الكتاب: تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف: أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف (المتوفى: 1426هـ) الناشر: دار المعارف عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي شوقي ضيف الكتاب: تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف: أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف (المتوفى: 1426هـ) الناشر: دار المعارف عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة للباحثين المحدثين من عرب ومستشرقين كتب مختلفة في تاريخ الأدب العربي أدت كثيرًا من الفائدة والنفع منذ ظهورها؛ غير أن من الحق أنه ليس بين هذه الكتب ما يبسط الحديث في أدبنا وأدبائنا على مرّ التاريخ من الجاهلية إلى العصر الحديث بسطًا مفصلًا دقيقًا. وأغزرُ هذه الكتب وأحفلها مادة كتاب "تاريخ الأدب العربي" لبروكلمان، وهو دائرة معارف جامعة، لا تقتصر على الحديث على شعرائنا وكتابنا؛ بل تفيض في الكلام عن فلاسفتنا وعلمائنا من كل صَنف وعلى كل لون، مع استقصاء آثارهم المطبوعة والمخطوطة في مشارق الأرض ومغاربها والإشارة إلى ما كتب عنهم قديمًا وحديثًا. وهذه العناية من وصف التراث العربي جميعه جعلت بروكلمان لا يعني عناية مفصلة ببحث العصور والظواهر الأدبية ولا ببحث شخصيات الأدباء بحثًا تاريخيًّا نقديًّا تحليليًّا؛ إذ شغلته عن ذلك مواد كتابه المتنوعة الكثيرة. وإذن فأنا لا أبالغ إذا قلت إن تاريخ أدبنا العربي يفتقر إلى طائفة من الأجزاء المبسوطة تُبْحَثُ فيها عصوره من الجاهلية إلى عصرنا الحاضر، كما تبحث شخصياته الأدبية بحثًا مسهبًا؛ بحيث ينكشف كل عصر انكشافًا تامًّا، بجميع حدوده وبيئاته وآثاره وما عمل فيها من مؤثرات ثقافية وغير ثقافية، وبحيث تنكشف شخصيات الأدباء انكشافًا كاملًا، بجميع ملامحها وقسماتها النفسية والاجتماعية والفنية. وقد حاولت أن أنهض بهذا العبء، وأنا أعلم ثِقَلَ المئونة فيه؛ فإن كثيرًا من الآثار الأدبية القيمة لا يزال مخطوطًا لما ينشر، وكثيرًا مما نشر في حاجة إلى أن يعاد نشره نشرًا علميًّا. وهناك بيئات أدبية يغمرها غير قليل من الظلام، إما لقلة ما بين أيدينا من تراثها الأدبي، وإما لأن الباحثين لم يكشفوا دروبها ومناجمها كشفًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 كافيًا. يضاف إلى ذلك أن تحليل آثار الأدباء وتقويمها ليس عملًا سهلًا؛ لكثرة ما يداخلها من عناصر الحياة والفن المتشابكة، ولأنها تتألف من معان وأساليب جميلة، وهي لا تخضع خضوعًا مطلقًا لقواعد العلم وقوانينه، حقًّا تخضع للطريقة العلمية، ولكن باستمرار تظل فيها جوانب خاضعة للذوق ونفاذ البصيرة والإحساس المرهف. وذلك كله مما يضاعف الجهد على من يريد تأريخ أدبنا العربي تأريخًا مفصلًا دقيقًا على اختلاف عصوره وتفاوت بيئاته؛ غير أنه يضاعف في الوقت نفسه لذته فيه؛ إذ يرى أمنيته في إتقان عمله بعيدة عسيرة لا يمكنه بلوغها إلا بشق النفس؛ فيجد ويلح، ويمضي في الجد والإلحاح، حتى يظفر بما يريد، مؤمنًا بأنه لا يقول الكلمة الأخيرة فيما يبحثه؛ إذ البحث الأدبي لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله. ومعنى ذلك أن هذا الجزء من تاريخ أدبنا العربي الخاص بالعصر الجاهلي -والذي ستتلوه أجزاء أخرى تتناول بقية عصور هذا التاريخ- لا أزعم أنه يحمل إلى القراء الصورة الأخيرة لهذا العصر، كما لا أزعم أن الأجزاء التالية ستحمل الصورة الأخيرة للعصور المتعاقبة؛ وإنما أرغم أن هذه الصورة هي التي استطعت رسمها مع ما بذلت من جهد واصطنعت من نهج وتحرَّيت من دقة، وقد يأتي بعدي من يعدل في جانب من جوانبها بما يهتدي إليه من حقائق أدبية غابت عني في بعض العصور أو بعض البيئات والشخصيات الأدبية. وتلك طبيعة الأبحاث يكمل بعضها بعضًا ولا تزال في نمو مطرد. والله أسأل أن يلهمني السداد في القول والفكر والعمل، وهو حسبي، ونعم الوكيل. القاهرة في 20 من ديسمبر سنة 1960 شوقي ضيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تمهيد 1- كلمة أدب كلمة أدب من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار المدنية والحضارة. وقد اختلفت عليها معان متقاربة حتى أخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم، وهو الكلام الإنشائي البليغ الذي يقصد به إلى التأثير في عواطف القراء والسامعين؛ سواء أكان شعرًا أم نثرًا. وإذا رجعنا إلى العصر الجاهلي ننقب عن الكلمة فيه لم نجدها تجري على ألسنة الشعراء؛ إنما نجد لفظة آدب بمعنى الداعي إلى الطعام؛ فقد جاء على لسان طرفة بن العبد1: نحن في المَشْتاةِ ندعو الجَفَلَى ... لا ترى الآدبَ فينا يَنْتَقِرْ2 ومن ذلك المأدُبة بمعنى الطعام الذي يدعى إليه الناس. واشتقوا من هذا المعنى أدُبَ يأدُب بمعنى صنع مأدبة أو دعا إليها. وليس وراء بيت طرفة أبيات أخرى تدل على أن الكلمة انتقلت في العصر الجاهلي من هذا المعنى الحسي إلى معنى آخر؛ غير أننا نجدها تستخدم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في معنى تهذيبي خلقي؛ ففي الحديث النبوي: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"3 ويستخدمها شاعر مخضرم يسمى سهم بن حنظلة.   1 انظر ديوان طرفة "طبعة آلوارد" القصيدة رقم 5 بيت 46 2 المشتاة: الشتاء، الدعوة إلى الجفلى: العامة، الآدب: الداعي إلى الطعام، لا ينتقر: لا يختار أناسًا دون آخرين. 3 انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير "طبع القاهرة 1311هـ" ج1 ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الغنوي بنفس المعنى إذ يقول1: لا يمنعُ الناسُ منِّي ما أردتُ ولا ... أعطيهم ما أرادوا حسن ذَا أَدبا وربما استُخدمت الكلمة في العصر الجاهلي بهذا المعنى الخلقي؛ غير أنه لم تصلنا نصوص تؤيد هذا الظن. وذهب"نالينو" إلى أنها استخدمت في الجاهلية بمعنى السنّة وسيرة الآباء مفترضًا أنها مقلوب دأب؛ فقد جمع العرب دأبًا على آداب كما جمعوا بئرًا على آبار، ورأيًا على آراء، ثم عادوا فتوهموا أن آدابًا جمع أدب؛ فدارت في لسانهم كما دارت كلمة دأب بمعنى السنة والسيرة، ودلوا بها على محاسن الأخلاق والشيم2. وهو فرض بعيد، وأقرب منه أن تكون الكلمة انتقلت من معنى حسي وهو الدعوة إلى الطعام إلى معنى ذهني وهو الدعوة إلى المحامد والمكارم؛ شأنها في ذلك شأن بقية الكلمات المعنوية التي تستخدم أولًا في معنى حسي حقيقي، ثم تخرج منه إلى معنى ذهني مجازي. ولا نمضي في عصر بني أمية حتى نجد الكلمة تدور في المعنى الخلقي التهذيبي، وتضيف إليه معنى ثانيًا جديدًا، وهو معنى تعليمي؛ فقد وجدت طائفة من المعلمين تسمى بالمؤدبين، كانوا يعلمون أولاد الخلفاء ما تطمح إليه نفوس آبائهم فيهم من معرفة الثقافة العربية؛ فكانوا يلقنونهم الشعر والخطب وأخبار العرب وأنسابهم وأيامهم في الجاهلية والإسلام، وأتاح هذا الاستخدام الجديد لكلمة الأدب أن تصبح مقابلة لكلمة العلم الذي كان يطلق حينئذ على الشريعة الإسلامية وما يتصل بها من دراسة الفقه والحديث النبوي وتفسير القرآن الكريم. وإذا انتقلنا إلى العصر العباسي؛ وجدنا المعنيين التهذيبي والتعليمي يتقابلان في استخدام الكلمة؛ فقد سمى ابن المقفع رسالتين له تتضمنان ضروبًا من الحكم والنصائح الخلقية والسياسية باسم "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير". وبنفس هذا المعنى سمى أبو تمام المتوفى سنة 232هـ/846م الباب الثالث من ديوان   1 انظر الأصمعيات "طبع دار المعارف" رقم 12بيت 30. 2 تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية لكارلونا لينو "طبع دار المعارف" ص14وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الحماسة الذي جمع فيه مختارات من طرائف الشعر، باسم باب الأدب. وينطبق هذا المعنى تمام الانطباق على كتاب الأدب الذي عقده البخاري المتوفى سنة 256هـ/870م في مؤلفه المشهور في الحديث، والمعروف باسم الجامع الصحيح كما ينطبق على كتاب الأدب الذي صنفه ابن المعتز المتوفى سنة 296هـ/908م. وفي هذه الأزمنة أي في القرنين الثاني والثالث للهجرة وما تلاهما من قرون كانت الكلمة تطلق على معرفة أشعار العرب وأخبارهم، وأخذوا يؤلفون بهذا المعنى كتبًا سموها كتب أدب مثل "البيان والتبيين للجاحظ" المتوفى سنة 255هـ وهو يجمع ألوانًا من الأخبار والأشعار والخطب والنوادر، مع ملاحظات نقدية وبلاغية كثيرة. ومثله كتاب "الكامل في اللغة والأدب للمبرد" المتوفى سنة 285هـ، وقد وجه اهتمامه إلى اللغة لا إلى البلاغة والنقد كما صنع الجاحظ، وقدم فيه صورًا من الرسائل النثرية التي ارتقت صناعتها في تلك العصور، جاء في مقدمته: "هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبًا من الآداب ما بين كلام منثور وشعر مرصوف ومثل سائر وموعظة بالغة واختيار من خطبة شريفة ورسالة بليغة". ومما ألف في الأدب بهذا المعنى كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ و"العقد الفريد" لابن عبد ربه المتوفى سنة 328هـ و"زهر الآداب" للحصري المتوفى سنة 453هـ. ولم تقف الكلمة عند هذا المعنى التعليمي الخاص بصناعتي النظم والنثر وما يتصل بهما من الملح والنوادر؛ فقد اتسعت أحيانًا لتشمل كل المعارف غير الدينية التي ترقى بالإنسان من جانبيه الاجتماعي والثقافي؛ فقد جاء على لسان الحسن ابن سهل المتوفى سنة 236هـ: "الآداب عشرة؛ فثلاثة شهرجانية1، وثلاثة أنوشروانية2، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن؛ فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج، وأما الأنوشروانية؛ فالطب والهندسة والفروسية، وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس، وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس"3. وبهذا المعنى الواسع نجدها عند إخوان الصفا في القرن الرابع للهجرة؛ فقد دلوا بها في رسائلهم إلى جانب   1 الشهرجانية: نسبة إلى الشهارجة أو الشهاريج وهم أشراف الفرس. 2 الأنوشروانية: نسبة إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس من سنة 531-579م. 3 انظر زهر الآداب للحصري "طبع مصر" ج1ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 علوم اللغة والبيان والتاريخ والأخبار على علوم السحر والكيمياء والحساب والمعاملات والتجارات1. ولا نصل إلى ابن خلدون المتوفى سنة 808هـ حتى نجدها تطلق على جميع المعارف دينية وغير دينية؛ فهي تشمل جميع ألوان المعرفة وخاصة علوم البلاغة واللغة، ومن ثم قال: "الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف"2. ومنذ القرن الثالث للهجرة نجد الكلمة تدل -فيما تدل عليه- على السنن التي ينبغي أن تراعى عند طبقة خاصة من الناس، وألَّفت بهذا المعنى كتب كثيرة مثل أدب الكاتب لابن قتيبة وأدب النديم لكشاجم المتوفى حوالي سنة 350هـ. وتوالت كتب مختلفة في أدب القاضي وأدب الوزير وأخرى في أدب الحديث وأدب الطعام وأدب المعاشرة وأدب السفر إلى غير ذلك. على أن أكثر ما كانت تدل عليه مقطعات الأشعار وطرائف الأخبار. وأخذت الكلمة منذ أواسط القرن الماضي تدل على معنيين: معنى يقابل معنى كلمة Litterature الفرنسية التي يطلقها الفرنسيون على كل ما يكتب في اللغة مهما يكن موضوعه ومهما يكن أسلوبه؛ سواء أكان علمًا أم فلسفة أم أدبًا خالصًا؛ فكل ما ينتجه العقل والشعور يسمى أدبًا. ومعى خاص هو الأدب الخالص الذي لا يراد به إلى مجرد التعبير عن معنى من المعاني، بل يراد به أيضًا أن يكون جميلًا بحيث يؤثر في عواطف القارئ والسامع على نحو ما هو معروف في صناعتي الشعر وفنون النثر الأدبية مثل الخطابة والأمثال والقصص والمسرحيات والمقامات.   1 راجع الرسالة السابعة من القسم الرياضي في رسائل إخوان الصفا. 2 مقدمة ابن خلدون "طبعة المطبعة البهية" ص408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 2- تاريخ الأدب واضح الآن أن تاريخ الأدب لأمة من الأمم إما أن يلتزم فيه المؤرخ المعنى العام لكلمة أدب؛ فيؤرخ للحياة العقلية والشعورية في الأمة تاريخًا عامًّا، وإما أن يلتزم المعنى الخاص، فيؤرخ للشعراء والكتاب تاريخًا خاصًّا بالأدب ونشأته وتطوره وأهم أعلامه، ولعل أهم من أرخوا لأدبنا بالمعنى الأول بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي" ونسج على منواله جورجي زيدان في كتابه المسمى بـ"تاريخ آداب اللغة العربية". ونراهما يعرضان لتاريخ الحياة الأدبية والعقلية عند العرب في نشأتها وتطورها مع الترجمة للفلاسفة والعلماء من كل صنف، والشعراء والكتاب من كل نوع. ومن غير شك يتقدم بروكلمان جورجي زيدان في هذا الصدد بسبب المادة الغنية التي يحتويها كتابه؛ فقد أحصى إحصاء دقيقًا أدباء العرب وعلماءهم وفلاسفتهم مع ذكر آثارهم المطبوعة والمخطوطة وما كتب عنهم قديمًا وحديثًا؛ مبينًا مناهجهم ومكانتهم في الفن أو العلم الذي حذقوه، مع نبذة عن كل فن وعلم ومدى ما حدث له من تطور ورقي. ومؤرخ الأدب العربي إما أن ينهج هذا النهج الواسع، وإما أن ينهج النهج الثاني الذي أشرنا إليه؛ فيقف بتاريخه عند الشعراء والكتاب مفصلًا الحديث في شخصياتهم الأدبية وما أثر فيها من مؤثرات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية، ومتوسعًا في بيان الاتجاهات والمذاهب الأدبية التي شاعت في كل عصر. ومن المحقق أن المؤرخ للأدب العربي بمعناه الخاص يأخذ الفرصة كاملة كي يؤرخ لهذا الفرع المونق من فروع الأدب بالمعنى العام، وهو الفرع الذي يراعى فيه الجمال الفني والتأثير في ذوق القارئ والسامع، وإثارة ما يمكن أن يثار في نفسيهما من مشاعر وعواطف متباينة؛ فهو يؤرخ للأدب الخالص تاريخًا مفصلًا لا يكتفى فيه بالنبذ الموجزة عن الاتجاهات والفنون الأدبية ولا بالتراجم المجملة عن الشعراء والكتاب على نحو ما يصنع بروكلمان في تاريخه العام؛ بل يكتب في ذلك الفصول الواسعة مطبِّقًا المناهج الحديثة في دراسة الأدب الخالص ومن أنتجوه من الأدباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وكان من آثار سيطرة العلوم الطبيعية والتجريبية في القرن الماضي على العقول الغربية أن نادى بعض مؤرخي الأدب هناك بوجوب تطبيق مناهجها وقواعدها على الدراسات الأدبية، وحاول نفر منهم أن يضع للأدب قوانين كقوانين الطبيعة، وتقدم سانت بيف "Sainte-Beuve" يدعو إلى العناية بشخصيات الأدباء وتعقُّب حياتهم المادية والمعنوية ومؤثراتها؛ حتى نتبين ما ينفرد به الأديب وما يشترك فيه مع سواه من الأدباء؛ فإذا تبينا الطرفين أمكن أن نضع الأدباء في فصائل وأسَر على نحو ما يصنع علماء النبات إذ يرتبونه في أنواع وفصائل نباتية مختلفة. وبالمثل يضع مؤرخو الأدب أصحابه في طبقات وفصائل على أساس ما يقوم بين الأديب وفصيلته من تشابه، وهو تشابه تستخلص منه قوانين الأدب العلمية وما يمتاز به أصحاب كل فصيلة من خصائص وصفات. وتلاه تين "Taine" يقرر أن هناك قوانين ثلاثة يخضع لها الأدب في كل أمة وهي الجنس والزمان والمكان؛ وكأنه أراد أن يحول تاريخ الأدب إلى ضرب من التاريخ الطبيعي؛ فأدباء كل أمة يخضعون لهذه القوانين الثلاثة خضوعًا جبريًّا ملزمًا؛ فلكل جنس خواصه، ولكل زمان أحداثه وظروفه الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولكل مكان ميزاته الإقليمية والجغرافية، وتلك هي مؤثرات الأدب؛ بل قوانينه التي تطبع الأدباء بطوابعها الدقيقة. ولاحظ مؤرخو الأدب ونقاده أنه تجاهل شخصيات الأدباء وفرديتهم ومواهبهم وأصالتهم، ولو أن قوانينه صحيحة؛ لكان كل أديب صورة مطابقة للأدباء الآخرين، ولما تمير أديب من سواه. والواقع يثبت عكس ذلك فلكل أديب شخصيته التي تجعل منه أديبًا بعينه. له مقوماته. وبجانب هذين المنهجين في دراسة تاريخ الأدب وجد منهج ثالث عند برونتيير"Brunetiere" الذي فتن بمذهب داروين المعروف في التطور ونشوء الكائنات العضوية وارتقائها، وكان "سبنسر" سبقه إلى نقله من العضويات إلى المعنويات، وطبقه على الأخلاق والاجتماع؛ فحاول هو أن يطبقه على الأدب وفنونه المختلفة، واختار لهذا التطبيق ثلاثة فنون، هي: المسرح والنقد الأدبي والشعر الغنائي، فتتبع كلًّا في نشأته ونموه وتطوره وما عمل فيه من مؤثرات، وذهب إلى أن الفنون الأدبية مثل الكائنات الحية تخضع للتطور، وقد يتولد بعضها من بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 على نحو ما تولد الشعر الغنائي الرومانسي في القرن التاسع عشر من الوعظ الديني الذي شاع بفرنسا في القرن السابع عشر؛ فهذا الشعر لم يتطور عن شعر مماثل له، سبقه؛ وإنما تطور أو تولد عن فن آخر على نحو ما يتطور أو يتولد كائن عضوي من كائن آخر. وهذه الموجة الحادة التي اندفع خلالها هؤلاء المؤرخون في القرن التاسع عشر يريدون أن يلحقوا تاريخ الأدب بالعلوم الطبيعية ويطبقوا عليه قواعدها لم تلبث أن هدأت في أوائل هذا القرن العشرين بتأثير نمو العلوم الإنسانية؛ فإن هذه العلوم أثبتت أن عالم الإنسان يخضع لقوانين أعمق من القوانين الطبيعية وأن تاريخ الأدب ينبغي أن لا يلحق بالعلوم الطبيعية؛ وإنما يلحق بالدراسات الإنسانية مثل التاريخ والقانون والسياسة وعلمي الاجتماع والنفس. وسرعان ما أخذ مؤرخو الأدب ونقاده يطبقون على الأدب نظريات اللاشعور الفردي وعُقد الجنس ومكبوتاته واللاشعور الجماعي ورواسب الحياة الإنسانية البدائية التي تتجلى في الأساطير وما يتصل بها والعلاقات الاجتماعية والإنتاجية. وسنحاول أن نؤرخ في أجزاء هذا الكتاب للأدب العربي بمعناه الخاص مفيدين من هذه المناهج المختلفة في دراسة الأدب وأعلامه وآثاره؛ فنقف عند الجنس والوسط الزماني والمكاني الذي نشأ فيه الأديب، ولكن دون أن نبطل فكرة الشخصية الأدبية والمواهب الذاتية التي فسح لها "سانت بيف" في دراساته. وكذلك لن نبطل نظرية تطور النوع الأدبي؛ فما من شك في أن الأنواع الأدبية تتطور من عصر إلى عصر، وقد يتولد بعضها من بعض فيظهر نوع أدبي جديد لا سابقة له في الظاهر؛ ولكن إذا تعمقنا في الدرس وجدناه قد نشأ من نوع آخر مغاير له، على نحو ما يلاحظ ذلك من يدرس فن المقامة في العصر العباسي؛ فإنها -في رأينا- تولدت من فن الأرجوزة، وما ابتغى به أصحابه في العصر الأموي عند رؤبة ونظرائه من تعليم الناشئة والموالي ألفاظ اللغة العربية الغريبة وتراكيبها العويصة. فاقتران هذه الغاية بالأرجوزة يلفتنا إلى نفس الغاية في المقامة عند بديع الزمان، والحريري، وما بين الفنين من صلات وروابط. ولا بد أن نستضيء في أثناء ذلك بدراسات النفسيين والاجتماعيين وما تلقى من أضواء على الأدباب وآثارهم. وبجانب ذلك؛ لا بد أن نقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 عند أساليب الأدباء وتشكيلاتهم اللفظية وما تستوفي من قيم جمالية مختلفة، ولا بد من المقارنة بين السابق واللاحق في التراث الأدبي العربي جميعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 3- تقسيمات تاريخ الأدب العربي وعصوره أكثر من أرخوا للأدب العربي وزعوا حديثهم في هذا التاريخ على خمسة عصور أساسية، هي "1" عصر الجاهلية أو ما قبل الإسلام "2" والعصر الإسلامي من ظهور الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ/ 750م وهو العصر الذي تكونت فيه الدولة العربية وتمت الفتوح الإسلامية. ومن المؤرخين من يقسم هذا العصر قسمين، فهو إلى نهاية عصر الخلفاء الراشدين يسمى عصر صدر الإسلام، وما يليه إلى آخر الدولة الأموية يسمى العصر الأموي. "3" والعصر الثالث هو عصر العباسيين أو العصر العباسي: ويستمر إلى سقوط بغداد في يد التتار سنة 656هـ / 1258م. ويقسم بعض المؤرخين هذا العصر قسمين: العصر العباسي الأول ويمتد نحو مائة عام، والعصر العباسي الثاني ويستقل ببقية العصر، ومن المؤرخين من يقسمه ثلاثة أقسام، يبقي فيها على القسم الأول بنفس الاسم، أما العصر العباسي الثاني فيقف به عند سنة 334هـ/ 945م وهي السنة التي استولى فيها بنو بويه على بغداد والتي أصبحت الخلافة العباسية منذ تاريخها اسمية فقط، ويمتد العصر العباسي الثالث إلى استيلاء التتار على بغداد. وقد يقسم بعض المؤرخين هذا العصر العباسي الثالث قسمين؛ فيقف بالقسم الأول عند دخول بعض المؤرخين هذا العباس الثالث قسمين، فيقف بالقسم الأول عند دخول السلاجقة بغداد 447هـ / 1055م ويستقل القسم الثاني أو العصر العباسي الرابع ببقية العصر. "4" وباستيلاء التتار على بغداد يبدأ العصر الرابع ويستمر إلى نزول الحملة الفرنسية بمصر سنة 1213هـ / 1798م "5" ثم العصر الحديث الذي يمتد إلى أيامنا الحاضرة وسنبقي في كتابنا على العصرين الأولين، أما العصر الثالث وهو العصر العباسي فسندخل عليه بعض التعديل؛ وذلك أننا سنبقي على قسمين منه: عصر عباسي أول ينتهي بانتهاء خلافة الواثق سنة 232هـ، وعصر عباسي ثاني ينتهى باستيلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 البويهيين على بغداد سنة 334هـ. ومن هذا التاريخ إلى نهاية العصور الوسطى نبتدئ عصرًا رابعًا نمده إلى العصر الحديث وهو عصر الدول والإمارات؛ فقد تفككت أوصال الدولة العباسية وظهرت إمارات وخلافات ودول كثيرة كإمارات الفرس في إيران وما وراءها وسيف الدولة الحمداني في حلب والفاطميين ثم الأيوبيين والمماليك والعثمانيين في مصر والأمويين ثم ملوك الطوائف والمرابطين والموحدين ومن خلفوهم في الأندلس. وحريّ أن يبحث الأدب العربي في هذا العصر الرابع ويؤرَّخ في كل إقليم على حدة؛ فيكون هناك جزء لإيران والعراق وجزء لمصر والشام والجزيرة العربية وجزء للأندلس وبلاد المغرب، وقد ينمو البحث وتتولد أجزاء أخرى؛ حتى إذا انتهينا من ذلك أرخنا للعصر الخامس، وهو العصر الحديث وقسمناه بدوره أجزاء على البلاد العربية. ولا أشك في أن هذا التقسيم الجديد لعصور الأدب العربي أكثر دقة ومطباقة لتطوره وللظروف المختلفة التي أثرت فيه؛ فإن بغداد لم تعد منذ القرن الرابع الهجري تحتل المكانة الأولى في الحركات الأدبية؛ بل لقد نافستها في الشرق والغرب مدن كثيرة تفوقت عليها في النهوض بالشعر والنثر تفوقًا واضحًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الفصل الأول: الجزيرة وتاريخها القديم صفة الجزيرة العربية ... الفصل الأول: الجزيرة العربية وتاريخها القديم 1- صفة الجزيرة العربية 1 تشغل جزيرة العرب الجنوب الغربي لآسيا، وقد سماها أهلها جزيرة لأن الماء يدور بها من ثلاث جهات في جنوبيها وغربيها وشرقيها؛ فهي شبة جزيرة، وليس في الأرض شبه جزيرة تضاهيها في المساحة. ويرى علماء الجيولوجيا أنها كانت متصلة بإفريقية في الزمن المتعمق في القدم، ثم فصلهما منخفض البحر الأحمر الذي يمتد في غربيها، كما يرون أنه كان يعطي جزءًا منها في العصر الجليدي مروج خضراء، وكانت تجري بها بعض أنهار، ولا تزال تشهد عليها أودية جافة عميقة. ويطل عليها في الجنوب المحيط الهندي وفي الشرق بحر عمان وخليج العرب، وتترامى متوغلة في الشمال على حدود فلسطين وسوريا غربًا والعراق وبلاد الجزيرة شرقًا. وكان جغرافيو اليونان والرومان يقولون إنها ثلاثة أقسام: العربية الصحراوية والعربية الصخرية أو الحجرية والعربية السعيدة، أما العربية الصحراوية؛ فلم يعيِّنوا حدودها ولكن يفهم من كلامهم أنهم كانوا يطلقونها على البادية الشمالية التي تصاقب بلاد الشام غربًا وتمتد شرقًا إلى العراق والحيرة. وكانت تقع في شماليها مملكة تدمر التي حكمتها أسرة الزبَّاء المشهورة. وأما العربية الصخرية فكانوا يطلقونها على شبه جزيرة سيناء والمرتفعات الجبلية المتصلة بها في شمالي الحجاز وجنوبي البحر الميت، وهي التي أقام فيها النبط مملكتهم واتخذوا مدينة سلع "بطرا"   1 انظر في صفة الجزيرة العربية كتب الجغرافية العربية، وكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي "طبع بغداد" ج1ص 86 وما بعدها وكتاب تاريخ العرب "مطول" لفيليب حتى "الترجمة العربية" ج1 ص15 وما بعدها وكتاب "قلب جزيرة العرب" لفؤاد حمزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 حاضرة لهم، وامتدت هذه المملكة في عهد الحارث الرابع أوائل القرن الأول للميلاد إلى دمشق؛ غير أن الرومان استولوا عليها سنة 106م. أما العربية السعيدة فكانت تشمل وسط الجزيرة وجنوبيها، أو بعبارة أخرى كل ما وراء القسمين الأول والثاني. وربما دل ذلك من بعض الوجوه على أن هذا القسم الثالث كان يدين بالولاء للدول الجنوبية مثل معين وسبأ. ويقسم جغرافيو العرب الجزيرة إلى خمسة أقسام، هي: تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن، وتهامة هي المنطقة المطلة على بحر القُلْزُم أو البحر الأحمر. وتسمى في الجنوب باسم تهامة اليمن، وقد يبلغ عرضها في بعض الأمكنة خمسين ميلًا، وكان العرب القدماء يسمونها الغَوْر لانخفاض أرضها، وهي أرض رملية شديدة الحرارة، وقد قامت بها بعض المرافئ والثغور مثل الحديدة في اليمن، ومثل جدة وينبع في الحجاز. ويقع في شماليهما ثغر صغير يعرف باسم الوجه، ويظن أنه كان ثغر مدينة الحِجْر المعروفة الآن باسم مدائن صالح. في جنوبي الوجه قرية الحوراء، وربما كانت هي الموضع الذي أرسى فيه "إليوس جالوس" القائد الروماني بجيوشه سنة 24ق. م وهي الغزوة التي أراد بها أن يفتح بلاد اليمن وباءت بالفشل الذريع. وتمتد في شرقي تهامة سلسلة جبال السَّراة من الشمال إلى الجنوب فاصلة بينها وبين هضبة نجد ومؤلفة إقليم الحجاز المعروف، وتكثر في هذا الإقليم الأودية والمناطق البركانية، والحرَّات وهي أراض رملية تعلوها قمم البراكين. وإذا وجدت في هذه الأراضي آبار وعيون آذنت بالخصب وقيام القرى الكبيرة مثل المدينة أو يثرب ووادي القُرى في شماليها وهو يقع بينها وبين العُلا، وكانت تسمى قديمًا دادان. ومن مدن هذا الوادي قُرْح وكانت تقام بها سوق عظيمة في الجاهلية ومدينة الحجر أو مدائن صالح وقومه من ثمود. ونزل اليهود ببعض قرى هذا الوادي مثل خيبر وفدك، وامتدوا إلى تيماء في الشمال ويثرب في الجنوب. وكان ينزل في هذه الجهات قبل الإسلام قبائل عذرة وبلى وجهينة، وقضاعة وكانت تمتد عشائرها إلى شبه جزيرة سيناء. وعثر المنقبون في وادي القرن على نقوش عربية جنوبية وأخرى شمالية كالثمودية واللحيانية. وأهم مدن الحجاز مكة واسمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 عند بطليموس مكربا "Macoraba" وكانت قبل الإسلام تمسك بزمام القوافل المصعدة إلى البحر الأبيض والمنحدرة إلى المحيط الهندي، وكان بها الكعبة بيت أصنامهم حينئذ فكان العرب يحجون إليها ويتجرون في أسواقها ويبتاعون ما يحتاجون إليه. وعلى بعد خمسة وسبعين ميلًا إلى الجنوب الشرقي من مكة تقع الطائف، وقد أقيمت على ظهر جبل غَزْوان، وتحف بها أودية وآبار كثيرة أتاحت للمملكة النباتية أن تزدهر هناك من قديم، وقد عثر فيها على نقوش ثمودية. وينبسط الحجاز شرقًا في هضبة نجد الفسيحة التي تنحدر من الغرب إلى الشرق حتى تتصل بأرض العَروض وهي بلاد اليمامة والبحرين. ويسمي العرب جزءها المرتفع مما يلي الحجاز باسم العالية، أما جزؤها المنخفض مما يلي العراق فيسمونه السافلة؛ بينما يسمون شرقيها إلى اليمامة باسم الوشوم وشماليها إلى جبلي طيء: أجا وسلمى باسم القَصيم، وهو عندهم الرمل الذي ينبت الغضا وهو ضرب من الأثل، وإليه ينسب أهل نجد فيسمون أهل الغضا. وشمالي نجد صحراء النفود وهي تشغل مساحة واسعة؛ إذ تبتدئ من واحة تيماء وتمتد شرقًا نحو 300 ميل وتزخر بكثبان من الرمال الحمراء، تخللها مراع فسيحة. وإذا اقتربت من العراق مدت ذراعًا لها نحو الجنوب، فتفصل بين نجد والبحرين متسمية باسم الدهناء أو رملة عالج وهي منازل قبيلتي تميم وضبة في الجاهلية والإسلام؛ حتى إذا أحاطت باليمامة انبطحت في الربع الخالي وهو صحراء واسعة قاحلة يظن أنها تبلغ نحو خمسين ألف ميل مربع، وهي تفصل بين اليمامة ونجد من جهة وبين عمان ومهرة والشحر وحضرموت من جهة ثانية، وتندمج فيها صحراء الأحقاف التي تمتد إلى الغرب فاصلة اليمن من نجد والحجاز. وهذه الصحارى التي تطوق نجدًا في الشمال والشرق والجنوب قفار متسعة، وخيرها القسم الشمالي؛ إذ تكسوه الأمطار في الشتاء حلة قشيبة من النباتات والمراعي. ووراء هذا القسم في الشمال بادية الشام وهي كثيرة الأودية والواحات وبادية العراق أو بادية السماوة. وواضح أنهما لا تعدان من نجد. وتشمل العروض اليمامة والبحرين وما والاهما. وعَدَّ ياقوت في معجم البلدان اليمامة من نجد، وكانت عند ظهور الإسلام عامرة بالقرى، مثل حجر وكانت حاضرتها، ومثل سدوس ومنفوحة وبها قبر الأعشى، ويقال إنها كانت موطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قبيلتي طَسْم وجديس البائدتين. وقد عثر فيها على نقوش سبئية متأخرة. وتمتد البحرين من البصرة إلى عُمان، وبها كانت تنزل قبيلة عبد القيس في الجاهلية، وهي تشمل الآن الكويت والأحساء وجزر البحرين وقطر، وتكثر في الإقليم الآثار والمياه وخاصة في الأحساء، ومن مدنه القديمة هَجر وفي أمثالهم "كجالب التمر إلى هجر"، والقَطيف وكانت تسمى أيضًا الخط وإليها تنسب الرماح الخطية. وفي جنوبي البحرين عمان ومن مدنها صُحار ودَبا وكان بها سوق مشهورة في الجاهلية. وعُرف سكان هذه المنطقة من قديم بالملاحة واستخراج اللآلئ. أما القسم الخامس من الجزيرة وهو اليمن؛ فيطلق على كل الجنوب، فيشمل حضرموت ومهرة والشحر، وقد يطلق على الزاوية الجنوبية الغربية من الجزيرة، وهو الإطلاق المشهور الآن, وتتألف اليمن من أقسام طبيعية ثلاثة: ساحل ضيق خصب هو تهامة اليمن وجبال موازية للساحل هي امتداد سلسلة جبال السراة ثم هضبة تفضي إلى نجد ورمال الربع الخالي، وبها كثير من الأودية والسهول والثمار والزروع بفضل أمطار الرياح الموسمية الغزيرة، وقد وصفها القرآن الكريم بأنها {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} . وأتاح ذلك لسكانها أن يقيموا فيها دولًا وحضارة منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد إلى أوائل القرن السادس الميلادي. ويسمى قسمها الشمالي المجاور للحجاز باسم عَسير، وكانت تنزله قبيلة بَجيلة في الجاهلية. ومن أشهر مدن اليمن زبيد وظفار وصنعاء وعدن ونجران، ومن أشهر وديانها تبالة وبيشة وكان به مأسدة. وتمتد شرقي اليمن حضرموت على ساحل بحر العرب؛ فإقليم مهرة، والشحر ومعناه في اللغة الجنوبية الساحل، وتنمو في جباله أشجار الكُنْدُر وهو اللبان الذي اشتهر به جنوبي بلاد العرب في الجاهلية. ومناخ الجزيرة في جملته حار شديد الحرارة، وتكثر في نجد رياح السموم التي تهب صيفًا؛ فتشوي الوجوه شيًّا، وألطف رياحها الرياح الشرقية ويسمونها الصبا، وأكثر شعراؤهم من ذكرها. أما ريح الشمال فباردة وخاصة في الشرق؛ إذ تتحول إلى صقيع في كثير من الأحيان. والأمطار عامة قليلة؛ إلا في الجنوب حيث تهطل أمطار الرياح الموسمية في الصيف، وإلا في الشمال الغربي حيث تهطل أمطار الرياح الغربية شتاء. وكثيرًا ما يتحول المطر إلى سيول جارفة في اليمن وشمالي الحجاز، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وصف امرؤ القيس في معلقته سيلًا جارفًا حدث بالقرب من تيماء حيث كانت منازل بني أسد. وتقل الأمطار في الداخل ولقلتها سموها غيثًا وحيا "من الحياة" واستنزلها الشعراء على ديار معشوقاتهم وقبور موتاهم. ومتى احتبست الأمطار جفت الأرض وأجدبت وحل الهلاك والفناء على القطعان والرِّعاء. ولطول ما كان يحدث لهم من ذلك سموا الجدب سنة؛ فيقولون: أصابتنا سنة أتت على الأخضر واليابس. ومن أجل ذلك كثرت عندهم الرحلة في طلب العشب والكلأ، فترحل القبيلة بإبلها وأغنامها إلى مراع جديدة. وليس في الجزيرة بحيرات إلا ما يقال من أن هناك بحيرة مالحة في الربْع الخالي، وليس بها كذلك غابات ولا أنهار جارية. وفي الجنوب والشرق وقرى الحجاز واليمامة تكثر الزروع والثمار وتتناثر بعض الفواكه، وقد اشتهرت اليمن وما والاها قديمًا بأشجار اللبان والطيب والبخور، كما اشتهرت حديثًا بأشجار البن، وتشتهر الطائف بالكروم، ولم يكونوا يعتمدون عليها وحدها في الخمر؛ بل كانوا يعتمدون أيضًا على مدن الشام، والنخلة أهم الأشجار في الجزيرة كلها. ويتردد على ألسنة شعراء نجد ذكر طائفة من الأزهار على رأسها العَرار والخُزَامى وطائفة من الأشجار على رأسها الغَضا والأثْل والأرْطى والسِّدر "الطَّلح" والحنظل والضَّال والسَّلم. أما الحيوان؛ فقد صور شعراؤهم كثيرًا من أليفه مثل الخيل والإبل والأغنام ووحشيِّه مثل الأوعال والظباء والنعام والغزال والزراف وحمار الوحش وأتُنه وثور الوحش وبقره، ومثل الأسد والضبع والذئب والفهد والنمر. ودارت الطيور الجارحة على ألسنتهم مثل الحدأة والصقر والنسر والغراب، وقلما وصفوا منهلًا دون أن يذكروا القطا وهو يشبه الحمام. وذكروا كثيرًا الجراد، وتحدثوا عن النخل واشتهرت به هذيل التي كانت تعنى ببيوته وخلاياه. ومن زواحفهم الثعبان والعقرب والوَرَل والضب. وفي أمثالهم: "أعقد من ذنب الضب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 2- الساميون 1 تطلق كلمة الساميين على مجموعة من الشعوب في الشرق الأوسط دلت القرابة بين لغاتها على أنها كانت في الأصل تتكلم بلهجات متقاربة تطورت إلى لغات سميت جميعًا باسم السامية أخذًا من اسم سام بن نوح الذي ورد ذكره في التوراة، وهي تسمية اصطلاحية؛ فليس هناك أمة تسمى بالأمة السامية؛ إنما هناك صلات لغوية بين طائفة أفعالها وأزمانها وفي كثير من أصول الكلمات والضمائر والأعداد. وقد قسمها علماء اللغات إلى شمالية وجنوبية وقسموا الشمالية إلى شرقية وغربية، أما الشرقية؛ فاللغة الآكدية "البابلية والأشورية" وأما الغربية فاللغة الأوجريتية "لغة نقوش رأس شمرا" والكنعانية "الفينيقية والعبرية والمؤابية" ثم الآرامية. وقسموا الجنوبية إلى عربية شمالية وهي الفصحى وعربية جنوبية وهي لغة بلاد اليمن وما والاها في الزمن القديم، ثم الحبشية. وتساءل العلماء عن المهد الأصلي لأسلاف الناطقين بهذه اللغات السامية المختلفة، وتعددت إجاباتهم في هذا الصدد، فمن قائل: إنهم نشئوا مع الحاميين في موطن واحد، لعله في شمال إفريقية أو في ناحية الصومال، ومنه هاجر الساميون إلى بلاد العرب عن طريق باب المندب أو عن طريق شبه جزيرة سيناء، ومن قائل إنهم نشئوا مع الآريين في أواسط آسيا أو في أرمينية، ومن قائل إنهم نشئوا في شمالي سوريا، ومن قائل إنهم نشئوا فيما بين النهرين. ومهما يكن المهد القديم لأصل نشأتهم الذي يتعمق في عصور ما قبل التاريخ؛ فإن الباحثين يتفقون على أن موطنهم في العصور التاريخية هو الجزيرة العربية؛ فقد نزلوا بها واستقروا فيها   1 راجع في الساميين وموطنهم الأول وأسرهم تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ج1 ص 148 وما بعدها وتاريخ العرب مطول لفيليب حتى ج1 ص8 وما بعدها ومقدمة في تاريخ الحضارات القديمة لطه باقر "الطبعة الثانية" ج1 ص115 وما بعدها وج2 ص 232-306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وعاشوا حياة مشتركة اكتسبوا خلالها هذا التشابه في لغاتهم. ودفعهم جَدب الجزيرة وخصب ما حولها من العراق والشام واليمن إلى الهجرة في موجات يتلو بعضها بعضًا في فترات متباعدة وكأنما كانت الجزيرة تشبه خزانًا كبيرًا يفيض على ما حوله في الحين بعد الحين. وأول موجة فاضت من هذا الخزان موجة الأكديين" البابليين والأشوريين" خرجت من الجزيرة إلى العراق في أواخر الألف الرابع ق. م وأوائل الثالث؛ فوجدت هناك السومريين وقد عاشوا مدة تحت حكمهم، تأثروا فيها بلغتهم ودينهم وعاداتهم وكل ما سبقوهم إليه في الحضارة والعمران. ولا نمضي طويلًا في النصف الثاني من الألف الثالث ق. م حتى نجدهم يقيمون مملكة لهم يتخذون حاضرتها مدينة أكد كان أهم ملوكها سرجون الأول "في حدود 2350 ق. م" الذي مد فتوحه حتى وسعت دولته العراق والجزيرة والشام؛ فكانت تلك أول دولة سامية عُرفت في الشرق الأوسط. ولم تلبث أن انهارت؛ فقامت على أنقاضها دويلات مستقلة، وتقدمت دولة بابل في أوائل الألف الثاني ق. م؛ فأعادت الأمور إلى نصابها، ومن أشهر ملوكها حمورابي الذي تولى الملك في القرن الثامن عشر ق. م وكان سياسيًّا ومشرعًا عظيمًا، واشتهر بين المؤرخين بمسلته التي سجل عليها في ثلاثمائة سطر شريعته، وهي تصور تصويرًا دقيقًا القانون البابلي القديم. وامتازت هذه الدولة بشخصية سامية حية؛ فقد ازدهر القانون في عهدها وازدهر الأدب بفرعيه من الشعر والقصص. على أننا لا نمضي طويلًا حتى تفد أمم غير سامية من الشرق -هم الكشيون- فتخرب بابل، ولا يلبث الحيثيون وهم من أمم آسيا الصغرى أن يقضوا عليها في أوائل القرن السادس عشر ق. م؛ وبينما كانت بابل تعاني من الكشيين والحيثيين كان إخوانهما الذين هاجروا معهم من الجزيرة العربية ويمموا نحو الشمال فيما بين النهرين وهم الأشوريون ينهضون، ومعنى ذلك أنهم من نفس الموجة الأكدية، وتاريخهم يتضح منذ القرن الرابع عشر ق. م. وقد اتخذوا نينوى في بعض عصورهم حاضرة لهم، وكانت دولتهم حربية عسكرية، واستعمروا الشام وآسيا الصغرى واستولوا على بابل وحاربوا مصر، ولغتهم الأشورية تخالف البابلية في بعض خصائصها، وقد ازدهرت في عهدهم علوم الطب والفلك والرياضيات، كما ازدهرت فنون الأدب. ولا نصل إلى القرن السابع ق. م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 حتى تنهكهم حروبهم، ويهجم عليهم الميديون من هضبة إيران، ويستولوا على حاضرتهم نينوى؛ فتستقل عنهم بابل وتقوم بها الدولة البابلية الحديثة أو دولة الكلدانيين "626-538 ق. م" الذين اشتهروا بإتقانهم لعلم الفلك كما اشتهر ملكهم بختنصر بتخريبه لبيت المقدس. وسرعان ما يقضي عليهم الفرس بقيادة كورش سنة 538 ق. م ويخضعون لدولتهم المعروفة بالكيانية. ويدور الزمن دورة؛ وإذا الإسكندر المقدوني في القرن الرابع ق. م يستولي على الشرق الأوسط، وبذلك ينتهي تاريخ هذه الموجة السامية القديمة موجة الأكديين من بابليين وأشوريين. والموجة السامية الثانية التي خرجت من الجزيرة العربية هي موجة الكنعانيين، وقد بدأت في خروجها منذ أوائل الألف الثاني ق. م ويممت الشام وسواحل البحر الأبيض الشرقية، وأسست هناك مدنًا تجارية مثل صيدا وصور وجُبَيْل وبيروت. وكان اليونان يسمون هل السواحل من هذه الموجة باسم الفينيقيين، وقد أسسوا لهم مستعمرات في أفريقية وآسيا الصغرى والأندلس وهم الذين اخترعوا الخط الأبجدي وعنهم انتشر في العالم. ومن هذه الموجة الأوجريتيون الذين تغلغلوا في شمال سوريا وقد وصلتنا عنهم نقوش رأس شمرا في شمالي اللاذقية وفيها شعر وحكم ومن هذه الموجة أيضًا المؤابيون الذين استقروا في فلسطين منذ القرن الثالث عشر ق. م، وقد استولى الأشوريون على مملكتهم الشمالية في القرن السابع ق. م. وهدم يختنصر ملك بابل حاضرتهم أورشليم في القرن السادس ق. م، وأجلى سكانها إلى بابل. ولا تلبث الآرامية أن تغلب على لغتهم؛ إلا أنهم ظلوا يحافظون عليها في تعاليمهم الدينية وفي بعض كتاباتهم. والآراميون هم ثالث الموجات السامية الكبيرة التي خرجت من الجزيرة العربية قبل الميلاد، وقد بدأ خروجهم منذ منتصف الألف الثاني ق. م والمظنون أنهم كانوا بدوًا رحلًا يتنقلون شمالي صحراء النفود في باديتي الشام والعراق ويتغلغلون إلى خليج العقبة غربًا وجنوبي الفرات شرقًا، وقد استطاعوا أن يكونوا لهم إمارة بين بابل والخليج العربي، عرفت باسم كلد ومنها أخذ اسم الكلدانيين، ونراهم في القرن الثالث عشر ق. م ينزحون إلى أراضي الرافدين دجلة والفرات في الشمال، ويعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 هؤلاء النازحون باسم آرام النهرين. ولا نلبث أن نراهم في القرنين الحادي عشر والعاشر ق. م يبلغون أوج قوتهم فيغيرون على شمالي الشام ويكونون به دويلات صغيرة بين حلب وجبال طوروس، وقد استولوا على دمشق وأسسوا بها مملكة اشتبكت في حروب طويلة مع الفينيقيين والعبريين. وكان لها دور مهم في شئون التجارة؛ فقد كانت قوافلها الصلة بين العراق والشام وآسيا الصغرى، وكانت تلتقي في شمالي الحجاز بقوافل اليمن وقوافل الثموديين من الحجازيين. وظلت للآراميين هذه الأهمية التجارية بعد سقوط دويلاتهم؛ فإنها سرعان ما سقطت؛ إذ لم تكن تجمعها وحدة سياسية تشد من أزرها أمام هجمات الأشوريين؛ فقضوا عليها واحدة بعد أخرى. وقد أخذوا عن الفينيقيين أبجديتهم بسبب اختلاطهم بهم في التجارة وكتبوا بها لغتهم. ولما سقطت دويلاتهم تفرقوا في ممالك غربي آسيا؛ فكان ذلك سببًا في انتشار لغتهم وثقافتهم وحضارتهم؛ إذ وجدت أمم العراق وإيران سهولة في أبجديتهم، مما جعل الدولة الكيانية تتخذها إحدى لغاتها الرسمية، وقد أصبحت اللغة اليومية للأشوريين والبابليين والعبريين والفينيقيين، وربما كان من الأسباب المهمة في ذلك سهولة نحوها بالإضافة إلى سهولة أبجديتها. وتقوم الحرب بين الفرس والروم ويتخذون من بلادهم ميدانًا لها، فيتأثرون بحضارتيهما، وبذلك أصبحوا ورثة الحضارات القديمة في هذا المحيط: الحضارة الفارسية والرومانية والبابلية والأشورية والفينيقية، وقد كتبت الأناجيل بالآرامية؛ إذ كان يستخدمها حواريو المسيح، كما كتبت بها معظم المؤلفات الدينية للكنائس الشرقية، ولها لهجات عدة، أهما اللغة السريانية التي كانت منتشرة فيما بين النهرين، وقد اتخذتها المسيحية لغة أدبية لها، وهي اللغة التي كان يدرس بها الطب والعلوم الطبيعية بجانب اليونانية في مدارس الرُّها فيما بين النهرين ومدرسة جُنْديَسْابور الفارسية وغيرهما. ومن لهجاتها أيضًا لهجة الصابئة فيما بين النهرين. وقد ظلت بلهجاتها المختلفة لغة حية في الشرق الأوسط إلى أن جاء الإسلام فقضت عليها وعلى لهجاتها لغة القرآن الكريم، وإن ظلت معروفة في بعض البيئات. والموجة السامية الأخيرة هي موجة العرب الجنوبيين وما تفرع عنها من موجة حبشية، وقد بدأت في أواخر الألف الثاني ق. م متجهة إلى الجنوب وساحل المحيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الهندي. ويظهر أن جماعات ممن نزلت في تهامة اليمن هاجرت إلى السواحل الإفريقية، بقصد التجارة وتغلغلت في هضبة الحبشة وكونت هناك مملكة، نشبت بينها وبين العرب الجنوبيين سلسلة من الحروب انتهت بقضائها على دولتهم في سنة 525م. وقد اعتنق حكامها المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 3- العرب الجنوبيون 1 تقسم الظروف الطبيعية بلاد العرب قسمين كبيرين، تفصل بينهما صحراوات واسعة، تجعل حياة كل منهما تختلف عن الأخرى؛ فبينما تحضر الجنوبيون كان الشماليون في الحجاز ونجد يعيشون معيشة يدوية، إذ كانوا في الجملة بدوًا رُحلًا ينتقلون وراء مساقط الغيث ومواضع العشب والكلأ. ونشأت عن ذلك فروق واسعة بين القسمين المتناقضين؛ فبينما ظل الشماليون يحيون في الغالب حياة بدوية إلا ما تسرب إليهم من الحضارات الأجنبية المجاورة في العراق والشام نهض الجنوبيون بحضارة لا تزال حصونها وهياكلها وقلاعها وأبراجها قائمة لم تندثر اندثارًا تامًا. وقد استطاعوا أن يشيدوا سد مأرب لحبس الماء في فصل الأمطار، مما يدل على أنه كان لديهم نظام محكم لتدبير شئون الزراعة وتوزيع المياه؛ فقد أقاموا السدود والصهاريج، وكانت أرضهم مهيأة لتزدهر فيها حياة نباتات وأشجار واسعة بفضل مياه الأمطار الموسمية وطرق الري الصناعية. ونشأت بينهم وبين بلاد العراق والشام ومصر علاقات تجارية واسعة؛ فقد كانت قوافلهم تجوب الصحراء العربية شرقًا وشمالًا منذ الألف الثاني ق. م تحمل توابل الهند ورقيق إفريقية وأفاويه اليمن وعروضها من اللُّبان والطيب والبخور وتعود محملة بعروض البلاد التي تتجر فيها.   1 انظر في أصل تسمية العرب باسمهم كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 1/ 169 وراجع في تاريخ العرب الجنوبيين كتاب "التاريخ العربي القديم" لطائفة من المستشرقين ترجمة فؤاد حسنين علي "نشر وزارة التربية والتعليم" وانظر "تاريخ العرب قبل الإسلام" لجواد علي 1/ 375، 2/ 8- 276، 3/ 136- 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وكان المعروف عن هؤلاء العرب الجنوبيين قليلًا؛ فهو لا يتجاوز إشارات وردت عنهم في العهد القديم وفي بعض الآثار المصرية والبابلية والأشورية وفي كتابات المؤرخين والجغرافيين من اليونانيين والرومانيين، ثم ما كتبه العرب عنهم بعد الإسلام، وتختلط به الأساطير. وظل تاريخهم غير واضح إلى أواسط القرن الماضي؛ فقد جد علماء الغرب في قراءة نقوشهم المنثورة على الأبراج والهياكل والنصب والأحجار، وهي مكتوبة بخط يسمى الخط المسند وهو خط سامي قديم وقد عرف هؤلاء العلماء اللغة التي كتبت به وبلهجاتها؛ فهي لغة سامية قريبة من الحبشية والعربية الشمالية، انبثقت فيها لهجتان أساسيتان هما المعينية والسبئية. ومن هذه النقوش استطاع الباحثون أن يعرفوا الحضارة العربية الجنوبية بدياناتها وآلهتها وأنظمتها الحكومية ودولها وملوكها، واستقر بينهم أنه كانت هناك خمس ممالك هي: مملكة مَعين، وكانت حاضرتها معين في الجوف اليمني. ثم مملكة سبأ في جنوبيها وعاصمتها مأرب، ومملكة قتبان في الجنوب الغربي لسبأ وعاصمتها تِمْنَع، والمملكة الأوسانية جنوبي قتبان، ثم مملكة حضرموت وحاضرتها شَبْوة. ويظهر أنه كان للمعينيين دولة قوية منذ القرن العاشر ق. م وقد سيطروا على القتبانيين والحضرميين، أو بعبارة أدق سيطروا على طريق القوافل التجارية لا في الجنوب فحسب؛ بل أيضًا على طول الطريق إلى الشمال؛ فقد وجدت نقوش معينية في شمال الحجاز بدادان في منطقة العُلا الحالية وفي الحِجْر أو مدائن صالح؛ مما يدل على أنهم أنشئوا في هذه الجهات مراكز لقوافلهم التجارية كي تحميها. وأغلب الظن أنه كان لهم بها حاميات نزلت بها بعض عشائرهم. ومع مرور الزمن غلبت عليهم طوابع العرب الشماليين؛ فكانوا بذلك أول من حمل الحضارة الجنوبية إلى إخونهم في الشمال. ولا نصل إلى القرن السابع ق. م. حتى يغلب السبئيون على المعينين ويمدوا سلطانهم بعد ذلك على الاتحاد الجنوبي كله، كما يمدونه على مراكز المعينيين في الشمال، وقد تحولت إلى أيديهم أزمة القوافل التجارية، واتخذوا مأرب حاضرة لهم، وقصة سدها وخرابه مشهورة، وكذلك قصة ملكتها بلقيس مع سليمان عليه السلام. وحدث حوالي سنة 270 ق. م أن أنشأ بطليموس الثاني أسطولًا بحريًّا في البحر الأحمر يحمل إلى مصر عروض الهند وإفريقية الشرقية فأحدث ذلك اضطرابًا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 شئون السبئيين الاقتصادية، ونازعهم ملوك رَيْدان أصحاب ظفَارِ وغلبوا عليهم وعلى الدول الجنوبية منذ سنة 115ق. م. وكانوا يتلقبون باسم ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت واليمنات، وهم الحميريون. ودولتهم آخر الدول العربية الجنوبية، ولا نصل إلى سنة 24ق. م حتى نجد إليوس جالوس وإلى الرومان على مصر يجهز حملة كبيرة لفتح بلاد الحميريين والاستيلاء على ما بأيديهم من مفاتيح تجارة التوابل والأفاويه، وفشلت حملته فشلًا ذريعًا؛ غير أن الرومان اتجهوا إلى الملاحة في البحر الأحمر، ويقال إنهم استولوا على ميناء عدن واتخذوها قاعدة لتموين سفنهم؛ فشلّوا بذلك تجارة الحميريين وساءت أحوالهم الاقتصادية، فأهملوا شئونهم العمرانية، واستولوا على بلادهم في منتصف القرن الرابع الميلادي وظلوا بها نحو عشرين عامًا، عادت بعدها الدولة الحميرية؛ ولكنها لم تعد إلى سابق قوتهان فإن القبائل الشمالية أخذت تُغير عليها كما أخذ كثير من عشائرها يهاجر إلى الشمال. وفي نقوشهم ما يدل على أن الأعراب نزلوا بديارهم منذ القرن الرابع الميلادي واستقروا فيها، وقد أخذت لغتهم تتغلب في بعض الجهات على لغة البلاد الأصلية كما أن من هاجر من عرب الجنوب إلى الشمال غلبت عليه لغة الشماليين، مما أعد لانتصار العربية الشمالية على العربية الجنوبية في أواخر العصر الجاهلي. وفي هذه الأثناء تغلغلت اليهودية في الجزيرة العربية منذ اضطهد أباطرة الرومان اليهود في القرن الأول للميلاد، واندفعت بعثات دينية مسيحية إلى الجنوب، واعتنقت مدينة نجران في القرن الخامس هذا الدين الجديد. وربما كان السبب في هذه البعثات المنافسة الشديدة بين فارس وبيزنطة. وأفزع ملوك حمير تغلغل النصرانية في ديارهم؛ خوفًا من تحولها إلى البيزنطيين، فناهضوها وأيضًا فإنهم كانوا يخافون من ملوك الحبشة المسيحيين أن يدخلوا عن طريقها بلادهم. ونشب هناك صراع حاد بين اليهودية والنصرانية، ولا نلبث أن نرى "ذا نواس" آخر الملوك الحميريين يعتنق اليهودية ويحاول القضاء على المسيحيين في نجران؛ فأوعزت بيزنطة إلى النجاشي أن يغزو اليمن. فغزاها سنة 525 واستولى عليها وضمها إلى بلاده. وظل هذا الاحتلال الحبشي نحو خمسين عامًا، ثارت فيها اليمن ثورات عنيفة، وأخيرًا استنجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أهلها بالفرس أعداء بيزنطة؛ فردوا الأحباش وظلوا بها حتى سنة 628م؛ إذ اعتنق باذان عاملهم الإسلام؛ وبذلك ينتهي التاريخ القديم للعرب الجنوبيين. ولعل في كل ما قدمنا ما يدل على أن عرب الجنوب لعبوا دورًا واسعًا في تاريخ الحضارة العربية القديمة، وكانت حضارتهم عربية صافية لم تأتهم من الخارج؛ بل نمت وتطورت في الداخل؛ إذ كان لهم قوانينهم وأنظمتهم ودساتيرهم، وكان لهم قدم راسخة في عمارة القصور والهياكل وتشييد السدود. وكانوا يؤلهون السيارات الفلكية والنجوم، وأثرت ديانتهم الوثنية في العرب الشماليين؛ إذ يُظن أنهم أخذوا عنهم -كما أخذوا عن الآراميين- عبادة الكواكب، وكانت تقوم على أساس ثالوث هو القمر واسمه عند المعينيين وَدّ، وكان إلههم الأكبر، وتليه الشمس التي اعتبروها زوجه وهي اللات، ومهما ولد عثتر أو العُزي أي الزهرة أو فينوس. وبجانب هذا الثالوث كان عندهم آلهة أخرى ترمز لبعض النجوم أو بعض الطير أو بعض مظاهر الطبيعة، وكانوا يقدمون لها القرابين ويبنون الهياكل ويقوم عليها كهنة ذوو نفوذ كبير. ويظهر أنه كان لهم أدب ديني كثير؛ إلا أن الإسلام قضى عليه كما قضى على الأدب الوثني في الشمال. وقد حملوا مع قوافلهم وهجراتهم دينهم وحضارتهم إلى العرب الشماليين، فأثروا فيهم آثارًا بعيدة. وظلوا حتى ظهور الإسلام يشكلون عنصرًا مباينًا لهم، على الأقل من حيث النسب، فكانوا يدعون القحطانيين أو اليمنيين؛ بينما دعي عرب الشمال باسم العدنانيين أو النزاريين. ويلاحظ أن قبائلهم المهاجرة اختارت في الأكثر جوار الأمم المتحضرة، فنزلت غسان وقضاعة ومن إليهما في الشام ونزلت لحم في العراق. ومنهم من نزل في داخل الجزيرة وأظهر ميلًا إلى التحضر والاستقرار كالأوس والخزرج في المدينة وكندة في الشمال. على أن من تم منهم اندماجه في البدو تلاشت فيه هذه النزعة مثل طيئ في جبلي أجأ وسلمى. ومن يتعقب القبائل القحطانية في الإسلام يرى أنها كانت تحترم النظام المطلق، بينما كان يمقته النزاريون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 4- العرب الشماليون 1 هم العرب العدنانيون الذين كانوا يسكنون في الحجاز ونجد وتمتد عشائرهم وقبائلهم إلى باديتي الشام والعراق، وقد ظلوا يعيشون معيشة صحراوية بدوية تعتمد في أكثر الأحيان على رعي الإبل والأغنام. ولم تهيئ لهم هذه الحياة الاستقرار في سكنى دائمة؛ إلا حيث توجد بعض الواحات في الحجاز. ويظهر أنهم أنشأوا في بعض الأزمنة مملكة لهم بالجوف "دومة الجندل" في أقصى الشمال بين العراق والشام، وقد خضعت لنفوذ الأشوريين؛ إذ نرى ملوكهم يفخرون بالانتصار عليها كما نراهم يفخرون بالانتصار على الثموديين في شمال الحجاز حيث كانوا يقيمون في العُلا والحِجْر "مدائن صالح". وقد اتخذ نابونيد آخر ملوك دولة بابل الثانية أو الحديثة تيماء حاضرة له من سنة550 إلى سنة545 ق. م مما يدل على أنه كان بها حضارة زاهية. وكل الدلائل تدل على أن العرب الشماليين لم يتجمعوا قبل الميلاد في وحدة سياسية تجمع شملهم؛ فقد كانت طبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتت والتفرق والانقسام، ولم يهتدوا في أثناء ذلك بهدى كهدى الإسلام يجمع كلمتهم ويؤلف بينهم، ويجعل منهم دولة واحدة، تلعب دورًا واضحًا في التاريخ القديم. وقد كشفت نقوش آرامية في تيماء الواقعة شمالي مدائن صالح تدل على أنه قامت فيها مستعمرة آرامية تجارية في القرن الخامس ق. م. وكان للمعينيين مستعمرة في ناحية "العلا" شمالي الحجاز، كُشفت فيها نقوش معينية كثيرة، وكانت تسمى معين مُصْران، وكان سكانها من عرب الجنوب، وقد نقلوا إليها عباداتهم وهياكلهم المقدسة، وما زالوا ناشطين في التجارة؛ حتى نشأت دولة النبط في سلع "بطرا" فكانت هي التي تنقل تجارة الجنوبيين إلى الشام ومصر؛ حتى إذا دالت دولتهم في مستهل القرن الثاني الميلادي حملها اللحيانيون الذين كانوا ينزلون في دادان "العلا الحالية".   