهائلة التي خربتها حتى طلع الماء من رءوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفًا، وأبعد البحر عن ساحله مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون السمك، فرجع الماء عليهم فأهلكهم. وفي سنة إحدى وستين احترق جامع دمشق، وزالت محاسنه، وتشوه منظره، وذهبت سقوفه المذهبة. وفي سنة اثنتين وستين ورد رسول أمير مكة على السلطان ألب أرسلان بأنه أقام الخطبة العباسية، وقطع خطبة المستنصر المصري، وترك الأذان بحي على خير العمل، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعًا. وسبب ذلك ذلة المصريين بالقحط المفرط سنين متوالية حتى أكل الناس، وبلغ الإردب مائة دينار، وبيع الكلب بخمسة دنانير، والهر بثلاثة دنانير. وحكى صاحب المرآة أن امرأة خرجت من القاهرة ومعها مد جوهر، فقالت: من يأخذ بمدبر؟ فلم يلتفت إليها أحد. وقال بعضهم يهنئ القائم: وقد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف فيها وطاعون عمواس أقامت به حتى استراب بنفسه ... وأوجس منها خيفة أي إيجاس وفي سنة ثلاث وستين خطب بحلب القائم، والسلطان ألب أرسلان، لما رأوا قوة دولتهما وإدبار دولة المستنصر. وفيها كانت وقعة عظيمة بين الإسلام والروم، ونصر المسلمون، ولله الحمد، ومقدمتهم السلطان ألب أرسلان، وأسر ملك الروم، ثم أطلق بمال جزيل، وهادنه خمسين سنة. ولما أطلق قال للسلطان: أين جهة الخليفة؟ فأشار له، فكشف رأسه وأومأ إلى الجهة بالخدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وفي سنة أربع وستين كان الوباء في الغنم إلى الغاية. وفي سنة خمس وستين قتل السلطان ألب أرسلان، وقام في الملك بعده ولده ملكشاه، ولقب: جلال الدولة، ورد تدبير الملك إلى نظام الملك، ولقبه: الأتابك، وهو أول من لقبه، ومعناه الأمير الوالد، وفيها اشتد الغلاء بمصر، حتى أكلت امرأة رغيفًا بألف دينار، وكثر الوباء إلى الغاية. وفي سنة ست وستين كان الفرق العظيم ببغداد، وزادت دجلة ثلاثين ذراعًا، ولم يقع مثل ذلك قط، وهلكت الأموال والأنفس والدواب، وركبت الناس في السفن، وأقيمت الجمعة في الطيار على وجه الماء مرتين، وقام الخليفة يتضرع إلى الله، وصارت بغداد ملقة واحدة، وانهدم مائة ألف دار أو أكثر. وفي سنة سبع وستين مات الخليفة القائم بأمر الله ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان، وذلك أنه افتصد1 ونام، فانحل موضع الفصد، وخرج منه دم كثير، فاستيقظ وقد انحلت قوته، فطلب حفيده ولى العهد عبد الله بن محمد، ووصاه، ثم توفي، ومدة خلافته خمس وأربعون سنة. مات في أيامه من الأعلام: أبو بكر البرقاني، وأبو الفضل الفلكي، والثعلبي المفسر، والقدوري شيخ الحنفية، وابن سينا شيخ الفلاسفة، ومهيار الشاعر، وأبو نعيم صاحب الحلية، وأبو زيد الدبوسي، والبرادعي المالكي صاحب التهذيب، وأبو الحسين البصري المعتزلي، ومكي صحاب الإعراب، والشيخ أبو محمد الجويني، والمهدوي صاحب التفسير والإفليلي، والثمانيني، وأبو عمرو الداني، والخليل صاحب الإرشاد، وسليم الرازي، وأبو العلاء المعري، وأبو عثمان الصابوني، وابن بطال شارح البخاري، والقاضي أبو الطيب الطبري، وابن شيطا المقرئ، والماوردي الشافعي، وابن باب شاذ، والقضاعي صاحب الشهاب، وابن برهان النحوي، وابن حزم الظاهري، والبيهقي، وابن سيده صاحب المحكم، وأبو يعلى بن الفراء شيخ الحنابلة، والحضرمي من الشافعية، والهذلي صاحب الكامل في القراءات، والفريابي، والخطيب البغدادي، وابن رشيق صاحب العمدة، وابن عبد البر.   1 افتصد: أي قطع عرقًا بقصد الفصادة. مختار الصحاح "504". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 المقتدي بأمر الله أبو القاسم 1 المقتدي بأمر الله: أبو القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله. مات أبوه في حياة القائم -وهو حمل- فولد بعد وفاة أبيه بستة أشهر، وأمه أم ولد، اسمها أرجوان. وبويع بالخلافة عند موت جده، وله تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكانت البيعة   1 تولى الخلافة 467هـ وحتى 487هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 بحضرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، والدامغاني، وظهر في أيامه خيرات كثيرة، وآثار حسنة في البلدان. وكانت قواعد الخلافة في أيامه باهرة وافرة الحرمة، بخلاف من تقدمه. ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والخواطي ببغداد، وأمر ألا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وخرب أبراج الحمام صيانة لحرم الناس. وكان دينًا، خيِّرًا، قوي النفس، عالي الهمة، ومن نجباء بني العباس. وفي هذه السنة من خلافته أعيدة الخطبة للعبيدي بمكة، وفيها جمع نظام الملك المنجمين، وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل، وكان قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت، وصار ما فعله النظام مبدأ التقاويم. وفي سنة ثمانٍ وستين خطب للمقتدي بدمشق، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وفرح الناس بذلك. وفي سنة تسع وستين قدم بغداد أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجًّا فوعظ بالنظامية، وجرى له فتنة كبيرة مع الحنابلة؛ لأنه تكلم على مذهب الأشعري، وحط عليهم، وكثر أتباعه والمتعصبون له فهاجت فتن وقتلت جماعة، وعزل فخر الدولة بن جهير من وزارة المقتدي؛ لكونه شذ عن الحنابلة. وفي سنة خمس وسبعين بعث الخليفة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رسولًا إلى السلطان يتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث عميد العراق. وفي سنة ست وسبعين رخصت الأسعار بسائر البلاد، وارتفع الغلاء، وفيها ولَّى الخليفة أبا شجاع محمد بن الحسين الوزارة، ولقبه: ظهير الدين، وأظن ذلك أول حدوث التلقيب بالإضافة إلى الدين. وفي سنة سبع وسبعين سار سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب قونية وأقصراء بجيوشه إلى الشام، فأخذ أنطاكية -وكانت بيد الروم من سنة ثمانٍ وخمسين وثلاثمائة- وأرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره، قال الذهبي: وآل سلجوق هم ملوك بلاد الروم، وقد امتدت أيامهم وبقي منهم بقية إلى زمن الملك الظاهر بيبرس. وفي سنة ثمانٍ وسبعين جاءت ريح سوداء ببغداد بعد العشاء، واشتد الرعد والبرق، وسقط رمل وتراب كالمطر، ووقعت عدة صواعق في كثير من البلاد فظن الناس أنها القيامة، وبقيت ثلاث ساعات بعد العصر، وقد شاهد هذه الكائنة الإمام أبو بكر الطرطوشي وأوردها في أماليه. وفي سنة تسع وسبعين أرسل يوسف بن تاشفين صاحب سبتة ومراكش، إلى المقتدي يطلب أن يسلطنه، وأن يلقده ما بيده من البلاد، فبعث إليه الخلع والأعلام، والتقليد، ولقبه بأمير المسلمين، ففرح بذلك، وسر به فقهاء المغرب، وهو الذي أنشأ مدينة مراكش. وفيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة وهو أول دخوله إليها؛ فنزل بدار المملكة، ولعب بالكرة، وقد تقاوم الخليفة، ثم رجع إلى أصبهان، وفيها قطعت خطبة العبيدي بالحرمين، وخطب للمقتدي. وفي سنة إحدى وثمانين مات ملك غزنة المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، وقام مقامه ابنه جلال الدين مسعود. وفي سنة ثلاث وثمانين عملت ببغداد مدرسة لتاج الملك مستوفي الدولة بباب أبرز، ودر بها أبو بكر الشاشي. وفي سنة أربع وثمانين استولت الفرنج على جميع جزيرة صقلية، وهي أول ما فتحها المسلمون بعد المائتين، وحكم عليها آل الأغلب دهرًا إلى أن استولى العبيدي المهدي على المغرب، وفيها قدم السلطان ملكشاه بغداد، وأمر بعمل جامع كبير بها، وعمل الأمراء حوله دورًا ينزلونها، ثم رجع إلى أصبهان، وعاد إلى بغداد في سنة خمس وثمانين عازمًا على الشر، وأرسل إلى الخليفة يقول: لا بد أن تترك لي بغداد، وتذهب إلى أي بلد شئت، فانزعج الخليفة وقال: أمهلني ولو شهرًا، قال: ولا ساعة واحدة، فأرسل الخليفة إلى وزير السلطان يطلب المهلة إلى عشرة أيام، فاتفق مرض السلطان وموته، وعد ذلك كرامة للخليفة، وقيل: إن الخليفة جعل يصوم، فإذا أفطر جلس على الرماد ودعا على ملكشاه، فاستجاب الله دعاءه، وذهب إلى حيث ألقت، ولما مات كتمت زوجته تركان خاتون موته، وأرسلت إلى الأمراء سرًّا، فاستحلفتهم لولده محمود -وهو ابن خمس سنين- فحلفوا له، وأرسلت إلى المقتدي في أن يسلطنه فأجاب، ولقبه: ناصر الدنيا والدين، وذلك في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وعمل الخليفة على تقليده، ثم مات الخليفة من الغد فجأة، فقيل: إن جاريته شمس النهار سمته، وبويع لولده المستظهر. ومن مات في أيام المقتدي من الأعلام: عبد القادر الجرجاني، وأبو الوليد الباجي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والأعلم النحوي، وابن الصباغ صاحب الشامل، والمتولي، وإمام الحرمين، والدامغاني الحنفي، وابن فضالة المجاشعي، والبزدوي شيخ الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 المستظهر بالله أبو العباس 1 المستظهر بالله: أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله. ولد في شوال سنة سبعين وأربعمائة، وبويع له عند موت أبيه وله ست عشرة سنة وشهران. قال ابن الأثير: كان لين الجانب، كريم الأخلاق يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير ويسارع في أعمال البر، حسن الحظ، جيد التوقيعات، لا يقاربه فيها أحد، يدل على فضل غزير، وعلم واسع، وسمحًا، وجوادًا، مُحبًا للعلماء والصالحين، ولم تصف له الخلافة، بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب.   1 تولى لخلافة 487هـ وحتى 512هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وفي هذه السنة من أيامه مات المستنصر العبيدي صاحب مصر، وقام بعده ابنه المستعلي أحمد، وفيها أخذت الروم بلنسية. وفي سنة ثمانٍ وثمانين قتل أحمد خان صاحب سمرقند؛ لأنه ظهر منه الزندقة، فقبض عليه الأمراء وأحضروا الفقهاء؛ فأفتوا بقتله -لا رحمه الله- وملكوا ابن عمه. وفي سنة تسع وثمانين اجتمعت الكواكب السبعة سوى زحل في برج الحوت، فحكم المنجمون بطوفان يقارب طوفان نوح، فاتفق أن الحجاج نزلوا في دار المناقب فأتاهم سيل غرق أكثرهم. وفي سنة تسعين قتل السلطان أرسلان أرغون بن ألب أرسلان السلجوقي صاحب خراسان؛ فتملكها السلطان بركياروق، ودانت له البلاد والعباد. وفيها خطب للعبيدي بحلب وأنطاكية والمعرة وشيزر شهرًا، ثم أعيدة الخطبة العباسية، وفيها جاءت الفرنج فأخذوا نيقية، وهو أول بلد أخذوه ووصلوا إلى كفرطاب واستباحوا تلك النواحي، فكان هذا أول مظهر الفرنج بالشام، قدموا في بحر القسطنطينية في جمع عظيم، وانزعجت الملوك والرعية، وعظم الخطب، فقيل: إن صاحب مصر لما رأى قوة السلجوقية واستيلائهم على الشام كاتب الفرنج يدعوهم إلى المجيء إلى الشام ليملكوها، وكثر النفير على الفرنج من كل جهة. وفي سنة اثنتين وتسعين انتشرت دعوة الباطنية بأصبهان. وفيها أخذت الفرنج لبيت المقدس بعد حصار شهر ونصف، وقتلوا به أكثر من سبعين ألفًا، ومنهم جماعة من العلماء، والعباد، والزهاد، وهدموا المشاهد، وجمعوا اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، وورد المستنفرون إلى بغداد، فأوردوا كلامًا أبكى العيون، واختلفت السلاطين؛ فتمكنت الفرنج من الشام، وللأبيوردي في ذلك: مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرصة للمراحم وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم فإِيهًا بني الإسلام إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم أنائمة في ظل أمن وغبطة ... وعيش كنوار الخميلة ناعم وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هبوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم فكم من دماء قد أبيحت ومن دم ... توارى حياء حسنها بالمعاصم بحيث السيوف البيض محمرة الظبا ... وسمر العوالي داميات اللهازم يكاد لهن المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدين واهي الدعائم ويجتنبوه النار خوفًا من الردى ... ولا يحسبون العار ضربة لازم أترضى صناديد الأعارب بالأذى ... وتغضي على ذل كماة الأعاجم فليتهم إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فيها خرج محمد بن ملكشاه على أخيه السلطان بركياروق، فانتصر عليه، فقلده الخليفة ولقبه: غياث الدنيا والدين، وخطب له ببغداد، ثم جرت بينهما عدة وقعات. وفيها نقل المصحف العثماني من طبرية إلى دمشق -خوفًا عليه- وخرج الناس لتلقيه، فآووه في خزانة بمقصورة الجامع. وفي سنة أربع وتسعين كثر أمر الباطنية بالعراق، وقتلهم الناس، واشتد الخطب بهم، حتى كانت الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم، وقتلوا الخلائق، منهم الروياني صاحب البحر، وفيها أخذ الفرنج بلد سروج، وحيفا، وأرسوف، وقيسارية. وفي سنة خمس وتسعين مات المستعلي صاحب مصر، وأقيم بعده الآمر بأحكام الله منصور، وهو طفل له خمس سنين. وفي سنة ست وتسعين جرت فتن للسلطان، فترك الخطباء الدعوة للسلطان، واقتصروا على الدعوة للخليفة لا غير. وفي سنة سبع وتسعين وقع الصلح بين السلطانين: محمد وبركياروق، وسببه أن الحروب لما تطاولت بينهما، وعم الفساد، وصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والسلطنة مطموعًا فيها، وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا قاهرين، ودخل العقلاء بينهما في الصلح، وكتبت العهود والأيمان والمواثيق، وأرسل الخليفة خلع السلطة إلى بركياروق، وأقيمت له الخطبة ببغداد. وفي سنة ثمانٍ وتسعين مات السلطان بركياروق، فأقام الأمراء بعده ولده جلال الدولة ملكشاه، وقلده الخليفة، وخطب له ببغداد، وله دون خمس سنين، فخرج عليه عمه محمد، واجتمعت الكلمة عليه، فقلده الخليفة، وعاد إلى أصبهان سلطانًا، متمكنًا مهيبًا كثير الجيوش. وفيها كان ببغداد جدري مفرط، مات فيه خلق من الصبيان لا يحصون، وتبعه وباء عظيم. وفي سنة تسع وتسعين ظهر رجل بنواحي نهاوند فادعى النبوة، وتبعه خلق، فأخذ وقتل. وفي سنة خمسمائة أخذت قلعة أصبهان التي ملكها الباطنية وهدمت وقتلوا، وسلخ كبيرهم وحشي جلده تبنًا، فعل ذلك السطان محمد بعد حصار شديد، فلله الحمد. وفي سنة إحدى وخمسمائة، رفع السلطان الضرائب والمكوس ببغداد، وكثر الدعاء له، وزاد في العدل وحسن السيرة. وفي سنة اثنتين عادة الباطنية فدخلوا شيرز على حين غفلة من أهلها فملكوها وملكوا القلعة، وأغلقوا الأبواب، وكان صاحبها خرج يتنزه، فعاد وأبادهم في الحال، وقتل فيها شيخ الشافعية الروياني صاحب البحر، قتله الباطنية في بغداد كما تقدم. وفي سنة ثلاث أخذت الفرنج طرابلس بعد حصار سنين. وفي سنة أربع عظم بلاء المسلمين بالفرنج، وتيقنوا استيلاءهم على أكثر الشام، وطلب المسلمون الهدنة، فامتنعت الفرنج، وصالحوهم بألوف دنانير كثيرة، فهادنوهم ثم غدروا لعنهم الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وفيها هبت بمصر ريح سوداء مظلمة، أخذت بالأنفاس حتى لا يبصر الرجل يده، ونزل على الناس رمل، وأيقنوا بالهلاك، ثم تجلى قليلًا وعاد إلى الصفرة، وكان ذلك من العصر إلى ما بعد المغرب. وفيها كانت ملحمة كبيرة بين الفرنج وبين ابن تاشفين صاحب الأندلس، نصر فيها المسلمون، وقتلوا وأسروا، وغنموا ما لا يعبر عنه، وبادت شجعان الفرنج. وفي سنة سبع جاء مودود صاحب الموصل بعسكر ليقاتل ملك الفرنج الذي بالقدس، فوقعت بينهم معركة هائلة، ثم رجع مودود إلى دمشق، فصلى الجمعة يومًا في الجامع، وإذا باطني وثب عليه فجرحه، فمات من يومه، فكتب ملك الفرنج إلى صاحب دمشق كتابًا فيه: وإن أمة قتلت عميدها في يوم عيد في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها. وفي سنة إحدى عشرة جاء سيل عرم، غرق سنجار وسورها، وهلك خلق كثير، حتى إن السيل أخذ باب المدينة فذهب به عدة فراسخ واختفى تحت التراب الذي جره السيل، وظهر بعد سنين، وسلم طفل في سرير له حمله السيل فتعلق السرير بزيتونة وعاش وكبر. وفيها مات السلطان محمد، وأقيم بعده ابنه محمود وله أربع عشرة سنة. وفي سنة اثنتي عشرة مات الخليفة المستظهر بالله في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من ربيع الأول؛ فكانت مدته خمسًا وعشرين سنة، وغسله ابن عقيل شيخ الحنابلة، وصلى عليه ابنه المسترشد، وماتت بعده بقليل جدته أرجوان والدة المقتدي. قال الذهبي: ولا يعرف خليفة عاشت جدته بعده إلا هذا، رأت ابنها خليفة، ثم ابن ابنها، ثم ابن ابن ابنها ومن شعر المستظهر: أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا ... لما مددت إلى رسم الوداع بدا وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق في مهوى الهوى قددا؟ إن كنت أنقض عهد الحب يا سكني ... من بعد هذا فلا عاينتكم أبدًا وللصارم البطائحي مدحًا: أصبحت بالمستظهر بن المقتدي ... بالله ابن القائم ابن القادر مستعصمًا أرجو نوال أكفه ... وبأن يكون من مدحي بشعر سائر فوقع المستظهر بجائزتين: يخير بن الصلة والانحدار، والمقام والإدرار. وقال السلفي: قال لي أبو الخطاب بن الجراح: صليت بالمستظهر في رمضان، فقرأت: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَق} [يوسف: 81] رواية رويناها عن الكسائي، فلما سلمت قلت: هذه قراءة حسنة فيها تنزيه أولاد الأنبياء عن الكذب. مات في أيامه من الأعلام: أبو المظفر السمعاني، ونصر المقدسي، وأبو الفرج، وشيذلة، والروياني، والخطيب التبريزي، والكيا الهراسي، والغزالي، والشاشي الذي صنف له كتاب الحلية وسماه المستظهري، والأبيوردي اللغوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 المسترشد بالله أبو منصور 1 المسترشد بالله: أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله، ولد في ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة وأمه أم ولد، وبويع له بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وكان ذا همة عالية، وشهامة زائدة، وإقدام ورأي، وهبة شديدة، ضبط أمور الخلافة، ورتبها أحسن ترتيب، وأحيا رسم الخلافة ونظر عظامها، وشيّد أركان الشريعة وطرز أكمامها، وباشر الحروب بنفسه، وخرج عدة نوب إلى الحلة والموصل وطريق خراسان إلى أن خرج النوبة الأخيرة وكسر جيشه بقرب همذان وأخذ أسيرًا إلى أذربيجان، وقد سمع الحديث من أبي القاسم بن بيان، وعبد الوهاب بن هبة الله السبتي، وروى عنه محمد بن عمر بن مكي الأهوازي، ووزيره علي بن طراد، وإسماعيل بن طاهر الموصلي، وذكر ذلك ابن السمعاني، وذكره ابن الصلاح في طبقات الشافعية، وناهيك بذلك فقال: هو الذي صنف له أبو بكر الشاشي كتابه العمدة في الفقه، وبلقبه اشتهر الكتاب فإنه حينئذ يلقب عمدة الدنيا والدين، ذكره ابن السبكي في طبقات الشافعية وقال: كان في أول أمره تنسّك، ولبس الصوف، وانفرد في بيت للعبادة، وكان مولده في يوم الأربعاء ثامن عشر شبعان سنة ست وثمانين وأربعمائة، وخطب له أبوه بولاية العهد، ونقش اسمه على السكة في شهر ربيع الأول سنة ثمانٍ وثمانين، وكان مليح الخط ما كتب أحد من الخلفاء قبله مثله، يستدرك على كتابه يصلح أغاليط في كتبهم، وأما شهامته وهيبته وشجاعته وإقدامه فأمر أشهر من الشمس، ولم تزل أيامه مكدرة بكثرة التشويش والمخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك إلى أن خرج الخرجة الأخيرة إلى العراق، وانكسر وأخذ ورزق الشهادة. وقال الذهبي: مات السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه سنة خمس وعشرين فأقيم ابنه داود مكانه، فخرج عليه عمه مسعود بن محمد، فاقتتلا ثم اصطلحا على الاشتراك بينهما ولكل مملكة، وخطب لمسعود بالسلطنة ببغداد ومن بعده لداود، وخلع عليهما، ثم وقعت الوحشة بين الخليفة ومسعود، فخرج لقتاله، فالتقى الجمعان، وغدر بالخليفة أكثر عساكره، فظفر به مسعود، وأسر الخليفة وخواصه، فحبسهم بقلعة قرب همذان، فبلغ أهل بغداد ذلك، فحثوا في الأسواق التراب على رءوسهم، وبكوا وضجوا وخرج النساء حاسرات يندبن الخليفة، ومنعوا الصلوات والخطبة. قال ابن الجوزي: وزلزت بغداد مرارًا كثيرة، ودامت كل يوم، خمس مرات أو ستًّا، والناس يستغيثون فأرسل السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود يقول: ساعة وقوف الولد غياث الدنيا والدين على هذا المكتوب يدخل على أمير المؤمنين، ويقبل الأرض بين يديه، ويسأله العفو والصلح، ويتنصل غاية التنصل، فقد ظهر عندنا من الآيات السماوية والأرضية ما لا طاقة لنا بسماع مثلها، فضلًا عن المشاهدة من العواصف، والبروق، والزلازل، ودام   1 تولى الخلافة 512هـ وحتى 529هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ذلك عشرين يومًا، وتشويش العساكر، وانقلاب البلدان، وقد خفت على نفسي من جانب الله، وظهور آياته، وامتناع الناس من الصلاة في الجوامع، ومنع الخطباء ما لا طاقة لي بحمهلن فالله الله تتلافى أمرك، وتعيد أمير المؤمنين إلى مقرّ عزّه، وتحمل الغاشية بين يديه كما جرت عادتنا وعادة آبائنا، ففعل مسعود جميع ما أمره به، وقبل الأرض، بين يدي الخليفة، ووقف يسأل العفو. ثم أرسل سنجر رسولًا آخر ومعه عسكر يستحثّ على إعادة الخليفة إلى مقر عزه، فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنية، فذكر أن مسعودًا ما علم بهم، وقيل: بل علم بهم، وقيل: بل هو الذي دسهم، فهجموا على الخليفة في خيمته، ففتكوا به وقتلوا معه جماعة من أصحابه، فما شعر بهم العسكر إلا وقد فرغوا من شغلهم، فأخذوهم وقتلوهم إلى لعنة الله، فاشتد ذلك على الناس، وخرجوا حفاة مخرقين في الثياب، والنساء ناشرات الشعور يلطمن ويقلن المراثي، لأن المسترشد كان مُحَبّبًا فيهم ببره، ولما فيه من الشجاعة والعدل والرفق بهم. وكان قتل المسترشد -رحمه الله- بمراغة يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين، ومن شعره: أنا الأشقر المدعو بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم ستبلغ أرض الروم خيلي، وتنتضي ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي ومن شعره لما أسر: ولا عجبًا للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم فحربة وحشّي سقت حمزة الردى ... وموت عليٍّ من حسام ابن ملجم وله لما كسر وأشير عليه بالهزيمة فلم يفعل وثبت حتى أسر: قالوا: تقيم وقد أحا ... ط بك العدو ولا تفر فأجبتهم: المرء ما ... لم يتعظ بالوعظ غر لا نلت خيرًا ما حييت ... ولا عداني الدهر شر إن كنت أعلم أن غير ... الله ينفع أو يضر قال الذهبي: وقد خطب الناس يوم عيد الأضحى، فقال: الله أكبر ما سبحت الأنواء، وأشرق الضياء، وطلعت ذكاء، وعلت على الأرض السماء، الله أكبر ما هما سحاب ولمع سراب، وأنجح طلاب، وسر قادمًا إياب، وذكر خطبة بليغة ثم جلس، ثم قام فخطب، وقال: اللهم أصلحني في ذريتي وأعني على ما وليتني، وأوزعني شكر نعمتك، ووفقني وانصرني، فلما أنهاها وتهيأ للنزول بدره أبو المظفر الهاشمي، فأنشده: عليك سلام الله خير من علا ... على منبر قد حف أعلامه النصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وأفضل من أمّ الأنام وعمهم ... بسيرته الحسنى وكان له الأمر وأفضل أهل الأرض شرقًا ومغربًا ... ومن جده من أجله نزل القطر لقد شنفت أسماعنا منك خطبة ... وموعظة فصل يلين لها الصخر ملأت بها كل القلوب مهابة ... قد رجفت من خوف تخويفها مصر وزدت بها عدنان مجدًا مؤثلًا ... فأضحى بها بين الأنام لك الفخر وسدت بني العباس حتى لقد غدا ... يباهي بك السجاد والعالم البحر فلله عصر أنت فيه إمامنا ... ولله دين أنت فيه لنا الدر بقيت على الأيام والملك كلما ... تقادم عصر أنت فيه أتى عصر وأصبحت بالعيد السعيد مهنأ ... تشرفنا فيه صلاتك والنحر وقال وزيره جلال الدين الحسن بن علي بن صدقة يمدحه: وجدت الورى كالماء طعمًا مصورًا ... وأن أمير المؤمنين زلاله وصورت معنى العقل شخصًا مصورًا ... وأن أمير المؤمنين مثاله ولولا مكان الدين والشرع والتقى ... لقلت من الإعظام: جلّ جلاله وفي سنة أربع وعشرين من أيامه ارتفع سحاب أمطر بلد الموصل نارًا أحرقت من البلد مواضع كثيرة، وفيها قتل صاحب مصر الآمر بأحاكم الله منصور من غير عقب، وقام بعده ابن عمه الحافظ عبد المجيد بن محمد بن المنتصر. وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان، وخاف الناس منها وقد قتلت جماعة أطفال. وممن مات في أيام المسترشد من الأعلام: شمس الأئمة أبو الفضل إمام الحنفية، وأبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وقاضي القضاءة أبو الحسن الدامغاني، وابن بليمة المقرئ والطغرائي صاحب لامية العجم، وأبو علي الصدفي الحافظ، وأبو نصر القشيري، ابن القطاع اللغوي، ومحيي السنة البغوي، وابن الفحام المقرئ، والحريري صاحب المقامات والميداني صاحب الأمثال، وأبو الوليد بن رشد المالكي، والإمام أبو بكر الطرطوشي، وأبو الحجاج السرقسطي، وابن السيد البطليوسي، وأبو علي الفارقي، من الشافعية، وابن الطراوة النحوي وابن الباذش وظافر الحداد الشاعر، وعبد الغفار الفارسي، وخلائق آخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الراشد بالله أبو جعفر الراشد بالله: أبو جعفر منصور بن المسترشد: ولد في سنة اثنتين وخمسمائة، وأمه أم ولد، ويقال: إنه ولد مسدودًا فأحضروا الأطباء فأشاروا بأن يفتح له مخرج بآلة من ذهب، ففعل به ذلك فنفع. وخطب له أبوه بولاية العهد سنة ثلاث عشرة، وبويع له بالخلافة عند قتل أبيه في ذي القعدة سنة تسع وعشرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وكان فصيحًا، أديبًا، شاعرًا، شجاعًا، جوادًا، سمحًا، حسن السيرة، يؤثر العدل، ويكره الشر. ولما عاد السلطان مسعود إلى بغداد خرج هو إلى الموصل، فأحضروا القضاة والأعيان والعلماء وكتبوا محضرًا فيه شهادة طائفة بما جرى من الراشد من الظلم وأخذ الأموال وسفك الدماء وشرب الخمر، واستفتوا الفقهاء فيمن فعل ذلك: هل تصح إمامته؟ وهل إذا ثبت فسقه يجوز لسلطان الوقت أن يخلعه ويستبدل خيرًا منه؟ فأفتوا بجواز خلعه، وحكم بخلعه أبو طاهر بن الكرخي قاضي البلد، وبايعوا عمه محمد بن المستظهر ولقب المقتفي لأمر الله، وذلك في سادس عشر من ذي القعدة سنة ثلاثين. وبلغ الراشد الخلع فخرج من الموصل إلى بلاد أذربيجان وكان معه جماعة فقسطوا على مراغة مالًا وعاثوا هناك ومضوا إلى همذان وأفسدوا بها، وقتلوا جماعة وصلبوا آخرين، وحلقوا لحى جماعة من العلماء، ثم مضوا إلى أصبهان فحاصروها ونهبوا القرى، ومرض الراشد بظاهر أصبهان مرضًا شديدًا، فدخل عليه جماعة من العجم كانوا فراشين معه، فقتلوه بالسكاكين ثم قتلوا كلهم، وذلك في سادس عشر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وجاء الخبر إلى بغداد فقعدوا للعزاء يومًا واحدًا. قال العماد الكاتب: كان للراشد الحسن اليوسفي، والكرم الحاتمي. قال ابن الجوزي: وقد ذكر الصولي أن الناس يقولون: إن كل سادس يقوم للناس يخلع، فتأملت هذا فرأيت عجبًا. قلت: وقد سقت بقية كلامه في الخطبة، ولم تؤخذ البردة والقضيب من الراشد حتى قتل، فأحضر بعد قتله إلى المقتفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 المقتفي لأمر الله أبو عبد الله 1 المقتفي لأمر الله: أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله. ولد في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأمه حبشية، وبويع له بالخلافة عند خلع ابن أخيه وعمره أربعون سنة، وسبب تلقيبه بالمقتفي أنه رأى في منامه قبل أن يستخلف بستة أيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: سيصل هذا الأمر إليك فاقتف لأمر الله- فلقب المقتفي لأمر الله وبعث السلطان مسعود بعد أن أظهر العدل ومهد بغداد، فأخذ جميع ما في دار الخلافة من دواب وآثاث وذهب، وستور، وسرادق ولم يترك في اصطبل الخلافة سوى أربعة أفراس وثمانية أبغال برسم الماء، فيقال: إنهم بايعوا المقتفي على ألا يكون عنده خيل، ولا آلة سفر. ثم في سنة إحدى وثلاثين أخذ السلطان مسعود جميع تعلق الخليفة، ولم يترك له إلا العقار الخاص، وأرسل وزيره يطلب من الخليفة مائة ألف دينار، فقال المقتفي: ما رأينا   1 تولى الخلافة 530هـ إلى 555هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أعجب من أمرك؛ أنت تعلم أن المسترشد سار إليك بأمواله فجرى ما جرى، وأن الراشد ولى ففعل ما فعل، ورحل وأخذ ما تبقى، ولم يبق إلا الأثاث، فأخذته كله، وتصرفت في دار الضرب، وأخذت التركات والجوالي، فمن أي وجه نقيم لك هذا المال؟ وما بقي إلا أن نخرج من الدار، ونسلمها؛ فإني عاهدت الله ألا آخذ من المسلمين حبة ظلمًا، فترك السلطان الأخذ من الخليفة، وعاد إلى جباية الأملاك من الناس، وصادر التجار، فلقي الناس من ذلك شدة. ثم في جمادى الأولى أعيدت بلاد الخليفة ومعاملاته والتركات إليه. وفي هذه السنة رقب الهلال ليلة الثلاثين من شهر رمضان فلم يرَ فأصبح أهل بغداد صائمين لتمام العدة، فلما أمسوا رقبوا الهلال، فما رأوه أيضًا، وكانت السماء جلية صاحية، ومثل هذا لم يسمع بمثله في التواريخ. وفي سنة ثلاث وثلاثين كانت ببحترة زلزلة عظيمة عشرة فراسخ في مثلها، فأهلكت خلائق، ثم خسف ببحترة، وصار مكان البلد ماء أسود، وفيها استولى الأمراء على غلات البلاد، وعجز السلطان مسعود، ولم يبق له إلا الاسم، وتضعضع أيضًا أمر السلطان سنجر، فسبحان مذل الجبابرة، وتمكن الخليفة المقتفي، وزادت حرمته، وعلت كلمته، وكان ذلك مبدأ صلاح الدولة العباسية، فلله الحمد. وفي سنة إحدى وأربعين قدم السلطان مسعود بغداد، وعمل دار ضرب، فقبض الخليفة على الضراب الذي تسبب في إقامة دار الضرب، فقبض مسعود على صاحب الخليفة فغضب الخليفة، وغلق الجوامع والمساجد ثلاثة أيام، ثم أطلق الحاجب فأطلق الضراب، وسكن الأمر. وفيها جلس ابن العبادي الواعظ، فحضر السلطان مسعود، وتعرض بذكر مكس البيع وما جرى على الناس، ثم قال: يا سلطان العالم، أنت تهب في ليلة لمطرب بقدر هذا الذي يؤخذ من المسلمين فأحسبني ذلك المطرب؛ وهبه لي، واجعله شكرًا لله بما أنعم عليك، فأجاب، ونودي في البلد بإسقاطه، وطيف بالألواح التي نقش عليها ترك المكوس، وبين يديه الدبادب والبوقات، وسمرت، ولم تزل إلى أن أمر الناصر لدين الله بقلع الألواح: وقال ما لنا حاجة بآثار الأعاجم. وفي سنة ثلاث وأربعين حاصرت الفرنج دمشق، فوصل إليها نور الدين محمود بن زنكي وهو صاحب حلب يومئذ، وأخوه غازي صاحب الموصل، فنصر المسملون ولله الحمد، وهزم الفرنج، واستمر نور الدين في قتال الفرنج، وأخذ ما استولوا عليه من بلاد المسلمين. وفي سنة أربع وأربعين مات صاحب مصر الحافظ لدين الله وأقيم ابنه الظافر إسماعيل، وفيها جاءت زلزلة عظيمة، وماجت بغداد نحو عشر مرات، وتقطع منها جبل بحلوان. وفي سنة خمس وأربعين جاء باليمن مطر كله دم، وصارت الأرض مرشوشة بالدم، وبقي أثره في ثياب الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وفي سنة سبع وأربعين مات السلطان مسعود. قال ابن هبيرة، وهو وزير المقتفي: لما تطاول على المقتفي أصحاب مسعود وأساءوا الأدب ولم يكن المجاهرة بالمحاربة؛ اتفق الرأي على الدعاء عليه شهرًا كما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على رعل وذكوان شهرًا، فابتدأ هو والخليفة سرًّا كل واحد في موضعه يدعو سحرًا من ليلة تسع وعشرين من جمادى الأولى، واستمر الأمر كل ليلة، فلما تكامل الشهر مات مسعود على سريره، ولم يزد على الشهر يومًا ولا نقص يومًا. واتفق العسكر على سلطنة ملكشاه، وقام بأمره خاصبك، ثم إن خاصبك قبض على ملكشاه، وطلب أخاه محمدًا من خوزستان فجاءه، فسلم إليه السلطنة وأمر الخليفة حينئذ ونهى، ونفذت كلمته، وعزل من كان السلطان ولاه مدرسًا بالنظامية، وبلغه أن في نواحي واسط تخبطًا فسار بعسكره ومهد البلاد ودخل الحلة والكوفة ثم عاد إلى بغداد مؤيدًا منصورًا، وزينت بغداد. وفي سنة ثمانٍ وأربعين خرجت الغز على السطان سنجر وأسروه وأذاقوه الذل وملكوا بلاده وأبقوا الخطبة باسمه، وبقي معهم صورة بلا معنى، وصار يبكي على نفسه، وله اسم السلطنة، وراتبه في قدر راتب سائس من ساسته. وفي سنة تسع وأربعين قتل بمصر صاحبها الظافر بالله العبيدي، وأقاموا ابنه الفائز عيسى صبيًّا صغيرًا ووهى أمر المصريين، فكتب المقتفي عهدًا لنور الدين محمد بن زنكي وولاه مصر وأمره بالمسير إليها، وكان مشغولًا بحرب الفرنج وهو لا يفتر من الجهاد، وكان تملك دمشق في صفر من هذا العام، وملك عدة قلاع وحصون بالسيف وبالأمان من بلاد الروم وعظمت ممالكه وبعد صيته، فبعث إليه المقتفي تقليدًا وأمره بالمسير إلى مصر ولقبه: بالملك العادل، وعظم سلطان المقتفي، واشتدت شوكته، واستظهر على المخالفين، وأجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره، ولم يزل أمره في تزايد وعلو أن مات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. قال الذهبي: كان المقتفي من سروات الخلفاء، عالِمًا، أديبًا، شجاعًا، حليمًا، دمث الأخلاق، كامل السؤدد، خليقًا للإمامة، قليل المثل في الأئمة، لا يجري في دولته أمر -وإن صغر- إلا بتوقيعه، كتب في خلافته ثلاث ربعات، وسمع الحديث من مؤدبه أبي البركات بن أبي الفرج بن السني. قال ابن السمعاني: وسمع جزء بن عرفة مع أخيه المسترشد من أبي القاسم بن بيان، روى عنه أبو منصور الجواليقي اللغوي إمامه، والوزير ابن هبيرة وزيره وغيرهما، وقد جدد المقتفي بابًا للكعبة، واتخذ من العقيق تابتوًا لدفنه، وكان محمود السيرة، مشكور الدولة، يرجع إلى دين وعقل وفضل ورأي وسياسة، جدد معالم الإمامة، ومهد رسوم الخلافة، وباشر الأمور بنفسه، وغزا غيره مرة، وامتدت أيامه. وقال أبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمي في كتاب المناقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 العباسية: كانت أيام المقتفي نضرة بالعدل، زاهرة بفعل الخيرات، وكان على قدم العبادة قبل إفضاء الأمر إليه، وكان أول أمره متشاغلًا بالدين ونسخ العلوم وقراءة القرآن، ولم ير -مع سماحته ولين جانبه ورأفته بعد المعتصم- خليفة في شهامته وصرامته وشجاعته مع ما خص به من زهده وورعه وعبادته، ولم تزل جيوشه منصورة حيث يممت. وقال ابن الجوزي: في أيام المقتفي عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء، ولم يبقَ له منازع قبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته كان الحكم للمتغلبين من الملوك وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة ومن سلاطين دولته السلطان سنجر صاحب خراسان، والسلطان نور الدين محمود صاحب الشام، وكان جوادًا، كريمًا، مُحِبًّا للحديث وسماعه، معتنيًا بالعلم مكرمًا لأهله. قال ابن السمعاني: حدثنا أبو منصور الجواليقي، حدثنا المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، حدثنا أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب حدثنا أبو محمد الصيرفيني، حدثنا المخلص، حدثنا إسماعيل الوراق، حدثنا حفص بن عمرو الربالي، حدثنا أبو سحيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزداد الأمراء إلا شدة، ولا الناس إلا شحًّا ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". ولما أعاد المقتفي الإمام أبو منصور الجواليقي النحوي ليجعله إمامًا يصلي به دخل عليه، فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله -وكان ابن التلميذ النصراني الطبيب قائمًا- فقال: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي، وقال: يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية وروى الحديث، ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانيًّا أو يهوديًّا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه لما لزمته كفارة، لأن الله ختم على قلوبهم ولن يفك ختم الله إلا الإيمان، فقال المقتفي: صدقت وأحسنت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع غزارة أدبه. وممن مات في أيام المقتفي من الأعلام: ابن الأبرش النحوي، ويونس بن مغيث، وجمال الإسلام بن المسلم الشافعي، وأبو القاسم الأصفهاني صاحب الترغيب وابن برجان، والمازري المالكي صاحب كتاب المعلم بفوائد مسلم، والزمخشري والرشاطي صاحب الأنساب والجواليقي -وهو إمامه- وابن عطية صاحب التفسير، وأبو السعادات بن الشجري، والإمام أبو بكر بن العربي، وناصح الدين الأرجاني الشاعر، والقاضي عياض، والحافظ أبو الوليد بن الدباغ، وأبو الأسعد هبة الرحمن القشيري، وابن علام الفرس المقرئ، والرفاء الشاعر، والشهرستاني صاحب الملل والنحل، والقيسراني الشاعر، ومحمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وأبو الفضل بن ناصر الحافظ، وأبو الكرم الشهرزوري المقرئ، والوأواء الشاعر، وابن الجلاء إمام الشافعية. وخلائق آخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المستنجد بالله أبو المظفر 1 المستنجد بالله: أبو المظفر يوسف بن المقتفي.   1 تولى الخلافة 555هـ إلى 566هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ولد سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وأمه أم ولد كرجية اسمها طاوس، خطب له أبوه بولاية العهد سنة سبع وأربعين. وبويع له يوم موت أبيه، وكان موصوفًا بالعدل والرفق، أطلق من المكوس شيئًا كثيرًا بحيث لم يترك بالعراق مكسًا، وكان شديدًا على المفسدين، سجن رجلًا كان يسعى بالناس مدة، فحضره رجل وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار ودلني على آخر مثله لأحبسه وأكف شره عن الناس. قال ابن الجوزي: كان المستنجد موصوفًا بالفهم الثاقب، والرأي الصائب، والذكاء الغالب، والفضل الباهر، له نظم بديع، ونثر بليغ، ومعرفة بعمل آلات الفلك والإسطرلاب، وغير ذلك. من شعره: عيرتني بالشيب وهو وقار ... ليتها عيرت بما هو عار إن تكن شابت الذوائب ... فالليالي تزينها الأقمار وله في بخيل: وباخل أشعل في بيته ... تكرمة منه لنا شمعه فما جرت من عينها دمعه ... حتى جرت من عينه دمعة وفيه في وزيره ابن هبيرة وقد رأى منه ما يعجبه من تدبير مصالح المسلمين: صفت نعمتان خصتاك وعمتا ... بذكرهما حتى القيامة تذكر جودك والدنيا إليك فقيرة ... وجودك والمعروف في الناس منكر فلو رام يا يحيى مكانك جعفر ... ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر ولم أر من ينوي لك السوء يا ... أبا المظفر إلا كنت أنت المظفر مات في ثمانٍ من ربيع الآخرة سنة ست وستين. وكان في أول سنة من خلافته مات الفائز صاحب مصر، وقام بعده العاضد لدين الله آخر خلفاء بني عبيد. وفي سنة اثنتين وستين جهز السلطان نور الدين الأمير أسد الدين شيركوه في ألفي فارس إلى مصر، فنزل بالجيزة وحاصر مصر نحو شهرين، فاستنجد صاحبها بالفرنج، فدخلوا من دمياط لنجدته، فرحل أسد الدين إلى الصعيد، ثم وقعت بينه وبين المصريين حرب انتصر فيها على قلة عسكره وكثرة عدوه، وقتل من الفرنج ألوفًا، ثم جبا أسد الدين خراج الصعيد، وقصد الفرنج الإسكندرية، وقد أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب -وهو ابن أخي أسدالدين- فحاصروها أربعة أشهر، فتوجه أسد الدين إليهم، فرحلوا عنها، فرجع إلى الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وفي سنة أربع وستين قصدت الفرنجة الديار المصرية في جيش عظيم، فملكوا بلبيس وحاصروا القاهرة، فأحرقها صاحبها خوفًا منهم ثم كاتب السلطان نور الدين يستنجد به فجاء أسد الدين بجيوشه فرحل الفرنج عن القاهرة لما سمعوا بوصوله، ودخل أسد الدين فولاه العاضد صاحب مصر الوزارة وخلع عليه، فلم يلبث أسد الدين أن مات بعد خمسة وستين يومًا، فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقلده الأمور، ولقبه الملك الناصر فقام بالسلطنة أتم قيام. ومن أخبار المستنجد: قال الذهبي: ما زلت الحمرة الكثيرة تعرض في السماء منذ مرض، وكان يرى ضوؤها على الحيطان. وممن مات في أيامه من الأعلام: الديلمي صاحب مسند الفردوس، والعمراني صاحب البيان من الشافعية، وابن البزري شافعي أهل الجزيرة، والوزير ابن هبيرة، والشيخ عبد القادر الجبلي، والإمام أبو سعيد السمعاني، وأبو النجيب السهروردي، وأبو الحسن بن هذيل المقرئ، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 المستضيء بأمر الله الحسن 1 المستضيء بأمر الله: الحسن أبو محمد بن المستنجد بالله. ولد سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وأمه أم ولد أرمنية اسمها غضة، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه. قال ابن الجوزي: فنادى برفع المكوس ورد المظالم، وأظهر من العدل والكرم ما لم نره في أعمارنا، وفرق مالًا عظيمًا على الهاشميين والعلويين والعلماء والمدارس والربط، وكان دائم البذل للمال، ليس له عنده وقع، ذا حلم وأناة ورأفة، ولما استخلف خلع على أرباب الدولة وغيرهم، فحكى خياط المخزن أنه فصل ألفًا وثلاثمائة قباء إبريسم، وخطب له على منابر بغداد، ونثرت الدنانير كما جرت العادة، وولى روح بن الحديثي القضاء، وأمر سبعة عشر مملوكًا وللحيص بيص فيه: يا إمام الهدى علوت على الجو ... د بمال وفضة ونضار فوهبت الأعمار والأمن والبلدان ... في ساعة مضت من نهار فبماذا يثني عليك وقد جا ... وزت فضل الحور والأمطار إنما أنت معجز مستقل ... خارق للعقول والأفكار جمعت نفسك الشريفة بالبأ ... س وبالجود بين ماء ونار قال ابن الجوزي: واحتجب المستضيء عن أكثر الناس، فلم يركب إلا مع الخدم، ولا يدخل عليه غيرهم. وفي خلافته انقضت دولة بني عبيد، وخطب له بمصر، وضربت السكة باسمه، وجاء   1 تولى الخلافة 565هـ إلى 575هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 البشير بذلك، فغلقت الأسواق ببغداد، وعملت القباب، وصنفت كتابًا سميته: النصر على مصر، هذا كلام ابن الجوزي. وقال الذهبي: في أيامه ضعف الرفض ببغداد ووَهَى، وأمن الناس ورزق سعادة عظيمة في خلافته، وخطب له باليمن، وبرقة، وتوزر، ومصر إلى أسوان، ودانت الملوك بطاعته، وذلك سنة سبع وستين. وقال العماد الكاتب: استفتح السلطان صلاح الدين بن أيوب سنة سبع بجامع مصر كل طاعة وسمع، وهو إقامة الخطبة في الجمعة العباسية في الجمعة الأولى منها بمصر لبني العباس وعفت البدعة وصفت الشرعة وأقيمت الخطبة العباسية في الجمعة الثانية بالقاهرة وأعقب ذلك موت العاضد في يوم عاشوراء، وتسلم صلاح الدين القصر بما فيه من الذخائر والنفائس، بحيث استمر البيع فيه عشر سنين، غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه، وسير السلطان نور الدين بهذه البشارة شهاب الدين المطهر ابن العلامة شرف الدين بن أبي عصرون إلى بغداد وأمرني بإنشاء بشارة عامة تقرأ في سائر بلاد الشام. فأنشأت بشارة أولها: الحمد لله معلي الحق ومعلنه، وموهي الباطل وموهنه، ومنها: ولم يبق بتلك البلاد منبرًا إلا وقد أقيمت عليه الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، وتمهدت جوامع الجمع، وتهدمت صوامع البدع -إلى أن قال: وطالما مرت عليها الحقب الخوالي، وبقيت مائتين وثماني سنين، ممنوة بدعوة المبطلين، مملوءة بحزب الشياطين فملكنا الله تلك البلاد ومكن لنا في الأرض وأقدرنا على ما كنا نؤمل من إزالة الإلحاد والرفض، وتقدمنا إلى من استنبناه أن يقيم الدعوة العباسية هنالك، ويورد الأدعياء ودعاة الإلحاد بها المهالك، وللعماد قصيدة في ذلك منها: قد خطبنا للمستضيء بمصر ... نائب المصطفى إمام العصر وخذلنا لنصره العضد العا ... ضد والقاصر الذي بالقصر وتركنا الدعي يدعو ثبورًا ... وهو بالذل تحت حجر وحصر وأرسل الخليفة في جواب البشارة الخلع والتشريفات لنور الدين وصلاح الدين وأعلامًا وبنودًا للخطباء بمصر، وسير للعماد الكاتب خلعه مائة دينار، فعمل قصيدة أخرى منها: أدالت بمصر لداعي الهداة ... وانتقمت من دعي اليهود وقال ابن الأثير: السبب في إقامة الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه وضعف أمر العاضد كتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بذلك، فاعتذر بالخوف من وثوب المصريين، فلم يصغ إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك، واتفق أن العاضد مرض، فاستشار صلاح الدين أمراءه فمنهم من وافق ومنهم من خاف، وكان قد دخل مصر أعجمي يعرف بالأمير العالم، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام قال: أنا أبتديء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 بها، فلما كان أول جمعة من المحرم، صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء، فلم ينكر ذلك أحد، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بقطع خطبة العاضد، ففعل ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان -والعاضد شديد المرض، فتوفي في يوم عاشوراء. وفي سنة تسع وستين أرسل نور الدين إلى الخليفة بتقادم وتحف منها حمار مخطط وثوب عتابي، وخرج الخلق للفرجة عليه، وكان فيهم رجل عتابي كثير الدعاوى، وهو بليد ناقص الفضيلة، فقال رجل: إن كان قد بعث إلينا حمار عتابي فنحن عندنا عتابي حمار. وفيه وقع برد بالسواد كالنارنج، هدم الدور وقتل جماعة وكثيرًا من المواشي، وزادت دجلة زيادة عظيمة بحيث غرقت بغداد وصليت الجمعة خارج السور، وزادت الفرات أيضًا وأهلكت قرى ومزارع، وابتهل الخلق إلى الله تعالى، ومن العجائب أن هذا الماء على هذه الصفة ودجيل قد هلكت مزارعه بالعطش. وفيها مات السلطان نور الدين -وكان صاحب دمشق- وابنه الملك الصالح إسماعيل -وهو صبي- فتحركت الفرنج بالسواحل فصولحوا بمال وهودنوا. وفيها أراد جماعة من شيعة العبيديين ومحبيهم إقامة الدعوة وردها إلى آل العاضد ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين، فاطلع صلاح الدين على ذلك، فصلبهم بين القصرين. وفي سنة اثنتين وسبعين أمر صلاح الدين ببناء السور الأعظم المحيط بمصر والقاهرة، وجعل على بنائه الأمير بهاء الدين قراقوش. قال ابن الأثير: دوره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالهاشمي. وفيها أمر بإنشاء قلعة بجبل المقطم -وهي التي صارت دار السلطنة- ولم تتم إلا في أيام السلطان الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين وهو أول من سكنها. وفيها بنى صلاح الدين تربة الإمام الشافعي. وفي سنة أربع وسبعين هبت ببغداد ريح شديدة نصف الليل، وظهرت أعمدة مثل النار في أطراف السماء، واستغاث الناس استغاثة شديدة، وبقي الأمر على ذلك إلى السحر. وفي سنة خمس وسبعين مات الخليفة المستضيء في سلخ شوال، وعهد إلى ابنه أحمد. وممن مات في أيام المستضيء من الأعلام: ابن الخشاب النحوي، وملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي، والحافظ أبو العلاء الهمذاني، وناصح الدين بن الدهان النحوي، والحافظ الكبير ابن عساكر من حفدة الشافعي، والحيص بيص الشاعر، والحافظ أبو بكر بن خير، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الناصر لدين الله أحمد 1 الناصر لدين الله: أحمد أبو العباس بن المستضيء بأمر الله، ولد يوم الاثنين عاشر   1 تولى الخلافة 575هـ، إلى 622هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وأمه أم ولد تركية اسمها زمرد، بويع له عند موت أبيه في مستهل ذي القعدة سنة خمس وسبعين، وأجاز له جماعة: منهم أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، وأبو الحسن علي بن عساكر البطايحي، وشهده، وأجاز هو لجماعة فكانوا يحدثون عنه في حياته، ويتنافسون في ذلك رغبة في الفخر لا في الإسناد. وقال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد أطول مدة منه، فإنه أقام فيها سبعة وأربعين سنة ولم تزل مدة حياته في عز وجلالة وقمع الأعداء واستظهار على الملوك، ولم يجد ضيمًا، ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه، ولا مخالف إلا دفعه، وكل من أضمر له سوءًا رماه الله بالخذلان، وكان -مع سعادة جده- شديد الاهتمام بمصالح الملك، لا يخفى عليه شيء من أحوال رعيته كبارهم وصغارهم، وأصحاب أخباره في أقطار البلاد يوصلون إليه أحوال الملوك الظاهرة والباطنة، وكانت له حيل لطيفة ومكائد غامضة وخدع لا يفطن لها أحد، يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون، ولما دخل رسول صاحب مازندران بغداد كانت تأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، فصار يبالغ في التكتم والورقة تأتيه بذلك، فاختلى ليلة بامرأة دخلت من باب السر فصبحته الورقة بذلك، وفيها: كان عليكم دواج فيه صورة الفيلة، فتحير وخرج من بغداد وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب؛ لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل وما وراء الجدار، وأتى رسول خوارزم شاه برسالة مخيفة، وكتاب مختوم، فقيل له: ارجع فقد عرفنا ما جئت به، فرجع وهو يظن أنهم يعلمون الغيب. قال الذهبي: قيل: إن الناصر كان مخدومًا من الجن. ولما ظهر خوارزم شاه بخراسان وما وراء النهر، وتجبر وطغى، واستعبد الملوك الكبار، وأباد أمَمًا كثيرة، وقطع خطبة بني العباس من بلاده، وقصد بغداد، فوصل إلى همذان، فوقع عليهم ثلج عظيم عشرين يومًا، فغطاهم في غير أوانه، فقال له بعض خواصه: إن ذلك غضب من الله حيث قصدت بيت الخلافة. وبلغه أن أمم الترك قد تألبوا عليه، وطمعوا في البلاد لبعده عنها، فكان ذلك سبب رجوعه، وكفى الناصر شره بلا قتال. وكان الناصر إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع، وله مواطن يعطى فيها عطاء من لا يخاف الفقر. ووصل إليه رجل معه ببغاء تقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} تحفة للخليفة من الهند، فأصبحت ميتة، وأصبح حيران، فجاءه فراش يطلب منه الببغاء، فبكى وقال: الليلة ماتت، فقال: قد عرفنا، هاتها ميتة، وقال: كم كان ظنك أن يعطيك الخليفة؟ قال: خمسمائة دينار، قال: هذه خمسمائة دينار، خذها، فقد أرسلها إليك الخليفة فإنه أعلم بحالك منذ خرجت من الهند. وكان صدرجهان قد صار إلى بغداد، ومعه جماعة من الفقهاء، وواحد منهم لما خرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 داره من سمرقند على فرس جميلة، فقال له أهله: لو تركتها عندنا لئلا تؤخذ منك في بغداد، فقال الخليفة لا يقدر أن يأخذها مني، فأمر بعض القوادين أنه حين يدخل بغداد يضربه، ويأخذها منه، ويهرب في الزحمة، ففعل، فجاء الفقيه يستغيث فلا يغاث، فلما رجعوا من الحج خلع على صدرجهان وأصحابه، وخلع على ذلك الفقيه، وقدمت له فرسه وعليها سرج من ذهب وطوق، وقيل له: لم يأخذ فرسك الخليفة، إنما أخذها أتوني، فخر مغشيًّا عليه وأسجل بكرامتهم. وقال الموفق عبد اللطيف: كان الناصر قد ملأ القلوب هيبة وخيفة، فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد، فأحيا بهيبته الخلافة، وكانت قد ماتت بموت المعتصم، ثم ماتت بموته. وكان الملوك والأكابر بمصر والشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفضوا أصواتهم هيبة وإجلالًا، وورد بغداد تاجر ومعه قناع دمياط المذهب، فسألوه عنه فأنكر، فأعطي علامات فيه: من عدده، وألوانه، وأصنافه، فازداد إنكاره، فقيل له: من العلامات أنك نقمت على مملوكك التركي فلان، فأخذته إلى سيف بحر دمياط في خلوة وقتلته ودفنته هناك، ولم يشعر بذلك أحد. قال ابن النجار: دانت السلاطين للناصر، ودخل في طاعته من كان من المخالفين وذلت له العتاة والطغاة، وانقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، وملك من المماليك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين، وكان أشد بني العباس، تتصدع لهيبته الجبال، وكان حسن الخلق، لطيف الخلق، كامل الظرف، فصيح اللسان، بليغ البيان، له التوقيعات المسددة، والكلمات المؤيدة، وكانت أيامه غرة في وجه الدهر، ودرة في تاج الفخر. وقال ابن واصل: كان الناصر شهمًا شجاعًا، ذا فكرة صائبة، وعقل رصين، ومكر ودهاء، وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف، يطالعونه بجزئيات الأمور، حتى ذكر أن رجلًا ببغداد عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه، فطالع صاحب الخبر الناصر بذلك، فكتب في جواب ذلك: سوء أدب من صاحب الدار، وفضول من كاتب المطالعة، قال: وكان مع ذلك رديء السيرة في الرعية، مائلًا إلى الظلف والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل أفعالًا متضادة، وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية بخلاف آبائه، حتى إن ابن الجوزي سئل بحضرته: من أفضل الناس بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أفضلهم بعده من كانت ابنته تحته، ولم يقدر أن يصرح بتفضيل أبي بكر -رضي الله عنه- وقال ابن الأثير: كان الناصر سيئ السيرة، خربت في أيامه العراق مما أحدثه من الرسوم وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيء وضده، وكان يرمي بالبندق، ويغوى الحمام. وقال الموفق عبد اللطيف: وفي وسط ولايته اشتغل برواية الحديث، واستناب نوابًا في الإجازة عنه والتسميع، وأجرى عليهم جرايات، وكتب للملوك والعلماء إجازات، وجمع كتابًا وسبعين حديثًا، ووصل إلى حلب، وسمعه الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 قال الذهبي: أجاز الناصر لجماعة من الأعيان، فحدثوا عنه: منهم ابن سكينة، وابن الأخضر، وابن النجار، وابن الدامغاني، وآخرون. قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي وغيره: قل بصر الناس في آخر عمره، وقيل: ذهب كله، ولم يشعر بذلك أحد من الرعية، حتى الوزير وأهل الدار، وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه، فكانت تكتب مثل خطه، فتكتب على التواقيع. وقال شمس الدين الجزري: كان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ، ويغلى سبع غلوات كل يوم غلوة، ثم يحبس في الأوعية سبعة أيام، ثم يشرب منه، ومع هذا ما مامت حتى سقى المرقد مرات، وشق ذكره، وأخرج منه الحصى، ومات منه يوم الأحد سلخ رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة. ومن لطائفه أن خادمًا له اسمه يمن كتب إليه ورقة فيها عتب، فوقع فيها: بمن يمن يمن ... بمن ثمن ثمن ولما تولى الخليفة بعث إلى السطلان صلاح الدين بالخلع والتقليد، وكتب إليه السلطان كتابًا يقول فيه: والخادم -ولله الحمد- يعدد سوابق في الإسلام، والدولة العباسية لا يعمرها أولية أبي مسلم؛ لأنه والى ثم وارى، ولا آخرية طغرلبك؛ لأنه نصر ثم حجر، والخادم خلع من كان ينازع الخلافة رداءها، وأساغ الغصة التي أذخر الله للإساغة في سيفه ماءها، فرجل الأسماء الكاذبة الراكبة على المنابر، وأعز بتأييد إبراهيم فكسر الأصنام الباطنة بسيفه الطاهر. ومن الحوادث في أيامه منشورة في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، أرسل الملك الناصر يعاتب السلطان صلاح الدين في تسميته بالملك الناصر مع علمه أن الخليفة اختار هذه التسمية لنفسه. وفي سنة ثمانين جعل الخليفة مشهد موسى الكاظم أمنًا لمن لاذ به، فالتجأ إليه خلق، وحصل بذلك مفاسد. وفي سنة إحدى وثمانين ولد بالعلث ولد طول جبهته شبر وأربع أصابع، وله أذن واحدة، وفيها وردت الأخبار بأنه خطب للناصر بمعظم بلاد المغرب. وفي سنة اثنتين وثمانين اجتمع الكواكب الستة في الميزان، فحكم المنجمون بخراب العالم في جميع البلاد بطوفان الريح، فشرع الناس في حفر مغارات في التخوم وتوثيقها، وسد منافسها على الريح، ونقلوا إليها الماء والزاد، وانتقلوا إليها، وانتظروا الليلة التي وعدوا فيها بريح كريح عاد، وهي الليلة التاسعة من جمادى الآخرة، فلم يأت فيها شيء، ولا هب فيها نسيم، بحيث أوقدت الشموع، فلم يتحرك فيها ريح تطفئها، وعملت الشعراء في ذلك، فمما قيل فيه قول أبي الغنائم محمد بن المعلم: قل لأبي الفضل قول معترف ... مضى جمادى وجاءنا رجب وما جرت زعزع كما حكموا ... ولابدا كوكب له ذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 كلا ولا أظلمت ذكاء ولا ... بدت إذن في قرونها الشهب يقضي عليها من ليس يعلم ما ... يقضي عليه هذا هو العجب قد بان كذب المنجمين وفي ... أي مقال قالوا فما كذبوا؟ وفي سنة ثلاث وثمانين اتفق أن أول يوم في السنة كان أول أيام الأسبوع، وأول السنة الشمسية، وأول سني الفرس، والشمس والقمر في أول البروج، وكان ذلك من الاتفاقات العجيبة. وفيها كانت الفتوحات الكثيرة، أخذ السلطان صلاح الدين كثيرًا من البلاد الشامية التي كانت بيد الفرنج، وأعظم ذلك بيت المقدس، وكان بقاؤه في يد الفرنج إحدى وتسعين سنة، وأزال السلطان ما أحدثه الفرنج من الآثار، وهدم ما أحدثوه من الكنائس، وبنى موضع كنيسة منها مدرسة للشافعية، فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، ولم يهدم القمامة اقتداء بعمر -رضي الله عنه- حيث لم يهدمها لما فتح بيت المقدس، وقال في ذلك محمد بن أسعد النسابة: أترى منامًا ما بعيني أبصر ... القدس يفتح، والنصارى تكسر؟ وقمامة قمت من الرجس الذي ... بزواله وزوالها يتطهر ومليكهم في القيد مصفود، ولم ... ير قبل ذلك لهم مليك يؤسر قد جاء نصر الله والفتح الذي ... وعد الرسول فسبحوا واستغفروا يا يوسف الصديق أنت لفتحها ... فاروقها عمر الإمام الأطهر ومن الغرائب أن ابن برجان ذكر في تفسيره: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2] أن بيت المقدس يبقى في يد الروم إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ثم يغلبون ويفتح ويصير دار إسلام إلى آخر الأبد، أخذًا من حساب الآية، فكان كذلك. قال أبو شامة، وهذا الذي ذكره ابن برجان من عجائب ما اتفق، وقد مات ابن برجان قبل ذلك بدهر، فإن وفاته سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وفي سنة تسع وثمانين مات السلطان صلاح الدين -رحمه الله- فوصل إلى بغداد الرسول في صحبته لأْمة الحرب التي لصلاح الدين وفرسه، ودينار واحد، وستة وثلاثون درهمًا، لم يخلف من المال سواها، واستقرت مصر لابنه عماد الدين عثمان الملك العزيز، ودمشق لابنه الملك الأفضل نور الدين علي، وحلب لابنه الملك الظاهر غياث الدين غازي. وفي سنة تسعين مات السلطان طغرلبك شاه ابن أرسلان بن طغرلبك بن محمد بن ملك شاه، وهو آخر ملوك السلجوقية. قال الذهبي: كان عددهم نيفًا وعشرين ملكًا، أولهم طغرلبك الذي أعاد القائم إلى بغداد، ومدة دولتهم مائة وستون سنة. وفي سنة خمسمائة واثنتين وتسعين هبت ريح سوداء بمكة، عمت الدنيا، ووقع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الناس رمل أحمر، ووقع من الركن اليماني قطعة. وفيها عسكر خوارزم شاه، فعدا جيحون في خمسين ألفًا، وبعث إلى الخليفة يطلب السلطنة، وإعادة دار السلطنة إلى ما كانت، وأن يجيء إلى بغداد، ويكون الخليفة من تحت يده، كما كانت الملوك السلجوقية، فهدم الخليفة دار السلطنة، ورد رسوله بلا جواب، ثم كفى شره كما تقدم. وفي سنة ثلاث وتسعين انقض كوكب عظيم سمع لانقضاضه صوت هائل، واهتزت الدور والأماكن فاستغاث الناس، وأعلنوا بالدعاء، وظنوا ذلك من أمارات القيامة. وفي سنة خمس وتسعين مات الملك العزيز بمصر، وأقيم ابنه المنصور بدله، فوثب الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب وتملكها، ثم أقام بها ابنه الملك الكامل. وفي سنة ست وتسعين توقف النيل بمصر بحيث كسرها، ولم يكمل ثلاثة عشر ذراعًا، وكان الغلاء المفرط بحيث أكلوا الجيف والآدميين، وفشا أكل بني آدم واشتهر، ورؤي من ذلك العجب العجاب، وتعدوا إلى حفر القبور وأكل الموتى، وتمزق أهل مصر كل ممزق، وكثر الموت من الجوع بحيث كان الماشي لا يقع قدمه أو بصره إلا على ميت أو من هو في السياق، وهلك أهل القرى قاطبة بحيث إن المسافر يمر بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار، ويجد البيوت مفتوحة وأهلها موتى. وقد حكى الذهبي في ذلك حكايات يقشعر الجلد من سماعها، قال: وصارت الطرق مزرعة بالموتى، وصارت لحومها الطير والسباع، وبيعت الأحرار والأولاد بالدراهم اليسيرة، واستمر ذلك إلى أثناء سنة ثمانٍ وتسعين. وفي سنة سبع وتسعين جاءت زلزلة كبرى بمصر والشام والجزيرة، فأخرجت أماكن كثيرة وقلاعًا، وخسفت قرية من أعمال بصرى. وفي سنة تسع وتسعين في سلخ المحرم ماجت النجوم، وتطايرت تطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وضجوا إلى الله تعالى، ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفي سنة ستمائة هجم الفرنج إلى النيل من رشيد، ودخلوا بلدة فوه فنهبوها واستباحوها ورجعوا. وفي سنة إحدى وستمائة تغلبت الفرنج على القسطنطينية، وأخرجوا الروم منها، وكانت بأيدي الروم من قبل الإسلام، واستمرت بيد الفرنج إلى سنة ستين وستمائة فاستطلقها منهم الروم. وفيها -أي: سنة إحدى وستمائة- ولدت امرأة بقطيعاء ولدًا برأسين ويدين وأربعة أرجل، ولم يعش. وفي سنة ست وستمائة كان ابتداء أمر التتار، وسيأتي شرح حالهم. وفي سنة خمس عشرة أخذت الفرنج من دمياط برج السلسلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 قال أبو شامة: وهذا البرج كان قفل الديار المصرية، وهو برج عالٍ في وسط النيل ودمياط بحذائه من شرقيه، والجزيرة بحذائه من غربيه، وفي نحايته سلسلتان تمتد إحداهما على النيل إلى دمياط، والأخرى على النيل إلى الجزيرة تمنعان عبوب المراكب من البحر المالح. وفي سنة ست عشرة أخذت الفرنج دمياط بعد حروب ومحاصرات، وضعف الملك الكامل عن مقاومتهم، فبدعوا فيها، وجعلوا الجامع كنيسة، فابتنى الملك الكامل مدينة عند مفرق البحرين سموها المنصورة، وبنى عليها سورًا ونزلها بجيشه. وفي هذه السنة كاتبه قاضي القضاة ركن الدين الظاهر وكان الملك المعظم صاحب دمشق في نفسه منه، فأرسل له بقجة فيها قباء وكلوته وأمره بلبسها بين الناس في مجلس حكمه، فلم يمكنه الامتناع، ثم قام ودخل داره ولزم بيته، ومات بعد أشهر قهرًا، ورمى قطعًا من كبده، وتأسف الناس لذلك، واتفق أن الملك المعظم أرسل في عقب ذلك إلى الشرف بن عنين حين تزهد خمرًا وبردًا، وقال: سبح بهذا فكتب إليه يقول: يا أيها الملك المعظم سنة ... أحدثتها تبقى على الآباد تجري الملوك على طريقك بعدها ... خلع القضاة وتحفة الزهاد وفي سنة ثماني عشرة استردت دمياط من الفرنج فلله الحمد. وفي سنة إحدى وعشرين بنيت دار الحديث الكاملية بالقاهرة بين القصرين وجعل شيخها أبا الخطاب بن دحية، وكانت الكعبة تكسى الديباج الأبيض من أيام المأمون إلى الآن فكساها الناصر ديباجًا أخضر، ثم كساها ديباجًا أسود فاستمر إلى الآن. وممن مات في أيام الناصر من الأعلام: الحافظ أبو طاهر السلفي، وأبو الحسن بن القصار اللغوي، والكمال أبو البركات بن الأنباري، والشيخ أحمد بن الرفاعي الزاهد، وابن بشكوال، ويونس والد يونس الشافعي، وأبو بكر بن طاهر الأحدب النحوي، وأبو الفضل والد الرافعي وابن ملقون النحوي وعبد الحق الإشبيلي صاحب: الأحكام، وأبو زيد السهلي صاحب: الروض الأنف، والحافظ أبو موسى المديني، وابن بري اللغوي، والحافظ أبو بكر الحازمي، والشرف بن أبي عصرون، وأبو القاسم البخاري، والعتابي صاحب: الجامع الكبير، من كبار الحنفية، والنجم الحبوشاني المشهور بالصلاح، وأبو القاسم بن فيرة الشاطبي صاحب القصيدة، وفخر الدين أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب بن الدهان الفرضي، أول من وضع الفرائض على شكل المنبر، والبرهاني المرغيناني صاحب: الهداية، من الحنفية، وقاضيخان صاحب الفتاوى منهم، وعبد الرحيم بن حجون الزاهد بالصعيد، وأبو الوليد بن رشد صاحب العلوم الفلسفية، وأبو بكر بن زهر الطبيبي، والجمال بن فضلان من الشافعية، والقاضي الفاضل صاحب الإنشاء والترسل، والشهاب الطوسي، وأبو الفرج بن الجوزي، والعماد الكاتب، وابن عظيمة المقرئ، والحافظ عبد الغني المقدسي صاحب: العمدة، والبركي الطاوسي صاحب الخلاف، وتميم الحلي، وأبو ذر الخشني النحوي، والإمام فخر الدين الرازي، وأبو السعادات بن الأثير صاحب: جامع الأصول، ونهاية الغريب، والعماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ابن يونس صاحب: شرح الوجيز، والشرف صاحب: التنبيه، والحافظ أبو الحسن بن المفضل، وأبو محمد بن حوط الله، وأخوه أبو سليمان، والحافظ عبد القادر الرهاوي، والزاهد أبو الحسن بن الصباغ بقنا، والوجيه بن الدهان النحوي وتقي الدين بن المقترح، وأبو اليمن الكندي النحوي، والمعين الحاجري صاحب: الكفاية، من الشافعية، والركن العميدي صاحب الطريقة في الخلاف، وأبو البقاء العكبري صاحب: الإعراب، وابن أبي أصيبعة الطيب، وعبد الرحيم بن السمعاني، ونجم الدين العكبري، وابن أبي الصيف اليمني، وموفق الدين بن قدامة الحنبلي، وفخر الدين بن عساكر، وخلائق آخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الظاهر بأمر الله أبو نصر 1 الظاهر بأمر الله: أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله. ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وبايع له أبوه بولاية العهد، واستخلف عند موت والده وهو ابن اثنتين وخمسين سنة، فقيل له: ألا تتفسح؟ قال: لقد يبس الزرع، فقيل: يبارك الله في عمرك! قال: من فتح دكانًا بعد العصر إيش يكسب؟! ثم إنه أحسن إلى الرعية، وأبطل المكوس، وأزال المظالم، وفرق الأموال، ذكر ذلك أبو شامة. وقال ابن الأثير في الكامل: لما ولي الظاهر الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، فلو قيل: إنه ما ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقًا، فإنه أعاد من الأموال المغصوبة والأموال المأخوذة في أيام أبيه وقبلها شيئًا كثيرًا، وأبطل المكوس في البلاد جميعها وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق وبإسقاط جميع ما جدده أبوه، وكان ذلك كثيرًا لا يحصى، فمن ذلك أن قرية يعقوبا كان يحصل منها قديمًا عشرة آلاف دينار، فلما استخلف الناصر كان يؤخذ منها في السنة ثمانون ألف دينار فاستغاث أهلها، فأعادها الظاهر إلى الخراج الأول. ولما أعاد الخراج الأصلي على البلاد حضر خلق، وذكروا أن أملاكهم قد يبست أكثر أشجارها وخربت، فأمر ألا يؤخذ إلا من كل شجرة سالمة. ومن عدله أن صنجة الخزانة كانت راجحة نصف قيراط في المثقال يقبضون بها ويعطون بصنجة البلد، فخرج خطه إلى الوزير وأوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين} الآيات [المطففين: 1] وفيه: قد بلغنا أن الأمر كذا وكذا، فتعاد صنجة الخزانة إلى ما يتعامل به الناس، فكتبوا إليه أن في هذا تفاوتًا كثيرًا، وقد حسبنا في العام الماضي فكان خمسة وثلاثين ألف دينار، فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول: يبطل ولو أنه ثلاثمائة ألف وخمسون ألف دينار. ومن عدله أن صاحب الديوان قدم من واسط، ومعه أزيد من مائة ألف دينار من ظلم، فردها على أربابها، أخرج أهل الحبوس، وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليوفيها عمن   1 تولى الخلافة 622هـ، إلى 623هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 أعسر، وفرق ليلة عيد النحر على العلماء والصلحاء مائة ألف دينار، وقيل له: هذا الذي تخرجه من الأموال لا تسمح نفس ببعضه، فقال أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير، فكم بقيت أعيش؟!. ووجد في بيت من داره ألوف الرقاع كلها مختومة، فقيل له: لم لا تفتحها؟ قال: لا حاجة لنا فيها، كلها سعايات، وهذا كله كلام ابن الأثير. وقال سبط ابن الجوزي: لما دخل إلى الخزائن قال له خادم: كانت في أيام آباك تمتلئ، فقال: ما جعلت الخزائن لتمتلئ، بل تفرغ وتنفق في سبيل الله، فإن الجمع شغل التجار. وقال ابن واصل: أظهر العدل، وأزال المكس، وظهر للناس، وكان أبوه لا يظهر إلا نادرًا. توفي -رحمه الله- في ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين، فكانت خلافته تسع أشهر وأيامًا. وقد رى الحديث عن والده بالإجازة، وروى عنه أبو صالح نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلي. ولما توفي اتفق خسوف القمر مرتين في السنة، فجاء ابن الأثير نصر الله رسولًا من صاحب الموصل برسالة في التعزية، أولها: ما لليل والنهار لا يعتذران وقد عظم حادثهما، وما للشمس والقمر لا ينكسفان وقد فقد ثالثهما: فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ... ووحدة من فيها لمصرع واحد وهو سيدنا ومولانا الإمام الظاهر أمير المؤمنين، الذي جعلت ولايته رحمة للعالمين، إلى آخر الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 المستنصر بالله 1 المستنصر بالله: أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله، ولد في صفر سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائة، وأمه جارية تركية. قال ابن النجار: وبويع بعد موت أبيه في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فنشر العدل في الرعايا، وبذل الإنصاف في القضايا، وقرب أهل العلم والدين، وبنى المساجد والربط والمدارس والمارستانات، وأقام منار الدين، وقمع المتمردة، ونشر السنن، وكف الفتن، وحمل الناس على أقوم سنن، وقام بأمر الجهاد أحسن قيام، وجمع الجيوش لنصر الإسلام، وحفظ الثغور، وافتتح الحصون. وقال الموفق عبد اللطيف: بويع أبو جعفر فسار السيرة الجميلة، وعمر طرق المعروف   1 تولى الخلافة 623هـ، إلى 640هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الدائرة، وأقام شاعر الدين، ومنار الإسلام، واجتمعت القلوب على محبته، والألسن على مدحه، ولم يجد أحد من المتعنتة فيه معابًا. وكان جده الناصر يقربه ويسميه القاضي لهداه وعقله وإنكار ما يجده من المنكر. وقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري: كان المستنصر راغبًا في فعل الخير، مجتهدًا في تكثير البر، وله في ذلك آثار جميلة، وأنشأ المدرسة المستنصرية، ورتب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم. وقال ابن واصل: بنى المستنصر على دجلة من الجانب الشرقي مدرسة ما بني على وجه الأرض أحسن منها، ولا أكثر منها وقوفًا، وهي بأربعة مدرسين على المذاهب الأربعة، وعمل فيها مارستانًا، ورتب فيها مطبخًا للفقهاء، ومزملة للماء البارد، ورتب لبيوت الفقهاء الحصر، والبسط، والزيت، والورق، والحبر، وغير ذلك، وللفقيه بعد ذلك في الشهر دينارًا، ورتب لهم حمامًا، وهو أمر لم يسبق إلى مثله، واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه ولا جده، وكان ذا همة عالية وشجاعة، وإقدام عظيم، وقصدت التتار البلد، فلقيهم عسكره، فهزموا التتار هزيمة عظيمة، وكان له أخ يقال له الخفاجي فيه شهامة زائدة وكان يقول: لئت وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم، فلما مات المستنصر لم ير الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفًا منه، وأقاما ابنه أبا أحمد للينه وضعف رأيه ليكون لهما الأمر ليقضي الله أمر كان مفعولًا من هلاك المسلمين في مدته، وتغلب التتار، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال الذهبي: وقد بلغ ارتفاع وقوف المستنصرية في العالم نيفًا وسبعين ألف مثقال، وكان ابتداء عمارتها في سنة خمس وعشرين، وتمت في سنة إحدى وثلاثين، ونقل إليها الكتب وهي مائة وستون حملًا من الكتب النفيسة، وعدد فقهائها مائتان وثمانية وأربعون فقيهًا من المذاهب الأربعة، وأربعة مدرسين، وشيخ حديث، وشيخ نحو، وشيخ طب، وشيخ فرائض، ورتب فيها الخبز والطبيخ، والحلاوة، والفاكهة، وجعل فيها ثلاثين يتمًا، ووقف عليها ما لا يعبر عنه كثرة -ثم سرد الذهبي القرى والرباع الموقوفة عليها- وقال: وفتحت يوم الخميس في رجب، وحضر القضاة والمدرسون والأعيان وسائر الدولة، وكان يومًا مشهودًا. ومن الحوادث في أيام المستنصر: في سنة ثمانٍ وعشرين أمر الملك الأشرف صاحب دمشق ببناء دار الحديث الأشرفية، وفرغت في سنة ثلاثين. وفي سنة اثنتين وثلاثين أمر المستنصر بضرب الدراهم الفضية ليتعامل بها بدلًا عن قراضة الذهب، فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفرشت الأنطاع، وأفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين لمعاملتكم بهذه الدراهم، عوضًا عن قراضة الذهب رفقًا بكم وإنقاذًا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي، فأعلنوا بالدعاء، ثم أديرت بالعراق، وسعرت كل عشرة بدينار، فقال الموفق أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد. لا عدمنا جميل رأيك فينا ... أنت باعدتنا عن التطفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ورسمت اللجين حتى ألفناه ... وما كان قبل بالمألوف ليس للجمع كان منعك للصر ... ف ولكن للعدل والتعريف وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة ولي قضاء دمشق شمس الدين أحمد الجوني، وهو أول قاضي رتب مراكز الشهود بالبلد، وكان قبل ذلك يذهب الناس إلى بيوت العدول يشهدونهم. وفيها مات الأخوان السلطان الأشرف صاحب دمشق، والكامل صاحب مصر بعده بشهرين، وتسلطن بمصر ولد الكامل قلامة ولقب بالعادل، ثم خلع وتملك أخوه الصالح أيوب نجم الدين. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة، ولي خطابة دمشق الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فخطب خطبة عرية من البدع، وأزال الأعلام المذهبة، وأقام هو عوضها سودًا بأبيض، ولم يؤذن قدامه سوى مؤذن واحد، وفيها قدم رسول الأمين الذي تملك اليمن نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني إلى الخليفة يطلب تقليد السلطنة باليمن بعد موت الملك المسعود ابن الملك الكامل، وبقي الملك في بيته إلى سنة خمس وستين وثمانمائة. وفي سنة تسع وثلاثين وستمائة بنى الصالح صاحب مصر المدرسة التي بين القصرين والقلعة التي بالروضة، ثم أخرب غلمانه القلعة المذكورة سنة إحدى وخمسين وستمائة. وفي سنة أربعين وستمائة توفي المستنصر يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، ورثاه الشعراء، فمن ذلك قول صفي الدين عبد الله بن جميل. ومن مناقب المستنصر أن الوجيه القيرواني مدحه بقصيدة يقول فيها: لو كنت في يوم السقيفة حاضرًا ... كنت المقدم والإمام الأورعا فقال له قائل بحضرته: أخطأت قد كان حاضرًا العباس جد أمير المؤمنين، ولم يكن المقدم إلا أبا بكر، فأقر ذلك المستنصر وخلع على قائل ذلك خلعة، وأمر بنفي الوجيه، فخرج إلى مصر. حكاها الذهبي. وممن مات في أيام المستنصر من الأعلام: الإمام أبو القاسم الرافعي، والجمال المصري، وابن معزوز النحوي، وياقوت الحموي، والسكاكي صاحب: المفتاح، والحافظ أبو الحسن بن القطان، ويحيى بن معطي صاحب: الألفية، في النحو، والموفق عبد اللطيف البغدادي، والحافظ أبو بكر بن نقطة، والحافظ عز الدين علي بن الأثير صاحب التاريخ والأنساب وأسد الغابة، وابن عتبي الشاعر، والسيف الآمدي، وابن فضلان، وعمر بن الفارض صاحب التائية، والشهاب السهرودي صاحب عوارف المعارف، والبهاء بن شداد، وأبو العباس العوفي صاحب المولد النبوي، والعلامة أبو الخطاب بن دحية، وأخوه أبو عمر، والحافظ أبو الربيع بن سالم صاحب الاكتفاء، في المغازي، وابن الشواء الشاعر، والحافظ ذكي الدين البرزالي، والجمال الحصري شيخ الحنفية، والشمس الجوبي، والحراني، وأبو عبد الله الزيني، وأبو البركات بن المستوفى، والضياء بن الأثير صاحب: المثل السائر، وابن عربي صاحب: الفصوص، والكمال بن يونس شارح: التنبيه، وخلائق آخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 المستعصم بالله أبو أحمد بن المستنصر بالله 1 المستعصم بالله: أبو أحمد بن عبد الله بن المستنصر بالله، آخر الخلفاء العراقيين. ولد سنة تسع وستمائة، وأمه أم ولد اسمها هاجر، وبويع له بالخلافة عند موت أبيه، وأجاز له على يد ابن النجار المؤيد الطوسي وأبو روح الهروي وجماعة، وروى عنه بالإجازة جماعة: منهم النجم البادرائي، والشرف الدمياطي، وخرج له الدمياطي أربعين حديثًا رأيته بخطه، وكان كريمًا حليمًا، سليم الباطن، حسن الديانة. قال الشيخ قطب الدين: كان متدينًا، متمسكًا بالسنة كأبيه وجده، ولكنه لم يكن مثلهما في التيقظ والحزم، وعلو الهمة، وكان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة والشهامة، كان يقول: إن ملكني الله الأمر لأعبرن بالجيوش نهر جيحون، وأنتزع البلاد من التتار وأستأصلهم، فلما توفي المستنصر لم يرَ الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمر، وخافوا منه، وآثروا المستعصم للينه وانقياده؛ ليكون لهم الأمر فأقاموه، ثم ركن المستعصم إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي، فأهلك الحرث والنسل، ولعب بالخليفة كيف أراد، وباطن التتار، وناصحهم، وأطمعهم في المجيء إلى العراق، وأخذ بغداد، وقطع الدولة العباسية، ليقيم خليفة من آل علي، وصار إذا جاء خبر منهم كتمه عن الخليفة ويطالع بأخبار الخليفة التتار إلى أن حصل ما حصل. وفي سنة سبع وأربعين من أيامه أخذت الفرنج دمياط، والسلطان الملك الصالح مريض، فمات ليلة نصف شعبان، فأخفت جاريته أم خليل المسماة شجرة الدر موته، وأرسلت إلى ولده توران شاه الملك المعظم، فحضر، ثم لم يلبث أن قتل في المحرم سنة ثمانٍ وأربعين وستمائة، وثب عليه غلمان أبيه فقتلوه، وأمروا عليه جارية أبيه شجرة الدر وحلف لها الأتراك ولنائبها عز الدين أيبك التركماني، فشرعت شجرة الدر في الخلع للأمراء والأعطيات. ثم استقل عز الدين بالسلطنة في ربيع الآخر ولقب بالملك المعز ثم تنصل منها، وحلف العسكر للملك الأشرف ابن صلاح الدين يوسف بن المسعود بن الكامل، وله ثماني سنين، وبقي عز الدين أتابكه، وخطب لهما، وضربت السكة باسمهما. وفي هذه السنة -أعني سنة ثمانٍ- استردت دمياط من الفرنج. وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة ظهرت نار في أرض عدن، وكان يطير شررها في الليل إلى البحر، ويصعد منها دخان عظيم في النهار، وفيها أبطل المعز اسم الملك الأشرف، واستقل بالسلطنة. وفي سنة أربع وخمسين ظهرت النار بالمدينة النبوية. قال أبو شامة: جاءنا كتب من المدينة فيها: لما كانت ليلة الأربعاء، ثالث جمادى الآخرة   1 تولى الخلافة 640هـ، وحتى 659هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ظهر بالمدينة دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة، فكانت ساعة بعد ساعة إلى خامس الشهر، فظهرت نار عظيمة في الحرة قريبًا من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وسالت أودية منها إلى وادي شطا سيل الماء، وطلعنا نبصرها، فإذا الجبال تسيل نارًا، وسارت هكذا وهكذا بين نيران كأنها الجبال، وطار منها شرر كالقصر إلى أن أبصر ضوؤها من مكة ومن الفلاة جميعها، واجتمع الناس كلهم إلى القبر الشريف مستغفرين تائبين، واستمرت هكذا أكثر من شهر. قال الذهبي: أمر هذه النار متواتر، وهي مما أخبر به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى" 1، وقد حكى غير واحد ممن كان ببصرى في الليل ورأى أعناق الإبل في ضوئها. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة مات المعز أيبك سلطان مصر، قتلته زوجته شجرة الدر، وسلطنوا بعده ولده الملك المنصور على هذا، والتتار جائلون في البلاد، وشرهم متزايد، ونارهم تستعر، والخليفة والناس في غفلة عما يراد بهم، والوزير العلقمي حريص على إزالة الدولة العباسية ونقلها إلى العلوية، والرسل في السر بينه وبين التتار، والمستعصم تائه في لذاته، لا يطلع على الأمور، ولا له غرض في المصلحة. وكان أبوه المستنصر قد استكثر من الجند جدًّا، وكان مع ذلك يصانع التتار ويهادنهم ويرضيهم، فلما استخلف المستعصم كان خليًّا من الرأي والتدبير، فأشار إليه الوزير بقطع أكثر الجند، وأن مصانعة التتار وإكرامهم يحصل به المقصود، ففعل ذلك. ثم إن الوزير كاتب التتار، وأطمعهم في البلاد، وسهل عليهم ذلك، وطلب أن يكون نائبهم، فوعدوه بذلك، وتأهبوا لقصد بغداد. شرح حال التتار ملخصًا قال الموفق عبد اللطيف في خبر التتار: هو حديث يأكل الأحاديث، وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ ينسي التواريخ، ونازلة تصغر كل نازلة، وفادحة تطبق الأرض، وتملؤها ما بين الطول والعرض. وهذه الأمة لغتهم مشوبة بلغة الهند، لأنهم في جوارهم، وبينهم وبين مكة أربعة أشهر، وهم بالنسبة إلى الترك عراض الوجوه واسعوا الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، سمر الألوان، سريعوا الحركة في الجسم والرأي، تصل إليهم أخبار الأمم، ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، وقلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم؛ لأن الغريب لا يتشبه بهم، وإذا أرادوا جهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة واحدة، فلا يعلم بهم أهل بلد حتى يدخلوه، ولا عسكر حتى يخالطوه، فلهذا تفسد على الناس وجوه الحيل، وتضيق طرق الهرب، ونساؤهم   1 أخرجه البخاري "7118/13"، ومسلم "2902/4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يقاتلن كرجالهم، والغالب على سلاحهم النشاب، وأكلهم أي لحم وجد، وليس في قتلهم استثناء، ولا إبقاء، يقتلون الرجال والنساء والأطفال، وكان قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال. وقال غيره: أرض التتار بأطراف بلاد الصين، وهم سكان براري، ومشهورون بالشر والغدر. وسبب ظهورهم أن إقليم الصين متسع، دوره ستة أشهر، وهو ست ممالك، ولهم ملك حاكم على الممالك الست هو القان الأكبر المقيم بطمغاج، وهو كالخليفة للمسلمين. وكان سلطان إحدى الممالك الست وهو: دوش خان، قد تزوج بعمة جنكز خان، فحضر زائرًا لعمته، وقد مات زوجها، وكان قد حضر مع جنكز خان كشلوخان، فأعلمتهما أن الملك لم يخلف ولدًا، وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه، فقام، وانضم إليه خلق من المغول، ثم سير التقادم إلى القان الأكبر، فاستشاط غيظًا، وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت، وطردها، وقتل الرسل؛ لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة بتملك، وإنما هم بادية الصين، فلما سمع جنكزخان، وصاحبه كشلوخان تحالفا على التعاضد وأظهرا الخلاف للقان، وأتتهما أمم كثيرة من التتار، وعلم القان قوتهم وشرهم فأرسل يؤانسهم ويظهر مع ذلك أن ينذرهم ويهددهم، فلم يغن ذلك شيئًا، ثم قصدهم وقصدوه، فوقع بينهم ملحمة عظيمة، فكسروا القان الأعظم، وملكوا بلاده، واستفحل شرهم، واستمر الملك بين جنكزخان وكشلوخان على المشاركة. ثم سار إلى بلاد شاقون من نواحي الصين فملكاها، فمات كشلوخان، فقام مقامه ولده، فاستضعفه جنكز خان فوثب وظفر به، واستقل جنكز خان، ودانت له التتار، وانقادت له، واعتقدوا فيه الإلهية، وبالغوا في طاعته. ثم كان أول خرجوهم في سنة ست وستمائة من بلادهم إلى نواحي الترك وفرغانة، فأرسل خوارزم شاة محمد بن تكش صاحب خراسان الذي أباد الملوك وأخذ الممالك، وعزم على قصد الخليفة، فلم يتهيأ له كما تقدم، فأمر أهل فرغانة والشاش وكاسان وتلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء والجفلى إلى سمرقند وغيرها، ثم خربها جميعًا خوفًا من التتار أن يملكوها، لعلمه أنه لا طاقة لهم به. ثم صارت التتار يتخطفون وينتقلون إلى سنة خمس عشرة، فأرسل فيها جنكزخان إلى السلطان خوارزم شاه رسلًا وهدايا، وقال الرسول: القان الأعظم يسلم عليك ويقولك لك: ليس يخفى علي عظم شأنك، وما بلغت من سطانك ونفوذ حكمك على الأقاليم، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندي مثل أعز أولادي، وغير خافٍ أنني تملكت الصين، وأنت أخبر الناس ببلادي وأنها مثارات العساكر والخيول، ومعادن الذهب والفضة، وفيها كفاية عن غيرها، فإن رأيت أن تقعد بيننا المودة، وتأمر التجار بالسفر لتعلم المصلحتين فعلت، فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه، وبشر جنكزخان بذلك، واستمر الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 على المهادنة إلى أن وصل بلاده تجار. وكان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر، ومعه عشرون ألف فارس، فشرهت نفسه إلى أموال التجار، وكاتب السلطان يقول: إن هؤلاء القوم قد جاءوا بزي التجار، وما قصدهم إلا التجسس، فإن أذنت لي فيهم، فأذن له بالاحتياط عليهم، فقبض عليهم وأخذ أموالهم، فوردت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول: إنك أعطيت أمانك التجار فغدرت، والغدر قبيح، وهو من سلطان الإسلام أقبح، فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا، وإلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به، فحصل عند خوارزم شاه من الرعب ما خامر عقله، فتجلد، وأمر بقتل الرسل، فقتلوا. فيا لها من حركة لما أهدرت من دماء المسلمين وأجرت بكل نقطة سيلًا من الدم. ثم سار جنكزخان إليه، فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور، ثم ساق إلى برج همذان رعبًا من التتار، فأحدق به العدو، فقتلوا كل من معه، ونجا هو بنفسه، فخاض الماء إلى جزيرة، ولحقته علة ذات الجنب، فمات بها وحيدًا فريدًا، وكفن في شاش فراش كان معه، وذلك في سنة سبع عشرة، وملكوا جميع مملكة خوارزم شاه. قال سبط ابن الجوزي: كان أول ظهور التتار بما وراء النهر سنة خمس عشرة، فأخذوا بخارى وسمرقند، وقتلوا أهلها، وحاصروا خوارزم شاه، ثم بعد ذلك عبروا النهر، وكان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان فلم تجد التتار أحدًا في وجههم، فطاروا في البلاد قتلًا وسبيًا، وساقوا إلى أن وصلوا إلى همذان وقزوين في هذه السنة. وقال ابن الأثير في كامله: حادثة التتار من الحوادث العظمى والمصائب الكبرى، التي عقمت الدهور عن مثلها عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلقه الله تعالى إلى اليوم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لا تتضمن ما يقاربها. ومن أعظم ما يذكرون فعل بختنصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام؟ وما بنوا إسرائيل بالنسبة إلى ما قتلوا؟ فهذه الحادثة التي استطار شرها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب، استدبرته الريح، فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاد شاغرق ثم منها إلى بخارى وسمرقند فيملكونها، ويبيدون أهلها، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها هلكًا وتخريبًا وقتلًا وإبادة، وإلى الري وهمذان إلى حد العراق، ثم يقصدون أذربيجان ونواحيها ويخربونها ويستبيحونها في أقل من سنة، أمر لم يسمع بمثله، ثم صاروا من أذربيجان إلى دربند شروان، فملكوا مدنها وعبروا من عندها إلى بلاد اللان، واللكز، فقتلوا وأسروا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم أكثر من الترك عددًا، فقتلوا من وقف وهرب الباقون، واستولى التتار عليها. ومضت طائفة أخرى غير هؤلاء إلى غزنة وأعمالها، وسجستان، وكرمان، ففعلوا مثل هؤلاء، بل أشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 هذا لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، وإنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، وإنما رضي بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأعمره في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يتركوها إلا وهو خائف يترقب وصولهم إليه. ثم إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة1، ومددهم يأتيهم، فإن معهم الأغنام والبقر والخيل يأكلون لحومها، لا غير. وأما خيلهم فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات، ولا تعرف الشعير. وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، ويأكلون جميع الدواب، وبني آدم، ولا يعرفون نكاحًا، بل المرأة يأتيها غير واحد. ولما دخلت سنة ست وخمسين وصل التتار إلى بغداد، وهم مائتا ألف، ويقدمهم هولاكوا، فخرج إليهم عسكر الخليفة، فهزم العسكر. ودخلوا بغداد يوم عاشوراء، فأشار الوزير -لعنه الله- على المستعصم بمصانعتهم وقال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح، فخرج وتوثق بنفسه منهم، وورد إلى الخليفة، وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يريد ألا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف عنك بجيوشه، فليجب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، والرأي أن تخرج إليه، فخرج إليه في جمع من الأعيان، فأنزل في خيمة. ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد، فضربت أعناقهم، وصار كذلك: تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم، حتى قتل جميع من هناك من العلماء والأمراء والحجاب والكبار. ثم مد الجسر، وبذل السيف في بغداد، واستمر القتال فيها نحو أربعين يومًا، فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف نسمة، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وقتل الخليفة رفسًا. قال الذهبي: وما أظنه دفن، وقتل معه جماعة من أولاده وأعمامه، وأسر بعضهم، وكانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها، ولم يتم للوزير ما أراد، وذاق من التتار الذل والهوان، ولم تطل أيامه بعد ذلك، وعملت الشعراء قصائد مراثي بغداد وأهلها وتمثل بقول سبط التعاويذي: بادت وأهلوها معًا فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب وقال بعضهم:   1 الميرة: هي جلب الطعام، وامتار لعياله أي جلب لهم الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 يا عصبة الإسلام نوحي واندبي ... حزنًا على ما تم للمستعصم دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي وكان آخر خطبة خطبت ببغداد، قال الخطيب في أولها: الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، هذا والسيف قائم بها، ولتقي الدين بن أبي السير قصيدة مشهورة في بغداد، وهي هذه: لسائل الدمع عن بغداد أخبار ... فما وقوفك والأحباب قد ساروا يا زائرين إلى الزوراء لا تغدو ... فما بذاك الحمى والدار ديار تاج الخلافة والربع الذي شرفت ... بها المعالم قد عفاه إقفار أحضى لعصف البلى في ربعه أثر ... وللدموع على الآثار آثار يا نار قلبي من نار لحرب وغى ... شبت عليه ووافى الربع إعصار علا الصليب على أعلى منابرها ... وقام بالأمر من يحويه زنار وكم حريم سبته الترك غاصبة ... وكان من دون ذاك الستر أستار وكم بدور على البدرية انخسفت ... ولم يعد لبدور منه أبدار؟ وكم ذخائر أضحت وهي شائعة ... من النهاب وقد حازته كفار وكم حدود أقيمت من سيوفهم ... على الرقاب وحطت فيه أوزار ناديت والسبي مهتوك تجر بهم ... إلى السفاح من الأعداء دعار ولما فرغ هولاكو من قتل الخليفة وأهل بغداد، وأقام على العراق نوابه، وكان ابن العلقمي حسن لهم أن يقيموا خليفة علويًّا، فلم يوافقوه واطرحوه وصار معهم في صورة بعض الغلمان ومات كمدًا لا رحمه الله ولا عفا عنه. ثم أرسل هلاكو إلى الناصر صاحب دمشق كتابًا صورته: يعلم السلطان الملك الناصر طال بقاؤه أنه لما توجهنا إلى العراق وخرج إلينا جنودهم، فقتلناهم بسيف الله، ثم خرج إلينا رؤساء البلد ومقدموها، فكان قصارى كلامهم سببًا لهلاك نفوس تستحق الإهلاك، وأما ما كان من صاحب البلدة فإنه خرج إلى خدمتنا، ودخل تحت عبوديتنا، فسألناه عن أشياء كذبنا فيها، فاستحق الإعدام، وكان كذبه ظاهرًا، ووجدوا ما عملوا حاضرًا، أجب ملك البسيطة ولا تقولن: قلاعي المانعات، ورجالي المقاتلات، وقد بلغنا أن شذرة من العسكر التجأت إليك هاربة، وإلى جانبك لائذة: أين المفر ولا مفر لهارب ... ولنا البسيطان الثرى والماء فساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضًا، وطولها عرضًا، والسلام. ثم أرسل له كتابًا ثانيًا يقول فيه: خدمة ملك ناصر طال عمره أما بعد: فإنا فتحنا بغداد، واستأصلنا ملكها وملكها، وكان قد ظن -وقد فتن الأموال، ولم ينافس في الرجال- أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ملكه يبقى على ذلك الحال، وقد علا ذكره ونمى قدره، فخسف في الكمال بدره: إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالًا إذا قيل تم ونحن في طلب الازدياد، على ممر الآباد، فلا تكن كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأبد ما في نفسك: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، أجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره، وتنل بره، واسع إليه بأموالك ورجالك، ولا تعوق رسلنا، والسلام. ثم أرسل إليه كتابًا ثالثًا يقول فيه: أما بعد، فنحن جنود الله، بنا ينتقم ممن عتا وتجبر، وطغى وتكبر، وبأمر الله ما ائتمر، إن عوتب تنمر، وإن روجع استمر، ونحن قد أهلكنا البلاد، وأبدنا العباد، وقتلنا النسوان والأولاد فيا أيها الباقون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الغافلون أنتم إليها تساقون، ونحن جيوش الهلكة، لا جيوش الملكة مقصودنا الانتقام، وملكنا لا يرام، ونزيلنا لا يضام، وعدلنا في مكنا قد اشتهر، ومن سيوفنا أين المفر. أين المفر ولا مفر لهارب ... ولنا البسيطان الثرى والماء ذلت لهيبتنا الأسود، وأصبحت ... في قبضتي الأمراء والخلفاء ونحن إليكم صائرون، ولكم الهرب وعلينا الطلب: ستعلم ليلى أي دين تداينت؟ ... وأي غريم بالتقاضي غريمها؟ دمرنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأهلكنا العباد وأذقناهم العذاب، وجعلنا عظيمهم صغيرًا، وأميرهم أسيرًا، تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليل سوف تعلمون على ما تقدمون، وقد أعذر من أنذر. ثم دخلت سنة سبع وخمسين والدنيا بلا خليفة. وفيها نزل التتار على آمد، وكان صاحب مصر المنصور على بن المعز صبيًّا، وأتابكه الأمير سيف الدين قطز المعزي مملوك أبيه، وقدم الصاحب كمال الدين بن العديم إليهم رسولًا يطلب النجدة على التتار، فجمع قطز الأمراء، والأعيان، فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام -وكان المشار إليه بالكلام- فقال الشيخ عز الدين: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ الأموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا. ثم بعد أيام يسيرة قبض قطز على ابن أستاذه المنصور، وقال: هذا صبي، والوقت صعب، ولابد من أن يقوم رجل شجاع ينتصب للجهاد، وتسلطن قطز، ولقب بـ: الملك المظفر. ثم دخلت سنة ثمانٍ وخمسين، والوقت أيضًا بلا خليفة. وفيها قطع التتار الفرات، ووصلوا إلى حلب، وبذلوا السيف فيها، ثم وصلوا إلى دمشق وخرج المصريون في شعبان متوجهين إلى الشام لقتال التتار، فأقبل المظفر بالجيوش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وشاليشه ركن الدين بيبرس البندقداري، فالتقوا هم والتتار عند عين جالوت، ووقع المصاف وذلك يوم الجمعة خامس عشر من رمضان، فهزم التتار شر هزيمة، وانتصر المسملون ولله الحمد وقتل من التتار مقتلة عظيمة، وولوا الأدبار، وطمع الناس فيهم يتخطفونهم وينهبونهم، وجاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر، فطار الناس فرحًا، ثم دخل المظفر إلى دمشق مؤيدًا منصورًا، وأحبه الخلق غاية المحبة، وساق بيبرس وراءه التتار إلى بلاد حلب وطردهم عن البلاد، ووعده السلطان بحلب، ثم رجع عن ذلك فتأثر بيبرس من ذلك، وكان ذلك مبدأ الوحشة، وكان المظفر عزم على التوجه إلى حلب لينظف آثار البلاد من التتار، فبلغه أن بيبرس تنكر له وعمل عليه، فصرف وجهه عن ذلك، ورجع إلى مصر وقد أضمر الشر لبيبرس، وأسر ذلك إلى بعض خواصه، فأطلع على ذلك بيبرس، فساروا إلى مصر وكل منهما محترس من صاحبه، فاتفق بيبرس وجماعة من الأمراء على قتل المظفر، فقتلوه في الطريق في ثالث عشر من شهر ذي القعدة، وتسلطن بيبرس ولقب بالملك القاهر، ودخل مصر، وأزال عن أهلها ما كان المظفر قد أحدثه عليهم من المظالم، وأشار عليه الوزير زين الملة والدين ابن الزبير بأن يغير هذا اللقب وقال: ما لقب به أحد فأفلح، لقب به القاهر بن المعتضد، فخلع بعد قليل وسمل، ولقب ابن صاحب الموصل فسم، فأبطل السلطان هذا اللقب وتلقب بالملك الظاهر. ثم دخلت سنة تسع وخمسين، والوقت أيضًا بلا خليفة إلى رجب، فأقيمت بمصر الخلافة، وبويع المستنصر كما سنذكره، كان مدة انقطاع الخلافة ثلاث سنين ونصفًا. وممن مات في أيام المستعصم من الأعلام: الحافظ تقي الدين الصريفيني، والحافظ أبو القاسم بن الطيلسان، وشمس الأئمة الكردي من كبار الحنفية، والشيخ تقي الدين بن الصلاح، والعلم السخاوي، والحافظ محب الدين بن النجار مؤرخ بغداد، ومنتخب الدين شارح المفصل، وابن يعيش النحوي، وأبو الحجاج الأقصري الزاهد، وأبو علي الشلوبيني النحوي وابن البيطار صاحب المفردات، والعلامة جمال الدين بن الحاجب إمام المالكية، وأبو الحسن بن الدباج النحوي، والقفطي صاحب تاريخ النحاة، وأفضل الدين الخونجي صاحب المنطق، والأزدي، والحافظ يوسف بن خليل، والبهاء ابن بنت الحميري، والجمال بن عمرون النحوي، والرضي الصغاني اللغوي صاحب العباب