1 انظر في تاريخ العرب الشماليين كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 1/ 220- 374، 2/ 277 وما بعدها، 3/ 5 وما بعدها، 3/ 423 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 واللحيانيون عرب شماليون، كتبوا نقوشهم بالخط المعيني المسند مما يدل على أثر الجنوبيين فيهم، ولعلهم كانوا يختلطون بقوم منهم، وقد كتب الثموديون الذين كانوا يقيمون هم أيضًا في شمالي الحجاز وكانوا عربًا مثلهم بهذا الخط الجنوبي، الذي انتشر إلى منازل العرب في الصفا بحوران جنوبي دمشق، مما يؤكد علاقة وثيقة بين هذه الأجزاء وعرب الجنوب حين كانوا يسيطرون على طريق القوافل التجارية من القرن الثامن إلى القرن الثالث ق. م وهو القرن الذي قامت فيه إمارة عربية في شمال الجزيرة هي إمارة النبط؛ فقد كان أهل هذه الإمارة يأخذون عن الجنوبيين تجارتهم ويحملونها بدورهم إلى الشام ومصر، واتخذوا "بطرا" حاضرة لهم، هكذا ورد اسمها عند اليونان ولعله ترجمة لاسمها الذي جاء في التوراة وهو "سلع" وكانت الحجر "مدائن صالح" حاضرتهم في الجنوب؛ بينما كانت بُصْرى حاضرتهم في الشمال. ويظهر أن قبائل هؤلاء النبط كانت قد سبقت إلى الإغارة على بلاد الآراميين شمالًا؛ فتحضرت بحضارتهم واستخدمت كتابتهم الآرامية في نقوشها؛ بينما ظلت تتكلم العربية في أحاديثها اليومية؛ وبذلك نلتقي عند هؤلاء النبط بنقوش عربية كتبت بالخط الآرامي على نحو ما التقينا عند اللحيانيين والثموديين بنقوش عربية كتبت بالخط المعيني المسند؛ غير أن الخط الآرامي هو الذي انتصر فقد تطورت نقوشه حتى انتهت إلى الخط العربي الذي أشاعه الإسلام. والمظنون أن الأنباط لم ينزحوا من نجد إلى شمالي الحجاز؛ بل نزحوا من بادية الشام، واستطاعوا أن ينهضوا بحضارة راقية لا تزال تدل عليها آثارهم في "بطرا" حاضرتهم الكبيرة. وقد ظلت دولتهم نحو أربعة قرون، من القرن الثالث ق. م. إلى أوائل القرن الثاني الميلادي، وكانت العلاقة بينهم وبين البطالسة ثم بينهم وبين الرومان حسنة؛ إذ حالفاهم ولم يتعرضا لاستقلالهم حتى كانت الفتنة اليهودية على عهد طيطوس؛ فقضى الرومان على استقلالهم وضموا بلادهم إلى دولتهم الرومانية سنة 106 للميلاد. وعاد العرب الشماليون إلى الظهور في مملكة تدمر شمالي بادية الشام في أثناء القرنين الثاني والثالث الميلاديين، وكانت السيادة فيها لهم؛ غير أن السكان كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أكثرهم من الآراميين. ووقفت تدمر صامدة خلال المنافسة الشديدة بين روما والفرس لخطة حيادة التزمتها، زادت في قوتها ومنعتها، وأصبحت من أهم المراكز التجارية. وبلغ من علو شأنها أن استولى ملكها أذينة على سوريا كلها واعترفت به الرومان إمبراطورًا على المشرق؛ إلا أنهم عادوا فنكثوا عهودهم في عهد زنوبيا "الزباء" إذ حاربوها وقضوا عليها سنة 273م ودمروا تدمر فلم تقم لها بعد ذلك قائمة. وظلت سيرة هذه الملكة وأبيها أذينة في ذاكرة العرب إلى ما بعد الإسلام، وإن شابتها الأسطورة وبعدت عن أساسها التاريخي الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 5- النقوش ونشأة الكتابة العربية 1 لا يكاد يخلو حَجر في جنوبي الجزيرة العربية وقلبها وشماليها من نقش تذكاري نقشه كتاب محترفون أو غير محترفين من الرعاة ورجال القوافل، يذكرون فيه أسماء آلهتهم متضرعين إليها أن تحميهم، وقد يذكرون ما يقدمون إليها من قرابين، وقد يكتبونها على قبورهم مسجلين أسماءهم وأسماء عشائرهم، وما قام به الميت من أعمال وقد يودعونها بعض قوانينهم وشرائعهم. ولا تخلوا ديار أمة سامية من هذه النقوش التي أتاحت لعلماء الساميات اكتشاف تاريخ هذه الأمم من جهة وقيام دراسة اللغات السامية وخصائصها ومعرفة تطورها ومقارنتها بغيرها من أخواتها من جهة ثانية؛ وبذلك وقفوا وقوفًا دقيقًا على حقائق هذه اللغات وحضارات أهلها وثقافاتهم ودياناتهم وكل ما اتصل بهم من رقي وتطور على مر العصور والأزمان.   1 انظر هنا كتاب "أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام" لخليل يحيى نامي "بحث في مجلة كلية الآداب المجلد الثالث، العدد الأول" وكتاب "تاريخ العرب قبل الإسلام" لجواد علي ج1ص10 وج3 ص 423 وما بعدها، ج7ص 36 وما بعدها وكتاب تاريخ الأدب العربي لبلاشين "ترجمة إبراهيم الكيلاني طبع دمشق" ج1ص 70 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقد عُرف الأكديون في العراق بخطهم المسماري أو الإسفيني، بينما عرف عرب الجنوب بخطهم المسند، ومنه نشأ الخط الحبشي وخطوط اللهجات العربية الشمالية القديمة وهي اللحيانية والثمودية والصفوية. واللحيانيون-كما قدمنا- قبيلة عربية شمالية، كانت تسكن في منطقة العلا، ونراهم يستعملون "ها" أداة للتعريف بدلًا من "أل"، وقد اختلف في تاريخهم؛ فمن الباحثين من يرجعهم إلى القرون الأولى ق. م، ومنهم من يتأخر بهم إلى ما بعد الميلاد؛ بل منهم من يتأخر بهم إلى القرن الخامس إذ ضعفوا وتلاشوا في قبيلة هذيل. وعدهم الهمداني من بقايا جُرهم، ولعله يشير بذلك إلى صلتهم باليمنيين ويظهر أنهم كانوا يدينون لهم بالولاء. أما الثموديون فيعود تاريخهم إلى ما قبل الميلاد بعدة قرون، وقد عاشوا إلى ما بعد الميلاد وكانت منازلهم كما مر بنا في الحجر "مدائن صالح" وحولها ويظهر أنهم أصيبوا بكارثة عظيمة؛ فثارت بهم بعض الزلازل أو بعض البراكين وفي القرآن الكريم {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . وقد خلفوا كثيرًا من النقوش كتبوها بالخط المسند المعيني وهم مثل اللحيانيين والصفويين كانوا يستخدمون "ها" أداة للتعريف بدلًا من أل. وأما الكتابات الصفوية فعثر عليها في الحرة الواقعة بين جبل الدروز وتلول أرض الصفا. وكلمة الصفويين لا تعنى شعبًا معينًا أو قبيلة معينة؛ إنما هي إصطلاح حديث للدلالة على تلك الكتابات التي عثر عليها في تلك الجهات. وقد عرف من دراستها أنها كتبت بالخط المعيني وأنها لهجة عربية قديمة كالثمودية واللحيانية، وكثير من نقوشها يرجع إلى القرون الأولى للميلاد، ويظهر أن من كتبوها كانوا بين التبدي والتحضر؛ فمنهم البدو الرعاة ومنهم الفلاحون، ولهم قرى ومزارع، وربما كان لهم تجارات. وهذه النقوش الصفوية والثمودية واللحيانية عربية كما قدمنا برغم أنها كتبت بالخط العيني الجنوبي، فخصائصها اللغوية قريبة من خصائص العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وإن اختلفت عنها في أداة التعريف وفي بعض الصفات اللغوية؛ إلا أنها على كل حال تصور طورًا من أطوار اللغة العربية الشمالية، وقد احتوت على كثير من أسماء الرجاء وأسماء الآلهة والأصنام. وبجانب هذه النقوش نجد نقوشًا أخرى بالخط النبطي، وهي تنتشر في بطرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 حاضرة ملكهم وما حولها وفي الحجر حاضرتهم الجنوبية وبُصرى بحوران في الشام عاصمتهم الشمالية، وما يتصل بهذه الجهات في شرق الأردن وجبل الدروز، وقد مر بنا أنهم كانوا الصلة بين العرب الجنوبيين وحوض البحر الأبيض، وبلغ من قوتهم أن كان يخشاهم اليهود وبقية أمم الشام حتى أهل روما كانوا يخشونهم؛ فعملوا على القضاء على دولتهم حتى تم لهم ذلك كما قدمنا سنة 106 للميلاد. ولم ينته بذلك تاريخهم، فنقوشهم تستمر إلى القرن الثالث الميلادي، ويظهر أنهم تلاشوا بعد ذلك في العرب. وكانوا يتكلمون في أحاديثهم اليومية العربية؛ إلا أنهم اختلطوا بالآراميين عن طريق التجارة وأخذوا عنهم أبجديتهم أو خطهم وكتبوا به نقوشهم؛ ولذلك قد يعدهم بعض الباحثين من الآراميين، ولكن من المحقق أنهم كانوا عربا يتخاطبون بالعربية. ولما سقطت دولتهم وانتشروا في الحجاز ونجد؛ أخذ شيوخ العرب وأمراؤهم يتخذون خطهم في كتابة نقوشهم وهجروا الخط اللحياني والثمودي والصفوي. وسرعان ما تطور هذا الخط النبطي الآرامي إلى الخط العربي الذي كتب به القرآن الكريم والمؤلفات الإسلامية. وهناك روايات عند المؤرخين المسلمين تزعم أن الخط العربي منشؤه الحيرة وأنه نقل منها إلى مكة والحجاز؛ غير أن هذه الروايات لا تتفق ووثائق النقوش التي كشفت في الحجاز ودرسها علماء اللغات السامية، فقد وجدوا نقوشًا حجازية وغير حجازية تصور انتقال الخط الآرامي إلى خط نبطي، ثم انتقال هذا الخط إلى الخط العربي. والمعروف أن الحيرة قبيل الإسلام كانت نصرانية وكانت تزخر بالثقافة السريانية، كما كانت تكتب بالخط السرياني قلم المسيحيين في هذه الأنحاء. ولا يعقل أن يكونوا هم الذين تطوروا بالخط النبطي واشتقوا منه الخط العربي؛ لأنه لم يشع في ديارهم ولأنه كان خط الوثنيين في شمالي الحجاز. وقد يكون مرجع هذا الوهم في روايات المؤرخين الإسلاميين أن الخط الكوفي نما وازدهر في الكوفة؛ فظنوا أن هذه البيئة هي التي ابتكرت الخط العربي وأنه نما وتطور في الحيرة. والحق أنه إنما حدث له هذا النمو والتطور في الحجاز نفسها؛ فقد كانت بها حياة تجارية مزدهرة، جعلتهم يأخذون الخط المعيني أولًا، ويتطورون به إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 خطوتهم اللحيانية والثمودية والصفوية. ثم لما ظهرت مملكة النبط واستخدمت الخط الآرامي وتطورت به، وتفرق أهلها بعد سقوطها في داخل الجزيرة وعلى طول طريق القوافل التجارية نشروا قلمهم النبطي؛ فهجر عرب الحجاز القلم المعيني وأخذوا يحاولون النفوذ من الخط النبطي إلى خطهم العربي الجديد متطورين به ضروبا من التطور حتى أخذ شكله النهائي. وليست المسألة مسألة فرض واحتمال؛ وإنما هي مسألة نقوش حملت إلى علماء الساميات الدليل القاطع الذي لا مطعن فيه على هذه الحقيقة؛ فقد عثروا على نقوش في شمالي الحجاز وعلى طول طريق القوافل إلى دمشق تثبت تطور الخط النبطي تطورًا سريعًا إلى الخط العربي. وأهم هذه النقوش على الترتيب نقش عثر عليه "ليتمان" في قرية أم الجمال غربي حوران، ويرجع تاريخه إلى سنة 270م وهو لفهر بن سُلمَّيْ الذي كان مربيًا لجذيمة ملك تنوخ، وخطه نبطي؛ إلا أنه يمتاز بظهور روابط بين الحروف. ويليه نقش النمارة الذي اكتشفه دوسوا وماكلر سنة 1901 على بعد ميل من النمارة القائمة على أطلال معبد روماني شرقي جبل الدروز، وبالقرب من الأماكن التي عثر فيها على الكتابات الصفوية، وقد كتب شاهدًا لقبر ملك من الملوك اللخميين يسمى امرأ القيس بن عمرو، وأُرِّخ بشهر كسلول من سنة 223 بتقويم بُصرى وهو يوافق شهر كانون الأول "ديسمبر" من سنة 328م وهذا نصه: تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وجا بِزَجَي في حبج نجران مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه عكدى. هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده ويلاحظ أن الكاتب بدأه في السطر الأول بكلمة "تي" الإشارية التي للمؤنث؛ لأنها داخلة على نفس؛ ولعلها هنا بمعنى جسد، وقد استخدم ذو بمعنى الذي، وهي لغة معروفة بين بعض القبائل مثل طيء، كما استخدم كلمة أسر بمعنى عصب وعقد. وهو من معانيها في المعاجم العربية. وقد حذف الألف من كلمة "التاج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ولم يكونوا يثبتونها حينئذ. وليس في هذا السطر كلمة غريبة سوى بر التي استخدمها الكاتب بمعنى ابن وهي آرامية. ونراه في السطر الثاني يضيف واوًا إلى نزرو ومذحجو وفقًا لكتابة النبط التي تضيف إلى الأعلام الواو. أما عكدي فلعلها عكديا، حذفت منها الألف، وفي المعاجم العكد: القوة. ويريد بالأسدين قبيلتي أسد. ونراه في السطر الثالث يستخدم كلمة بزجى من فعل زجا بمعنى دفع أي باندفاع، ومعنى حبج في المعاجم أشرف؛ وكأنها استعملت في النص مصدرًا بمعنى مشارف أو حدود، وشمر من الملوك الحميريين. واستخدم كلمة نزل بنيه الشعوب بمعنى جعلهم على الشعوب. وفي السطر الرابع ووكلهن بإضافة نون التوكيد إلى الفعل بعد الضمير.. ومعنى العبارة ووكله الفرس والروم. وفي السطر الخامس بلسعد ذو ولده أي ليسعد الذي ولده. وواضح أن النص يمثل طورًا من أطوار اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم فكلماته جميعًا عربية؛ ما عدا كلمة بر الآرامية، وقد استخدمت فيه أل أداة للتعريف. وإذا أردنا أن نكتبه ونقر به إلى لغتنا اليوم كتبناه على هذا النحو: هذه نفس "قبر" امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلها الذي عقد التاج وملك قبيلتي أسد ونزرا وملوكهم وشتت مذحجا بالقوة وجاء باندفاع "بانتصار" في مشارف نجران مدينة شمر. وملك معدا وولى بنيه الشعوب، ووكله الفرس والروم؛ فلم يبلغ ملك مبلغه في القوة. هلك. سنة 223يوم 7 من كسلول، ليسعد الذي ولده ولعل في هذا النص ما يدل على أن اللغة العربية التي سيشرفها القرآن الكريم بنزوله فيها كانت قد أخذت تبسط سلطانها إلى شمالي بلاد العرب منذ أوائل القرن الرابع الميلادي. وتوجد الروابط بين الحروف في هذا النص وتتخذ الحروف شكلًا أكثر استدارة. ولهذا النص أهمية تاريخية بعيدة؛ فهو يحدثنا عن ثاني ملوك الحيرة جدود المناذرة ويذكر أنه ملك قبيليتي أسد وقبيلة نزار وملوكهم، وشتت قبيلة مذحج، وانتصر على جموع نجران؛ ولعل هذه أول إغارة ثابتة تاريخيًّا لعرب الشمال على عرب الجنوب ومدينتهم نجران. ويحدثنا النص أيضا أنه ملك معدا وولى بنيه على الشعوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والقبائل الكبيرة، وقد عقد المعاهدات مع الفرس والروم، ولم يبلغ ملك مبلغه في القوة. وليس هذا كله ما يحدثنا به النص ولا كل دلالته، فوراء ذلك دلالة أعمق؛ إذ يقول هذا الملك ملك العرب كلهم، وتلك -ولا ريب- أول محاولة في إيجاد وحدة سياسية للعرب الشماليين، بعد أن دمر الرومان دولتيهم في بطرا وتدمر. على أن إمارة الحيرة لم تلبث أن خضعت للفرس، وقد خضع الغساسنة في الشام للبيزنطيين، وأخذت البعثات المسيحية تغزو الشمال في غربيه وشرقيه. ولعل ذلك ما جعل العرب يلتفون حول مكة، وخاصة بعد أن فقدت اليمن استقلالها واحتلها الحبشة ثم الفرس. وقد نقلوا إليها من الجنوب والشمال أصنامهم؛ فكانت دار كعبتهم وعبادتهم الوثنية، وأخذت تقوم بما كانت تقوم به اليمن من نقل التجارة وعروضها بين المحيط الهندي وحوض البحر المتوسط. ونمضي بعد نقش النمارة نحو مائة وثمانين عامًا؛ فنلتقي في زبد الواقعة جنوبي شرق حلب بنقش وجد على باب أحد المعابد هناك أرخ سنة 512 م، وفيه نرى خصائص الكتابة العربية الجاهلية تتكامل. ومن غير شك حدثت تطورات متعددة بينه وبين نقش النمارة؛ أعدت لهذه الصيغة العربية الخالصة التي نجدها فيها أو بعبارة أدق في خطه. وعلى شاكلته نقش حران اللجا الذي عثر عليه في الشمال الغربي لجبل الدروز جنوبي دمشق وهو مؤرخ بسنة 568م. ومعنى هذا كله أن الخط العربي نشأ وتطور شمالي الحجاز، وأنه لا يرجع في نشأته وتطوره إلى بلاد العراق، فتلك الوثائق السابقة دليل لا يرقى إليه الشك في أنه نشأ من الخط النبطي وتطور حتى أخذ صيغته النهائية في أوائل القرن السادس الميلادي في تلك البيئة الوثنية العربية الخالصة. وهو يختلف اختلافًا تامًا عن الخط الكوفي ذي الزوايا الذي يرسم في أشكال مستديرة؛ فالحجاز هو موطنه، وهو الذي نشره في محيط العرب الشماليين على طول الدروب والطرق التي كانت تسلكها قوافل المكيين التجارية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الفصل الثاني: العصر الجاهلي 1- تحديد العصر قد يتبادر إلى الأذهان أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب وأزمنة؛ فهو يدل على الأطوار التاريخية للجزيرة العربية في عصورها القديمة قبل الميلاد وبعده. ولكن من يبحثون في الأدب الجاهلي لا يتسعون في الزمن به هذا الاتساع؛ إذ لا يتغلغلون به إلى ما وراء قرن ونصف من البعثة النبوية؛ بل يكتفون بهذه الحقبة الزمنية، وهي الحقبة التي تكاملت للغة العربية منذ أوائلها خصائصها، والتي جاءنا عنها الشعر الجاهلي. ولاحظ ذلك الجاحظ بوضوح إذ قال: "أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له -إلى أن جاء الله بالإسلام- خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام"1. وهي ملاحظة دقيقة؛ لأن ما قبل هذا التاريخ في الشعر العربي مجهول، ونفس تاريخ العرب الشماليين يشوبه الغموض منذ قضى الرومان على دولتيهم في بطرا وتدمر؛ إلا بعض أخبار فارسية وبيزنطية قليلة وبعض نقوش عثر عليها علماء الساميات، وتشير تلك النقوش والأخبار إلى إمارات الغساسنة في الشام والمناذرة في الحيرة ومملكة كندة في شمالي نجد؛ غير أن معلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة، وهي إنما تتضح في العصر الجاهلي الذي نتحدث عنه؛ إذ حمل إلينا العرب كثيرًا من الأخبار عن تلك الإمارات وأمرائها الذين كانوا يستولون فيها على الحكم، كما حملوا إلينا كثيرًا من   1 الحيوان للجاحظ "طبعة الحلبي" 1/ 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الأخبار عن مدن الحجاز وخاصة مكة بيت الكعبة المقدسة، وكذلك عن القبائل وما كان بينها من أيام وحروب. من أجل هذا كله نقف بالعصر الجاهلي عند هذه الفترة المحدودة أي عند مائة وخمسين عامًا قبل الإسلام، وما وراء ذلك يمكن تسميته بالجاهلية الأولى، وهو يخرج عن هذا العصر الذي ورثنا عنه الشعر الجاهلي واللغة الجاهلية، والذي تكامل فيه نشوء الخط العربي وتشكله تشكلًا تامًّا كما قدمنا في غير هذا الموضع. فذلك العصر المتميز الواضح في تاريخ العرب الشماليين هو العصر الجاهلي. وينبغي أن نعرف أن كلمة الجاهلية التي أطلقت على هذا العصر ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه1 إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق؛ فهي تقابل كلمة الإسلام التي تدل على الخضوع والطاعة لله جلَّ وعز وما يطوى فيها من سلوك خلقي كريم. ودارت الكلمة في الذكر الحكيم والحديث النبوي والشعر الجاهلي بهذا المعنى من الحميَّة والطيش والغضب؛ ففي سورة البقرة: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وفي سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وفي سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} . وفي الحديث النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر وقد عير رجلًا بأمه: "إنك امرؤ فيك جاهلية". وفي معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا وواضح في هذه النصوص جميعًا أن الكلمة استخدمت من قديم للدلالة على السفه والطيش والحمق. وقد أخذت تطلق على العصر القريب من الإسلام، أو بعبارة أدق على العصر السابق له مباشرة وكل ما كان فيه من وثنية وأخلاق قوامها الحمية والأخذ بالثأثر واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات.   1 انظر مادة جاهلية في دائرة المعارف الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الإمارات العربية في الشمال "الغساسنة، المناذرة، كندة" ليس بين أيدينا وثائق توضح في دقة نشأة هذه الإمارات التي ظهرت على صفحة التاريخ إثر قضاء الرومان على تدمر؛ فتاريخها قبل العصر الجاهلي، أو قبل أواخر القرن الخامس الميلادي يحيط به الغموض، ويظهر أن الرومان وخلفاءهم البيزنطيين اتخذوا من الغساسنة في الشام إمارة تحجز بينهم وبين البدو وغاراتهم وتساعدهم في حروبهم ضد الفرس ومن كان يؤيدهم من عرب المناذرة أو الحيرة في العراق. وبالمثل اتخذ الساسانيون ملوك الفرس من دولة المناذرة درعًا تحميهم من غارات البدو وجنودًا تقف في صفوفهم في أثناء حروبهم ضد الرومان والبيزنطيين والغساسنة، وبين الطرفين قامت إمارة كندة في شمالي نجد، وكانت تدين بالولاء فيما يبدو لملوك اليمن الحميريين: ملوك سبأ وذي ريدان ويمنات. والغساسنة1 يعودون في رأي نسابي العرب إلى أصل يمني؛ فهم من عرب الجنوب الذين نزحوا إلى الشمال مع قبائل أخرى كثيرة أهمها جُذام وعاملة وكلب وقضاعة. وقد أقاموا إمارتهم في شرقي الأردن، ولم يتخذوا لها حاضرة بعينها فتارة تكون حاضرتهم الجولان أو الجابية، وتارة تكون جلولاء أو جلَّق بالقرب من دمشق. وقد يكون في ذلك ما يدل على أنهم ظلوا بدوًا يرحلون بخيامهم وإبلهم وأنعامهم من مكان إلى مكان في تلك الأنحاء. ويقال أنهم أول نزولهم بالشام اصطدموا بعرب يسمون الضجاعمة، تغلبوا عليهم، وأصبحوا سادة تلك المنطقة التي حلوا فيها وقربهم الرومان منهم والبيزنطيون ومنحوهم ألقابًا رسمية من ألقابهم. ويزعم مؤرخو العرب أن مؤسس سلالتهم جفنة بن عمرو مُزَيقياء، ولذلك.   1 انظر في الغساسنة تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني، وكتاب "أمراء غسان" لنولدكه ترجمة فلسطين زريق وبندلي جوزي، وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 4/ 118 وما بعدها ومحاضرات في تاريخ العرب لصالح أحمد العلي 1/ 44 وتاريخ سورية ولبنان وفلسطين لفيليب حتى "نشر دار الثقافة ببيروت" 1/ 466. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 يسمون آل جَفنة، وأول ملك من ملوكهم يمكن الاطمئنان إلى أخباره من الوجهة التاريخية هو جبلة الذي غزا فلسطين سنة 497 للميلاد، وخلفه ابنه الحارث "528-569" ويسمى أحيانًا الحارث بن أبي شمر، وقد لعب دورًا مهمًّا في حروب الإمبراطور "جستنيان" ضد الفرس وعرب العراق؛ فأنعم عليه بالإكليل، واعترف بسيادته المطلقة على جميع العرب في الشام ومنحه لقب فيلارك ومعناه شيخ القبائل، ولقب البطريق، وهو أعظم الألقاب في الدولة البيزنطية بعد لقب الملك. وقد اشتبك مع المنذر بن ماء السماء أمير الحيرة في حروب طاحنة، وقع في أثنائها أحد أبنائه في قبضته سنة 544؛ فقدمه المنذر ضحية للعزى. وثأر الحارث لنفسه في يوم حَليمة بالقرب من قنسرين سنة 554؛ إذ أوقع بالمنذر موقعة فاصلة قتل فيها، وفي أمثال العرب: "ما يوم حليمة بسر". وتعد أيام الحارث بن جبلة أزهى أيام مرت بالغساسنة؛ إذ امتد سلطانهم من بطرا إلى الرصافة شمالي تدمر. وكانوا قد دخلوا في المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي، وزار الحارث القسطنطينية، فاستقبل استقبالًا حافلًا، واستطاع أن يقنع أولي الأمر هناك بتعيين يعقوب البرادعي أسقفًا على الكنيسة المونوفيستية السورية فنشر عقيدته في سوريا وبين الغساسنة. وخلفه ابنه المنذر "569-581" فسار سيرته في تأييد العقيدة المونوفيستية التي لم تكن تتفق مع عقيدة البيزنطيين الرسمية، كما سار سيرته في حروبه مع المناذرة؛ فاشتبك مع قابوس ملك الحيرة منذ سنة 570 في سلسلة معارك أهمها معركة عَيْن أُباغ وفيها انتصر عليه انتصارًا حاسمًا تغنى به الشعراء طويلًا. وتدل الدلائل على أن خلافًا نشب بينه وبين البيزنطيين، لعل مرجعه إلى تأييده للعقيدة المونوفيستية. وربما خافوا منه أن يثور عليهم كما ثارت الزباء على الرومان من قبل؛ فحرموه من الإعانات التي كانوا يقدمونها إليه وإلى أبيه، وقلبوا له ظهر المجن؛ ولكنهم عادوا إلى مصالحته، حتى إذا حانت لهم فرصة منه قبضوا عليه ونفوه إلى صقلية، وثار أبناؤه بقيادة النعمان عليهم. غير أنه لقي نفس المصير حوالي سنة 584. ومنذ هذا التاريخ تمزقت وحدة الغساسنة؛ إذ تجزأت إمارتهم أجزاء، على كل جزء أمير كبير أو صغير، ويلمع اسم الحارث الأصغر، ويظهر أن جيوشه كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تشتبك مع القبائل النجدية في حروب دامية، وقد أسر في إحداها شأسًا أخا علقمة بن عبَدة الشاعر التميمي المشهور؛ فرحل إليه يمدحه1 رجاء أن يفك أخاه من أسره. ونراه يذكر في مديحه معاركه وما كان ينزله بأعدائه من خسائر، يقول: كأَنهمُ صابت عليهم سحابةٌ ... صواعقُها لطَيْرهنَّ دبيب2 فلم تنج إلا شَطْبةٌ بلجامها ... وإلا طِمِرٌّ كالقناة نَجيب3 وإلا كَمِىٌّ ذو حِفاظٍ كأَنَّه ... بما ابتلَّ من حَدِّ الظُّبات خضِيب4 وأنت أَزلتَ الخُنْزُوانةَ عنهمُ ... بضرب له فوق الشئون دَبيبُ5 وأنت الذي آثاره في عدوِّهِ ... من البؤس والنُّعْمَى لهن نُدوب6 وكان لابنيه النعمان وعمرو جيوش قوية، تجوب نجدًا والصحراء الشمالية وتدين لها القبائل بالطاعة، ويظهر أن جيوش عمرو اشتبكت في حروب مع بني أسد وبني فزارة، ووقع كثير من أسرى القبيلتين في يد عمرو؛ فقصده النابغة الذبياني يمدحه متوسلًا إليه في فكاكهم، فأكرمه، كما أكرمه أخوه النعمان، ودبّج فيهما مدائح كبيرة، لعل أروعها قصيدته البائية التي يقول فيها7: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب   1 يذكر أكثر الرواة أن علقمة إنما قصد بقصيدته الحارث بن جبلة "انظر ديوان علقمة بشرح الشنتمري طبع الجزائر سنة 1925" ص 25 وراجع القصيدة في المفضليات وقد دحض تولدكه هذه الرواية ذاهبًا إلى أن القصيدة في مديح الحارث الأصغر. انظر جواد علي 4/ 143. 2 صابت: مطرت يقول: أصابتها الصواعق فلم تقدر على الطيران فدبت تطلب النجاة. 3 الشطبة: الفرس الطويلة، والطمر: الفرس المتحفزة للوثوب، شبهها بالقناة في الضمور. 4 الكي: الشجاع، والظباة: جمع ظبة وهي حد السيف، وخضيب: مصبوغ بالدماء. 5 الخنزوانة: الكبر، وشئون الرأس: ملتقى عظامها. 6 ندوب: جروح 7 مختار الشعر الجاهلي لمصطفى السقا "طبع الحلبي" ص 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت؛ فقد كان ينزل به وبغيره من أمراء الغساسنة، وله فيه مطولة مشهورة يقول في تضاعيفها1. أولاد جَفْنَةَ حول قَبْر أبيهمُ ... قبر ابن ماريةَ الكريم المُفْضِل بِيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأولِ. وعلى نحو ما كان ينزل به كان ينزل بجبلة بن الأيهم الذي لحق الفتوح الإسلامية، وحارب في صفوف الروم، ثم أسلم، وعاد فتنصر في عهد عمر بن الخطاب، ورحل إلى بيزنطة، ويقال: إنه حين أسلم دخل المدينة في موكب حافل من حاشيته، وكان يضع على رأسه تاج أجداده تزينه لؤلؤتان كانتا فيما مضى قرطين لأم الحارث بن جبلة. وفي أخبار الغساسنة المتأخرين ما يدل على أنهم كانوا يصيبون حظوظًا من الترف والنعيم؛ فقد وصف حسان بن ثابت مجلسًا من مجالس جبلة بن الأيهم، فقال: "لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة ... وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها، وكان إذا جلس للشراب فُرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضُرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب، وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيًا، وإن كان صائفًا بطِّن بالثلج وأتي هو وأصحابه بكساء صيفية، يتفضل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء الفِراء الفنَك وما أشبهه. ولا والله ما جلست معه يومًا قط إلا خلع عليَّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم2". ويقابل الغساسنة في الشام المناذرة3 في العراق، وهم من لَخْم، ويعود بها النسابون إلى أصل يمني، هي وبعض قبائل عربية نزلت هناك مثل تنوخ. وقد   1 ديوان حسان " طبعة ليدن" ص16. 2 أغاني "ساسي" 16/ 14. 3 انظر في المناذرة تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 4/ 5- 117، وتاريخ العرب "مطول" لفيليب حتى "الترجمة العربية" 1/ 107 ومحاضرات في تاريخ العرب لصالح أحمد العلي 1/ 15 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 احتذى الفرس الساسانيون معهم سياسةَ الرومان والبيزنطيين أعدائهم التقليديين مع عرب الشام. وربما كان جَذيمة الأبرش أهم ملك أسطوري ظهر في هذه الأنحاء قبل اللخميين، ويقال: إنه كان يعاصر الزباء، وخلفه ابن أخته عمرو بن عدي اللخمي وهو رأس المناذرة. وتاريخهم أكثر وضوحًا من تاريخ الغساسنة، وربما كان ذلك يرجع إلى أن ملوك الفرس دونوا تاريخهم، فأخذه عنهم العرب، على أن ابن الكلبي يزعم أنه استخرج تاريخهم من بِيَع الحيرة وأديرتها. وكان هؤلاء العرب العراقيون ينزلون في الخيام أولًا، ثم تحولوا إلى قرية في الجنوب الشرقي من النجف الحالية، كانت تقع في منطقة خصبة يرويها نهر الفرات، وهي الحيرة "تحريف لكلمة حرتا في السريانية ومعناها المخيم أو المعسكر" وسرعان ما نصب عليها الساسانيون المناذرة ليحموهم من غارات البدو وليساعدوهم في حروبهم ضد الرومان والبيزنطيين وأحلافهم من الغساسنة عرب الشام. ويقال إن سابور "241-272" هو الذي نصب عمرو بن عدي، وتتابع من بعده خلفاؤه من بيته، وربما كان ابنه امرؤ القيس الذي عُثر على نقشه في النمارة كما أسلفنا يدين بالولاء للفرس والروم جميعًا؛ أما من خلفوه فكانوا يدينون بهذا الولاء للفرس وحدهم، ومن أهمهم النعمان الأعور أو السائح، وكان له جيش قوي يتألف من كتيبتين هما الشهباء والدوسر. واشتهر ببنائه قصرى الخورنق والسدير، ونرى الملك الساساني الذي كان يعاصره وهو يزدجر الأول "399-420" يرسل أكبر أبنائه إليه؛ لينشأ في قومه، وليتعلم الفروسية والصيد، وهو بهرام جور ولما توفي يزدجرد أراد الفرس إقصاءه على العرش فتدخل النعمان، وأيده بجيش مكنه من استرداد عرشه، فأعلى ذلك من شأن المناذرة والحيرة. وهيأ لها موقعها في طرق القوافل أن كانت مركزًا مهمًّا للتجارة؛ فعاش المناذرة معيشة يسودها غير قليل من الترف، بسبب التجارة التي كانوا يشاركون فيها وبسبب ما كان عندهم من حياة زراعية. ومن غير شك يسبق المناذرة الغساسنة في الرخاء، ولعل ذلك ما جعل حياتهم أكثر استقرارًا بالقياس إلى غساسنة الشام، كما جعلهم أكثر حضارة ورقيًّا. وأزهى عصورهم عصر المنذر بن ماء السماء "حوالي 514- 554م" وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ساءت العلاقات بينه وبين قُباذ ملك الفرس في أوائل حكمه، ولعل ذلك يرجع إلى أن قباذ اعتنق المزدكية واتخذها دينًا رسميًّا للدولة وحاول أن يفرضها على المناذرة؛ فأبى المنذر؛ فعزله وولى مكانه الحارث بن عمرو وأمير كندة؛ ولكن الأمور سرعان ما تطورت فتوفيَّ قباذ وخلفه كسرى أنو شروان وكان يكره المزدكية والمزدكيين؛ فأعاد المنذر إلى حكم الحيرة، ونشبت بينه وبين الحارث الكندي وأبنائه سلسلة حروب قضت عليهم جميعًا. وربما كان من أسباب القضاء عليهم استيلاء الجيش على اليمن وانحلال ملك الحميريين هناك منذ سنة 525. ومهما يكن؛ فقد تحولت قبائل نجد وشرقي الجزيرة إلى الحيرة؛ فدان معظمها للمنذر بالولاء، ويظهر أنه مد سلطانه إلى عمان كما تحدثنا بذلك الأخبار. وقاد منذ عاد إلى عاصمته سنة 529 حروبًا طاحنة ضد الغساسنة والبيزنطيين كتب له النصر في كثير منها، ونستطيع أن نقف على مدى انتصاراته في هذه الحروب من معاهدة عقدت بين البيزنطيين والفرس سنة 532 أدوَّا له فيها ما أدوه للفرس من أموال. واشتهر بين العرب بأن كان له يومان: يوم نعيم ويوم بؤس؛ فكان أول من يطلع عليه في اليوم الأول يعطيه مائة من الإبل. وأول من يطلع عليه في اليوم الثاني يقتله، وممن قتله في هذا اليوم المشئوم عبيد بن الأبرص. ويقولون إنه راجع نفسه، فأقلع عن هذه العادة السيئة. ويقال أيضًا: إنه قتل -وهو ثمل- نديمين له؛ فلما صحا من سكره وعرف ما قدمت يداه ندم وأمر ببناء صومعتين عليهما، وهما الغَرِيّان اللذان يذكران في أشعار العرب. وقد يكون هذا كله من باب الأسطورة، وربما كان الغريان نصبين من الأنصاب التي كان العرب الوثنيون يهرقون دماء الأضحيات والذبائح عندها. وما زال المنذر يشن الحرب على الغساسنة حتى قتل في يوم حليمة كما أسلفنا. وخلفه ابنه عمرو بن هند "554- 569م" وينسب إلى أمه دير في الحيرة، وربما كانت نصرانية، أما هو فكان وثنيًّا على دين آبائه، وكان طاغية مستبدًّا، وفيه يقول أحد الشعراء1: أبَى القلبُ أن يَهْوى السَّديرَ وأهله ... وإن قيل عيشٌ بالسَّدِيرِ غريرُ   1 أغاني "طبعة الساسي" 21/ 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 به البَقُّ والحُمَّى وأُسْدُ خَفِيَّة ... وعمرو بن هند يَعْتدي ويجورُ ولقبه العرب بالمحرِّق؛ لأنه نذر أن يقتل مائة رجل من تميم حرقًا وبر بنذره في يوم أوارة باليمامة، واشتبك مع تغلب وطيء في بعض معاركه، ويظهر أن سلطانه امتد على قبائل كثيرة في شرقي نجد وشماليها وغربيها، وكان بحكم استبداده يتعرض له كثير من الشعراء بالهجاء، وقصته مع طرفة والمتلمس مشهورة. وينسب إليه شعر كان ينظمه، وقد أصبحت الحيرة في عهده مركزًا أدبيًّا مزدهرًا؛ إذ كان يجزل العطاء للشعراء؛ فوفد عليه كثيرون منهم عمرو بن قميئة والمسيَّب بن عَلَس والحارث بن حِلِّزة وعمرو بن كلثوم التغلبي الذي يقال عنه: إن ابن هند لقي مصرعه على يده ثأرًا لكرامة أمه ليلى حين أهينت في بيته. وولى أمرَ الحيرة بعد عمرو قابوس ثم المنذر الرابع، ولم تطل مدتهما؛ وبذلك نصل إلى النعمان الثالث ابن المنذر الرابع المكنى بأبي قابوس "580-602" وقد نشأ في حجر أسرة مسيحية هي أسرة عدي بن زيد العبادي، ولعل ذلك سبب تنصره؛ فهو أول من تنصر من ملوك الحيرة الوثنيين. وكان سلطانه يمتد إلى البحرين وعُمان، وكان له قوافل تجارية أو لطائم تجوب الجزيرة. وسار سيرة عمرو بن هند في رعايته للشعراء؛ فوفد على بابه منهم كثيرون مثل أوس بن حَجر والمنخل اليشكري ولبيد والمثقب العبدي وحجر بن خالد الذي يقول فيه1: سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد ... كمثل أبي قابوس حزمًا ونائلًا وهو ممدوح النابغة الذبياني، وله فيه غير قصيدة، وحدثت جفوة بينهما بسبب وفود النابغة على الغساسنة، وأرسل له بمجموعة طريفة من قصائده يعتذر إليه وهي من أجود ما خلف الجاهليون، وفي إحداها يقول: نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرارَ على زأْرٍ من الأَسدِ وكان الشعراء يتعرضون له بالهجاء أحيانًا وينالون منه، على نحو ما نرى عند يزيد بن الحذاق الشنِّي من بني عبد القيس2 وعبد قيس بن خفاف البُرْجُميّ   1 الحيوان 3/ 58 والمرزوقي على ديوان الحماسة "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" ص 1640 2 انظر المفضليات "طبع دار المعارف" رقم 78، 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 التميمي1. ويظهر أن النعمان لم يكن سهل القياد، ويقال: إنه قتل عدي بن زيد فضاق به كسرى الثاني ملك الفرس واستدرجه إلى حاضرته بالمدائن، وألقاه في غيابة السجن، ثم قتله، ويقال إنه رمى به تحت أرجل الفيلة فمزقته إربًا. ولم يول الفرس بعده أحدًا من هذا البيت؛ فقد نصبوا على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي، وثارت قبيلة بكر حمية للنعمان على إياس وهزمتهما شر هزيمة في يوم ذي قار. وبقيت الأمور مضطربة حتى استولى على الحيرة خالد بن الوليد سنة 633م. واحتلت الحيرة وأمراؤها حيزًا كبيرًا في أقاصيص العرب وأخبارهم وأشعارهم؛ فطالما تحدثوا عن الغَرِييَّن وقصرى الخَوَرْنق والسَّدير، وطالما قصوا عن أمرائهم الحقيقيين والأسطوريين مثل جَذيمة الأبرش. ويظهر أن المناذرة عرفوا من تقاليد الملك أكثر مما عرف الغساسنة، وكانوا أوسع منهم سلطانًا؛ إذ دانت لهم بالطاعة اليمامة والبحرين وعمان وقبائل العراق وعلى رأسها بكر وتغلب وكذلك كثير من قبائل نجد وخاصة بعد انحلال مملكة كندة. وعلى نحو ما أكثر الشعراء في مديح النعمان بن المنذر وأسلافه أكثروا من استعطافهم حتى لا تغزوهم جيوشهم2 وقد يشكون من ثقل الضرائب ومما كانوا يدفعون ويؤدون من الإتاوات في أسواق العراق وفي غير أسواق العراق3. وكل الدلائل تدل على أن الحياة كانت مزدهرة في الحيرة قبيل الإسلام، وكان أكثر سكانها من القبائل العربية، وكان يجاورهم العباديون من النصارى، ويظهر أنهم كانوا أخلاطًا من العرب وغير العرب، كما كان يجاورهم الأحلاف من بعض العرب من النبط، سكان العراق من بقايا الأكديين والآراميين وكانوا يحترفون الزراعة. وكانت هناك جالية فارسية، تمتهن بعض المهن والحرف، ويظن أنه كان هناك بعض اليهود. وكانت الحيرة كما قدمنا سوقًا تجاريًّا كبيرًا، وكل ذلك أعد لأن تتحضر، وأن تتأثر بالثقافة الهيلينية الفارسية التي كانت تعم في تلك الأنحاء.   1 الحيوان 4/ 379. 2 الأصمعيات "طبعة دار المعارف" رقم 58. 3 المفضليات رقم 42 البيت 16 17 وقارن مع رقم 41 البيت 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وبين إمارة الحيرة وإمارة الغساسنة قامت إمارة ثالثة في شمالي نجد كان امراؤها يدينون -فيما يظهر- بالولاء لليمن، وهي إمارة كندة1، ويرجع النسابون بها -كما رجعوا بالغساسنة والمناذرة- إلى عرب الجنوب، وقد ظلت شعبة كبيرة منها تقيم في مواطنها الأصلية بحضرموت إلى أن جاء الإسلام. وعُثر على نقوش تؤكد قيام هذه الإمارة الكندية في القرن الرابع الميلادي. وأشهر ملوكها في القرن الخامس حُجْر الملقب بآكل المُرار، وقد استطاع أن يفرض سيادته على القبائل الشمالية في نجد وأن يمد نفوذه إلى اليمامة وتخوم إمارة المناذرة، ويقال إن بكرًا وتغلب دانتا له بالطاعة، وخلفه ابنه عمرو المقصور، وقد يكون في هذا اللقب ما يدل على أن سلطانه كان محدودًا، وفي عهده نقضت بكر وتغلب ولاءهما له، ولم تلبث الحرب أن استعرت بين القبيلتين أربعين عامًا، وهي حرب البسوس المشهورة. وأعقبه ابنه الحارث، وفي عهده بلغت كندة ذروة مجدها؛ فقد خضعت له قبائل نجد، ولجأت إليه بكر وتغلب فأصلح بينهما، وأقام على بكر ابنه شرحبيل وعلى تغلب ابنه معد يكرب كما أقام على أسد ابنه حُجْرًا وعلى قيس عيلان ابنه سلمة، وعقد محالفة بينه وبين إمبراطور بيزنطة، ووجه همه إلى الإغارة على المناذرة وزوج أخته المنذر بن ماء السماء، وانتصر في غير موقعة. ولم يلبث قباذ ملك الفرس أن خلع المنذر وعينه واليًا على الحيرة كما مر بنا في غير هذا الموضع؛ غير أن قباذ لم يلبث أن توفي؛ فعاد ابن ماء السماء إلى الحيرة، ويقال: إنه أوقع بالحارث هزيمة نكراء، قتل فيها وقتل معه أكثر من أربعين أميرًا من بيته. ودس المنذر بين أبنائه، فتحاربوا وسقط شرحبيل وسلمة في ميادين الحرب وجُنَّ معد يكرب، وانتقضت قبيلة أسد على حجر أبي امرئ القيس، وقد حاول أن يسترد ملك أبيه؛ ولكن المنذر كان له بالمرصاد، ففشلت محاولاته وباءت بالخذلان، ويقال إنه رحل إلى إمبراطور بيزنطة يستعين به في محاربة المنذر خصمه؛ غير أنه لم يعد   1 انظر في كندة وأمرائها Olinder, The kings of Kinda وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 3/ 215- 273 ومحاضرات في تاريخ العرب لصالح أحمد العلي 1/ 68 وتاريخ العرب "مطول" لفيليب حتى 1/ 114 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 من رحيله؛ فقد مات دون أمنيته، وشعره يفيض بالحقد على ابن ماء السماء وأصحابه الحيريين، بينما يفيض شعر عبيد بن الأبرص شاعر بني أسد بالسخرية منه وبيان عجزه عن استرداد ملك آبائه مع الوعيد الشديد والتهديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 3- مكة وغيرها من مدن الحجاز 1 في منتصف الطريق المعبد للقوافل بين اليمن والشام تقوم مكة في واد من أودية جبال السراة، تحفه الجبال الجرداء من كل جانب، وقد وصفها القرآن الكريم بأنها {بِوَادٍ غَيْرِِ ذِي زَرْعٍ} . وهي تتراءى لنا في العصر الجاهلي؛ ممسكة بزمام القوافل التجارية، كما تتراءى لنا أكبر مركز ديني للوثنية الجاهلية. ويقال: إنه كان يسكنها في غابر الأزمنة قبائل من جرهم وبقايا من الأمم البائدة، ثم نزلتها قبيلة خزاعة اليمنية حين هاجر كثير من القبائل اليمنية إلى الشمال، ولعلها نزحت إليها لتسيطر على هذا المركز التجاري المهم، ولا نصل إلى منتصف القرن الخامس حتى يظهر بها قصيّ ومعه قبيلة قريش فيستولي عليها ويخرج منها خزاعة. ولا يعرف بالضبط أصل قريش، وهل هي من عرب نجد أو من العرب الأنباط الذين تراجعوا ناحية الجنوب أمام غزو الرومان لبلادهم. وقد دعم مكانتها غزو الأحباش المسيحيين لليمن؛ فتحولت أفئدة العرب الوثنيين إليها، وفزعت أرستقراطيتهم الشمالية والجنوبية إلى هذا المركز البعيد عن أعدائهم، وحاول أبرهة والي الحبشة على اليمن أن يستولي عليها سنة 670 أو671 فباءت حملته بالفشل الذريع، فزاد ذلك في تقديس العرب لها وإعظامها وعَدّوها رمزًا لاستقلالهم وعزتهم وقوتهم؛ إذ لم تدِنْ لأي ملك أجنبي، وفي ذلك يقول حرب بن أمية2: أبا مَطَر هلمَّ إلى صلاحٍ ... فتكفيك النَّدامى من قريشٍ   1 انظر في هذه المدن تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 181 وما بعدها وصالح أحمد العلي ص 77 وما بعدها وفيليب حتى 1/ 144 وما بعدها ودائرة المعارف الإسلامية وكتابي "مكة والطائف قبل الهجرة"، للامنس. 2 الحيوان للجاحظ 3/ 141 وصلاح هنا: مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فتأْمنَ وَسْطهم وتعيش فيهم ... أبا مطرٍ هُديتَ لخير عَيشِ وتنزلَ بلدةً عزَّتْ قديمًا ... وتأمن أن يزورك ربُّ جَيش وقد هيأ لها التصادم المستمر بين الفرس والروم أن تزدهر بها التجارة؛ فقد كان الطريق بين العراق والشام مقفلًا، وكانت أكثر تجارة الشمال والجنوب تهبط فيها. وكانت قوافلها تجوب الصحراء العربية إلى الجنوب في اليمن وحضرموت وإلى الشرق في الحيرة وإلى الشمال؛ حيث تذهب إلى بُصرى في الشام وإلى غزة ومصر. وفي الوقت نفسه كانت راعية الكعبة وأصنامها وأوثانها؛ وبذلك كان أهلها أشرف العرب وكان كثير منهم يعترفون لهم بالسيادة، يقول ابن الفقيه: "إن أهل مكة لم يؤدوا في الجاهلية إتاوة قط، ودانت لهم خُزاعة وثقيف وعامر بن صعصعة، وفرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحِلِّ إذا دخلوا الحرم، وهم بعد أعزّ العرب، يأتمرون عليهم قاطبة"1 وكانوا يأخذون منهم إتاوة تسمى الحريم إذا نزلوا في بلدهم2 كما كانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم، وكان ينزلها بيزنطيون وفرس للتجارة3 يدل على ذلك الصحابيان الجليلان: صُهيب الرومي وسلمان الفارسي. وكل ذلك يؤكد مكانتها وزعامتها على العرب؛ فهي بيت تجارتهم وبيت كعبتهم المقدسة، فيها يقيمون أعيادهم الدينية، كما يقيمون أسواقهم التجارية كسوق عكاظ ومجنّة وذي المجاز. ولم تكن أسواقًا تجارية فحسب؛ بل كانت أسواقًا أدبية أيضًا، تعرض فيها سلع الشعر؛ فيتنافس الشعراء ويقوم بينهم المحكمون من أمثال النابغة فيحكمون للمتفوق ببراعته. وبذلك هيأت لحركة أدبية واسعة النطاق. سيطرت فيها لغتها بحكم مكانتها الدينية وتنقلها بتجارتها في أسواق العرب خارج ديارها، فأصبحت لغة الأدب الرفيعة. ولعل في هذا كله ما يدل على عظم شأنها في الجاهلية، وقد زعم لامنس في   1 كتاب البلدان لابن الفقية "طبعة أوربا" ص 18 2 الاشتقاق لابن دريد ص 172 وأخبار مكة للأزرقي "طبعة أوربا" ص 175. 3 انظر Oleary, Arabia Before Muhammad "London, 1927" p.184 وراجع مروج الذهب للسعودي "طبعة باريس" 2/ 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 كتابه عنها أنها كانت جمهورية كجمهورية البندقية التجارية1، وقد وقف طويلًا عند ملئها ونظامها التجاري المعقد. ومعروف أنه كان بها مَلأ يجتمع بدار الندوة، وهو مجلس شيوخ مصغر، لم يكن يدخله إلا من بلغ أربعين سنة، وكانوا يختارون على ما يظهر حسب ثرائهم وخدماتهم التي يؤدونها وهم سادة بطونها في البطاح وكانوا ينظرون في شئونها التجارية والدينية. وكانت تشبه مصرفًا كبيرًا، به المكاييل والموازين والبيع الحاضر والمؤجل والربا وصنوف المضاربة المختلفة. واشتهر فيها بيتان بالثراء هما بيتا الأمويين والمخزوميين، وكان للأولين أكثر قافلة بدر، ولعل ذلك ما جعل أبا سفيان يرأسها، وفي الاشتقاق لابن دريد معلومات طريفة عن ثروات المخزوميين، وكان منهم من يسمى ربَّ مكة2. ولم يكن الثراء خاصًّا بهذين البيتين؛ فقد كان عبد الله بن جدعان وهو من تَيْم ثريًّا ثراءً مفرطًا، وشبهه بعض الشعراء بقيصر، فقال3: يوم ابن جُدْعان بجنْب الحَزْوَرَه ... كأنه قيصر أو ذو الدَّسْكره وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة الغساسنة؛ بل فوق كسرى وآل كسرى، وكانوا يقصدونهم بالمديح طلبًا للعطاء والنوال، ومديح أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان مشهور. وبهذا كله كانت مكة أهم مدينة عربية في الجاهلية؛ إذ كانت مثابة للعرب وأمنًا. وكان مجتمعها يتألف من قريش البطاح الذين ينزلون حول الكعبة، وهم: هاشم وأمية ومخزوم وتيم وعدي وجُمَح وسهم وأسد ونوفل وزهرة، وكانوا أصحاب النفوذ فيها، ومن قريش الظواهر الذين ينزلون وراءهم ومعهم أخلاط من صعاليك العرب والحلفاء والموالي، والعبيد وكان أكثرهم من الحبشة، ويظهر أنهم كانوا كثيرين كثرة مفرطة، ولعل مما يدل على كثرتهم أن هندًا بنت عبد المطلب أعتقت في يوم واحد أربعين عبدًا من عبيدها4، وكانوا يقومون على حرف ومهن كثيرة. ومن غير شك كان يعيش سادة قريش معيشة مترفة، بحكم ثرائهم واتصالهم بالفرس   1 Lammens La mecquep, 175 2 الاشتقاق ص 60و 92. 3 معجم ما استعجم للبكري "طبعة السقا". مادة حزورة 2/ 444. والحزورة: الرابية. 4 المحاسن والأضداد ص77 وقارن بالأغاني "طبعة دار الكتب" 1/ 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والروم، ويقال: إنهم كانوا يصيفون في الطائف ويشتون في جدة. ونجد في سورة الزخرف استهزاء بمن ينشأ في الحلية والزينة1. ويقال أيضًا: إن عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم دفن في حُلَّتين قيمتهما ألف مثقال من الذهب2. ومن يقرأ أخبار قوافلهم التجارية يخيل إليه أن مكة كانت قافلة كبيرة مقيمة، تخرج منها القوافل إلى الجنوب والشمال والشرق، ودعاهم ذلك إلى أن يعقدوا معاهدات بينهم وبين القياصرة3 والنجاشيين والأكاسرة4، كما دعاهم إلى عقد معاهدات بينهم وبين القبائل التي كانوا يمرون بها في طرقهم التجارية5. ولكن هذا جميعه ينبغي أن لا يجعلنا نبالغ مبالغة لامنس؛ فنظن أن مكة كانت جمهورية بالمعنى الكامل للجمهورية؛ فمع نمو العلاقات التجارية والاقتصادية فيها كان مجتمعها قبليًّا؛ فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة من جهة والقيام على تجارة القوافل من جهة أخرى. ولا سلطان لعشيرة على عشيرة؛ بل كل عشيرة تتمتع بالحرية التامة ولا طاعة عليها لأحد، وكل ما هناك أن اشتراكهم في مصلحة واحدة خفف من غلواء هذه الحرية؛ ولكنه تخفيف لا يخرج بنظام الجماعة القرشية عن النظام المعروف في القبائل الجاهلية، ووجود مَلأ فيها أو مجلس شيوخ لا ينقض هذه الحقيقة؛ إذ لم يكن عمله يعدو عمل مجالس القبائل؛ فقد كان في كل قبيلة مجلس يتكون من رؤساء العشائر، ينظر في شئونها حسب قوانين العرف والعادة؛ ولكنه لم يقض على حرية الأفراد؛ فقد كان كل فرد متمتعًا بحريته، مع شعوره بحقوق الجماعة أو حقوق القبيلة. وهذا نفسه هو النظام الذي كان سائدًا في مكة قبل الإسلام؛ فللفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية. وإلى الجنوب الشرقي من مكة على بعد خمسة وسبعين ميلًا تقوم الطائف على ارتفاع يبلغ نحو ستة آلاف قدم وسط رياض وبساتين تجعلها أشبه ما تكون بقطعة من رياض الشام، وجَعلها ارتفاعها طيبة الهواء؛ فكان القرشيون كما قدمنا يصطافون فيها حيث يجدون كل الثمرات كما يجدون الخمر الصافية. وكانت   1 سورة الزخرف، آية رقم 18. 2 تاريخ اليعقوبي "طبعة أوروبا" 2/ 13. 3 اليعقوبي 1/ 280 والطبري "طبعة أوروبا" 1/ 1089. 4 اليعقوبي 1/ 282 والطبري نفس الصفحة السابقة. 5 اليعقوبي 1/ 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية، وهناك قصة تزعم أنها من بقايا ثمود، وربما كان لهذه القصة أصل صحيح، وأن الثموديين حين تقوضت إمارتهم في الشمال هاجروا إلى الطائف كما هاجر اللحيانيون إلى منازل هذيل بين مكة والمدينة، وقد يدل على ذلك أننا نجد النسابين يذكرون من بطون هذيل بني لحيان، وكأنهم ظلوا يحتفظون في أحد بطونهم باسمهم القديم. ولم تكن حياة الثقفيين تختلف عن حياة القبائل البدوية النجدية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة. ونمضي إلى شمال مكة على بعد نحو ثلاثمائة ميل، فنلتقي بيثرب التي ذكرها بطليموس في جغرافيته كما ذكرتها الكتابات المعينية، وهي تقوم في واد خصب، تكنفه مرتفعات يعلو بعضها بعضًا، وتكثر الآبار والعيون في هذا الوادي كثرة أتاحت له أن يصبح واحة جميلة تكتظ بالنخيل والأشجار والزورع، مع الجو المعتدل؛ إلا في بعض فترات الصيف؛ إذ تشتد بها الحرارة، ولكنها لا تبلغ حرارة مكة القاسية. ويقال: إن العمالقة أول من سكنوا المدينة أو يثرب، وظلوا بها حتى نزلها اليهود في القرن الثاني الميلادي على أثر اضطهاد الرومان لهم في فلسطين، والمظنون أنهم الذين سموها باسم المدينة "مدينتا" وهو اسم آرامي. وقد ظلوا على دين آبائهم إلى أن جاء العرب هَدْي الإسلام الحنيف، واتخذوا العربية في حياتهم اليومية، وإن ظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لسانهم ولغتهم1، وظهر بينهم غير شاعر كان ينظم بها عربية مثل كعب بن الأشرف2. وما زال هؤلاء اليهود مسيطرين على المدينة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس والخزرج الأزدية من الجنوب، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين، وقد اتخذوا العربية الشمالية لسانًا لهم، وكانوا وثنيين يحجون إلى مكة وأصنامها، مثلهم مثل بقية العرب. ولم يكونوا يعتمدون على التجارة مثل المكيين، إنما كانوا يعتمدون   1 انظر البلاذري "طبعة أوروبا" ص 474. 2 راجع في شعراء اليهود بالمدينة السيرة النبوية لابن هشام وطبقات الشعراء لابن سلام، والأغاني 19/ 97، 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 على زروع بلدهم وثمارها؛ بينما كان اليهود يقومون على الحرف والصناعات، وخاصة صناعة الأسلحة والأقمشة. ويظهر أن النصرانية كانت معروفة هناك؛ ففي السيرة أن شخصًا كان بها يسمى عبد عمرو بن صيفي خرج على الرسول وحاربه مع قريش، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح1. وتدل دلائل مختلفة على أن حياة الأوس والخزرج لم تكن تختلف في شيء عن حياة البدو في الخيام، مع أنهم سكنوا آطام المدينة. ومن أكبر الدلالة على ذلك أنهم كانوا يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية، وأكبر الظن أن اليهود هم الذين عملوا على الوقيعة ونشر العداوة والبغضاء بينهم؛ حتى يشغلوهم عنهم، وكانوا يصنعون لهم الأسلحة التي استخدموها في تلك الحروب الدامية. وفي كتب التاريخ والأدب أيام ومواقع لهم كثيرة مثل يوم سمير، ويوم حاطب، ويوم السرارة، ويوم فارع، ويوم الربيع، ويوم البقيع، ويوم معبس ومضرس، ويوم الفجار، ويوم بعاث. وتحرجت الظروف تحرجًا شديدًا بين الأوس والخزرج؛ حتى غدا كأنه من المستحيل أن يكفوا عن هذه الأيام والحروب وكأنما تعاهدوا على الفناء؛ لولا أن نزل بينهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا إذ دخلوا في دينه الحنيف أفواجًا، وتحولوا إليه يشدون أزره وينصرونه حتى أضاءت بتعاليمه الجزيرة العربية من جميع أطرافها ومسالكها ودروبها. وكان لليهود في شمالي المدينة قرى خاصة بهم أشهرها خيبر وفدك وتيماء، وما زالوا بها حتى أخرجهم عمر من الجزيرة فأصبحت عربية خالصة. والمظنون أن هؤلاء اليهود مثلهم مثل يهود المدينة نزلوا في هذه القرى حين اضطهدهم الرومان منذ أوائل القرن الثاني الميلادي، واتخذوا العربية لسانًا لهم، وعبروا بها عن عواطفهم؛ فجرى الشعر على ألسنة تفر منهم، لعل أشهرهم السموءل صاحب حصن الأبلق بتيماء وكان معاصرًا لامرئ القيس، ويقال: إن أمه كانت عربية من غسان، ولعل ذلك العرق فيه هو الذي أنطقه بالشعر العربي، وكان أخوه شعية شاعرًا مثله. ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعًا؛ ولذلك لم يؤثروا في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنهم.   1 السيرة النبوية "طبعة الحلي" 2/ 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 4- القبائل البدوية يقسم النسابون هذه القبائل؛ بل قبائل العرب الشمالية جميعها، قسمين كبيرين: قسم عدناني مضري، هو عرب الشمال المنحدرون من عدنان ونزار ومضر، وقسم قحطاني ينحدر من قحطان "ولعله يقطان المذكور في الإصحاح العاشر من التوراة"، وقد هاجر هذا القسم من الجنوب، من اليمن وحضرموت وعاش بين العرب الشماليين. وتشكك بعض المستشرقين فيما ساقه رواة الأخبار من هذا التقسيم وما يندرج فيه من أنساب القبائل الشمالية عامة1، وقالوا إنه من وضع القرن الأول للهجرة وما كان من منافسات بين مكة التي نُسبت إلى عدنان والمدينة التي نُسب العرب فيها من الأوس والخزرج إلى قحطان، وتداخلت عوامل سياسية واقتصادية مكنت من انتشار فكرة هذا التقسيم، كما مكنت من ترتيب الأنساب العربية في نظامها المعروف. ويبالغ بعض المستشرقين فينكر جملة أن يكون عرب الجنوب قد هاجروا إلى الشمال، ويظن ذلك حديث خرافة؛ ولكن من يرجع إلى الشعر الجاهلي يجد فيه الفخر باليمنية والقحطانية والعدنانية والمضرية، كما يجد فيه العصبيات مشتعلة بين القبائل على أساس الاشتراك في الدم وفي أب واحد أو أم واحدة، ومن التحكم أن نجري وراء ظنون لا دليل عليها. وحقًّا اختلف النسابون في أصل بعض القبائل وهل هي عدنانية أو قحطانية مثل خُزاعة وقضاعة وخَشعم؛ ولكنه اختلاف محدود، والرأي الصحيح أن هذه القبائل قحطانية. ومن الثابت الذي لا شك فيه أن القحطانيين هاجروا بتأثير ظروف اقتصادية وسياسية إلى الشمال، وأن هذه الهجرات بدأت منذ أزمان مبكرة؛ فقد كان المعينيون على ما يظهر يضعون حاميات في طرق قوافلهم التجارية، ولما ضعفت الدول الحميرية: دولة سبأ وذي ريدان وحضرموت واليمنات هاجر كثير من   1 راجع في ذلك تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 1/ 220 وما بعدها وتاريخ الأدب العربي لبلاشير 1/ 21 وما بعدها والفصل الأول من كتاب سميث: kinship and Marriage in Early Arabia. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الجنوبيين إلى الشمال، وخاصة بعد سيل العرم الذي خرب سدَّ مأرب. ويؤكد ذلك أننا نجد للقبيلة الواحدة فروعًا وشعبًا مختلفة في الجزيرة العربية؛ فكندة التي هاجرت إلى الشمال وأسست لها مملكة أو إمارة في شمالي نجد كانت لا تزال بقيتها الكبرى تقيم في حضرموت حين ظهور الإسلام، ونجد في أسماء رجالها نفس الأسماء الجنوبية مثل شرحبيل بن الحارث ومعد يكرب أخيه، كما مر بنا في الحديث عن إمارة كندة، وكانت عشائر من إياد لا تزال تنزل في شمالي نجران؛ بينما يممت عشائر منها حوض الفرات، أما الأزد فقد توزعت عشائرها بين شمالي اليمن وعمان، والمدينة حيث أقام الأوس والخزرج، وشمالي الجزيرة في الشام حيث نزل بنو غسان1. وفي هذا دلالة واضحة على أن هجرة الجنوبيين إلى الشمال لا يعتريها الشك. وهاجرت تنوخ إلى البحرين، ثم استقرت في جنوبي العراق حيث أسست أهم عشائرها، وهي لخم، دولة المناذرة في الحيرة. ولما نزحت قبائل همدان من حضرموت إلى الجوف اليمني بين مأرب ونجران هاجرت قبيلة طيئ إلى الشمال واستقرت في جبلي أجا وسلمى. وهاجرت قبائل أخرى إلى شمالي الحجاز وانتشرت في بادية الشام؛ وأهمها قضاعة وبهراء وجهينة وبلى التي نزلت في مساكن ثمود وجذام وكلب وعاملة اللائي نزلن في حدود فلسطين وعذرة التي نزلت بالقرب من تيماء ووادي القرى. وممن هاجر من الجنوب أيضًا خزاعة وكانت مستقرة قبيل الإسلام في منطقة مكة وبجيلة وكانت تنزل جنوبي الطائف. ويقابل هذا القسم القحطاني اليمني قسم عدناني مصري، ومن أهم قبائله قريش في مكة، وثقيف في الطائف، وعبد القيس في البحرين، وبنو حنيفة في اليمامة، وتميم وضبة في صحراء الدهناء، وبكر وعشائرها الكثيرة التي تمتد من الشمال الشرقي للجزيرة إلى اليمامة والبحرين، ويرد إليها النسابون بني حنيفة وبني عجل وشيبان وذهل، ثم تغلب وكانت تتوغل أكثر من بكر في شمالي الجزيرة صوب الشرق، وكان يجاورها بنو النمر؛ بينما كانت تنزل أسد في شمالي نجد وتنتشر عشائرها إلى تيماء. ومن هذه القبائل العدنانية أيضًا كنانة وهذيل بالقرب من مكة،   1 انظر مادة إياد والأزد في دائرة المعارف الإسلامية وكذلك مادة خثعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقيس عيلان في نجد، وأهم قبائلها هوازن، وسليم، وعامر وعشائرها كلاب وعقيل وقُشَيْر ومزينة وبنو سعد، وغطفان وفرعاها الكبيران: عبس وذُبيان. وفي المفضليات قصيدة طريفة للأخنس بن شهاب يحصى فيها منازل كثير من هذه القبائل1. وهذه الأنساب التي قدمناها كان يؤمن بها العرب إيمانًا شديدًا، وظلوا على هذه الإيمان في الإسلام؛ فتكتلوا على أساسها في مجموعتين كبيرتين: مجموعة قحطانية يمنية، ومجموعة مضرية عدنانية، وكان التنافس شديدًا بين الطرفين، وكثيرًا ما جر إلى منازعات في الكوفة والبصرة، كما جر إلى حروب في الجيوش المقاتلة في أقصى الشرق بخراسان وفي أقصى الغرب بالأندلس؛ فكانت تتجمع عشائر كل فريق حين تصطدم مصلحة عشيرة يمنية بمصلحة عشيرة مضرية، وسرعان ما تنشب بين الفريقين معارك دامية. ومن المؤكد أن عرب الجاهلية كانوا يتمسكون بهذه الأنساب التي أجملناها وعنهم ورثها أبناؤهم في الإسلام، وهي تؤلف علمًا واسعًا عند العرب هو علم الأنساب، وكأنهم رأوا في النسب ما نراه نحن الآن في الوطن؛ فكل قبيلة تؤمن بنسبها وتعتز به وبأنها تعود إلى أصل واحد؛ فهي من دم واحد ولحم واحد، ومن أجل ذلك عبروا عن القرابة باللُّحمة كما عبروا عن عشائرهم وفروعهم بالبطن والفخذ. وهذه القبائل جميعها المتبدية منها والمستقرة في مدن كمكة والحيرة كانت تتحد في نظمها السياسية، وهي نظم قبلية، تقوم على أساس القبلية واشتراك أبنائها في أصل واحد وموطن واحد، وهو موطن متنقل مع المراعي، وكذلك اشتراكها في تقاليد وعُرف تتمسك بهما تمسكًا شديدًا. وكان الرباط الذي يوثق الصلة بين أفراد القبيلة هو العصبية، وهي عصبية قبلية، ليس فيها شعور واضح بالجنس العربي العام، وحقًّا تكونت عندهم إمارات في الشمال؛ ولكنها ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية، وإن بدا في تضاعيفها شعور ضئيل بالوحدة؛ لا بين القبائل الشمالية فحسب؛ بل بينها وبين القبائل الجنوبية؛ فقد كان أمراء هذه الولايات من العرب الجنوبيين كما يقول رواة الأخبار والنسابون؛ وإنما تقول   1 المفضليات، القصيدة رقم 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 شعورًا ضئيلًا، لأن أصحاب هذه الإمارات لم ينفذوا فعلًا إلى فكرة الأمة العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد؛ إنما كل ما هناك اتحاد قبلي، له رئيس. ومن الاتحادات التي كانت تجمعهم اتحادات الأحلاف، ويظن أن هذه الاتحادات لعبت دورًا كبيرًا في تكوين القبائل؛ إذ كانت تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد العدوان عنها، يقول البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش واستضعاف القوي الضعيف؛ انضم اللذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم"1 ومن القبائل التي تمثل ذلك خير تمثيل قبيلة تنوخ في العراق؛ فقد انضم إليها وتلاشى فيها كثير من القبائل والعشائر العراقية2 وبمجرد أن تدخل القبيلة في حِلْف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق؛ فهم ينصرونها على أعدائها ويردون كيدهم عنها في نحورهم. وقد تنفصل بعض قبائل الحلف لتنضم إلى حلف آخر يحقق مصالحها، ومن ثم كنا نجد دائمًا أحلافًا تضعف وتحل محلها أحلاف أخرى. وقبائل قليلة لم تدخل في أحلاف؛ ولذلك سميت باسم جمرات العرب، لما كان فيها من شجعان يكفونها في الحروب، على أن هذا كثيرًا ما كان يؤول بها إلى تنهك في المعارك، أما القبائل المتحالفة؛ فكانت تهاب لخشونة مسها. وأصل الحلف والتحالف من كلمة الحَلِف بمعنى اليمين الذي كانوا يقسمونه في عهودهم، وكانوا يغمسون أيديهم في أثناء عقد أحلافهم في طيب أو في دم، وكانوا يقولون3: الدم الدم والهدم الهدم، لا يزيد العهد طلوع الشمس إلا شدًّا وطول الليالي إلا مدًّا، ما بل بحر صوفة. وأقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى وإلا ذكروا ما يجاورهم من جبال. وربما أوقدوا النار عند تحالفهم، ودعوا الله على من ينكث العهد بالحرمان من منافعها، ويقال إن قبائل مرة بن   1 معجم ما استعجم للبكري "طبعة السقا" 1/ 53. 2 انظر مادة تنوخ في دائرة المعارف الإسلامية. 3 انظر الحيوان للجاحظ 4/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 عوف الذبيانيين تحالفت عند نار ودنوا منها حتى محشتهم "أحرقتهم"؛ فسمي حلفهم باسم المحاش. ومن الأحلاف المشهورة في مكة حلف المطيبين وقد تعاقد فيه بنو عبد مناف وبنو زهرة وبنو تيم وبنو أسد ضد بني عبد الدار وأحلافهم، ويقال إنهم غمسوا أيديهم في جفنة مملوءة طيبًا. وأكرمُ من هذا الحلف حلف الفضول وفيه تحالفت قبائل من قريش على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا إلا نصروه وقاموا معه حتى ترد عنه مظلمته. ومن أحلاف العرب المشهورة حلف الرباب، وهم خمس قبائل: ضبة وثور وعكل وتيم وعدي، وحلف عبس وعامر ضد ذبيان وأحلافها من تميم وأسد وحلف الحمس بين قريش وكنانة وخزاعة. وكان لهذه القبائل جميعًا المتحالفة وغير المتحالفة مجلس يضم شيوخ عشائرها1 وهو ندوتهم. التي ينظرون فيها شئون قبيلتهم وكان كل فرد يستطيع أن يحضره وأن يتحدث فيه، ولم يكن له موعد معين، وفي العادة كانوا يجتمعون مساء وكلما حزب أمر أو ظهر ما يدعو إلى الاجتماع، فيتناقشون ويتحاورون، وقد يخطبون، أو يستمعون إلى بعض ما ينظمه شعراؤهم، وفي أثناء ذلك يدلي سادتهم بحكمهم وتجاربهم في الحياة. وإلى ذلك يشير زهير بن أبي سُلمى إذ يقول في مديح هرم بن سنان وقومه2: وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعل وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يُشفَى بأحلامها الجهل وكانت قرارات هذه المجالس نافذة؛ فجميع أفراد القبيلة تذعن لها ولا تشذ عليها. وغالبًا ما يتقدم شيوخ القبيلة شيخ كبير مجرب، هو سيدها، له حنكة وحكمة وسداد في الرأي وسعة في الثروة، وهو الذي يقود القبيلة في حروبها ويقسم غنائمها ويستقبل وفود القبائل الأخرى، ويعقد الصلح والمحالفات، ويقيم الضيافات؛ غير أنه ينبغي أن لا يفهم من ذلك أنه كانت له أو لشيوخ القبيلة سيادة واسعة،   1 انظر في مجالس القبيلة وحقوق سيدها وواجباته القسم الثالث من كتاب لامنس: Le Berceau de I,lslam. 2 ديوان زهير "طبعة دار الكتب المصرية" ص 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فسيادته رمزية، وإذا بغى كان جزاؤه جزاء كُليب التغلبي حين بغى وطغى على أحلافه من بكر، فقتلوه؛ مما كان سببًا في نشوب حرب البسوس المشهورة. فالسيد في القبيلة إنما هو الشخص الألمعي الذي حنكته التجارب، وغالبًا ما يرث سيادته عن آبائه؛ حتى يتم له الحسب الرفيع، وليس له أي حقوق سوى توقيره، أما واجباته فكثيرة، فلا بد فيه من الشجاعة والكرم والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز والضعيف، ولا بد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة وما تدفعه من ديات، ولا بد أن يكون حليمًا متسامحًا، وإلى ذلك كله يشير معاوية سيد بني كلاب حين يقول1: إني امرؤ من عصبة مشهورة ... حشد لهم مجد أشم تليد2 ألفوا أباهم سيدًا وأعانهم ... كرمٌ وأعمام لهم وجدود إذ كل حي نابت بأرومة ... نبت العضاة فماجدٌ وكسيدُ3 نعطي العشيرة حقها وحقيقها ... فيها ونغفر ذنبها ونسود وإذا تحملنا العشيرة ثقلها ... قمنا به وإذا تعود نعود4 وإذا نواق جرأة أو نجدة ... كنا سُمَيَّ بها العدو نكيد5 بل لا نقول إذا تبوأ جيرة ... إن المحلة شعبها مكدود6 وواضح أن السيد في رأي معاوية لا بد أن يكون شريف الأصل والأرومة، من عشيرة لها مجد فسيح الفناء، ولا بد أن يرعى حقوق هذه السيادة، وهي الحلم والصفح عن السفهاء وكظم الغيظ مع العفو والمغفرة، ولا بد له أن يبذل المال والنفس في جنايات القبيلة وأن يسارع إلى النجدة والحرب وأن يكون كريمًا مضيافًا.   1 المفضليات.، القصيدة رقم 104. 2 الحشد: الذين يحتشدون ويجتمعون للملمات، والتليد: القديم. 3 الأرومة: الأصل، العضاه: شجر ضخم من أشجار البادية، الماجد: ذو المجد، والكسيد: الدون. 4 الثقل: الغرم والدية. 5 سمي: مرخم سمية، وحذف ياء النداء. 6 الشعب: ما انفرج بين جبلين مكدود: في ضيق وشدة، يقول: إنه لا يعتذر لأضيافه بما يلم به من شدائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 إذا نزل به جار أضافه وأعانه وحفظ له كل ما يمكن من حقوق الجوار. وكان من أهم ما يقوم به السيد إصلاح ذات البين في القبيلة ولَمُّ شعثها مستعينًا في ذلك بشيوخها وأصحاب الشرف فيها. ودائمًا لا بد له من استشارتهم؛ بل لا بد له من أن يستمع إلى كل فرد من أفرد القبيلة. فهم جميعًا أكفاء يتساوون في الحقوق ومن أهم ما يدل على هذه المساواة نظام الإجارة، وهي حق التوطن في القبيلة؛ إذ كان لكل فرد فيها أن يجير من يشاء، وإذا أجار شخصًا أصبحت قبيلته ملزمة به، وأصبح له ما لأفرادها من حقوق. وعليه ما عليهم من واجبات. وكان أفراد القبيلة جميعًا يضعون أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها، وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر ممن سولت له نفسه من القبائل الأخرى أن يعتدي على أحد أبنائها؛ فكل فرد فيها يضحي لها بنفسه كما يضحي لها بماله؛ فهي حياته وكيانه، وهو مع اعتزازه بفرديته وشخصيته وحريته يعيش لها وداخل إطارها، مدفوعًا في ذلك بعصبية شديدة، وهي عصبية سيطرت على نفوسهم، وقدسوها تقديسًا كان أعظم من تقديسهم للشعائر الدينية. فتلك الشعائر تشركهم فيها قبائل أخرى، أما شعائر العصبية القبلية فإنها خاصة بالقبيلة وأبنائها الذين يجمعهم دم واحد ونسب واحد. وربما تسامح الواحد منهم في دينه؛ إذ لم يكن يهمه في كثير من الأحوال، أما في العصبية فإنه لا يتسامح في أي واجب من واجباتها، ومن خير ما يصور ذلك قول دريد بن الصِّمَّة1: وما أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غَوَت ... غويتُ وإن ترشُد غزية أَرشدِ فغيه ورشده مرتبطان بعشيرته غزية، فإن ضلت؛ ضل معها وأمعن في ضلاله، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه. وكانت القبيلة من جانبها تعطي لأبنائها عليها نفس الحقوق؛ فهي تنصرهم في الملمات التي تنزل بهم ظالمين أو مظلومين؛ فحسب أحدهم أن يستغيث فإذا السيوف مشرعة، وإذا الدماء تتصبب على أتفه الأسباب. وقد تحولوا بسبب اختصاصهم على المراعي واتخاذهم الغزو وسيلة من وسائل عيشهم إلى ما يشبه كتائب حربية،   1 الأصمعيات "طبع دار المعارف" ص 112 وانظر المرزوقي على الحماسة 2/ 815. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فكل قبيلة مستعدة دائمًا للحرب والجلاد والإغارة على من حولها من البدو والحضر، وهي دائمًا شاكية السلاح حتى تحمي حماها ومنازلها وآبارها ومراعيها؛ ولذلك كانت الشجاعة مثلهم الأعلى؛ فدائمًا يفتخرون ببطولتهم وبعدد من قتلوا في حروبهم مما يدور في أشعارهم ويدور معه اعتدادهم بسيوفهم اليمانية والهندية، ولبعضها أسماء اشتهرت بينهم، وكما يعتدون بسيوفهم نراهم يعتدون برماحهم وقسيهم ودروعهم وتروسهم وبيضاتهم أو خوذاتهم، وأشاد فرسانهم بالخيل إشادة بالغة وسموها أسماء كثيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 5- حروب وأيام مستمرة لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية أنها كانت حياة حربية تقوم على سفك الدماء حتى لكأنه أصبح سُنَّة من سننهم؛ فهم دائمًا قاتلون مقتولون، لا يفرغون من دم إلا إلى دم؛ ولذلك كان أكبر قانون عندهم يخضع له كبيرهم وصغيرهم هو قانون الأخذ بالثأر؛ فهو شريعتهم المقدسة، وهي شريعة تصطبغ عندهم بما يشبه الصبغة الدينية؛ إذ كانوا يحرمون على أنفسهم الخمر والنساء والطيب حتي يثأروا من غرمائهم. ولم يكن لأي فرد من أفراد القبيلة حق ولا ما يشبه الحق في نقض هذه الشريعة ولا في الوقوف ضدها أو الخروج عليها، فما هي إلا أن يُقْتَل أحد منهم؛ فإذا سيوف عشيرته مسلولة، وتتبعها العشائر الأخرى في قبيلته، تؤازرها في الأخذ بثأرها، ويتعدد القتل والثأر بينها وبين القبيلة المعادية، وتتوارثان الثارات حتي يتدخل من يصلح بينهما ويتحمل الديات والمغارم، ولم يكونوا يقبلونها إلا بعد تفاقهم الأمر وإلا بعد أن تأتي الحرب على الحرث والنسل. أما قبل ذلك فكانوا يعدونها سبة وعارًا وفي ذلك يقول عبد العزى الطائي1:   1 حماسة البحتري "طبع بيروت" ص 28 وانظر 29، 31 والمرزوقي على الحماسة 1/ 215 - 216 وراجع المفضليات، القصيدة رقم 42 البيت 15 والأصمعيات القصيدة رقم 44 البيت 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إذا ما طلبنا تَبْلَنا عند معشَرٍ ... أبينا حِلاب الدَّرِّ أو نشربَ الدَّما1 فهم لا يرضون بالدية ويرونها ذلًا ما بعده ذل أن يستبدلوا الدم بالإبل وألبانها؛ فالدم لا يشفيهم منه إلا الدم، وكأنما أصبح سفكه غريزة من غرائزهم لا تزايلهم؛ فهم يطلبونه وهم يتعطشون إليه تعطشًا شديدًا على شاكلة تأبط شرًّا إذ يقول2: قليلُ غرار النوم أكبر همه ... دم الثأر أو يلقى كميًّا مُسَفَّعا فأكبر ما يهتم به وينصب له طلب الثأر ولقاء بطل سفعت وجهه الهواجر. وأكثر حروبهم كان يجرها نزاع بين بعض الأفراد في قبيلتين مختلفتين؛ إما بسبب قتل أو بسبب إهانة، أو بسبب اختلاف على حد من الحدود، وحينئذ تشتبك عشيرتا هؤلاء الأفراد، وتنضم إلى كل عشيرة عشائر قبيلتها، وقد تنضم أحلافهما، فتنتشر نيران الحرب بين قبائل كثيرة، وصور ذلك شاعر الحماسة؛ إذ يقول3: الشيء يبدؤه في الأصل أصغره ... وليس يصلى بكل الحرب جانيها والحرب يلحق فيها الكارهون كما ... تدنو الصحاح إلى الجربَى فتُعْديها فهي تبدأ صغيرة ضعيفة، ثم تقوى وتستحكم وتعظم بمرور الزمن؛ فتصبح لها عدوى كعدوى الجرب، لا يفلت منها راغب فيها ولا كاره؛ فالجميع يصطلون بنارها، بل يترامون فيها ترامي الفراش، فهي أمنيتهم ومبتغاهم، يقول زهير4: إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوالَ الرماح لا ضعافٌ ولا عُزْل5 فإن يُقْتَلوا فيُشْتَفى بدمائهم ... وكانوا قديمًا من مناياهم القتلُ فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب فيقتلون   1 التبل: الثأر، وحلاب الدر: كناية عن الإبل التي تحلب وتشرب ألبانها. 2 المرزوقي على حماسة أبي تمام 2/ 492 وغرار النوم: قليله، والكمي: الشجاع. 3 المرزوقي 1/ 407. 4 ديوان زهير ص 102 5 الأعزل مفرد عزل: من لا سلاح له، وفزعوا: أغاثوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم. يقول دريد بن الصمة1: وإن لَلَحْمُ السيفِ غيرَ نَكيرةٍ ... ونُلحمه حينًا وليس بذي نُكْرِ2 يُغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر3 قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر ومثل قبيلة دريد قبائلُ العرب جميعها؛ فهم طعام السيوف، يطعمونها أعداءهم، ويطعمهم أعداؤهم لها في غير نكران؛ فهم دائمًا واترون موتورون، وحياتهم مقسومة على هذين الحدين وإلى هذين الشطرين. ولم يكونوا يرهبون شيئًا مثل الموت ختف الأنف بعيدًا عن ميادين القتال، ميادين الشرف والبطولة؛ حيث يموتون طعنًا بالسيوف والرماح، وحيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، يقول الشنفرى4: ولا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشرِي أم عامر فهو يتمنى أن لا يقبر، وأن يترك بالعراء في ساحة الحرب تنوشه السباع، ويبشر أم عامر وهي الضبع بجسده، حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية المجيد، وكانوا يسمون حروبهم ووقائعهم أيامًا؛ لأنهم كانوا يتحاربون نهارًا؛ فإذا جنهم الليل وقفوا القتال حتى يخرج الصباح. وأيامهم وحروبهم كثيرة، وهي تدور في كتب الأدب والتاريخ، ويقال إن أبا عبيدة المتوفى سنة 211 للهجرة صنف في ألف يوم ومائتين منها كتابًا اعتمد عليه من جاءوا بعده، ولم يصلنا هذا الكتاب؛ وإنما وصلنا شرحه لنقائض جرير والفرذدق وفيه طائفة كبيرة منها. وألف فيها من بعده كثيرون أحصاهم ابن النديم في المقالة الثالثة من الفن الأول بكتابه الفهرست. وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وشرح حماسة أبي تمام للتبريزي منثورات منها كثيرة. وعقد لها ابن عبد ربه في العقد الفريد وابن الأثير   1 المرزوقي 2/ 825. 2 نكيرة ونكر: نكران وامتراء، ونلحمه: نطعمه اللحم 3 الوتر: الثأر، واترين: قاتلين ومسببين الوتر. 4 المرزوقي 2/ 487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 في الجزء الأول من كتابه الكامل والنويري في نهاية الأرب فصولًا طويلة، وكذلك صنع الميداني في الفصل التاسع والعشرين من كتابه مجمع الأمثال؛ إذ تناول منها مائة واثنين وثلاثين يومًا ضبط أسماءها وذكر القبائل التي اشتركت في كل منها. وتسمَّى هذه الأيام والحروب غالبًا بأسماء البقاع والآبار التي نشبت بجانبها مثل يوم عين أباغ، وكان بين المناذرة والغساسنة ومثل يوم ذي قار وكان بين بكر والفرس ويوم شعب جبلة وكان بين عبس وأحلافها من بني عامر وذبيان وأحلافها من تميم. وقد تسمى بأسماء ما أحدث اشتعالها مثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء. ومن أيامهم المشهورة يوم خزاز وكان بين ربيعة واليمن من مَذْحج وغيرهم ويوم طخفة بين المنذر بن ماء السماء وبني يربوع، ويوم أوارة الأول بينه وبين بني بكر ويوم أوارة الثاني بين ابنه عمرو بن هند وبني تميم، ويوم ظهر الدهناء بين بني أسد وطيء، ويوم الكلاب الأول بين بني بكر وعشائر من تميم وضبة بقيادة شرحبيل بن الحارث الكندي وبين تغلب والنمر وبهراء بقيادة أخيه سلمة، وأيام الأوس والخزرج ومر ذكرها في غير هذا الموضع، ويوم حوزة الأول بين سليم وغطفان، ويوم اللوى بين غطفان وهوازن ويوم الكلاب الثاني بين تميم وبني عبد المدان النجرانيين ويوم الوقيط بين تميم وربيعة، وكذلك يوم جَدود وذي طُلوح والغبيط وزبالة ومبايض والجفار. ويوم الرحرحان بين قيس وتميم، وكذلك الصرائم والمروت والنسار. ويوم الشقيقة بين ضبة وبني شيبان، ويوم بُزاخة بين ضبة وإياد ويوم دارة مأسل بينها وبين بني عامر. وكانوا لا يقتتلون في الأشهر الحرم. ومع ذلك وقعت فيها بعض مناوشات تسمى بأيام الفجار بين كنانة وهوازن يومها الأول، أما يومها الثاني فكان بين كنانة وقريش، وبين بني عامر وتبعت ذلك أيام أخرى. وسنقف قليلًا عند حرب البسوس وحرب داحس والغبراء لأنهما من أشهر حروبهم وأطولها زمنًا. أما حرب البسوس؛ فقد اشتعلت بين قبيلتي بكر وتغلب في أواخر القرن الخامس الميلادي. وكان سببها اعتداء كليب سيد تغلب -وكان قد طغى واشتد بغيه- على ناقة للبسوس خالة جساس بن مرة سيد بني بكر؛ إذ رمى ضرعها بسهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فاختلط لبنها بدمها. ولما علم جساس بما حدث؛ ثأر لكرامته، وسنحت له فرصة من كليب فقتله، ودارت رحى حرب طاحنة ظلت -فيما يقال- أربعين سنة؛ فكثرت أيامها مثل يوم عُنَيْزة وكان سجالًا بين الطرفين، ويوم واردات وكان لتغلب على بكر ويوم قضة "تحلاق اللمم" وفيه انتصرت بكر. ولما أنهكت الحرب الفريقين لجأ إلى الحارث بن عمرو الكندي؛ فأصلح بينهما، وأقام كما مر بنا على بكر ابنه شرحبيل وعلى تغلب ابنه سلمة. ونمت في العصور الإسلامية أساطير حول هذه الحرب وبطلها التغلبي المهلهل أخي كليب، وألفت عنه قصة شعبية باسم "الزير سالم". وأما حرب داحس والغبراء؛ فكانت في أواخر العصر الجاهلي، وكان السبب في نشوبها سباقًا على رهان بين الفرسين، فسميت باسميهما، وكان قد أجراهما سيدا عبس وذبيان: قيس بن زهير، وحذيفة بن بدر، وأوشك داحس أن يفوز؛ غير أن رجلًا من ذبيان كان قد كمن له، فاعترضه ونفره؛ فعدل عن الطريق. وبذلك سبقته الغبراء، وأبى قيس أن يعترف بهذا السبق وطلب الرهان المضروب. وحدث صدام بين الفريقين لم تلبث الحرب أن اندلعت على إثره، وظلت سنوات طويلة حتى تدخل سيدان من ذبيان هما هرم بن سنان والحارث بن عوف المري. فتحملا ديات القتلى؛ وبذلك وضعت الحرب أوزارها بين القبيلتين ومن كان قد انضم إليهما من الأحلاف؛ فقد انضمت عامر إلى عبس بينما انضمت تميم وأسد إلى ذبيان. وعلى نحو ما نمت الأساطير حول المهلهل بطل حرب البسوس نمت حول عنترة بطل هذه الحرب، وكان من عبس، فألفت عنه قصة شعبية مشهورة لا نبعد إذا قلنا إنها تحولت إلى إلياذة كبرى للعرب وفروسيتهم الرائعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الفصل الثالث: الحياة الجاهلية 1- الأحوال الاجتماعية كانت القبيلة في العصر الجاهلي تتألف من ثلاث طبقات: أبناؤها: وهم الذين يربط بينهم الدم والنسب وهم عمادها وقوامها، والعبيد: وهم رقيقها المجلوب من البلاد الأجنبية المجاورة وخاصة الحبشة، والموالي: وهم عتقاؤها، ويدخل فيهم الخلعاء الذين خلعتهم قبائلهم ونفتهم عنها؛ لكثرة جرائرهم وجناياتهم. وكانوا يعلنون هذا الخلع على رءوس الأشهاد في أسواقهم ومجامعهم، وقد يستجير الخليع بقبيلة أخرى فتجيره، وبذلك يصبح له حق التوطن في القبيلة الجديدة، كما يصبح من واجبه الوفاء بجميع حقوقها مثله مثل أبنائها. ومن هؤلاء الخلعاء طائفة الصعاليك المشهورة، وكانوا يمضون على وجوههم في الصحراء، يتخذون النهب وقطع الطريق سيرتهم ودأبهم، على نحو ما نعرف عن تأبط شرًّا والسليك بن السلكة والشَّنْفَرى. على أن منهم من كان يظل في قبيلته لفضل فيه مثل عروة بن الورد، وكان كريمًا فياضًا، وأثر عنه أنه كان يجمع إلى خيمته فقراء قبيلته عبس ومعوزيها ومرضاها، متخذًا لهم حظائر يأوون فيها، قاسمًا بينه وبينهم مغانمه1. وهذا الخلع إنما كان يحدث في حالات شاذة، أما بعد ذلك فإن أفراد القبيلة كانوا متضامنين أشد ما يكون التضامن وأوثقه، وهو تضامن أحكم عراه حرصهم على الشرف وقد تكونت حوله مجموعة من الخلال الكريمة لعل خير كلمة تجمعها هي كلمة المروءة التي تضم مناقبهم، من مثل الحلم والكرم والوفاء وحماية الجار وسعة الصدر والإعراض عن شتم اللئيم والغض عن العوراء.   1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 78 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم، وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء القاسية وما فيها من إجداب وإمحال؛ فكان الغني بينهم يفضل على الفقير، وكثيرًا ما كان يذبح إبله في سنين القحط، يطعمها عشيرته، كما يذبحها قرير العين لضيفانه الذين ينزلون به أو تدفعهم الصحراء إليه. ومن سننهم أنهم كانوا يوقدون النار ليلًا على الكثبان والجبال؛ ليهتدي إليهم التائهون والضالون في الفيافي؛ فإذا وفدوا عليهم أمَّنوهم حتى لو كانوا من عدوهم. ويدور في شعرهم الفخر بهذه النيران وأن كلابهم لا تنبح ضيوفهم لما تعودت من كثرة الغادين والرائحين، يقول عوف بن الأحوص1: ومستنبح يخشى القواء ودونه ... من الليل بابًا ظلمة وستورها2 رفعت له ناري فلما اهتدى بها ... زجرت كلابي أن يهر عقورها3 فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ... إذا ردَّ عافي القدر من يستعيرها4 ترى أن قدري لا تزال كأنها ... لذي الفروة المقرور أمٌّ يزورها5 مبررة لا يجعل الستر دونها ... إذا أخمد النيران لاح بشيرها6 إذا الشول راحت ثم لم تفد لحمها ... بألبانها ذاق السنان عقيرها7 واشتهر عندهم بالكرم الفياض كثيرون8، مثل حاتم الطائي الذي ضربت الأمثال بكرمه، وهو يصوره في كثير من شعره كقوله9: إذا ما بخيل الناس هرت كلابُهُ ... وشق على الضيف الغريب عقورها   1 المفضليات رقم 36 والحيوان للجاحظ "طبعة الحلبي" 5/ 136. 2 مستنبح: من ينبح حتى ترد عليه الكلاب، فيعرف أن حيًّا قريبًّا منه، القواء: الفلاة. 3 بهر: ينبح نبحًا خفيفًا، العقور: العاض. 4 عافي القدر: مستعيرها. 5 ذو الفروة: السائل، المقرور: الذي اشتد به البرد. 6 بشيرها: ضوؤها. 7 الشول: الإبل العظيمة التي لا تحلب، راحت: رجعت، يقول إذا رجعت الإبل من مراعيها عقرها لأهل الحي والضيفان. 8 انظر في أجواد الجاهلية كتاب "المحبر" لابن حبيب "طبع حيدر آباد" ص137. 9 الحيوان 1/ 383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فإني جبانُ الكلب بيتي موطَّأ ... جواد إذا ما النفس شح ضميرها وكانوا لا يقدرون شيئًا كما يقدرون الوفاء؛ فإذا وعد أحدهم وعدًا؛ أوفى به وأوفت معه قبيلته بما وعد، ومن ثم أشادوا بحماية الجار لأنه استجار بهم وأعطوه عهدًا أن ينصروه. وجعلهم ذلك يعظمون الأحلاف فلا ينقضونها مهما قاسوا بسببها من حروب. وبلغ من اعتدادهم بهذه الخصلة أن كانوا يرفعون لمن يغدر منهم لواء في مجامعهم وأسواقهم، حتى يلحقوا به عار الأبد. يقول الحادرة لصاحبته سمية 1: أسُمي ويحك هل سمعتِ بغَدْرَة ... رُفِع اللواء لنا بها في مجمعِ وليس هناك خلة تؤكد معنى العزة والكرامة إلا تمدحوا بها؛ فهم يتمدحون بإغاثة الملهوف وحماية الضعيف والعفو عند المقدرة، كما يتمدحون بالأنفة وإباء الضيم، وكيف يقبلون الضيم، وهم أهل حرب وجلاد، يقول المتلمس2: إنَّ الهوانَ حمارُ الأهل يعرفه ... والحرُّ ينكره والرَّسْلَةُ الأُجُدُ3 ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الأهل والوتد4 هذا على الخسف معقول برمته ... وذا يشج فلا يبكى له أحدُ فهم لا ينكرون شيئًا مثل إنكارهم للهوان والضيم؛ فهما السوأة الكبرى والمثلبة العظمى؛ إذ يعنيان الذل وأن القبيلة استبيحت فلم تعد تستطيع الدفاع عن كرامتها. وكل شيء إلا الهوان، وكان أقل شعور به يثيرهم، على نحو ما مر بنا من ثورة عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند حين علم بإهانة أمه في بلاطه، وكان نازلًا معها عنده؛ فاستل سيفه وقتله، وتغنى شعراء تغلب طويلًا بهذا الحادث مفاخرين بعزتهم. وكان للشجاعة والفروسية عندهم منزلة ليس فوقها منزلة، بحكم حروبهم الدائرة التي لا تني ولا تفتر وكان سادتهم يمثلون هذه الخصال جميعًا في أقوى صورها، مضيفين إليها   1 المفضليات ص45 2 حماسة البحتري ص20 3 الرَّسلة: الناقة الذلول، الأجد: الموثقة الخلق. 4 العير: الحمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 حنكة وحكمة بالغة، وقد اشتهر من بينهم حُكَّام تجاوزت ألمعيتهم حدود قبائلهم1، مثل عامر بن الظَّرب وأكثم بن صييفي، وكانت تفزع إليه القبائل في خلافاتها الكبيرة التي يصعب حلها في دائرة قبائلهم وشيوخهم، وقد يفزعون فيها إلى الكهنة والعرَّافين. على أن هناك آفات كانت تشيع في هذا المجتمع الجاهلي لعل أهمها الخمر واستباحة النساء والقمار، ونحن نجد الخمر تجري على كل لسان، وقد اشتهر بالحديث عنها وعن كئوسها ودنانها وحوانيتها ومجالسها أعشى قيس وعدي بن زيد العبادي الحيري، وعرض لها كثيرون في أشعارهم مفاخرين بأنهم يحتسونها ويقدمونها لرفاقهم. وأكثر من كان يتجر بها اليهود والنصارى، وكانوا يجلبونها لهم من بُصرى وبلاد الشام ومن الحيرة وبلاد العراق، ويقال إنهم كانوا يضربون خيامهم في بعض الأحياء أو في بعض القرى ويضعون فوقها راية تعلن عنهم، فيأتيهم الشباب ليشربوا وليسمعوا بعض القيان ممن يصاحبهم. وكان من الشباب من يدمن عليها حتى تنفر منه قبيلته، وقد تخلعه لما يتدنى فيه من رذائل، على نحو ما يروى عن البَرَّاض بن قيس الكناني أحد أدلاء القوافل في الجاهلية؛ إذ كان سكيرًا فاسقًا؛ فخلعه قومه وتبرأوا منه2. ويقول طرفة في معلقته: وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي3 إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد4 ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي5 فمنهن سبق العادلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد6   1 انظر في حكام العرب كتاب "المحبر" ص 132 2 أغاني "طبعة الساسي" 19/ 75. 3 الطريف: المال الحديث، والمتلد: المال القديم. 4 تحامتني: تجنبتني، المعبد: الأجرب. 5 عود: جمع عائد أو عائدة، ويقصد من يعودونه عند الوفاة ويبكونه، والجد: الحظ والبخت. 6 الكميت: الخمر، يقول إنه يباكر شرب الخمر قبل انتباه العواذل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وكري إذا نادى المضافُ محنبًا ... كسيد الغضا نبهته المتورد1 وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمَّدِ2 وواضح أنه يجعل من خلال الفتى هذه الخصال الثلاث، وهي الخمر والفروسية أو الشجاعة في الحرب والتمتع بالنساء؛ على أن هذه الفتوة التي يصورها طرفة كانت تتسامى عند كثير من فرسانهم مثل عنترة؛ بل حتى من صعاليكهم مثل عروة بن الورد، وسنعرض لذلك في موضع آخر. ومهما يكن فقد كانت الخمر وما يتبعها من استباحة النساء شائعة في هذا العصر، وكان يشيع معها القمار أو الميسر، وكانت عادتهم فيه أن يذبحوا ناقة أو بعيرًا، ويقسموا ما يذبحونه عشرة أجزاء، ثم يأتوا بأحد عشر قدحًا، يجرون عليها قمارهم، وكانوا يجعلون لسبعة منها نصيبًا إن فازت، وعلى أصحابها غرم إن خابت، وأكبرها نصيبًا يسمى المعلى. أما الأربعة الباقون فلا حظَّ لها حتى إن فازت. وأكبر الدلالة على شيوع هذه الآفات بينهم الآيات الكثيرة التي هاجمتها في القرآن الكريم وما وضعه الإسلام لها من عقاب صارم حتى يكف العرب عنها، وقد شدد في عقوبة استباحة النساء، وأكثر من النهي عن الخمر والميسر من مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وقد وصف الخمر بأنها {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} . ونجد في الحديث النبوي نهيًا كثيرًا عنها وأن الله لعنها ولعن عاصرها ومعتصرها وشاربها3 وقد جعل لها   1المضاف: الخائف المذعور، والمحنب الفرس الذي في قوائمه أو ضلوعه انحناء قليل. والسيد: الذئب، والغضا: شجر، نبهته: هيجته، المتورد: الجريء. يقول: إذا استغاث به خائف عطف فرسًا يسرع في عدوه إسراع ذئب الغضا الجريء حين تهيجه. 2 الدجن: الغيم، البهكنة: المرأة الجميلة المعمد: المرفوع بالعماد. 3 انظر كتاب الأشربة في سنن أبي داود، وابن ماجة والنسائي، والبخاري. وراجع دائرة المعارف الإسلامية في مادة خمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الرسول صلى الله عليه وسلم حدًّا: أربعين جلدة، ولما وجد عمر أن بعض العرب لا يزال يتورط في شربها رفع حدها إلى ثمانين. وهذا كله يشهد شهادة قاطعة بانتشار هذه الآفات بين عرب الجاهلية، وفي أخبار الأعشى أنه لما سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم رغب في الوفود عليه بالمدينة ومديحه، وعلمت قريش فتعرضت له تمنعه، وكان مما قاله له أبو سفيان إنه "ينهاك عن خلال كلها بك رافق ولك موافق"؛ فلما سأله عنها أجابه: الزنا والقمار والخمر؛ فعدل الأعشى عن وجهته1. وعلى نحو ما هاجم الإسلام هذه الآفات هاجم قانونهم الدموي المقدس: قانون الأخذ بالثأر، فهدمه هدمًا وأبطله إبطالًا؛ إذ جعل حقه للدولة لا للأفراد، وأقام لهم نظامًا سماويًّا رفيعًا لمجتمعهم ليس هنا محل بحثه. وحتى الآن لم نتحدث عن المرأة ومكانتها في هذا المجتمع، وقد كان هناك نوعان من النساء: إماء وحُراث، وكانت الإماء كثيرات، وكان منهن عاهرات يتخذن الأخدان، وقينات يضربن على المزهر وغيره في حوانيت الخمارين، كما كان منهن جوار يخدمن الشريفات، وقد يرعين الإبل والأغنام. وكن في منزلة دانية، وكان العرب إذا استولدوهن لم ينسبوا إلى أنفسهم أولادهن؛ إلا إذا أظهروا بطولة تشرفهم على نحو ما هو معروف عن عنترة بن شداد؛ فإن أباه لم يلحقه بنسبه إلا بعد أن أظهر شجاعة فائقة ردت إليه اعتباره. وكانت الحرة تقوم بطهي الطعام ونسج الثياب وإصلاح الخباء؛ إلا إذا كانت من الشريفات المخدومات، فإنه كان يقوم لها على هذه الأعمال بعض الجواري، وتدل دلائل كثيرة على أن بنات الأشراف والسادة كان لهن منزلة سامية؛ فكن يخترن أزواجهن، ويتركنهم إذا لم يحسنوا معاملتهن2 وبلغ من منزلة بعض شريفاتهن أنهن كن يحمين من يستجير بهن ويرددن إليه حريته إذا استشفع بهن، على نحو ما ردت فكيهة إلى السليك بن السلكة حريته حين وقع أسيرًا في يد عشيرتها من بني عوار3. وكانوا يعدونها جزء لا يتجزأ من عرضهم، ولم يكن شيء   1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 9/ 126. 2 انظر الأغاني 10/ 13 وما بعدها والأمالي 2/ 106 والمحبر ص 398. 3 الأغاني "طبعة الساسي" 18/ 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 يثيرهم كسَبْي نسائهم وهم بعيد عن الحي؛ فكانوا يركبون وراءهن كل وعر حتى يلحقوا بهن وينقذوهن ويغسلوا عار سبيهن عنهم، وهو عار عندهم ليس فوقه عار. وكانوا يصحبونهن معهم في الحرب، وكن يشددن من عزائمهم بما ينشدن من أناشيد حماسية؛ حتى إذا قتل فارس ندبنه ندبًا حارًّا حاضات على الأخذ بثأره والانتقام من قتلته. وتلمع في هذا الجانب أسماء كثيرات على رأسهن الخنساء ومراثيها في أخويها صخر ومعاوية مشهورة. وكن يستشطن غضبًا إذا رضيت العشيرة بأخذ الدية. حقنًا للدماء. على نحو ما تصور ذلك كبشة أخت عمرو بن معد يكرب، وقد قتل أخ لها1 فإن أنتم لم تثأروا واتَّدَيْتُمُ ... فمشوا بآذان النعام المصلم2 فهي ترى أن عشيرتها إن قبلت الدية في أخيها أعطت عن يد وهي صاغرة صغار الأسرى الذين تجدع آذانهم، بل صغار النعام المصلم المقطوعة آذانه، وتقول أم عمرو بنت وقدان في أخ لها قتل وقد فكرت عشيرتها في قبول ديته3: إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فذروا السلاح ووحشوا بالأبرق. وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا ... نُقب النساء فبئس رهط المرهق4. فهم إن لم يثأروا لأخيها حق عليهم أن يلقوا السلاح ويمضوا على وجوههم إلى مكان بعيد بالأبرق، فيتزيوا بزي النساء، ويتعطروا ويتزينوا بزينتهن. وكانوا يفرون من الحرب حين لا يكون من الفرار بد؛ إلا أن تكون معهم النساء ويرونهن فارات وقد حسرن عن وجوههن، حينئذ يثبتون في المعركة ويناضلون حتى الذماء الأخير5. وكان جمالهن يثيرهم، وينطق ألسنتهم بوصفه ووصف ما كن يتزين به من   1 المرزوقي 1/ 218 وقارن بالأصمعيات ص 157. 2 اتَّديتم: أخذتم الدية. وآذان النعام مصلمة خلقة. 3 المرزوقي 3/ 1546. 4 المجاسد: جمع مجسد وهو الثوب المشبع صبغة والنُقب: جمع نُقبة، وهي إزار للمرأة. 5 المرزوقي 1/ 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 طيب وحلي وثياب على نحو ما تصور ذلك معلقة امرئ القيس إذ يقول: وتُضحي فتيتُ المسك فوق فراشها ... نَؤومُ الضحى لم تَنْتَطِقْ عن تفضلِ ويقول المنخل اليشكري في فتاته1: الكاعب الحسناء تر ... افُلُ في الدمقس وفي الحرير ولم يقفوا عند جمالها الجسدي؛ فقد فطنوا إلى جمالها المعنوي وما تتحلى به من شيم وخصال كريمة، على نحو ما يقول الشنفرى في زوجه أميمة2: لقد أعجبتني لا سقوطًا قِناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفت تبيت بُعيد النوم تهدي غبوقها ... لجاراتها إذا الهدية قلت3 تحل بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالمذمة حلت كأن لها في الأرض نسيًا تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت4 أميمة لا يخزي نثاها حليلها ... إذا ذكر النسوان عفت وجلت5 إذا هو أمسى آب قرة عينه ... مآب السعيد لم يسل أين ظلت6. فصاحبته وقور خجول، لا يسقط قناعها في أثناء سيرها ولا تلتفت حولها، وهي كريمة مؤثرة تؤثر جارتها في الجدب بغبوق اللبن، وقد حصنت بيتها عن كل لوم أو ذم يلحقها، وهي شديدة الحياء، ومن أجل ذلك لا ترفع رأسها عن الأرض في مسيرها؛ حتى ليظن من يبصرها أنها تبحث عن شيء ضاع منها. وإذا اعترضها شخص وكلمها أوجزت ومضت لقصدها وغرضها. وإن الحديث العطر عنها في العشيرة ليملأ زوجها زهوًا وخيلاء؛ إنها مثال العفة والجلال. وإنه ليرفعها عن كل شك وتهمة؛ فإذا أمسى وعاد إليها من المرعى أو بعد رحلته.   1 الأصمعيات ص55 2 المفضليات رقم 2 3 الغبوق: اللبن الذي يشرب في العشي. 4 النسي: الشيء المنسي أو المفقود. تقصه: تتعقب أثره. أمها بفتح الهمزة قصدها. تبلت: أوجزت. 5 النثا: الحديث عن الشخص. الخليل: الزوج 6 آب: رجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الطويلة عاد قرير العين بها سعيدًا، فلا يسألها أين كانت؛ لأنها موضع ثقته وتدور في كتب الأدب قصص وأشعار كثيرة تصور هيام بعضهم بهن، وكانوا دائمًا يفتتحون قصائدهم بذكرهن وما كان لهم من ذكريات معهن في بعض المعاهد والمنازل، ويمزجون ذلك بالدموع، على نحو ما يقول امرؤ القيس في مطلع معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوي بين الدخول فحومل فالمرأة لم تكن في الجاهلية مهملة؛ بل كان لها قدرها عندهم، كما كان لها كثير من الحرية؛ فكانت تمتلك المال وتتصرف فيه كما تشاء، وقصة اتجار الرسول صلى الله عليه وسلم في أموال السيدة خديجة أم المؤمنين مشهورة. وقد دعم الإسلام هذه الحرية، فحرم أن تعضل المرأة وتمنع من الزواج بعد وفاة زوجها كما حرم زواج المقت، وهو أن يجمع الرجل بين أختين، وحرم الشغار، وهو أن يتزوج شخص أخت صديق له على أن يزوجه أخته، وأيضًا فإنه حرم أن يتزوج الابن امرأة أبيه بعد موته أو أن يتزوج عدة رجال امرأة واحدة؛ إلى غير ذلك مما كان يبيحونه. وتلك كانت عادات عندهم، وهي تلازم الأمم في عصور بداوتها؛ ولكن ينبغي أن لا نفهم منها أن المرأة كانت مهدرة الحقوق في الجاهلية، أما ما سجله عليهم القرآن الكريم من وأدهم للبنات في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} فأكبر الظن أن من كانوا يصنعون ذلك منهم أجلاف قساة القلوب كانوا يخشون عليهن من الفقر أو السبي؛ إذ كان سباؤهن كثيرًا في الجاهلية، وكانوا يعدون ذلك سبة ما بعدها سبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 2- المعيشة لم يكن العرب يعيشون في الجاهلية معيشة واحدة؛ فقد عرفت الزراعة في الجنوب والشرق وواحات الحجاز مثل يثرب وخيبر والطائف ووادي القُرى. وعاش أهل مكة على التجارة؛ إذ كانوا يحملون عروضها وسلعها بين حوضي المحيط الهندي والبحر الأبيض. وكانت قوافلهم تجوب الصحراء شمالًا وجنوبًا في طرق معلومة، كما كانت تجوبها شرقًا في طريقين معروفين: طريق إلى الخليج الفارسي من شرقي مكة وكان يمر بمدينة الرياض الحالية، وطريق ثان كانوا يذهبون فيه شمالًا إلى خيبر، ثم يخترقون الصحراء في وادي الرمة، ويظن أنه كان مجرى نهر في عصور ما قبل التاريخ، ومنه يهبطون إلى الحيرة. وكان يصحبهم في هذه القوافل أدلاء يحمونهم الضلال في مجال الصحراء 1، ومن أشهرهم فرات بن حيان، كما كان يصحبهم خفراء يحمون قوافلهم من ذؤبان البادية وقراصنتها أو صعاليكها الذين تعودوا النهب والسلب2، وقد يبلغون ثلاثمائة عدا، ومن أهم القبائل التي كانوا يخشون ذؤبانها قبيلتا هذيل وفهم. وكانوا ينقلون من الجنوب: من اليمن وحوض المحيط الهندي وإفريقية والصمغ والعاج، كما كانوا ينقلون من الطائف الزبيب ومن مناجم بني سليم الذهب؛ كل ذلك كانوا ينقلونه إلى حوض البحر الأبيض ويعودون محملين بالأسلحة والقمح والزيوت والخمر والثياب القطنية والكتانية والحريرية3. فمكة في الجاهلية كانت مدينة تجارية عظيمة، وكان بها الكعبة أكبر معابد العرب حينئذ؛ فكانوا يحجون إلى أصنامهم وأوثانهم فيها، وتقيم لهم قريش الأعياد والأسواق كسوق عكاظ4، وكانت أكبر أسواقهم، وكانوا يقيمونها في نجد.   1 المغازي للواقدي "طبع كلكتا" ص 36، 196، والمحبر ص 189. 2 المحبر ص264. 3 انظر مكة في دائرة المعارف الإسلامية. 4 راجع في تحقيق عكاظ رسالة بعنوان موقع عكاظ لعبد الوهاب عزام "طبع دار المعارف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بالقرب من عرفات منذ منتصف ذي القعدة إلى نهايته، ولم تكن سوق تجارة فحسب؛ بل كانت سوقًا للخطابة والشعر أيضًا، وقد استمع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قُسّ بن ساعدة وهو يخطب في الناس. وقالوا: إنه كانت تقام للنابغة فيها قبة، ويفد عليها الشعراء يعرضون شعرهم؛ فمن أشاد به طار اسمه. وكثيرًا ما كانوا يفتدون الأسرى فيها وتدفع الديات، وأيضًا كثيرًا ما كانت تقوم المفاخرات والمنافرات. وعُرف غير واحد بأن الناس كانوا يحتكمون إليه فيها، ويذكر في هذا الصدد أناس من تميم مثل الأقرع بن حابس. ومعنى ذلك كله أن عكاظًا كانت أشبه بمؤتمر كبير للعرب، فيه يجتمعون وينظرون في خصوماتهم ومنازعاتهم، وكل ما يتصل بهم من شئون. ومن أسواق قريش أيضًا ذو المجاز بالقرب من عكاظ، وكانت تظل هذه السوق منعقدة إلى نهاية الحج. وبجانب هاتين السوقين الكبيرتين كان للعرب أسواق أخرى كثيرة يمترون فيها ما يريدون ويشترون ويبيعون، ومن أهمها سوق دومة الجندل في شمالي نجد وسوق خيبر وسوق الحيرة وسوق الحجر باليمامة، وسوق صحار ودبَا بعمان، وسوق المشقر بهجر وسوق الشحر، وسوق حضرموت، وسوق صنعاء وعدن ونجران. وكان لكل سوق من هذه الأسواق وقت معلوم تعقد فيه1 ولم يكن عرب نجد يفيدون من هذه الأسواق فقط البيع والشراء؛ فإن قوافل عروضها القرشية وغيرها كانت تجعل لكثيرين منهم جُعلًا نظير حمايتها، وكانت تتخذ منهم الخفراء والأدلاء، فتنفحهم بأموالها. على أنه ينبغي أن لا نظن أن أهل مكة جميعًا كانوا أثرياء؛ فقد كان بجانب الأثرياء فقراء وصعاليك كثيرون، وكان الفرق شاسعًا بين ثراء السيد الشريف وفقر المعوز البائس، كما كان بها رقيق كثير. ووراء المجتمع المكي كان يعيش البدو في تهامة ونجد وصحراء النفود وبوادي الشام والدهناء والبحرين معيشة بدوية تعتمد على رعي الأغنام والأنعام، وكانوا لا يفضلون شيئًا على حياتهم الرعوية البدوية، لا يفضلون الزراعة ولا الصناعة؛ بل يحتقرونهما ويزدرونهما، فلا حياة مثل حياتهم حياة البساطة والحرية التي   1 انظر في أسواق الجاهلية كتاب المحبر ص 263. واليعقوبي 1/ 313 وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 4/ 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 لا تُحدّ. ووقفت الصحراء تحميهم وتحرس تقاليدهم ولغتهم وتقيم أسورًا من دونهم ودون هذه الحياة الصحراوية، وهي حياة كان غذاؤهم فيها بسيطًا، فقليل من الشعير يكفيهم، وإذا أضيف التمر واللبن؛ فذلك غذاء رافه، وكان لباسهم بسيطًا كغذائهم، وهو ليس أكثر من ثوب طويل يضمه في وسطه منطقة، وقد تلفه عباءة، وغطاء للرأس يمسكه عقال. ولكن لا تظن أن هذه الحياة البسيطة كانت سهلة، فقد كانت الصحراء مليئة بالمخاوف والمخاطر؛ إذ فيها غير قليل من الوحوش والسباع والحشرات والحيات، وفيها القفار الجرداء الزاخرة بالخنادق والمهاوي ورياح السموم، وفيها حنادس الليل المظلم المخيف التي كانت تلقي في روعهم بالخيالات والأوهام وما تمثل لهم من السعالي والجن واليغلان. وفي تضاعيف ذلك كان العرب يتربص بعضهم ببعض؛ إذ كانت حياتهم كما قدمنا حياة حربية دامية، وكاد أن لا يكون هناك حي أو عشيرة بل أسرة إلا وهي واترة موتورة. وقد تحولت هذه الحياة الحربية من بعض وجوهها إلى مصدر من مصادر رزقهم؛ إذا كانوا يتخذون الغزو وسيلة من وسائل عيشهم، وهو عيش مشوب بالضنك والشظف وهذا الصراع العنيف الذي كانوا يخوضونه ضد مخاطر الصحراء ومن يترصدهم من الأعداء، وصوَّر ذلك تصويرًا طريفًا تأبط شرًّا في كلمة له1 فقال: يظل بموماة ويُمسي بغيرها ... جحيشًا ويعروري ظهور المهالك2 ويسبق وفد الريح من حيث نتحي ... بمنخرق من شدة المتدارك3 إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئ من قلب شيحان فاتك4 ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخضر باتك5   1 المزروقي 1/ 95 وأمالي القالي 2/ 138 وزهر الآداب 2/ 18. 2 يظل هنا: يغدو، الموماة: الفلاة، جحيشًا: منفردًا، يعروري: يركب 3 وفد الريح: أولها، ينتحي: يقصد. منخرق: سريع يقصد العدو السريع الشد: العدو، المتدارك: المتلاحق. 4 خاط عينيه كرى النوم: نام، الكالئ، الرقيب، الشيحان: الجاد في الأمر. 5 الربيئة: الرقيب والديدبان، والسلة: الواحدة من سل السيف، والأخضر: السيف، والباتك: القاطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 إذا هزَّه في عَظْمِ قِرْن تهللت ... نَواجِذُ أفواه المنايا الضواحِكِ1 يرى الوحشةََ الأُنس الأَنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك2 وتلك كانت حياة أكثرهم؛ فهم يقطعون مفازة في النهار، فإذا جَنَّهم الليل وجدتهم في مفازة أخرى وقد ركبوا ظهور المهالك والمعاطب؛ لا يستصحبون رفيقًا غالبًا سوى أرجلهم التي تعودت العدو السريع. وهم دائمًا مفزعون حتى في النوم؛ فإذا ناموا لم ينم قلبهم بل ظل يكلؤهم ويرعاهم خيفة عدو راصد من وحش أو إنسان؛ بل إن النوم لا يكاد يلم بعيونهم إلا غرارًا، فهي معلقة بسيوفهم التي لا تلبث أن تستقر في صدور من يهجمون عليهم، فيضحك الموت، ويكشر عن أنيابه الغلاظ. وعلى هذه الشاكلة هم دائمًا مستوحشون؛ بل إنهم ليؤثرون الوحشة ويستحبونها إذ يرون فيها الأُنس، فأنسهم في التفرد بالفلوات والقفار التي تمرسوا بها وعرفوا مسالكها ودروبها معرفة تجعلهم لا يضلون قصدهم كما لا تضل الشمس قصدها؛ بل يهتدون دائمًا إليه. وهذه الحياة القاسية المخوفة هي التي دفعتهم إلى الإشادة باحتمال الشدائد والجرأة والشجاعة، فإن القبيلة إن لم يكن لها حماة يذودون عنها تخطفتها القبائل من حولها وفنيت فيها. وكان أهم حيوان أعانهم على احتمال هذه الحياة المجهدة البعير الذي يتحمل -مثلهم- مشاق الصحراء ولا يرهقه عطش ولا جوع ولا ما يحمله من أثقال؛ فهو رفيقهم المفضل الذي يوافقهم؛ ولذلك طالما أشادوا به في شعرهم وكثيرًا ما يصفون معه الحيوانات التي تصادفهم، ولذلك طالما أشادوا به في شعرهم وكثيرًا ما يصفون معه الحيوانات التي تصادفهم من مثل أُتن الوحش وحمارها وبقر الوحش وثورها والنعام والظباء. وكان فرسانهم ينفقون أيامهم على صهوات الجياد يرتادون بها مجاهل الصحراء ويلقون عليها الأعداء، وقد يتخذونها لصيد الوحش على نحو ما يصور لنا ذلك امرؤ القيس في معلقته وزهير في لاميته3 وكان صيد الحيوان الشغل الشاغل لكثيرين منهم؛ فكانوا يدربون الكلاب عليه ويضرُّونها تضرية، حتى تصبح من الجوارح الفاتكة، وفي شعرهم قطع كثيرة تصف المعارك التي كانت تنشب بينها وبين الأتن وحمارها أو البقر وثورها.   1 القرن: الكفء والنظير، تهللت: تلألأت وأشرقت 2 أم النجوم: الشمس 3 انظر ديوان زهير ص124 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وفي معلقة لبيد وصف بارع لأتن وحمارها، ثم لبقرة وحشية تعقبها الرماة بنبلهم، ولما يئسوا أن يصيبوا منها مقتلًا أرسلوا في إثرها جوارح الكلاب فنشبت معركة حامية قتلت فيها البقرة كلبتين هما كساب وسخام، يقول: حتي إذا يئس الرماة وأرسلوا ... غُضْفًا دواجنَ قافلًا أعصامها1 فلحقن واعتكرت لها مدرية ... كالسمهرية حدها وتمامها2 لتذودهن وأيقنت إن لم تذد ... أن قد أحم مع الحتوف حمامها3 فتقصدت منها كساب فضرجت ... بدم وغودر في المكر سخامها4 ولأوس بن حجر قصيدة فائية5 وصف فيها حمار الوحش وصفًا بديعًا، ثم وصف الصائد وصفًا مسهبًا، أرانا فيه ناموسه وكيف كان يختبئ للوحش على عين؛ حتى إذا ورد الحمار ختله بسهمه؛ غير أنه أخطأه. ويظهر أن صيد الوحش لم يكن هم شجعانهم وفرسانهم؛ إنما كان هم فقرائهم ومعوزيهم، ولذلك كان يأتي في المرتبة الثانية من غزوهم ونهبهم اللذين يدلان على بطولتهم واستبسالهم، ولعل ذلك ما جعل عمرو بن معد يكرب يهجو قومًا بأنهم يعيشون على الصيد، إذ يقول6: أبني زياد أنتم في قومكم ... ذنب ونحن فروع أصل طيب نَصِلُ الخميس إلى الخميس وأنتم ... بالقهر بين مربق ومكلب7 حيد عن المعروف سعى أبيهم ... طلب الوعول بوفضة وبأكلب8 وكما كانوا يصيدون الوعول أو الماعز الجبلي كانوا يصيدون الوحش، ويتردد وصفهم له في أشعارهم ترددًا واسعًا، وهو تردد أتاح للجاحظ في حيوانه سيولًا من هذه الأشعار.   1 الغضف: الكلاب المسترخية الآذان، الدواجن: الضاريات وقيل المعلمات وقافلًا: يابسًا، والأعصام: قلائد من أدم تجعل في أعناق الكلاب 2 اعتكرت: رجعت وعطفت، والمدرية القرون الحادة، والسمهرية: الرماح. 3 الحمام: الموت، وأحم: حان. 4 تقصدت: قتلت من قولهم رماه فأقصده. 5 انظر ديوانه بتحقيق محمد يوسف نجم "طبع دار صادر ببيروت" رقم 30 6 حيوان 2/ 309. 7 الخميس: الجيش. المربق: الصائد بالربقة وهي العروة في الحبل، والمكلب: الصائد بالكلاب. 8 الوفضة: جعبة للسهام من أدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وتلك كانت معيشتهم بين صيد للوحش وصيد للإنسان ورعي للأنعام والأغنام؛ فتلك موارد رزقهم، وليس معنى ذلك أنهم كانوا متساوين في هذا الرزق؛ فقد كان في كل قبيلة السادة الذين يملكون مئات الإبل والفقراء الذين لا يملكون شيئًا. وتحول كثير من هؤلاء الفقراء إلى قطاع للطرق يسلبون وينهبون ويقتلون على نحو ما هو معروف عن تأبط شرًّا والشنفرى وأضرابهما. وما كان يقوم به هؤلاء الذؤبان أو الصعاليك كانت تقوم به القبائل برمتها أحيانًا حين تكفّ السماء عنهم غيثها وتجدب ديارهم وتُمحل؛ فلا يكون أمامهم سوى الغزو وشن الغارات، ولعل ذلك هو الذي دفعهم دفعًا إلى الإشادة بالكرم والكرماء، وقد أشادوا طويلًا بهذه الفضيلة كما أسلفنا، وهي إشادة طبيعية في هذه الصحراء المقفرة المهلكة، التي يحفُّ بها المحل والجدب من كل جانب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 3- المعارف ليس بين أيدينا ما يدل على أن العرب الجنوبيين أورثوا عرب الشمال حضارة واضحة، ويظهر أنهم لم يخطوا في طريق الحضارة خطى واسعة؛ فقد كان عندهم علم بالزراعة وهندسة إرواء الأرض وإقامة المدن، ولم يكن عندهم ثقافة ذات معالم بينة، وحتى من وجهة التنظيم السياسي كان يعمهم النظام الإقطاعي؛ ولذلك حينما ضعفت دولتهم الأخيرة دولة سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات أو الدولة الحميرية تحولوا سريعًا إلى قبائل بدوية. ومما لا ريب فيه أن العرب الشماليين كانوا على صلة بالحضارات المجاورة؛ فقد كان تجّار مكة يدخلون في مصر والشام وبلاد فارس، وكان الحيريون يتصلون مباشرة بالفرس، كما كان الغساسنة يتصلون بالروم. وقد تنصروا وشاعت النصرانية في قبائل الشام والعراق، ونزل بينهم كثير من اليهود في الحجاز واليمن. وكل ذلك معناه اتصال العرب الشماليين بالأمم المجاورة وحضاراتها؛ ولكن يبدو أن ذلك كان يجري في حدود ضيقة وأنه وقف في جمهوره عند تأثرات بسيطة كأن يأخذوا عن الفرس والروم بعض فنون الحرب أو يعرفوا بعض أخبارهم وأساطيرهم، ففي السيرة النبوية أن قريشًا حين جمعت العرب -بعد موقعة أحد- لغزو المدينة أشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 سلمان الفارسي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يحفر الخندق، حتى لا يستطيعوا اقتحام المدينة عليه، وكأنه كان أعلم مَنْ حوله بأساليب الحرب1 وفي السيرة أيضًا أن النضر بن الحارث كان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رُسْتم وإسْفنْديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو لا يزال في مكة- مجلسًا فذكر فيه الله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه؛ فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن ملوك فارس وأبطالهم الأسطوريين2. فالعرب الشماليون لم يكونوا منقطعين عن التأثيرات الحضارية الأجنبية؛ غير أنه ينبغي أن لا نبالغ في تصور ما وصل إليهم من هذه التأثيرات؛ فقد كانوا لا يزالون في طور السذاجة البدوية، وكل ما يمكن أن يقال أنهم كانوا في نهاية هذا الطور. وقد وقف من قديم قوم يقارنون بينهم وبين الشعوب المتحضرة من حولهم كالفرس والروم، وكان على رأسهم الشعوبية، وهي مقارنات تقوم على التحكم؛ لأنها تقارن بين بدو ومتحضرين، وقد مر الفرس والروم بطور بداوة كما مر العرب. ولم يكن لهم فيه حضارة ولا نظر علمي دقيق. ومثل هذه المقارنات ما بعثه الغربيون منذ القرن الماضي من الموازنة بين الساميين جميعًا عربًا وغير عرب وبين الآريين، على نحو ما هو معروف عن رينان3؛ فقد ذهبوا يزعمون أن الآريين هم الجنس المفضل الذي أحدث الحضارة، وكأنهم يريدون أن يبرروا صنيع ساستهم واستعمارهم للشعوب السامية. وهي نظرية لا تؤيدها الحقائق العلمية الخالصة؛ إذ لا يستطيع أحد أن يثبت نقاء سلالة جنسية بعينها، لها نسب صريح، وأيضًا فإن هذه النظرية تتناسى أثر البيئة والظروف التي تلم بالشعوب، ومن المحقق أن الحضارة الإنسانية ليس من عمل جنس واحد؛ فقد تعاونت على تكوينها أجناس متباينة، ولكل جنس فيها نسبه المتعادلة. ويدخل في هذه المقارنات المضللة ما نجده عند ابن خلدون من حكمه على العرب بأنهم ليسوا أصحاب صناعات ولا علوم4 لأن ذلك   1 السيرة النبوية "طبعة الحلبي" 3/ 235. 2 السيرة النبوية 1/ 321. 3 انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 1/ 168. 4 المقدمة "طبع المطبعة البهية" ص 252 وفي مواضع متفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 إنما ينطبق عليهم في الجاهلية، أما في الإسلام فقد عرفوا الصناعات ونهضوا في الميادين العلمية والفلسفية نهضة كانوا فيها أساتذة العالم في عصوره الوسيطة ويقول أوليري: إن العربي مادي، ضيق الخيال والعواطف1، وكأنه يتجاهل أدبهم وما يزخر به من أخيلة ومشاعر، وهو تعميم جنسي لا دليل عليه، وكأنما قادته إليه نظرية الأجناس البشرية وما يدعو إليه أصحابها من تفوق الجنس الآري على ما سواه من أجناس. وندع هذه المقارنات المضللة وما سقط منها من أحكام خاطئة إلى بيان ما كان لدى العرب في الجاهلية من معارف، لعل أهمها علمهم بالأنساب والأيام وما ينطوي في ذلك من المناقب والمثالب، مما سجله العباسيون في مجلدات ضخمة. وكأنهم رأوا في ذلك كله تاريخهم، فكانوا يروونه ويحفِّظونه أبناءهم، واشتهر عندهم كثيرون في هذا الباب من أبواب الرواية. ويلي هذا النوع من المعارف معرفتهم بالنجوم ومطالعها وأنوائها أو أمطارها، يقول الجاحظ: "وعرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء لأن من كان بالصحاصح الأماليس2 -حيث لا أمارة ولا هادي مع حاجته إلى بعد الشقة- مضطر إلى التماس ما ينجيه ويُؤديه3، ولحاجته إلى الغيث وفراره من الجدب وضنه بالحياة اضطرته الحاجة إلى تعرف شأن الغيث، ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من كوكب ويرى التعاقب بينها والنجوم الثوابت فيها وما يسير منها مجتمعًا وما يسير منها فاردًا4، وما يكون منها راجعًا ومستقيمًا. وسئلت أعرابية فقيل لها: أتعرفين النجوم؟ قالت: سبحان الله أما أعرف أشباحًا وقوفًا عليَّ كل ليلة. ووصف أعرابي لبعض أهل الحاضرة نجوم الأنواء ونجوم الاهتداء ونجوم ساعات الليل والسعود والنحوس. فقال قائل لشيخ عبادي كان حاضرًا: أما ترى هذا الأعرابي يعرف من النجوم ما لا نعرف؟ قال: من لا يعرف أجذاع5 بيته6؟! ".   1 فجر الإسلام لأحمد أمين "الطبعة الأولى" ص 39 نقلًا عن كتاب أو ليري: Arabia Before Muhammad. 2 الصحاصح: الأرض المستوية، الأماليس: التي ليس بها ماء ولا شجر. 3 يؤديه: يعينه. 4 فاردًا: منفردًا. 5 الأجذاع: سيقان النخل تجعل سقفًا للخيمة. 6 الحيوان 6/ 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وهي معرفة أداهم إليها فرط الحاجة، ويقول صاعد بن أحمد المتوفى سنة 435هـ: "كان للعرب معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغايبها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوا بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم1". وبهذا القياس نفسه كانت معارفهم الطبية؛ فقد عرفوا بالتجربة مثل الكي بالنار وفوائد بعض العقارات النباتية، وكان ينتشر بينهم في تضاعيف ذلك كثير من الخرافات كإيمانهم بأن دم السادة يشفي من الكلب، وأن عظام الميت تشفي من الجنون وأن روحًا شريرة تحل في المريض، وكانوا يتداوون منها بالعزائم والرُّقى. فطبهم كان قاصرًا ولم يكن مبنيًّا على قواعد عقلية، وحقا ما يقول ابن خلدون: "للبادية.. طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثة عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض؛ إلا أنه ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج، وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره2". ومن أهم معارفهم الطبية معارفهم البيطرية؛ وخاصة فيما اتصل بالخيل والإبل؛ فقد عرفوا شياتها وما يزينها ويعيبها وما يتصل بذلك من علل وأمراض وأدواء كالجرب وما كانوا يداوونه به. وقد تحدثوا طويلًا عن حيواناتهم وخصائصها حديثًا بل أحاديث أفاد منها الجاحظ في حيوانه، وهو يعلق على ذلك بقوله: "وإنما اعتمد على ما عند الأعرب، وإن كانوا لم يعرفوا شكل ما احتاج إليها منها من جهة العناية والفلاية3 ولا من جهة التذاكر والتكسب؛ ولكن هذه الأجناس الكثيرة ما كان منها سبعًا أو بهيمة أو مشترك الخلق؛ فإنما هي مبثوثة في بلاد الوحش من صحراء أو واد أو غائط أو غَيْضة أو رملة أو رأس جبل، وهي في منازلهم ومناشئهم، فقد نزلوا كما ترى بينها وأقاموا معها.. وربما بل كثيرًا ما يبتلون بالناب والمخلب وباللدغ واللسع والعض والأكل، فخرجت بهم الحاجة إلى تعرف حال الجاني والجارح والقاتل وحال المجني عليه والمجروح والمقتول، وكيف الطلب والهرب، وكيف الداء والدواء.   1 طبقات الأمم لصاعد "طبع بيروت" ص45. 2 المقدمة ص 346. 3 الفلاية: النظر العلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 لطول الحاجة ولطول وقوع البصر، مع ما يتوارثون من المعرفة بالداء والدواء1". وكانت لهم عناية خاصة بالفراسة، والقيافة وهي تتبع الأثر في الأرض والرمل، ولهم في ذلك أقاصيص طويلة، وطبيعي أن تنمو عندهم القيافة ليتعقبوا من يضل منهم في الصحراء، أو ليتعقبوا الأعداء الذين يغيرون عليهم وينهبون أموالهم ونساءهم في غيبتهم عن أحيائهم. وهذه الضروب جميعها من المعرفة ضروب أولية، تقوم على التجربة الناقصة ولا تؤسَّس على قاعدة ولا على نظرية، فهم في جمهورهم بدو، ليسوا أصحاب علم ولا نظر عقلي مؤسس على أسلوب علمي. ولعله من أجل ذلك شاعت عندهم العيافة وهي التنبؤ بملاحظة حركات الطيور، وقد اشتهر بها بنو أسد وبنو لهب، وكانوا يتيامنون بها ويتفاءلون إن جرت يمنة ويتشاءمون إن جرت يسرة، ولهم في الطِّيَرة أحاديث كثيرة، قال الجاحظ: "وأصل التطير من الطير إذا مرَّ بارحًا "ميامنًا" وسانحًا "مياسرًا" أو رآه يتفلى وينتف؛ حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم أو الأعضب أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيروا.. فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء.. وللطيرة سمت العرب المنهوش بالسليم والبرية بالمفازة وكنوا الأعمى أبا بصير والأسود أبا البيضاء وسموا الغراب بحاتم. والغراب أكثر من جميع ما يتطير به في باب الشؤم2" ولإيمانهم بباب الطيرة كانوا يستقسمون بالأزلام والقداح، وهي سهام، كانوا يكتبون عليها عبارات يصدرون عنها مثل الآمر والناهي والمتربص، وهي غير أزلام القمار وقداحه. وكل هذا يدل على أن التسبيب العقلي عندهم كان ضعيفًا، وأنهم كانوا لا يحسنون ربط المسببات بأسبابها ربطًَا محكمًا، وهذا طبيعي؛ فقد كانوا في طور البداوة، فلم يكونوا يفهمون الارتباط بين العلة والمعلول وكانوا لا يتعمقون في بحث الأشياء، إنما كانوا ينظرون إليها نظرًا عارضًا أو خاطفًا. يقفون عند الجزئيات، ولا يتعلقون بمدركات كلية أو نظرات شاملة فكل ذلك لا يطوف بالدائرة التي يحيونها دائرة الحياة الفطرية الساذجة. وحقًّا شاعت عندهم الحكمة، ولكن لا بمعناها   1 الحيوان 6/ 29. 2 الحيوان 3/ 438 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الذي عرفت به في العصور الإسلامية وهو الفلسفة؛ وإنما بمعنى الخبرة المحدودة التي تصورها عبارة من العبارات القصيرة. ومن أمثالهم "في بيته يؤتى الحكم" وهو من يحكم بين الناس في منافراتهم ومفاخراتهم وخصوماتهم. وربما اشتقت الكلمة من هذا المعنى، فالحكم هو العاقل المجرب الذي يحقق بحكمه العدل ويمنع الخصام. وكذلك كانت الحكمة؛ فهي تنبئ عن معرفة الشخص بالحياة، ووقوفه على طرقها المستقيمة التي تهدي إلى سبيل الرشاد. وكثرت الحكم والأمثال عندهم، وألفت فيها كتب ضخمة في العصر العباسي، من أشهرها كتاب "جمهرة الأمثال" للعسكري و" مجمع الأمثال" للميداني. واشتهر عندهم حكماء كثيرون كانوا يفصلون بينهم ويتناقلون ما يجري على ألسنتهم من وصايا وتعاليم يفيدون منها في حياتهم، يقول الجاحظ: "ومن القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء -الفطنة- لقمان بن عاد، ولقيم بن لقمان، ومجاشع بن دارم، وسليط بن كعب بن يربوع ... ولؤي بن غالب، وقس بن ساعدة وقصي بن كلاب. ومن الخطباء البلغاء والحكام والرؤساء أكثم من صيفي وربيعة بن حذار وهرم بن قُطْبة وعامر بن الظرب ولبيد بن ربيعة1". وللقمان سورة في القرآن الكريم، ويقال إنه كانت له حكم معروفة عند الجاهليين جمعوها في صحيفة تدعى مجلة لقمان؛ ففي أخبار سويد بن الصامت أنه "قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي؛ فقال له رسول الله: "وما الذي معك"؟ قال: مجلة لقمان، يعني حكمة لقمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعرضها علي"، فعرضها عليه، فقال: "إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل منه: قرآن أنزله الله علي، وهو هدى ونور"، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد، وقال إن هذا القول حسن، ثم انصرف، وقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فكان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه مات مسلمًا، وكان قتله يوم بُعاث2.".   1 البيان والتبيين: "طبعة عبد السلام هارون" 1، 365. 2 أسد الغابة: 2/ 378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وتمتلئ كتب الأمثال والأدب بما دار على لسان لقمان وغيره من حكماء الجاهلية من حكم، مثل قول أكثم: "مقتل الرجل بين فكيه" وقول عامر بن الظرب: "رب زارع لنفسه حاصد سواه". وفي الشعر الجاهلي كثير من هذه الحكم، وهي تذكر في ثنايا كلامهم من مثل قول طرفة في معلقته: أرى العَيْشَ كَنْزًا ناقصًا كل ليلةٍ ... وما تَنْقُصِ الأيام والدهر يَنْفَدِ وممن اشتهر بهذه الحكم الأفوه الأودي ولبيد وعبيد بن الأبرص، وفي خاتمة معلقة زهير طائفة كبيرة منها على شاكلة قوله: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرَّس بأنياب ويوطأ بمنسم1 ومن لا يَذُد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن هاب أسباب المنية يلقها ... ولو رام أسباب السماء بسُلَّم ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تُعلم وكان أكثر حكمهم يستقى من مروءتهم وسُننها التي وصفناها فيما مر من حديثنا، وهي تجري مجرى التعاليم التي ينبغي أن يأخذوا بها في حياتهم. وقد وقف شعراؤهم كثيرًا عند فكرة الحياة والموت والدهر وما يرمي به الناس، وكانوا يرون أنه لا مفر من الموت ولا حيلة منه، فلا ينفع إزاءه صحة ولا شباب ولا قوة، وكثيرًا ما يذكرون من سبقهم إليه متخذين من ذلك عظتهم، يقول قس بن ساعدة2: في الذاهبين الأولـ ... ـين من الشعوب لنا بصائر لما رأيت مواردًا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تسعى الأصاغر والأكابر لا يرجعن قومي إلـ ... ـي ولا من الباقين غابر   1 المصانعة: الترفق والمداراة، يضرس: يعض، المنسم: خف البعير. 2 حماسة البحتري ص 99 وانظر البيان والتبيين 1/ 309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أيقنتُ أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر وكثيرًا ما يتسعون بهذه النظرة، فيخرجون عن إفناء الزمان لعشائرهم وقبائلهم إلى إفنائه للدول والملوك من حولهم؛ فالليالي والدهر والأزمان في كل وقت تهدم جدارًا كبيرًا إما من ملك أو دولة، وحتى الأنبياء وسليمان الذي سُخِّرت له الجن تلفت نفوسهم جميعًا وهلكوا كما هلك من قبلهم، ويهلك من بعدهم1. ودائمًا يكررون أن الدهر بالمرصاد وأنه لا يؤمن في صباحه ومسائه. ولهم في عتابه على فجيعته لهم بالأهل محاورات طريفة، كقول زهير إن صح أنه له2: يا من لأقوام فجعت بهم ... كانوا ملوك العرب والعجم استاثر الدهر الغداةَ بهم ... والدهرُ يرميني ولا أرمي لو كان لي قِرنًا أناضلُهُ ... ما طاش عند حفيظة سهمي3 أو كان يعطي النصف قلت له ... أحرزت قسمك فاله عن قسمي4 يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم. وسلبتنا ما لستَ معقبنا ... يا دهر ما أنصفت في الحكم. وعلى هذه الشاكلة كان لهم ضرب من التفكير في حقائق الحياة والموت. كما كان لهم حكم كثيرة مقتبسة من حقائق مجتمعهم ومعاشهم. وليس في ذلك كل فلسفة؛ ولكن فيه البساطة والفطرة وما يدل على حنكتهم وتجربتهم الحسية الواقعية.   1 حماسة البحتري ص83 وانظر المفضليات ص217. 2 حماسة البحتري ص 105 وانظر الديوان "طبعة دار الكتب" ص 385. 3 الحفيظة: الغضب. 4 النصف: العدل. 5 السراة: السادة، وقرت: صدعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 4- الدين 1 كانت كثرة العرب في الجاهلية وثنية تؤمن بقوى إلهيه كثيرة تنبث في الكواكب ومظاهر الطبيعة، وفي أسماء قبائلهم ما يدل على أنهم كانوا قريبي عهد بالطوطمية "Totemism"؛ إذ تلتف جماعة حول الطوطم تتخذه حاميها والمدافع عنها من مثل كلب وثور وثعلبة. وقد آمنوا بقوى خفية كثيرة في بعض النباتات والجمادات والطير والحيوان، وليس بصحيح ما يزعمه رينان من أنهم كانوا موحدين2؛ فقد كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى كما جاء في القرآن الكريم، وكانوا يتعبدون لأصنام وأوثان كثيرة اتخذوها رمزًا لآلهتهم، ويفيض كتاب الأصنام لابن الكلبي في بيان هذا الجانب. ويظهر أن عبادة النجوم والكواكب دخلت عندهم من قديم وقد جاءتهم من الصابئة وبقايا الكلدانيين. كما جاءتهم من لدن عرب الجنوب الذين كانوا يرجعون بآلهتم إلى ثالوث مقدس، كما مر بنا، هو القمر أو وَدّ، والشمس أو اللات والزهرة أو العُزَّى. ونراهم يقدسون النار، ويظهر ذلك في إيقادهم لها عند أحلافهم واستمطارهم السماء وتقديم القرابين إليها3 ويقال إن المجوسية كانت متفشية في تميم وعمان والبحرين وبعض القبائل العربية4، والمجوس كما نعرف ثنوية يؤمنون بإلهين يديران العالم هما النور والظلمة أو الخير والشر. وكانت عبادة الأصنام منتشرة بينهم انتشارًا واسعًا، وقد صوروها أو نحتوها رمزًا لآلهتهم، وقد يرون في بعض الأحجار والأشجار والآبار ما يرمز إليها، ففي أخبارهم أن العزى كانت لغطفان، وهي شجرة بوادي نخلة شرقي مكة، وقد قطعها خالد بن الوليد، وهو يقول:   1 انظر في ديانات الجاهليين الجزءين الخامس والسادس من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي وكتاب روبرتسن سميث: lectures on the Religion of the semites. , وبقايا الوثنية العربية لولهوزن: Reste Arabis chen Heidentums, والأساطير العربية قبل الإسلام لمحمد عبد المعيد خان وتاريخ العرب القديم ترجمة فؤاد حسنين علي. 2 راجع جواد علي 5/ 20 وما بعدها و5/ 53 وما بعدها حيث يذكر رأي رينان وآراء غيره من المستشرقين. 3 انظر الحيوان 4/ 461 وما بعدها. 4 جواد علي 6/ 284 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 يا عُزّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك1 ويشير القرآن الكريم إلى بعض آلهتهم ورموزها من أصنامهم وأوثانهم، فيقول جل وعز: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} . وكانت عبادة اللات أو الشمس شائعة بين العرب الجنوبيين وفي الحجاز، وكان معبدها في الطائف، ويقال: إنه كان صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتًا وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه2. ويتردد في أسمائهم وهب اللات وعبد شمس، وعبد العزى ومثلها مثل اللات في تعظيم قريش والعرب لها وتقديسها. وكانت مناة صخرة منصوبة على ساحل البحر بين المدينة ومكة، وربما كان في اسمها ما يدل على أنها ترمز إلى إله الموت، فهي إلهة القضاء والقدر، وكانت معظمة عند هُذَيْل وخزاعة والعرب جميعًا وخاصة الأوس والخزرج إذ " كانوا يحجون إلى مكة، ويقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رءوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة وحلقوا رءوسهم عندها، لا يرون لحجهم تمامًا إلا بذلك3". ووَدّ كما قدمنا من الآلهة الجنوبية. وهو يؤلف مع اللات والعزى ثالوث الأب والأم والابن، وكان صنمه بدومة الجندل، وظل منصوبًا هناك إلى أن جاء الله بالإسلام4. وكان سُواع صنم هذيل وكنانة، وهو حجر كانوا يعبدونه هم وعشائر كثيرة من مضر5. وربما كان في اسمه ما يدل على أنه إله الشر والهلاك، ويغوث هو صنم مذحج وعشائر من مراد وهوازن6. وكان يعوق صنم همدان وخولان وما والاهما من قبائل7. وفي اسمه واسم يغوث ما يشير إلى أرواح حافظة، فمعنى يغوث يعين، ومعنى يعوق يحفظ   1 الأصنام لابن الكلبي ص 17 وما بعدها ومادة العزي في معجم البلدان. 2 الأصنام ص 16 والمحبر لابن حبيب ص 315 ومعجم البلدان في اللات. 3 الأصنام ص 14 وأخبار مكة للأزرقي "طبعة المطبعة الماجدية" 1/ 73. ومعجم البلدان في مناة والمحبر ص 316. 4 الأصنام ص 55 وما بعدها والمحبر ص316 ومعجم البلدان في "ود". 5 الأصنام ص 57 ومجمع البيان في تفسير القرآن للطبري 10/ 364 ومادة رهاط حيث أقاموه في معجم ما استعجم للبكري ومعجم البلدان لياقوت. 6 الأصنام ص 10، 57 والمحبر ص 317 والطبري 10/ 364 ومعجم البلدان في يغوث. 7 الأصنام ص 10، 57 والطبري 10/ 364 ويعوق في معجم البلدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ويمنع. وكان نسر معبود حمير1، وانتشرت عبادته في الشمال، ويشير اسمه في وضوح إلى الطائر المعروف باسمه، وفي الطبري: "كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر من الطير2". ووراء هذه الأصنام التي ذكرها القرآن الكريم أصنام كثيرة كانت تتعبد لها قريش والقبائل العربية في الجاهلية، ويقال إنه كان في الكعبة عند فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة ثلاثمائة وستون صنمًا3، وكان أعظمها عند القرشيين هُبَل: "وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، وجعلتها له قريش من ذهب: وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة قداح، مكتوب في أحدها: "صريح" والآخر: "مُلْصَقٌ"؛ فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية ثم ضربوا بالقداح "السهام" فإن خرج "صريح" ألحقوه بأبيه، وإن خرج "ملصق" دفعوه. وقدح على الميت، وقداح على الزواج. وإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرًا أو عملًا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه.. وعند ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله4". وباسمه كان ينادي أبو سفيان في معركة أحد ويصيح: اعلُ هبل. ومن أصنام قريش المشهورة إساف ونائلة، ويقال إنهما كانا شخصين أتيا أعمالًا سيئة فمسخا حجرين، وعبدهما الناس، وكان أحدهما ملاصقًا للكعبة، وثانيهما في موضع زمزم، ويقال إن إسافًا كان بإزاء الحجر الأسود وكانت نائلة بإزاء الركن اليماني5. ومن أصنامهم مناف وبه سمي عبد مناف. ومن الأصنام المشهورة رضا وتيم وشمس لتميم وذو الخُلَصَة وهو صنم خَثْعم وبجيلة وأزد السراة، ويقال إنه كان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكان موضعه بتبالة وله بيت يحجون إليه6. وذو الشَّرَى وكان له معبد ضخم في   1 الأصنام ص 57 والطبري 10/ 364 ومادة نسر في معجم البلدان واللسان وتاج العروس. 2 الطبري 10/ 364. 3 انظر الجزء الثاني من ابن الأثير في ذكر فتح مكة. 4 الأصنام ص 28 والطبري 10/ 364 5 الأصنام ص 29 والمحبر ص 318 والطبري 10/ 364. 6 الأصنام 34، 47 والأزرقي 1/ 256 والمحبر ص 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 سلع "بطرا"1 ويظهر أن عبادته قديمة، وهو يقابل الإله ديونيسيوس عند اليونان إله الخصب والخمر. وكانوا يتخذون عند هياكل هذه الأصنام والأوثان أنصابًا من حجارة يصبون عليها دماء الذبائح التي يتقربون بها إلى آلهتهم، وكانوا يقدسون هذه الأنصاب ويعدونها مقرًّا لبعض الأرواح. وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . والأزلام هي القداح كما مر بنا. وفرق بين الصنم والوثن، فالصنم يكون غالبًا تمثالًا، أما الوثن فيكون غالبًا حجرًا، وقد يسمى الصنم بالوثن، يقول ابن الكلبي: "واستهترت العرب في عبادة الأصنام؛ فمنهم من اتخذ بيتًا ومنهم من اتخذ صنمًا ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرًا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت. فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلًا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه ربًّا وجعل ثلاثة أثافي لقدره. وإذا ارتحل تركه؛ فإذا نزل منزلًا آخر فعل مثل ذلك وكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها2". وهذه البيوت التي اتخذوها لأصنامهم كان منها كعبات كبيرة يحجون إليها ككعبة ذي الخُلَصَة وهي الكعبة اليمانية وكعبة الطائف وهي بيت صنمهم اللات، وأشهر كعباتهم كعبة مكة حارسة الوثنية في الجاهلية، وهي التي وصلتنا عنها تفاصيل كثيرة توضح ما كانوا يتخذون في حَجِّهم إليها من شعائر، وكانوا يطوفون بها أسبوعًا ويسعون بين الصفا والمروة، ويظن أنه كان على كل منهما صنم، ويقال إنه كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة، وكانوا يقفون بعرفة ويفيضون منها إلى المزدلفة ثم منى. وكان إفاضتهم في عرفة عند غروب الشمس، أما في المزدلفة فعند شروقها، وكان يتولى الإجازة في الأولى بعض التميميين. وفي الكعبة الحجر الأسود وكانوا يتبركون به ويتمسحون بأركان الكعبة جميعها. ويقال إن طوافهم بأصنامهم كان سبعة أشواط وكانوا يختلفون في طوافهم؛ فمنه من يطوف عريانًا وهم الحلة3، ومنهم من يطوف في ثيابه وهم الحمس4 من قريش وكنانة وخزاعة   1 الأصنام ص 37 وتاج العروس. واللسان في مادة الشرى. 2 الأصنام ص33. 3 المحبر ص180 وما بعدها. 4 المحبر ص179 والأزرقي 1/ 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ويصور لنا الأزرقي طواف العريان بقوله: "يبدأ بإساف فيستلمه "يعتنقه" ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه؛ فإذا ختم طوافه سبعًا استلم الركن "حيث الحجر أو الحطيم" ثم استلم نائلة، فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس فيأخذها، فيلبسها، ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عُريانا1" وقد أبطل الإسلام العري في الطواف، كما أبطل كثيرًا من تقاليد الحمس2. وكان من تقاليدهم رمي الجمرات في منى وتقديم العتائر أو الضحايا وذبحها عند الأنصاب وكذلك تقديم الهدايا من الزروع والغلات، وفي القرآن الكريم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . وتدل الآية الكريمة على أنهم كانوا يجعلون لله نصيبًا، ثم يعودون فيجعلونه لآلهتهم الصغرى أو لأصنامهم. وذكر القرآن الكريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وأولاها الناقة أو الشاة يحرمون لبنها والانتفاع بها، والثانية ما يسيَّب "يترك" نذرًا للآلهة فلا يمنع من ماء ولا كلأ، والثالثة ناقة أو شاة تحمل سبعة أبطن؛ فإذا كان السابع ذكرًا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى استحيوه، وإن ولدت توأمًا. ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها وحرموا ذبحه على أنفسهم. أما الحام فالبعير ينتج عشرة أبطن من صلبه، ويقولون: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. ويظهر أنه كانت عندهم طقوس كثيرة في نذورهم وقرابينهم، وقد هدمها الإسلام هدمًا، وأيضًا كانت هناك شعائر وطقوس كثيرة في الحج نفسه لعل أهمها التلبية، يقول ابن حبيب: "وكانوا يلبون إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته، وكان نسك قريش لإساف، تقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وكان لكل قبيلة بعد تلبية؛ فكانت تلبية من نسك للعزى: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ما أحببنا إليك. وكانت تلبية من نسك للات: لبيك اللهم لبيك، لبيك، كفى ببيتنا بنية، ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية، أربابه من صالحي البرية ... وكانت تلبية من نسك لوَدّ:   1 الأزرق: 1/ 114. 2 الأزرقي: 1/ 116 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 لبيك اللهم لبيك، لبيك معذرة إليك، وكانت تلبية من نسك لذي الخلصة: لبيك اللهم لبيك، لبيك بما هو أحب إليك..1". وجعلوا للحج أربعة أشهر معلومات، سموها الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وكان الحج إلى مكة في ثالثها، وفي اسمه ما يدل على أن الحج المعظم للكعبة القرشية كان فيه. وكانت هذه الأشهر حرامًا عندهم فلا يستباح دم، ولا تنشب حروب؛ إلا ما كان من حرب الفجار، وعُدَّت انتهاكًا عظيمًا لحرمات البيت. وكأنما كانت هذه الأشهر هدنة لهم، ومُعينًا لبعدائهم عن الأماكن المقدسة في الوصول إليها؛ دون أن تُمَسَّ نذورهم، وكانوا فيها يتجرون ويمترون ويقيمون أسواقهم كسوق عكاظ. وكانت هناك جماعات تقوم على سدانة بيوتهم المقدسة، ويسمونها الحجابة، وكانت في مكة لبني عبد الدار، وبجانب هؤلاء السدنة كهان كانوا يدعون معرفة الغيب وأنه سُخِّر لهم طائف من الجن يسترق لهم السمع فيعرفون ما كُتب للناس في ألواح الغد. وممن عُرف بذلك سَطيح الذئبي وشق بن مصعب الأنماري وعوف بن ربيعة الأسدي وسلمة الخزاعي وسواد بن قارب الدوسي وعُزَّى سلمة2. ونجد بجانب الكهنة كاهنات مثل الشعثاء والكاهنة السعدية والزرقاء بنت زهير وكاهنة ذي الخلصة3. وفي أخبار الإسلام الأولى ما يدل على أنه كان يلحق ببيوت الأصنام بغايا، وكانوا سببًا في ثورة بحضرموت قضى عليها أمية بن أبي المهاجر لعهد أبي بكر الصديق4. ولعل في كل ما قدمنا ما يدل على أنهم كانوا يؤمنون إيمانًا واسعًا بالأرواح، وأنها تحل في كل ما حولهم من مظاهر الطبيعة، وكان منها أرواح خيرة، هي الملائكة وأرواح شريرة هي الشياطين. وفي القرآن الكريم: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} . فكانوا   1 المحبر ص 311. 2 السيرة النبوية " طبع الحلبي" 1/ 15 والكامل لابن الأثير "طبع ليدن" 1/ 301 وأغاني "طبعة دار الكتب" 9/ 84 وطبعة الساسي 15/ 70 والسيرة الحلبية "طبع بولاق" 1/ 5. 3 انظر مجمع الأمثال للميداني 1/ 91، 1/ 223، 2/ 54. 4 المحبر ص 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يزعمون أنها بنات الله، وكانوا يعدونها -كأصنامهم- من شفعائهم عند الله وشركائه، وحكى القرآن اعتقادهم في ذلك؛ إذ يقول جل وعز: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . وفي القرآن سورة للجن وكانوا يخافونها ويتعبدونها ويجعلون بينها وبين الله نسبًا، يقول جل وعز: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} وفي أساطيرهم أو قل في معتقداتهم أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب فتهلك. يقول الجاحظ: وكانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب إما لكدر الماء أو لقلة العطش ضربوا الثور ليقتحم الماء؛ لأن البقر تتبعه1، فكانوا إذا امتنعت ظنوا ذلك من عمل الجن وإيحائهم. ولهم فيها كثير من الأساطير، عرض لها الجاحظ في الجزء السادس من حيوانه، فتحدث عن مواطنها في رأيهم وأنها تركب النعام والظباء والحشرات وأنها تتصور في صور كثيرة، وتتوالد مع الناس، وقد تستهويهم وتقتلهم أو تخبلهم، ويُسْمَعُ ليلًا عزيفهم وهتافهم، ومنهم من يألف الكهان ويخدمهم وهو الَّرئيّ، ومنهم من صورته على نصف صورة الإنسان ويسمى شِقًّا، ولكل شاعر شيطانه الذي ينفث فيه الشعر. ومنهم السعلاة والغول، وهي من سباعهم، ويزعم تأبط شرًّا في شعر يضاف إليه أنه لقيها في ليلة مظلمة وهو يسعى في فلاة، فنازلها وما زال بها حتى قتلها وهو لا يعرفها، يقول2 -إن صح أنه قائله-: فلم أنفك متكئًا عليها ... لأنظر مصبحًا ماذا أتاني إذا عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأس الهِرِّ مشقوق اللسانِ وساقا مخدج وشواة كلب ... وثوب من عباء أو شنان3 وهؤلاء الوثنيون كانوا ينكرون الرسل وأن هناك إلهًا واحدًا قال جل وعز: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ   1 انظر الحيوان: 1/ 18 وما بعدها. 2 الأغاني: 18/ 212. 3 مخدج: ناقص الخلق، الشواة: الأطراف، الشنان: جلد القربة البالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 هَذَا لَشَيْءٌ يُرَاد، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} . وكانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور يقول جلَّ ذكره: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} وقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} وقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . ولا نصل إلى أواخر العصر الجاهلي حتى نجد استعدادًا لفكرة الإله الواحد، وخاصة عند طائفة كانت تدعى باسم الحُنَفاء، وكانت تشك في الدين الوثني القائم وتلتمس دينًا جديدًا يهديها في الحياة. يقول ابن إسحاق: "اجتمعت قريش يومًا في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون "يطوفون" به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا فخلص منهم أربعة نفر نجيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض قالوا: أجل، وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل؛ فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبرهيم، ما حجرٌ نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينًا؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم، فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، وقال أعبد رب إبراهيم"1 ومعروف أنه أسلم وكان من الصحابة الأولين المقدمين. وأكبر الظن أن كلمة حنيف معناها المائل عن دين آبائه كما يدل على ذلك اشتقاقها، ولم يكن هؤلاء الحنفاء في مكة وحدها، فقد كانوا منتشرين في القبائل؛ إذ تعد كتب الأدب والتاريخ منهم قس بن ساعدة الإيادي وأبا ذر الغفاري وصِرْمة   1 السيرة النبوية: 1/ 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ابن أبي أنس أحد بني النجار في المدينة وعامر بن الظرب العدواني وخالد بن سنان العبسي وأمية بن أبي الصلت الثقفي وعمير بن جندب الجهني. ويمكن أن ندخل فيهم كثيرين ممن حرموا على أنفسهم في الجاهلية الخمر والسكر والأزلام1 مثل عبد المطلب بن هاشم وقيس بن عاصم التميمي وحنظلة الراهب بن أبي عامر غسيل الملائكة. ولا نرتاب في أن صنيع هؤلاء؛ إنما كان شكًّا في حياتهم الدينية، وكل ذلك يؤكد أن الوثنية الجاهلية كانت على وشك الانحلال، فما انبلجت أضواء الإسلام، حتى اعتنقه العرب ودخلوا فيه أفواجًا.   1 المحبر ص 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 5- اليهودية والنصرانية لا نصل إلى العصر الجاهلي حتى نجد اليهود منتشرين في اليمن والحجاز1، والمظنون أنهم هاجروا من موطنهم الأصلي في فلسطين إلى الجزيرة على أثر اصطدامهم بالقيصر طيطوس "Titus" وهدمه للهيكل سنة 70 للميلاد، وكذلك اصطدام القيصر هدريان بهم سنة 132؛ ففي هذه الأثناء فر كثير منهم إلى الحجاز، وسقط غير قليل منهم إلى اليمن. وقد تكون هجراتهم أقدم من ذلك. ولكن ليس بين أيدينا نصوص وثيقة. نعرف منها بالضبط مراحل وفودهم على الجزيرة سواء في الحجاز أو اليمن، وحتى هجراتهم في أيام طيطوس وهدريان غير واضحة تمامًا. وقد استطاع يهود اليمن في أوائل العصر الجاهلي أو بعبارة أخرى في أوائل القرن السادس الميلادي أن يؤثروا في ملك من ملوك التبابعة هو ذو نواس، وأن يدخلوه في دينهم، وقد دفعوه دفعًا إلى التنكيل بنصارى نجران وتحريقهم، وفي ذلك نزلت الآيات الكريم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .   1 راجع في اليهودية بجزيرة العرب كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي الجزء السادس وكذلك كتاب مرجليوث: The Relation between Arabs and Israelites prior to the Rise of Islam. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وربما كان السبب الحقيقي في استجابته لليهود أنه كان يخشى من تغلغل النصرانية في بلاده وأن يفتح ذلك الأبواب لنصارى الحبشة، فيستولوا عليها بدون مقاومة على أن الأحباش سرعان ما انتقموا لإخوانهم، فأزالوا دولة ذي نواس سنة 525 وظلوا نحو خمسين عامًا؛ حتى أجلاهم عنها أهلها بمساعدة الفرس. ويظهر أن هذه الفترة التي قضاها الأحباش النصارى هناك كانت سببًا في تفرق اليهود وخروج كثيرين منهم من اليمن وتشتتهم في البلاد. ولكن ظلت بقايا هناك، دخل كثيرون منها في الإسلام من مثل كعب الأحبار ووهب ابن منبه، ولهما في الإسرائيليات التي شاعت بين المسلمين ومؤرخيهم أثر كبير. وأهم من يهود اليمن يهود الحجاز، وكانوا قبائل وجماعات كثيرة انتشرت في واحات الحجاز: يثرب وخيبر ووادي القرى وتيماء، وكان في يثرب منهم عشائر كثيرة أهمها بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع وبنو بهدل، وقد نزل بينهم الأوس والخزرج كما قدمنا، وفرضت القبيلتان عليهم سيادتهما. وكانوا يشتغلون بالزراعة والصياغة والحدادة وصناعة الأسلحة ونسج الأقمشة، وكانوا يعمدون عمدًا إلى الإيقاع بين القبيلتين العربيتين، فاشتبكا في حروب دامية، حتى جمعهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، فأصبح أفرادها بنعمة الله إخوانًا متحابين. وناهض اليهود الرسول؛ فكانوا يثيرون معه مناقشات ومجادلات صورَّها القرآن الكريم، وذهبوا يحاولون الوقيعة بين المسلمين، ويؤلبون عليهم قريشًا وغير قريش، مما اضطر الرسول -عليه السلام- إلى إجلائهم عن المدينة. وفي السيرة النبوية لابن هشام وطبقات ابن سعد ما يدل على أنهم كانوا يتدارسون دينهم في دار ندوة لهم تسمى المدارس وأنهم كانوا يقرأون التوراة والمشنة والزبور "مزامير داود" بلغتهم القديمة العبرية؛ ولكنهم اتخذوا العربية لغتهم اليومية، ونظم فيها بعضهم شعرًا عربيًّا. وعلى نحو ما تعرب يهود يثرب تعرب يهود خيبر ووادي القرى وفدك وتيماء، واشتهر بينهم غير شاعر كالسموأل بن عادياء، وقد قاوموا الإسلام وأظهروا له العداوة والبغضاء، فحاربوا الرسول، وانتصر عليهم، ولم يلبث عمر أن أمر بإجلاء كل من ليس له عهد منهم، فخرج جمهورهم من الجزيرة، ولم يبق منهم إلا نفر قليل. وليس بين أيدينا ما يدل أي دلالة على أنهم خلفوا آثارًا واضحة في الجاهليين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فقد ظل العرب الشماليون بعيدين عنهم وعن دينهم، لا يتأثرون به في قليل ولا كثير، وإن حاول بعض المستشرقين إثبات هذا التأثير1. وقد انتشرت النصرانية في اليمن وشمال الجزيرة الغربي والشرقي2، ويُظَنُّ أن انتشارها في اليمن بدأ منذ القرن الرابع الميلادي، وكان من أهم الأسباب في انتشارها هناك بعثات دينية كان يشجعها القياصرة، ولعلهم أرادوا بذلك النفوذ إلى فرض سلطانهم على البلاد وتحول كنوز قوافلها إليهم. ولا نصل إلى العصر الجاهلي حتى نرى النصرانية منتشرة في نجران وغيرها ويظهر أن نجران كانت أهم مواطنها، وقد نكبهم ذو نواس نكبته المشهورة التي أشرنا إليها فيما أسلفنا، ودخل الأحباش بقيادة أبرهة، فدُعمت النصرانية واعتنقها كثيرون، وبنيت لها كنائس في غير مدينة. ومن أشهر كنائسها كنيسة نجران. وفي السيرة النبوية أن وفدًا منها قدم على الرسوم صلى الله عليه وسلم وكان فيه العاقب والسيد، وهما الرئيسان السياسيان كما كان فيه أسقفهم وحبرهم أبو حارثة بن علقمة، وكان "قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه بدينهم، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس3". ويقال إن أبرهة أنشأ كنائس كثيرة في مدن اليمن، واهتم بزينتها وزخرفتها، أشهرها القليس في صنعاء، وهي تعريب لكلمة Ecclysia اليونانية بمعنى الكنيسة، ويقال إنه "نقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، ونصب فيها صلبانًا من الذهب والفضة ومنابر من العاج والآبنوس4". ويظهر أنه استعان في بنائها بأنقاض من قصور ملوكهم السابقين ومعابدهم القديمة، وقد حولها المسلمون إلى مسجد لا يزال قائمًا إلى اليوم. وكانت النصرانية منتشرة بين عرب الشام من الغساسنة وغيرهم مثل عاملة وجُذام وكلب وقضاعة، وكانوا على مذهب اليعاقبة أو المنوفيستيين، وهم القائلون بأن   1 انظر جواد علي 6/ 91: وما بعدها وكذلك ص: 177 وما بعدها. 2 انظر في النصرانية بجزيرة العرب تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي، الجزء السادس، والنصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية للويس شيخو. 3 انظر وفد نجران في سيرة ابن هشام: 2/ 222. 4 مادة القليس في معجم البلدان لياقوت وتفسير الطبري 30/ 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 للمسيح طبيعة واحدة وأقنومًا واحدًا؛ ولذلك يسمون أصحاب الطبيعة الواحدة، وصاحب هذا المذهب هو يعقوب البرادعي المولود حوالي سنة 500 للميلاد وقد دخل في مذهبه -كما قدمنا- الغساسنة ومن والاهم من عرب الشام. ونفذت النصرانية إلى عرب العراق أيضًا إلى تغلب وإياد وبكر، وتغلغلت في الحيرة على الرغم من ملوكها الوثنيين فكان يعتنقها بها العباديون، وأغلب الظن أنهم سموا بذلك تمييزًا لهم من جيرانهم الوثنيين، فهم عباد الله. ولم يكونوا يعاقبة كعرب الشام؛ وإنما كانوا غالبًا نساطرة نسبة إلى نسطوريوس "Nestorius" المتوفى سنة 450 للميلاد وكان يرى أن للمسيح طبيعتين أو أقنومين: أقنوم الناسوت وأقنوم اللاهوت. وقد تأخرت الهيئة الحاكمة من آل المنذر في التنصر، ويقال إن هندًا أم عمرو بن المنذر ابتنت ديرًا هناك، وقد دخل النعمان بن المنذر في النصرانية، وهو آخر المناذرة. وكان الرقيق الحبشي الذي تزخر به مكة نصرانيًّا، ويظن أنه كان بها جالية من الروم النصارى1، ويقال إنه كان بها عبدان نصرانيان أصلهما من عين التمر وإنه كان بها جوار روميات3، ويقال إن شماسًا زار مكة في الجاهلية4، وكان يعيش في مر الظهران راهب مسيحي5. ويزعم اليعقوبي أن قومًا تنصروا من قريش قبيل الإسلام منهم ورقة بن نوفل وعتبة بن أبي لهب وعثمان بن الحويرث الأسدي6. والمظنون أنه كان في المدينة بعض النصارى، وإليهم يشير حسان في رثائه للرسول صلوات الله عليه -إن صح أنه له- إذ يقول7: فرحت نصارى يثرب ويهودها ... لما تَوارى في الضريح الملحَدِ وكانت النصرانية منتشرة في طيء ودومة الجندل. وهي على هذا النحو كانت تختلف عن اليهودية فإنها لم تذع في القبائل، على أنه ينبغي أن لا نبالغ في تصور من تنصروا من العرب قبل الإسلام، ونظن أنهم قاموا بتعاليم النصرانية قيامًا دقيقًا،   1 Oleary, Arabi Before Muhammad p.184. 2 أسباب النزول للواحدي: ص212. 3 أسد الغابة: 1/ 387، 4/ 232، 5/ 194، 462. 4 ابن هشام: 1/ 349 وأسد الغابة: 3/ 375 5 السيرة الحلبية: 1/ 75. 6 تاريخ اليعقوبي: 1/ 298. 7 ديوان حسان: "طبعة هرشفلد" ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فقد عرفوا الكنائس والرهبان والأساقفة والصوامع، ولكنهم ظلوا لا يتعمقون في هذا الدين الجديد، وظلوا يخلطونه بغير قليل من وثنيتهم، وربما كان مما يوضح ذلك خير توضيح قول عدي بن زيد العبادي1: سعى الأعداء لا يألون شرًّا ... عليَّ ورب مكة والصليبِ فهو يجمع في قسمه بين رب مكة الوثنية ورب الصليب، وكذلك كان أكثر العرب من النصارى، فهم مسيحيون وثنيون في الوقت نفسه. ومن يقرأ شعره لا يجد فيه فكرة التثليث المعروفة في النصرانية. والحق أن نصارى العرب في الجاهلية إنما عرفوا ظاهرًا من دينهم، وقلما عرفوا حدوده، وقد سقطت إلى أشعارهم وأشعار الوثنيين أنفسهم كلمات ومصطلحات كثيرة منه ومن شخوصه وطقوسه؛ فمنذ امرئ القيس وقوله2: يضيئ سَناه أو مصابيح راهبٍ ... أهان السَّليط في الذبال المفتَّل والشعراء يرددون ذكر الرهبان ومحاريب كنائسهم، يقول الأعشى3: كدمية صور محرابها ... بمذهب ذي مرمر ماثر وطالما تحدثوا عن نواقيسم وقَرْعها في أواخر الليل، يقول المرقش الأكبر في بعض شعره4: وتسمع تزقاء من البوم حولنا ... كما ضربت بعد الهدو النواقسُ5 وعرض النابغة الذبياني في مديحه للغساسنة لتدينهم، ولبعض أعيادهم كعيد الشعانين ويسميه السبَّاسب إذ يقول فيهم6: رقاقُ النِّعال طيب حجُزَاتُهُم ... يحيون بالريحان يوم السَّباسِبِ   1 أغاني "طبعة دار الكتاب": 2/ 111. 2 ديوان امرئ القيس: " طبعة دار المعارف" ص24. والسليط: الزيت. 3 الديوان: "طبعة جابر" القصيدة رقم:18. 4 المفضليات: "طبعة دار المعارف" ص 225. 5 التزقاء: الصياح. والهدو: أوائل الليل. 6 مختار الشعر الجاهلي للسقا ص 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وذكر أوس بن حجر عيد الفصح الذي كانوا يحتفلون به فيوقدون المشاعل، ويضيئون الكنائس بالقناديل والمصابيح، يقول1: عليه كمصباح العزيز يَشُبُّه ... لفِصْحٍ ويحشوه الذُّبالَ المفتَّلا وجرى على لسانهم كثير من أسماء الأنبياء، من مثل داود، وكان يشتهر عندهم بنسجه للدروع المتينة القوية، ومن ثم يقول سلامة بن جندل في وصف بعض الدروع2: مُدَاخَلةٍ من نسج داود شَكَّها ... كحَبِّ الجنا من أُبْلُمٍ متفلِّقِ3 وقد يتحدثون عن ملكه في صدر حديثهم عن الملوك البائدين وكيف يعتدي الدهر على الناس فلا يبقي ولا يذر. ويكثر في شعر الأعشى وأمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد القصص عن الأنبياء وسيرهم قصصًا تظن ظنًّا أنه موضوع. وهو إن قُبل من عدي النصراني؛ فإنه لا يقبل من أمية والأعشى، وكانا وثنيين. وتبدو في شعر بعض الشعراء نزعة إلى التفكير في الحياة والموت على نحو ما أسلفنا في غير هذا الموضع، كما يبدو في شعر نفر منهم إيمان بالله، كقول عبيد بن الأبرص في معلقته -إن صح أنه له-: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب ويزعم بعض المستشرقين أن الرواة الإسلاميين هم الذين وضعوا لفظة الجلالة في شعر الجاهليين بدلًا من كلمة اللات التي تتفق معها في الوزن4. وفي معلقة زهير: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم   1 ديوان أوس ص 84. 2 الأصمعيات "طبعة دار المعارف" ص150. 3 مداخلة: محكمة النسج، شكها: أحكمها، الأبلم: بقلة لها قرون بها حب يابس. 4 جواد علي 6/ 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فالله يعلم خائنة الصدور وما تخفي، ويعاقب كل إنسان على ما قدمت يداه عاجلًا أو آجلًا في يوم الحساب، وإذا صح البيتان لزهير كان ذلك دليلًا على أنه ممن تحنفوا قبل الإسلام. ولعل في كل ما قدمنا ما يدل على أن وجود النصرانية في الجزيرة قد أثر الشعراء آثارًا مختلفة لا في شعرائها الخاصين؛ بل أيضًا في بعض الشعراء الوثنيين، وكان من آثار ذلك ظهور جماعات المتحنفين، وتسربُ فكرة البعث والحساب إلى نفر من الجاهليين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الفصل الرابع: اللغة العربية 1- عناصر سامية مغرقة في القدم 1 أشرنا في غير هذا الموضع إلى أن اللغات السامية تتشابه في كثير من الكلمات والضمائر والأعداد تشابهًا يثبت القرابة بينها، وهو تشابه يفيدنا في معرفة نمو كل لغة من هذه اللغات وتطورها على مر التاريخ حتى تشكلت في صورتها الأخيرة. وقد أبلى علماء الساميات بلاء مشكورًا في الدراسة المقارنة لهذه اللغات من حيث الصيغ والألفاظ والتصريف والإعراب والأصوات، وهي دراسة تفيدنا فائدة جُلَّى في التأريخ لكثير من الظوهر اللغوية ومعرفة قديمها من حديثها. فإن لاحظنا تشابهًا بين لغتين من هذه اللغات في ظاهرة بعينها ورجعنا إلى اللغات الأخرى ووجدنا نفس التشابه؛ كان معنى ذلك أن الظاهرة قديمة وأنها ترتقي إلى العصر الذي كانت هذه اللغات متحدة فيه. وقد يقع التشابه في الظاهرة في لغتين غير متجاورتين؛ فإما أن يرجع إلى أصل قديم، وإما أن يكون ثمرة تطور تاريخي في كل منهما أدّى إلى نفس النتيجة؛ أما إذا كانتا متجاورتين كالعربية والآرامية؛ فإما أن تكون الظاهرة قديمة ترجع إلى أزمان اتحادهما، وإما أن تكون إحداهما تأثرت بالأخرى. ولعل في هذا ما يدل على أن أسلافنا توسعوا أكثر مما ينبغي حين درسوا الدخيل في عربيتنا، فوقفوا عند ألفاظ كثيرة وقالوا إنها سريانية آرامية؛ غير ملتفتين إلى أن طائفة من هذه الألفاظ ترجع إلى الأصل السامي القديم، فلا يقال: إن العرب أخذوها من السريان ولا إن السريان أخذوها من العرب، بل يقال: إنها من الكلمات السامية القديمة التي تداولها الساميون في زمان اتحادهم قبل تفرق لهجاتهم وتطورها إلى لغات.   1 راجع في هذه العناصر كتاب "التطور النحوي للغة العربية" لبرجشتراسر "طبع القاهرة: 1929" والجزء السابع من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ومحاضرات خليل يحيى نامي بكلية الآداب في جامعة القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 مستقلة لها مشخصاتها وسماتها الصرفية وغير الصرفية. ونضرب مثالًا آخر حديثًا أثار ضجة واسعة بين المستشرقين، وهو ما زعمه فولرز من أن القرآن الكريم كان في بادئ الأمر غير معرب؛ إذ كان بلهجة قريش الدارجة، وهي لهجة -فيما يزعم- كانت غير معربة، وكانت تختلف عن لهجة الشعر الجاهلي الخاضعة لقواعد النحو العربي، ومضى يقول: إن النحاة المتأخرين هم الذين صاغوه في لغة البدو المعربة. وقد رفض كثير من المستشرقين وعلى رأسهم بوهل ونولدكه وجاير هذا الرأي رفضًا باتًّا1، ويقول يوهان فك: إما أن أقدم أثر من آثار النثر العربي وهو القرآن قد حافظ أيضًا على غاية التصرف الإعرابي؛ فهذا أمر وإن لم يكن من الوضوح والجلاء بدرجة الشعر الذي لا تترك أساليب العروض والقافية مجالًا للشك في إعراب كلماته؛ إلا أن مواقع كلام القرآن الاختيارية لا تترك أثرًا للشك فيه كذلك، انظر مثلًا آية 28 من سورة فاطر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وآية 3 من سورة التوبة: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} وآية 124 من سورة البقرة: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وآية 8 من سورة النساء: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} فمثل مواقع الكلمات في هذه الآيات، لا يمكن أن يكون إلا في لغة لا يزال الإعراب فيها حيًّا صحيحًا. يضاف إلى ذلك شهادة القرآن نفسه في مثل آية 130 من سورة النحل: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وصريح من هذا أنه لم يقم عند محمد ومعشره فرق هام بين لغة القرآن وبين لغة العرب أي قبائل البدو2". ومما يثبت بطلان رأي فولرز أنه لم يُعْرَف عن قبيلة عربية من القبائل الشمالية أنها اتخذت لهجة دارجة خالية من قواعد النحو والعربية. وقد نسي أو تناسى أن قراءات القرآن الشريف توقيفية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أنه قرأه على الصحابة في لهجة غير معربة لقضى على اللهجات المعربة من حوله. وعلى الرغم من وضوح فساد هذا الرأي وبطلانه نجد كاله "Kahle" يحاول أن يدلل على صحته، تارة بما وجده من نصوص متأخرة تحث على مراعاة الإعراب في ترتيل القرآن، وتارة بما يزعمه من أن قراء القرآن الأولين رحلو لمخالطة عرب البادية، حتى   1 انظر مادة قرآن في دائرة المعارف الإسلامية وتاريخ القرآن لنولدكه وكتاب العربية ليوهان فك ص3 وما بعدها. 2 العربية ليوهان فك: ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يفقهوا قواعد شعرهم النحوية والصرفية ويطبقوها على الذكر الحكيم1 وهو يستمد في الشطر الثاني لقوله وزعمه من فولرز. أما الشطر الأول فواضح البطلان؛ لأن هذه النصوص إنما تشير إلى مخافة العلماء في عصور اللهجات العامية المولدة من أن يهجم بعض العامة على قراءة القرآن قراءة غير معربة. وإذا رجعنا إلى تاريخ اللغات السامية وعرضنا هذه المسألة؛ تبين لنا أنها تفقد السند التاريخي. فإن الإعراب في الفصحى ليس خاصة مستحدثة نشأت بين بعض قبائل العرب وفي بعض لهجاتهم البدوية بعد أن لم تكن موجودة وإنما هو خاصة سامية قديمة تشترك فيه مع العربية الأكدية، كما تشترك في بعضه الحبشية وغيرها من اللغات السامية. وحدث في سنة ألف وتسعمائة وتسع وعشرين أن اكتشف العلماء في رأس شمرا بالقرب من اللاذقية نقوشًا كثيرة ترجع إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد في موضع كان يعرف قديمًا باسم أوجريت "Ugarit" وجدوا في حل رموزها، وسرعان ما وجودها تقرب من اللغات السامية ومن العربية القديمة؛ فسموها باسم موضعها تمييزًا لها، ولاحظوا أن هذه اللغة الأوجريتية يشيع فيها الإعراب مثل العربية، وأيضًا فإنهم وجدوا فيها ظواهر المنع من الصرف، وكان المظنون أنه خاصة عربية. ومعنى ذلك أنه ثبت بين علماء الساميات أن ظاهرتي الإعراب والمنع من الصرف قديمتان في اللغات السامية وأن العربية احتفظت بهما؛ بينما فقدتهما مع الزمن أكثر هذه اللغات؛ فهما ليسا من الظواهر المستجدة؛ بحيث يمكن أن ينسبا إلى بعض قبائل البدو كما وهم فولرز وكاله، وإنما هما من الظواهر السامية القديمة، وليس بين أيدينا نص واحد يشهد بأن قريشًا أو بعض قبائل العرب الشماليين ضعف عندهم الإعراب فأهملوه في لهجتهم الخاصة؛ بل كان الإعراب عامًّا بينهم جميعًا في الشرق والغرب، وفي الحجاز ونجد وغير الحجاز ونجد؛ فمن الخطأ البين أن يزعم زاعم أن الإعراب كان مهملًا في لغة قريش؛ فإن ذلك مجرد حدس لا قيمة له. ومن ظواهر العربية التي أكدت اللغة الأوجريتية أنه قديم ظاهرة التعريف بأل، وهي تقابل حرف الهاء الذي كان يستخدمه العبريون والآراميون في التعريف،   1 راجع ما ساقه عبد الحليم النجار من تعليقات في كتاب العربية المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وكان الأولون يلحقونه ببدء الكلمة والأخيرون يلحقونه بآخرها، وكان أصحاب النقوش الصفوية من قدماء العرب يجارون العبريين في استخدام هذا الحرف في التعريف ومثلهم الثموديون واللحيانيون. واستخدام النبط في نقوشهم أل استخدامًا واسعًا؛ إذ نراهم يضعونها مع أسماء آلهتهم مثل الله واللات والعزى، وقد تحذف الألف منها في الكتابة فيكتبون وهب الله وعبد الله هكذا وهب لهي وعبد لهي بإشباع الكسرة ومدها؛ بحيث تتولد منها الياء. ويقول اللغويون: إن الأزد يشبعون حركات الإعراب، ومعنى ذلك أن الإشباع قديم في العربية، ويدل حذف الألف في مثل وهب لهي أن النبط كانوا يسهلون الهمزة ولا يحققونها على نحو ما أثر عن قريش وأهل الحجاز في عدم تحقيق الهمزة لا في أل وحدها؛ بل في كلمات كثيرة، فيقولون في اسأل: سل. وكل ذلك معناه أن أداة التعريف في العربية قديمة وأن تسهيل الهمزة حدث قبل العصر الجاهلي؛ إذ كانت تميل إليه بعض القبائل العربية ممن كانوا يسكنون في غربي الجزيرة مثل النبط والحجازيين. وإذا أخذنا نقارن بين صيغ الفعل في العربية وصيغه في اللغات السامية وجدنا همزة التعدية في صيغة أفعل العربية تشيع في اللغتين الحبشية والسريانية؛ بينما تعبر العبرية والسبئية وبعض اللهجات الآرامية عنه بالهاء؛ فهفعل عندهم تقابل أفعل في العربية. وكان اللحيانيون والثموديون يستخدمون الصيغتين جميعًا. وفي الوقت نفسه نجد النقوش اليمنية ما عدا السبئية، ونقصد المعينية والقتبانية والأوسانية والحضرمية تعبر عنه بسفعل وتعبر عن الأكدية بشفعل واحتفظت العربية على نحو ما نعرف بالسين في وزن استفعل، ومن ثم ذهب ليتمان إلى أن أداة التعدية كانت في الأول سينًا، ثم صارت شينًا في الأكدية، وصارت السين هاء عند بعض الساميين، ثم صارت الهاء همزة في العربية والسريانية والحبشية1. ولعل من الطريف أن من يرجع إلى العربية يجد فيها بقايا من هذه الصيغ جميعًا كصيغة هراق الماء بمعنى أراقه. يقول ابن يعيش: "اعلم أنهم قالوا أهراق فمن قال هراق فالهاء عنده بدل من همزة أراق على حد هردت أن أفعل في أردت ونظائره2" وكأنه كان   1 انظر مقالة ليتمان عن "بقايا اللهجات العربية في الأدب العربي" بالجزء الأول من المجلد العاشر في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة ص 25 وما بعدها. 2 شرح المفصل للزمخشري: 10/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بينهم من يجمع في التعدية بين الهمزة والهاء، ومن يكتفي بإحداهما في مثل هذه الكلمة، ويظهر أن هذا كان كثيرًا؛ إذ ينص ابن يعيش على أن له نظائر متعددة، فيقولون هراح في أراح وهنار في أنار وهكذا. وفي القاموس المحيط الهذروف كعصفور: السريع، وهذرف: أسرع. ومعنى ذلك أن بين الأسماء صيغًا احتفظت بتلك الهاء؛ لأنها اشتقت من أفعالها، يقول صاحب القاموس: "الهِجْزَع كدرهم الجبان لأنه من الجزع. أما وزن سفعل الذي استخدمته بعض اللهجات العربية الجنوبية القديمة كالمعينية؛ فإن العربية احتفظت به في صيغة استفعل، وفي المزهر من مزيد الثلاثي هفعل في مثل هلقيم إذا أكبر اللقم وسفعل في مثل سنبس بمعنى نبس1، ويمكن أن يرد إلى هذه الصيغة كثير من الأفعال التي تبتدئ بالسين، كما يرد إلى صيغة هفعل كثير من الأفعال التي تبتدئ بالهاء؛ فهدر مثلًا يمكن أن يكون أصلها در وأضيفت إليها الهاء وخففت الراء، وسكن أصلها كان من كان التامة، ثم حذفت الألف. وبهذا القياس يمكن أن نمعن النظر في بعض الكلمات المبدوءة بالشين فنردها إلى صيغة شفعل الأكدية، فشسع يمكن أن يكون أصلها شوسع من وسع، وشوش من وش وهكذا. وكأن العربية كانت تستخدم في بعض أزمنتها القديمة كل هذه الصيغ، ثم تطورت بصيغة هفعل إلى أفعل وآثرتها معرضة عن الصيغ الأخرى لأنها أخف في النطق وأيسر. ومن الظواهر التي تتقارب فيها العربية من أخواتها السامية الضمائر؛ إذ نرى مثلًا: أنا تختص بالمتكلم مع زيادة مميزات عددية أو جنسية في بعض اللغات، بينما تختص التاء بضمير الرفع المتصل، وقد تخلفها الكاف كما في الأكدية على نحو ما جاء على لسان بعض الرجاز يهجو ابن الزبير2: يا بن الزبير طالما عصيكا ... وطالما عَنَّيْتنا إليكا فقال عصيك بدلًا من عصيت. وكما تتشابه اللغات السامية في الضمائر تتشابه في أسماء الموصول والإشارة، ويدل الاسم الموصول "ذو" عند الطائيين أن الأسماء   1 المزهر للسيوطي: 2/ 40. 2 النوادر في اللغة لأبي زيد "طبعة بيروت" ص 105. وأنساب الأشراف للبلاذري: 11/ 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الموصولة كانت في الأصل أسماء إشارة، وهو في الحبشية "ذ" وفي السريانية "د"، و"دي" في النقوش النبطية. وأيضًا فإن هذه اللغات تتشابه في كثير من حروف العطف وحروف الجر وأدوات الاستفهام وفي الميل إلى المخالفة بين الذكر والأنثى رغبة في الازدواج كما يتضح في العدد ومخالفته للمعدود في الجنس وفي تأنيث الفعل مع جمع التكسير المذكر. وتشترك العربية مع أخواتها السامية في أن الأسماء الثنائية أقدم أسمائها، وفي العربية أمثلة كثيرة منها احتفظت بها. وقد أخذت -كأخواتها- تشتق منها الثلاثي وغيره أو تولدهما. ومن أقدم ما اتبعته في ذلك تضعيف الحرف الثاني أو زيادة واو أو ياء في أوله أو زيادة حرف لين في وسطه أو نهايته. وقد تتكرر المادة الثنائية مثل حصحص وصرصر وسلسل. ولعلماء الساميات أبحاث في الكلمات التي تشترك فيها العربية مع غيرها من اللغات السامية والتي يمكن أن تعد من أقدم عناصرها، وهم يردون بعضها إلى أسماء الإنسان وأحواله مثل ذكر وأنثى وأب وأم وابن وبنت وأخ وبعل وبكر وأمة وضرة. ومن الأفعال القديمة المتعلقة بهذه الأسماء: ولد وملك. ومن هذه الأسماء المشتركة أسماء الحيوانات مثل نمر وذئب وكلب وخنزير وإبل وثور وحمار ونسر وعقرب وذباب ومعها فعل نبح. ومن أسماء النباتات عنب وتوم وقثاء وكمون وزرع وسنبلة. ومن أعضاء البدن رأس وعين وأذن وأنف وفم ولسان وسن وشعر ويد وظفر وركبة وكتف وذنب وقرن وعظم وكرش وكبد وكلية ونفس ودم، ومعها سَمِعَ وطعم. وأسماء مثل شيب ويمين وموت وقبر. ومن أجزاء العالم سماء وشمس وكوكب وأرض وحقل وماء ومنبع وبئر، ومما يتبعها ظل ويوم وليلة وبرق ولهب. ثم بعض أسماء البيت وأقسامه وما يتبعه مثل بيت وعمود وعرش وقوس وحظ وأصل معناه السهم وحبل وإناء ومما يتبعها من الأفعال رمى. ومن المأكولات والمشروبات قمح ودبس وسكر ويتبعها طحن وطبخ وقلي. وإلى جانب ذلك عدد كبير من الأفعال والأسماء مثل كان ونشأ وعلا وقدم وقرب وبكى وصرخ وأخذ وذكر وسأل وبشر ورجم وبل ونقل ونقب وصغر ورعى وسقى وركب ونظر وفقد وسلم وذبح وبارك ووقر، ومثل اسم وكل وأسماء العدد إلى العشرة والمائة1. وهناك أسماء وأفعال تشترك فيها العربية مع اثنتين أو ثلاث أو أربع من اللغات السامية،   1 راجع في ذلك كله برجشتراسر ص 140 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والحكم في مثل هذه الكلمات مشكل؛ فإما أن تكون من الكلمات السامية الأصلية، أو تكون بعض الفروع اختصت بها بعد تفرقها، بمعنى أنها نشأت بينها، وتكونت في زمن متأخر. ومن علماء الساميات من يظن أن ما تنفرد به العربية من كلمات لا توجد في أخواتها السامية هو من السامي الأصيل احتفظت به بينما سقط من أخواتها، ويذهب برجشتراسر إلى أن "هذا بعيد عن الاحتمال للغاية ولا يجوز افتراضه إلا على فرض كون اللغة العربية أقرب إلى اللغة السامية الأم من أخواتها. وهذا من الأوهام التي لا سبب لها؛ فإن اللغة العربية ترقت رقيًّا بعيدًا بالقياس إلى أخواتها الساميات. ولا بد من أن نفترض أن اللغة العربية اخترعت ألوفًا من الكلمات الجديدة ولا عجب في ذلك بعد ما شاهدناه مرارًا من ميلها إلى التخصص وإلى اختراع العبارات الجديدة المحدودة"1 ويضرب مثلين لذلك: كثرة ما اخترعته. من أدوات النفي؛ إذ تشترك مع اللغات السامية في أداته الأساسية "لا" ثم تنفرد بما اشتقته من أدوات كثيرة لا يوجد منها في أخواتها سوى ليس؛ إذ نجد فيها لم بزيادة الميم وحذف الألف، ولما بزيادة ما على لم، ولن بزيادة النون. وأضافت لذلك أدوات جديدة هي ما وإن وغير، وبذلك عددت وظائف النفي ونوعتها. ومعنى كل ما قدمناه أن هناك عناصر في العربية ترجع إلى أقدم أزمنتها، وأخرى جديدة، وقد عقد ليتمان مقالين طويلين2 بحث فيهما أسماء الأعلام في اللغات السامية متخذًا منها ما يدل على تاريخها وصيغها وأديانها وعاداتها، ولاحظ أن منها أسماء مركبة وأسماء مفردة وأسماء اسمية وأسماء فعلية وأسماء دينية وأسماء دنيوية وأسماء مكانية وأسماء زمانية وأسماء تخص أمنية أو فرحًا أو صفة أو دعاء وأسماء لرجال مشهورين أو نساء مشهورات، بالإضافة إلى أسماء أجنبية. ومن طريف ما لاحظه أن النبط كانوا يلحقون في كتابتهم ونقوشهم الواو بآخر الأعلام أحيانًا، يقول: والواو هذه تشير إلى أن الاسم معرب، وأما الأسماء فكتبوها بلا واو في آخرها. وأخذ العرب بعد ذلك هذه الواو من الخط النبطي فألحقوها بعمرو فرقًا بينه وبين عمر3.   