وغيره، والكمال عبد الواحد الزملكاني صاحب المعاني والبيان، وإعجاز القرآن، والشمس الخسرو شاهي، والمجد ابن تيمية ويوسف سبط ابن الجوزي، صاحب مرآة الزمان، وابن باطيش من كبار الشافعية، والنجم البادرائي، وابن أبي الفضل موسى صاحب التفسير، وخلائق آخرون. فصل: ومات في مدة الخلافة من الأعلام: الزكي عبد العظيم المنذري، والشيخ أبوالحسن الشاذلي شيخ الطائفة الشاذلية، وشعبة المقرئ، والفاسي شارح الشاطبية، وسعد الدين بن العزي الشاعر، والصرصوري الشاعر، وابن الآبار مؤرخ الأندلس، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 العباسيون في مصر : المستنصر بالله أحمد بن الظاهر بأمر الله 1 المسنتصر بالله: أحمد أبو القاسم بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أحمد. قال الشيخ قطب الدين: كان محبوسًا ببغداد، فلما أخذت التتار بغداد أطلق فهرب، وصار إلى عرب العراق، فلما تسلطن الملك الظاهر بيبرس، وفد عليه في رجب ومعه عشرة من بني مهارش، فركب السلطان للقائه ومعه القضاة والدولة، فشق القاهرة، ثم أثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، ثم بويع له بالخلافة، فأول من بايعه السلطان، ثم قاضي القضاة تاج الدين، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الكبار على مراتبهم، وذلك في ثالث عشر رجب، ونقش اسمه على السكة، وخطب له، ولقب بلقب أخيه، وفرح الناس، وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة، وصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس، ودعا فيها للسلطان والمسلمين، ثم صلى بالناس، ثم رسم بعمل خلعة خليفة السلطان، وبكتابة تقليد له، ثم نصب خيمة بظاهر القاهرة، وركب المستنصر بالله والسلطان يوم الاثنين رابع شعبان إلى الخيمة، وحضر القضاة والأمراء والوزير، فألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده وطوقه، ونصب منبر فصعد عليه فخر الدين بن لقمان فقرأ التقليد، ثم ركب السلطان بالخلعة، ودخل من باب النصر، وزينت القاهرة، وحمل الصاحب التقليد على رأسه راكبًا والأمراء مشاة. ورتب السلطان للخيفة أتابكًا، واستادارًا، وشرابيًا، وخازندارًا، وحاجبًا، وكاتبًا، وعين له خزانة، وجملة مماليك، مائة فرس، وثلاثين بغلًا، وعشرة قطارات جمال، إلى مثل ذلك. قال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد بعد ابن أخيه إلا هذا والمقتفي. وأما صاحب حلب الأمير شمس الدين أقوش، فإنه أقام بحلب خليفة ولقبه الحاكم بأمر الله، وخطب له، ونقش اسمه على الدراهم. ثم إن المستنصر هذا عزم على التوجه إلى العراق، فخرج معه السلطان يشيعه إلى أن دخلوا دمشق، ثم جهز السلطان الخليفة وأولاد صاحب الموصل، وغرم عليه وعليهم من الذهب ألف ألف دينار وستين درهم، فسار الخليفة ومعه ملوك الشرق وصاحب سنجار، فاجتمع به الخليفة الحلبي الحاكم، ودان له، ودخل تحت طاعته، ثم سار ففتح الحديثة، ثم هيت، فجاءه عسكر من التتار، فتصافوا له، فقتل من المسلمين جماعة، وعدم الخليفة المستنصر، فقيل: قتل وهو الظاهر، وقيل: سلم وهرب فأضمرته البلاد، وذلك في الثالث من المحرم   1 تولى الخلافة 659هـ وحتى 661هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 سنة ستين، فكانت خلافته دون ستة أشهر، وتولى بعده بسنة الحاكم الذي كان بويع بحلب في حياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الحاكم بأمر الله أبو العباس بن الحسن 1 الحاكم بأمر الله: أبو العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي -بضم القاف وتشديد الباء الموحدة- ابن الخليفة المسترشد بالله بن المستظهر بالله. كان قد اختفى وقت أخذ بغداد ونجا، ثم خرج منها وفي صحبته جماعة، فقصد حسين بن فلاح أمير بني خفاجة، فأقام عنده مدة، ثم توصل مع العربي إلى دمشق، وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا مدة، فطالع به الناصر صاحب دمشق، فأرسل يطلبه فبغته مجيء التتار، فلما جاء الملك المظفر دمشق سير في طلبه الأمير قلج البغدادي، فأجمع به وبايعه بالخلافة وتوجه في خدمته جماعة من أمراء العرب، فافتتح الحاكم غانة بهم، والحديثة، وهيت، والأنبار، وصاف التتار، وانتصر عليهم، ثم كاتبه علاء الدين طيبرس نائب دمشق يومئذ والملك الظاهر يستدعيه، فقدم دمشق في صفر، فبعثه إلى السلطان، وكان المستنصر بالله قد سبقه بثلاثة أيام إلى القاهرة، فما رأى أن يدخل إليها خوفًا من أن يمسك، فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها ورؤساؤها منهم عبد الحليم بن تيمية، وجمع خلقًا كثيرًا، وقصد غانة، فلما رجع المستنصر وافاه بغانة، فانقاد الحاكم له ودخل تحت طاعته، فلما عدم المستنصر في الوقعة المذكورة في ترجمته قصد الحاكم الرحبة وجاء إلى عيسى بن مهنا، فكاتب الملك الظاهر بيبرس فيه، فطلبه، فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعة، فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة، وامتدت أيامه، وكانت خلافته نفيًا وأبعين سنة، وأنزله الملك الظاهر بالبرج الكبير بالقلعة وخطب بجامع القلعة مرات. قال الشيخ قطب الدين: في يوم الخميس ثامن المحرم سنة إحدى وستين جلس السلطان مجلسًا عامًّا، وحضر الحاكم بأمر الله راكبًا إلى الإيواء الكبير بقلعة الجبل، وجلس مع السلطان، وذلك بعد ثبوت نسبه، فأقبل عليه السلطان وبايعه بإمرة المؤمنين، ثم أقبل هو على السلطان وقلده الأمور، ثم بايعه الناس على طبقاتهم، فلما كان من الغد يوم الجمعة خطب خطبة ذكر فيها الجهاد والإمامة، وتعرض إلى ما جرى من هتك حرمة الخلافة، ثم قال وهذا السلطان الملك الظاهر قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، وأول الخطبة: الحمد الله الذي أقام لآل العباس ركنا وطيدًا ثم كتب بدعوته إلى الآفاق. وفي هذه السنة وبعدها تواتر مجيء جماعة من التتار مسلمين مستأمنين، فأعطوا أخبازًا وأرزاقًا، فكان ذلك مبدأ كفاية شرهم.   1 تولى الخلافة سنة 661هـ، وحتى 701هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وفي سنة اثنتين وستين فرغت المدرسة الظاهرية بين القصرين وولي بها تدريس الشافعية التقي ابن رزين، وتدريس الحديث الشريف الدمياطي، وفيها زلزلت مصر زلزلة عظيمة. وفي سنة ثلاث وستين انتصر سلطان المسلمين بالأندلس أبو عبد الله بن الأحمر على الفرنج، واسترجع من أيديهم اثنتين: من جملتها إشبيلية ومرسية. وفيها كثر الحريق بالقاهرة في عدة مواضع، ووجدت لفائف فيها النار والكبريت على الأسطحة، وفيها حضر السلطان بحر أشمون، وعمل فيه بنفسه والأمراء، وفيها مات طاغية التتار هولاكو، وملك بعده ابنه أبغا. وفيها سلطن السلطان ولده الملك السعيد وعمره أربع سنين، وركبه بأبهة الملك في قلعة الجبل، وحمل الغاشية بنفسه بين يدي ولده من باب السر إلى باب السلسلة، ثم عاد وركب إلى القاهرة والأمراء مشاة بين يديه. وفيها جدد بالديار المصرية القضاة الأربعة، من كل مذهب قاضٍ، وسبب ذلك توقف القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز عن تنفيذ كثير من الأحكام، وتعطلت الأمور، وأبقى للشافي النظر في أموال الأيتام، وأمور بيت المال، ثم فعل ذلك بدمشق. وفي رمضان منها حجب السلطان الخليفة، ومنعه الناس لكون أصحابه كانوا يخرجون إلى البلد ويتكلمون في أمر الدولة. وفي سنة خمس وستين وستمائة أمر السلطان بعمل الجامع بالحسنية، وتم في سنة سبع وستين، وقرر له خطيب حنفي. وفي سنةأربع وسبعين وجه السلطان جيشًا إلى النوبة ودنقلة، فانتصروا وأسر ملك النوبة، وأرسل به إلى الملك الظاهر، ووضعت الجزية على أهل دنقلة، ولله الحمد. قال الذهبي: وأول ما غزيت النوبة في سنة إحدى وثلاثين من الهجرة، غزاها عبد الله بن أبي سرح في خمسة آلاف فارس ولم يفتحها، فهادنهم ورجع، ثم غزيت في زمن هشام، ولم تفتح، ثم في زمن المنصور، ثم غزاها تكن الزنكي، ثم كافور الإخشيدي، ثم ناصر الدولة ابن حمدان، ثم توران شاه أخو السلطان صلاح الدين في سنة ثمانٍ وستين وخمسمائة، ولم تفتح إلا هذا العام، وقال في ذلك ابن عبد الظاهر: هذا هو الفتح لا شيء سمعت به ... في شاهد العين لا ما في الأسانيد وفي سنة ست وسبعين مات الملك الظاهر بدمشق في المحرم، واستقل ابنه الملك السعيد محمد بالسلطنة وله ثماني عشرة سنة. وفيها جمع التقي ابن رزين بين قضاة مصر والقاهرة، وكان قضاء مصر قبل ذلك مفردًا عن قضاء القاهرة، ثم لم يفرد بعد ذلك قضاء مصر عن قضاة القاهرة. وفي سنة ثمانٍ وسبعين خلع الملك السعيد من السلطنة، وسير إلى الكرك سلطانًا بها، فمات من عامه، وولوا مكانه بمصر أخاه بدر الدين سلامش -وله سبع سنين- ولقبوه بالملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 العادل وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون وضرب السكة باسمه على وجه، ودعي لهما في الخطبة، ثم في رجب نزع سلامش من السلطنة بغير نزاع، وتسلطن قلاوون ولقب بالملك المنصور. وفي سنة تسع وسبعين يوم عرفة وقع بديار مصر برد كبار وصواعق. وفي سنة ثمانين وصل عسكر التتار إلى الشام، وحصل الرجيف، فخرج السلطان لقتالهم ووقع المصاف، وحصل مقتلة عظيمة، ثم حصل النصر للمسلمين والحمد لله. وفي سنة ثمانٍ وثمانين أخذ السلطان طرابلس بالسيف، وكانت في أيدي النصارى من سنة ثلاث وخمسمائة إلى الآن، وكان أول فتحها في زمن معاوية، وأنشأ التاج ابن الأثير كتابًا بالبشارة بذلك إلى صاحب اليمن يقول فيه: وكانت الخلفاء والملوك في ذلك الوقت ما فيهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكب على مجلس أنسه، يرى السلامة غنيمة، وإذا عن له وصف الحرب لم يسأل إلا عن طريق الهزيمة، قد بلغ أمله من الرتبة، وقنع بالسكة والخطبة، أموال تنهب، وممالك تذهب، لا يبالون بما سلبوا، وهم كما قيل: إن قاتلوا قتلوا، أو طاردوا طردوا ... أو حاربوا حربوا، أو غالبوا غلبوا إلى أن أوجد الله من نصر دينه، وأذل الكفر وشياطينه. وذكر بعضهم أن معنى طرابلس باللسان الرومي ثلاثة حصون مجتمعة. وفي سنة تسع وثمانين مات السلطان قلاوون في ذي القعدة، وتسلطن ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، فأظهر أمر الخليفة، وكان خاملًا في أيام أبيه، حتى إن أباه لم يطلب منه تقليدًا بالملك، فخطب الخليفة بالناس يوم الجمعة، وذكر في خطبته توليته للملك الأشرف أمر الإسلام. ولما فرغ من الخطبة صلى بالناس قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ثم خطب الخليفة مرة خطبة أخرى جهادية، وذكر بغداد وحرض على أخذها. وفي سنة إحدى وتسعين سافر السلطان فحاصر قلعة الروم. وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة قتل السلطان بتروجة، وسلطنوا أخاه محمد بن المنصور، ولقب بالملك الناصر، وله يومئذ تسع سنين، ثم خلع في المحرم سنة أربع وتسعين، وتسلطن كتبغا المنصوري، وتسمى بالملك العادل. وفي هذه السنة دخل في الإسلام قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك التتار وفرح الناس بذلك، وفشا الإسلام في جيشه. وفي سنة ست وتسعين وستمائة كان السلطان بدمشق، فوثب لاجين على السلطنة وحلف له الأمراء، ولم يختلف عليه اثنان، ولقب الملك المنصور وذلك في صفر، وخلع عليه الخليفة الخلعة السوداء، وكتب له تقليدًا وسير العادل على صرخد نائبًا بها، ثم قتل لاجين في جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وتسعين، وأعيد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 منفيًّا بالكرك، فقلده الخليفة، فسير العادل إلى حماة نائبًا بها، فاستمر إلى أن مات سنة اثنتين وسبعمائة. وفي سنة إحدى وسبعمائة توفي الخليفة الحاكم إلى رحمة الله، ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، وصلي عليه العصر بسوق الخيل تحت القلعة، وحضر جنازته رجال الدولة والأعيان كلهم مشاة، ودفن بقرب السيدة نفيسة، وهو أول من دفن منهم هناك، واستمر مدفنهم إلى الآن، وكان عهد بالخلافة لولده أبي الربيعة سليمان. وممن مات في أيام الحاكم من الأعلام: الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والعلم اللورقي، وأبو القاسم القباري الزاهد، والزين خالد النابلسي، والحافظ أبو بكر بن سدي، والإمام أبو شامة، والتاج ابن بنت الأعز، وأبو الحسن بن عدلان، ومجد الدين بن دقيق العيد، وأبو الحسن بن عصفور النحوي، والكمال سلار الإربلي، وعبد الرحيم بن يونس صاحب: التعجيز، والقرطبي صاحب التفسير والتذكرة، والشيخ جمال الدين بن مالك، وولده بدر الدين، والنصير الطوسي رأس الفلاسفة وخلاصة التتار، والتاج بن السباعي خازن المستنصرية، والبرهان بن جماعة، والنجم الكاتبي المنطقي، والشيخ محيي الدين النووي، والصدر سليمان إمام الحنفية، والتاج بن ميسر المؤرخ، والكواشي المفسر، والتقي ابن رزين، وابن خلكان صاحب وفيات الأعيان، وابن إياز النحوي، وعبد الحليم بن تيمية، وابن جعوان، وناصر الدين بن المنير، والنجم بن البارزي، والبرهان النسفي صاحب التصانيف في الخلاف والكلام، والرضي الشاطبي اللغوي، والجمال الشريشي، والنفيسي شيخ الأطباء، وأبو الحسين بن أبي الربيع النحوي، والأصبهاني شارح المحصول، والعفيف التلمساني الشاعر المنسوب إلى الإلحاد، والتاج بن الفركاح، والزين بن المرحل، والشمس الجوني، والعز الفاروقي، والمحب الطبري، والتقي ابن بنت الأعز، والرضي بن القسطنطيني، والبهاء ابن النحاس النحوي، وياقوت المستعصمي صاحب الخط المنسوب، وخلائق آخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 المستكفي بالله أبو الربيع بن الحاكم بأمر الله 1 المستكفي بالله: أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله. ولد في نصف المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة، واشتغل بالعلم قليلًا، وبويع بالخلافة بعهد من أبيه في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة، وخطب له على المنابر في البلاد، المصرية والشامية، وسارت البشارة بذلك إلى جميع الأقطار والممالك الإسلامية، وكانوا يسكنون بالكبش، فنقلهم السلطان إلى القلعة، وأفرد لهم دارًا. وفي سنة اثنتين هجم التتار على الشام، فخرج السلطان ومعه الخليفة لقتالهم، فكان النصر عليهم، وقتل من التتار مقتلة عظيمة، وهرب الباقون. وفيها زلزلت مصر والشام زلزلة عظيمة، هلك فيها خلق تحت الهدم.   1 تولى الخلافة 701هـ وحتى 740هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وفي سنة أربع أنشأ الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري الوظائف والدروس بجامع الحاكم، وجدده بعد خرابه من الزلزلة، وجعل القضاة الأربعة مدرسي الفقه، وشيخ الحديث: سعد الدين الحارسي، وشيخ النحو: أبا حيان. وفي سنة ثمانٍ خرج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قاصدًا للحج، فخرج من مصر في شهر رمضان المعظم، وخرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم، فلما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر فلما توسط انكسر به فسلم من كان قدامه وقفز به الفرس فنجا وسقط من وراءه فكانوا خمسين، فمات أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي تحته، وأقام السلطان بالكرك، ثم كتب كتابًا إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة، فأثبت ذلك القضاة بمصر، ثم نفذ على قضاة الشام، وبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالسلطنة في الثالث والعشرين من شهر شوال ولقب الملك المظفر وقلده الخليفة، وألبسه الخلعة السوداء والعمامة المدورة، ونفذ التقليد إلى الشام في كيس أطلس أسود فقرئ هناك، وأوله: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. ثم عاد الملك الناصر في رجب سنة تسع يطلب عوده إلى الملك، ومالأه على ذلك جماعة من الأمراء، فدخل دمشق في شعبان، ثم دخل مصر يوم عيد الفطر وصعد القلعة، وكان المظفر بيبرس فر في جماعة من أصحابه قبل قدومه بأيام، ثم أمسك وقتل من عامه، وقال: العلاء الوداعي في عود الناصر إلى الملك. الملك الناصر قد أقبلت ... دولته مشرقة الشمس عاد إلى كرسيه مثل ما ... عاد سليمان إلى الكرسي وفي هذه السنة تكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض وأنهم قد التزموا للديون ألف دينار كل سنة زيادة على الجالية، فقام الشيخ تقي الدين بن تيمية في إبطال ذلك قيامًا عظيمًا وبطل ولله الحمد. وفيها أظهر ملك التتار خوبند الرفض في بلاده، وأمر الخطباء ألا يذكروا في الخطبة إلا علي بن أبي طالب، وولديه، وأهل البيت، واستمر ذلك إلى أن مات سنة ست عشرة، وولي ابنه أبو سعيد، فأمر بالعدل، وأقام السنّة والترضي عن الشيخين، ثم عثمان، ثم علي في الخطبة، وسكن كثير من الفتن ولله الحمد، وكان هذا من خير ملوك التتار وأحسنهم طريقة، واستمر إلى أن مات سنة ست وثلاثين، ولم يقم لهم بعده قائمة، بل تفرقوا شذر مذر. وفي سنة عشر زاد النيل زيادة كثيرة لم يسمع بمثلها، وغرق منها بلاد كثيرة وناس كثيرون وفي سنة أربع وعشرين زاد النيل أيضًا كذلك، ومكث على الأرض ثلاثة أشهر ونصفًا وكان ضرره أكثر من نفعه. وفي سنة ثمانٍ وعشرين عمرت سقوف المسجد الحرام بمكة والأبواب وظاهره مما يلي باب بني شيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وفي سنة ثلاثين أقيمت الجمعة بإيوان الشافعية من المدرسة الصالحية، بين القصرين، وذلك أول ما أقيمت بها. وفيها فرغ من الجامع الذي أنشأه قوصون خارج باب زويلة وخطب به، وحضره السلطان والأعيان، وباشر الخطابة يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني، ثم استقر في خطابته فخر الدين بن شكر. وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر السلطان بالمنع من رمي البندق، وألا تباع قسيه، ومنع المنجمين. وفيها عمل السلطان للكعبة بابًا من الأبنوس عليه صفائح فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفًا وثلاثمائة وكسر، وقلع الباب العتيق فأخذه بنو شيبة بصفائحه، وكان عليه اسم صاحب اليمن. وفي سنة ست وثلاثين وقع بين الخليفة والسلطان أمر، فقبض على الخليفة واعتقله بالبرج، ومنعه من الاجتماع بالناس، ثم نفاه في ذي الحجة سنة سبع إلى قوص هو وأولاده وأهله، ورتب لهم ما يكفيهم، وهم قريب من مائة نفس فإنا لله وإنا إليه راجعون، واستمر المستكفي بقوص إلى أن مات بها في شعبان سنة أربعين وسبعمائة، ودفن بها، وله بضع وخمسون سنة. وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: كان فاضلًا، جوادًا، حسن الخط جدًّا، شجاعًا، يعرف بلعب الأكرة ورمي البندق، وكان يجالس العلماء والأدباء، وله عليهم أفضال، ومعهم مشاركة، وكان بطول مدته يخطب له على المنابر حتى في زمن حبسه ومدة إقامته بقوص، وكان بينه وبين السلطان أولًا محبة زائدة، وكان يخرج مع السلطان إلى السرحات، ويلعب معه الكرة، وكانا كالأخوين. والسبب في الوقيعة بينهما أنه رفع إليه قصة عليها خط الخليفة بأن يحضر السلطان بمجلس الشرع الشريف، فغضب من ذلك، وآل الأمر إلى أن نفاه إلى قوص، ورتب له على واصل المكارم أكثر مما كان له بمصر. وقال ابن فضل الله في ترجمته من المسالك: كان حسن الجملة، لين الحملة. وممن مات في أيام المستكفي من الأعلام: قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ الشافعية، وشيخ دار الحديث وليها بعد وفاة النووي إلى الآن، ووليها بعده صدر الدين بن الوكيل، والشرف الفزاري، والصدر بن الزرير بن الحاسب، والحافظ شرف الدين الدمياطي، والضياء الطوسي، شارح: الحاوي، والشمس السروجي شارح: الهداية، من الحنفية، والإمام نجم الدين بن الرضعة إمام الشافعية في زمانه، والحافظ سعد الدين الحارثي، والفخر التوزي محدث مكة، والرشيد بن المعلم من كبار الحنفية، والأربوي، والصدر بن الوكيل شيخ الشافعية، والكمال بن الشريشي، والتاج التبريزي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 والفخر ابن بنت أبي سعد، والشمس بن أبي العز شيخ الحنفية، والرضي الطبري إمام مكة، والصفي أبو الثناء، ومحمود الأرموي، والشيخ نور الدين البكري، والعلاء بن العطار تلميذ الإمام النووي، والشمس الأصبهاني صاحب التفسير، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح التجريد، وغير ذلك، والتقي الصائغ المقرئ خاتمة مشايخ القراء، والشهاب محمود شيخ صناعة الإنشاء، والجمال بن مطهر شيخ الشيعة، والكمال بن قاضي شهبة، والنجم القمولي صاحب الجواهر والبحر، والكمال بن الزملكاني، والشيخ تقي الدين بن تيمية، وابن جبارة، شارح: الشاطبية، والنجم البالسي شارح: التنبيه، والبرهان الفزاري شيخ الشافعية، والعلاء القونوي شارح: الحاوي، والفخر التركماني من الحنفية شارح: الجامع الكبير، والملك المؤيد صاحب حماة الذي له تصانيف كثيرة منها نظم الحاوي، والشيخ ياقوت العرشي تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي، والبرهان الجعبري، والبدر بن جماعة، والتاج بن الفاكهاني، والفتح بن سيد الناس، والقطب الحلبي، والزين الكناني، والقاضي محيي الدين بن فضل الله، والركن بن القويع، والزين بن المرحل، والشرف بن البارزي، والجلال القزويني، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الواثق بالله إبراهيم بن المستمسك 1 الواثق بالله: إبراهيم ابن ولي العهد المستمسك بالله أبي عبد الله بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، كان جده الحاكم عهد إلى ابنه محمد، ولقبه المستمسك، فمات في حياته، فعهد إلى ابنه إبراهيم هذا ظنًّا أنه يصلح للخلافة، فرآه غير صالح لها لما هو فيه من الانهماك في اللعب ومعاشرة الأراذل، عدل عنه إلى المستكفي ابنه -أعني: ابن الحاكم- وهو عم إبراهيم، فكان إبراهيم هو السبب في الوقيعة بين الخليفة المستكفي، والسلطان بعد أن كانا أخوين كما كان يحمله إليه من النميمة به، حتى جرى ما جرى. فلما مات المستكفي بقوص، عهد إلى ابنه أحمد، فلم يلتفت إليه السلطان إلى ذلك، وبايع إبراهيم هذا، ولقب بالواثق إلى أن حضرت السلطان الوفاة على ما صدر منه، وعزل إبراهيم هذا، وبايع ولي العهد أحمد، ولقب الحاكم، وذلك أول المحرم سنة اثنتين وأربعين. قال ابن حجر: راجع الناس السلطان في أمر إبراهيم هذا ووسموه بسوء السيرة، فلم يلتفت إلى ذلك، ولم يزل الناس حتى بايعوه، وكان العامة يلقبونه المستعطي بالله. وقال ابن فضل الله في المسالك، في ترجمة الواثق: عهد إليه جده ظنًّا أنه يكون صالِحًا أو يجيب لداعي الخلافة صائحًا، فما نشأ إلا في تهتك، ولا دان إلا بعد تنسك، أغرى بالقاذورات، وفعل ما لم تدع إليه الضرورات، وعاشر السفلة والأراذل، وهان عليه من غرضه ما هو بازل، وزين له سوء عمله فرآه حسنًا، وعمي عليه فلم ير مسيئًا إلا محسنًا، وغواه اللعب بالحمام، وشرى الكباش للنطاح، والديوك للنقار، والمنافسة في المعز الزرائبية الطوال الآذان، وأشياء من هذا، ومثله مما يسقط المروءة ويثلم الوقار، وانضم إلى هذا سوء معاملة، ومشري سلع لا يوفي أثمانها، واستئجار دور لا يقوم بأجرها، وتحيل على درهم   1 تولى الخلافة سنة 740هـ وحتى 742هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 يملأ به كفه، وسحت يجمع به فمه، وحرام يطعم حرمه، حتى كان عرضة للهوان، وأكلة لأهل الأوان. فلما توفي المستكفي والسلطان عليه في حدة غضبه، وتياره المتحامل عليه في شدة غلبه، طلب هذا الواثق المغتر، والمائق إلا أنه غير المضطر، وكان ممن يمشي إلى السلطان في عمه بالنميمة، ويعقد مكائده على رأسه عقد التميمة، فحضر إليه وأحضر معه عهد جده، فتمسك السلطان في مبايعته بشبهته، وصرف في وجه الخلافة إلى جهته، وكان قد تقدم نقض ذلك العهد، ونسخ ذلك العقد، وقام قاضي القضاة أبو عمر بن جماعة في صرف رأي السلطان عن إقامة الخطبة باسم الواثق فلم يفعل، واتفق الرأيان على طرق الخطبة للاثنين، واكتفى فيها بمجرد ذكر اسم السلطان، فرحل بموت المستكفي اسم الخلافة عن المنابر كأنه ما علا ذروتها، وخلا الدعاء للخلفاء من المحاريب كأنه ما قرع بابها ومروتها، فكأنما كان آخر خلفاء بني العباس وشعارها عليه لباس الحداد، وأغمدوا تلك السيوف الحداد، ثم لم يزل الأمر على هذا حتى حضرت السلطان الوفاة، وقرع الموت صفاه، فكان مما أوصى به رد الأمر إلى أهله، وإمضاء عهد المستكفي لابنه، وقال: الآن حصحص الحق، وحنا على مخالفيه ورق، وعزل إبراهيم وهزل، وكان قد رعى البهم، وستر اللؤم بثياب أهل الكرم، وتسمن وشحمه ورم، وتسمى بالواثق وأين هو من صاحب هذا الاسم الذي طال ما سرى رعبه في القلوب، واقضت هيبته مضاجع الجنوب؟ وهيهات لا تعد من النسر التماثيل، ولا الناموسة وإن طال خرطومها كالفيل، وإنما سوق الزمان قد ينفق ما كسد، والهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد، وقد عاد الآن يعض يديه، ومن يهن يسهل الهوان عليه. هذا آخر كلام ابن فضل الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الحاكم بأمر الله أبو العباس بن المستكفي 1 الحاكم بأمر الله: أبو العباس أحمد بن المستكفي، كان أبوه لما مات بقوص عهد إليه بالخلافة، فقدم الملك الناصر عليه إبراهيم بن عمه، لما كان في نفسه من المستكفي، وكانت سيرة إبراهيم قبيحة، وكان القاضي عز الدين بن جماعة قد جهد كل الجهد في صرف السلطان عنه فلم يفعل، فلما حضرته الوفاة أوصى الأمراء برد الأمر إلى ولي عهد المستكفي ولده أحمد، فلما تسلطن المنصور أبو بكر بن الناصر عقد مجلسًا يوم الخميس حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، وطلب الخليفة إبراهيم وولي العهد أحمد والقضاة، وقال: من يستحق الخلافة شرعًا؟ فقال ابن جماعة: إن الخليفة المستكفي المتوفى بمدينة قوص أوصى بالخلافة من بعده لولده أحمد، وأشهد عليه أربعين عدلًا بمدينة قوص، وثبت ذلك عندي بعد ثبوته عند نائبي بمدينة قوص، فخلع السلطان حينئذ، إبراهيم، وبايع أحمد، وبايعه القضاة، ولقب الحاكم بأمر الله لقب جده. وقال ابن فضل الله في المسالك في ترجمته: هو إمام عصرنا، وغمام مصرنا، قام على   1 تولى الخلافة سنة 742هـ وحتى 753هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 غيظ العدا، وغرق بفيض الندى، وصارت له الأمور إلى مصائرها، وسيقت إليها بصائرها، فأحيا رسوم الخلافة، ورسم بما لم يستطع أحد خلافه، وسلك مناهج آبائه وقد طمست، وأحياها بمباهج أبنائه وقد درست، وجمع شمل بني أبيه وقد طال بهم الشتات، وأطال عذرهم وقد اختلف السبات، ورفع اسمه على ذرا المنابر وقد عبر مدة لا يطلع إلا في آفاقه تلك النجوم، ولا يسبح إلا في سبحة تلك الغيوم والسجوم، طلب بعد موت السلطان وأنفذ حكم وصيته، في تمام مبايعته والتزام متابعته، وكان أبوه قد أحكم له بالعقد المتقدم عقدها، وحفظ له عند ذوي الأمانة عهدها، ثم تسلطن الملك المنصور أبو بكر بن السلطان، وعمر له من تحت الملك الأوطان. قال ابن فضل الله: وقد كتبت له صورة المبايعة وهي: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} [الفتح: 10] إلى قوله: {عَظِيمًا} هذه بيعة رضوان، وبيعة إحسان، وجمعية رضا يشهدها الجماعة ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، ويحوم بسائرها ويحمل أنباءها البراري والبحار مشحونة الطرق، بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، ويتجارى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم لزهر الكواكب على حوض المجرة الدقاق، بيعة سعيدة ميمونة، شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، ملحوظة مرعية، بيعة تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجتمع عليها شتات البرية، بيعة يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام، بيعة متفق عليها الإجماع والاجتماع، ولبسط الأيدي إليها انعقد عليها الإجماع، فاعتقد صحتها من سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، وحصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقره الخصم وانقطع النزاع، يضمنها كتاب مرقوم يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس وإلينا ولله الحمد وإلى بني العباس، أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيم قل وجل، والولاة والحكام وأرباب المناصب والأحكام، ملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش ووجوه بني هاشم والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة وعامة الناس، بيعة ترى بالحرمين خيامها، وتخفق بالمأزمين أعلامها، وتعرف بعرفات بركاتها، وتعرف بمنى ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، وتؤم ما بين الركن والمقام والحجر، ولا يبتغي بها إلا وجه الله الكريم، بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة، شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متبعة مريحة، ولا من يوصف بعلم ولا قضاء، ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا ذو فتوى يسأل فيجيب، ولا لزم المساجد ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب، ولا محدث بحديث، ولا متكلم في قديم وحديث، ولا معروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساعٍ بقدم ولا طائر بجناح، ولا مخالط للناس ولا قاعدة في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يعلو فوق الفرقدين ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسر في باطن، ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي إبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا بدار ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد ولا جدار ولا ملجج في البحار الذاخرة والبراري والقفار، ولا من يعتلي صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها وترفع درجات بعضهم على بعض، حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها وأمن بها، ومنّ الله عليه وهداه إليها، وأقر بها وصدق، وغض لها بصره خاشعًا لها وأطرق، ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها، ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها، وقضي بينهم بالحق وقيل: الحمد لله رب العالمين. وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه وعوضه عن دار السلام بدار السلام، ونقله مزكى يديه عن شهادة الإسلام بشهادة الإسلام، حيث آثر بقربه، ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وخار له في جواره فريقًا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، الله أكبر ليومه لولا مخلفة كانت تضيق الأرض بما رحبت، تجزي كل نفس ما كسبت، وتنبأ كل سريرة ما ادخرت وما جنت، لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجانح، لقد اضطرب منبر وسرير لولا خلفه الصالح، لقد اضطر مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، ولم يكن في النسب العباسي ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء وجدود، ولا من تلده أخرى الليالي وهو عاقر غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد عقد نياتها وسر طوياتها إلا واحد، وأين ذاك الواحد؟ هو والله من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده الأخيار، ولا شيء هو إلا ما اشتمل عليه رداء الليل والنهار، وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه، المجمع على أنه في الأيام فرد هذا الأنام، وهكذا في الوجود الإمام، وأنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفاز بملك ما بين المشارق والمغارب، الراقي في صفح السماء هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين ونعم الخليفة، المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يعزه عادله ولا يغره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال بأمره وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته وابن عمه، وتابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 عمله الصالح ووارث عمله، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين، أيد الله ببقائه الدين، وطوق بسيفه الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكب بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره، ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولقى أسلافه، ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة، وخلا العصر من إمام يملك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي يقتفي على أثاره، ومضى ولم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له، وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم ير بائعه وقد مد يده طامعًا لمزيدها وقد تكلف، وأجمعوا على رأي واحد استخاروا الله فيها فخار وأخذ يمين يمد لها الأيمان، ويشهد بها الإيمان، ويعطي عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده، وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت له هذه البيعة ونية من حلف له، وتذمم بالوفاء له في ذمته وتكفله، على عادة أيمان البيعة وشروطها، وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لها الإمام المفترض الطاعة الطاعة، ولا يفارق الجمهور ولا يفر عن الجماعة الجماعة، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تم بميشئة الله تمامها، وعم بالصواب المغدق غمامها، وقالوا: الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الوافي لمن يضعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد الله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب إلا أن يقاتل أعداء الله بإمدادها، ويدأب بها من ارتقى منابر ممالكه بما بان من مباينة أضدادها، نحمده والحمد لله كلمة لا يمل من تردادها، ولا يحل بما تفوق السهام من سدادها، ولا يبطل لا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها. ونشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له شهادة تقايس دماء الشهداء وإمداد مدادها، وتنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها والليالي من دثارها والأعداء من حدادها. ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جماعة أهله ومن خلف من أبنائها وسلف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير مما يتحمله حمائم الطبائق من بدائع البيان، وسخر له من البريد على متون الخير ما سخره من الريح لسليمان، وآتاه الله من خاتم الأنبياء ما امتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به وما أطاعه كل مخلوق، ولم يتخلف، وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على ظل الهدب ما فضل به من سويداء القلب، وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليلة السجاد وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر وهو الجواد، يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه، ويبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، ومصالح الأعمال ثم تتحلى به الأيام، ويقدم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعًا على العين يحمله غصبًا على الرأس، ويعجل أمير المؤمنين بما استقر به النفوس، ويرد به كيد الشيطان وإنه يئوس، ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غني عن هذا ولكنه يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله عليه وخلقه بأن أقر ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وطرقات المماليك والثغور، برًّا وبحرًا، وسهلًا ووعرًا، شرقًا وغربًا، بعدًا وقربًا، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، ومالك ومملوك وأمير، وجندي يبرق له سيف شهير، ورمح ظهير، ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له من مال الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، واستمر كل امرئ على ما هو عليه، حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه، ومن ازداد تأهيله، زاد تفضيله، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابي أحدًا في دين الله، ولا يحابي في حق فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين، وكل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له وفهمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه تغييرًا شكرًا لله على نعمه، وهكذا يجازى من شكر، ولا يكدر على أحد موردًا نزه الله نعمه الصافية به على الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول إلا من جحد النعمة وكفر، ولا يتعلل متعلل، فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله ونعيد أيامه الغرر من الغير، وأمر أمير المؤمنين أعلى الله أمره أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق وأن يضرب باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق وجه الدرهم والدينار، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، ومختصره أن الله أمر بأوامر ونهى عن نواهٍ وهو رقيب، وسيفرغ الألباء لها السجايا، ويفرغ الخطباء لها شعوب الوصايا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وتتكمل بها المزايا، ويرق شجرها بالليل المقمر، ويرقم على جبين الصباح، تعظ بها مكة بطحاءها، ويحيا بحدائها قفاه، ويلقنها كل أب فهمه ابنه، ويسأل كل ابن نجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين من سدد عليكم بينة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل الله من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة ولولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله لكم من أبواب الأرزاق وأسباب الارتزاق، وأجراكم على وفاقكم وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإنفاق، ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعمل بما يسعد به من يحيا أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده ويزيد على من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد، وأمير المؤمنين يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل بره سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام، ويجهر السبيل على صالة، ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاهر ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام، ويقيم بعدله قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أينما كانوا وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضم إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفار ويسلم منهم على يديه، وأما الجهاد فكفى باجتهاد القائم أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكل منه خلد الله ملكه وسلطانه عينًا لا تنام، وقلد سيفًا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام، وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدا، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برًّا وبحرًا، ولا يكف عمن ظفر به منهم قتلًا ولا أسرًا، ولا يفك أغلالًا ولا إصرًا، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانًا وفي البحر غربانًا تحمل كل منهما من كل فارس صقرًا، ويحمي الممالك ممن يتخرق أطرافها بإقدام، وأمهات المماليك التي هي مرابط البنود ومرابط الأسود، والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة، والجناح الممدود، ويتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موضون، وبيض مسها ذهب ذائب فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب ورماح بسبب دوامها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسى وتفارقها فنحن حنين مفارق وتزمجر القوس زمجرة مغاضب. وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر، وأما جزيئات الأمور فقد علمتم أن من بعد عن أمير المؤمنين، غني عن مثل هذه الذكرى وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله عليكم أداء النصيحة، وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقه، ولزمه حكم بيعته وألزم طائره في عنقه، وسيعلم كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليمًا، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا. وهذا قول أمير المؤمنين، وقال: وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأل أن يمده لما يحب من الآمال، ولا يمد له حبل الإمهال. ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله وهو من خلق أحمد وقد آتاه الله ملك سليمان، والله يمتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، ولا يزال على سدة العلياء قعوده، ولدست الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره ولا أودى مهديه ولا رشيده. وقال ابن حجر في الدرر: كان أولًا لقب المستنصر ثم لقب الحاكم. ذكر الشيخ زين الدين العراقي أنه سمع الحديث على بعض المتأخرين، وأنه حدث، مات في الطاعون في نصف سنة ثلاث وخمسين. ومن الحوادث في أيامه: في عام ولايته خلع السلطان المنصور لفساده وشربه الخمور حتى قيل: إنه جامع زوجات أبيه، ونفي إلى قوص وقتل بها، فكان ذلك من الله مجازاة لما فعله والده مع الخليفة، وهذه عادة الله مع من يتعرض لأحد من آل العباس بأذى، وتسلطن أخوه الملك الأشرف كجك، ثم خلع من عامه وولي أخوه أحمد، ولقب بالناصر، وعقد المبايعة وبينه وبين الخليفة الشيخ تقي الدين السبكي قاضي الشام، وكان قد حضر معه مصر. وفي سنة ثلاث وأربعين خلع الناصر أحمد، وولي أخوه إسماعيل، ولقب بالصالح. وفي سنة ست وأربعين مات الصالح، فقلد الخليفه أخاه شعبان، ولقب بالكامل. وفي سنة سبع وأربعين قتل الكامل، وولي أخوه أمير حاج، ولقب بالمظفر. وفي سنة ثمانٍ وأربعين خلع المظفر، وولي أخوه حسن، ولقب بالناصر. وفي سنة تسع وأربعين كان الطاعون العام الذي لم يسمع بمثله. وفي سنة اثنتين وخمسين خلع الناصر حسن، وولي أخوه صالح، ولقب الملك المصالح وهو الثامن ممن تسلط من أولاد الناصر محمد بن قلاوون، وجعل شيخو أتابكة، قال في ذيل المسالك: وهو أول من سمي بمصر الأمير الكبير. وممن مات في أيام الحاكم من الأعلام: الحافظ أبو الحجاج المزي، والتاج عبد الباقي اليمني والشمس بن عبد الهادي، وأبو حيان، وابن الوردي، وابن اللبان، وابن عدلان، والذهبي، وابن فضل الله، وابن قيم الجوزية، والفخر المصري شيخ الشافعية بالشام والتاج المراكشي، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 المعتضد بالله أبو الفتح بن المستكفي بالله 1 المعتضد بالله: أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله. بويع بالخلافة بعد موت أخيه في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بعهد منه، وكان خَيِّرًا متواضعًا، محبًّا لأهل العلم، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة. ومن الحوادث في أيامه: في سنة أربع وخمسين قال ابن كثير وغيره: كان بطرابلس بنت تسمّى نفيسة، زوجت بثلاثة أزواج، ولا يقدرون عليها، يظنون أن بها رتقًا، فلما بلغت خمس عشرة سنة غار ثدياها، ثم جعل يخرج من محل الفرج شيء قليلًا قليلًا، إلى أن برز منه ذكر قد أصبع وأنثيان، وكتب ذلك في محاضر. وفي سنة خمس وخمسين خلع الملك الصالح، وأعيد الناصر حسن. وفي سنة ست وخمسين رسم بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه، وجعل كل أربعة وعشرين فلسًا بدرهم، وكان قبل ذلك الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم، ومن هنا يعرف مقدار الدراهم النقرة التي جعلها شيخو، وصرغتنمش لأرباب الوظائف في مدرستيهما، فمرادهما بالدرهم ثلثا رطل من الفلوس. وفي سنة اثنتين وستين قتل الناصر حسن، وولي محمد ابن أخيه المظفر، ولقب بالمنصور. وممن مات في أيام المعتضد من الأعلام: الشيخ تقي الدين السبكي، والسمين صاحب الإعراب، والقوام الإتقاني، والبهاء بن عقيل، والصلاح العلائي، والجمال بن هشام، والحافظ مغلطاي، وأبو أمامة بن النقاش، وآخرون.   1 تولى الخلافة سنة 753هـ، وحتى 763هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 المتوكل على الله أبو عبد الله بن المعتضد 1 المتوكل على الله: أبو عبد الله محمد بن المعتضد، والد خلفاء العصر. ولي الخلافة بعهد من أبيه بعد موته في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وامتدت أيامه خمسًا وأربعين سنة بما تخللها من خلع وحبس، كما سنذكره، وأعقب أولاد كثيرة، يقال: إنه جاء له مائة ولد ما بين مولود وسقط، ومات عن عدة ذكور وإناث، وولي الخلافة منهم خمسة، ولا نظير لذلك، المستعين العباس، والمعتضد داود، والمستكفي سليمان، والقائم حمزة، والمستنجد يوسف، وبقي من أولاده الآن واحد، يسمّى موسى، ما أشبه بإبراهيم بن المستكفي، والموجود الآن من العباسيين كلهم من ذرية المتوكل هذا، أكثر الله عددهم، وزاد مددهم. ومن الحوادث في أيامه: في سنة أربع وستين خلع المنصور محمد، وولي شعبان بن حسين ابن الناصر محمد بن قلاوون، ولقب بالأشراف. وفي سنة ثلاث وسبعين أحدثت العلامة الخضراء على عمائم الشرفاء ليتميزوا بها بأمر السلطان، وهذا أول ما أحدث.   1 تولى الخلافة سنة 763هـ، وحتى 805هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وقال في ذلك أبو عبد الله بن جابر الأعمى النحوي صاحب شرح الألفية المشهور بالأعمى والبصير: جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة في كريم وجوههم ... يغني الشريف عن الطراز الأخضر وفي هذه السنة كان ابتداء خروج الطاغية تمرلنك الذي أخرب البلاد، وأباد العباد، واستمر يعثوا في الأرض بالفساد، إلى أن أهلك إلى لعنة الله في سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة، وفيه قيل شعر: لقد فعلوا فعل التتار ولو رأوا ... فعال تمرلنك إذ كان أعظما وطائره في جلق كانا أشأما وكان أصله من بلاد الفلاحين، ونشأ يسرق ويقطع الطريق، ثم انضم إلى خدمة صاحب خيل السلطان، ثم قرر مكانه بعد موته، وما زال يترقى إلى أن وصل إلى ما وصل، قيل لبعضهم: في أي سنة كان ابتداء خروج تمرلنك؟ قال: في سنة عذاب -يعني: بحساب الجمل ثلاثًا وسبعين وسبعمائة. وفي سنة خمس وسبعين ابتدئت قراءة البخاري في رمضان بالقلعة بحضرة السلطان، ورتب الحافظ زين الدين العراقي قارئًا، ثم أشرك معه الشهاب العرياني يومًا بيوم، وفي سنة سبع وسبعين غلا البيض بدمشق، فبيعت الواحدة بثلاثة دراهم من حساب ستين دينار. وفي سنة ثمانٍ وسبعين قتل الأشرف شعبان، وتسلطن ابنه علي، ولقب بالمنصور، وذلك أن الأشرف سافر إلى الحج ومعه الخليفة والقضاة والأمراء، فخامر عليه الأمراء، وفر راجعًا إلى القاهرة، ورجع الخليفة ومن رجع، وأرادوا أن يسلطنوا الخليفة، فامتنع فسلطنوا ابن الأشرف، واختفى الأشرف إلى أن ظفروا به فخنقوه في ذي القعدة. وفيها خسف الشمس والقمر جميعًا، وطلع القمر خاسفًا في شعبان ليلة أربع عشرة، وكسفت الشمس يوم الثامن والعشرين منه. وفي سنة تسع وسبعين في رابع ربيع الأول طلب أيبك البدري أتابك العساكر زكرياء بن إبراهيم بن المستمسك الخليفة الحاكم، فخلع عليه، واستقر خليفة بغير مبايعة ولا إجماع، ولقب المستعصم بالله، ورسم بخروج المتوكل إلى قوص، لأمور حقدها عليه وقعت منه عند قتل الأشرف، فخرج وعاد من الغد إلى بيته، ثم عاد إلى الخلافة في العشرين من الشهر، وعزل المستعصم، فكانت مدة خلافته خمسة عشر يومًا. والمتوكل هو سادس الخلفاء الذين سكنوا مصر وأقيموا بعد انقطاع الخلافة مدة، فحصل له هذا الخلع توفية بالقاعدة. وفي سنة اثنتين وثمانين ورد كتاب من حلب يتضمن أن إمامًا قام يصلي وأن شخصًا عبث به في صلاته، فلم يقطع الإمام الصلاة حتى فرغ، وحين سلم انقلب وجه العابث وجه خنزير، وهرب إلى غابة هناك، فعجب الناس من هذا الأمر، وكتب بذلك محضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وفي صفر سنة ثلاث وثمانين مات المنصور، وتسلطن أخوه حاجي بن الأشرف، ولقب الصالح. وفي رمضان سنة أربع وثمانين خلع الصالح، وتسلطن برقوق، ولقب الظاهر وهو أول من تسلطن من الجراكسة. وفي رجب سنة خمس وثمانين قبض برقوق على الخليفة المتوكل وخلعه وحبسه بقلعة الجبل، وبويع بالخلافة محمد بن إبراهيم بن المستمسك بن الحاكم، ولقب الواثق بالله، فاستمر في الخلافة إلى أن مات يوم الأربعاء سابع عشر شوال سنة ثمانٍ وثمانين، فكلم الناس برقوقًا في إعادة المتوكل إلى الخلافة، فلم يقبل، وأحضر أخا محمد زكرياء الذي كان ولي تلك الأيام اليسيرة، فبايعه ولقب المستعصم بالله واستمر إلى سنة إحدى وتسعين، فندم برقوق على ما فعل بالمتوكل، وأخرج المتوكل من الحبس، وأعاده إلى الخلافة وخلع زكرياء بداره إلى أن مات مخلوعًا، واستمر المتوكل في الخلافة إلى أن مات. وفي جمادى الآخرة من السنة أعيد الصالح حاجي إلى السلطنة، وغير لقبه المنصور وحبس برقوق بالكرك. وفي هذه السنة في شعبان أحدث المؤذنون عقب الآذان الصلاة والتسليم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا أول ما أحدث، وكان الآمر به المحتسب نجم الدين الطنبذي. وفي صفر سنة اثنتين وتسعين أخرج برقوق من الحبس، وعاد إلى ملكه، فاستمر إلى أن مات في شوال سنة إحدى وثمانمائة، فأقيم مكانه في السلطنة ابنه فرج، ولقب الناصر فاستمر إلى سادس ربيع الأول سنة ثمانٍ وثمانمائة، فخلع من الملك وأقيم أخوه عبد العزيز، ولقب المنصور، ثم خلع في رابع جمادى الآخرة من السنة وأعيد الناصر فرج. وفي هذه السنة مات الخليفة المتوكل ليلة الثلاثاء ثامن عشر رجب سنة ثمان وثمانمائة. وممن مات في أيام المتوكل من الأعلام: الشمس بن مفلح عالم الحنابلة، والصلاح الصفدي، والشهاب ابن النقيب، والمحب ناظر الجيش، والشريف الحسيني الحافظ، والقطب التختاني، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة، والتاج بن السبكي، وأخوه الشيخ بهاء الدين، والجمال الأسنوي، وابن الصائغ الحنفي، والجمال بن نباتة، والعفيف اليافعي، والجمال الشريشي، والشرف ابن قاضي الجبل، والسراج الهندي، وابن أبي حجلة، والحافظ تقي الدين بن رافع، والحافظ عماد الدين بن كثير، والعتابي النحوي، والبهاء أبو البقاء السبكي، والشمس بن خطيب يبرود، والعماد الحسباني، والبدر بن حبيب، والضياء القرمي، والشهاب الأذرعي، والشيخ أكمل الدين، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والبدر الزركشي، والسراج بن الملقن، والسراج البلقيني، والحافظ زين الدين العراقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الواثق بالله عمر بن إبراهيم 1 الواثق بالله: عمر بن إبراهيم بن ولي العهد المستمسك بن الحاكم.   1 تولى الخلافة 785هـ وحتى 788هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 بويع بالخلافة بعد خلع المتوكل في شهر رجب سنة خمس وثمانين، واستمر، إلى أن مات يوم الأربعاء، تاسع عشر شوال سنة ثمانٍ وثمانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 المستعصم بالله زكرياء بن إبراهيم 1 المستعصم: زكرياء بن إبراهيم بن المستمسك. بويع بالخلافة بعد موت أخيه الواثق، ثم خلع منها سنة إحدى وتسعين وسبعمائة2، واستمر بداره مخلوعًا إلى أن مات، وأعيد المتوكل كما تقدم.   1 تولى الخلافة سنة 788هـ وحتى 791هـ. 2 وردت بجميع النسخ المطبوعة التي تحت أيدينا "ثمانمائة" والصحيح ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 المستعين بالله أبو الفضل بن المتوكل 1 المستعين بالله: أبو الفضل العباس بن المتوكل، أمه أم ولد تركية اسمها باي خاتون. بويع بالخلافة بعهد من أبيه في رجب سنة ثمانٍ وثمانمائة، والسلطان يومئذ الملك الناصر فرج، فلما خرج الناصر لقتال شيخ المحمودي، فلما انكسر وهزم وقتل وبويع الخليفة بالسلطنة مضافة للخلافة، وذلك في المحرم سنة خمس عشرة، ولم يفعل ذلك إلا بعد شدة وتصميم وتوثق من الأمراء بالأيمان، وعاد إلى مصر والأمراء في خدمته، وتصرف بالولاية والعزل، وضربت السكة باسمه، ولم يغير لقبه. وعمل شيخ الإسلام ابن حجر في قصيدته المشهورة وهي هذه: الملك فينا ثابت الأساس ... بالمستعين العادل العباسي رجعت مكانه آل عم المصطفى ... لمحلها من بعد طول تناس ثاني ربيع الآخر الميمون في ... يوم الثلاثاء حف بالأعراس بقدوم مهدي الأنام أمينهم ... مأمون غيب طاهر الأنفاس ذو البيت طاف به الرجال فهل يرى ... من قاصد متردد في الياس فرع نما من هاشم في روضه ... زاكي المنابت طيب الأغراس بالمرتضي والمجتبي، والمشتري ... للحمد، والحالي به والكاسي من أسرة أسروا الخطوب وطهروا ... مما يغيرهم من الأدناس أسد إذا حضروا الوغى وإذا خلوا ... كانوا بمجلسهم كظبي كناس مثل الكواكب نوره ما بينهم ... كالبدر أشرف في دجى الأغلاس ويكفه عند العلامة آية ... قلم يضيء إضاءة المقباس فلبشره للوافدين مباسم ... تدعى، وللإجلال بالعباس فالحمد لله المعز لدينه ... من بعد ما قد كان في إبلاس   1 تولى الخلافة 808هـ وحتى 815هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 بالسادة الأمراء أركان العلى ... من بين مدرك ثأره ومواس نهضوا بأعباء المناقب وارتقوا ... في منصب العليا الأشم الراسي تركوا العدى صرعى بمعترك الردى ... فالله يحرسهم من الوسواس وإمامهم بجلاله متقدم ... تقديم بسم الله في القرطاس لولا نظام الملك في تدبيره ... لم يستقم في الملك حال الناس كم من أمير قبله خطب العلى ... وبجده رجعته بالإفلاس حتى إذا جاء المعالي كفؤها ... خضعت له من بعد فرط شماس طاعت له أيدي الملوك، وأذعنت ... من نيل مصر أصابع المقياس فهو الذي قد رد عنا البؤس في ... دهر به لولاه كل الباس وأزال ظلمًا عم كل معمم ... من سائر الأنواع والأجناس بالخاذل المدعو ضد فعاله ... بالناصر المتناقض الآساس كل نعمة لله كانت عنده ... فكأنها في غربة وتناس مازال سر الشر بين ضلوعه ... كالنار أو صحبته للأرماس كم سن سيئة عليه أثامها ... حتى القيامة ما له من آس مكرًا بنى أركانه، لكنها ... للغدر قد بنيت بغير أساس كل امرئ ينسى ويذكر تارة ... لكنه للشر ليس بناس أملى له رب الورى حتى إذا ... أخذوه لم يفلته مر الكاس وأدالنا منه المليك بمالك ... أيامه صدرت بغير قياس فاستبشرت أم القرى والأرض من ... شرق وغرب كالعذيب وفاس آيات مجد لا يحاول جحدها ... في الناس غير الجاهل الخناس ومناقب العباس لم تجمع سوى ... لحفيده ملك الورى العباس لا تنكروا للمستعين رئاسة ... في الملك من بعد الجحود الناسي فبنو أمية قد أتى من بعدهم ... في سالف الدنيا بنو العباس وأتى أشج بني أمية ناشرًا ... للعدل من بعد المبير الخاسي مولاي عبدك قد أتى لك راجيًا ... منك القبول فلا يرى من باس لول المهلبة طولت أمداحه ... لكنها جاءته بالقسطاس فأدام رب الناس عزك دائمًا ... بالحق محروسًا برب الناس وبقيت تستمع المديح لخادم ... لولاك كان من الهموم يقاسي عبد صفا ودا وزمزم حاديًا ... وسعى على العينين قبل الراس أمداحه في آل بيت محمد ... بين الورى مسكية الأنفاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ولما وصل المستعين إلى مصر سكن القلعة، وسكن شيخ الإصطبل، وفوض إليه المستعين تدبير المملكة بالديار المصرية، ولقب: نظام الملك، فكانت الأمراء إذا فرغوا من الخدمة بالقصر نزلوا إلى خدمة الشيخ إلى الإصطبل فأعيدت الخدمة عنده، ويقع عنده الإبرام والنقض، ثم يتوجه داوداره إلى المستعين فيعلم على المناشير والتواقيع، ثم إنه تقدم إليه بألا يمكن الخليفة من كتابة العلامة إلا بعد عرضها عليه، فاستوحش الخليفة، وضاق صدره، وكثر قلقه. فلما كان في شعبان سأل شيخ الخليفة أن يفوض إليه السلطنة على العادة، فأجاب بشرط أن ينزل من القلعة إلى بيته، فلم يوافقه شيخ على ذلك، وتغلب على السلطنة, تلقب بالمؤيد وصرح بخلع المستعين. وبايع بالخلافة أخاه داود، ونقل المستعين من القصر إلى دار من دور القلعة ومعه أهله، ووكل به من يمنعه الاجتماع بالناس، فبلغ ذلك نوروز نائب الشام، فجمع القضاة والعلماء واستفتاهم عما صنع المؤيد من خلع الخليفة وحصره، فأفتو بأن ذلك لا يجوز، فأجمع على قتال المؤيد، فخرج إليه المؤيد في سنة سبع عشرة وثمانمائة، وسير المستعين إلى الإسكندرية، فاعتقل بها إلى أن تولى ططر فأطلقه وأذن له في المجيء إلى القاهرة، فاختار سكنى الإسكندرية؛ لأنه استطابها، وحصل له مال كثير من التجارة، فاستمر إلى أن مات بها شهيدًا بالطاعون في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين. ومن الحوادث الغريبة في أيامه: في سنة اثنتي عشرة كثير النيل في أول يوم من مسرى، وبلغت الزيادة اثنتين وعشرين ذراعًا. وفي سنة أربع عشرة أرسل غياث الدين أعظم شاه بن إسكندر شاه ملك الهند يطلب التقليد من الخليفة وأرسل إليه مالًا وللسلطان هدية. وممن مات في خلافته من الأعلام: الموفق الناشري شاعر اليمن، ونصر الله البغدادي عالم الحنابلة، والشمس المعيد نحوي مكة، والشهاب الحسباني، والشهاب الناشري فقيه اليمن، وابن الهائم صاحب الفرائض والحساب، وابن العفيف شاعر اليمن، والمحب ابن الشحنة عالم الحنفية والد قاضي العسكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المعتضد بالله أبو الفتح بن المتوكل 1 المعتضد بالله: أبو الفتح داود بن المتوكل، أمه أم ولد تركية اسمها كزل. بويع بالخلافة بعد خلع أخيه سنة خمس عشرة، والسلطان حينئذ المؤيد، فاستمر إلى أن مات في محرم سنة أربع وعشرين، فقلد السلطنة ابنه أحمد، ولقب المظفر وجعل نظامه ططر، ثم قبض عليه ططر في شعبان، فقلده الخليفة السلطنة، ولقب الظاهر ثم مات ططر من عامه في ذي الحجة، فقلد ابنه محمدًا ولقب الصالح وجعل نظام برسباي. ثم وثب برسباي على الصالح فخلعه، وقلده الخليفة السلطنة في ربيع الآخر سنة خمس   1 تولى الخلافة 815هـ وحتى 824هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وعشرين، فاستمر إلى أن مات في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، فقلد ابنه يوسف ولقب العزيز وجعل جقمق نظامه، فوثب جقمق على العزيز وقبض عليه في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين، فقلده الخليفة ولقب الظاهر فمات الخليفة في أيامه. وكان المعتضد من سروات الخلفاء، نبيلًا، ذكيًّا، فطنًا، يجالس العلماء والفضلاء ويستفيد منهم، ويشاركهم فيما هم فيه، جوادًا سمحًا إلى الغاية. مات في يوم الأحد رابع ربيع الأول سنة خمس وأربعين وقد قارب السبعين، قاله ابن حجر، وأخبرتني ابنة أخيه أنه عاش ثلاثًا وستين. ومن الحوادث الغريبة في أيامه: سنة ست عشرة، تولى الحسبة صدر الدين بن الآدمي، مضافة للقضاء، وهو أول من جمع بين القضاء والحسبة. وفي سنة تسع عشرة وليها منكلي بغا، وهو أول من ولي الحسبة من الأتراك في الدنيا. وفيها ظهر بمصر شخص يدعي أنه يصعد إلى السماء ويشاهد الباري تعالى ويكلمه، واعتقده جمع من العوام، فعقد له مجلس، واستتيب فلم يتب، فعلق المالكي الحاكم بقتله على شهادة اثنين بأنه حاضر العقل، فشهد جماعة من أهل الطب أنه مختل العقل، فقيد في البيمارستان. وفي سنة إحدى وعشرين ولدت ببلبيس جاموسة مولودًا برأسين وعنقين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر ودبر واحد ورجلين اثنين لا غير وفرج واحد وأنثى والذنب المفروق باثنين فكانت من بديع صنع الله. وفي سنة اثنتين وعشرين وقع زلزلة عظيمة بأرزنكان، وهلك بسببها عالم كثير. وفيها تمت المدرسة المؤيدية، وجعل شيخها الشيخ ابن المديري، وحضر السلطان درسه، وباشر ولد السلطان إبراهيم فرش سجادة الشيخ بيده. وفي سنة ثلاث وعشرين ذبح جمل بغزة فأضاء لحمه كما يضيء الشمع، ورمي منه قطعة لكلب فلم يأكلها. وفي سنة أربع وعشرين استمرت زيادة النيل إلى آخر هاتور، وغرق بذلك زرع كثير. وفي سنة خمس وعشرين ولدت فاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني ولدًا خنثى له ذكر وفرج، وله يدان زائدتان في كفه، وفي رأسه قرنان كقرني الثور، ومات بعد ساعة. وفيها زلزلة القاهرة زلزلة لطيفة، وفيها كثر النيل في ثامن عشر أبيب. وممن مات في أيامه من الأعلام: الشهاب بن حجة فقيه الشام، والبرهان بن رفاعة الأديب، والزين أبو بكر المراغي فقيه المدينة ومحدثها، والحسام الأبيوردي، والجمال ابن ظهيرةحافظ مكة، والمجد الشيرازي صاحب القاموس، وخلف النحريري من كبار المالكية، والشمس بن القباني من كبار الحنفية، وأبو هريرة بن النقاش، والوانوغي، والأستاذ عز الدين بن جماعة، وابن هشام العجمي، والصلاح الأقفهسي، والشهاب الغزى أحد أئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أئمة الشافعية، والجلال البلقيني، والبرهان البيجوري، والوالي العراقي، والشمس بن المديري، والشرف القباني، والعلا بن المعلى، والبدر بن الدماميني، والتقي الحصني شارح أبي شجاع، والهروي، والسراج قارئ الهداية، والنجم بن حجي، والبدر البشتكي، والشمس البرماوي، والشمس الشطنوفي، والتقي الفاسي، والزين القمني، والنظام يحيى السيرافي، وقراء يعقوب الرومي، والشرف بن مفلح الحنبلي، والشمس بن القشيري، وابن الجزري شيخ القراءات، وابن خطيب الدهشة، والشهاب الأبشيطي، والزين التفهني، والبدر القدسي، والشرف بن المقري عالم اليمن صاحب: عنوان الشرف، والتقي بن حجة الشاعر، والجلال المرشدي نحوي مكة، والهمام الشيرازي تلميذ الشريف، والجمال بن الخياط عالم اليمن، والبوصيري المحدث، والشهاب بن الحمرة، والعلاء البخاري، والشمس البساطي، والجمال الكازروني عالم طيبة، والمحب البغدادي الحنبلي، والشمس بن عمار، وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 المستكفي بالله أبو الربيع بن المتوكل 1 المستكفي بالله: أبو الربيع سليمان بن المتوكل. ولي الخلافة بعهد من أخيه وهو شقيقه، وكتب له والدي رحمه الله نسخة العهد. وهذه صورتها: هذا ما أشهد به على نفسه الشريفة حرسها الله تعالى وحماها، وصانها من الأكدار ورعاها، سيدنا ومولانا ذو المواقف الشريفة الطاهرة الذكية، الإمامية الأعظمية، العباسية، النبوية، المعتضدية، أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين، ووارث الخلفاء الراشدين، المعتضد بالله تعالى أبو الفتح داود أعز الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمرسلين، إنه عهد إلى شقيقه المقر العالي، المولوي الأصيلي العريقي الحسيبي، النسيبي، الملكي: سيدي أبي الربيع سليمان المستكفي بالله عظم الله شأنه بالخلافة المعظمة، وجعله خليفة بعده، ونصبه إمامًا على المسلمين، عهدًا شرعيًّا، معتبرًا مرضيًّا، نصيحة للمسلمين، ووفاء بما يجب عليه من مراعاة مصالح الموحدين، واقتداء بسنة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وذلك لما علم من دينه وخيره وعدالته، وكفايته وأهليته، واستحقاقه بحكم أنه اختبر حاله وعلم طويته، وأن الذي يدين الله به أن أتقي ثقة ممن رآه، وأنه لا يعلم صدر منه ما ينافي من استحقاقه لذلك، وأنه إن ترك الأمر هملًا من غير تفويض للمشار إليه أدخل إذ ذاك المشقة على أهل الحل والعقد في اختيار من ينصبونه للإمامة ويرتضونه لهذا الشأن، فبادر إلى هذا العهد شفقة عليهم، وقصدا لبراءة ذمتهم، ووصول الأمر إلى من هو أهله، لعلمه أن العهد كان غير محوج إلى رضا سائر أهله، وواجب على من سمعه وتحمل ذلك من أن يعمل به ويأمر بطاعته عند الحاجة إليه، ويدعو الناس إلى الانقياد له، فسجل ذلك عليه من حضره حسب إذنه الشريف، وسطر عن أمره قبل ذلك سيدي المستكفي: أبو الربيع سليمان المسمّى فيه عظم الله شأنه قبولًا شرعيًّا، وكان من صلحاء الخلفاء صالِحًا دَيِّنًا عابدًا، كثير التعبد والصلاة والتلاوة كثيرة الصمت، منعزلًا عن الناس، حسن السيرة.   1 تولى الخلافة 825هـ وحتى 854هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وقال في حقه أخوه المعتضد: لم أر على أخي سليمان منذ نشأ كبيرة. وكان الملك الظاهر يعتقده، ويعرف له حقه، وكان والدي إمامًا له، وكان عنده بمكان رفيع، خصيصًا به محترمًا عنده جدًّا، وأما نحن فلم ننشأ إلا في بيته وفضله، وآله خير آل دينًا وعبادة وخيرًا، وما أظن أنه وجد على ظهر الأرض خليفة بعد آل عمر بن عبد العزيز أعبد من آل بيت هذا الخليفة. مات في يوم الجمعة سلخ ذي الحجة سنة أربع وخمسين، وله ثلاث وستون سنة، ولم يعش والدي بعده إلا أربعين يومًا، ومشى السلطان في جنازته إلى تربته، وحمل نعشه بنفسه. مات في أيامه من الأعلام: التقي المقريزي، والشيخ عبادة، وابن كميل الشاعر، والوفائي، والقاياتي، وشيخ الإسلام ابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 القائم بأمر الله أبو البقاء بن المتوكل 1 القائم بأمر الله: أبو البقاء حمزة بن المتوكل. بويع بالخلافة بعد أخيه، ولم يكن عهد إليه ولا إلى غيره، وكان شهمًا صارمًا، أقام أبهة الخلافة قليلًا، وعنده جبروت، بخلاف سائر إخوته، ومات في أيامه الملك الظاهر جقمق في أول سنة سبع وخمسين، فقلد ابنه عثمان ولقب: المنصور، فمكث شهرًا ونصفًا، ثم وثب إينال على المنصور، فقبض عليه، فقلده الخليفة في ربيع الأول، ولقب: الأشرف، ثم وقع بين الخليفة والأشرف بسبب ركوب الجند عليه فخلعه من الخلافة في جمادى سنة تسع وخمسين وسيره إلى الإسكندرية، واعتقله بها إلى أن مات بها في ثلاث وستين، ودفن عند شقيقه المستعين. والعجب أن هذين الأخوين الشقيقين خلعا من الخلافة، واعتقل كل منهما الإسكندرية ودفنا معًا. مات في أيام القائم من الأعلام: والديّ، والعلاء القلقشندي.   1 تولى الخلافة 854هـ وحتى 859هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المستنجد بالله خليفة العصر أبو المحاسن 1 المستنجد بالله، خليفة العصر: أبو المحاسن يونس بن المتوكل على الله، ولي الخلافة بعد خلع أخيه، والسلطان يومئذ الأشرف إينال، فمات في سنة خمس وستين، فقلد ابنه أحمد، ولقب المؤيد، ثم وثب حشقندم على المؤيد، فقبضه في رمضان من عامه، فقلده، ولقب الظاهر واستمر إلى أن مات في ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين، فقلد بلباي ولقب الظاهر فوثب عليه الجند بعد شهرين وقبضوه، فقلد تمربغا، ولقب الظاهر فوثبوا عليه أيضًا بعد شهرين فقلد سلطان العصر قايتباي، ولقب الأشرف فاستقر له الملك، وسار في المملكة بشهامة وصرامة ما صار بها قبله ملك من عهد الناصر محمد بن قلاوون، بحيث إنه   1 تولى الخلافة 859هـ وحتى 884هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 سافر من مصر إلى الفرات في طائفة يسيرة جدًّا من الجند ليس فيهم أحد من المقدمين الألوف. ومن سيرته الجميلة: أنه لم يول مصر صاحب وظيفة دينية -كالقضاة والمشايخ والمدرسين- إلا أصلح الموجودين لها، بعد طول تروية وتمهلة، بحيث تستمر الوظيفة شاغرة الأشهر العديدة، ولم يولِ قاضيًا ولا شيخًا بمال قط. وكان الظاهر خشقند أول ما قلد قدم نائب الشام حاتم لموافقة كانت بينه وبين العسكر في سلطنته، فأمر الظاهر -حين بلغه قدومه- بطلوع الخليفة والقضاة الأربعة والعسكر إلى القلعة، وأرسل إلى نائب الشام يأمره بالانصراف، فانصرف بعد شروط شرطها؛ وعاد القضاة والعسكر إلى منازلهم، واستمر الخليفة ساكنًا بالقلعة، ولم يمكنه الظاهر من عوده إلى سكنه المعتاد، فاستمر بها إلى أن مات يوم السبت رابع عشري المحرم سنة أربع وثمانين وثمانمائة، بعد تمرضه نحو عامين بالفالج، وصلي عليه بالقلعة، ثم أنزل إلى مدفن الخلفاء بجوار المشهد النفيسي، وقد بلغ التسعين أو جاوزها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 المتوكل على الله أبو العز بن يعقوب 1 المتوكل على الله: أبو العز عبد العزيز بن يعقوب بن المتوكل على الله. ولد سنة تسع عشرة وثمانمائة، وأمه بنت جندي اسمها حاج ملك، ولم يلِ والده الخلافة، ونشأ معظمًا مشارًا إليه محبوبًا للخاصة والعامة بخصاله الجميلة، ومناقبه الحميدة، وتواضعه، وحسن سمته، وبشاشته لكل أحد، وكثر أدبه، وله اشتغال بالعلم، قرأ على والدي وغيره، وزوجه عمه المستكفي بابنته، فأولدها ولدًا صالِحًا، فهو ابن هاشمي ابن هاشميين، ولما طال مرض عمه المستنجد عهد إليه بالخلافة، فلما مات بويع بها يوم الاثنين سادس عشر المحرم بحضرة السلطان والقضاة والأعيان، وكان أراد أولًا التلقيب بالمستعين بالله ثم وقع التردد بين المستعين والمتوكل، واستقر الأمر على المتوكل، ثم ركب من القلعة إلى منزله المعتاد والقضاة والمباشرون والأعيان بين يديه وكان يومًا مشهودًا، ثم عاد من آخر يومه إلى القلعة حيث كان المستنجد ساكنًا بها. ففي هذه السنة سافر السلطان الملك الأشرف قايتباي إلى الحجاز برسم الحج، وذلك أمر لم يعهد لملك أكثر من مائة سنة، فبدأ بزيارة المدينة الشريفة، وفرق بها ستة آلاف دينار، ثم قدم مكة وفرق بها خمسة آلاف دينار، وقرر بمدرسته التي أنشأها بمكة شيخًا وصوفية، وحج وعاد، وزينت البلد لقدومه أيامًا. وفي سنة خمس وثمانين خرج عسكر من مصر عليهم الدوادار يشبك إلى جهة العراق فالتقوا مع عسكر يعقوب شاه بن حسن بقرب الرها، فكسر المصريون، وقتل منهم من قتل، وأسر الباقون، وأسر الداودار، وضرب عنقه، وذلك في النصف الثاني من رمضان، والعجيب أن الداودار هذا كان بينه وبين قاضي الحنفية شمس الدين الأمشاطي بمصر وقعة   1 تولى الخلافة 884هـ وحتى 903هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 كبيرة، وكل منهما يود زوال الآخر، فكان قتل الدوادار بشاطئ الفرات وموت الأمشاطي بمصر في يوم واحد. وفي سنة ست وثمانين زلزلت الأرض يوم الأحد بعد العصر سابع عشر المحرم زلزلة صعبة ماجت منها الأرض والجبال والأبنية موجًا، ودامت لحظة لطيفة، ثم سكنت، فالحمد لله على سكونها، وسقط بسببها شرفة من المدرسة الصالحية على قاضي القضاة الحنفي شرف الدين بن عيد، فمات، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفي هذه السنة في ربيع الأول قدم إلى مصر من الهند رجل يسمّى خاكي، زعم أن عمره مائتان وخمسون سنة، فاجتمعت به، فإذا هو رجل قوي، لحيته كلها سوداء، لا يجوز العقل أن عمره سبعون سنة، فضلًا عن أكثر من ذلك، ولم يأتِ بحجة على ما يدعيه، والذي أقطع به أنه كذاب، ومما سمعته منه أنه قال: إنه حج وعمر ثماني عشرة سنة ثم رجع إلى الهند، فسمع بذهاب التتار إلى بغداد ليأخذوها، وإنه قدم إلى مصر زمن السلطان حسن قبل أن يبني مدرسته، ولم يذكر شيئًا يستوضح به على قوله. وفيها ورد الخبر بموت السلطان محمد بن عثمان ملك الروم، وأن ولديه اقتتلا على الملك، فغلب أحدهما، واستقر في المملكة، وقدم الآخر إلى مصر، فأكرمه السلطان غاية الإكرام، وأنزله، ثم توجه من الشام إلى الحجاز برسم الحج. وفي شوال قدمت كتب من المدينة الشريفة تتضمن أن في ليلة ثالث عشر رمضان نزلة صاعقة من السماء على المئذنة فأحرقتها وأحرقت سقوف المسجد الشريف وما فيه من خزائن وكتب، ولم يبقَ سوى الجدران، وكان أمرًا مهولًا. مات يوم الأربعاء سلخ المحرم سنة ثلاث وتسعمائة، وعهد بالخلافة لابنه يعقوب، ولقبه المستمسك بالله. وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذا التاريخ، وقد اعتمدت في الحوادث على تاريخ الذهبي، وانتهى إلى سنة سبعمائة، ثم على تاريخ ابن كثير، وانتهى إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، ثم على المسالك وذيله إلى سنة ثلاث وسبعين، ثم على أنباء الغمر لابن حجر إلى سنة خمسين وثمانمائة. وأما غير الحوادث فطالعت عليه تاريخ بغداد للخطيب عشر مجلدات، وتاريخ دمشق لابن عساكر سبعة وخسمين مجلدًا، والأوراق للصولي سبع مجلدات، والطيوريات ثلاث مجلدات والحلية لأبي نعيم تسع مجلدات، والمجالسة للدينوري، والكامل للمبرد مجلدين، وأمالي ثعلب مجلد، وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 قصيدة للمؤلف فيها أسماء الخلفاء ووفياتهم وقد عمل بعض الأقدمين أرجوزة في أسماء الخلفاء ووفياتهم انتهى إلى أيام المعتمد، وقد عملت قصيدة أحسن منها، ورأيت أن أختم بها هذا الكتاب، وهي: الحمد لله حمدًا لا نفاذ له ... وإنما الحمد حقًّا رأس من شكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الحمد لله حمدًا لا نفاذ له ... وإنما الحمد حقًّا رأس من شكرا ثم الصلاة على الهادي النبي ومن ... سادت بنسبته الأشراف والكبرا إن الأمين رسول الله مبعثه ... لأربعين مضت فيما روا عمرا وكان هجرته فيها لطيبته ... بعد الثلاثة أعوام تلي عشرا ومات في عام إحدى بعد عشرتها ... فيا مصيبة أهل الأرض حين سرا وقام من بعده الصديق مجتهدا ... وفي ثلاثة عشر بعده قبرا وهو الذي جمع القرآن في مصحف ... وأول الناس سَمّى المصحف الزبرا وقام من بعده الفاروق ثمت في ... عشرين بعد ثلاث غيبوا