1 برجشتراسر ص 142. 2 انظر مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة المجلد العاشر، العدد الثاني، والمجلد الحادي عشر، العدد الأول. 3 المرجع السابق، المجلد العاشر، العدد الثاني ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقارن مقارنات واسعة بين الأعلام في العربية منذ الجاهلية وبين لهجاتها القديمة من صفوية ونبطية، وأدلى في هذا الصدد بملاحظات جيدة. وعلى هذا النحو لا يزال علماء الساميات يقارنون مقارنات طريفة بين العربية الجاهلية وما سبقها من لهجات كتبت في نقوش قديمة، كما يقارنون بينها وبين العربية الجنوبية اليمنية وغيرها من أخواتها السامية محاولين استخلاص عناصرها وظواهرها المغرقة في القدم، والتي جدَّت على مر التاريخ. وقد لاحظوا أنها هي والحبشية واللهجات اليمنية القديمة تكثر من جموع التكسير كثرة مفرطة، كما لاحظوا أنها هي والعربية الجنوبية أو اليمنية تتميزان بوجود حرف الظاء فيهما. ومما يميزها أيضًا حرف الضاد، ولهم كلام كثير فيه وفي مخرجه، وتبادله مع الظاء واللام في بعض الكلمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 2- لهجات عربية قديمة 1 عثر علماء الساميات على نقوش أربع لهجات عربية قديمة، منها ثلاث كتبت بالخط المسند الجنوبي، وهي اللهجة الثمودية واللحيانية والصفوية، وواحدة كتبت بالخط الآرامي، وهي اللهجة النبطية. وقد جاء ذكر ثمود في القرآن الكريم مرارًا، وكانوا ينزلون في مدائن صالح وما حولها، وتمتد عشائرهم غربًا إلى البحر الأحمر وشرقًا إلى جبلي أجا وسلمى، وقد تردد ذكرهم عند الإغريق والرومان وفي كتابات أشورية ترجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد. وترجع نقوشهم التي عثر عليها إلى القرون الأخيرة قبل الميلاد والقرون الأولى بعده، وهي تنتشر في كثير من البلاد؛ فهي فضلًا عن وجودها في أماكن إقامتهم وسكناهم؛ نجدها مبثوثة في الطائف وطور سيناء ومصر بوادي الحمامات. وربما كان في ذلك ما يدل على أن أهلها   1 انظر في هذه اللهجات الجزء السابع من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ومقالة ليتمان في العدد الثاني من الجزء العاشر بمجلة كلية الآداب، وكذلك مقالته: "لهجات عربية شمالية قبيل الإسلام" في الجزء الثالث من مجلة مجمع اللغة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أسماءهم للذكرى، وقليل منها أدعية لآلهتهم، وهي صعبة القراءة لأن خطهم مشتق من الخط المسند الجنوبي، مثلهم مثل اللحيانيين والصفويين، وهو خال من الشكل ومن علامات الإشباع والحركات والتشديد. ومما يزيد في صعوبته أيضًا، أو بعبارة أدق مما يزيد في صعوبة الأحكام اللغوية عليه أن جميع نقوشه بضمير الغائب وأنهم كثيرًا ما يحذفون منه بعض الحروف كالنون من "ابن" والضمير من "لي" وأيضًا فإنه تختلط به آثار عبرية وآرامية. وهذه النقوش مع أنها كتبت بالخط المسند الجنوبي نقوش للعرب الشماليين؛ فاللغة التي تعبر عنها عربية شمالية، ويتضح ذلك في تراكيبها الصرفية والنحوية وفي اشتقاقات أفعالها وأزمنتها. ونجد عندهم صيغة المثنى بجانب صيغة الجمع كما نجد نفس أسماء الإشارة والأسماء الموصولة والضمائر وحروف الجر من مثل: اللام والباء وإلى وعلى، وحرف العطف واو؛ غير أن أداة التعريف الشائعة عندهم هي الهاء لا أل، وكذلك الشأن عند اللحيانيين والصفويين. أما عند النبط فهي أل. ومن هنا يصح أن نطلق على الأولين اسم أصحاب لهجات الهاء، وهم في ذلك يتطابقون مع العبريين، وأيضًا فإنه يشيع عند الثموديين واللحيانيين تعدية الفعل الثلاثي بالهاء بدلًا من الهمزة، مثلهم في ذلك مثل العبريين والسبئيين، على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع. واللهجة القديمة الثانية هي اللهجة اللحيانية نسبة إلى منازل أهلها من بني لحيان الذين ذكروا في نقوشها، وقد عثر عليها علماء الساميات منثورة في شمالي الحجاز بمنطقة العُلا الحالية، وكانت حاضرتهم تسمى دادان بالقرب من مدائن صالح. ويختلف الباحثون في تاريخهم وهل كانوا قبل الميلاد أو بعده؛ بل منهم من يتأخر بهم حتى القرن الخامس للميلاد. وتلقانا في نقوشهم نفس الصعوبات التي تلقانا في نقوش الثموديين من نقص الشكل وحروف العلة والمد والتشديد. وهم يعرِّفون بالهاء على شاكلة الثموديين، وقد يعرفون بأل أو باللام على شاكلة العربية الجاهلية، وقد يجمعون بينهما مثل هلحمى بمعنى الحمى. وهم يستبقون بين صيغ الفعل على صيغتي هفعل وسفعل ونراهم يلحقون بالماضي تاء التأنيث كما نراهم يشيرون بالذال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وذه وذات. ومن أسمائهم الموصولة من وما وذو المعروفة في لهجة طيء. ومن آلهتهم التي يرددون ذكرها بعل والعُزى ومناة وود وإلهة. ومن أسمائهم عبد ود وعبد شمس وعبد مناة وبعيث وعمر وطود. ومن ألفاظهم رب ويوم وبيت وحية وشيعة وحرة ورتاج وإيلاف وكبير وقديس وصانع ونحاس ووارث وعابد ومقدر منعم. وهم يكنون وينسبون على نحو ما نعرف في الفصحى، وأيضًا نجد عندهم التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع السالم والمكسر وهم يجمعون الذكور بالواو والنون والياء والنون كما يجمعون الإناث بالألف والتاء. ومن أدوات الجر والإضافة عندهم الباء واللام وفي ومن ومع وقبل وبعد وتحت ولدى وخلف، ونراهم ينفون بلا. أما اللهجة الصفوية؛ فقد نسبت إلى جبل الصفاة القائم في شرق حوران ببادية الشام، ولم توجد النقوش به؛ وإنما وجدت في الحرة الواقعة بينه وبين حوران، ولم ينسبها علماء الساميات إليها بحيث يقولون النقوش الحرية مخافة اللبس لأن الجزيرة العربية تمتلئ بحرات كثيرة؛ لذلك رأوا نسبتها إلى الجبل المذكور، واتخذوه علمًا عليها، وقد عثروا على نقوش منها في مواضع أخرى كالحرة الواقعة في جنوبي دمشق والصالحية على الفرات. وواضح أنها لا تنسب إلى قوم بأعيانهم أو إلى أمكنة بعينها؛ إنما هي تسمية اصطلاحية. وخطها مشتق من الخط المسند الجنوبي كاللهجتين السابقتين؛ ولذلك يصادف العلماء فيه نفس الصعوبات التي أشرنا إليها، ومما يزيدها صعوبة أن رسوم حروفها تتشابه؛ فالباء تشبه الظاء والخاء تشبه التاء وكذلك تشبه اللام والنون والهاء والصاد، وقد يبدأ الكاتب من اليمين إلى اليسار وقد يعكس الاتجاه فيبدأ من اليسار إلى اليمين. ونقوشهم قصيرة وشخصية، وقد يضمنونها وثائق أو أدعية للآلهة، وقد يذكرون تاريخ نقشها فيؤرخونه بتاريخ بُصرى أو ببعض حروب النبط والروم. وهي تسبق الميلاد وتمتد بعده قرونًا. ونرى أداة التعريف الشائعة عندهم الهاء، وقد وردت عندهم أسماء قليلة معرفة بالألف واللام مثل الأوس والعبد. وتشيع عندهم إضافة المنعوت إلى النعت على شاكلة الحبشية والعبرية المتأخرة وبعض اللهجات الجاهلية، فيقولون مثلًا "جبل الأحمر" بدلًا من الجبل الأحمر، ويتبع اسم الإشارة المشار إليه ولا يتقدمه فيقولون أو يكتبون "جو، ذ" أي هذا الوادي، بالضبط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 كما نصنع في عاميتنا المصرية فنقول "النهاردا" بدلًا من هذا النهار. وتلقانا عندهم ذو الطائية التي تستخدم اسمًا موصولًا في مثالها المشهور "بئري ذو حفرت وذو طويت" أي الذي حفرت والذي طويت. وهذه اللهجة بصفة عامة أقرب إلى عربية الجاهليين من اللهجتين اللحيانية والثمودية سواء في الضمائر واستخدام العدد أو في أسماء الأعلام وصيغ الفعل؛ فنحن لا نجد عندهم هفعل؛ بينما نجد الفعل المبني للمعلوم والمبني للمجهول، وهي تتشابه مع العربية الفصحى في تصريف الأفعال ومصادرها ففعّل مصدره تفعيل أو تفعلة وفاعل مصدره فعال أو مفاعلة وأفعل مصدره إفعال وانفعل مصدره انفعال وهلم جرًّا. ونراها تدخل تاء التأنيث على الكلمة للفرق بين المذكر والمؤنث، وتشيع فيها أدوات الجر المعروفة في العربية الفصيحة، وتعطف بالواو والفاء، وتنادى بها وبيا. والحروف جميعها هي نفس حروف عربيتنا عددًا، ويشيع تسهيل الهمزة فيها، وخاصة في أول الكلمة فعندهم ونس بدلًا من أنس وودم بدلًا من أدم. وكانت قبيلة هذيل تصنع نفس الصنيع فتقول وشاح بدلا من إشاح ومن ذلك أنهم يقولون واكل بدلًا من آكل على نحو ما نصنع في لهجاتنا العربية المعاصرة، وهم لا يدغمون الحرف الثاني مع الثالث في الأسماء المشتقة من الفعل المضاعف مثل ظن فيقولون أو يكتبون ظانن، بالضبط كما ننطق في عاميتنا مادد بدلًا من مادّ. ومن أفعالهم المنقوصة التي احتفظت بها العربية: شتى وبنى وأتى ونجا ورعى ودعا، ودائمًا لام الفعل الناقص عندهم ياء. ومن العبارات التي وردت فيها هذه الأفعال: "نجى من هسلطان" أي نجى من السلطان و"رعى هضأن" أي رعى الضأن و "هإبل" أي الإبل و"همعز" أي المعز و "هبقر" أي البقر. وفي نقش من نقوشهم "ورعى هإبل سنة مرق نبط جوذ" أي رعى الإبل سنة مرق النبط بهذا الوادي. ومعنى كلمة مرق في النفس مر، وهي تستخدم بنفس هذا المعنى في لهجاتنا المصرية. ومن آلهتهم رضا واللات ومناة وبعل وشيع هقوم أي: شيع القوم وهو إله مشهور عند النبط، قيل إنه لا يشرب الخمر وكذلك عابدوه. ولو أنه جاءتنا نماذج طويلة من نقوش الصفويين وأبناء عمومتهم الثموديين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 واللحيانيين لأمكن الحكم بدقة على لهجاتهم جميعًا، في صورة واضحة، ومن المؤكد أنها تصور ضروبًا من نمو العربية وتطورها في طريق اكتمالها، ومن المهم أن نعرف أن هذه النقوش جميعًا تنتهي بالقرن الثالث الميلادي. وأقرب منها إلى فصحانا نقوش النبط الذين عاشوا في شمالي الحجاز وكونوا لهم إمارة اتخذوا مدينة سَلْع "بطرا- PETRA " حاضرتها الكبرى، وموقعها الآن وادي موسى في جنوبي فلسطين. وكان لهم في الجنوب حاضرة صغرى هي الحجر وموضعها الآن يسمى مدائن صالح، وكان لهم في الشمال حاضرة صغرى ثانية هي بصرى بحوران في الشام. وظلت هذه الإمارة مزدهرة من القرون الأخيرة قبل الميلاد إلى سنة 106م، كما قدمنا؛ إذ قوضها الرومان؛ غير أن النبط عادوا إلى الظهور ثانية في تدمر وكونوا بها إمارة ظلت إلى سنة 273؛ إذ خشي الرومان من اتساع سلطان أمرائها، فحاربوا ملكتها زنوبيا، وما زالوا بها حتى أسروها ودمروا حاضرتها تدميرًا. وبذلك ينتهي تاريخ النبط، ويظهر أنهم لعبوا دورًا واسعًا في التجارة؛ فقد كانت قوافلهم تتسلم العروض من عرب الجنوب ومن الثموديين واللحيانيين وتحملها إلى العراق وحوض البحر المتوسط. والنبط عرب شماليون كانوا يتكلمون العربية الشمالية في أحاديثهم اليومية؛ غير أنهم اختلطوا بالآراميين، وكتبوا بأبجديتهم فظهرت في نقوشهم آثار آرامية كثيرة؛ إذ نراهم يستعيرون منهم بعض كلماتهم وقد يبقون في خطهم على بعض خصائص لغتهم. وهم كذلك خالطوا الروم والمصريين والعبريين؛ فظهرت في نقوشهم أسماء قليلة أخذوها منهم، يمكن أن تكون هذه الأسماء لأشخاص روميين ومصريين وعبريين عاشوا في إماراتهم. وتمتد نقوش النبط في الأنحاء التي سيطروا عليها، وقد كتبوها بالخط الآرامي المشتق من الخط الفينيقي، وهي منثورة في الحِجر ووادي موسى وتيماء وشرقي الأردن وسيناء وحوران بُصرى ودمشق وصيدا وجبل الدروز، وتنتهي بالقرن الثالث الميلادي؛ مثلها مثل النقوش السابقة. وكثير منها عثر عليه علماء الساميات في القبور وعلى أبوابها وفوق الصخور، وهي تكتظ بذكر قرابينهم وما نذروه لآلهتهم، وقد يؤرخون لها بأسماء ملوكهم، وكثيرًا ما يؤرخونها بالسنة التي انتهت فيها دولتهم الأولى وهي سنة 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وأصحاب هذه النقوش من النبط يختلفون اختلافًا واضحًا عن أصحاب المجموعة السابقة من اللحيانيين والثموديين والصفويين في استخدامهم لأداة التعريف العربية؛ فبينما كان يشيع عند الأولين استخدام الهاء في التعريف كما قدمنا؛ كان يشيع عندهم استخدام أل المعروفة في فصحانا. على أنهم قد يجارون الآراميين في تعريفهم الكلمات بإلحاق ألف في نهايتها؛ فقد نجدهم يكتبون القبر "قبرا" والمسجد "مسجدا" ولكن الغالب عليهم استخدام أداة التعريف العربية "أل". وربما صنعوا ذلك في كتابتهم فحسب، مجاراة للآراميين الذين أخذوا منهم خطهم وأبجديتهم، أما في حياتهم اليومية ولغتهم الدراجة، فكانوا يستخدمون أل كما يدل على ذلك شيوعها في كتابتهم. وقد ميزوا في نقوشهم كما قدمنا بين الأعلام الممنوعة من الصرف والمصروفة فكانوا يضيفون للأخيرة واوًا دلالة على تنوينها، مما بقيت آثاره في الخط العربي في مثل عمرو وعمر. وهاتان الظاهرتان: أي استخدام "أل" في التعريف والواو في آخر الأعلام المصروفة يقرب بين هذه اللهجة والفصحى الجاهلية. ومما يلاحظ أنهم يكتفون أحيانًا في كتابة "أل" باللام وحدها فيقولون أو يكتبون عبد البعل هكذا: عبد لبعل بحذف الألف، وكأنهم سهلوها وجعلوها همزة وصل لا قطع. وإذا رجعنا إلى خصائص هذه اللهجة وجدناها حقًّا شديدة الصلة باللغة الجاهلية؛ فهي لا تكاد تفترق عنها في أبواب الضمير والفعل وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة والنسبة والتصغير وحروف الجر والعطف، وكذلك الشأن في التذكير والتأنيث للاسم والفعل. ونجدهم يذكرون بين آلهتهم الله جل وعز. وتدور في نقوشهم كلمات عربية كثيرة مثل سلام ونذر ونذور وحب وخلد وحسن ولطف ورءوف وسعود ومرأة وأمة وعبد ورب وسعد، ويتقدم اسم القبيلة لفظ "أل" أو بني مثل آل قصي وبني سهم. واستخرج ليتمان من نقوشهم ثلاثمائة اسم تتفق مع الأسماء العربية وهي مدونة في كتابه: "NABATAAEAN INSCRIPTIONS" من مثل أمين، أمة، أمة الله، أوس، إياس، أوس الله، أوس البعل، بدر، بكر، تيم، تيم الله، تيم ذوشرا "يعني عبد ذي الشرا" جذيمة، جرم، جمل، حجر، حارث، حارثة، حنظل، حيان، رجب، زيد، سبع، سعد، سلم، مسلم، سكينة، سمية، أسود، صعب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 عدي، عقرب، علي، عمر، عمير، عميرة، عياض، غالب، غانم، غوث، مغير، فهر، قصي، كعب، لخم، مجد، امرؤ الله، امرؤ القيس، معن، مالك، نصر، نزار، نعيمة، نقيب، تنوخ، هانئ، وائل، وحش، ورد، وهب، وهبان، وهب الله. والنبطية؛ بذلك كله تعد وثيقة الصلة بعربية الجاهلية، وهو طور قريب منها قربًا شديدًا. ومن المؤكد أن العرب أخذوا يتطورون بلغتهم تطورًا سريعًا في القرون الأولى للميلاد بالضبط كما أخذوا يتطورون بالخط النبطي مشتقين منه خطهم العربي على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 3- نشوء الفصحى ليس من السهل تحديد الزمن الذي اتخذت فيه لغتنا العربية شكلها النهائي الذي تصوره الفصحى الجاهلية، وهو شكل كامل النضج سواء من حيث الإعراب والتصريف والاشتقاق أو من حيث التنويع الواسع في الجموع والمصادر وحروف العطف وأدوات الاستثناء والنفي والتعريف والتنكير والانتهاء بالممنوع من الصرف إلى نظام تام منضبط؛ مضافًا إلى ذلك احتفاظها بحروف ومخارج لم تحتفظ بها لغة سامية احتفاظًا كاملًا، وهي الثاء والخاء والذال والظاء والضاد والغين. وهذه الصورة التامة لفصحانا لم تصل إليها إلا بعد مراحل طويلة من النمو والتطور، وقد رأينا نماذج منها في نقوش كتبت بأبجدية مشتقة من أبجدية المسند الجنوبي، وهي نقوش الثموديين واللحيانيين والصفويين، ونقوش أخرى كتبت بأبجدية الآراميين، وهي نقوش النبطيين؛ غير أنها جميعًا لا تصور هذا التكامل الذي انتهت إليه الفصحى، والذي تمثله نصوص العصر الجاهلي منذ أواخر القرن الخامس الميلادي، وأوائل السادس؛ فهل تم لها ذلك التشكل النهائي مع ظهور الشعر الجاهلي أو أن ذلك تم في حقب أبعد منه؟. ليست الإجابة على هذا السؤال سهلة يسيرة، لسبب بسيط أو طبيعي، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أنه ليس بين أيدينا نقوش كثيرة؛ نستطيع أن نعرف منها بالضبط الزمن الذي يعد بدءًا حقيقيًّا للفصحى. وحقًّا عثر علماء الساميات كما قدمنا في غير هذا الموضع على نقوش تمتد من أواخر القرن الثالث الميلادي إلى القرن السادس؛ غير أنها قليلة، ثم هي قصيرة، وأكثرها في أمور شخصية، وليس بينها نص أدبي أو نص طويل يمكن أن نتبين في تضاعيفه جملة الخصائص اللغوية لتلك اللغة التي كان يتحدث بها كتبة هذه النقوش، وجميعها على لسان الشخص الثالث الغائب، وليس بينها نص على لسان مخاطب أو متكلم، وهي تخلو خلوًّا تامًّا من الشكل والحركات وحروف العلة وعلامات الإعراب. على أن من يرجع إلى هذه النقوش يجدها تقترب اقترابًا شديدًا من فصحانا، وقد وقفنا في الفصل الأول عند أقدمها وهو نقش النمارة المؤرخ بسنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وهو لامرئ القيس ثاني ملوك الحيرة، وُضع على قبره في النمارة شرقيّ جبل الدروز، وقد لاحظنا أن كاتبه استخدم كلمة بر الآرامية بدلًا من ابن العربية؛ غير أن النقش بعد ذلك تام في عروبته سواء من حيث الأسماء والأفعال، أو من حيث استخدام أداة التعريف العربية أل. وأيضًا فإن خطه المكتوب به مع اشتقاقه من خط النبطي يعد مقدمة للخط العربي؛ إذ توجد فيه الروابط بين الحروف كما تتخذ الحروف فيه شكلًا أكثر استدارة. ولعلنا لا نبعد إذ اتخذنا هذا النقش بدءًا لتكون الفصحى، وقد لقب امرؤ القيس فيه بلقب ملك العرب، وهي أول مرة نعثر فيها على هذا اللقب، وقد يكون في ذلك ما يدل دلالة واضحة على أن العرب أخذوا يفكرون في إنشاء وحدة سياسية لهم منذ هذا التاريخ، وكانوا قبله لا يفكرون في هذه الوحدة ولا في أن يستقلوا بخط خاص بهم يميزهم أو يميز كتابتهم من كتابة المسند الجنوبية وكتابة الآراميين الشمالية. ومعنى ذلك أننا نتخذ من هذا النقش رمزًا لإحساسهم إحساسًا عميقًا بوجوب اتحادهم إزاء الدول التي كانت تناهضهم في الشمالين الغربي والشرقي، ونقصد دولتي الروم والفرس؛ فقد قضى الروم على دولة أسلافهم من النبط في سَلْع وتدمر وفرضوا سيادتهم على القبائل العربية المجاورة لهم، وبالمثل فرض الفرس سيادتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 على الحيرة وقبائل العراق. وهذا في الشمال، أما في الجنوب فقد هاجم الحبش اليمن واستولوا عليها في أواسط القرن الرابع لمدة عشرين عامًا، وعادوا في سنة 525 فاستولوا عليها. والذي لا ريب فيه أن هذه الأحداث جعلت العرب يشعرون أنهم مهددون في الشمال والجنوب، وليس ذلك فحسب؛ فإنهم رأوا الديانتين اليهودية والنصرانية وكذلك الديانة الفارسية المجوسية، رأوا كل هذه الديانات تغزو دينهم وكان هذا كله حافزًا لهم أن يقاوموا من يريدون أن يتخطفوهم، فنمت شخصيتهم السياسية، وأخذوا يكونون لهم إمارات مختلفة في الشمال، يتجمعون حولها، والتفَّت قلوبهم وأهواؤهم حول مكة بيت أصنامهم وكعبتهم الكبرى. وفي هذه الأثناء أخذوا يسقطون إلى الجنوب منذ القرن الرابع ليؤازروا إخوانهم اليمنيين في مقاومة عدوهم المشترك من الأحباش، وكان اليمنييون يرحبون بهم، لما يقدمونه لهم من عون ومساعدة. وليس هذا كل ما نلاحظه؛ فنحن نلاحظ أيضاً أن زمام القوافل التجارية يتحول إلى مكة؛ فلم يعد بيد اليمنيين المهددين بالأحباش ولم يعد بيد النبط المهددين بالروم، وإنما أصبح بيد المكيين البعيدين عن الدولتين، وربما كانوا يرجعون في أصولهم إلى النبط، وكأنما هبطوا إليها بعيدًا عن الروم وجيوشهم وما يبغون من فرض سيادتهم عليهم. والمظنون أن الثموديين هبطوا بدورهم إلى الطائف، أما اللحيانيون فسقطوا إلى منازل هذيل. وفي هذه الأثناء أخذت شخصية هؤلاء العرب الشماليين اللغوية تنمو نموًّا سريعًا، كما أخذ خطهم هو الآخر ينمو في سرعة على نحو ما يصور لنا ذلك نقش زبد المؤرخ بسنة 512 للميلاد. وزبد خربة بين قنسرين ونهر الفرات، ونقشها مكتوب بثلاث لغات: العربية واليونانية والسريانية، وهو يتضمن أسماء أشخاص بنوا كنيسة بموضعه، وأهميته ترجع إلى أن خصائص الخط العربي الجاهلي تتكامل فيه. ومن المؤكد أنه حدثت تطورات مختلفة في الحقبة الممتدة بينه وبين نقش النمارة هيأت له هذه الصيغة الخطية النهائية. وعلى مثاله نقش حران اللَّجا المؤرخ بسنة 568 للميلاد، وقد وُجد على باب معبد بنوه في الشمال الغربي لجبل الدروز جنوبي دمشق، وجميع كلماته وعباراته عربية، وهو يمضي على هذا النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 "أنا شرحيل "شرحبيل" بر "بن" ظلموا "ظالم" بنيت ذا المرطول "المعبد" سنة 463 بعد مفسد "خراب" خيبر بعم "بعام". وهو يشير إلى غزو أحد أمراء غسان لخيبر، وقد ألحقت بكلمة ظالم واو وفقًا لقواعد النبط في كتابة أعلامهم المنصرفة، وحذف حرف العلة من كلمة "عام" وهي نفس الصورة المألوفة في الأقلام الإسلامية الأولى. ونرى من ذلك أن الخط العربي تكامل مع أوائل القرن السادس كما تكاملت الفصحى نفسها وأخذت شكلها النهائي بشهادة نصوص الشعر الجاهلي التي يرجع أقدمها إلى أواخر القرن الخامس؛ فمنذ هذا التاريخ تقاربت لهجات القبائل، وأصبحت هناك لغة أدبية عامة، هي الفصحى، ينظم بها شعراء العرب جميعًا شعرهم. وتدل دلالات كثيرة على أن هذه اللغة أخذت تنتشر لا بين القبائل الشمالية وحدها، تلك التي عاشت في الشمال؛ فقد حملتها إلى الجنوب القبائل التي تسقط فيه وانجذب كثير من الجنوبيين إلى المحيط اللغوي الشمالي، وخاصة من كانوا يجاورون الشماليين مثل سكان نجران وقبائل الأزد في جنوبي الحجاز. ومعنى ذلك أنه كان يعاصر اكتمال الفصحى حركة تعريب قوية في الجنوب، ولسنا نريد أن نبالغ في هذه الحركة؛ فإنها إنما كانت تتناول القبائل الشمالية من هذا الجنوب، أما في داخل اليمن وفي ظَفار فقد كانت اللغة الجنوبية لا تزال سائدة كما تدل على ذلك نقوشهم. ونستطيع الآن أن نفهم قول أبي عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"1 فإنه ينص على أن لسان اليمنيين الداخليين ومن يجري مجراهم هو الذي يخالف لسان العرب الشماليين. بل لعلنا لا نبعد إذا قلنا اليمنيين الداخليين أنفسهم أخذوا في التعرب؛ فإن من يرجع إلى وثيقة أبرهة التي دونها سنة 543 للميلاد عند ترميمه لسد مأرب2 يلاحظ توًّا تقاربًا في الكلمات أسماء وأفعالًا من اللغة الشمالية، وحقًّا تحتفظ الوثيقة بجملة الخصائص اللغوية للغة الجنوبية؛ لكننا نجد في تضاعيفها صيغًا تشبه الصيغ   1 طبقات فحول الشعراء لابن سلام "طبعة دار المعارف" ص 11. 2 انظر هذه الوثيقة في الجزء الأول المجلد الرابع من مجلة المجمع العلمي العراقي وتعليق جواد علي عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 العربية شبهًا تامًّا، من مثل: "كن لهو خلفتن وقسد" أي كان له خليفة وقاسد، وكلمة قاسد معناها قائد في اللغة الجنوبية. فنحن لا نصل إلى العصر الجاهلي الذي نتحدث عنه حتى نجد الفصحى قد تكاملت وتكامل معها خطها، وأخذت تغزو العربية الجنوبية، وتنتصر عليها انتصارات تختلف قربًا وبعدًا؛ فهي في الجهات القريبة منها تكتسحها اكتساحًا، وهي في الجهات البعيدة تؤثر تأثيرًا يختلف قوة وضعفًا. على أنه ينبغي أن نعترف بأن اليمنيين كانوا في نقوشهم يحافظون على لغتهم القديمة المرتبطة بدينهم وآلهتهم، أما في حياتهم اليومية وخاصة في أطرافهم الشمالية فإنهم كانوا يتحدثون بعربيتنا الفصحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 4- لهجات جاهلية 1 على الرغم من شيوع لغة أدبية عامة في العصر الجاهلي؛ كانت هناك لهجات كثيرة تميزت بها بعض القبائل، وظلت آثارها واضحة على ألسنتها إلى القرن الثاني للهجرة، فسجَّلها اللغويون؛ غير أنهم لم يعنوا غالبًا بنسبة هذه اللهجات إلى أصحابها فقد كانت تهمهم الصحة اللغوية من حيث هي، وكأنهم يريدون التنبيه على ما يخالف اللغة الأدبية العامة التي نزل بلسانها القرآن الكريم. ونحن لا ننكر أنهم نصوا أحيانًا على القبيلة التي تنطق اللهجة الشاذة، ولكنهم لم يعمِّموا ذلك فيما حملوه إلينا بحيث أصبحنا أمام ركام واسع من لهجات لا نستطيع تعيين القبيلة أو القبائل التي كانت تنطق بها إلا في الندرة والحين بعد الحين؛ فمن ذلك الكشكشة والكسكسة، وهما تخصان بكاف المخاطبة شينًا في الوقف، وفي الوصل أحيانًا، فيقولون: رأيتكش وعليكش وبكش وكانت بعض قبائل ربيعة تلحق السين بدل   1 انظر في هذه اللهجات كتاب المزهر للسيوطي في مواضع متفرقة وكتاب الصاحبي في فقه اللغة لأحمد بن فارس ومقالة ليتمان بمجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة، المجلد العاشر، العدد الأول وكتاب Ancient west Arabian لرابين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الشين فتقول رأيتكس وعليكس وبكس، وكان منهم من يحذف الكاف ويضع مكانها الشين أو السين. ومن ذلك العنعنة، وهي في تميم وبعض قيس وأسد؛ إذ يجعلون الهمزة عينًا في بعض الكلمات، فيلفظون استعدى بدلًا من استأدى، ويلفظون أعدى بدلًا من آدى، ويقال إن بعض بنى طيء كان يقول دَأني عوضًا عن دعني. وكان هناك من يلفظ لعل لأن بإبدال اللام أيضًا نونًا، وقالوا لا بدلًا من أنْ وأنَّ عنْ وعنَّ. وتقرب من العنعنة الفحفحة، وكانت في هذيل؛ إذ تبدل الحاء عينًا، ويقال إن بني ثقيف كانوا يصنعون صنيع الهذليين في ذلك فيقولون في حتى عتى. وهذه اللهجات جميعًا كانت تشيع في بعض القبائل الشمالية المضرية، ومثلها التضجع وهو الإمالة؛ إذ كانت تميم وقيس وأسد تميل إلى إمالة الألف، وكان الحجازيون ينطقونها بتفخيم فلا يُميلون. ويظهر أن ذلك لم يكن عامًّا في القبيلة الواحدة؛ فقد كان بعض الأفراد يميل وبعضهم لا يميل، يقول سيبويه: "اعلم أنه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يميل؛ ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه فينصب بعض ما يميل صاحبه، ويُميل بعض ما ينصب صاحبه. وكذلك من كان النصب في لغته لا يوافق غيره ممن ينصب؛ ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر "الإمالة"؛ فإذا رأيت عربيًّا كذلك فلا ترينه خلَّط في لغته ولكن هذا من أمرهم". ونستطيع أن نمد ملاحظة سيبويه إلى اللهجات الشاذة التي حكيناها؛ فمن الممكن أن يكون بعض أفراد القبيلة قد تبع اللغة الأدبية العامة؛ بل من الممكن أن تكون بعض العشائر في قبيلة بعينها قد هجرت لهجة قبيلتها، ولعل هذا هو سبب اختلاط نسبة هذه اللهجات عند اللغويين؛ إذ نرى بينهم اختلافًا في الكشكشة مثلًا هل كانت في تميم أو كانت في بكر أو كانت في قيس أو كانت فيهم جميعًا، وأغلب الظن أن مرجع هذا الاختلاف إلى ما لاحظ سيبويه في الإمالة من أن عشيرة أو أفرادًا في قبيلة تميل قد لا تميل، وبالمثل يمكن أن يكون ذلك نفسه حدث في اللهجات الشاذة التي رويت عن بعض القبائل المضرية. وقد نسب اللغويون إلى قبائل مضرية وأخرى قحطانية ما سموه الاسنطاء إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 كانت قبائل هذيل وقيس والأزد والأنصار في يثرب تبدل العين نونًا في مثل أعطى فتقول أنطى، وأغلب الظن أن هذا ليس إبدالًا كما لاحظ ليتمان؛ وإنما هما فعلان مختلفان. وهناك لهجات نسبها اللغويون إلى القحطانيين ومن ذلك التلتلة في قضاعه ومضر؛ إذ يكسرون الفعل المضارع فيقولون: تِعلمون وتِكتبون وتِنجحون كما نصنع في عاميتنا المصرية. ومن ذلك العجعجة في قضاعة؛ إذ يجعلون الياء المشددة جيمًا، فيقولون تميمج في تميمي، وقال ابن فارس: إن إبدال ياء المتكلم جيمًا وُجد عند بني تميم. وقال الزمخشري إن بني حنظلة التميميين كانوا يبدلون الياء المشددة لصيغة النسبة جيمًا مشددة. ونسب الرواة إلى قبيلة كلب اليمنية ما سموه الوهم، وهو كسر الهاء في ضمير الغائبين وإن لم يكن قبلها ياء ولا كسرة فيقولون: منهم وعنهم وبينهم. وسمع عن قوم منهم ما سمي بالوكم إذ يكسرون الكاف في ضمير المخاطبين إذا سبقها ياء أو كسرة؛ فيقولون: عليكم وبكم بكسر الكاف فيهما. واشتهرت حمير وأهل اليمن وبعض عشائر طيء بالطمطمانية، وهي إبدال لام التعريف ميمًا، فيقولون في السهم والبر والصيام: أمسهم، وأمبر، وأمصيام، وهذا ليس إبدالًا؛ وإنما هي لهجة يمنية، إذا كانوا يعرِّفون بالألف والميم، ولا تزال لذلك بقية في عاميتنا المصرية؛ إذ نقول بدلًا من البارحة إمبارح وأول إمبارح. ومما ينسب إلى بعض القبائل اليمنية الشنشنة؛ إذ يجعلون كاف الخطاب شينًا مطلقًا، فيقولون بدلًا من لبيك اللهم لبيك لبيش اللهم لبيش، وهم في ذلك يلتقون بأصحاب الكشكشة في بعض وجوهها من المضريين. وينسب إلى بعض الحميريين أنهم كانوا يجعلون السين تاء في بعض الكلمات فيقولون: النات بدل الناس. ويستشهد اللغويون على ذلك بقول علباء بن أرقم: يا قبح الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار الناتِ ليسوا أعفاء ولا أكياتِ. وواضح أنه استعمل النات بدل الناس والأكياس. على أن هذا الشاعر ليس حميريًّا وإنما هو من بكر، وأكبر الظن أنه اضطر لذلك من أجل القافية ورويها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وفي كتب اللغة كثير من هذه اللهجات الشاذة التي كانت تنفرد بها بعض القبائل، وقد عقد السيوطي في المزهر فصلًا لألفاظ اختلفت فيها لغة تميم والحجازيين، ويمكن أن يمد هذا الفصل للبحث فيما كان بين القبائل الشرقية وللغربية من خلافات لغوية. ولعل أهم ما سجله اللغويون من فروق بين التميميين والحجازيين أن الأولين كانوا يحققون الهمزة وكان الثانون يسهِّلونها فمثل سأل يسأل سؤالًا عند الأولين يقابل سال يسلُ سوالًا عند الثانين، ومثل رثأت وعباءة ونبيء عند الأولين يقابل رثيت وعباية ونبي عند الثانين. ويظهر أن ذلك لم يكن يطرد في كل الكلمات ولا على الثاني في الثالث في أمر مثل رد؛ بينما كان يفك الحجازيون الإدغام فيقولون: اردُدْ، وهذه أيضًا فيما نظن كانت مسألة حِسٍّ؛ فكان بين الفريقين من يجارى الفريق الآخر. ومما اشتهر بينهما من فروق إهمالُ ما: عند التميميين في نحو: ما زيد قائم، وإعمالها عند الحجازيين فيقولون: ما زيد قائمًا، ومن ذلك أيضًا أن الحجازيين كانوا يُجرون "هلمّ" مجرى أسماء الأفعال مثل صه، فيلزمونها طريقًا واحدًا في مخاطبة المفرد والمفردة والاثنين والاثنتين والجماعتين؛ فيقولون: هلم يا رجل، وهلم يا امرأة، وهلم يا رجلان، وهلم يا امرأتان، وهلم يا رجال، وهلم يا نساء، أما التميميون فكانوا يُجرونها مجرى الأفعال، فيقولون: هلم وهلمي وهلما وهلموا وهلممن يا نسوة، وبلغة الحجازيين نزل القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ؛ ومن ذلك أمس عند الحجازيين فإنها تلزم البناء على الكسر، أما التميميون فكانوا يقولون أمسُ في الرفع وأمسَ بفتح السين في الجر والنصب. ومن ذلك هيهات؛ فإنها تلزم فتح التاء عند الحجازيين؛ بينما تلزم الكسر عند التميميين فيقولون هيهات، ورُوي فيها الإعراب بالحركات. ومن ذلك تنوين الترنم في قوافي الشعر؛ فقد كان الحجازيون يطلقون القافية، ليفرقوا بين الشعر الذي يغنى والكلام المنثور، وكان التميميون يبدلون المد في القافية نونًا، على نحو ما عرف عن جرير في قصيدته: أَقِلِّي اللوم عاذل والعِتَابَنْ ... وقولي إن أصبتُ لقد أصابَنْ فقد أبدل المد نونًا في "العتابن" و "أصابن" وهو يحذف في لغة الحجازيين، فيصبح البيت على هذا النمط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبتُ لقد أصابا وروى اللغويون كثيرًا من اختلاف الفريقين في همس الحركات والجهر بها ومدِّها؛ فبينما يمد الحجازيون الألف في مثل كلاب يقصرها التميميون فيقولون كلب، وبينما يقول الأولون ناداه يقول الثانون: ندَهُ، وبذلك ننطق في عاميتنا المصرية، ويقول الحجازيون خمس عشرةَ بتسكين الشين وتميم تفتحها، ومنهم من يكسرها ومن يثقلها، ويقول الحجازيون: يبطِش بكسر الطاء ويقول التميميون: يبطُش بضمها، ويقول الحجازيون: مرية بكسر الميم، ويقول التميميون: مرية بضمها، ويقول الحجازيون: الحِج بكسر الحاء، ويقول التميميون: الحج بفتحها، ويقول الحجازيون تخذت ووخذت ويقول التميميون اتخذت، ويقول الحجازيون قلنسية بالياء ويقول التميميون قلنسوة بالواو، ويقول الحجازيون: ينقد الدراهم ويقول التميميون ينتقد، ويقول الحجازيون: القير ويقول التميميون القار، ويقول الحجازيون: الكراهة، ويقول التميميون: الكراهية، ويقول الحجازيون: ليلة ضحيانة "مصحية" ويقول التميميون: اضحيانة، ويقول الحجازيون: منذ، ويسقط التميميون النون فيقولون: مذ، ويقول الحجازيون: برأت من المرض بفتح الراء في الفعل ويقول التميميون: برئت بكسرها، ويقول الحجازيون: أنا منك براء، ويقول التميميون: بريء، ويقول الحجازيون: قلوت القمح وأقلوه قلوًا ويقول التميميون: قليته وأقليه قِلىً، ويقول الحجازيون: لي بك إسوة وقدوة بكسر أولهما ويضمه التميميون فيقولون: أسوة وقدوة بالضم، ويقول الحجازيون: الشفع والوتر بفتح الواو في الوتر، ويكسرها التميميون فيقولون: الوتر، ويقول الحجازيون: وكدت، والتميميون أكدت. ولعل خير مرجع يصور الاختلافات بين الفريقين هو قراءات القرآن الكريم؛ فمثلًا في قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة} قرأ الجمهور نظرة بكسر الظاء وهي لغة قريش، وقرأ مجاهد والضحاك نظرة بسكون الظاء وهي لغة تميم، وقال جلَّ ذكره: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} وقرئت رضوان بكسر الراء وهي لغة الحجازيين وقرئت بضمها وهي لغة تميم وبكر، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} وقرأ الجمهور كسالى بضم الكاف، وهي لغة الحجازيين، وقرأها الأعرج بالكسر وهي لغة تميم وأسد، وقال: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَة} وقرأ الجمهور غلظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بكسر الغين وهي لغة الحجازيين، وقرأها السلمي وأبو حَيْوة بالضمة، وهي لغة تميم، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} وقرأ الجمهور يستحيي بياءين، وهي لغة أهل الحجاز وقرأ ابن كثير يستحي بياء واحدة، وهي لغة تميم، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُل} وقرئت الرسل بتسكين السين وهي لغة الحجازيين، وقرئت بضمها وهي لغة التميميين، وقال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وقرئت الهدي بتسكين الدال وتخفيف الهاء، وهي لغة أهل الحجاز وقرئت بكسر الدال وتشديد الياء، وهي لغة تميم، وقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقرئت الحصاد بكسر الحاء وهي لغة الحجازيين وبفتحها وهي لغة تميم وقيس، وقال تبارك وتعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} وقرئت عشرة بتسكين الشين وهي لغة الحجازيين وقرئت بكسرها وهي إحدى لغات تميم فيها كما قدمنا. وهناك لهجات كثيرة نسبت إلى بعض القبائل؛ فقد قالوا إن بني مازن كانوا يبدلون من الباء ميمًا، فيقولون: باسمك بدلًا من ما اسمك، ويقولون بكة بدلًا من مكة والبوباة بدلًا من الموماة وهي الفلاة، ويقال إن اطبأن بدلًا من اطمأن لغة في بني أسد. ولا نعرف بالضبط أكان ذلك يشيع في كل الكلمات الميمية أو أن ذلك كان خاصًّا ببعض الكلمات. ويقال: إن بعض بني تميم كان ينطق أثاثي بدلًا من أثافي جمع أثفية، ولعل كلمة تم بمعنى فم عند إخواننا الشاميين قد تطورت عن ثم؛ فقلبت الفاء فيها أولًا ثاء ثم أصبحت مع الزمن تاء تخفيفًا. ويقال إن بني عبد القيس في البحرين كانوا يقولون رنز بدلًا من رز وأرز، كما كانوا يقولون إنجاص في إجاص، ويقال إن بعض بني تميم كانوا يقولون في أفلت أفلط بالطاء، ويقال إن قريشًا كانت تقول التابوت بينما كان الأنصار في يثرب يقولون التابوه، ويروى عن بعض الطائيين أنهم كانوا يقلبون تاء الجمع المؤنث هاء في الوقف فيقولون البناه والأخواه في البنات والأخوات. ويقال إن بعض ربيعة كانوا يقولون ذكر في ذكر. على نحو ما نعرف في عاميتنا، ويقال أيضًا: إن بعض التميميين كانوا يبدلون السين صادًا في مثل سوق وساق، وفي عاميتنا راس بمعنى رأس. وتتبادل الضاد والظاء في كثير من الكلمات؛ ففي لغة تميم فاضت نفسه، وفي لغة الحجازيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 والقيسيين والطائيين: فاظت نفسه بالظاء. ومن هذه اللهجات أن طيئًا كانت تفتح الفعل اليائي في مثل بقي ورضي؛ فتقول: بقى ورضى. وكانوا يقولون في مثل توصية وجارية وناصية مما ياؤه مفتوحة توصاة وجاراة وناصاة. وأثر عن هذيل أنها كانت تستخدم "متى" حرف جر بمعنى "من". وأنها كانت مثل كنانة والحجازيين تقول: نعم بكسر العين بدلًا من نعم وأنها كانت تكسر الباء في ابن فتقول ابِن. وأنها كانت تقول في مثل وشاح. ومر بنا أنها كانت تقلب الحاء عينًا في مثل حتى؛ فتقول عتى، وأنها كانت تقول: في مثل أعطى أنطى، وكانت تقلب الألف ياء في مثل عصاي وهواي وفتاي فتقول عصى وهوى وفتى وكانت تنطق مثل قال وباع إذا بنيا للمجهول قول وبوع بقلب الألف واوًا، وكانت لا تشبع كسرة المنقوص بل تهمسها وتخطفها كما جاء في بعض القراءات: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} بدون ياء. وقد عقد أحمد بن فارس في كتابه "الصاحبي" فصلًا حاول فيه أن يضبط اختلاف لهجات العرب، فقال: "اختلاف لغات العرب من وجوه: أحدها الاختلاف في الحركات كقولنا "نستعين" بفتح النون وكسرها، قال الفراء: هي مفتوحة في لغة قريش وأسد، وغيرهم يقولونها بكسر النون. ووجه آخر: الاختلاف في الحركة والسكون مثل قولهم معكم بفتح العين وتسكينها. ووجه آخر وهو الاختلاف في إبدال الحروف نحو أولئك وأولالك، ومنها قولهم: أن زيدًا وعنَّ زيدًا. ومن ذلك الاختلاف في الهمز والتليين نحو مستهزئون ومستهزون. ومنها الاختلاف في التقديم والتأخير نحو صاعقة "في لغة الحجازيين" وصاقعة "في لغة التميميين". ومنها الاختلاف في الحذف والإثبات نحو استحييت واستحيت وصددت وأصددت. ومنها الاختلاف في الحرف الصحيح يُبْدَل حرفًا معتلا نحو: أما زيد وأيما زيد. ومنها الاختلاف في الإمالة والتفخيم في مثل قضى ورمى؛ فبعضهم يفخم وبعضهم يميل. ومنها الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله؛ فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضم فيقول: "اشتروُا الضلالة" و "اشتروِ الضلالة". ومنها الاختلاف في التذكير والتأنيث؛ فإن من العرب من يقول هذه البقر وهذا النخيل، ومنها الاختلاف في الإدغام نحو مهتدون ومهدّون. ومنها الاختلاف في الإعراب نحو: ما زيد قائمًا وما زيد قائمًا، وإن هذين وإن هذان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وهذان بالألف دائمًا لغة لبني الحارث بن كعب، ومنها الاختلاف في صورة الجمع نحو أسرى وأسارى. ومنها الاختلاف في التحقيق والاختلاس نحو يأمركم بضم الراء وتسكينها ونحو: عُفي له بتسكين الفاء وكسرها. ومنها الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل هذه أمة وهذه أمتْ. ومنها الاختلاف في الزيادة نحو أنظر وأنظور" وقال ابن فارس: إنه "يقع في الكلمة الواحدة لغتان كقولهم الحصاد والحصاد بكسر الحاء وفتحها، ويقع في الكلمة ثلاث لغات، نحو: الزُّجاج والزَّجاج والزِّجاج، بضم الزاي وفتحها وكسرها، ويقع في الكلمة أربع لغات، ويكون فيها خمس لغات نحو: الشَّمال والشَّمَل والشَّمْل والشَّمْأل والشَّيْمل. ويكون فيها ست لغات نحو: قسطاس بضم القاف وكسرها وبإبدال السين صادًا مع ضم القاف وقُستاط وقِسَّاط وقُسَّاط. ووراء هذه الاختلافات في نطق الكلمات كان بينهم اختلاف كثير في التعبير عن بعض المسميات مما نشأ عنه كثرة المترادفات في العربية مثل الذهب والعسجد والغيث والمطر والقمح والبر، قال الجاحظ في البيان والتبيين: "القمح لغة شامية والحنطة لغة كوفية والبر لغة حجازية" ويقول المفسرون في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَفُومِهَا} الفوم هو الحنطة. وكما يكون الترادف في الأسماء يكون في الأفعال مثل تقاتلوا وتعاركوا وتحاربوا وتواقعوا وتخاصموا. وكثيرًا ما ينشأ الترادف من اختلافات لهجاتهم في حذف بعض الحروف أو إبدال بعضها ببعض مثل جدث وجدف بمعنى القبر ومثل تابوت وتابوه وثابوت ومثل ادكر واذكر وساط وشاط بمعنى اختلط، ومثل لثام ولفام في لغة ومثل سجعت الحمامة وسجحت بالحاء ومثل حظوة وحظة في لغة. والترادف في العربية كثير كثرة مفرطة، وهو يُرَدُّ في جمهوره إلى اختلاف اللهجات واختلاف القبائل فيما وضعته للمعاني الحسية والذهنية من أسماء وأفعال؛ فإن اللغويين جمعوا كل ما دار على ألسنة القوم، وبذلك اتسعت مادة المعجم العربي اتساعًا شديدًا، وهو في حقيقته معجم عدة لهجات، نُظمت في سلك واحد هو العربية، وحقًّا ميز اللغويون في مباحثهم الشواذ والشوارد والنوادر والمنكر والمتروك وغير الفصيح وساقوا في ذلك شواهد احتفظ السيوطي في المزهر بكثير منها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المعجم العربي اتساعًا شديدًا، وهو في حقيقته معجم عدة لهجات، نُظمت في سلك واحد هو العربية، وحقًا ميَّز اللغويون في مباحثهم الشواذ والشوارد والنوادر والمنكر والمتروك، وغير الفصيح وساقوا في ذلك شواهد احتفظ السيوطي في المزهر بكثير منها؛ ولكنهم حين ألفوا المعاجم حشدوها فيها جميعًا. وقد ذهبوا يحصون أسماء السيف مثلًا ويقولون إنها خمسون، وبالمثل أحصوا أسماء الأسد والفرس والبعير، وأمدتهم الاختلافات اللغوية بين القبائل بمدد لا ينفد أو بعبارة أدق لا يكاد ينفد في ذلك كله. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن لغة من اللغات لا يمكن أن تجاري العربية في هذا الباب باب الترادف؛ فهو باب واسع فيها، وقد أعدها ليشيع فيها أسلوب من التكرار الصوتي والترادف الموسيقي عند الجاحظ وأضرابه. ومما يرجع أيضًا إلى اللهجات الجاهلية وتباين التعبير فيها عن المسميات وتعدده باب الأضداد؛ إذ نجد كلمة واحدة تستعملها قبيلة بمعنى، ثم تشيع عند قبيلة ثانية لا بمعنى مغاير له فحسب؛ بل بمعنى مضاد يناقضه، مثل جلل بمعنى عظيم فإننا نجد المعاجم تنص على أنها تأتي بمعنى حقير، ومن ذلك الجون يوصف به الأسود والأبيض ويدل عليهما، ومثله البَسْل بمعنى الحلال والحرام، وعلى شاكلة التضاد في الأسماء قد يكون التضاد في الأفعال فتعبر عن معنيين متناقضين مثل رجا بمعنى رغب وخاف ومثل شرى بمعناها الذي نعرفه وهو اشترى وبمعنى باع الذي يضاده. وتكثر الأضداد لنفس السبب الذي كثرت من أجله المترادفات، وهو أنها ليست من استعمال قبيلة واحدة، وقد أفرد اللغويون لها بسبب كثرتها أبحاثًا وكتبًا مثل كتاب الأضداد لابن الأنباري. ونحن إنما نقصد ما يتضح فيه التضاد مما مثلنا به؛ فإن اللغويين وسعوا مفهوم الضد، حتى شمل ما يكون بين استعمالين من فروق ضئيلة في المعنى مثل ناء بمعنى حمل، وبمعنى حمل بمشقة، وأيضًا فإنهم أدخلوا في الأضداد ما نشأ عن المجاز والاستعارة، كاستخدام العرب كلمة السليم للملدوغ بأفعى تفاؤلًا؛ فهذا ونحوه لا يعد من الأضداد بمفهومها اللغوي الدقيق؛ إنما الذي يعد من الأضداد مثل ما ذكرناه ومثل الرهوة بمعنى الارتفاع والانحدار ومثل الصريم بمعنى الليل والصبح والصارخ بمعنى المغيث والمستغيث والزبية للمكان المرتفع ولحفرة الأسد. ومرجع ذلك كما قلنا أنهم كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 في الجزيرة متباعدين؛ فقد تطلق قبيلة كلمة على مسمى، ولا تسمع بها القبيلة البعيدة، فتضعها لمسمى يضاده ويكون ذلك اتفاقًا ومحض صدفة، قال أبو عبيد في باب الأضداد من كتابه الغريب المصنف: سمعت أبا زيد بن أوس الأنصاري يقول: "السُّدْفة في لغة تميم الظلمة والسدفة في لغة قيس الضوء، ولمقت الشيء ألمقه لمقًا إذا كتبته في لغة بني عقيل وسائر قيس يقولون لمقته بمعنى محوته1" وعن ابن دريد: "خرج رجل من بني كلاب أو من سائر بني عامر بن صعصعة إلى ذي جدن "من أقيال حمير" فَأطلع إلى سطح، والملك عليه؛ فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثب أي اقعد، فقال: ليعلم الملك أني سامع مطيع، ثم وثب من السطح. قال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن! إن الوثب في كلام نزار الطفر "القفز"؛ فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم"2 ولم يكن هذا التضاد بين لغة نزار الفصحى ولغة الجنوبيين الحميرية فحسب؛ بل كان أيضًا في كثير من الكلمات التي كانت تدور على ألسنة القبائل الشمالية لتباعد أوطانها ولا نريد أن نمضي في تصوير الاختلافات بين لهجات القبائل في الجاهلية، أكثر من ذلك، لسبب طبيعي وهو أننا لا نستطيع أن نستوعبها في صحف معدودة؛ إنما أردنا أن نكشف عن بعض جوانبها ليتضح أنه كانت في الجاهلية لهجات كثيرة، سجل منها اللغويون أطرافًا، ومن غير شك لم يسجلوها جميعًا لأنها لم تكن تعنيهم في حد ذاتها؛ إنما كان يعنيهم التنبيه على ما يخالف الفصحى التي نظم بها الشعر الجاهلي ونزل بها القرآن الشريف، ومن أجل ذلك لم ينصوا في أكثر الأحوال على القبيلة التي كانت تنطق باللهجة الشاذة، وأيضًا فإنهم مع نصهم أحيانًا على القبيلة لا نستطيع أن نتبين كما قدمنا هل كل أفرادها كانوا يصطنعون تلك اللهجة أو أن ذلك كان خاصًا ببعض عشائرها أو ببعض أفرادها. ولعل في هذا كله ما يوضح صعوبة دراسات اللهجات الجاهلية؛ فعلى الرغم من مادتها الوفيرة التي جمعها اللغويون تظل غير واضحة ويظل المجال واسعًا فيها للظن والتخمين، وخاصة حين نحاول أن نضع حدودًا للهجة قبيلة بعينها كلهجة تميم أو لهجة هذيل. ونفس القدماء اضطربوا في نسبة كثير مما نسبوه إلى القبائل، فتارة يجعلونه لتميم أو لعشيرة تميمية   1 المزهر 1/ 389. 2 المزهر 1/ 396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وتارة يجعلونه لقيس أو لعشيرة قيسية، وأخرى يجعلونه لقضاعة أو عشيرة يمنية، وقد يشركون بين قبائل متباعدة في الظاهرة اللغوية الواحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 5- سيادة اللهجة القرشية يدل ما بين أيدينا من شعر جاهلي دلالة قاطعة؛ على أن القبائل العربية الشمالية اصطلحت فيما بينها على لهجة أدبية فصحى كان الشعراء على اختلاف قبائلهم وتباعدها وتقاربها ينظمون فيها شعرهم؛ فالشاعر حين ينظم شعره يرتفع عن لهجة قبيلته المحلية إلى هذه اللهجة الأدبية العامة، ومن ثم اختفت جملة الخصائص التي تميزت بها كل قبيلة في لهجتها فلم تتضح في شعر شعرائهم إلا قليلًا جدًّا. وقد اختلفت آراء1 المستشرقين في هذه اللهجة التي كان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم؛ فقال نولدكه: إن الاختلافات بين اللهجات في الأجزاء الأساسية من جزيرة العرب، مثل الحجاز ونجد وإقليم الفرات، كانت قليلة، وقد تركبت منها جميعًا هذه اللهجة الفصحى. وتبعه جويدي يقول: إنها ليست لهجة معينة لقبيلة بعينها؛ إنما هي مزيج من لهجات أهل نجد ومن جاورهم. وذهب فيشر إلى أنها لهجة معينة؛ ولكنه لم ينسبها إلى قبيلة من القبائل. وذهب نالينو إلى أنها لغة القبائل التي اشتهرت بنظم الشعر والتي جمع اللغويون والنحاة من أهلها مادتهم اللغوية وشواهدهم، وهي قبائل معد التي جمع ملوك كندة كلمتها تحت لواء حكم واحد قبل منتصف القرن الخامس الميلادي. وفي رأيه أنها تولدت من إحدى اللهجات النجدية، وتهذبت في زمن مملكة كندة، وصارت اللغة الأدبية السائدة بين العرب. ويرى هارتمان وفولرز أنها لهجة أعراب نجد واليمامة وقد أدخل فيها الشعراء تغيرات كثيرة، ومضى فولرز يزعم أن بقية بلاد العرب كانت تتكلم لغة مخالفة، ليصل إلى رأيه الذي سبق أن دحضناه، وهو أن القرآن الشريف نزل بلغة شعبية مكية،   1 راجع في هذه الآراء مقالة جواد علي عن لهجات العرب قبل الإسلام في كتاب الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة "نشر مكتبة النهضة في القاهرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ثم كتب بعد ذلك بالأسلوب الفصيح. وزعم بروكلمان أن الفصحى كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات؛ وإن غذتها جميعًا1. وعلى ضوء من رأي نالينو حاول بلاشير أن يقيم حدودًا لهذه اللهجة الأدبية معتمدًا على القبائل التي كان يأخذ عنها اللغويون والنحاة مادتهم، وهي تميم وقيس وأسد وهذيل وعليًا هوازن وبعض العشائر الكنانية والطائية، وجعل هذه الحدود محصورة بين خطين يمتد أحدهما على مسافة بضعة أميال من جنوبي مكة متجهًا شرقًا إلى الخليج العربي في البحرين، ويمتد ثانيهما في الشمال من ضواحي يثرب إلى شمالي الحيرة. وذهب يزعم أن الفصحى مشتقة من الشعر الجاهلي والقرآن معًا وأن القرآن لا يستند على اللهجة المكية؛ وإنما على لغة هذا الشعر، وهي لغة تولدت من لهجة محلية ارتفعت إلى مرتبة لغة أدبية. ولم يبين لنا هذه اللهجة التي تسامت على أخواتها ولا أسباب هذا التسامي، ومضى يشكك في أن تكون لهجة قريش هي التي حققت لنفسها هذا التسامي2. وواضح أن كل هذه الآراء تعتمد على الفرض والحَدْس، وقد أراد بها أصحابها أن يناقضوا أشد المناقضة ما استقر في نفوس أسلافنا من أن هذه اللهجة الفصحى؛ إنما هي لهجة قريش التي نزل بها الذكر الحكيم، يقول أبو نصر الفارابي: "كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وأبينها إبانة عما في النفس3". ويقول أحمد بن فارس نقلًا عن إسماعيل بن أبي عبيد الله: "أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالِّهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة؛ وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام، وولاته؛ فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود   1 تاريخ الأدب العربي لبروكلمان "طبع دار المعارف" 1/ 42. 2 انظر تاريخ الأدب العربي لبلاشير 1/ 77 وما بعدها. 3 المزهر للسيوطي 1/ 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها؛ فصاروا بذلك أفصح العرب؛ ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية1 قيس ولا كشكشة أسد ولا كسكسة ربيعة2". ويقول ابن خلدون: "كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم" فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم" حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3. وفي رأينا أن المستشرقين جانبهم التوفيق في الحدس والفرض حين رفضوا نظرية العرب في أن الفصحى هي عين اللهجة القرشية؛ فقد ذهبوا يطلبونها في لهجات القبائل النجدية، متناسين أن شيوع لهجة بعينها لا بد أن تقترن به حالة سياسية أو روحية أو حضارية، تهيئ لها هذا الشيوع والانتشار؛ بحيث تصبح لغة الفكر والشعور للجماعة الكبيرة، فتتخذها أداة لأدبها؛ بينما تظل تتحدث في حياتها بلغتها المحلية. وما تزال اللغة الأدبية في الذيوع، حتى تظفر بتلك اللغات المحلية التي تستخدم في الحياة اليومية العملية. ونحن إذا طلبنا سببًا لتفوق لغة قبيلة في نجد على جميع اللغات واللهجات المجاورة لها أعوزنا ذلك كما أعوز المستشرقين؛ بينما إذا طلبنا ذلك في قريش وجدنا أسبابًا كثيرة تعين عليه؛ فقد كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي؛ إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية، وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الدينية وفي أسواقها القريبة والبعيدة. ومعنى ذلك أن هناك أسبابًا دينية واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات القبلية في الجاهلية، وقد تداخلت فيها أسباب سياسية؛ فإن القبائل العربية كانت   1 العجرفية: التقعر وطلب الغريب الوحشي من الكلام 2 انظر الصاحبي في فقه اللغة "طبعة المؤيد" ص23. 3 راجع الفصل الثاني والثلاثين من القسم السادس في مقدمة ابن خلدون ص 409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتين المسيحية واليهودية على دينها الوثني؛ فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت أفئدتها إليها؛ وبذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هي اللغة الأدبية التي يصوغون فيها أدعيتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوقها عكاظ؛ فقد كانت سوقًا أدبية كما كانت سوقًا تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولم يُرْوَ ذلك عن سوق سواها. ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردوه منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحابك قلب في الحسان طروب فقالوا: هاتان سمطا الدهر1". وإذن فنحن لا نعدو الواقع إذا قلنا إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب؛ بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين. وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران. ومما يؤكد ذلك أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدِّثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية أنها كانت تجد صعوبة في التفاهم معه، وأيضًا فإنه كان يرسل إليهم دعاة يعظونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بن جبل، ولو أنهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى؛ لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام. أما في الشمال فقد كانت الفصحى معروفة في كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته؛ فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة   1 أغاني "ساسي" 21/ 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قريش تحتم أن تكون هي اللغة الأدبية التي كانت سائدة. أما ما يردده اللغويون من أن القرآن الكريم نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العَجُز من هوازن، وهم الذين يقال لهم عليا هوازن مثل سعد بن بكر بن معاوية، وثقيف فذلك في رأيي إنما هو تفسير منهم للحديث النبوي: "أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" فقد فسروا الحرف باللغة أو اللهجة ونظروا فوجدوا لهجات العرب ولغاتها كثيرة، فاختاروا منها سبعًا هي أفصحها، وهي التي كان يرحل إليها اللغويون لجمع مادتهم اللغوية الصحيحة، وقد اختلفوا في بعضها. وفي رأينا أن الحديث لا يراد به تخصيص؛ وإنما يراد به الترخيص لقبائل العرب أن تقرأه بلهجاتها المختلفة متى جاءت بها الرواية الصحيحة من مد وإمالة وتحريك للحروف وتسكين وتشديد تسهيلًا عليهم وتيسيرًا حتى لا يجدوا مشقة وثقلًا في نطق بعض ألفاظه. روى الرواة عن أبي حاتم السجستاني أنه قال في كتابه الكبير في القراءات: "قرأ علي أعرابي بالحَرم "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طيْبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ" فقلت: طوبى، فقال: طيبى، فلما طال عليّ قلت: طوطو قال: طي طي1". فلم يستطع أن يثني طبعه لأن لهجته القبلية في مثل طوبى مما وزنه فعلى تنطقه طيبى على وزن فعلى بكسر الفاء، فتقلب الواو ياء والضمة في أول الكلمة كسرة. ولم ينفع في الأعرابي لَفْتُ أبي حاتم ولا تمرينه له على نطق طوبى. ولمثل ذلك تعددت قراءات القرآن الكريم، تخفيفًا للمشقة عليهم في تلاوته. وفعلًا قرأوه بلهجاتهم المرخَّص بها، وكان ذلك سبب اختلاف قراءاته التي دونها العلماء. ونعتقد أن تفسير الحديث بأن القرآن نزل بسبع لغات معينة هي أفصح لغات العرب هو الذي ضلل المستشرقين؛ فإنهم ظنوا أنه نزل بلغات قبائل نجدية ولم ينزل بلغة قريش، وكأنهم لم يلاحظوا أن نفس هذه القبائل التي عينها اللغويون هي أقرب القبائل إلى قريش، ومن هنا جاءت فصاحتها، ولعل ذلك هو الذي جعل الطبري يذهب إلى أن لغة قريش نفسها كانت تستوعب الأحرف السبعة التي أشار إليها الحديث النبوي. وليس بمعقول أن يترك الرسول لغة قومه الذين بعث فيهم إلى   1 الخصائص لابن جني بتحقيق محمد علي النجار "طبع دار الكتب المصرية" 1/ 75- 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لغات أقوام آخرين، وفي القرآن الكريم نفسه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فالقرآن بشهادته إنما نزل بلغة قريش، وما دام المستشرقون يسلمون بأنه نزل بالفصحى، مع استثنائنا لفولرز وأضرابه؛ فإن هذه الفصحى إذن هي نفس لغة قريش التي لم يكن بها عوج من لغات أو لهجات شاذة كالعنعنة والكشكشة وكسر أول المضارع. وربما كان من الأسباب التي ضللت المستشرقين أيضًا ودفعتهم عن محجة الصواب أنهم وجدوا اللغويين حين أخذوا يجمعون مادتهم اللغوية يرحلون إلى قبائل نجدية منحازين عن قريش، وكأنهم نسوا أن الزمن قد تغير وأن مكة دخلها أعاجم كثيرون في الإسلام وأن الفصحى فيها في أثناء القرن الثاني قرن جمع اللغة وتدوينها دخلتها شوائب من الأعاجم والموالي الذين كثروا فيها كثرة مفرطة، ومن أجل ذلك رحل اللغويون إلى قبائل نجد التي كانت لا تزال تحتفظ بصفاء لغتها. وقد شاع أن أفصح العرب لعصرهم عُليا هوازن وسفلى تميم وأسد وكنانة وهذيل. ويوضح أبو نصر الفارابي السبب في أنهم اقتصروا على تلك القبائل في جمع اللغة فيقول: "والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتُدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سُكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عُمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم1".   1 المزهر 1/ 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فاللغويون في القرن الثاني حين أقبلوا على القبائل النجدية يجمعون منها مادتهم؛ إنما كانوا يتحرون الينابيع التي لا تزال نقية صافية، وليس في عملهم ما يشكك أي تشكيك في لغة مكة في أثناء العصر الجاهلي وفترة نزول القرآن الكريم؛ فقد التمسوا بغيتهم في القبائل المجاورة لقريش مثل كنانة وهذيل وبعض عشائر قيس. ومن المؤكد أن الفوارق في الجاهلية بين لهجة مكة ولهجات هذه القبائل كانت ضئيلة وأن هذه الفوارق كانت تتسع كلما ابتعدنا جنوبًا أو شرقًا أو شمالًا. على أنه ينبغي أن لا نبالغ في تصورها؛ فإن الشعراء تضافروا منذ أوائل العصر الجاهلي على إذاعة اللهجة المكية في قبائلهم بما كانوا ينظمون فيها من أشعارهم. ومعنى ذلك أن لهجة قريش لم يبدأ ذيوعها وانتشارها بين العرب في الإسلام عن طريق القرآن الكريم كما ظن ذلك بعض الباحثين؛ فقد كانت ذائعة منتشرة بينهم منذ العصر الجاهلي، بل منذ أوائله، فأقدم نصوصه كأحدثها نظم بهذه اللهجة القرشية التي اتخذوها لغة أدبية عامة لهم، والتي سُمِّيت بعد بالفصحى؛ فقد كانوا يشعرون بروعتها، فاندفعوا يحاكونها، وقد امتلأت نفوسهم بأهلها ومكانتهم الروحية والاقتصادية والسياسية. ومن غير شك بلغ انتشار هذه اللهجة الذروة في الإسلام؛ فقد أقبل العرب في كل مكان شمالًا وجنوبًا على الارتشاف من أفاويق لغته، وقد أخذ يعممها لا في أنحاء الجزيرة القاصية وحدها؛ بل في كل بلد إسلامي شرقًا وغربًا، فإذا أعلامها تخفق على الدروب من أواسط آسيا إلى مشارف المحيط الأطلسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الفصل الخامس: رواية الشعر الجاهلي وتدوينه 1- رواية العرب للشعر الجاهلي مرّ بنا في غير هذا الموضع أن العرب الشماليين نمو الخط النبطي وتطوروا به إلى خطهم العربي منذ أوائل الجاهلية أو لعلهم وصلوا إلى ذلك قبل فجرها؛ فقد وجدت نقوش مختلفة تشهد بذلك، ونرى شعراءهم يشيع عندهم تشبيه الأطلال ورسوم الديار بالكتابة ونقوشها من مثل قول المرقش الأكبر"1. الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم ويقال إنه كان يحسن الكتابة وإنه كتب على بعض الرحال قصيدة له حين وقع أسيرًا في يد بعض العرب2 ويقول سلامة بن جندل3: لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب فمطرق. ولعله يقصد بالكتاب الصحيفة، ويقول لبيد في مطلع معلقته: عَفَتِ الديارُ محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها4 فمدافع الريان عري رسمها ... خلقًا كما ضمن الوحي سلامها5 وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زُبُرٌ تجد متونها أقلامها6   1 المفضليات "طبع دار المعارف" ص 237، رقش: زين ونمق. 2 الأغاني "طبعة دار الكتب" 6/ 130. 3 الأصمعيات "طبعة دار المعارف" ص 146 والصليب ومطرق: موضعان. 4 عفت: درست وامحت، تأبد توحش. والمحل: حيث يحل القوم. والمقام: المجلس، ومنى: موضع يحمي ضربة، والغول والرجام: جبلان أو موضعان. 5 مدافع الريان: موضع، والرسم: آثار الديار، وخلقا: دروسًا، والوحي: جمع وحي وهو الكتابة، والسلام: الحجارة الرقيقة. 6 الزبر: جمع زبور وهو الكتاب، وتجد: تجدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فهو يشبه رسوم الديار بالوحي أو الكتابة في الحجارة الرقيقة، ويقول: إن السيول جلت التراب عن الطول؛ حتى لكأنما آثار الديار كتبٌ طمست فأعبد بعضها على بعض وترك ما تبين منها؛ فهي مختلفة، ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي1: لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب ويقول الحارث بن حلزة اليشكري البكري2: لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس ويدور هذا التشبيه كثيرًا في أشعارهم؛ مما قد يدل على أن كثيرين منهم كانوا يعرفون الكتابة، بل إن فريقًا منهم، كما يقول الرواة، كان يعرف الكتابة الفارسية على نحو ما حدثونا عن لقيط بن يعمر الإيادي وعدي بن زيد العبادي3. ومما لا شك فيه أن الكتابة كانت شائعة في الحواضر وخاصة في مكة التاجرة, وفي السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء الأسرى القرشيين الكاتبين في بدر أن يعلم الأسير منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة4، وكان من يكتبون بين يديه الوحي وفيما يعرض من أموره وأمور المسلمين في عقودهم ومعاملاتهم كثيرين5؛ فالكتابة كانت معروفة بل كانت شائعة في الجاهلية، ورويت أخبار متفرقة تدل على أن بعض الشعراء استخدمها بلاغًا شعريًّا لقومه في بعض ما حزبه من الأمر6. وغالى كرنكو فزعم أن نظم الشعر في الجاهلية كان مرتبطًا بها وبمعرفتها؛ بدليل اختلاف القراءات للفظة الواحدة، وأيضًا فإن استخدام الشاعر لبعض القوافي النادرة يدل على أنه كان يلاحظ العين أكثر مما يلاحظ الأذن7.   1 المفضليات ص204 والرق: الجلد الرقيق. 2 المفضليات ص 132 والحبس بتثليث الحاء: موضع، وآياتها: علاماتها، والمهارق: الصحف. 3 أغاني 2/ 101 وطبعة الساسي 20/ 24 والشعر والشعراء "طبعة دار المعارف" 1/ 180. 4 طبقات ابن سعد 2/ 1: 14. 5 الوزراء والكتاب الجهشياري "طبعة الحلبي" ص 12. 6 انظر الباب الثاني في كتاب مصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد "طبع دار المعارف". 7 انظر مقالة له بعنوان The Use of Writing for the Preservation of Ancient Arabic poetry نشرت مع مقالات أخرى في كتاب: A Volume of Oriental Studies to E.G Browne, Edited by J.W. Arnold. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وأكبر الظن أن اختلاف القراءة إنما نشأ في عصر التدوين أو بعبارة أخرى في القرن الثاني للهجرة، وأيضًا فإن الشعر فن سمعى، وليس فنًّا بصريًّا. والحق أنه ليس بين أيدينا أي دليل مادي على أن الجاهليين اتخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ربما كتبوا بها بعض قطع أو بعض قصائد؛ ولكنهم لم يتحولوا من ذلك إلى استخدامها أداة في نقل دواوينهم إلى الأجيال التالية؛ فقد كانت وسائلها الصعبة من الحجارة والجلود والعظام وسعف النخل تجعل من العسير أن يتداولها الشعراء في حفظ دواوينهم؛ إنما حدث ذلك في الإسلام، بفضل القرآن الكريم وما أشاعه من كتابة آية وتحول جمهور العرب معه من أميتهم الكبيرة إلى قارئين يتلون. ولا نكاد نمضي طويلًا في العصر الإسلامي حتى تتحول العربية من لغة مسموعة فحسب إلى لغة مسموعة مكتوبة. وهو تحول شارك فيه العرب والمستعربون وكل ما بين أيدينا من روايات عن كتابة بعض الأشعار في الجاهلية إنما يدل على أن الكتابة كانت معروفة، وخاصة في البيئات الآخذة بشيء من الحضارة، ونقصد المدن مثل مكة والمدينة والحيرة؛ ولكنه لا يدل بحال على أنها اتخذت أداة لحفظ الشعر الجاهلي ودواوينه. ولو أنهم كان لهم كتاب جمعوا فيه أطرافًا من أشعارهم لما أطلق الله جل وعز على القرآن اسم الكتاب؛ فلا كتاب لهم من قبله لا في الدين ولا في غير الدين. أما ما يقال من أن المعلقات كانت مكتوبة ومعلقة في الكعبة فمن باب الأساطير، وهو في حقيقته ليس أكثر من تفسير فسر به المتأخرون معنى كلمة المعلقات؛ فقد جاء في العقد الفريد أنه بلغ من شغف العرب بالشعر أن "عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلقتها في أستار الكعبة؛ فمنه يقال: مذهَّبة امرئ القيس ومذهبة زهير، والمذهبات السبع، وقد يقال لها المعلقات"1 ولو أنهم تنبهوا إلى المعنى المراد بكلمة المعلقات ما لجأوا إلى هذا الخيال البعيد. ومعناها المقلدات والمسمطات. وكانوا يسمون فعلًا قصائدهم الطويلة الجيدة بهذين الاسمين وما يشبهما2. وقد   1 العقد الفريد: "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 6/ 119. 2 البيان والتبيين 2/ 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 نفى ابن النحاس الأسطورة فقال: "لم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"1. ونستطيع أن ندخل في هذا الباب باب الأساطير ما يروى عن حماد الراوية من أن النعمان بن المنذر المتوفى سنة 602 للميلاد "أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج -الكراريس- ثم دفنها في قصره الأبيض؛ فلما كان المختار بن أبي عبيد -حوالي سنة 67هـ- قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة2" ويقول ابن سلام: "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه -من شعر العرب في الجاهلية- ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح هو وأهل بيته به؛ فصار ذلك إلى مروان، أو صار منه"3 ويكفي أن يكون أصل الخبر حمادًا المتهم في روايته لنشك فيه؛ بل إنه يحمل في أطوائه ما يجعلنا نتهمه، فهو ينتهي عنده إلى تعليله به: كيف أن أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة، وكأنما ساقه حماد الكوفي لبيان سابقة الكوفة على البصرة في الشعر القديم والعلم به، والمنافسة بين البلدتين في هذا الباب معروفة. وإذا كان القرآن الكريم على قداسته لم يجمع في مصحف واحد إلا بعد وفاة الرسول، وبعد مشاورة بين أبي بكر رضوان الله عليه والصحابة؛ فذلك وحده كاف لبيان أن العرب لم تنشأ عندهم في الجاهلية فكرة جمع شعرهم أو أطراف منه في كتاب، إنما نشأ ذلك في الإسلام وبمرور الزمن. أما في الجاهلية فكانوا يعتمدون فيه على الرواية وكان الشاعر يقف فينشد قصيدته، ويتلقاها عنه الناس ويروونها. ومعنى ذلك أن النهر الكبير الذي فاض بالشعر الجاهلي إنما هو الرواية الشفوية. وقد ظلت أزمانًا متتالية في الإسلام. ويدل على ذلك أقوى الدلالة أن الحديث النبوي ظل في أغلب أحواله يعتمد على الرواية والمشافهة إلى نهاية القرن الأول للهجرة. وإذا كان الحديث بما له من قدسية لم يعمدوا إلى تدوينه تدوينًا عامًّا إلا بعد مرور   1 انظر معجم الأدباء لياقوت في ترجمة حماد: 10/ 266. 2 راجع الخصائص لابن جني "طبعة دار الكتب" 1/ 392 ومعجم البلدان لياقوت في القصر الأبيض. 3 طبقات فحول الشعر لابن سلام "طبعة دار المعارف" ص 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 نحو قرن على الهجرة الشريفة فأولى أن يكونوا قد اتبعوا ذلك في الشعر الجاهلي، ولم يكن ركنا في الشريعة الإسلامية ولا كانت تقوم عليه حاجاتهم الدينية الملحة، ومن يرجع إلى شعرهم يجد شعراؤهم يذكرون دائمًا الرواية وأنها وسيلة انتشاره في القبائل؛ فهي الوسيلة التي كانوا يعرفونها وقد نفذ شعرهم من خلالها إلى آفاق الجزيرة، يقول المسيب بن علس1: فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع2 ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع فقصيدته تنتشر في القبائل، ويرددها الناس مستمعين إليها ومتمثلين بأبياتها، ويقول عميرة بن جعل نادمًا على هجائه لقومه وشيوعه في العرب وأنه لم تعد له حيلة في رده3: ندمت على شتم العشيرة بعد ما ... مضت واستتبت للرواة مذاهبه فأصبحت لا أسطيع دفعًا لما مضى ... كما لا يرد الدر في الضرع حالبه فرواية الشعر في العصر الجاهلي كانت هي الأداة الطيعة لنشره وذيوعه، وكانت هناك طبقة تحترفها احترافًا هي طبقة الشعراء أنفسهم؛ فقد كان من يريد نظم الشعر وصوغه يلزم شاعرًا يروي عنه شعره، وما يزال يروي له ولغيره حتى ينفتق لسانه ويسيل عليه ينبوع الشعر والفن. ونص صاحب الأغاني على سلسلة من هؤلاء الشعراء الرواة الذين يأخذ بعضهم عن بعض، وقد بدأها بأوس بن حجر التميمي؛ فعنه أخذ الشعر ورواه حتى أجاد نظمه زهير بن أبي سلمى المزني، وكان له روايتان كعب ابنه والحطيئة، وعن الحطيئة تلقن الشعر ورواه هدبة بن خشرم العذري، وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة، وعن جميل أخذ كثير صاحب عزة4.   1 المفضليات ص 62. 2 مع الرياح: يريد أنها تذهب كل مذهب، مغلغلة: نافذة تنفذ في الناس وتسلك إليهم السبل البعيدة. 3 الشعر والشعراء 2/ 632 وقارن مع المفضليات ص 100. 4 أغاني "طبعة دار الكتب" 8/ 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 نحن إذن بإزاء مدرسة تامة من الشعراء الرواة تتسلسل في طبقات أو حلقات، وكل حلقة تأخذ عن سابقتها وتسلم إلى لاحقتها، ومن أهم ما يلاحظ في هذه المدرسة أن شعراءها أو رواتها كانوا من قبائل مختلفة في شرقي الجزيرة وغربيها، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن شعراء القبيلة الواحدة كان يروى خلفهم شعر سلفهم، ونص القدماء على ذلك في غير شاعر؛ فقالوا: إن الأعشى كان رواية لخاله المسيب بن علس وكان يأخذ منه1، وقالوا: إن أبا ذؤيب الهذلي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي2، ومن يقرأ ديوان الهذليين يجد أواصر فنية قوية تجمعهم وتربط بينهم. وعلى هذا القياس توجد وشائج واضحة بين شعراء قيس بن ثعلبة، فطرفة يروي للمرقش الأصغر عمه ويأخذ عنه، ويروي هذا عن عمه المرقش الأكبر ويحتذي على شعره وأيضًا فإن طرفة كان يروي عن خاله المتلمس الذي ربي في أخواله من بني يشكر. وقد لا تكون القبيلة الجامعة الواصلة؛ فقد يجمع بين الشعراء سلوك في الحياة كالصعاليك أو الفرسان فيروي بعضهم لبعض، ويأخذ بعضهم عن بعض، على نحو ما نلاحظ عند تأبط شرًا والشنفرى أو عند أبي دؤاد الإيادي وزيد الخيل. ولو أن الرواة لم يرووا لنا هذه الصلات الجامعة أو الرابطة بين الشعراء الجاهليين لحدسناها حدسًا من اتفاقهم على تقاليد فنية واحدة مهما شرقنا وغربنا في الجزيرة، وهي تقاليد جاءت من تمسكهم بنماذج أسلافهم لا يحيدون عنها ولا ينحرفون؛ فهي دائمًا الإمام المتبع، وهم كل شاعر أن يتقن معرفتها عن طريق ما يحفظ من شعر أستاذه وشعراء قبيلته؛ بل أيضًا شعراء القبائل الأخرى. ولم يكن الشعراء وحدهم الذين يهتمون برواية هذا الشعر؛ فقد كان يشركهم في ذلك الاهتمام أفراد القبيلة جميعهم، لأنه يسجل مناقب قومهم وانتصاراتهم في حروبهم كما يسجل مثالب أعدائهم، وإلى ذلك أشار بعض بني بكر معيرًا تغلب لكثرة تردادها لقصيدة واحدة هي معلقة عمرو بن كلثوم، وكأن ليس لها شعر سواها، يقول3: ألهَى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم   1 الشعر والشعراء: 1/ 127 والمرشح للمرزباني ص 51. 2 الشعر والشعراء: 2/ 635. 3 أغاني: 11/ 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يروونها أبدًا مذ كان أولهم ... يا للرِّجال لشعر غير مشئوم ولم يكن أبناء القبيلة وحدهم الذين يشيعون شعر شعرائها؛ فقد كان كثير من أفراد القبائل الأخرى يشتركون معهم في إشاعته؛ إذ كان بينهم جم غفير من الحفظة، كانوا يتناقلون الشعر وينشدونه في محافلهم ومجالسهم وأسواقهم؛ إذ لم يكن لهم شاغل سواه، وكان يسجل مآثرهم ومثالبهم وأنسابهم وأيامهم وأخبارهم، ومن ثم قال عمر بن الخطاب: " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"1 فهو كل علمهم وكل حياتهم. وجاء الإسلام فانكبوا على تلاوة القرآن الكريم، ولكن لم ينسوا شعرهم أبدًا، حتى منذ بدء الدعوة الإسلامية؛ فقد كان الرسول عليه السلام يستحث حسان بن ثابت وغيره من شعراء الأنصار على هجاء قريش والرد على شعرائها، وكان كثيرًا ما يستنشد الصحابة الشعر، حتى شعر أعدائه من مثل أمية بن أبي الصلت، قال الشريد بن سويد الثقفي: "استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هيه، هيه، حتى أنشدته مائة قافية2". وكان أبو بكر نسابة راوية للشعر الجاهلي، وكان يتمثل به أحيانًا في خطابته كخطبته المشهورة في يوم السقيفة، وكذلك كان عمر، وقلما كان يترك وافدًا عليه من قبيلة دون أن يسأل عن بعض شعرائها، وفيه يقول ابن سلام: "كان لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر"3. وهذا نفسه شأن الصحابة جميعًا؛ فقد كانوا كثيرًا ما يتناشدون الأشعار ويقصون بعض الأخبار عن جاهليتهم، قال جابر بن سمرة: "جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من مائة مرة؛ فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية؛ فربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. ومعنى ذلك أن رواية الشعر الجاهلي كانت مستمرة في صدر الإسلام، وقد أخذت تظهر عوامل تشد من أزرها وتقوي من شأنها؛ فقد أخذت تنشأ منذ   1 طبقات فحول الشعراء: ص 22. 2 ابن سعد 5/ 376 وخزانة الأدب. 1/ 227 والمزهر: 2/ 309. 3 البيان والتبيين: 1/ 241. 4 طبقات ابن سعد: 1/ 2: 95 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 تدوين عمر للدواوين حاجة شديدة لمعرفة الأنساب؛ إذ كانت تلعب دورًا مهم في رواتب الجند الفاتحين وفي مراكز القبائل بالمدن الجديدة التي خطَّطوها مثل البصرة والكوفة. وكان بين العرب قديمًا من يشتهرون بمعرفة الأنساب؛ ولكن في هذا العصر الإسلامي إلى تمامه يصبح لهؤلاء النسابين شأن خطير؛ إذ كان العرب يرجعون إليهم في معرفة أصولهم، وكثيرًا ما كانوا يسوقون لهم قطعًا من الشعر تحدد نسبهم، ومن أشهرهم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل ودغفل والنخار بن أوس العذري1. ونحن لا نصل إلى الحرب التي نشبت بين علي ومعاوية حتى تشتعل العصبيات القبلية اشتعالًا لم تَخْبُ نيرانه حتى نهاية العصر الأموي، وكان الشعر الوقود الجزل لهذه العصبيات؛ فأخذت كل قبيلة تعني برواية شعرها الجاهلي الذي يصور مناقبها ومثالب العصبيات؛ فأخذت كل قبيلة تعنى برواية شعرها الجاهلي الذي يصور مناقبها ومثالب خصومها، ويتناقله أبناؤها؛ فهو جعبة سهامهم التي يوجهونها إلى خصومهم. ومن غير شك كان ذلك أكبر عون على حفظ الشعر الجاهلي؛ فقد حملته القبائل طوال القرنين الأول والثاني حتى أدوه إلى العلماء الذين عنوا بتدوينه2. وكانت الدولة الأموية عربية النزعة، فعملت على حفظ هذا التراث، بما كانت تروى منه، نجد ذلك عند معاوية وعبد الملك بن مروان وغيرهما من الخلفاء، وكانوا كثيرًا ما يسألون وفود القبائل التي تفد عليهم عن بعض شعرائها، وقد ينشدون بيتًا ويسألون عن صاحبه وقصيدته، ومن تحسن إجابته تحسن له جائزتهم3. وكان أبناؤهم على غرارهم "وكانوا ربما اختلفوا في بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب فيبردون فيه بريدًا إلى العراق"4 يسألون علماءها عن صحة الأمر فيه وصوابه. وأقام لهم آباؤهم غير مؤدب يرويهم أشعار الجاهلية وأيامها وأخبارها، ويلقانا هؤلاء المؤدبون في كل مكان يؤدبون الناشئة، وفي البيان والتبيين فصل طويل يحصى فيه أسماءهم. ومما يدخل في عناية الأمويين بالشعر الجاهلي ما يروى عن معاوية من شغفه بالمسامرة ومعرفة أخبار الماضين؛ مما جعله يستدعي عبيد بن شرية الجرهمي من   1 انظر من هؤلاء النسابين وفيما توقد هنا من اتصال رواية الشعر الجاهلي حتى القرن الثاني الباب الثالث من كتاب مصادر الشعر الجاهلي. 2 راجع مصادر الشعر الجاهلي: ص 231 وما بعدها. 3 انظر الأغاني: 3/ 91. 4 التصحيف والتحريف للعسكري ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 صنعاء اليمن، ويتخذه سميرًا له يسأله عن الأخبار المتقدمة والملوك السالفة، وهاله ما عنده من العلم بذلك؛ فاتخذ غلمانًا يقيدون في دفاتر ما يذكره من سير الملوك وأخبارها ووقائع العرب وأيامها في الجاهلية وأشعارها1. ومنذ وقت مبكر في صدر الإسلام نرى القصاص يجلسون للعظة في المسجد الجامع. وكانوا كثيرًا ما ينثرون الأشعار الجاهلية التي تتصل بوعظهم في تضاعيف قصصم. وقد أخذت تنشأ جماعة مثل أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير تُعْنى بغزوات الرسول وما قيل فيها من الشعر، وأخذ يظهر بجانبهم جماعة تعنى بأخبار العرب الماضيين وما كان يجري على ألسنة شعرائهم. وفي أثناء ذلك كان الشعراء الإسلاميون أنفسهم يعنون عناية شديدة برواية الشعر القديم، وبلغ من اهتمام بعضهم بذلك أن أصبح مؤدبًا للناشئة يرويها الشعر القديم على نحو ما نعرف عن الكميت والطرماح2. ولم يكن هناك شاعر مبرز إلا وهو يروي للجاهليين وينشد من شعرهم، وفي كتب الأدب إشارات مختلفة إلى ما أخذه العلماء عن أمثال ذي الرمة والفرزدق وجرير ورؤية من هذا الشعر3، وصور الفرزدق مدى روايته ومعرفته للشعر الجاهلي، فقال في بعض قصيده4: وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرول5 والفحل علقمة الذي كانت له ... حُلل الملوك كلامه لا ينحل وأخو بني قيس وهن قتلنه ... ومهلهل الشعراء ذاك الأول6. والأعشيان كلاهما ومرقش ... وأخو قضاعة قوله يتمثل7 وأخو بني أسد عبيد إذ مضى ... وأبو دؤاد قوله يتنخل   1 انظر مصادر الشعر الجاهلي: ص 159 والفهرست ص 132. 2 البيان والتبيين: 1/ 251، 2/ 323. 3 مصادر الشعر الجاهلي: ص 225 وما بعدها. 4 نقائض جرير والفرزدق: ص 200 والديوان: "طبع القاهرة" ص 720. 5 النوابع: النابغة الذبياني والجعدي والشيباني، وأبو يزيد: المخبل، وذو القروح: امرؤ القيس، وجرول: الحطيئة. 6 أخو بني قيس: طرفة، وهن قتلنه: يريد القوافي؛ لأنه قتل بسبب بعض أهاجيه. 7 الأعشيان: أعشى بنى قيس وأعشى باهلة وأخو قضاعة: أبو الطمحان القيني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وابنا أبي سلمى زهير وابنه ... وابن الفريعة حين جد المقول1 والجعفري وكان بشر قبله ... لي من قصائده الكتاب المجمل2 ولقد ورثت لآل أوس منطقًا ... كالسم خالط جانبيه الحنظل3 والحارثي أخو الحماس ورثته ... صدعًا كما صدع الصفاة المعول4 ويخيل إلى الإنسان أنه لم يبق عربي في العصر الإسلامي وما وليه من أوائل العصر السياسي إلا وهو يروي الشعر الجاهلي، إن هو تحدث أو وقف خطيبًا، وتمثل الحجاج بالشعر في خطابته ذائع مشهور. وإذا كنا لاحظنا في الجاهلية أن الرواة الموصوفين بهذا الاسم كانوا عادة من الشعراء؛ فإننا نلاحظ في العصر الإسلامي نشوء طائفة من الرواة، لم يكونوا ممن يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه لغرض تعلمه؛ وإنما يروونه لغرض نشره في الناس وإذاعته، وإليهم يشير جرير بقوله في وصف بعض قصائده5: خروج بأفواه الرواة كأنها ... قرا هندواني إذا هز صمما6 وفي أخباره أنه كان له رواة يلزمونه ويأخذون عنه شعره، وكذلك كان الفرزدق. ولم يكونوا يروون شعرهما فحسب؛ بل كانوا ينقحونه ويهذبونه، فعن شيخ من هذيل قال: "جئت الفرزدق، ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره، ثم أتيت جريرًا، وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد"7. وفي رأينا أن ظهور هذه الطبقة من الرواة إنما نشأ من العناية الشديدة برواية الشعر القديم والحديث، وكأنما لم يعد للناس من شغل وراء هذه العناية؛ فمنهم من يتخصص برواية شعر المعاصرين ومنهم من يتخصص برواية الشعر الجاهلي كيونس بن متى راوية الأعشى8.   1 ابن الفريعة: حسان بن ثابت. 2 الجعفري: لبيد، وبشر هو بشر بن أبي خازم. 3 أوس: أوس بن حجر. 4 الحارثي: النجاشي 5 النقائض: ص 430. 6 قرا: متن، والهندواني: السيف. 7 أغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 256 وما بعدها. 8 راجع في تحقيق اسم هذا الراوي مصادر الشعر الجاهلي ص 238 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ولعل في كل ما قدمنا ما يدل أوضح الدلالة على أن رواة لا يحصيهم العد حملوا الشعر الجاهلي إلى عصور التدوين؛ فقد حافظت القبائل عليه كما حافظ كثير من الأفراد وخاصة الشعراء والرواة. وبذلك أسلموه للأجيال التالية، وإن كان قد شابه شيء من الانتحال والوضع على نحو ما سنعرض لذلك في غير هذا الموضع، ومن غير شك سقط منه كثير في أثناء اجتيازه هذا الطريق الزمني الطويل، يقول ابن سلام: "لما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر؛ فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير1".   1 ابن سلام ص 22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 راوة محترفون ... 2- رواة محترفون ونحن لا نصل إلى نهاية العصر الإسلامي ومطلع العصر العباسي حتى تنشأ طبقة من الرواة المحترفين الذين يتخذون رواية الشعر الجاهلي عملًا أساسيًّا لهم، وتختلط في هذه الطبقة أسماء عرب وموال، وأسماء قراء القرآن الكريم وغير قراء، وهم جميعًا حضريون، عاشوا غالبًا في البصرة والكوفة. ولم يكونوا يقفون عند رواية الشعر القديم مجردة؛ بل كانوا يضيفون إليها كثيرًا من الأخبار عن الجاهلية وأيامها، وكانوا يتخذون لأنفسهم حلقات في المسجد الجامع يحاضرون فيها الطلاب وفي أثناء ذلك يشرحون لهم بضع الألفاظ الغريبة، أو يفسرون لهم ظروف النص التاريخية. وأهم هؤلاء الرواة أبو عمرو بن العلاء وحماد الراوية وخلف الأحمر ومحمد ابن السائب الكلبي والمفضل الضبي، وقد استقوا روايتهم من القبائل والأعراب البدو، وكان بعضهم يرحل إلى نجد أحيانًا ليستقي من هاجر إلى الكوفة والبصرة حيث هؤلاء الرواة العلماء ليمدهم بما يريديون. وقد أظهروا في علمهم مهارة منقطعة النظير؛ إذ تحولوا يجمعون المادة الجاهلية جميعها. وكان من أهم الأسباب في ذلك تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ألفاظ القرآن الكريم؛ فقد جرت عادة المفسرين منذ ابن عباس على الاستشهاد بالشعر الجاهلي في شرح ألفاظ الذكر الحكيم، وأيضًا فقد انبرت جماعات تحاول وضع قواعد العربية وجمع ألفاظها، واعتمدت في ذلك اعتمادًا شديدًا على الشعر الجاهلي فهو مادة اللغة ومادة قواعدها وقوانينها التي بنبغي أن تتبع. على أن هاتين الغايتين سرعان ما انفصلتا عن عمل الرواة، وأصبحوا يقصدون لجمع هذا الشعر في ذاته ومن أجل نفسه، وقد حملته إليه الموجة الحادة من روايته في أثناء العصر الإسلامي، ومن المهم أن نعرف أنهم قلما يذكرون من حملوا عنهم هذا الشعر؛ فهم يغفلون أسانيدهم إلا قليلًا1. ولا نكاد نمضي في العصر العباسي حتى يكون هؤلاء الرواة مدرستين متقابلتين: مدرسة في الكوفة ومدرسة في البصرة، وعُرف الأولون بأنهم لا يتشددون في روايتهم تشدد الآخيرين، ومن ثم تضخمت رواياتهم ودخلها موضوع ومنتحل كثير، ولعل من الطريف أن نعرف أن الكوفة عُرفت في الحديث النبوي بالوضع والانتحال أيضًا حتى كان مالك بن أنس يسميها دار الضَّرْب يريد أبو الطيب اللغوي: "والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة؛ ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله وذلك بين أكثر وأجمع منه بالبصرة؛ ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله وذلك بين في دواوينهم2" وندد بهم البصريون كثيرًا، وبادلهم الكوفيون نفس التنديد؛ فكان كل منهما يشكك في الآخر3 ولكن إذا صفينا هذه التشكيكات والتنديدات اتضح لنا أن رواية البصرة في جملتها أوثق من رواية الكوفة. وليس معنى ذلك أن رواة الكوفة في الجملة كانوا متهمين بخلاف رواة البصرة؛ فبين الطرفين جميعًا متهمون، وموثقون أحاطوا روايتهم بسياج من الأمانة والدقة والتحري. وربما كان السبب الحقيقي في تقدم البصرة على الكوفة في الرواية أن رأس رواتها وهو أبو عمرو بن العلاء كان أمينًا، بينما كان رأس رواة الكوفة حمادًا، وكان منهما كثير الوضع، لا يوثق بما يرويه. وكان أبو عمرو من مؤسسي المدرسة النحوية في البصرة، وأحد القراء السبعة الذين أخذت عنهم تلاوة الذكر الحكيم، ولد سنة 70 للهجرة، وتوفي سنة 154 وقيل سنة 159 "وكان أعلم الناس بالغريب   1 انظر مصادر الشعر الجاهلي: ص 255 وما بعدها. 2 مراتب النحويين: ص 74. 3 مصادر الشعر الجاهلي: ص 434 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والعربية وبالقرآن والشعر وبأيام العرب وأيام الناس وكانت كتبه التي كتبها عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف.. ثم إنه تقرأ أي تنسك فأحرقها1" وهو إحراق لا يغير من الأمر شيئًا؛ فإن ما رواه حمله عنه تلاميذه البصريون، وكان إمامهم وقدوتهم. ويحكى عنه أنه قال: "ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يرْوَى للأعشى من قوله: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا2 وحاول بعض الباحثين التشكيك في روايته لهذا الاعتراف3، وهو اعتراف يوثق روايته ويزيدها قوة، وفي سيرته ما يدل دلالة قاطعة بأنه كان ثقة؛ فقد كان تقيًّا صالحًا، وكان أحد الأعلام الذين أخذت عنهم تلاوة القرآن الكريم. أما حماد رأس رواة الكوفة فكان من الموالي، ولد سنة 95للهجرة، وتوفي سنة 156 وقيل بل سنة 164 ويقال إنه: "كان في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص؛ فنقبَ ليلة على رجل، فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد، فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك وترك ما كان عليه، فبلغ في العلم ما بلغ4" وربما كان مما يصور هذا العلم ومداه ما يروى عن مروان بن أبي حفصة من قوله: "دخلت أنا وطريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد "125-126هـ" وهو في فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده كلما أنشد شاعر شعرًا وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعراء، فقلت: من هذا؟ فقالوا: حماد الراوية"5 ويروى عن الهيثم بن عدي أنه كان يقول: "ما رأيت رجلًا أعلم بكلام العرب من حماد6" وهذه المعرفة الواسعة بكلام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها وأيامها جعلتهم يطلقون   1 انظر البيان والتبيين 1/ 321. 2 الأغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 143. 3 انظر مقالة مرجليوثThe Origins of arabic Poetry في صحيفة الجمعية الآسيوية الملكية عدد يولية سنة 1925 ص 429 وتاريخ الأدب العربي لبلاشير 1/ 111. 4 الأغاني 6/ 87. 5 الأغاني 6/ 71. 6 انظر ترجمته في معجم الأدباء لياقوت 10/ 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 اسم الرواية علمًا عليه، ويروى أن الوليد بن يزيد سأله بم استحققت هذا اللقب فقيل لك: الراوية؟ فقال: "بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعرًا قديمًا ولا محدثًا إلا ميزت القديم منه من المحدث، فقال الوليد: إن هذا العلم وأبيك كثير؛ فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيرًا، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام، قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد، فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه، ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلين، وأخبر الوليد بذلك؛ فأمر له بمائة ألف درهم1" وقد يكون في هذا الخبر ضرب من المبالغة؛ غير أنه يصور مدى ما استقر في أذهان معاصريه عن معرفته وروايته للشعر الجاهلي. ومن سوء حظ الكوفة أن كان هذا الراوية البارع فاسد المروءة فاسقًا ماجنًا زنديقًا 2، وكان شاعرًا يحسن صوغ الشعر وحوكه3 فكان ينظم على لسان الجاهليين ما لم ينطقوا به، وكثر منه ذلك حتى عرف به واشتهر، يقول الأصمعي: جالسته فلم أجد عند ثلاثمائة حرف ولم أرضَ روايته، ويقال: إنه مدح بلال بن أبي بردة المتوفى بعد سنة 126 بقصيدة، وكان ذو الرمة حاضرًا، فقال له: إنها ليست لك، وسرعان ما اعترف بأنها جاهلية4 ويقال إنه قدم عليه مرة، فقال له: ما أطرفتني شيئًا؟ فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة بمديح أبي موسى الأشعري "جد بلال" فقال بلال: ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به وأنا أروي شعر الحطيئة! ولكن دعها تذهب في الناس5، وقصته في مجلس أمير المؤمنين المهدي مع المفضل الضبي مشهورة؛ فقد زاد ثلاثة أبيات في مطلع قصيدة زهير: "دع ذا وعد القول في هرم" فأنكرها المفضل ولما سأله عنها المهدي بكل يمين محرجة   1 الأغاني: 6/ 71. ومعجم الأدباء: 10/ 259. 2 الحيوان: 4/ 447. والأغاني: 6/ 74. وأمالي المرتضى 1/ 131. ولسان الميزان: 2/ 353، 3/ 173. 3 المزهر 2/ 406 حيث يذكر أن الأصمعي روى شيئًا من شعره وانظر الأغاني 5/ 209؛ حيث يروي له أبياتًا محكمة الصنعة. 4 الأغاني 6/ 88. 5 طبقات فحول الشعراء ص 40/ 41. وحاول ناصر الدين الأسد أن يصحح نسبة القصيدة للحطيئة لرواية المدائني ورواة ديوان الحطيئة لها، ولكن ذلك لا يكفي لصحة نسبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 اعترف بأنه أضافها من عنده، فأمر المهدي أن ينادي في الناس بإبطال روايته لكذبه وبصحة رواية المفضل مواطنه1. وحاول بعض الباحثين التشكيك في القصة2، لأن المهدي ولي سنة 158 بعد وفاة حماد، ولكن هناك من تأخروا بوفاته إلى سنة 164 كما قدمنا، وربما أخطأ الرواة في تعيين الزمن والمكان؛ إذ ذكروا أن القصة حدثت في قصر عيساباذ الذي بناه المهدي في سنة 164 بينما أرخوا لها سنة 158. وحتى على فرض بطلان هذه القصة فإن هذا البطلان لا يدفع التهمة عن حماد، كما لا يدفعها ما يذكره بعض هؤلاء الباحثين من أن اتهامه الواسع قد يرجع إلى المنافسة بين البصرة والكوفة، فسيرته كانت سيرة شخص سيء السيرة خلقيًّا ودينيًّا، وما كان ابن سلام البصري ليقول فيه: "كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به؛ كان ينحل شعر الجل غيره، وينحله غير شعره ويزيد في الأشعار3" بعامل المنافسة لعصبية. ونفس البصريين الذين اتهموه وثقوا رواية مواطنه ومعاصره المفضل الضبي؛ فليست المسألة مسألة منافسة بين بلدين، وإنما هي حقيقة واقعة ونفس الرواة الأثبات من بلدته كانوا يشركون البصريين في نفس التهمة، فابن الأعرابي الكوفي يروي عن المفضل أنه قال: "قد سلَّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده، فلا يصلح أبدًا؛ فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، لا، ولكنه رجل عالم لغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء لا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك4؟ ". فالتهمة لم تكن بصرية خالصة؛ بل كانت بصرية كوفية، وربما بالغ بعض البصريين فقال عنه: إنه كان يلحن ويكسر الشعر ويصحف ويكذب5، ولكن   1الأغاني 6/ 98 وما بعدها. 2 انظر مقدمة لايل المفضليات ص 18 وما بعدها ومقالة برينلش في مجلةO.L.Z عدد 1926 ص 829 وما بعدها ومصادر الشعر الجاهلي ص 442. 3 ابن سلام: ص 40. 4 الأغاني: 6/ 89. ومعجم الأدباء: 10/ 265. 5 الأغاني 6/ 89. وانظر 8/ 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بعد تجريد التهمة من مبالغاتها تظل عالقة به؛ ولذلك ينبغي أن لا نقبل شيئًا مما يروى دون أن يأتينا عن الرواة الثقات، وكذلك ينبغي أن نتشكك فيما يرويه تلاميذه مثل ابن كناسة المتوفى سنة 207 وخلف الأحمر راوية البصرة المشهور؛ إذ كان قد أكثر الأخذ عنه1، ويروى أنه كان يعطي حمادًا المنحول فيقبله منه ويرويه2. ومن رواة الكوفة الذين عاصروا حمادًا واشتهروا بالوضع برزخ العروضي وكان من أكذب الناس في الرواية3 ومثله جنَّاد وكان يخلط في الأشعار ويصحف ويلحن4. وإذا كانت الكوفة أصيبت بمثل هؤلاء الرواة الوضاعين الذين ينحدرون من أصول غير عربية؛ فقد كان من ورائهم رواة ثقات على رأسهم المفضل بن محمد بن يعلى الضبي المتوفى سنة 170 للهجرة، وكان عالمًا علمًا دقيقًا بأشعار الجاهلية وأخبارها وأيامها وأنساب العرب وأصولها، ويُجمع الرواة كوفيين وبصريين على توثيقه، وقد خلف مجموعة كبيرة من أشعار الجاهليين هي الملقبة بلقب المفضليات، وهي أروع ما بأيدينا من نصوص الشعر الجاهلي ووثائقه التي لا يَرْقى إليها الشك. وإذا ولينا وجوهنا نحو البصرة في الحقبة التي تلت أبا عمرو بن العلاء وجدنا بها خلفًا الأحمر الذي تسدد إليه سهام الاتهام، ولم يكن يقل عن حماد في معرفته بأشعار العرب وأخبارهم؛ بل لعله يتقدمه؛ إذ كان شاعرًا مبرزًا، وكان بصيرًا بالشعر، وأصل أبويه من فرغانة فهو من الموالي، ولد سنة 115 للهجرة وتوفي حوالي سنة 180 وفيه يقول ابن سلام: "اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقهم لسانًا، وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه5"؛ غير أن شهادة ابن سلام له لا تعفيه من التهمة الشديدة التي سلطت على روايته، وقد شهد هو نفسه بها؛ إذ زعم كما قدمنا أنه كان يعطي حمادًا المنحول من الشعر ويزيفه عليه فيرويه، ويقال إنه هو الذي وضع اللامية المنسوبة إلى الشنفرى6:   1 مراتب النحويين: 47، 72. 2 الأغاني: 6/ 92. 3 إنباه الرواة: 1/ 242 والفهرست "طبعة مصر" ص 107. 4 انظر ترجمته في معجم الأدباء لياقوت وراجع الفهرست ص 135. 5 ابن سلام ص 21. 6 الأمالي 1/ 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أقيموا بني أُمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل كما وضع اللامية الأخرى المنسوبة إلى تأبط شرًّا أو إلى ابن أخته1: إن بالشِّعب الذي دون سلع ... لقتيلًا دمه ما يُطلُّ وتصدَّى له الأصمعي مرارًا يتهمه بالوضع والنحل؛ فقال إنه "وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا، وعلى غيرهم، عبثًا بهم، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة2" وعرض مرة لرواة الكوفة يصفهم بأنهم يقبلون كل ما يرد عليهم، فقال: "رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دؤاد الإيادي قالها خلف الأحمر، وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون وبها يفتخرون3". ويظهر أن البصريين كانوا يتحامون روايته؛ بينما كان يحملها الكوفيون رواة حماد وأضرابه، يقول المبرد فيه موضحًا ذلك: "لم يُرَ أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان به يضرب المثل في عمل الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس؛ فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه. ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالًا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه، فأبى ذلك وقال: قد مضى لي في هذا ما لا أحتاج إلى أن أزيد فيه. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه، وبلغ مبلغًا لم يقاربه حماد؛ فلما تقرَّأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة؛ فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم4". وواضح من ذلك أن الكوفة هي التي حملت رواية خلف بالإضافة إلى رواية حماد، أما البصرة فقد حمل بعض الرواة روايته، ولكن الكثرة وعلى رأسها الأصمعي رفضتها. والأصمعي يقوم في البصرة مقام المفضل الضبي في الكوفة، وقد أشاد معاصروه ومن تلاهم بسعة علمه بالجاهلية.   1 انظر العقد الفريد: 6/ 157. والحيوان: 1/ 182. وانظر مصادر الشعر الجاهلي: ص 458 وما بعدها. 2 مراتب النحويين: ص 47. 3 الموشح للمرزباني: ص 251 وما بعدها. 4 مراتب النحويين ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وأشعارها وأخبارها، ووثقوه وعدّلوه، وإن كان ذلك لم يمنع بعض منافسيه من النيل منه؛ ولكنه نيل مردود؛ فقد كان في الذروة من الثقة والأمانة، وهو عربي صليبة، ولد حوالي سنة 122 للهجرة وتوفي سنة 215 وقيل: سنة 216، أو 217، وفيه يقول ابن جني: "وهذا الأصمعي هو صَنَّاجة الرواة والنقلة، وإليه محط الأعباء والثقلة، كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حَدث لأخذ قراءة نافع عنه، ومعلوم كم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته؛ لأنه لم يقو عنده إذ لم يسمعه وإما إسفاف من لا علم له وقول من لا مسكة به إن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عنه غير معبوء به1"، ويقول أبو الطيب اللغوي: "فأما ما يحكيه العوام وسُقَّاط الناس من نوادر الأعراب ويقولون: هذا مما افتعله الأصمعي، وأنى يكون الأصمعي كما زعموا وهو لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء، ويقف عما ينفردون به عنه ولا يجوز إلا أفصح اللغات ويلجُّ في دفع ما سواه2". وله مجموعة مشهورة من الشعر القديم هي الأصمعيات وهي كالمفضليات ثقة ودقة، ورويت عنه دواوين كثيرة أشهرها الدواوين الستة: دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة بن عبدة الفحل. وكان يعاصره عالمان كبيران هما أبو زيد وأبو عبيدة، وكان أبو زيد يعني يجمع اللهجات واللغات الشاذة وتوفي وقد قارب المائة، سنة 214 أو 215، وهو عربي أنصاري خزرجي، أما أبو عبيدة معمر بن المثنى فولد حوالي سنة 110 وتوفي حوالي سنة 211 وهو من الموالي وكانت فيه نزعة شعوبية صارخة؛ ولكن الرواة وثقوه3 وينبغي أن لا نتبعهم في توثيقه وأن نقدم عليه الأصمعي وأبا زيد، وكان يهتم بالأنساب والأيام، وشرح نقائض جرير والفرزدق شرحه المشهور. وكان بجانب هؤلاء الذين تحدثنا عنهم رواة يختلفون ثقة وتجريحًا مثل الهيثم بن عدي المتوفى سنة 206، وكان يهتم بالأخبار التاريخية وتشوب التهمة روايته، وأكثر منه تهمة في هذا الباب محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 146 للهجرة وابنه هشام المتوفى سنة 204 وهما من كبار الوضاعين ويروى عن هشام أنه كان يقول: "كنت   1 الخصائص: 3/ 311. 2 مراتب النحويين: ص 49. 3 إنباه الرواة: 3/ 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة "المناذرة" ومبالغ أعمار من ولي منهم لألى كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة1". وينظم في سلك هؤلاء المؤرخين الواقدي والمدائني. وخلف يعد من قدمنا تلاميذهم من رواة القرن الثالث، وعلى رأسهم أبو عمرو الشيباني المتوفى سنة 213 وابن الأعرابي المتوفى سنة 231هـ الكوفيان، وكان وراءهما كثير من الرواة في بلدتهم مثل محمد بن حبيب وابن السكيت المتوفى حوالي سنة 244 وثعلب المتوفى سنة 291. وانتهت الرواية في البصرة إلى أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري المتوفى سنة 275، وإليه يرجع الفضل في جمع كثير من الدواوين الجاهلية، وهو يجمع بين الروايتين البصرية والكوفية. ويتضح من كل ما أسلفنا أن رواية الشعر الجاهلي أحيطت بكثير من التحقيق والتمحيص، وأنه إن كان هناك رواة متهمون؛ فقد كان لهم العلماء الأثبات بالمرصاد أمثال المفضل الكوفي والأصمعي البصري، وما مثَل الشعر الجاهلي في ذلك إلا مثل الحديث النبوي؛ فقد دخله هو الآخر وضع كثير، ولكن العلماء استطاعوا تمييز صحيحه من زائفه، وقدموا لنا كتب الصحيح الستة المشهورة، وكذلك الشأن في الشعر فقد دخله فساد كثير، ولكن أصحابه الأثبات استطاعوا -في مهارة بالغة- أن يميزوا صحيحه من زائفه؛ غير تاركين منفذًا في ذلك سواء في سند الرواة أو في المتن نفسه؛ بل إن ابن سلام ليقدمهم على علماء الحديث في هذا الباب، يقول: "حدثني يحيى بن سعد القطان قال: رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعًا كثيرًا. ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون هذا مصنوع2". فينبغي أن لا نتخذ من كثرة الاتهامات في بيئة الرواية اللغوية مزلقًا إلى الطعن في الشعر الجاهلي عامة، إنما نطعن على ما طعن الرواة الثقات فيه حقًّا، ونضيف إليه ما يهدينا بحثنا الحديث إلى تزييفه. أما بعد ذلك فتبقى عامة ما رواه أثباتهم كالمفضل والأصمعي صحيحة. وكانا يتحاريان تحريًّا شديدًا.   1 تاريخ الطبري: "طبعة ليدن" القسم الأول ص 770. 2 ذيل الأمالي: ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فلنهمل إذن من الشعر الشعر الجاهلي ما جاءنا منه عن أمثال حماد وخلف الأحمر وكذلك ما جاءنا منه عن طريق أصحاب الأخبار المتزيدين أمثال عبيد بن شَريَّة ومحمد بن السائب الكلبي وابنه هشام وما وضعه القصاص عن العرب البائدة، وأيضًا ينبغي أن نهمل ما اختلف فيه الرواة، أما ما اتفقوا عليه أو جاءنا عن أثباتهم فينبغي أن نقبله. وكانوا يأخذون بهذا القياس، يقول ابن سلام: "وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه: من الشعر- أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي1" ويقول: "قد اختلفت العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه2". واحتفظ ابن سلام في طبقاته بمادة وفيرة من نقد البصرة للرواية والرواة؛ فهو تارة يعد للشاعر القصائد الصحيحة النسبة إليه، وتارة يقف عند بيت أو أبيات بعينها تنسب لشاعر من الشعراء الجاهليين وينص على أنها منتحلة، فمن الضرب الأول قوله عن طرفة عبيد بن الأبرص: "ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد بن الأبرص اللذين صحَّ لهما قصائد بقدر عشر. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير؛ غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر، وكانا "من" أقدم الفحول فلعل ذلك لذاك؛ فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير3" ثم عاد فوسع الشك في شعر عبيد فقال فيه: "قديم الذكر عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب ولا أدري ما بعد ذلك". ومن الضرب الثاني إنكاره أن يكون النابغة هو الذي قال: فألقيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوحٌ لا يخونُ وقد عقب على إنكاره بأن أهل العلم أجمعوا على أن النابغة لم يقل هذا 5،   1 طبقات فحول الشعراء: ص6. 2 نفس المصدر والصفحة. 3 ابن سلام: ص 23. 4 ابن سلام: ص 116. 5 ابن سلام: ص 49 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وعلى هذا النحو صفَّى علماء الرواية واللغة الشعر الجاهلي من شوائب كثيرة علقت به. وإن كنا لا ننكر في الوقت نفسه أنهم تناولوا أشياء منه بالتنقيح؛ غير أن ذلك كان في حدود ضيقة، كأن يبدلوا كلمة مكان كلمة، أو يقيموا بعض الألفاظ على سنن لهجة قريش؛ فقد كانت تسقط على لسان الشعراء أحيانًا أشياء من لهجاتهم القبلية، فكانوا يصلحونها، وقد يصلحون عروض بعض القصائد، ولكنهم بصفة عامة حافظوا على جوهر هذا الشعر محافظة تشهد لهم بالدقة "أنهم استطاعوا أن ينقلوا غير قليل منه إلى أجيالهم والأجيال التالية في صورة تكاد تكون مطابقة تمام المطابقة لأصوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 3- التدوين مر بنا أن العرب لم يدونوا شعرهم في الجاهلية، وأن ما يذكر من أخبار عن كتابة بعض شعرائهم لمقطوعات لهم، فإنه لا يدل على أنهم فكروا فعلًا في تدوين أشعارهم؛ إنما هي قطع تكتب على رحل أو على حجر أو جلد لإنباء القبيلة أو بعض أفرادها بحادث. وقد نفينا أن يكونوا علقوا المعلقات في الكعبة وكذلك رفضنا رواية حماد عن تدوين النعمان بن المنذر لأشعار العرب وما مدح به هو وأهل بيته. ومن الأدلة على ذلك أننا لا نجد راويًا ثقة يزعم أنه نقل عن قراطيس كانت مكتوبة في الجاهلية، كما أننا لا نجد راويًا ثقة يزعم أن شاعرًا في الجاهلية ألقى قصيدته من صحيفة مدونة؛ إنما كانوا ينشدون شعرهم إنشادًا، ومن كان منهم يُعد قصيدته في حول أو أقل من حول كان يعدها في نفسه، ويرددها في ذاكرته، ثم ينشدها، ويحملها الناس عنه، ومن ثم قال الجاحظ: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام ... فما هو إلا أن يصرف "العربي" وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا "أفواجًا" وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه1".   1 البيان والتبيين 3/ 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وظل هذا شأن العرب في صدر الإسلام؛ فهم يتناشدون الشعر ولا يقيدونه إلا قليلًا وفي ظروف خاصة، حتى مصرت الأمصار، وراجعت العرب الأشعار، وأخذت فكرة التدوين تسلك طريقها في تسجيل غزوات الرسول وأحاديثه وفي تقييد بعض الأخبار التاريخية؛ فدوّن زياد بن أبيه كتابًا في المثالب، ودوّن عروة بن الزبير غزوات النبي عليه السلام وحروبه، ودون معاوية أخبار عبيد بن شرية أو بعبارة أدق أمر غلمانه بتدوينها، وأخذ بعض الصحابة والتابعين يدون أحاديث الرسول عليه السلام. وقد يكون في تدوين الأحاديث ما ينير لنا الطريق في تدوين الشعر؛ فإن كثيرًا من الصحابة والتابعين كان ينكر تدوينها، ولم تدون تدوينًا عامًّا إلا على رأس المائة، وكذلك نستطيع أن نقول إنه على الرغم من اهتمام القبائل بشعرها الجاهلي وشعرائها الذين يعدون مناط شرفها وفخارها لما يسجلون من مناقبها وأمجادها ومثالب خصومها؛ فإنها لم تعمد إلى تدوين هذا الشعر إلا في حقبة متأخرة من عصر بني أمية. ويظهر أنهم لم يكونوا يدونون حينئذ أشعار شعرائهم وحدها؛ بل كانوا يدونون معها أخبارهم، ولعل أقدم إشارة إلى هذه المدونات ما أسلفنا من رواية أصحاب الأخبار عن حماد في أول تعلقه بالشعر من أنه نقب ليلة على رجل؛ فأخذ ما عنده وكان فيما أخذه جزء من شعر الأنصار! ويزعم حماد أن الوليد بن يزيد أرسل في طلبه، فقال في نفسه: "لا يسألني إلا عن طرفيه: قريش وثقيف، فنظرت في كتابي قريش وثقيف1"، ويُروى عن ثعلب أن الوليد بن يزيد جمع ديوان العرب وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وأنه طلب لذلك من حماد وجناد الكوفيين ما عندهما من هذا الديوان، ثم رد إليهما ما أخذه منهما2". وإن صحت هذه الأخبار كانت دليلًا على أنه أخذت تظهر مع أوائل القرن الثاني مدونات تاريخية للقبائل لعلها هي التي أعدت فيما بعد لتدوين الرواة أشعار كل منها على حدة بنفس الصورة التي نعرفها لديوان هذيل. ونمضي بعد عصر الوليد بن يزيد فيلقانا أبو عمرو بن العلاء، وكان يعتمد على الرواية، ولكنه كان يقيد إلى جانبها كثيرًا من الأشعار والأخبار حتى قالوا إن   1 الأغاني: 6/ 94. 2 الفهرست: ص 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كتبه ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم تقرَّأ "تنسك" فأحرقها كلها، يقول الجاحظ: "فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه، كانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية1". وكان حماد على ما يظهر يعني بالرواية أكثر من عنايته بالكتابة؛ بل لعله لم يكن يعني بالكتابة، إنما كتب عنه تلاميذه، يقول صاحب الفهرست: "لم يُر لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده2". ويروى للمفضل الضبي كتب صنفها، فيها أشعار وأخبار3 ومن المؤكد أنه لم يكتب مفضلياته؛ وإنما أنشدها تلاميذه فحملوها عنه. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن الرواة الأولين لم يدونوا ما رووه لطُلَّابهم، ولم يكن هذا شأن رواة الشعر وحدهم، بل كان شأن رواة التاريخ الجاهلي جميعهم مثل محمد بن السائب الكلبي فإن ابنه هشامًا هو الذي حمل مادة أخباره ودوَّنها في كتبه. ونفس الخليل بن أحمد لم يخلف كتابًا في النحو؛ بل أملى إملاءات جمع منها سيبويه كتابه المشهور. وكانوا يتأثرون في ذلك برواة الحديث، وربما كانت الحاجة عندهم أمس؛ لأن الشعر يحتاج إلى تلقين حتى لا يلحن فيه من ينشده، ولذلك كانوا ينبذون في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث من يلحن فيه بأنه صحفي يأخذ عن الصحف، ولا يأخذ شفاهًا عن مشيخة العلماء باللغة والشعر. ومن ثم ضعَّفوا من يروي عن المدونات ولم يقبلوا روايته إلا أن يكون قد أخذها عن شيخ، ولذلك ضعف ابن سلام رواية من يتداولون الشّعر القديم من كتاب إلى كتاب، يقول: "ليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي". والرواة التالون لهؤلاء الرواة المتقدمين هم الذين يرجع الفضل إليهم في تدوين الشعر الجاهلي تدوينًا منهجيًّا قائمًا على التوثيق والتجريح، وعلى رأسهم الأصمعي، وقد حصر اهتمامه في جمع الشعر الجاهلي في دواوين ومجموعات صحيحة. وكان هؤلاء الرواة المدونون لا يكتفون بالسماع من جلة الرواة السابقين؛ فكانوا يرحلون إلى الصحراء العربية ليتوثقوا مما يروونه على نحو ما هو معروف عن الأصمعي   1 البيان والتبيين: 1/ 321. 2 الفهرست: "طبعة المطبعة الرحمانية" ص 135. 3 إنباه الرواة: "طبعة دار الكتب المصرية" 3/ 302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 نفسه وعن أبي عمرو الشيباني الذي يقال إنه دخل البادية ومعه دَسْتيجتان من حبر، فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب1. وكان بعض الأعراب يفد على الحواضر وقد يقيم فيها ليسد هذه الحاجة عند الرواة، والمهم أنهم لم يكتفوا بالاعتماد على ذاكرتهم صنيع الرواة من قبلهم؛ بل كانوا يدونون ما يسمعونه ويحتفظون به ويقرءون منه في مجالسهم وينقله عنهم طلابهم. وأخذت موجة هذا التدوين تتسع اتساعًا شديدًا، ويستطيع من يرجع إلى الفهرست وكتب التراجم أن يطلع على هذا النشاط التأليفي الذي لا يكاد يبلغه الحصر والعد؛ فقد ترك هشام بن محمد الكلبي نحو مائة وأربعين كتابًا، وكانت كتب المدائني لا تقل عنها عددًا؛ بينما خلف الهيثم بن عدي خمسين مصنفًا. وأكثر كتبهم يعد مفقودًا ومن بينها ما يشير إلى عنايته بالشعر ككتاب أخبار خزاعة للمدائني وأخبار طيء للهيثم، وقد نُشر الأصنام لابن الكلبي وهو يمتلئ بالشعر الجاهلي مما يدل على أنه كان يملأ كتبه به. على أنه يلاحظ إزاء المؤرخين أن كثيرًا منهم لم يكن دقيقًا فيما يجمع من شعر، ولعل ابن إسحاق صاحب السيرة النبوية أشهرهم في هذا الباب، وقد تصدى له ابن سلام في طبقاته، فقال: "وكان ممن أفسد الشعر هجَّنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار، مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسِّير. فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر أوتى به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرًا. فكتب السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف، أفلا يرجع إلى نفسه، فيقول: من حمل هذا الشعر ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالي يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا بقية لهم، وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} وقال في عاد: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} وقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} 2.   1 نزهة الألباء للأنباري: ص 63. 2 ابن سلام: ص 8 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقال ابن سلام أيضًا في ابن إسحاق: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما رواه الصحفيون ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم"1 وتعقب ابن هشام في سيرته ابنَ إسحاق وردَّ كثيرًا مما روَى، أو صحح نسبته. وواضح أن هذه المنتحلات من الشعر المنسوب إلى عرب الجاهلية الأولى ليس لها أدنى قيمة؛ فقد ردها الرواة المحققون، ومع ذلك يتعلق بها بعض الباحثين المحدثين ليشككووا في الشعر الجاهلي عامة، مع أن القدماء رفضوها وردوها، كما رفضوا وردوا رواية المتهمين من الرواة أمثال حماد وخلف. وليس معنى ذلك أننا نريد أن نوسع الأبواب فنقبل كثرة ما يروى عن الجاهليين؛ بل نحن نضيقها تضييقًا شديدًا، فلا نقبل إلا ما أورده الثقاة مثل أبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبي والأصمعي، فجملة ما رووه وثيقٌ. ولا نبالغ إذا قلنا إن ما رواه هؤلاء الثقات لا يزال مادة غُفلًا لم يدرس ولم يفحص، وقد خَلف من بعدهم خلف أتموا تدوين الشعر الجاهلي وأشهرهم في الكوفة أبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي وقد اشتهر الأول بأنه جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل شعر قبيلة منها وأخرجه للناس كتب مصحفًا وجعله في مسجد الكوفة، وطبيعي أن يخرج دواوين القبائل راوٍ كوفي؛ لأن بيوتات العرب وأشرافها كانوا في الكوفة ولم يكونوا في البصرة، ومن غير شك كانوا من أهم الأسباب التي أعانت على حفظ الشعر الجاهلي وروايته إلى أن دون في القرن الثاني. ويظهر أن الكتب الخاصة بالقبائل لم تكن تكتفي برواية الأشعار؛ بل كانت تضم إليها غير قليل من أخبارهم وأيامهم، وربما كان هذا هو السبب في أننا نرى مؤرخيهم ينثرون في تاريخهم أشعارًا كثيرة كأنهم يرون أنها سنده وعماده، على نحو ما تصور ذلك كتب المدائني والواقدي وابن الكلبي. وكان رواة الشعر يمزجون بروايتهم كثيرًا من الأخبار التاريخية على نحو ما نرى في شرح النقائض لأبي عبيدة. وقد بقي من دواوين القبائل ديوان هذيل برواية السكري المتوفى سنة 275 وفيه تختلط الأشعار بالأخبار، ومن خير ما يصور ذلك فيه ديوان أبي ذؤيب. ويدل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني أنهم دونوا من هذه الأشعار   1 ابن سلام: ص 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والأخبار تراثًا كبيرًا، ومعروف أنه يقع في واحد وعشرين مجلدًا ضخمًا وأن للجاهليين فيه حظًّا موفورًا. وهو يسوق هذه المادة الجاهلية الشعرية التاريخية مقترنة بأسانيد، تصور مصدرها، محتاطًا إزاء رواته أشد الحيطة؛ فمن عرف بكذبه نبه عليه، وحتى من عرف بصدقه كان يراجع روايته على روايات معاصريه به ودواوين الشعراء، مبالغة في الدقة والتحدي. والكتاب مؤلف حقًّا في القرن الرابع الهجري؛ ولكنه يستمد من رواة القرنين الثاني والثالث الهجريين كما يتضح من أسانيده؛ فهم الذين جمعوا هذا التراث الجاهلي الضخم، وأتاحوا لمن جاءوا بعدهم أن يؤلفوا مؤلفاتهم الكبرى، سواء أكانت مجموعات شعرية أو أمالي أو أخبارًا وتراجم؛ بل لقد بدأ منذ القرن الثالث تأليف هذه الكتب الجامعة مثل حماسة أبي تمام والبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد وعيون الأخبار لابن قتيبة وكتابه الشعر والشعراء. وربما كان السكري أهم راو ظهر في النصف الثاني من القرن الثالث؛ فقد رُويت عنه دواوين كثيرة، وهو يجمع في روايته بين الروايتين الكوفية والبصرية؛ إذ أخذ عن ابن حبيب وابن السكيت الكوفيين كما أخذ عن الرياشي وأبي حاتم السجستاني البصريين. وتمضي في القرن الرابع الهجري، فيتكاثر التأليف والتدوين على نحو ما هو معروف عن ابن دريد وابن الأنباري والقالي والمرزباني، وعملهم كما ذكرنا مشتق من عمل رواة القرن الثالث، ونراهم يهتمون -مثل أبي الفرج الأصبهاني في أغانيه- بالسند؛ فهم لا يكتفون غالبًا بالراوي القريب الذي سمعوا منه؛ بل يسلسلون الرواة حتى نصل إلى أبي عمرو بن العلاء أو إلى المفضل الضبي مثلًا. وبذلك قدموا لنا -صنيع سابقيهم- مادة الشعر الجاهلي بكل ما تحمل من أسباب ضعف أو ثقة، وكان كثير منهم لا يزال إلى البادية صنيع الرواة المتقدمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 4- قضية الانتحال واضح مما قدمنا أن الشعر الجاهلي دخل فيه انتحال كثير، وقد أشار إلى ذلك القدماء مرارًا وتكرارًا، وحاولوا جاهدين أن ينفوا عنه الزيف وما وضعه الوُضَّاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 متخذين إلى ذلك مقاييس كثيرة، وبلغ من حرصهم في هذا الباب أن أهمل ثقاتهم كل ما رُوي عن المتهمين أمثال حماد وخلف، وكان الأصمعي خاصة لهم بالمرصاد، كما كان المفضل الضبي من قبله، وتتابع الرواة الأثبات بعدهما يحققون ويمحصون في التراث. ومن أهمهم في هذا الجانب ابن سلام؛ فقد دون في كتابه "طبقات فحول الشعراء" كثيرًا من ملاحظات أهل العلم والدراية في رواية الشعر القديم من أساتذة المدرسة البصرية التي ينتسب إليها، وأضاف إلى ذلك كثيرًا من ملاحظاته الشخصية. وهذا الكتاب في الحقيقة هو أول كتاب أثار في إسهاب مشكلة الانتحال في الشعر الجاهلي، وقد ردها إلى عاملين: عامل القبائل التي كانت تتزيد في شعرها لتتزيد في مناقبها، وعامل الرواة الوضاعين، يقول: "لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار؛ فقالوا على ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار1" فالقبائل كانت تتزيذ في أشعارها وتروي على ألسنة الشعراء ما لم يقولوه، وقد أشار ابن سلام مرارًا إلى ما زادته قريش في أشعار الشعراء؛ فهي تضيف إلى شعرائها منحولات عليهم، وقد أضافت كثيرًا إلى شعر حسان2، "ويذكر أن من أبناء الشعراء وأحفادهم من كان يقوم بذلك، مثل داود بن متمم بن نُويرة؛ فقد استنشده أبو عبيدة شعر أبيه متمم، ولاحظ أنه لما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها، وإذا كلامٌ دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه؛ فيذكر المواضع التي ذكرها متمم والوقائع التي شهدها؛ فلما توالى ذلك علم أبو عبيدة ومن كانوا معه أنه يفتعله3" ولعل في هذا ما يدل على أن الرواة من مثل أبي عبيدة كانوا يراجعون ما ترويه القبائل، وكانوا يرفضون منه ما يتبين لهم زيفه؛ إما بالرجوع إلى أصول صحيحة أو إلى أذواقهم وما يحسنون من نقد الشعر ومعرفتهم بالشاعر ونظمه، ويسوق لنا   1 ابن سلام: ص 39 وما بعدها. 2 ابن سلام: ص م 179، 204 وما بعدها. 3 نفس المصدر ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ابن سلام شكًّا في قصيدة أبي طالب التي روتها قريش في أشعارها والتي يمدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم1، ومعنى ذلك أنهم نظروا في شعر قريش فقبلوا منه ورفضوا2. فهم يفحصون ويحققون في شعر المدينة كما فحصوا وحققوا في شعر قريش وغيرها من القبائل. ويقدم لنا ابن سلام طائفتين من الرواة كانتا ترويان منتحلًا كثيرًا وتنسبانه إلى الجاهليين، طائفة كانت تحسن نظم الشعر وصوغه وتضيف ما تنظمه وتصوغه إلى الجاهليين، ومثَّل لها بحماد، ورأينا فيما مر بنا أشباهًا له في جَنَّاد وخلف الأحمر، وطائفة لم تكن تحسن النظم ولا الاحتذاء على أمثلة الشعر الجاهلي؛ ولكنها كانت تحمل كل غثاء منه وكل زيف، وهم رواة الأخبار والسير والقصص، من مثل ابن إسحاق راوي السيرة النبوية؛ إذ كانت تصنع له الأشعار ويدخلها في سيرته دون تحرز أو تحفظ، منطقًا بالشعر العربي من لم ينطقوه من قوم عاد وثمود والعماليق وطسم وجديس. ورفض ابن سلام والأصمعي وأضرابهما رواية الطائفتين جميعًا؛ فلم يقبلوا شيئًا مما يرويه أشباه حماد إلا أن يأتيهم من مصادر وثيقة، وكذلك لم يقبلوا شيئًا مما يرويه ابن إسحاق لا عن الأمم البائدة فحسب؛ بل عن عرب الجاهلية أنفسهم؛ إلا أن يجدوه عند رواة أثبات. يقول ابن سلام: وقد ذكر أبا سفيان بن الحارث أحد شعراء قريش الذين كانوا يناقضون حسان بن ثابت وشعراء المدينة: إن شعره في الجاهلية "سقط ولم يصل إلينا منه إلا القليل" ثم علق على ذلك بقوله: "ولسنا نعد ما يروي ابن إسحاق له ولا لغيره شعرًا، ولأن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذاك لهم3"؛ فهم كانوا يرفضون جملة ما يرويه ابن إسحاق وأشباهه من مثل عبيد بن شرية وينحونه عن طريقهم، يقول ابن سلام: "وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون4" مما حمله رواة القصص والأخبار من شعر غث "لا خير فيه ولا حجة في عربيته ولا أدب يستفاد ولا معنى   1 ابن سلام: ص 204. 2 ابن سلام: ص 205. 3 ابن سلام: ص 206. 4 ابن سلام: ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف"1. ففي الشعر الجاهلي منتحل لا سبيل إلى قبوله، وفيه موثوق به، وهو على درجات منه ما أجمع عليه الرواة2 ومنه ما رواه ثقات لا شك في ثقتهم وأمانتهم من مثل المفضل والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء. وقد يغلب المنتحل الموثوقَ به؛ ولكن ذلك لا يخرج بنا إلى إبطال الشعر الجاهلي عامة؛ وإنما يدفعنا إلى بحثه وتمحيصه مهتدين بما يقدم لنا الرواة الأثبات من أضواء تكشف الطريق. وقد لفتت هذه القضية -قضية انتحال الشعر الجاهلي- أنظار الباحثين المحدثين من المستشرقين والعرب، وبدأ النظر فيها نولدكه3 سنة 1864 وتلاه آلوَرْد حين نشر دواوين الشعراء الستة الجاهليين: امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعلقمة وعنترة فتشكك في صحة الشعر الجاهلي عامة؛ منتهيًا إلى أن عددًا قليلًا من قصائد هؤلاء الشعراء يمكن التسليم بصحته، مع ملاحظة أن شكًّا لا يزال يلازم هذه القصائد الصحيحة في ترتيب أبياتها وألفاظ كل منها. وتابع كثير من المستشرقين آلوارد في موقفه الحذر من قبول كل ما يروى للجاهليين، أمثال موير وباسيه وبروكلمان، وكان مرجليوت أكثر من أثاروا هذه القضية في كتاباته إذ كتب فيها مقالًا مفصلًا نشره في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية بعدد يولية سنة 1925 جعل عنوانه كما مر بنا "أصول الشعر العربي: The origins of Arabic Poetry ونراه4 يستهله بموقف القرآن الكريم من الشعر متحدثًا عن بدء ظهوره ونشأته وآراء القدماء في ذلك، ثم ينتقل إلى الحديث عن حفظته، وينفي أن تكون الرواية الشفوية هي التي حفظته، وقد بينا آنفًا بأدلة لا تُدْفع كيف أن سلسلة روايته لم تنقطع حتى عصر التدوين ولكن مرجليوث يذهب هذا المذهب؛ ليقول إنه لم تكن هناك وسيلة لحفظه سوى الكتابة، ثم يعود فينفي كتابته في الجاهلية ليؤكد أنه نظم في مرحلة زمنية تالية للقرآن الكريم!. ويقف بإزاء الرواة المتهمين أمثال حماد وجناد وخلف الأحمر وما كان يطعن به بعض الرواة في بعض؛ ليزعم أن الوضع في هذا الشعر كان   1 ابن سلام: ص 5. 2 ابن سلام: ص 6. 3 انظر في مناقشة المستشرقين لقضية الانتحال، تاريخ الأدب العربي لبلاشير: 1/ 176 وما بعدها. 4 لخص ناصر الدين الأسد هذه المقالة في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي" تلخيصًا دقيقًا ص 353 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 مستمرًا. ويقول: إنه لا يمثل الجاهليين الوثنيين ولا من تنصروا منهم؛ فأصحابه مسلمون لا يعرفون التثليث المسيحي ولا الآلهة المتعددة؛ إنما يعرفون التوحيد والقصص القرآني وما في الإسلام من مثل الحساب ويوم القيامة وبعض صفات الله. وفي كتاب الأصنام لابن الكلبي من الشعر الجاهلي ما ينقض زعمه نقضًا، أما الشعر المصبوغ بصبغة إسلامية بحتة فنسلم بأنه موضوع، ووضعه ينحصر فيه، ولا يبطل ما وراءه من أشعار جاهلية. وينتقل مرجليوث من ذلك إلى اللغة فيلاحظ أنها لغة ذات وحدة ظاهرة، وهي نفس لغة القرآن الكريم التي أشاعها في العرب، ويقول: ولو أن هذا الشعر صحيح لمثل لنا لهجات القبائل المتعددة في الجاهلية كما مثل لنا الاختلافات بين لغة القبائل الشمالية العدنانية واللغة الحميرية في الجنوب. وأسلفنا في غير هذا الموضع أن لغة القرآن الفصحى كانت سائدة في الجاهلية وأن الشعراء منذ فاتحة هذا العصر كانوا ينظمون بها وأنها كانت لهجة قريش، وسادت بأسباب دينية واقتصادية وسياسية؛ فكان الشعراء ينظمون فيها متخلين عن لهجاتهم المحلية على نحو ما يصنع شعراء العرب في عصرنا على اختلاف لهجات بلدانهم وأقاليمهم. أما أن الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الحميرية؛ فهذا طبيعي لأنها ليست لغته، وقديمًا قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاضي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا1 وقد أخذت الفصحى كما قدمنا تقتحم الأبواب على هذه اللغة في الجاهلية نفسها، بحيث نستطيع أن نقول إن تعريب الجنوبيين بدأ منذ عهود مبكرة. وآخر أدلة مرجليوث على مزاعمه أن النقوش المكتشفة للمماليك الجاهلية المتحضرة وخاصة اليمنية لا تدل على وجود أي نشاط شعري فيها؛ فكيف أتيح لبدو غير متحضرين أن ينظموا هذا الشعر بينما لم ينظمه من تحضروا من أهل هذه المماليك. ودحض بروينلش هذا الدليل؛ لأن نظم الشعر لا يرتبط بالحضارة ولا بالثقافة والظروف الاجتماعية، وهناك فطريون أو بدائيون لهم شعر كثير مثل الإسكيمو2. والحق أن مرجليوث جانبه الصواب في دعواه؛ ولذلك هب كثير من المستشرقين يردون عليه، مثل بروينلش ولايل، واحتج عليه الأخير في مقدمته للمفضليات بأن من وضعوا هذا الشعر -على فرض التسليم بذلك- كانوا يحاكون نماذج سابقة   1 ابن سلام: ص 11. 2 بلاشير: ص 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وتقاليد أدبية موروثة قلدوها وحاكوها. ونفس هذه المحاكاة تدل على وجود أصل كانوا يحاكونه؛ إذ لا يمكن أن يحاكوا شيئًا لم يبق منه ما يتيح لهم هذه المحاكاة، وإذن فلا بد أن يكون هناك شعر جاهلي عرفه الإسلاميون وحاكوه، وحقًّا دخله انتحال أمثال حماد وخلف، ولكن وراء انتحالهم شعر صحيح، ينبغي أن نهتدي في معرفته بالرواية الوثيقة وصفته الشخصية والأسلوبية المميزة، ونراه يعود إلى هذا الموضوع في مقدمته لديوان عبيد بن الأبرص، فيؤكد أن رواية هذا الشعر استمرت حية نشطة من الجاهلية إلى أن دُوِّنَ نهائيًا في العصر العباسي، وقد يكون أصاب قصائده بعض التغيير؛ ولكن من يرجع إلى المعلقات مثلًا يجد لكل منها شخصيتها الواضحة التي تنفرد بها والتي تثبت أنها لصاحبها، وأعاد ما قاله في المقدمة الأولى من أن تقاليد شعر القرن الأول الهجري تلزم بوجود الشعر الجاهلي الذي يشترك معها في نفس التقاليد، وأيضًا فإن فيه من الألفاظ الغريبة ما لم يكن يستخدم في عصر هؤلاء الرواة ممن دونوه مما يدل دلالة قاطعة على أنه صحيح في جوهره. ولا يزال المستشرقون إلى اليوم يختلفون في قبول هذا الشعر بحذر والشك فيه شكًّا معتدلًا أو متطرفًا، وممن أدلى بدلوه منهم في هذا الموضوع بلاشير في الجزء الأول من كتابه: "تاريح الأدب العربي"؛ إذ تحدث طويلًا مبينًا بل مجسمًا الشبهات؛ وبينما يحاول الاعتدال أحيانًا إذا به يهجم هجومًا عنيفًا1 ومن ألوان هجومه قوله: "نحن نجد في النصوص المذكورة أن الشعراء أيًّا كان عصرهم أو قبائلهم يستعملون لغة بصورة مجملة قواعد نحاة البصرة، ولا شك في أن القصائد الجاهلية جُرِّدت بتأثير الرواة الكبار عن كثير من الظواهر اللهجية، كما أن التثبيت الكتابي بدوره أتم توحيد اللغة وحتى الأسلوب"2 ويقول: "كل شيء يدعونا إلى الاعتقاد بأن كبار الرواة ومعهم علماء العراق قد أجروا في الشعر القديم إصلاحات ذات صبغة جمالية"3 ثم يقول: "والمدهش هو تعدد الروايات واتساعها داخل كل بيت، ولا ريب في أنها ناشئة عن ضعف الذاكرة في أثناء الرواية الشفوية وأن عددًا قليلًا منها ناشئ عن عدم اكتمال طريقة الكتابة أو عن استبدالات في المترادفات.   1 بلاشير: ص 183 وما بعدها. 2 بلاشير: ص 188. 3 بلاشير: ص 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وما من شيء يجيز لنا التأكيد بأن هذه الفروق الجزئية ليست قديمة ولا تصعد إلى ظهور الأثر نفسه1" وينتهي من ذلك إلى أن "دراسة النصوص الشعرية -يقصد الصحيحة- تقودنا إلى وضع مبدأ يقضي بعدم امتلاكنا أي أثر شفوي في شكله الأصيل، ونحن نعلم لكي تتم المأساة أن المقلدات قد امتزجت بالأصول القديمة التي يختلف تحريفها قلة أو كثرة دون أن نتمكن في كثير من الأحيان من كشف هذه الانتحالات"2. وواضح أن بلاشير يزعم أن الأصول الصحيحة للشعر الجاهلي اختلطت بالنماذج والقصائد الموضوعة اختلاطًا يتعذر معه أن تميز، وهو زعم مبالغ فيه؛ لأن هذه الأصول كما قدمنا وصلتنا عن رواة ثقات، وأجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على توثيقها؛ بحيث لا يرقى إليها الشك. وهو يزعم أيضًا أن الرواة ونحاة البصرة عدلوا في هذه الأصول بما يتمشى مع القواعد النحوية البصرية من جهة والقواعد الجمالية الأسلوبية من جهة ثانية، ويتخذ دليله على ذلك خلو القصائد الجاهلية من ظواهر اللهجات القبلية، وقدمنا أن هذه الظواهر كانت فعلًا تكاد تكون منعدمة في الجاهلية نفسها لأن الشعراء في القبائل المختلفة اصطلحوا على أن ينظموا شعرهم بلهجة قريش، واتخذوها لغة لشعرهم، ومن أجل ذلك لم يسقط من لهجاتهم في أشعارهم إلا أشياء قليلة جدًّا، سجلها هؤلاء النحاة البصريون؛ وإلا ففيم هذه الشواذ النحوية التي تمتلئ بها كتبهم. ولم يكن رواة البصرة ونحاتها وحدهم الذين يروون هذا الشعر؛ بل كان يرويه معهم رواة الكوفة ونحاتها، وكانوا مولعين بإثبات الشواذ واعتبارها أصولًا يقاس عليها، أما أن هؤلاء الرواة جميعًا أدخلوا في الشعر الجاهلي إصلاحات ذات صبغة جمالية تقوم على متانة اللفظ وجزالته؛ فهي دعوى تستلزم ضربًا من الدور؛ إذ كانوا يرجعون في هذه الإصلاحات إلى المقاييس الجمالية المبثوثة في هذا الشعر الجاهلي والتي تقوم على الرصانة والجزالة، ثم يصلحونه على أساسها، وبذلك يجعلهم بلاشير يدورون، وهو دور باطل، تنقضه طبيعة الأشياء. والحق أن ثقاتهم نقلوا إلينا هذا الشعر بكل صفاته الجمالية وما داخله من عيوب تركيبية أو شواذ نحوية أو لغوية. على أننا نسلم بما يقوله بلا شير   1 بلاشير: ص 189. 2 بلاشير: ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 من أن القصائد أصابها بعض التغيير أثناء سفرها الطويل من الجاهية إلى عصر التدوين؛ فقد يستبدل الراوي كلمة بأخرى ترادفها، وقد يغيب عن ذاكرته بعض الأبيات، وقد يخالف في ترتيب أبيات القصيدة فيقدم فيها أو يؤخر؛ غير أن ذلك لا يخل بصحة ما حمله ورواه العلماء الثقات الذين نصوا على المنتحل المصنوع على نحو ما يصور لنا ذلك كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام. وإذا تركنا المستشرقين إلى العرب المحدثين والمعاصرين؛ وجدنا مصطفى صادق الرافعي يعرض هذه القضية -قضية الانتحال في الشعر الجاهلي- عرضًا مفصلًا في كتابه "تاريخ آداب العرب" الذي نشره في سنة 1911؛ ولكنه لا يتجاوز في عرضه -غالبًا- سَرْدَ ما لاحظه القدماء1 ونحن نحمد له استقصاءه لملاحظتهم كما نحمد له ما وقف عنده من شعر الشواهد للمذاهب النحوية والكلامية؛ فقد لاحظ ما دخل هذا الشعر من بعض الوضع، وهو وضع سجله القدماء أنفسهم ولم يفتهم التنبيه عليه. وخلف مصطفى الرافعي طه حسين فدرس القضية دراسة مستفيضة في كتابه "الشعر الجاهلي" الذي أحدث به رجة عنيفة أثارت كثيرين من المحافظين والباحثين فتصدوا للرد عليه. ولم يلبث أن ألف مصنفه "في الأدب الجاهلي" الذي نشره في سنة 1927 وفيه بسط القول في القضية بسطًا أكثر سعة وتفصيلًا؛ إذ زودها ببراهين جديدة، وقد خصص لها في مصنفه أربعة كتب، هي الكتاب الثاني والثالث والرابع والخامس، ونراه يعني في الكتاب الثاني ببيان الأسباب التي تحمل على الشك في الشعر الجاهلي، ويقدم بين يديها نتيجة بحثه فيقول: "إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء؛ وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام؛ فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًّا، لا يمثل شيئًا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي2".   1 انظر الطبعة الثانية من هذا الكتاب ص 277 وما بعدها. 2 في الأدب الجاهلي "الطبعة الأولى " ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وواضح أنه يُبقي في الشعر الجاهلي على بقية صحيحة، وإن كانت في رأيه قليلة، ولا تعطينا الصورة الأدبية الوثيقة لهذا الشعر. وقد مضى يبسط الأسباب التي تدفع الباحث إلى الشك فيه واتهامه، وردها إلى أنه لا يصور حياة الجاهليين الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية، كما أنه لا يصور لغتهم وما كان فيها من اختلاف اللهجات، وتباينها بلهجاتها من اللغة الحميرية. أما من حيث حياتهم؛ فيقول إنه عرضها على القرآن الكريم؛ فوجده يمثلها من جميع جوانبها المذكورة تمثيلًا قويًّا؛ فهو يجادل اليهود والنصارى والصابئة والمجوس ويهاجمهم كما يهاجم الوثنيين والوثنية، ويطلعنا في تضاعيف ذلك على جملة معتقداتهم؛ بينما نجد الشعر -كما يقول- بريئًا أو كالبريء من الشعور الديني القوي والعاطفة المتسلطة على النفس. وقياس الشعر الجاهلي في هذا الجانب على القرآن الكريم مردود أو منقوص، لأن القرآن كتاب ديني يريد أن يجمع العرب على الإسلام؛ فطبيعي أن يعرض لدياناتهم ويناقشها، ويبين ما فيها من ضلال، بخلاف الشعر، فإن شاعرًا لم يدع لدين جديد، ومع ذلك فإن في كتاب الأصنام لابن الكلبي ذخيرة كبيرة من الشعر تصور حياتهم الوثنية تصويرًا دقيقًا. وينتقل إلى حياتهم العقلية فيلاحظ أنها غير واضحة في الشعر المنسوب إليهم، وكأنه يطلب إليهم حياة عقلية راقية أو معقدة، وكانوا في جمهورهم بدْوًا لم يتحولوا إلى طور فكري منظم، وقد عرضنا في غير هذا الموضع لذلك الطور وما يمثله من أشعارهم. ومعنى ذلك أن حياتهم العقلية الفطرية ماثلة في شعرهم. ويخرج من ذلك إلى أن حياتهم السياسية لا تتضح في أشعارهم، مع أنهم كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، مما يوضحه القرآن الكريم في سورة الروم؛ إذ يعرض علينا العرب شيعتين: شيعة تنتصر للروم وشيعة تنتصر للفرس. وهذا في الواقع لا يصدق على العرب جميعًا؛ إنما يصدق على قريش وقوافلها التجارية التي كانت تنزل في بلاد الدولتين. ومع ذلك فقد كان شعراء نجد والحجاز يتصلون بالغساسنة من أتباع الروم والمناذرة من أتباع الفرس ويمدحونهم ويهجونهم. ولما نشبت الحروب بين قبيلة بكر والفرس قبيل الإسلام هددهم شعراء هذه القبيلة وتوعدوهم طويلًا على نحو ما هو معروف عن الأعشى مثلًا. ويتحدث عن حياتهم الاقتصادية وأننا لا نظفر بشيء ذي غناء في شعرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 يمثل لنا هذه الحياة؛ بينما يمثل لنا الذكر الحكيم العرب طائفتين: طائفة الأغنياء المستأثرين بالثورة وطائفة الفقراء المعدمين، وليس في الشعر ما يصور ذلك كما يقول؛ إنما فيه أن العرب جميعًا أجواد كرام؛ على حين يلح القرآن الكريم في ذم البخل والبخلاء. وهذا القياس أيضًا لا يستقيمن لسبب بسيط، وهو أن شعر الصعاليك طافح بما يصور النضال بين الأغنياء والفقراء1، وأيضًا فإن شعراءهم إذا كانوا قد أكثروا في مدحهم وفخرهم من ذكر الكرم؛ فإنهم أكثروا في هجائهم من ذكر البخل وشح النفس. ولا بد أن نلاحظ أن كثيرًا من القرآن نزل في قريش التاجرة التي بلغ كثير منها مبلغًا عظيمًا في الثراء والتي كان يشيع فيها الربا أضعافًا مضاعفة. ووقف طه حسين طويلًا إزاء لغة الشعر الجاهلي ولاحظ أنه لا يصور اللغتين الشائعتين في الجزيرة: لغة الحميريين الجنوبية ولغة العدنانيين الشمالية؛ بل هو يضيف إلى الجنوبيين أشعارًا بلغة الشماليين. وحقًّا إن ما يضاف إلى من كانوا في أقصى الجنوب وداخل اليمن منتحل، أما من كانوا منهم يجاورون الشماليين؛ فقد تعربوا في الجاهلية مثل مذجح وبلحارث بن كعب. على أنه يطرد القياس فيتشكك في شعراء القبائل اليمنية التي هاجرت من مواطنها الأصلية في الجنوب إلى الشمال مثل كندة وشاعرها امرئ القيس. ومما لا شك فيه أن هذه القبائل هاجرت إلى الشمال قبل العصر الجاهلي وتعربت؛ فهي ليست يمنية ولا جنوبية من الوجهة اللغوية، وإنما هي شمالية. وقد وقف عند لهجات الشماليين في الجاهلية، تلك التي تمثلها قراءات القرآن الكريم، ولاحظ أن الشعر الجاهلي لا يمثلها، واتخذ من ذلك مطعنًا في صحته، ومر بنا في غير هذا الموضع أن لهجة قريش عمت في الجزيرة منذ أوائل القرن السادس الميلادي واتخذها الشعراء لغة أدبية لهم، ينظمون فيها أشعارهم مرتفعين غالبًا عن لهجات قبائلهم المحلية؛ فلا محل للتساؤل عن هذه اللهجات في شعر الجاهليين، ولا موضع لاتخاذ ذلك دليلًا على أنه منتحل موضوع. ونراه يتشكك في شعر الشواهد التعليمية على ألفاظ القرآن والحديث والمذاهب الكلامية؛ غير أن هذه الشواهد أبيات فردية، واتهامها ينبغي أن ينحصر   1 الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ليوسف خليف "طبع دار المعارف" ص 132 وما بعدها وص 227 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فيها وأن لا يتعداها إلى الشعر الجاهلي عامة. ويخرج طه حسين في مصنفه من هذا الكتاب الثاني إلى الكتاب الثالث؛ فيتحدث عن أسباب نحل الشعر ويبسطها بسطًا معتمدًا على ملاحظات القدماء، ونراه يردها إلى السياسة والدين والقصص والشعوبية والرواة، أما السياسة وأراد بها العصبية القبلية فرآها تلعب دورًا واضحًا في شعر قريش والأنصار؛ إذ أضافت قريش إلى نفسها أشعارًا كثيرة، وقد استكثرت بنوع خاص من الشعر الذي يهْجَى به الأنصار. وواضح أن هذا لم يكن غائبًا عن ابن سلام؛ فقد نص عليه وحذر منه كما أسلفنا، كما حذر من أشعار وضعتها قريش على لسان حسان؛ على أن الأشعارش جميعها التي وقف طه حسين عندها ليست جاهلية؛ وإنما هي إسلامية. وينتقل إلى الدين فيبين دوره في هذا النحل متشككًا في الأشعار التي يقال: إنها نظمت في الجاهلية إرهاصًا ببعثة الرسول، مما رواه ابن إسحاق واحتفظ به ابن هشام في سيرته، ومثله ما يضاف إلى الجن والأمم القديمة البائدة. ومر بنا رفض ابن سلام لهذه الأشعار وما يماثلها. وتشكك فيما أضيف إلى شعراء اليهود والنصارى من أشعار، وكذلك ما أضيف إلى عدي بن زيد العبادي، ولم يكن القدماء في غفلة عن ذلك1. ونراه يتحدث عن القصص والقصاص وأثرهم في وضع الشعر، ومر بنا تنبيه ابن سلام على ذلك عند ابن إسحاق وأضرابه. ويعرض للشعوبية وما يمكن أن تكون قد نحَلت الجاهليين من أشعار، لتثبت على لسانهم مثالبهم التي تدعيها، كما تثبت ثناءهم على الأعاجم. وقد تشكك في هذا الشعر الكثير الذي يضيفه الجاحظ إلى الجاهليين في مصنفه الحيوان؛ ليدل على اتساع معرفتهم في هذا العلم: علم الحيوان، عصبية لهم، والحق أن هذا لم يكن من أهداف الجاحظ؛ فهو نفسه ينفي عنهم العلم الدقيق بالحيوان؛ إذ يقول: إن معارفهم فيه معارف أولية، وإنه إنما دار في أشعارهم لأنه كان مبثوثًا تحت أعينهم وأبصارهم في ديارهم2. ويختم هذا الكتاب بالوقوف عند الوضاعين من الرواة أمثال حماد وخلف، ومرَّ بنا كيف أن القدماء كانوا لهم بالمرصاد. ومعنى ذلك كله أنه في هذا الكتاب إنما يردد ما نص عليه العلماء السابقون من قضايا، يريد أن يتسع بها.   1 انظر ابن سلام: ص 117. 2 الحيوان: 6/ 29 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 لنقض الشعر الجاهلي جميعه، وهي إنما تنقض جوانب منه، وينبغي أن نقف عندها، وأن لا نذهب مذهب التعميم؛ فإن القدماء إنما ذكروا هذا كله ليدلوا على ما أحاطوا به رواية الشعر الجاهلي من سياج قوي، حتى نميز الصحيح من الزائف والوثيق من المنحول. ويمضي طه حسين في مصنفه إلى الكتاب الرابع، وهو دراسة تطبيقية لبيان الانتحال في شعر طائفة من شعراء اليمن وربيعة ويبدأ في دراسته بامرئ القيس ويتشكك في شعره؛ لأنه يمني وشعره قرشي اللغة، ثم هو شعر مضطرب ركيك. ومر بنا أنه كان يمني الجنس؛ ولكنه كان قرشي اللغة، أما أن شعره ركيك والوضع فيه كثير؛ فقد كان يغنيه عن هذا الظن ما يُروى عن الأصمعي من أنه قال: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نُتَفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء1". ونراه ينتقل إلى علقمة الفحل فيشك في شعره، وقد كان ابن سلام لا يثبت له سوى ثلاث قصائد2. وشك في شعر عبيد بن الأبرص، وأسلفنا أن ابن سلام لم يكن يعرف له سوى معلقته "أقفر من أهله ملحوب" وكان يقول: إن شعره مضطرب ذاهب. ومضى على هذا النحو يشك في شعر عمرو ابن قميئة ومهلهل وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وطرفة والمتلمس والأعشى معتمدًا على الأحكام الذاتية، ولو أنه استقصى آراء الرواة الثقات لأعانه ذلك كثيرًا في تحقيق أشعارهم جميعًا. وننتقل مع طه حسين في مصنفه إلى الكتاب الخامس، وهو خاص بشعراء مضر؛ فنراه لا يستبعد أن يكون هناك شعراء مضريون وشعر مضري؛ غير أنه لا يلبث أن يستدرك قائلًا: "لكنا لا نشك أيضًا في أن هذا الشعر قد ذهب وضاعت كثرته، ولم يبق لنا منه إلا شيء قليل جدًّا ولا يكاد يمثل شيئًا، وهذا المقدار القليل الذي بقي لنا من شعر مضر قد اضطرب وكثر فيه الخلط والتكلف والنحل، حتى أصبح من العسير جدًّا إن لم يكن من المستحيل تخليصه وتصفيته3". ويضيف إلى ذلك أن من الخطأ أن نكتفي في الحكم على الشعر المضري بالسند ومن يحمله من الرواة، أو بالغرابة والسهولة، ذاهبًا إلى أن الباحث في هذا الشعر   1 مراتب النحويين: ص 72. 2 ابن سلام: ص 116. 3 في الأدب الجاهلي: ص 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ينبغي أن يحكم فيه مقياسًا مركبًا من خصائص فنية يشترك فيها طائفة من الشعراء بحيث يكوِّنون مدرسة كمدرسة أوس بن حجر التي تتألف منه ومن زهير وابنه كعب والحطيئة، فإن لهذه المدرسة من الخصائص الفنية المشتركة ما يؤكد صحة شعرها وسلامته من الوضع والانتحال. وكأنه بذلك يهدم شكوكه الواسعة في الشعر الجاهلي؛ فقد رجع أخيرًا يسلم بصحة بعض جوانبه ودواوينه؛ على أننا لا نسلم له بطرد هذا المقياس في تلك المدرسة نفسها؛ فقد لاحظ القدماء أن شعر أوس بن حجر اختلط بشعر ابنه شُرَيْح1، واختلف الرواة في بعض ما نسب إليه من شعر هل هو له أو لعبيد ابن الأبرص الأسدي2، وسنرى في درسنا لزهير أن من الخطأ أن نقبل رواية الكوفيين لديوانه؛ فقد حملت زيادات كثيرة، شك القدماء في أطراف منها، ونفس الرواية البصرية سنرفض قطعًا وأشعارًا منها؛ رغم أنها جاءتنا عن الأصمعي بل سنرى الأصمعي نفسه يشك في ثلاث قصائد مثبتة في روايته. والحق أن الشعر الجاهلي فيه موضوع كثير؛ غير أن ذلك لم يكن غائبًا عن القدماء؛ فقد عرضوه على نقد شديد، تناولوا به رواته من جهة وصيغه وألفاظه من جهة ثانية، أو بعبارة أخرى عرضوه على نقد داخلي وخارجي دقيق. ومعنى ذلك أنهم أحاطوه بسياج محكم من التحري والتثبت؛ فكان ينبغي أن لا يبالغ المحدثون من أمثال مرجليوث وطه حسين في الشك فيه مبالغة تنتهي إلى رفضه؛ إنما نشك حقًّا فيما يشك فيه القدماء ونرفضه، أما ما وثقوه ورواه أثباتهم من مثل أبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبي والأصمعي وأبي زيد فحري أن نقبله ما داموا قد أجمعوا على صحته. ومع ذلك ينبغي أن نخضعه للامتحان وأن نرفض بعض ما رووه على أسس علمية منهجية لا لمجرد الظن؛ كأن يروى لشاعر شعر لا يتصل بظروفه التاريخية، أو تجري فيه أسماء مواضع بعيدة عن موطن قبيلته، أو يضاف إليه شعر إسلامي النزعة، ونحو ذلك مما يجعلنا نلمس الوضع لمسًا.   1 الحيوان: 6/ 279. 2 ابن سلام: ص 76- 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 5- أهم مصادر الشعر الجاهلي رأينا علماء البصرة والكوفة ورواتهما يجمعون مادة الشعر الجاهلي، وقد توزعتها منتخبات عامة ودواوين مفردة للشعراء وأخرى للقبائل غير كتب الطبقات والتراجم وكتب التاريخ واللغة. وسنحاول وصف طائفة منها وبيان مقدار الثقة بها. ونبدأ من المنتخبات العامة بالمعلقات، وقد مر بنا أنها لم تعلق بالكعبة كما زعم بعض المتأخرين؛ وإنما سميت بذلك لنفاستها أخذًا من كلمة العلق بمعنى النفيس، ويقال: إن أول من رواها مجموعة في ديوان خاص بها حماد الرواية1، وهي عنده سبع: لامرئ القيس وزهير وطرفة ولبيد وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة. ونراها عند المفضل الضبي سبعًا أيضًا؛ غير أنه أسقط اثنين من رواية حماد هما الحارث بن حلزة وعنترة وأثبت مكانهما الأعشى والنابغة2، وربما أضاف حماد الحارث في مقابلة عمرو بن كلثوم التغلبي؛ لأن ولاءه كان في بكر؛ على أننا لا نمضي في عصر التبريزي حتى نجده يجعلها في شرحه لها عشرًا جامعًا بين الروايتين ومضيفًا قصيدة عبيد بن الأبرص: "أقفر من أهله ملحوب". وقد عني الشراح بهذه المجموعة؛ فشرحوها مرارًا، وطبع من شروحهم شرح الزوزني المتوفى سنة 486هـ. وقد كتبه على رواية حماد، ثم شرح التبريزي المتوفى سنة 502. وأكبر الظن أن حمادًا لم يأخذ حريته كاملة في قصائد مجموعته؛ فقد كانت على ما يظهر معروفة بين العرب؛ على أنه ينبغي مقابلتها على دواوين أصحابها ورواياتها الوثيقة. والمجموعة الثانية في المنتخبات هي المفضليات نسبة إلى جامعها المفضل الضبي راوي الكوفة الثقة، وقد نشرها ليال بشرح ابن الأنباري، وهي مائة وست وعشرون قصيدة أضيف إليها أربع قصائد وجدت في بعض النسخ، وفي مقدمة الشرح   1 انظر ترجمة حماد في معجم الأدباء: 10/ 266. 2 العمدة لابن رشيق "الطبعة الأولى" 1/ 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 سند كامل لها يرفعه ابن الأنباري إلى ابن الأعرابي تلميذ المفضل وربيبه، ويقول ابن النديم: "هي مائة وثمانية وعشرون قصيدة. وقد تزيد وتنقص وتتقدم القصائد وتتأخر، بحسب الرواية عن المفضل، والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي1"، ومعنى ذلك أن في أيدينا أوثق نسخة للمفضليات. وتعلَّق عبد السلام هارون وأحمد شاكر ناشراها في دار المعارف بنص عن الأخفش يزعم أنها كانت ثمانين ألقاها المفضل على المهدي، وزاد فيها الأصمعي أربعين، ثم زاد البقية بعض تلاميذه2. وربما جاء الأخفش اللبس3 من أن الأصمعيات تلتقي معها في تسع عشرة قصيدة، وأيضًا فقد جد الرواة يقولون إن أبا جعفر المنصور حين عهد إلى المفضل بتثقيف ابنه المهدي بالشعر القديم اختار له ثمانين قصيدة؛ فلما وجدها قد زادت عن الثمانين ووجدها تلتقي مع الأصمعيات في بعض القصائد ظن أن الأصمعي وتلاميذه هم الذين أضافوا فيها هذه الزيادات، ولو أنه اطلع على رواية ابن الأعرابي خصم الأصمعي لزايله هذا الوهم؛ وكأن المفضل اختار أولًا ثمانين ألقاها على المهدي، ثم زادها إلى مائة وثمانية وعشرين كما جاءت في رواية تلميذه ابن الأعرابي. وهي موزعة على سبع وستين شاعرًا منهم سبع وأربعون جاهليًّا وعلى رأسهم المرقشان الأكبر والأصغر والحارث بن حلزة وعلقمة بن عبدة والشنفرى وبشر بن أبي حازم وتأبط شرًّا وعوف بن عطية وأبو قيس بن الأسلت الأنصاري والمسيب وبينهم امرأة من بني حنيفة ومجهول من اليهود ومسيحيان هما عبد المسيح بن عسلة الشيباني وتتضح مسيحيته في اسمه، ثم جابر بن حني التغلبي، ونراه يقول في مفضليته: وقد زعمت بهراء أن رماحنا ... رماح نصارى لا تخوض إلى الدم ولو لم يصلنا من الشعر الجاهلي سوى هذه المجموعة الموثقة لأمكن وصف تقاليده وصفًا دقيقًا؛ فقد مثلت جوانب الحياة الجاهلية ودارت مع الأيام والأحداث.   1 الفهرست: ص 102. 2 ذيل الأمالي: ص 131. 3 ذهبنا إلى أنه لبس، وربما كان بعامل التنافس بين البصرين والكوفيين؛ فالأخفش البصري يريد أن يقول: إن المفضليات من صنع البصريين والكوفيين جميعًا لما كان لها من شهرة في عصره فاقت شهرة الأصمعيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وعلاقات القبائل بعضها ببعض وبملوك الحيرة والغساسنة، وانطبعت في كثير منها البيئة الجغرافية. وقد جاء فيها كثير من الكلمات المندثرة التي لم ترد في المعاجم اللغوية1 على كثرة ما أثبتت من الألفاظ المهجورة، مما يرفع الثقة بها ويؤكدها. والمجموعة الثالثة من كتب المنتخبات العامة الأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راويها، وقد نشرها ألوارد "Ahlwardt" عن نسخة سقيمة في برلين سنة 1902 وأعاد نشرها عبد السلام هارون وأحمد شاكر عن نسخة للشنقيطي نقلها عن أصل قديم وهي نشرة علمية جيدة، وقد بلغ عدد قصائدها ومقطوعاتها اثنتين وتسعين، وهي موزعة على 71 شاعرًا منهم نحو 40 جاهليًّا على رأسهم امرؤ القيس والحارث بن عباد ودريد بن الصِّمَّة وأبو دؤاد الإيادي وذو الإصبع العُدواني وسلامة بن جندل وطرفة وعروة بن الورد وقيس بن الحطيم، وبينهم يهوديان هما سعية بن الغريض والسموأل. وهذه المجموعة كسابقتها في الثقة بها وعلو درجتها، وقد جاء فيها أيضًا كثير من الكلمات المهجورة التي لم تثبتها المعاجم2؛ غير أنها لم تلعب الدور الذي لعبته المفضليات فلم يتعلق بها الشراح، ولعل ذلك يرجع إلى قلة غريبها بالقياس إلى المفضليات، وأيضًا فإن الأصمعي لم يرو كثيرًا من القصائد كاملة؛ بل اكتفى بمختارات منها. والمجموعة الرابعة جمهرة أشعار العرب لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، ولا نجد اسمه بين الرواة المشهورين؛ غير أنه يتضح من مقدمته لكتابه وما نقله عن الرواة أن بينه وبين رواة القرن الثاني جيلين أو ثلاثة؛ فالوسائط بينه وبينهم في السند غير بعيدة؛ ولذلك نظن أنه كان يعيش في أواخر القرن الثالث أو أوائل القرن الرابع، وقد ذكره ابن رشيق المتوفى سنة 463 للهجرة في كتابه العمدة3 كما ذكره السيوطي في المزهر4 والبغدادي في الخزانة5. والجمهرة تضم تسعًا وأربعين قصيدة طويلة موزعة على سبعة أقسام في كل قسم سبع قصائد، والقسم الأول خاص بالمعلقات، وقد أخذ فيها برواية الضبي، فأسقط منها معلقتي الحارث وعنترة ووضع مكانهما معلقتي الأعشى والنابغة. ويلى هذا القسم المجمهرات وهي   1 انظر الفهرس الثالث الملحق بالمفضليات "طبع دار المعارف". 2 انظر الفهرس الثالث الملحق بالأصمعيات. 3 العمدة: 1/ 60. 4 المزهر: 2/ 480. 5 الخزانة: 1/ 10، 61، 2/ 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لعبيد بن الأبرص وعدي بن زيد وبشر بن أبي خازم وأمية بن أبي الصلت وخداش بن زهير والنمر بن تولب وعنترة وألحقت قصيدته في النسخة المطبوعة بالمعلقات خطأ. ويلي ذلك المنتقيات أي المختارات، ثم المذهبات وجميعها لشعراء من الأنصار جاهليين أو مخضرمين، وربما قُصد باسمها أنها تستحق أن تكتب بالذهب، ثم عيون المراثي، ثم المشوبات وهي لمخضرمين شابهم الكفر والإسلام، ثم الملحمات وجميعها لإسلاميين. وهي مجموعة غنية بالقصائد الطويلة ولكنها غير موثقة الرواية؛ فلا بد في الاعتماد عليها من مقابلتها على روايات صحيحة. وطُبعت الجمهرة مرارًا في بيروت والقاهرة. ومثل هذه المجموعة في ضعف سندها مختارات ابن الشجري المتوفى سنة 542 للهجرة، وهي مختارات من شعر جاهلي وإسلامي، موزعة على ثلاثة أقسام وأهم من في القسم الأول الشنفرى وطرفة ولقيط الإيادي والمتلمس، أما القسم الثاني فمختارات من دواوين زهير وبشر بن أبي خازم وعبيد بن الأبرص، وأما القسم الثالث فمختارات من ديوان الحطيئة. وطبعت هذه المجموعة بالقاهرة. وتدخل في هذه المختارات دواوين الحماسة، وقيمتها أدبية أكثر منها تاريخية؛ إذ لا يعرفنا أصحابها بمصادرهم وأشهرها ديوان الحماسة لأبي تمام المتوفى حوالي سنة 232 للهجرة وقد شُرح مرارًا، ومن شروحه المطبوعة شرح المرزوقي وشرح التبريزي وهو يفيض بالإشارات التاريخية. ونص المرزوقي على أن أبا تمام أصلح في الشعر الذي رواه، يقول: "إنك تراه ينتهي إلى البيت الجيد في لفظة تشينه؛ فيجبر نقيصته من عنده، ويبدل الكلمة بأختها في نقده، وهذا يبين لمن رجع إلى دواوينهم؛ فقابل ما في اختياره بها1". وحماسته موزعة على عشرة أبواب أكبرها باب الحماسة وبه سماها، وهي مقطوعات لجاهليين وإسلاميين وعباسيين، وقلما رَوى فيها قصائد كاملة. وتلي هذه الحماسة في الأهمية حماسة البحتري المتوفى سنة 284هـ وهي مقطوعات قصيرة موزعة على مائة وأربعة وسبعين بابًا، وأكثر أبوابها في نزعات خلقية، ولم يعن القدمان بشرحها. ولابن الشجري صاحب المختارات حماسة طبعت في حيدر أباد، وأغلب منتخباتها من الشعر الجاهلي. وطبعت أخيرًا حماسة الخالديين أو الأشباه والنظائر للأخوين سعيد الخالدي المتوفى   1 شرح ديوان الحماسة للمرزوقي "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 1/ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 سنة 350 ومحمد المتوفى سنة 380 ولا تزال الحماسة البصرية لعلي بن أبي الفرج البصري المتوفى في القرن السابع غير مطبوعة، وفي دار الكتب المصرية مخطوطتان منها. وإذا تركنا هذه المختارات إلى الدواوين المفردة لقينا منها دواوين الشعراء الستة الجاهلين: امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة وقد نشرها ألوارد؛ إلا أنه لم يكتف برواية الأصمعي التي احتفظ بها شرح الشنتمري؛ بل أضاف إليها زيادات هي في الأكثر منحولات، ولا تزال في حاجة إلى نشر شرح الشنتمري المتوفى سنة 476 وقد استخرج، منه مصطفى السقا شرحه على تلك الدواوين والتزم روايته في المجموعة التي سماها باسم مختار الشعر الجاهلي. وطبع ديوان امرئ القيس طبعات مختلفة لعل أهما الطبعة الأخيرة بدار المعارف، وقد جمع فيها أبو الفضل إبراهيم رواياته جميعها وقارن بينها مقارنات دقيقة. ونشرت دار الكتب المصرية ديوان زهير بشرح ثعلب؛ غير أن من حققوه لم يقابلوا بين هذه الرواية الكوفية ورواية الأصمعي البصرية التي يحتفظ بها الشنتمري في شرحه. وطبعت دواوين أخرى مثل ديوان النابغة وطرفة ولبيد وعروة بن الورد وحاتم وعلقمة والشنفرى وأوس بن حجر؛ إلا أن أكثر هذه الدواوين لا يزال في حاجة إلى نشرة علمية جيدة. وقد نشر لايل ديواني عبيد بن الأبرص وعامر بن الطفيل، وهناك دواوين مخطوطة لما تنشر. أما دواوين القبائل التي جمع منها الشيباني نيفًا وثمانين وعُني السكري بكثير منها ففقدت في الطريق1، ولم يبق منها إلا قطع من ديوان هذيل نشرت في خمس مجموعات، أربع منها في أوروبا وهي من صنعة أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري، طبعت أولاها في لندن سنة 1854 بتحقيق كوزجارتن، وطبعت الثانية في برلين سنة 1887 بتحقيق فلهاوزن، وطبعت الثالثة وهي خاصة بديوان أبي ذؤيب في هانوفر سنة 1926 بتحقيق يوسف هل، وفي سنة 1933 نشر القطعة الرابعة في ليبزج، وهي تتداخل مع القطعة الخامسة التي نشرتها دار الكتب المصرية، ويظهر أن هذه القطعة الأخيرة اختلطت فيها نسخة السكري بنسخة أخرى مختصرة منها؛ ولذلك كان يقل فيها الشرح وإسناد الرواية. وهذه القطع التي وصلتنا من صنعة السكري غاية في النفاسة لا لأنه يضمنها أخبارًا وشروحًا فحسب؛ بل   1 انظر في تحقيق هذه الدواوين مصادر: الشعر الجاهلي ص 543 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 لأنه يقفنا وقوفًا دقيقًا على مصادره؛ إذ يذكر دائمًا الإسناد في القصيدة وألفاظها وأبياتها مثبتًا ما اختلف فيه الرواة البصريون وعلى رأسهم الأصمعي والكوفيون وعلى رأسهم ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني ومن جاء بعدهم من البغداديين مثل عبد الله ابن إبراهيم الجمحي، ومن بين من ينقل عنهم أبو عبيدة. ومنه نعرف أن الأصمعي كان ينقل عند مصدر من نفس القبيلة هو عمارة بن أبي طرفة الهذلي. وبذلك كانت أجزاء من هذه القطع التي رواها السكري عن ديوان هذيل لا تقل ثقة ولا قيمة تاريخية عن المفضليات والأصمعيات. ومن الكتب الجيدة التي تشتمل على شعر جاهلي كثير شرح النقائض لأبي عبيدة؛ فقد أنشد فيه كثيرًا من الشعر الذي قيل في أيام العرب وحذا حذوه من كتبوا في أيام العرب مثل ابن الأثير في كامله وابن عبد ربه في عقده. ومن الكتب الجيدة أيضًا طبقات الشعراء لابن سلام، ومر بنا أنه أودع فيه دراسة دقيقة للشعر الجاهلي صحيحه ومصنوعة. أما كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة فربما كان خير ما فيه مقدمته التي يحاول أن يربط فيها شعراء عصره بالمثل الجاهلية القديمة، أما بعد ذلك فالكتاب فقير في تراجمه وما يطوى فيها من أخبار وأشعار غير مسندة إلى رواتها. وهناك كتبُ أدب ألفت في البصرة مثل البيان والتبيين والحيوان للجاحظ والكامل للمبرد، ومن الخير أن نرد ما بها من شعر إلى روايات بصرية صحيحة، حتى نكون أكثر طمأنينة. ويجري مجراها ما في أمالي اليزيدي ومجالس ثعلب من أشعار وينبغي أن نتلقى كتب الأدب البغدادية مثل عيون الأخبار لابن قتيبة بحذر، مثلها أمالي أبي علي القالي؛ ففيها انتحال كثير. ومن المختصرات التي تفيد في المراجعة كتاب المؤتلف والمختلف للآمدي ومعجم الشعراء للمرزباني وكتابه الموشَّح نفيس في التعرف على كثير مما وضع على الشعراء الجاهليين. وهناك أشعار جاهلية كثيرة في كتب النقد مثل نقد الشعر لقدامة والصناعتين لأبي هلال العسكري والوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني والعمدة لابن رشيق، ومثلها مثل الشواهد المبثوثة في كتب اللغة والنحو ينبغي التوثق منها بالرجوع إلى المصادر الأصلية الوثيقة. أما ما جاء في كتب السير والأخبار والتاريخ كسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري ومغازي الواقدي فينبغي أن نرفضه إلا أن تدعمه روايات صحيحة. وإذا كنا فقدنا كثيرًا من الدواوين المفردة ودواوين القبائل وما كان بها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أخبار وأشعار فإن كثيرًا من ذلك احتفظ به أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني الذي ترجم فيه للشعراء من القرن السادس إلى القرن التاسع للميلاد ترجمات غنية، سجل فيها كثيرًا من المادة التي فقدت، وكان له ذوق عالم ناقد بصير؛ فساق من الكتب التي سبقته أطرف ما فيها من أخبار وأشعار، ولم يسقها مفردة؛ بل ساقها بأسانيدها التي ترجع بها إلى مصادرها ورواتها الأوائل مثل الأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني والهيثم بن عدي وخالد بن كلثوم وابن الكلبي وأضرابهم ومن خلفوهم من جلة الرواة والمصنفين. وإذا تعددت الروايات في الخبر ذكرها جميعًا، وكثيرًا ما يقف ليفحص ما ينقله، فيرفض رواية لأن راويها ابن الكلبي أو ابن خرداذبة أو غيرهما من المتهمين. وقد يشك في مقطوعة أو قصيدة تنسب لشاعر من الشعراء، فيرجع إلى ديوانه في رواياته المختلفة، وينص على أنه وجدها أو لم يجدها، وقد يعرض الخبر على التاريخ ليتوثق منه. وفي تضاعيف ذلك يسوق آراء الرواة والنقاد في الشعراء وشعرهم. والحق أنه أكبر مصدر لتاريخ الشعر الجاهلي وأصحابه؛ فإذا أضفنا له الأصمعيات والمفضليات وديوان هذيل وما صح من الدواوين المفردة كنا أمام مادة خصبة للبحث والدراسة في الجاهليين وأشعارهم وأخبارهم. ومن الكتب المتأخرة التي احتفظت ببعض ما فقد من الروايات والمصنفات القديمة خزانة الأدب للبغدادي المتوفى سنة 1093 للهجرة، وهو شرح على شواهد الرضي شارح كتاب الكافية لابن الحاجب، وفيه تراجم دقيقة لبعض الجاهليين وملاحظات على بعض أشعارهم من حيث الانتحال والصحة. ومثله في هذا الاتجاه شرح السيوطي على شواهد المغني لابن هشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الفصل السادس: خصائص الشعر الجاهلي 1- نشأة الشعر الجاهلي وتفاوته في القبائل لا ريب في أن المراحل التي قطعها الشعر العربي حتى استوى في صورته الجاهلية غامضة؛ فليس بين أيدينا أشعار تصور أطواره الأولى؛ إنما بين أيدينا هذه الصورة التامة لقصائده بتقاليدها الفنية المعقدة في الوزن والقافية وفي المعاني والموضوعات وفي الأساليب والصياغات المحكمة، وهي تقاليد تلقي ستارًا صفيقًا بيننا وبين طفولة هذا الشعر ونشأته الأولى؛ فلا نكاد نعرف من ذلك شيئًا. وحاول ابن سلام أن يرفع جانبًا من هذا الستار فعقد فصلًا1 تحدث فيه عن أوائل الشعراء الجاهليين، وتأثر به ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر والشعراء، فعرض هو الآخر لهؤلاء الأوائل، وهم عندهما جميعًا أوائل الحقبة الجاهلية المكتملة الخلق والبناء في صياغة القصيدة العربية، وكأن الأوائل الذين أنشأوا هذه القصيدة في الزمن الأقدم ونهجوا لها سننها طواهم الزمان. وفي ديوان امرئ القيس2. عُوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام ولا نعرف من أمر ابن خذام هذا شيئًا سوى تلك الإشارة التي قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف في الأطلال. وتتراءى لنا مطولات الشعر الجاهلي في نظام معين من المعاني والموضوعات؛ إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالبًا بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم في الصحراء وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيرًا ما يشبهون الناقة في   1 طبقات فحول الشعراء لابن سلام "طبع دار المعارف" ص 23 وما بعدها. 2 ديوان امرئ القيس "طبع دار المعارف" ص 124 وعوجا: اعطفا. المحيل: الذي أتى عليه أحوال. لأننا هنا: لعلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون في تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحًا أو هجاء وفخرًا أو عتابًا واعتذارًا أو رثاء. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت في أوزانها وقوافيها؛ فهي تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات وتتحد جميع الأبيات في وزنها وقافيتها وما تنتهي به من رَوِيّ. وتلقانا هذه الصورة التامة الناضجة للقصيدة. الجاهلية منذ أقدم نصوصها، وحقًّا توجد قصائد يضطرب فيها العروض ولكنها قليلة، من ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدي1: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب فهي من مخلع البسيط، وقلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعليه أو زيادة على نحو ما نرى في الشطر الأول من هذا المطلع، وعلى غرارها قصيدة تنسب لامرئ القيس مطلعها2: عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنيهما أو شال ومثلهما في هذا الاضطراب قصيدة المرقش الأكبر3: هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان رسم ناطقًا كلم فهي من وزن السريع، وخرجت شطور بعض أبياتها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت: ما ذنبنا في أن غزا ملك ... من آل جفنة حازم مرغم فإنه من وزن الكامل. وعلى هذه الشاكلة قصيدة عدي بن زيد العبادي4: تعرف أمس من لميس الطلل ... مثل الكتاب الدارس الأحول   1 انظر القصيدة في المعلقات العشر وفي ديوان عبيد, وملحوب والقطبيات والذنوب: أسماء مواضع. 2 الديوان ص 189 سجال: جمع سجل أي صب بعد صب. شأَنيهما: مثنى شأن وهو مجرى الدمع. أو شال: جمع وشل وهو الماء القليل. 3 المفضليات "طبع دار المعارف" ص 237. 4 أغاني "طبعة دار الكتب" 2/ 153. الأحوال الذي أتى عليه أحوال وسنوات كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فهي من وزن السريع وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت: أنعم صباحًا علقم بن عدي ... أثويت اليوم أم ترحل فإنه من وزن المديد. ويماثل هذه القصيدة في اختلال الوزن قصيدته1: قد حان أن تصحو أو تقصر ... وقد أتى لما عهدت عصر ومن هذا الباب نونية سُلميّ بن ربيعة التي أنشدها أبو تمام في الحماسة2: إن شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون فقد لاحظ التبريزي والمرزوقي أنها خارجة عن العروض التي وضعها الخليل واضطراب هذه القصائد في أوزانها مما يدل على صحتها وأن أيدي الرواة لم تعبث بها. ومعروف أن الزحافات تكثر في الشعر الجاهلي؛ بل في الشعر العربي بعامة، ومما كان يشيع بينهم الإقواء، وهو اختلاف حركة الروي في القصيدة كقول امرئ القيس في معلقته يصف جبل أبان: كأَن أبانًا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل3 فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها. وفي رأينا أن احتفاظ الشعر الجاهلي بهذه العيوب العروضية مما يؤكد صحته في الجملة وأن الرواة لم يصلحوه إصلاحًا واسعًا، كما يزعم بعض المحدثين. ومهما يكن فليس بين أيدينا أشعار تصور مرحلة غير ناضجة من نظام الوزن والقافية في الجاهلية؛ فإن نفس هؤلاء الشعراء الذين رويت عنهم تلك القصائد المضطربة في وزنها روي عنهم قصائد كثيرة مستقيمة في وزنها وقوافيها؛ مما يدل على أن ذلك كان يأتي شذوذًا وفي الندرة. وزعم بعض القدماء والمحدثين أن الرجز أقدم أوزان الشعر العربي، وأنه تولد من السجع، مرتبطًا بالحداء ووقع أخفاف الإبل   1 الفصول والغايات لأبي العلاء: ص 131. 