عمرا وهو الذي اتخذ الديوان وافترض الـ ... ـعطاء قبل: وبيت المال والدررا سنَّ التراويح والتاريخ وافتتح الـ ... ـفتوح جَمًّا وزاد الحد من سكرا وهو المسمى أمير المؤمنين، ولم ... يدع به قبله شخص من الأمرا وقام عثمان حتى جاء مقتله ... بعد الثلاثين في ست وقد حصرا وهو الذي زاد في التأذين أوله ... في جمعة، وبه رزق الأذان جرى وأول الناس ولي صحب شرطته ... حمى الحمى أقطع الإقطاع إذ كثرا وبعد قام علي، ثم مقتله ... لأربعين فمن أرداه قد خسرا ثم ابنه السبط نصف العام، ثم أتى ... بنو أمية يبغون الوغى زمرا فسلم الأمر في إحدى، لرغبته ... عن دار دنيا بلا ضير ولا ضررا وكان أول ذي ملك معاوية ... في النصف من عام ستين الحمام عرا وهو الذي اتخذ الخصيان من خدم ... كذا البريد ولم يسبقه من أمرا واستحلف الناس لما أن يبايعهم ... والعهد قبل وفاة لابنه ابتكرا ثم اليزيد ابنه أخبث به ولدا ... في أربع بعدها ستون قد قبرا وابن الزبير، وفي سبعين مقتله ... بعد الثلاث وكم بالبيت قد حصرا وفي ثمانين مع ست تليه قضى ... عبد المليك له الأمر الذي اشتهرا ضرب الدنانير في الإسلام معلمة ... وكسوة الكعبة الديباج مؤتجرا وهو الذي منع الناس التراجع في ... وجه الخليفة مهما قال أو أمرا وأول الناس هذا الاسم سميّه ... وأول الناس في الإسلام قد غدرا ثم الوليد ابنه في قبل ما رجب ... في الست من بعد تسعين انقضى عمرا وهو الذي منع الناس النداء له ... باسم، وكانت تنادى باسمها الأمرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وقام بعد سليمان الخيار وفي ... تسع وتسعين جاء الموت في صفرا وبعده عمر ذاك النجيب، وفي ... إحدى تلي مائة قد ألحدوا عمرا وهو الذي أمر الزهري خوف ذها ... ب العلم أن يجمع الأخبار والأثرا ثم اليزيد، وفي خمس قضى، وتلا ... هشام في الخمس والعشرين قد سطرا ثم الوليد، وبعد العام مقتله ... من بعد ما جاء بالفسق الذي شهرا ثم اليزيد، وفي ذا العام مات، وقد ... أقام ست شهور مثل ما أثرا وبعده قام إبراهيم، ثم مضى ... بالخلع سبعين يومًا قد أقام ترى وبعده قام مروان الحمار، وفي ... ثنتين بعد ثلاثين الدماء جرى وقام من بعده السفاح ثم قضى ... بعد الثلاثين في ست وقد جدرا وهو الذي خص أعمالًا مواليه ... وأهمل العرب حتى أمرهم دثرا ثم ابنه -وهو المهدي- مات لدى ... تسع وستين مسمومًا كما ذكرا ثم ابنه -وهو الهادي- وموتته ... في عام سبعين لما هم أن غدرا ثم الرشيد، وفي تسعين تالية ... ثلاثة مات في الغزو الرفيع ذرا ثم الأمين، وفي تسعين تالية ... ثمانيا جاءه قتل كما قدرا وقام من بعده المأمون، ثمت في ... ثمان عشرة كان الموت فاعتبرا وقام معتصم من بعده وقضى ... في عام سبع وعشرين الذي أثرا وهو الذي أدخل الأتراك منفردًا ... ديوانه، واقتناهم جالبًا وشرا ثم ابنه الواثق المالي الورى رعبًا ... وفي ثلاثين مع ثنتين قد غبرا وذو التوكل ما أزكاه من خلف ... ومظهر السنة الغراء إذا نصرا في عام سبع يليها أربعون قضى ... قتلًا حباه ابنه المدعو منتظرا فلم يقم بعده إلا اليسير كما ... قد سنه الله فيمن بعضه غدرا والمستعين، وفي عام اثنتين تلى ... خمسين خلع وقتل جاءه زمرا وهو الذي أحدث الأكمال واسعة ... وفي القلانس عن طول أتى قصرا وقام من بعده المعتز، ثمت في ... خمس وخمسين حقًّا قتله أثرا والمهتدي الصالح الميمون مقتله ... من بعد عام، وقفى قبله عمرا وقام من بعده بالأمر معتمد ... في عام تسع وسبعين الحمام عرا وذاك أول ذي أمر له حجروا ... وأول الناس موكولًا به قهرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقام من بعده بالأمر معتضد ... وفي ثمانين مع تسع مضت قبرا ثم ابنه المكتفي بالله أحمد في ... خمس وتسعين سبحان الذي قدرا في عام عشرين في شوال بعد مئى ... ثلاثة مقتل المدعو مقتدرا وبعده القاهر الجبار مخلعه ... في اثنتين وعشرين وقد سمرا وقام من بعده الراضي، ومات ... لدى تسع وعشرين وانسب عنده أجرا والمتقي ومضى بالخلع منسملًا ... من بعد أربعة الأعوام في صفرا وقام بالأمر مستكفيهم، وقفا ... بعد عام لأمر المتقي أثرا ثم المطيع، وفي ستين يتبعها ... ثلاثة في أخيرا العام قد عبرا ثم ابنه الطائع المقهور، مخلعه ... عام الثمانين مع إحدى كما أثرا ثم الإمام أبو العباس قادرهم ... في اثنين من بعد عشرين مضت قبرا ثم ابنه قائم بالله مات لدى ... سبع وستين من شعبان قد سطرا والمقتدى مات في سبع بأولها ... بعد الثمانين جد الملك واقتدرا وقام من بعده مستظهر، وقضى ... في سادس القرن ثنتين تلي عشرا وقام من بعده مسترشد، ولدى ... تسع وعشرين فيه القتل حل عرا ثم ابنه الراشد المقهور مخلعه ... من بعد عام فلا عين ولا أثرا والمقتفي مات من بعد التمكن في ... خمس وخمسين وانقادت له النصرا وقام من بعده مستنجد، وقضى ... من بعد ستين في ست وقد شعرا والمستضيء بأمر الله مات لدى ... خمس وسبعين بالإحسان قد بهرا وقام من بعده بالأمر ناصرهم ... ومات ثنتين مع عشرين إذا كبرا وقام من بعده بالأمر ظاهرهم ... تسعًا شهورًا فأقلل مدة قصرا وقام من بعده مستنصر وقضى ... لأربعين وكم يرثيه من شعرا وقام من بعده مستعصم ولدى ... ست وخمسين كان الفتنة الكبرى جاء التتار فأردوه وبلدته ... فيلعن الله والمخلوقة التترا مرت ثلاث سنين بعده، ويلي ... نصف ودهر الورى من قائم شغرا وقام من بعد ذا مستنصر، وثوى ... في آخر العام قتلًا منهم وسرى أقام ست شهور ثم راح لدى ... مهل ستين لم يبلغ بها وطرا وقام من بعده في مصر حاكمهم ... على وهى لا كمن من قبله غبرا ومات في عام إحدى بعد سبع مئى ... وقام من بعد مستكفيهم وجرى في أربعين قضى إذ قام واثقهم ... ففي اثنتين مضى خلعًا من الأمرا وقام حاكمهم من بعده، وقضى ... عام الثلاث مع الخمسين معتبرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وقام من بعده بالأمر معتضد ... وفي الثلاثة والستين قد عبرا وذو التوكل يتلوه أقام إلى ... بعد الثمانين في خمس وقد حصرا وبايعوا واثقًا بالله، ثمت في ... عام الثمان قضى وسمه عمرا وبايعوا بعده بالله معتصمًا ... لعام إحدى وتسعين أزيل ورا وذو التوكل ردوه، أقام إلى ... ذا القرن عام ثمانٍ منه قد قبرا في عهده زيد من بعد الأذان على ... خير النبيين تسليم كما أمرا وأحدث السمة الخضراء للشرفا ... يا حسنها من سمات بوركت خضرا أولاده منهم خمس مبجلة ... جاءوا الخلافة إذا كانت لهم قدرا فالمستعين وآل الأمر إن خلعوا ... في شهر شعبان في خمس تلي عشرا وقام من بعده بالأمر معتضد ... لأربعين تليها الخمسة احتضرا وقام بالأمر مستكفيهم، وقضى ... في عام الأربع والخمسين مصطبرا وقام قائمهم من بعد ثمت في ... تسع وخمسين بعد الخلع قد حصرا وقام من بعده مستنجد دهرًا ... خليفة العصر رقاه الإله ذرا وليس يعرف في الأعصار قبلهم ... خمس ولو إخوة بل أربع أمرا ولا شقيقان إلا غير خامسهم ... كذا الرشيد مع الهادي كما ذكرا كذا سليمان من بعد الوليد، كذا ... نجلا الوليد يزيد والذي أثرا وما تكرر في بغداد من لقب ... ولا تلا ابن أخ عم خلا نفرا اثنان فالمقتفي عن راشد، وكذا ... مستنصر بعد مقتول التتار عرا أولئك القوم أرباب الخلافة، خذ ... سبعين من غير نقص عدها حصرا من الصحابة سبع كالنجوم، ومن ... بني أمية اثنان تلي عشرا ولم أعد أبا عبد المليك، فذا ... باغ كما قاله من أرخ السيرا وعدة من بني العباس شامخة ... إحدى وخمسون لا قلت لهم نصرا تبقى الخلافة فيهم كي يسلمها الـ ... ـمهدى منهم إلى عيسى كما أثرا وبعد نظمي هذا النظم في مدد ... قضى خليفتنا المذكور مصطبرا في عام الأربع في شهر المحرم من ... بعد الثمانين يوم السبت قد قبرا وبويع ابن أخيه بعده، ودعي ... بذى التوكل كالجد الذي شهرا ولم يسم إمام في الأولى سبقوا ... عبد العزيز سواه فاسمه ابتكرا فالله يبقيه ذا عز، ويحفظه ... ويجعل الملك في أعقابه زمرا ومات عام ثلاث بعد تسع مئى ... سلخ المحرم عن عهد لمن سطرا لنجله البر يعقوب الشريف، وقد ... لقب مستمسكًا بالله في صفرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 نبذة عن الدول التي قامت بالأندلس ... فصل في الدولة الأموية القائمة بالأندلس أولهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، بويع بالخلافة لما دخل الأندلس هاربًا، وذلك في سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة، وكان من أهل العلم والعدل، مات سنة سبعين ومائة في ربيع الآخر. وقام بعده ابنه هشام أبو الوليد، ومات في شهر صفر سنة ثمانين ومائة. وقام بعده ابنه الحكم أبو المظفر، الملقب بالمرتضى، ومات في ذي الحجة سنة ست ومائتين. وقام بعده ابنه عبد الرحمن، وهو أول من فخم الملك بالأندلس من الأموية وكساه أبهة الخلافة والجلالة، وفي أيامه أحدث بالأندلس لبس المطرز، وضرب الدراهم، ولم يكن بها دار ضرب منذ فتحها العرب، وإنما كانوا يتعاملون بما يحمل إليه من دراهم أهل المشرق، وكان شبيهًا بالوليد بن عبد الملك في جبروتيته، وبالمأمون العباسي في طلب الكتب الفلسفية، وهو أول من أدخل الفسلفة الأندلس، ومات سنة تسع وثلاثين ومائتين. وقام بعده ابنه محمد، مات في صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وقام ابنه المنذر، ومات في صفر سنة خمس وسبعين. وقام أخوه عبد الله -وهو أصلح خلفاء الأندلس علمًا ودينًا- مات في ربيع الأول سنة ثلاثمائة. وقام حفيده عبد الرحمن بن محمد، الملقب بالناصر، وهو أول من تسمّى بالأندلس بالخلافة، وبأمير المؤمنين، وذلك لما وهت الدولة العباسية في أيام المقتدر، وكان الذين قبله إنما يتسمون بالأمير فقط، مات في رمضان سنة خمسين وثلاثمائة. وقام ابنه الحكم المستنصر، ومات في صفر سنة ست وستين. وقام ابنه هشام المؤيد، ثم خلع وحبس سنة تسع وتسعين. وقام محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر عبد الرحمن، ولقب المهدي، ستة عشر شهرًا، ثم خرج عليه ابن أخيه هشام بن سليمان بن الناصر عبد الرحمن، وبويع وتلقب بالرشيد، فحاربه عمه وقتله، واتفق الناس على خلع عمه فاختفى ثم قتل، وبايعوا ابن أخي هشام المقتول سليمان بن الحكم المستنصر، ولقب بالمستعين، ثم قاتلوه وأسر سنة ست وأربعمائة. وقام عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر، ولقب المرتضي، وقتل في آخر العام، ثم وهت الدولة الأموية. وقامت الدولة العلوية الحسنية: فولى الناصر على بن محمود في المحرم سنة سبع وأربعمائة، ثم قتل في ذي القعدة سنة ثمانٍ وأربعمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وقام أخوه المأمون القاسم، وخلع سنة إحدى عشرة. وقام ابن أخيه يحيى بن الناصر على بن محمود، ولقب المستعلي، وقتل بعد سنة وسبعة أشهر. ثم عادت الدولة الأموية، فولي المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار، ثم قتل بعد خمسين يومًا. وقام محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر عبد الرحمن ولقب المستكفي وخلع بعد سنة وأربعة أشهر، وقام هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر بن عبد الرحمن ولقب المعتمد، فأقام مدة، ثم خلع وسجن إلى أن مات في صفر سنة ثمانٍ وعشرين وأربعمائة وماتت بموته الدولة الأموية بالأندلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فصل في الدولة الخبيثة العبيدية: "الفاطمية" ... فصل في الدولة الخبيثة العبيدية أول من قام منهم بالمغرب المهدي عبيد الله سنة: ست وتسعين ومائتين، ومات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وقام ابنه القائم بأمر الله محمد، ومات سنة ثلاث وثلاثين. وقام ابنه المنصور إسماعيل، ومات سنة إحدى وأربعين. وقام ابنه المعز لدين الله معد، ودخل القاهرة سنة اثنتين وستين، ومات سنة خمس وستين. وقام ابنه العزيز نزار، ومات سنة ست وثمانين. وقام ابنه الحاكم بأمر الله منصور، وقتل في سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وقام ابنه الظاهر لإعزاز دين الله على، ومات سنة ثمانٍ وعشرين. وقام ابنه المستنصر معد، ومات سنة سبع وثمانين، فأقام في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر. قال الذهبي: ولا أعلم أحدًا في الإسلام -لا خليفة ولا سلطانًا- أقام هذه المدة. وقام بعده ابنه المستعلي بالله أحمد، ومات سنة خمس وتسعين. وأقيم بعده ابنه الآمر بأحكام الله منصور، طفل له خمس سنين، وقتل في سنة أربع وعشرين وخمسمائة عن غير عقب. وقام بعده ابن عمه الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر، ومات سنة أربع وأربعين. وقام ابنه الظافر بالله إسماعيل، وقتل سنة تسع وأربعين. وقام ابنه الفائز بنصر الله عيسى، ومات سنة خمس وخمسين. وقام العاضد لدين الله: عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله، وخلع سنة سبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وستين، ومات بها، وأقيمت الدعوة العباسية بمصر، وانقرضت الدولة العبيدية. قال الذهبي: فكانوا أربعة عشر متخلفًا، لا مستخلفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فصل في دولة بني طباطبا العلوية الحسنية قام منهم بالخلافة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم طباطبا في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين ومائة. وقام باليمن في هذا العصر الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا، ودعي له بإمرة المؤمنين، ومات في ذي الحجة سنة ثمانٍ وتسعين ومائتين. وقام ابنه المرتضى محمد، ومات سنة عشر وثلاثمائة. وقام أخوه الناصر أحمد، ومات في صفر سنة ثلاث وعشرين. وقام ابنه المنتخب الحسين، ومات سنة تسع وعشرين. وقام أخوه المختار القاسم، وقتل في شهر شوال سنة أربع وأربعين. وقام أخوه الهادي محمد، ثم الرشيد العباس، ثم انقرضت دولتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فصل في الدولة الطبرستانية تداولها ستة رجال: ثلاثة من بني الحسن، ثم ثلاثة من بني الحسين: هشام الداعي إلى الحق: الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد الجواد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سنة خمسين ومائتين بالري والديلم، ثم قام أخوه القائم بالحق محمد، وقتل سنة ثمانٍ وثمانين، فقام حفيده المهدي الحسن بن زيد بن القائم بالحق، وقام بعده الناصر الأطروش -وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. ولم يزل قائمًا بالأمر إلى أن قبض سنة 304هـ، ثم قام بعده بالأمر ابنه الإمام محمد الهادي، ثم اعتزل الأمر فقام به أخوه الناصر أحمد، ثم قام من بعده الثائر لدين الله جعفر بن محمد بن الحسن بن عمر الأشرف، وهو الذي ملك طبرستان بأسرها، ومات بها سنة 345هـ وانقرضت دولته. فائدة: قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا المبارك بن فضالة، عن علي بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن العرباض بن الهيثم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ما كان منذ كانت الدنيا رأس مائة سنة إلا كان عند رأس المائة أمر. قلت: كان عند رأس المائة الأولى من هذه الملة فتنة الحجاج، وما أدراك ما الحجاج؟. وفي المائة الثانية: فتنة المأمون وحروبه مع أخيه، حتى درست محاسن بغداد وباد أهلها، ثم قتله إياه شر قتلة، ثم امتحانه الناس بخلق القرآن، وهي أعظم الفتن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 هذه الأمة وأولها بالنسبة إلى الدعوة إلى البدعة، ولم يدع خليفة قبله إلى شيء من البدع. وفي المائة الثالثة: خروج القرمطي، وناهيك به، ثم فتنة المقتدر لما خلع وبويع ابن المعتز وأعيد المقتدر ثاني يوم وذبح القاضي وخلقًا من العلماء ولم يقتل قاضٍ قبله في ملة الإسلام، ثم فتنة تفرق الكلمة وتغلب المتغلبين على البلاد، واستمر ذلك إلى الآن، ومن جملة ذلك ابتداء الدولة العبيدية، وناهيك بهم إفسادًا وكفرًا وقتلًا للعلماء والصلحاء. وفي المائة الرابعة: كانت فتنة الحاكم بأمر إبليس، لا بأمر الله، وناهيك بما فعل. وفي المائة الخامسة: أخذ الفرنج الشام وبيت المقدس. وفي المائة السادسة: كان الغلاء الذي لم يسمع بمثله منذ زمن يوسف عليه السلام، وكان ابتداء أمر التتار. وفي المائة السابعة: كانت فتنة التتار العظمى التي لم يسمع بمثلها، أسالت من دماء أهل الإسلام بحارًا. وفي المائة الثامنة: كانت فتنة تمرلنك التي استصغرت بالنسبة إليها فتنة التتار على عظمها. وأسال الله تعالى أن يقبضنا إلى رحمته قبل وقوع فتنة المائة التاسعة!! بجاه محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه أجمعين، آمين. ثم الكتاب والحمد لله أولًا وآخرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الفهرس العام مقدمة المحقق 3 ترجمة المؤلف 5 خطبة المؤلف، وفيها بيان الداعي إلى تأليف الكتاب. 9 اعتذار المؤلف عن كونه لم يذكر الفاطميين بين الخلفاء 9 بيان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف أحدًا يلي الأمر بعده. 12 بيان أن الأئمة من قريش. 13 في مدة الخلافة في الإسلام. 14 الأحاديث المنذرة بخلافة بني أمية. 16 الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس. 17 البردة النبوية التي تداولها الخلفاء. 20 فوائد منثورة تقع في التراجم، ورأي المؤلف وذكرها مجتمعة أنفع. 21 الخلفاء الراشدون الخليفة الأول: الصديق أبو بكر اسمه، ولقبه. 27 مولده، ومنشؤه. 28 كان أعف الناس في الجاهلية. فصل في صفته، رضي الله عنه. 29 إسلامه. 30 صحبته، ومشاهده. 32 شجاعته. 33 إنفاقه، وبيان أنه أجود الصحابة. 34 علمه وذكاؤه. 36 بيان أنه أفضل الصحابة وخيرهم. 38 ذكر ما أنزل من الآيات في مدحه، أو تصديقه. 41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الأحاديث الواردة في فضله مقرونًا بعمر. 42 الأحاديث الواردة في فضله وحده. 45 ما ورد من كلام الصحابة ومن بعدهم في فضل الصديق. 49 الأحاديث والآيات المشيرة إلى خلافته، وكلام الأئمة في ذلك. 51 مبايعته رضي الله عنه. 55 ما وقع من الأحاديث زمن خلافته. 59 جمع القرآن. 62 أولياته. 63 حلمه، وتواضعه. 64 مرضه، ووفاته، ووصيته، واستخلافه عمر بن الخطاب. 65 ما روي عن أبي بكر من الأحاديث المسندة. 69 ما ورد عن الصديق من تفسير القرآن. 78 ما روي عنه من الآثار الموقوفة: قولًا، أو قضاء، أو خطبة. 79 ما ورد عنه من تعبير الرؤيا. 87 الخليفة الثاني: عمر الفاروق نسبه، ومولده. 89 الأخبار الواردة في إسلامه. 90 هجرته والأحاديث الواردة في فضله. 94 أقوال الصحابة والسلف فيه. 97 موافقات القرآن لآراء عمر. 99 كراماته. 101 نبذ من سيرته. 103 صفته. 105 خلافته، والأحداث التي جرت في عهده. 105 مقتله، ووصيته. 107 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أوليات عمر رضي الله عنه. 110 نبذ من أخباره، وقضاياه. 110 ذكر من مات من الصحابة في زمن عمر. 117 ذو النورين: عثمان بن عفان نسبه، ومولده، ولقبه. 117 الأحاديث الواردة في فضله. 120 خلافته، وما حدث في عهده من الأحداث. 121 أولياته. 129 الذين ماتوا في عهده من الأعلام. 129 أبو السبطين: علي بن أبي طالب نسبه، وكناه، وبعض من صفاته. 130 الأحاديث الواردة في فضله. 131 مبايعته بالخلافة. 135 نبذ من أخباره، وقضاياه. 137 نبذ من كلماته الوجيزة. 143 مرثية لأبي الأسود الدؤلي فيه. 143 ذكر من مات في عهده من الأعلام. 144 ريحانة الرسول: الحسن بن علي نسبه، وفضله، وحب الرسول إياه. 144 خلافته، وتنازله عنها. 147 وفاته. 147 عهد بني أمية معاوية بن أبي سفيان، نسبه، وبعض صفاته. 148 بعض الأحداث في عصره. 149 نبذ من أخباره. 151 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 من مات في عهده من الأعلام. 155 يزيد بن معاوية بن أبي سفيان 156 معاوية بن يزيد. 160 عبد الله بن الزبير بن العوام. 160 عبد الملك بن مروان بن الحكم 162 الوليد بن عبد الملك بن مروان. 168 سليمان بن عبد الملك بن مروان. 169 عمر بن عبد العزيز بن مروان. 171 يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم 184 هشام بن عبد الملك بن مروان. 184 الوليد بن يزيد بن عبد الملك. 186 يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الناقص. 188 إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك. 189 مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، الحمار. 190 العباسيون بالعراق السفاح: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. 191 أبو جعفر المنصور: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله. 193 المهدي: محمد بن أبي جعفر المنصور. 201 الهادي: موسى بن المهدي بن المنصور. 207 الرشيد: هارون بن المهدي بن المنصور. 210 الأمين: محمد بن هارون الرشيد. 219 المأمون: عبد الله بن هارون الرشيد 225 المعتصم بالله: محمد بن هارون الرشيد. 243 الواثق بالله: هارون بن المعتصم بن الرشيد. 248 المتوكل على الله: جعفر بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد. 252 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 المنتصر بالله: محمد بن المتوكل بن المعتصم. 259 المستعين بالله: أحمد بن المعتصم. 260 المعتز بالله: محمد بن المتوكل بن المعتصم. 261 المهتدي بالله: محمد بن الواثق بن المعتصم. 262 المعتمد على الله: أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم. 264 المعتضد بالله: أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم. 268 المكتفي بالله: علي بن المعتضد. 273 المقتدر بالله: جعفر بن المعتضد. 274 القاهر بالله: محمد بن المعتضد. 279 الراضي بالله: محمد بن المقتدر بن المعتضد. 282 المتقي لله: إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد. 284 المستكفي بالله: عبد الله بن المكتفي بن المعتضد. 286 المطيع لله: الفضل بن المقتدر بن المعتضد. 286 الطائع لله: عبد الكريم بن المطيع بن المقتدر. 291 القادر بالله: أحمد بن إسحاق بن المقتدر. 294 القائم بأمر الله: عبد الله بن القادر بالله. 298 المقتدي بأمر الله: عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله. 301 المستظهر بالله: أحمد بن المقتدي بأمر الله. 303 المسترشد بالله: الفضل بن المستظهر بالله. 307 الراشد بالله: منصور بن المسترشد بالله. 309 المقتفي لأمر الله: محمد بن المستظهر بالله. 310 المستنجد بالله: يوسف بن المقتفي بالله. 313 المستضيء بأمر الله: الحسن بن المستنجد بالله. 315 الناصر لدين الله: أحمد بن المستضيء بأمر الله. 317 الظاهر بأمر الله: محمد بن الناصر لدين الله. 324 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 المستنصر بالله: منصور بن الظاهر بأمر الله. 325 المستعصم بالله: عبد الله بن المستنصر بالله قتيل التتار. 328 شرح حال التتار ملخصًا. 329 العباسيون في مصر المستنصر بالله: أحمد بن الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله. 336 الحاكم بأمر الله: أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي. 337 المستكفي بالله: سليمان بن الحاكم بأمر الله أحمد. 340 الواثق بالله: إبراهيم بن المستمسك بالله محمد بن الحاكم. 343 الحاكم بأمر الله: أحمد بن المستكفي بالله سليمان. 344 المعتضد بالله: أبو بكر بن المستكفي بالله. 351 المتوكل على الله: أبو بكر بن المستكفي بالله. 351 الواثق بالله: عمر بن إبراهيم بن المستمسك بالله بن الحاكم. 353 المستعصم بالله: زكريا بن إبراهيم بن المستمسك بالله. 354 المستعين بالله: العباس بن المتوكل. 354 المعتضد بالله: داود بن المتوكل. 356 المستكفي بالله: سليمان بن المتوكل. 358 القائم بأمر الله: حمزة بن المتوكل. 359 المستنجد بالله: يوسف بن المتوكل. 359 المتوكل على الله: عبد العزيز بن يعقوب بن المتوكل على الله. 360 قصيدة للمؤلف فيها أسماء الخلفاء، ووفياتهم. 361 نبذة عن الدول التي قامت بالأندلس. 366 الدولة الخبيثة العبيدية: "الفاطمية". 367 دولة بني طباطبا. 368 الدولة الطبرستانية. 368 الفتن التي كانت في كل قرن. 368 الفهرس العام. 371 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376