2 انظر التبريزي على الحماسة 3/ 83 والمرزوقي رقم 408. والخبب: ضرب من السير. البازل: الناقة المسنة. الأمون: الموثقة الخلق. 3 أفانين: ضروب وأنواع. الودق: المطر. البجاد: كساء مخطط. مزمل: متدثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 في أثناء سيرها وسُرَاها في الصحراء، ومنه تولدت الأوزان الأخرى1؛ غير أن هذا كله مجرد فروض. وكل ما يمكن أن يقال هو أن الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعًا في الجاهلية؛ إذ كانوا يرتجلونه في كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم في السلم والحرب، ولكن شيوعه لا يعني قدمه ولا سبقه للأوزان الأخرى؛ إنما يعني أنه كان وزنًا شعبيًّا لا أقل ولا أكثر. وكان الشعراء الممتازون في الجاهلية لا ينظمون منه؛ إنما ينظمون في الطويل والبسيط والكامل والوافر والسريع والمديد والمنسرح والخفيف والوافر والمتقارب والهزج، وإن كان نظمهم في الثلاثة الأولى أكثر وأوسع. والحق أنه ليس بين أيدينا شيء من وزن أو غير وزن يدل على طفولة الشعر الجاهلي وحقبه الأولى، وكيف تم له تطوره حتى انتهى إلى هذه الصورة النموذجية التي تلقانا منذ أوائل العصر الجاهلي أو بعبارة أخرى منذ أوائل القرن السادس الميلادي. ولم تكن تختص بهذا الشعر في الجاهلية قبيلة دون غيرها من القبائل الشمالية عدنانية أو قحطانية؛ وآية ذلك أننا نجد الشعراء موزعين عليها؛ فمنهم من ينسب إلى القبائل القحطانية مثل امرئ القيس الكندي وعدي بن رعلاء الغساني2 والحارث بن وعلة الجرمي القضاعي3 ومالك بن حريم الهمداني4 وعبد يغوث الحارثي النجراني5 والشنفري الأزدي6 وعمرو بن معد يكرب المذحجي7. أما من ينسبون إلى مضر وربيعة فأكثر من أن نسميهم، وعلى شاكلتهم من ينسبون إلى الأوس والخزرج القحطانيين في المدينة. ونحن لا نستطيع أن نحصي من جرى لسانهم بالشعر حينئذ؛ فقد كانوا كثيرين، وكانت تشركهم فيه النساء مثل الخنساء، وكان ينظمه سادتهم وصعاليكهم. ويخيل إلى الإنسان أن الشعر لم يكن يستعصي على أحد منهم، وعدَّ ابن سلام في طبقاته أربعين من فحولهم وفحول المخضرمين وقد جعلهم في عشر طبقات وجعل في كل طبقة أربعة، وأضاف إليهم   1 انظر الجزء الأول من تاريخ الأدب العربي لبروكلمان "طبع دار المعارف" ص51. 2 الأصمعيات: "طبع دار المعارف" ص 170. 3 المفضليات: "طبع دار المعارف" ص164. 4 الأصمعيات: ص 56. 5 المفضليات: ص 155 6 المفضليات: ص 108 7 الأصمعيات في مواضع متفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أربعة من أصحاب المراثي كما أضاف تسعة في مكة وخمسة في المدينة وخمسة في الطائف وثلاثة في البحرين، وعد لليهود ثمانية. ومن يرجع إلى هؤلاء الشعراء يجد بينهم البدوي والحضري كما يجد بين البدو اليمني والربعي والمضري. وترجم أبو الفرج في الأغاني لكثيرين منهم، وتراجمه هو الآخر إنما تقف عند مقدميهم الذين دوت شهرتهم، ووراءهم كثيرون لم يترجم لهم، يعدون بالمئات على نحو ما يصور لنا ذلك المؤتلف والمختلف للآمدي ومعجم الشعراء للمرزباني. ومن غير شك سقط من ذاكرة الرواة أسماء كثيرين لم يسجلوهم، ويشهد لذلك قول ابن قتيبة: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال، ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه ولا قصيدة إلا رواها"1. ومن يقرأ في كتاب المؤتلف والمختلف للآمدي يجده يقول كثيرًا: إن شاعرًا بعينه لم يجد له شعرًا ولا ذكرًا في ديوان قبيلته2؛ فدواوين القبائل لم تستقص هؤلاء الشعراء استقصاء دقيقًا. والذي لا ريب فيه أن حظ القبائل المضرية من هذا الشعر الجاهلي كان أوفر من حظ القبائل الرَّبعية والقحطانية. واقرأ في الأغاني والمفضليات والأصمعيات فستجد لمضر الكثرة الكثيرة من الشعر والشعراء، وهي كثرة يؤيدها تاريخها في الإسلام؛ فقد تفوقت القبائل التي نزلت في العراق على قبائل الشام والأخرى التي نزلت في مصر وبلاد العرب والأندلس؛ لأنها كانت في جمهورها مضرية بينما كانت تلك في معظمها قحطانية. وكان حظ القبائل المضرية من الشعر متفاوتًا، وكذلك كانت القبائل الربعية والقحطانية؛ فقبائل كل مجموعة ليست سواء فيه، ومثلها المدن فمكة كانت قليلة الشعر3 وأقل منها نصيبًا فيه اليمامة4. ووقف الجاحظ في حيوانه عند جانب من حظوظ القبائل وتفاوتها في ذلك فقال: "وبنو حنيفة "سكان اليمامة" مع كثرة   1 انظر مقدمته لكتابه الشعر والشعراء "طبع دار المعارف" ص4. 2 راجع المؤتلف والمختلف ص 23، 38، 68، 158، 163، 171، 187، 192- 193. 3 ابن سلام: ص 217. 4 ابن سلام: ص 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 عددهم وشدة بأسهم وكثرة وقائعهم وحسَد العرب لهم على دارهم، وتخومهم وسط أعدائهم؛ حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرًا كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرًا منهم. وفي إخوتهم "عِجْل" قصيد ورجز وشعراء ورجازون. وليس ذلك لمكان الخصب وأنهم أهل مدر وأكّالو تمر؛ لأن الأوس والخزرج كذلك، وهم في الشعر كما قد علمت. وكذلك عبد القَيْس النازلة قرى البحرين؛ فقد نعرف أن طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة. وثقيف "سكان الطائف" أهل دار ناهيك بها خصبًا وطيبًا، وهم وإن كان شعرهم أقل؛ فإن ذلك القليل يدل على طبع في الشعر عجيب، وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلة الخصب الشاغل والغنى عن الناس؛ وإنما ذلك على قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز. وبنو الحارث ابن كعب "سكان نجران" قبيل شريف يجرون مجاري ملوك اليمن ومجاري سادات الأعراب أهل نجد، ولم يكن لهم في الجاهلية كبير حظ في الشعر، ولهم في الإسلام شعراء مفلقون، وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم، وقد كان في ولد زرارة "جد بطن من تميم لصلبه شعر كثير كشعر لقيط وحاجب وغيرهما من ولده. ولم يكن لحذيفة ولا حصن ولا عيينة بن حصن ولا لحمل بن بدر شعر مذكور"1. ومن المحقق أنه فقد كثير من الشعر الجاهلي؛ إذ عدت عليه عوادي الرواية وتلك الرحلة الطويلة التي قطعها من الجاهلية إلى عصور التدوين، ويروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير2". ونحن لا نبالغ مبالغة أبي عمرو؛ فقد بقي منه كثير ألفت فيه مجلدات ضخام؛ إذ حافظت القبائل بكل ما استطاعت على قصائده الطوال ومقطعاته القصار وكثير من أبياته المفردة، وما زالت تحافظ عليه؛ حتى أسلمته إلى أيدي رواة أمناء سلجوه ودونوه.   1 الحيوان: 4/ 380 وما بعدها. 2 ابن سلام: ص 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 2- الشعر الجاهلي شعر غنائي من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، يردها نقادهم إلى أربعة أضرب: شعر قصصي وتعليمي وغنائي وتمثيلي، ويمتاز الضرب الأول بأن قصائده طويلة؛ فالقصيدة منه تمتد إلى آلاف الأبيات، وتتوالى فيه حلقات من الأحداث تنعقد حول بطل كبير، وقد يوجد بجانبه أبطال، ولكن أدوارهم ثانوية. وهي في حقيقتها قصة؛ إلا أنها كتبت شعرًا، فالتسلسل القصصي فيها دقيق والانتقال بين أجزائها منطقي محكم، وهي قصة تفسح للخيال مجالًا واسعًا، ولذلك كانت تكثر فيها الأساطير والأمور الخارقة، وكانت الآلهة تظهر فيها عند اليونان بدون انقطاع. وخير ما يمثلها عندهم الإلياذة لهوميروس وقد نقلها إلى العربية منذ فاتحة هذا القرن سليمان البستاني، ولكثير من الأمم القديمة والحديثة قصائد قصصية تشبهها؛ فللرومان الإليادة لفرجيل، وللهنود الرامايانا والمهابهاراتا وللفرس الشهنامة للفردوسي وللألمان أنشودة الظلام وللفرنسيين أنشودة رولان. والشاعر في هذا الضرب القصصي لا يتحدث عن عواطفه وأهوائه؛ فهو شاعر موضوعي ينكر نفسه، ويتحدث في قصته عن بطل معتمدًا على خياله، ومستمدًّا في أثناء ذلك من تاريخ قومه، وكل ما له أنه يخلق القصة ويرتب لها الأشخاص والأشياء، ويجمع لها المعلومات، ويكون من ذلك قصيدته، وعادة ينظمها من وزن واحد لا يخرج عنه. ولم تعرف الجاهلية هذا الضرب من الشعر القصصي، وهي كذلك لم تعرف الضرب الثاني من الشعر التعليمي الذي ينظم فيه الشاعر طائفة من المعارف على نحو ما نعرف عند هزيود الشاعر اليوناني وقصيدته "الأعمال والأيام" التي يصور فيها فصول السنة والحياة الريفية، وعند هوراس الشاعر الروماني في قصيدته "فن الشعر" التي نظمها في قواعد الشعر ونقده، وكما هو معروف عن أبان بن عبد الحميد شاعر البرامكة في قصيدته التي نظم فيها أحكام الصوم والزكاة. وكذلك لم يعرف الجاهليون الشعر التمثيلي الذي يعتمد على مسرح وعلى حركة وعمل معقد وحوار طويل بين الأشخاص، تتخلله مشاهد ومناظر مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فهذه الضروب الثلاثة من الشعر لم يعرفها الجاهليون، فشعرهم منظومات قصيرة فلما تجاوزت مائة بيت، وهو شعر ذاتي يمثل صاحبه وأهواءه، على حين الضروب السابقة جميعًا موضوعية؛ فالشاعر فيها لا يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه؛ إنما يتحدث عن أشياء خارجة عنه، سواء حين يقص أو حين يعلم أو حين يمثل؛ فهو في كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها؛ إنما يقف عند جانب قصصي تاريخي يحكيه أو علمي تهذيبي يرويه أو تمثيلي مسرحي يؤديه، متجردًا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه. ولكن إذا كان الشعر الجاهلي يختلف عن ضروب الشعر الغربية القصصية والتعليمية والتمثيلية؛ فإنه يقترب من الضرب الرابع الغنائي؛ لأنه يجول مثله في مشاعر الشاعر وعواطفه، ويصوره فرِحًا أو حزينًا. وقد وجد من قديم عند اليونان؛ إذ عرفوا المدح والهجاء والغزل ووصف الطبيعة والرثاء، وكان يصحب عندهم بآلة موسيقية يعزف عليها تسمى Lyre ومن ثم سموه Lyric أي غنائي. وإذن نحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهي جميعه غنائي؛ إذ يماثل الشعر الغنائي الغربي من حيث إنه ذاتي يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس؛ سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثي أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أي شيء مما ينبثُّ حوله في جزيرته. وليس هذا فحسب، فهو يماثل الأصول اليونانية للشعر الغنائي الغربي من حيث إنه كان يغني غناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون، فهم يروون أن المهلهل غنى في قصيدته: طفلة ما ابنة المحلَّل بيضا ... ء لعوبٌ لذيذة في العناقِ1 ومعنى ذلك أن الشعر الجاهلي ارتبط بالغناء عند أقدم شعرائه. ومن حين إلى حين نجد أبا الفرج الأصبهاني يشير إلى أن شاعرًا جاهليًّا تغنى ببعض شعره من مثل السُّلَيْك بن السُّلَكة2 وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقِّع.   1 انظر الأغاني "طبعة دار الكتب" 5/ 51 وما في البيت زائدة، وطفلة: رخصة ناعمة. 2 أغاني "طبعة الساسي" 18/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصنج، ولعله من أجل ذلك سمي صنَّاجة العرب1. ويقول أبو النجم في وصف قينة2: تَغَنَّى فإن اليوم يومٌ من الصِّبا ... ببعض الذي غَنَّى امرؤ القيس أو عمرو وهو يقصد بعمرو، عمرو بن قميئة. ويقول حسان بن ثابت3: تَغَنَّ بالشعر إمَّا كنتَ قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ. فالغناء كان أساس تعلم الشعر عندهم، ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ومنه الحداء الذي كانوا يحدون به في أسفارهم وراء إبلهم، وكان غناء شعبيًّا عامًّا. ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، وكالبريط وهو آلة موسيقية وترية شاعت في بلاد الإغريق، ويقص علينا علقمة بن عبدة أنه وفد على بلاط الغساسنة فاستمع عندهم إلى قيان بيزنطيات يضربن على البرابط4 وكانوا كذلك في الحيرة يستمعون إلى القيان وهن يضربن على الآلات الموسيقية الفارسية. وأدخلوا كثيرًا من هؤلاء القيان إلى جزيرتهم من مثل خُلَيْدة وهُرَيْرة في اليمامة5 والأخيرة هي صاحبة الأعشى التي ذكرها في معلقته. ويروي الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس6، وفي أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشًا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونُسقى الخمور وتعزف علينا القيانُ وتسمع بنا العرب7. وفي السيرة النبوية أن الرسول أمر يوم فتح مكة بقتل رجل يسمى ابن خطل كان مسلمًا ثم ارتد وهرب إلى مكة، وكان له قينتان تغنيانه بهجاء الرسول، فأمر بقتلهما، فقُتلت   1 أغاني "طبعة دار الكتب" 9/ 109. وانظر ترجمته في الشعر والشعراء 1/ 214. 2 الشعر والشعراء: 1/ 60. 3 العمدة لابن رشيق "طبعة أمين هندية" 2/ 241. 4 أغاني "ساسي": 16/ 14. 5 أغاني "طبعة دار الكتب" 9/ 113. 6 أغاني "طبعة دار الكتب" 8/ 327. 7 أغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 إحداهما، وفرت الأخرى1. ومر بنا أن أهل يثرب حين وفد عليهما النابغة أمروا إحدى القيان أن تغني بشعر له فيه إقواء؛ حتى يقف على ما فيه من عيب2. ويكثر ذكر هؤلاء القيان في شعر الشعراء كما يكثر ذكر ما كن يضربن عليه من آلات الطرب، كقول علقمة في ميميته3: قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم ... والقوم تصرعهم صهباء خرطوم ويقول الأعشى في معلقته: ومستجيب تخال الصنج يسمعه ... إذا تُرجع فيه القينة الفُضُلُ4. ولطرفة في معلقته وصف طويل لإحدى هؤلاء القيان. ولعل في ذلك كله ما يدل على أن الغناء في الجاهلية تأثر بعناصر أجنبية كثيرة. وكان نساؤهم يؤلفن ما يشبه الجوقات ويتغنين في حفلاتهم لاعبات على المزاهر5، وفي الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع ذات يوم عزفًا بالدفوف والمزامير، فسأل عنه، فعرف أنه عُرْس6، وأكبر الظن أنهن كن يقرن هذا العزف بأناشيد كأناشيد الزفاف المعروفة عند اليونان والرومان. وكن يؤلفن في الحروب جوقة كبيرة تحمس وتثير؛ ففي الطبري والأغاني أن هندًا بنت عتبة ونسوة من قريش كن يضربن على الدفوف في غزوة أحد وكانت هند تغني في تضاعيف هذا العزف. بمقطوعات على شاكلة قولها7: إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق8 أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق9   1 السيرة النبوية لابن هشام "طبعة الحلبي" 4/ 53. 2 أغاني "طبعة دار الكتب" 11/ 10. 3 المفضليات ص402 والشرب: جمع شارب، رنم: مترنم، والصهباء: الخمر، والخرطوم أول ما ينزل منها صافيًا. 4 المستجيب: العود، واستماع الصنج له كناية عن اتساق أنغامها. الفضل: اللابسة ثوبًا واحدًا. 5 العمدة: 1/ 37. 6 الطبري "طبعة أوروبا": 1/ 1126. 7 أغاني "طبعة الساسي": 14/ 16 وتاريخ الطبري: 1/ 1400. 8 النمارق: جمع نمرقة وهي الطنفسة والوسادة الصغيرة. 9 وامق: محب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وبجانب هذا الغناء العام كان عندهم غناء ديني يرتلونه في أعيادهم الدينية؛ على نحو ما مر بنا من تلبياتهم؛ فكانوا يرددون مثل "أشرق تثبير كيما نُغير" وكانوا في أثناء تقديم ذبائحهم وصب دمائها على الأنصاب المقدسة عندهم يتغنون غناء لعله هو أصل غناء النَّصب الذي شاع بينهم في الجاهلية. وربما كان في اسم الداجنة والمدجنة، وهي القينة تغني في الدجن وحين ظهور الغيم في صفحة السماء1 ما يدل على أنهم كانوا إذا عزهم المطر وغلبهم الجدب توجهوا بالغناء إلى آلهة الغيث والخصب. ومعنى كل ما قدمنا أن الشعر في الجاهلية كان يصحب بالغناء والموسيقى؛ فهو شعر غنائي تام، ويظهر أن الغناء لم يكن ساذجًا حينذاك؛ فقد عرفوا منه ضروبًا مختلفة، يقول إسحاق الموصلي: "غناء العرب قديمًا على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج؛ فأما النصب فغناء الركبان والقينات وهو الذي يستعمل في المراثي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض، وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات، وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويُمشى بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم. هذا كان غناء العرب قديمًا؛ حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم وتغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير"2. ولعل في اقتران النصب بالمراثي ما يدل على ما قلنا من أنه كان غناء دينيًّا؛ فهم يتغنون به في الموت، أما السناد فلعله الغناء الذي كان يقترن ببعض الآلات الموسيقية، وأما الهزج فغناء خفيف كان يقترن بالرقص والدف والمزامير، وهو غناء حفلاتهم، ولعلهم كانوا يؤثرون فيه الوزن الذي يساعد على الحركة المعروفة باسمه بين أوزان الشعر وهو وزن الهزج، كما كانوا يستخدمون فيه الرمل والرجز ليطابق الشعر ما يريديون من رقص وسرعة في الحركة. وعلى هذا النحو نظم شعراء الجاهلية شعرهم في جو غنائي مشبه لنفس الجو الذي نظم فيه اليونان شعرهم الغنائي؛ فقد كان الشاعر يغني شعره، وقد يوقِّع هذا الغناء على   1 انظر مادة دجن في لسان العرب وغيره من معاجم اللغة. وراجع المفضليات ص 130. 2 العمدة لابن رشيق: "طبعة أمين هندية" 2/ 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 بعض الآلات الموسيقية. وقد يقوم له بالغناء في شعره قيان وجوقات مختلفة ترقص وتعزف في أثنائه. ويظهر أن الشعر أخذ في أواخر هذا العصر يستقل عن الغناء والموسيقى؛ فكان بعض الشعراء لا يغنيه؛ وإنما ينشده إنشادًا، والإنشاد مرتبة وسطى بين الغناء والقراءة. ونحن إذا رجعنا إلى هذا الشعر وجدنا بقايا الغناء الموسيقي ظاهرة فيه ظهورًا بينًا، ولعل القافية هي أهم هذه البقايا التي احتفظ بها فهي بقية العزف فيه ورمز ما كان يصحبه من قرع الطبول ونقر الدفوف. ومثلها التصريع في مطالع القصائد وما كان يعمد إليه الشعراء أحيانًا من تقطيع صوتي لأبياتهم كقول امرئ القيس في معلقته يصف الفرس: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ ويكثر هذا التقطيع في أشعارهم، ومن يرجع إلى معلقة لبيد التي يستهلها بقوله: عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها ... بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها يجده على شاكلة هذا المطلع يلائم كثيرًا بين الكلمتين الأخيرتين، وكأن للبيت قافيتين: داخلية، وخارجية، وكأنه يريد أن يهيئ لنفسه أو لمن يتغنى بقصيدته أن يرتفع بصوته في كلمتين متتاليتين. ولا نشك في أن صور الأوزان المتنوعة التي يمتاز بها الشعر الجاهلي إنما حدثت بتأثير هذا الغناء، وقد نفذوا منه إلى ضروب من التجزئة في بعض الأوزان، كمجزوء الكامل والمديد؛ بل نفذوا إلى أوزان خفيفة كثيرة كالمتقارب والرمل والهزج. وبدون ريب إنما كثرت التجزئة والتعديل في الرجز لأنه كان وزنًا شعبيًّا وكان كثير الدوران في حدائهم وفي كل ما يتصل بهم من حركة وعمل كحفر الآبار والمتح منها ومبارزة الأقران واستصراخ العشائر؛ فكثر فيه الحذف وكثر التحريف والتعديل كثرة مفرطة؛ حتى زعم الخليل أنه ليس من أوزان الشعر1، وهو شعر غير أن التغني به نغنيًّا كثيرًا حُدَاءً وغير حداء أحدث فيه تغيرات شتى.   1 انظر باب الرجز في العمدة لابن رشيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 2- الموضوعات لعل أقدم من حاول تقسيم الشعر العربي جاهليًّا وغير جاهلي إلى موضوعات ألف فيها ديوانًا هو أبو تمام المتوفى حوالي سنة 232 للهجرة؛ فقد نظمه في عشرة موضوعات، هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسب، والهجاء، والأضياف ومعهم المديح، والصفات، والسير، والنعاس، والملح، ومذمة النساء. وهي موضوعات يتداخل بعضها في بعض فالحديث عن الأضياف؛ إما أن يدخل في المديح أو في الحماس والفخر، والسير والنعاس يدخلان في الصفات، كما تدخل مذمة النساء في الهجاء، أما الملح فغير واضحة الدلالة. وجاء في باب الأدب بما يدل على أنه يقصد به المعنى التهذيبي؛ غير أنه أنشد فيه أبياتًا في وصف الخمر، وأغفل إغفالًا تامًّا باب العتاب والاعتذار. ووزَّع قدامة في كتابة نقد الشعر هذا الفن على ستة موضوعات، هي المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشيبه وحاول بعقله المنطقي أن يرد الشعر إلى بابين أو موضوعين هما المدح والهجاء؛ فالنسيب مديح، وكذلك المراثي، ومضى يعين المعاني التي يدور حولها المديح، وهي في رأيه الفضائل النفسية، ونجد نفس المحاولة في تضييق موضوعات الشعر واضحة في كتاب نقد النثر؛ فهو مديح وهجاء وحكمة ولهو، ويدخل في المديح المراثي والافتخار والشكر واللطف في المسألة ويدخل في الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء والتأنيب. كما يدخل في الحكمة الأمثال والزهد والمواعظ، أما اللهو فيدخل فيه الغزل والطَّرْد وصنعة الخمر والمجون. وجعل ابن رشيق موضوعات الشعر في كتابه العمدة تسعة، وهي النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء والاستنجاز، والعتاب، والوعيد والإنذار، والهجاء، والاعتذار، ومن السهل أن يرد موضوع الاقتضاء والاستنجاز إلى المديح، والوعيد والإنذار إلى الهجاء، وأن يضم العتاب إلى الاعتذار، وأيضًا فإنه نسي موضوع الوصف. ويقول أبو هلال العسكري: "وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبيه والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 سادسًا وهو الاعتذار فأحسن فيه1" وهو تقسيم جيد؛ غير أنه نسي باب الحماسة، وهو أكثر موضوعات الشعر دورانًا على لسانهم. ولا نستطيع أن نرتب هذه الموضوعات في الشعر الجاهلي ترتيبًا تاريخيًّا، ولا أن نعرف كيف نشأت وتطورت، فإن الأصول الأولى لهذا الشعر انطمرت كما قدمنا في ثنايا الزمن، وإن كنا نستطيع أن نظن ظنًّا أنها تطورت من أناشيد دينية كانوا يتجهون بها إلى آلهتهم، يستعينون بها على حياتهم؛ فتارة يطلبون منها القضاء على خصومهم، وتارة يطلبون منها نصرتهم ونصرة أبطالهم، ومن ثم نشأ هجاء أعدائهم ومدح فرسانهم وسادتهم، كما نشأ شعر الرثاء وهو في أصله تعويذات للميت حتي يطمئن في قبره، وفي أثناء ذلك كانوا يمجدون قوى الطبيعة المقدسة التي تكمن فيها آلهتهم والتي تبعث فيهم الخوف؛ ومعنى هذا كله أن موضوعات الشعر الجاهلي تطورت من أدعية وتعويذات وابتهالات للآلة إلى موضوعات مستقلة2. ويظهر أنه كانت لا تزال في نفوسهم بقية من هذه الصلة القديمة بين الشعر ودعاء الآلهة؛ يدل على ذلك أكبر الدلالة ما جاء في القرآن الكريم من كثرة الربط بين الشعر والسحر وتعاويذ الكهنة؛ فقد كانوا يرمون الرسول في بدء دعوته تارة بأنه شاعر وتارة ثانية بأنه كاهن وتارة ثالثة بأنه ساحر {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ورد عليهم القرآن دعواهم الكاذبة مرارًا في مثل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ومثل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ويقول جل وعز في سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وبعد ذلك: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . وواضح أن القرآن الكريم يحكي على ألسنتهم ما كانوا يؤمنون به من العلاقة بين   1 ديوان المعاني: 1/ 91. 2 انظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان: "طبع دار المعارف" 1/ 44 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الشعر والكهانة والسحر، وكانوا يزعمون أن الشياطين تنزل على الشعراء كما تنزل على الكهان، وزعموا أن الأعشى كان له شيطان ينفث في وعيه الشعر يسمى مسحلًا وأن شاعرًا كان يهاجيه يسمى عمرو بن قطن، كانت له تابعة من الجن اسمها جُهُنَّام1. وظل بعض الشعراء في الإسلام يزعم أن له تابعًا من الجن، ويؤكد الأسطورة أبو النجم؛ فيزعم أن لكل شاعر شيطانًا إما أنثى وإما ذكرًا، يقول2: إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر وفي أخبارهم أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلة خاصة، ولعلها كحلل الكهان، وحلق رأسه وترك له ذؤابتين ودهن أحد شقي رأسه وانتعل نعلًا واحدة3 ونحن نعرف أن حلق الرأس كان من سننهم في الحج، وكأن شاعر الهجاء كان يتخذ نفس الشعائر التي يصنعها في حجه وأثناء دعائه لربه أو لأربابه، حتى تصيب لعناتُ هجائه خصومه بكل ما يمكن من ألوان الأذى وضروب النحس المستمر. فالهجاء في الجاهلية كان لا يزال يُقْرَن بما كانت تقرن به لعناتهم الدينية الأولى من شعائر، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يتطيرون منه ويتشاءمون ويحاولون التخلص من أذاه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ونحن نعرف أن الغزو والنهب كان دائرًا بينهم؛ غير أن المغيرين إن أغاروا ونهبوا إبلًا بينها إبل لشاعر، وتعرض لهم يتوعدهم بالهجاء اضطروا اضطرارًا إلى ردها أو على الأقل يردون ماله هو وإبله. يروي الرواة أن الحارث بن ورقاء الأسدي أغار على عشيرة زهير، واستاق فيما استاق إبلًا له وغلامًا، فنظم زهير أبياتًا يتوعده بالهجاء المقذع، يقول فيها4: ليأتينك مني منطق قذع ... باق كما دنس القبطية الودك   1 انظر المؤتلف والمختلف: ص 203. ومادة جهم في لسان العرب، والحيوان: 6/ 226. والقصيدتين رقم 15، 33 في ديوان الأعشى. 2 الحيوان: 6/ 229. 3 أمالي المرتضي: "طبعة عيسى الحلي" 1/ 191. 4 مختار الشعر الجاهلي للسقا ص 255 وديوان زهير "طبعة دار الكتب المصرية" ص 183. القذع: القبيح. القبطية: كل ثوب أبيض. الودك: الدسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ففزع الحارث ورد عليه ما سلبه منه1. وواضح أن زهيرًا يستخدم في وصف هجائه المنتظر كلمة الدنس؛ فهو سيلحق به عن طريق هجائه الرجس والإثم. ويروى أن رجلًا يسمى زرعة بن ثوب من بني عبد الله بن غطفان خدع غلامًا من عشيرة مزرد بن ضرار الشاعر يسمى خالدًا كان يرعى إبلًا لأبويه فاشتراها منه بغنم واستاقها، ورجع الغلام إلى أبويه فأخبرهما بما فعل؛ فقال أبوه: هلكت والله وأهلكتنا، وركب إلى مزرّد وقص عليه القصة؛ فقال مزرّد: أنا ضامن لك أن تُرَدّ علينا بأعيانها، وأنشأ قصيدة طويلة يتوعد فيها زرعة، ويطب إليه أن يرد الإبل، ونراه يعوذها بهجائه؛ فهي إن لم ترد ستكون نارًا تأتي على الأخضر واليابس عند زرعة وقومه وسيصيبها الجرب والأمراض المستعصية، يقول2: فيا آل ثوبٍ إنما ذَوْدِ خالد ... كنار اللظى لا خير في ذود خالد3 بهن دُروءٌ من نحاز وغُدَّةٌ ... لها ذربات كالثُّدِيِّ النواهِد4 جَرِبْنَ فما يهنأنَ إلا بغَلْقةٍ ... عطين وأبوال النساء القواعدِ5 وقد تحولوا يصبون أهاجيهم ولعناتهم على خصومهم هم وعشائرهم؛ فلم يسلم منها أحد من أشرافهم، يقول الجاحظ: "وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته؛ فهجاه، ومن طلب عيبًا وجده فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكره وجد من يغلط فيه ويحمله عنه؛ ولذلك هجي حصن بن حذيفة، وهجى زُرَارة بن عُدَس وهجي عبد الله بن جُدْعان وهجي حاجب بن زُرارة؛ وإنما ذكرت لك هؤلاء لأنهم من سؤددهم وطاعة القبيلة لهم لم يذهبوا فيمن تحت أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة ولا مذهب حذيفة بن بدر ولا مذهب عيينة بن حصن ولا مذهب لقيط بن زرارة. فإن هؤلاء وإن كانوا سادة قد كانوا يظلمون6" وبمقدار ما   1 أغاني: 10/ 307 وما بعدها. 2 المفضليات: ص 79. 3 الذود: الجماعة القليلة من الإبل. 4 دروء: جمع درء وهو النتوء. والنحاز: داء يصيب الإبل بالسعال. الغدة: طاعون الإبل. الذربات: جمع ذربة وهي رأس الخراج، النواهد: النواهض. 5 يهنأن: يطلين. الغلقة: شجر يدبغ به الجرب. عطين يريد أنه لا يدبغ بها إلا بعد العطن، القواعد: العجائز. 6 الحيوان 2/ 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 كان في القبيلة من شرف وأشراف كان هجاؤها عندهم؛ إذ كانوا لا يزالون يتعرضون لها ولأشرافها بأقبح الهجاء وأقذعه، يقول الجاحظ أيضًا: "إذا استوى القبيلان في تقادم الميلاد، ثم كان أحد الأبوين كثير الذرء "النسل" والفرسان والحكماء والأجواد والشعراء، وكثير السادات في العشائر وكثير الرؤساء في الأرحام "القبائل الكبيرة" وكان الآخر قليل الذرء والعدد ولم يكن فيهم خير كثير ولا شر كثير خَملوا أو دخلوا في غمار العرب وغرقوا في معظم الناس وكانوا من المغمورين ومن المنسيين فسلموا من ضروب الهجاء، وسلموا من أن يضرب بهم المثل في قلة ونذالة؛ إذ لم يكن "منهم" شر وكان محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء ولا يحسدهم الأكفاء، وإذا تقادم الميلاد، وكان فيهم خير كثير وشر كثير ومثالب ومناقب لم يسلموا من أن يُهجوا ويضرب بهم المثل. ولعل أيضًا أن تنفق لهم أشعار تتصل بمحبة الرواة وأمثال تسير على ألسنة العلماء. فيصير حينئذ من لا خير فيه ولا شر أمثل حالًا في العامة ممن فيه الفضل الكثير وبعض النقص ولا سيما إذا جاوروا من يأكلهم وحالفوا من لا ينصفهم كما لقيت غَنِيّ أو باهلة؛ فمن القبائل المتقادمة الميلاد التي في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شرف وضعة مثل قبائل غطفان وقيس عيلان ومثل فزارة ومرة وثعلبة ومثل عبس وعبد الله بن غطفان، ثم غني وباهلة واليعسوب والطفاوة؛ فالشرف والخطر في عبس وذبيان، والمبتلى والملقى والمحروم والمظلوم مثل باهلي وغني مما لقيت من صوائب سهام الشعراء وحتى كأنهم آلة المدارج الأقوام ينكب فيها كل ساع ويعثر بها كل ماش. وربما ذكروا اليعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء "من ذبيان" وأشجع الخنثى ببعض الذكر، وجل معظم البلاء لم يقع إلا بغني وباهلة وهم أرفع من هؤلاء وأكثر فضولًا ومناقب؛ حتى صار من لا خير فيه ولا شر عنده أحسن حالًا ممن فيه الخير الكثير وبعض الشر، ومن هذا الضرب تميم بن مر وثور وعُكل وتيم ومزينة؛ ففي عكل وتيم ومزينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور، وقد سلمت ثور إلا من الشيء اليسير، مما لا يرويه إلا العلماء، والتحف الهجاء على عكل وتيم. وقد شعثوا بين مزينة شيئًا، وقد نالوا من ضبة مع ما في ضبة من الخصال الشريفة، ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء. كما بكى مخارق بن شهاب وكما بكى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 علقمة بن عُلاثة، وكما بكى عبد الله بن جدعان من بيت الخداش بن زهير"1 وفي السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب إلى شعراء المدينة أن يعينوه بأهاجيهم في قريش، ويروى أنه قال لحسان بن ثابت، وقد أخذ في هجاء القرشيين: "لشعرك أشد عليهم من وقع النَّبْل" وفي ذلك ما يصور مدى أثر الهجاء في نفوس العرب؛ فقد كان سلاحًا لا يقل عن أسلحتهم في القتال؛ ولذلك قرنه عبد قيَس بن خفاف البرجمي إلى ما يلقى به أعداءه من سيف ورمح ودرع، يقول2: فأصبحتُ أعددتُ للنائبا ... ت عِرْضًا بريئًا وعضبًا صَقيلا3 ووقع لسان كحد السِّنانِ ... ورُمحًا طويل القناة عَسُولا4 وسابغة من جياد الدروع ... تسمع للسيف فيها صَليلا كماء الغدير زفته الدبور ... يجر المدحج منها فضولا5 فاللسان كان يَنْكأ بهجائه في الأعداء نكأ السيوف والرماح. ويخيل إلى الإنسان كأنما تراص شعراء القبائل بجانب فرسانها وشجعانها في صفوف، وقد أخذ كل منهم يريش سهام هجائه ويرمي بها أعداءه من الأشراف والقبائل، وكل يحاول أن يكون سهمه أنفذ السهام وأصماها؛ حتى لا تقوم للشريف وقبيلته قائمة. وكانوا ينتهزون فرصة تلاقيهم في الأسواق وخاصة سوق عكاظ، فينشدون أهاجيهم لتذيع، وليلحقوا بخصومهم كل ما يريدون من خزي وعار، وفي ذلك يقول راشد بن شهاب اليشكري لقيس بن مسعود الشيباني6: ولا تُوعِدنِّي إنني إن تُلاقني ... معي مَشْرفِيٌّ في مضاربه قَضَمْ7 وذمٌّ يُغَشَّى المرءَ خِزْيًا ورهطه ... لدى السَّرْحة العَشَّاء في ظلها الأَدَمْ8 وهو يشير إلى سرحة أو شجرة عظيمة كانت بعكاظ؛ حيث تقام السوق   1 الحيوان: 1/ 357 - 363. 2 المفضليات: ص 386. 3 العضب: السيف القاطع، والصقيل: المصقول الحاد. 4 العسول: اللين المصمي. 5 زفته: حركته، الدبور: ريح غربية تقابل الصبا، المدجج: تام السلاح، ويجر منها فضولًا كناية عن أنها سابغة تفضل عن أطرافه. 6 المفضليات: ص 308. 7 المشرفي: السيف، وقضم: فلول من كثرة الطعن. 8 السرحة: الشجرة، العشاء، الخفيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الكبيرة هناك ويضرب العرب قباب الأدم، وتجتمع العشائر من أنحاء الجزيرة ومعها شعراؤها وما يحملون في حجورهم من حجارة الهجاء. ودار هجاؤهم على كل ما يناقض مثلهم التي صورناهم في غير هذا الموضع، وقد قلنا إنه كانت تجمعها كلمة المروءة، وهي تعني عندهم فضائلهم من الشجاعة والكرم وحماية الجار والوفاء والنجدة وطلب الثأر، وما هي إلا أن يدخل الشاعر في الهجاء؛ فإذا هو يخلص القبيلة وأشرافها من كل هذه الفضائل وما يتصل بها فهي لا تكرم الجار ولا تحميه، وهي تفر في الحروب وتقعد عن الأخذ بثأرها. ولا يكتفي الشعراء الهجاءون بذلك؛ بل يتعرضون لمخازي القبيلة في حروبها وأيامها التي ولت على أدبارها فيها منهزمة منكسة الأعلام، واقرأ في المفضليات قصيدة ربيعة بن مقروم رقم 38 فستراه يذكر أمجاد قبيلته في أيام بزاخة والنِّسار وطخفة والكلاب وذات السليم، واقرأ قصائد بشر بن أبي خازم الأسدي في المفضليات أيضًا؛ فستجده يفصل الحديث عن حروب قومه مع بني عامر في يوم النسار ومعهم ومع أحلافهم من تميم في يوم الجفار وما أنزلوا بهم من خسائر في الرجال، وتعرض لانتصاراتهم على كثير من القبائل مثل جرم والرباب وجُذام وبني سليم وبني كلاب وبني أشجع ومرة بن ذبيان. ولم يكونوا يقفون عند ذلك؛ بل كانوا يقذفون في الأعراض ويطعنون في الأنساب، متعرضين للأمهات على نحو ما نرى عند الجُمَيْح الأسدي في هجاء بني عامر وقد غدروا بأسدى منهم وقتلوه فقال يعيرهم بما غدروا، مفديًا أمهم سلمى استهزاء بهم لما ألحقوا بها من العار، ثم عاد فادّعى عليها البغاء1: سائل معدًّا من الفوارس لا ... أوفوا بجيرانهم ولا غنِموا فِدًى لسَلمى ثوباي إذ دنس الـ ... ـقوم وإذ يدسمون ما دَسِمُوا2 أنتم بنو المرأة التي زعم الناس ... عليها في الغي ما زعموا واسترسل يصمها أبشع الوصم بأبيات ثلاث لا نستطيع التمثل بها لإمعانه في الفحش. وكثيرًا ما يتعرضون لشخص فيزعمون أنه دعيٌّ في قومه زنيم. وشاع بينهم هذا الضرب من الوقوع في الأعراض، مما نجد آثاره فيما بعد عند جرير والفرزدق   1 المفضليات: ص 41. 2 ثوباي: أراد نفسه. يدسمون: من الدسم وهو الدنس. يقول ذلك تهكمًا واستهزاء بهم وبأمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 في العصر الإسلامي، وكأنما أصبح همّ الهاجي أن يضرب عدوه الضربة القاضية؛ حتى لو كان شريفًا معروفًا بكثرة المناقب كما يلاحظ الجاحظ؛ بل لكأن مناقبه كانت تؤذيهم، فكانوا يلطخونه بالعار ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، ومن ثم لا نعجب حين نجد شاعرًا يزعم أن النعمان بن المنذر لم يولد لرشدة؛ فهو ليس سليل المناذرة؛ إنما هو سليل صائغ بالحيرة، يقول فيه عبد قيس بن خفاف البُرْجمي1: لعن الله ثم ثَنَّى بلعن ... ابنَ ذا الصائغ الظلومَ الجهولا يجمع الجيشَ ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فَتيلا2 وكان النعمان كثير الوقائع في قبائل العرب وخاصة عبد القيس فتعرض له شاعرها يزيد بن الخداق بهجاء كثير يتوعده وينذره ويخيفه، يقول في بعضه3: نعمانُ إنك خائن خدع ... يُخْفِي ضميرك غير ما تُبْدي وقصة هجاء المتلمس وطرفة لعمرو بن هند مشهورة ولم يكن جمهور هجائهم يفرد بالقصائد؛ بل كانوا يسوقونه غالبًا في تضاعيف حماستهم وإشادتهم بأمجادهم وانتصاراتهم الحربية، ولا نبعد إذا قلنا إن الحماسة أهم موضوع استنفد قصائدهم؛ فقد سعرتهم الحروب، وأمدها شعراؤهم بوقود جزل من التغني ببطولتهم وأنهم لا يرهبون الموت؛ فهم يترامون عليه تحت ظلال السيوف والرماح مدافعين عن شرف قبائلهم وحماها. ويرتفع هذا الغناء بل قل هذا الصياح في كل مكان؛ بحيث يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمي مجموعته من أشعارهم وأشعار مَن خلفوهم باسم الحماسة؛ فهي التي تستنفد أشعارهم وقصيدهم، وهي ديوانهم الذي يسطر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم، وهل هناك فخر أعلى من فخر الشجاعة والتنكيل بالأعداء. واقرأ في المفضليات والأصمعيات فستجد هذا الفخر وما يطوى فيه من حماسة يدور على كل لسان، وستجد الشارع فيه يتحدث دائمًا عما تعتز به قبيلته من الأخذ بأوتارها ومن تضييق الخناق على أعدائها، وهو يعدد أيامها مشيدًا بحسبها ونسبها وصبرها في   1 الحيوان: 4/ 379. 2 يرزأ: ينقص، والفتيل: الهنة في شق النواة. 3 المفضليات: ص 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الملمَّات وكرمها في الجدب وحمايتها للجار وإغاثتها للملهوف. وفي أثناء ذلك يصوِّب سهام الهجاء إلى نحور أعدائهم، وكأنه يريد أن يقضي عليهم قضاء مبرمًا. ونحس في هذه الحماسة أثر الموجدة الشديدة والحقد البالغ على خصومهم؛ فهم دائمًا يتعرضون لهم يهددونهم ويتوعدونهم انتقامًا مروعًا، وكان أشد ما يهيجهم أن يقتل منهم قتيل؛ فحينئذ تهيج القبيلة ويهيج شعراؤها هياجًا لا حد له، فإذا ثأرت لنفسها وشفت غلها وحقدها أخذ شعراؤها ينشدون أناشيد النصر من مثل قصيدة دريد بن الصمة التي يتغنى فيها بأنه ثأر من قتلة أخيه عبد الله، ومع ذلك لا يزال يتوعدهم، يقول1: ويا راكبًا إما عرضت فبلغن ... أبا غالب أن قد ثأرنا بغالبِ2 قتلتُ بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب3 فلليوم سميتم فزارة فاصبروا ... لوقع القنا تنزون نزو الجنادب4 تكر عليهم رَجْلَتِي وفوارسي ... وأُكرِه فيهم صَعْدَتي غير ناكب5 فإن تدبروا يأخذنكم في ظهوركم ... وإن تقبلوا يأخذنكم في الترائب6 وإن تُسهلوا للخيل تسهل عليكم ... بطعن كإبزاغ المخاض الضوارب7 ومرة قد أخرجنهم فتركنهم ... يروغون بالصلعاء روغ الثعالب8 وأشجعَ قد أدركنهم فتركنهم ... يخافون خطف الطير من كل جانب وثعلبة الخنثى تركنا شريدهم ... تَعِلَّة لاه في البلاد ولاعب فليت قبورًا بالمخاضة أخبرت ... فتخبرَ عنا الخضر خضر محارب9   1 الأصمعيات: ص 117. 2 عرضت: أتيت العروض، يريد مكة والمدينة وما حولهما. 3 لدات: جمع لدة وهو الترب والكفء. 4 النزو: الوثب، الجنادب: ضرب صغير من الجراد. 5 رجلتي: جمع راجل ضد الفارس الراكب، وهم المشاة. والصعدة: القناة غير ناكب: غير عادل عنهم. 6 الترائب: عظام الصدر. 7 تسهلوا: تنزلوا السهل من الأرض. المخاض: الحوامل من النوق، الضوارب اللواقح، وإيزاغها أن ترمي ببولها شبه رشاش الطعنة من الدم ببولها ورشاشه. 8 يروغون: يذهبون هنا وهناك. الصلعاء موضع هو مكان معركته مع مرة. 9 المخاضة: موضع من ديار ذبيان، وخضر محارب: قبيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 رَدَسْناهُم بالخيل حتى تملَّأَتْ ... وافي الضباع والذئاب السَّواغب1 عَذريني أَطوف في البلاد لعلني ... ألاقي بإثرٍ ثُلَّةً من محاربِ2 وواضح أنه يتشفى من قتلة أخيه؛ فقد ظفر مع جمع من قبيلته بأعدائه من فزارة، فأخذتهم سيوفهم من أمام ومن وراء، ومسهلين في الأرض. وبصور ما لقيته مُرَّة في الحرب من بلاء شديد وكيف هربت أشجع وكيف نكلوا ببني ثعلبة وبني محارب، حتى شبعت منهم الضباع. ويتهددهم بأنه سيعيد الكرَّة عليهم. وفي كل مكان يدوِّي مثل هذا النشيد، ومن روائعهم في هذا الباب معلقة عمرو بن كلثوم، وفيها يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المعلمة المشهورة من مثل قوله: متى ننقل إلى قوم رَحانا ... يكونوا في اللِّقاء لها طَحِينا يكون ثِفالُها شرقيَّ نجدٍ ... ولهوتها قضاعة أجمعينا3 تطاعن ما تراخى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غُشينا بِسُمْرٍ من قَنَا الخَطِّيِّ لدن ... ذوابل أو ببيض يعتلينا4 نشق بها رءوس القوم شقًّا ... ونخليها الرقاب فتختلينا كأن جماجم الأبطال فيها ... وسوق بالأماعز يرتمينا5 ورثنا المجد قد علمت معد ... تطاعن دونه حتى يبينا6 ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأَحفاض نمنع من يلينا7 نجذُّ رءوسهم في غير وتر ... فما يدرون ماذا يتقونا8   1 ردسناهم: رميناهم، العوافي: الجائعة، وكذلك السواغب. 2 الثلة: الجماعة من الناس. 3 الثفال: خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن، اللهوة: القبضة من الحب. 4 توصف الرماح بالسمرة لذبولها، وقنا الخطى: نسبة إلى الخط وهي بلدة كانت على ساحل البحرين تشتهر بصناعة القنا، اللدن: المرنة. البيض: السيوف. 5 الأماعز: الأراضي الصلبة، الوسوق: جمع وسق وهو الحمل. 6 يبين: يتضح. 7 العماد: جمع عمود، خرت: سقطت، الأحفاض: متاع البيت، يقصد بذلك رحلة الحي للحرب. 7 الوتر: الثأر، ونجذ: نقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا1 كأن ثيابنا منا ومنهم ... خضبن بأرجوان أو طلينا2 والمعلقة جميعها صياح شديد على هذا النحو الذي يرفع فيه قبيلته تغلب على كل من حولها في نجد شرقيها وغربيها؛ فكل من حدثته نفسه منهم بقتالها كان مصيره الهلاك والدمار، ويقول إن حياتهم سلسلة من الحروب، ويصف أسلحتهم الذي يذيقون بها أعداءهم كئوس الموت المرة. ومدَّ فخره إلى قبائل معد كلها بما يجذون من رءوس شجعانها، واعترف لأعدائه بشجاعتهم؛ فالسيوف في أيديهم وأيدي أعدائهم كأنها مخاريق بأيدي لاعبين، وهم يقتلون فيهم، كما يُقتل من قومه، فثيابهم جميعًا ملطخة بالدماء. وليس عمرو وحده الذي يصف خصومه بالشجاعة؛ فهناك كثيرون اشتهروا بهذا الإنصاف، وتسمى قصائدهم المنصفة وفي الأصمعيات أمثلة منها طريفة، من مثل قول المفضل النكري يصف موقعة بين عشيرته من بني نكرة بن عبد القيس وعشيرة عمرو بن عوف، يقول3: كأن هزيزنا يوم التقينا ... هزيز أباءة فيها حريقُ4 وكم من سيد منا ومنهم ... بذي الطرفاء منطقه شهيقُ5 فأَشبعنا السباع وأشبعوها ... فراحت كلها تَئِقُ يَفُوقُ6 فأبكينا نساءهم وأبكوا ... نساءٌ ما يسوغُ لهن رِيق يجاوبنَ النياحَ بكل فَجْرٍ ... فقد صَحِلَتْ من النَّوْح الحُلوق7 وطبيعي وهم يصورون هذه الملاحم أن يصفوا أسلحتهم على نحو ما تقدم عند عمرو بن كلثوم، وهناك كثيرون يطيلون في وصفها ووصف الخيل التي يركبونها في اللقاء. وممن اشتهر بينهم بوصف الأسلحة أوس بن حَجر في لامية له مشهورة أطال بها في تصوير سيفه ورمحه ودرعه وقوسه، ويلقانا هذا الوصف كثيرًا في المفضليات   1 المخاريق: المناديل تلف ويلعب بها، لعبة كانت عندهم. 2 الأرجوان: صبغ أحمر. 3 الأصمعيات: ص 233 وما بعدها. 4 الهزيز: الصوت، الأباءة: أجمة الغاب. 5 ذو الطرفاء: موضع المعركة 6 تئق: ممتلئ، يفوق: يأخذه البهر. 7 صحلت: بحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 والأصمعيات1، كما يلقانا معه وصفهم للخيل وكانوا يلقبونها بالأسماء، وممن اشتهر في هذا الوصف أبو دُؤاد الإيادي وزيد الخيل وعمرو بن معد يكرب وغيرهم من فرسانهم المعدودين، وتزخر المفضليات والأصمعيات بهذا الوصف عند من سميناهم وغيرهم. وفي الحق أن هذا اللون من شعرهم ليس شعر قوة وبطولة فحسب؛ فقد تغنوا فيه بكريم الشيم وكل ما اتخذوه مثلًا رفيعًا لهم في حياتهم وسلوكهم، من كرم ووفاء وغير كرم ووفاء؛ فعلى نحو ما صوروا فيه بطولة وشجاعة نادرة صوروا كثيرًا من الفضائل الحميدة على شاكلة ما نقرأ في ميمية ربيعة بن مقروم إذ يقول2: وإن تسأليني فإني امرؤ ... أُهين اللئيم وأحبو الكريما وأَبني المعالي بالمكرمات ... وأُرضي الخليل وأُرْوِي النديما ويحمد بَذْلي له معتف ... إذا ذمَّ من يعتفيه اللئيما3 وأَجْزي القروض وفاءً بها ... ببؤسي بئيسي ونعمى نعيما4 وقومي فإن أنت كذَّبتني ... بقولي فاسئلْ بقومي عليما يهينون في الحق أموالهم ... إذا اللزبات انتحين المُسِيما5 طوال الرماح غداة الصباح ... ذوو نَجْدَة يمنعون الحريما وهو يذكر في البيت الثاني أن من شيمه أن يروي نديمه بالخمر، ويكثر في حماستهم تمدحهم بأنهم يسقون ندماءهم الخمر وأنهم يأخذون حظهم من الغناء وسماع القيان ولعب الميسر6، وكأن في ذلك إعلانًا عن كرمهم وبذلهم على نحو ما تقدم في غير هذا الموضع عن طرفة وفتوته. وربما كان ذلك هو أصل ذكر الخمر ووصفها في الشعر الجاهلي على نحو ما هو معروف عن الأعشى وعدي بن زيد.   1 انظر المفضليات ص 95، وما بعدها ورقم 64و 75 والأصمعيات: رقم 62و 65. 2 المفضليات: ص 183. 3 المعتفي: السائل في غير طلب. 4 البؤس والبئيسي بمعنى، يقول يجزي بالسيئة مثلها وكذلك الحسنة. 5 اللزبات: الشدائد، انتحى: قصد، المسيم: الكثير الإبل والغنم، اشتقه من السائمة. 6 المفضليات: رقم 113، 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 العبادي؛ فقد تحولا بها من هذا الباب إلى وصفها في ذاتها وصفًا طريفًا. ومن الموضوعات التي تتصل اتصالًا واضحًا بالحماسة الرثاء؛ فقد كانوا يرثون أبطالهم في قصائد حماسية يريدون بها أن يثيروا قبائلهم لتأخذ بثأرهم1، فكانوا يمجدون خلالهم ويصفون مناقبهم التي فقدتها القبيلة فيهم؛ حتى تنفر إلى حرب من قتلوهم. وكان يشرك الرجال في ذلك النساء؛ فقد كن ما يزلن يَنُحْنَ على القتيل حتى تثأر القبيلة له. ويظهر أنه كان يشيع عندهم ضرب من "التعديد" الذي نعرفه في مصر، فما تزال امرأة تنوح ويرد عليها صواحبها، وقد حدثنا الرواة أن الخنساء كانت تخرج إلى عكاظ فتندب أخويها صخرًا ومعاوية، وكانت هذه بنت عتبة أم معاوية تحكيها نائحة أباها2. وفي هذا الخبر ما يدل على أن النساء لم يكن يندبن موتاهن يومًا أو أيامًا؛ بل كن يطلن ذلك إلى سنين معدودات، ويقال: إنهن كن يحلقن شعورهن ويلطمن خدودهن بأيديهن وبالنعال والجلود، وكن يصنعن ذلك على القبر وفي مجالس القبيلة والمواسم العظام. ولعل في حلق رءوسهن ما يجمع بينهن وبين الهجائين كما قدمنا وما يشهد بأن هذا الرثاء إنما هو تطور عن تعويذات كانت تقال للميت وعلى قبره حتى يطمئن في لحده. وبمر الزمن تطور الرثاء عندهم إلى تصوير حزنهم العميق إزاء ما أصابهم به الزمن في فقيدهم؛ فتلك التعويذات أصبحت وخاصة عند نسائهم بكاء ونواحًا وندبًا حارًّا. ونجد بجانب هذا الندب ضربًا من الرثاء يقوم على تأبين الميت والإشادة بخصاله وصفاته، وما نشك في أن الصورة القديمة لهذا التأبين هي تلك النقوش التي عثروا عليها في أنحاء مختلفة من الجزيرة، وقد تحدثنا عنها فيما أسلفنا، وكانوا يكتبون فيها أسماءهم وألقابهم وبعض أعمالهم تمجيدًا لذكراهم وتخليدًا لها، وتحولت هذه الصورة الساذجة إلى هذا التأبين الواسع الذي نجده عند الجاهليين. وقد ذهبوا يضمون إليه صورة من العزاء والدعوة إلى الصبر على الشدائد؛ فالموت كأس دائرة على الجميع، ولا مردّ لحكم القضاء. وقام بالقسط الأكبر من ندب الميت وبكائه النساء؛ فكن يشققن جيبوبهن عليه ويلطمن وجوههن ويقرعن صدورهن ويعقدن عليه مأتمًا من العويل والبكاء، ومن خير ما يصور ذلك كتاب "مراثي شواعر العرب" للويس شيخو، وسابقتهن   1 المفضليات: رقم 109. 2 الأغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 التي لا تنازَعُ هي الخنساء؛ فقد قُتل أخوها معاوية في بعض المعارك، فارتفع نشيجها وبكاؤها عليه، وقتل أيضًا أخوها صخر فاتسع الجرح والتاعت لوعة شديدة، ومن رائع ما ندبت به صخرًا: قَذى بعينك أم بالعين عُوَّارُ ... أم ذرفت أن خلت من أهلها الدار1 كأن عيني لذكراهُ إذا خطرت ... فيضٌ يسيل على الخدين مدرار2 فالعين تبكي على صخر وحق لها ... ودونه من جديد الأرض أستار3 تبكي خناس وما تنفك ما عمرت ... لها عليه رنين وهي مقتار4 بكاءَ والهةٍ ضلت أليفتَها ... لها حنينان: إصغار وإكبار5 ترعَى إذا نسيت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار6 ولعل من الطريف أن بعض شعرائهم كان إذا أحس داعي الموت ندب نفسه ووصف ما يصنعه به أهله بعد الموت من ترجيل شعره ووضعه في مدارج الكفن، ثم لحده ودفنه، وتنسَبُ للممزق العبدي أو ليزيد بن الخذاق قطعة يصور فيها هذا المصير الذي ينتظره، يقول فيها7: هل للفتى من بنات الدهر من واقِ ... أم هل له من حمام الموت من راقِ8 قد رجَّلوني وما رجلت من شعث ... وألبسوني ثيابًا غير أخلاق9 وأرسلوا فتية من خيرهم حسبًا ... ليسندوا في ضريح الترب أطباقي10   1 العوار: الرمد، ذرفت: قطرت قطرًا متتابعًا. 2 مدرار: كثير. 3 الأستار: الأحجار، وكنت بجديد الأرض عن أنه مات حديثًا. 4 خناس: الخنساء، مقتار: ضعيفة. 5 الإصغار: خفض الصوت بالحنين، والإكبار: رفعه. 6 العلم: الجبل. 7 المفضليات: ص 300 8 بنات الدهر: أحداثه، حمام الموت: دنوه. 9 الترجيل: تسريح الشعر، الأخلاق: الممزقة. 10 الأطباق: المفاصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وكانوا يكثرون من تأبين من يموتون منهم في ميادين الحرب، وقد يضمنون هذا التأبين هجاء لاذعًا لخصومهم وفخرًا بعشيرتهم ومآثرها وأيامها، على نحو ما نجد في قصيدة المرقش1: هل بالديار أن تجيب صَمَمْ ... لو كان رسم ناطقًا كلَّم فقد بدأها بالغزل وخرج منه إلى الرثاء؛ فمديح بعض ملوك الغساسنة، ثم فخر بقومه، وهجا أعداءهم. وقد يجعلون القصيدة خالصة للتأبين، على نحو ما صنع دريد بن الصِّمَّة في مرثية أخيه عبد الله2. أرث جديدُ الحبل من أم معبد ... بعاقبةٍ وأخلفت كل موعد وقد استهلها على هذه الشاكلة بالغزل، ثم مضى يرثي أخاه مصورًا مصرعه وولهه به وجزعه ومتحدثًا عن خلاله الحميدة من الشجاعة والجود والمضاء والصبر والحزم. ولم يؤبنوا أبطالهم من القتلى فحسب؛ بل فسحوا في مراثيهم لتأبين أشرافهم وإن ماتوا حتف أنوفهم، فخرًا بهم واعتزازًا بمناقبهم وأعمالهم ومآثرهم، وقد نجدهم يستنزلون لهم الغيث من السماء حتى تصبح قبورهم رياضًا عطرة، ومن رائع تأبينهم مرثية أوس بن حجر لفضالة بن كَلَدة الأسدي، وفيها يقول3: أَيَّتُها النفسُ أَجْمِلي جَزَعَا ... إن الذي تحذرين قد وقعا إن الذي جمع السماحة والنَّـ ... ـجدةَ والحزمَ والقوى جُمَعا الألمعيّ الذي يظن لك الـ ... ـظن كأن قد رأى وقد سمعا4 المخلفَ المتلفَ المرزَّأ لم ... يُمتع بضعف ولم يمت طِبعَا5 أودى وهل تنفع الإشاحةُ من ... شيء لمن قد يحاول البِدَعَا6   1 المفضليات: ص 237. 2 الأصمعيات: ص 111، أرث: أخلق. بعاقبة: بآخرة. 3 ديوان أوس بن حجر ص 53 والأغاني: 11/ 74. 4 الألمعي: حاد الذكاء، يريد أنه يحدس الأمور فلا يخطئ وأنه فطن صادق الظن جيد الفراسة. 5 المرزأ: الذي تصيبه الرزايا في ماله لكرمه، يمتع: يصاب، الطِبع: اللئيم. 6 أودى: مات، الإشاحة: الجد في طلب الشيء، البدع: الأمور الغريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وكانوا أحيانًا حين يذكرون المَوتَ يتأسون ويتعزون عنه بأنه حوض لا بد من وروده وقد سبقتهم إليه الأجيال الماضية من ملوك وغير ملوك1: وعلى هذا النحو ألمَّ الشاعر الجاهلي بجوانب الرثاء الثلاثة من الندب والتأبين والعزاء، وكان رثاؤه غالبًا يتعلق بأفراد وقلما تعلق بمجموعة من الفرسان، ومن هذا القبيل قصيدة أصمعية لأبي دؤاد الإيادي يرثي فيها من أوْدَى من شباب قبيلته وكهولهم، ونراه يقول في مطلع رثائهم2: لا أَعدُّ الإقتارَ عُدْمًا ولكن ... فقد من قد رُزِئْتُهُ الإعدامُ ويستمر يبكي فيهم الرءوس العظام وخلالهم من التأني والرفق والكرم وطيب الأرومة وشجاعة الأسد وما يخلط فرط حدتهم من أحلام وعقول راجحة، ويقول: إنهم أصبحوا هامًا وصدَى؛ إذ كانوا يعتقدون أن عظام الميت تتحول هامة تطير وصدى ما يزال يقول اسقوني: سُلِّطَ الدهرُ والمَنُونُ عليهم ... فلهم في صَدَى المقابر هامُ فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسراتٍ وذكرهم لي سَقام وبجانب هذا الرثاء كان عندهم مديح واسع يتمدحون فيه بمناقب قبائلهم وسادتها. وكانوا كثيرًا ما يمدحون القبيلة التي يجدون فيها كرم الجوار متحدثين عن عزتها وإبائها وشجاعة أبنائها وما فيهم من فتك بأعدائهم وإكرام لضيوفهم ورعاية لحقوق جيرانهم3. وكان بعض السادة تمتد مآثرهم إلى من حولهم من القبائل فكان يتصدى لهم شعراؤها يمدحونهم لمكرماتهم التي أدوها، كأن يفتكوا أسيرًا، على نحو ما صنع خالد بن أنمار بابن أخت المثقب العبدي؛ فكان جزاؤه منه مدحة جيدة، يقول فيها4:   1 المفضليات: ص 217. 2 الأصمعيات: ص 215. 3 المفضليات: ص 305، 371. 4 المفضليات: ص 294، مترع: ملآن. ربعي الندى: نسب نداه إلى الربيعة كناية عن كثرته وإمراعه، والندى: الكرم. ويقول إن مجلسه غير لطم فهو لا يتلاطم فيه، إنما هو مجلس سكون وحلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 مُتْرَعُ الجَفْنَةِ رِبْعِيُّ النَّدَى ... حَسَنٌ مجلسُه غيرُ لُطَمْ ولا نصل إلى أواخر العصر الجاهلي حتى يتخذ الشعراء المديح وسيلة إلى الكسب؛ فهم يقدمون به على السادة المبرزين وملوك المناذرة والغساسنة يمدحونهم وينالون جوائزهم وعطاياهم الجزيلة. وأخذوا في أثناء ذلك يعنون بهذه القصائد عناية بالغة حتى تحقق لهم ما يريدون من التأثير في ممدوحيهم. واشتهر بذلك زهير والنابغة وحسان بن ثابت، أما زهير فاختص بأشراف قومه، وأما حسان فاختص بالغساسنة، ولعلقمة بن عبدة فيهم مفضلية بديعة نظمها في الحارث الأصغر يتشفع لأخيه وقد وقع في يديه أسيرًا1. أما النابغة فخص النعمان بن المنذر بمدائحه، وتصادف أن وقع بعض قومه أسرى في أيدي الغساسنة؛ فأقبل عليهم يمدحهم ويتشفع فيهم؛ مما كان سببًا في غضب النعمان بن المنذر عليه، وسرعان ما أخذ يقدم له اعتذارات هي من أروع ما دبجه الجاهليون. ومعنى ذلك أن الاعتذار نشأ نشوءًا من المديح وفي ظلاله، وإن كانت تتداخل فيه عاطفة الخوف مع عاطفة الشكر والرجاء. ومما ينحو نحو الاعتذار ما ظهر عندهم من فنون عتاب كان ينشئه بعض الشعراء ملامة لما قد يصيبه من أذى الأقارب على نحو ما نجد عند ذي الإصبع العُدواني2 والمتلمس3. ولكن عتابهم واعتذارهم قليل، أما المديح فكثير كثرة مفرطة؛ إذ رحل به الشعراء إلى الملوك والأشراف يمتارون به، ويرجعون إلى أهليهم بُجْر الحقائب. ويظهر أن المناذرة خاصة كانوا يتخذونه وسيلة للدعاية لهم في القبائل، فكثر الشعراء حولهم وأخذ يموج بهم بلاطهم منذ عمرو بن هند، فقد قصده كثيرون من أمثال المثقب العبدي الذي لجأ إليه يمدحه بعد إيقاعه بقبيلته، وممن رحل إليه المتلمس والممزق العبدي وطرفة والمسيب بن علس. وكان النعمان بن المنذر ممدحًا للشعراء ومن بديع ما نظم فيه قول حجر بن خالد4: سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد ... كفعل أبي قابوس حزمًا ونائلا   1 المفضليات: ص 390 وما بعدها. 2 انظر قصيدته في المفضليات برقمي: 29، 31. 3 الأصمعيات: رقم 92. 4 الحيوان: 3/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 يُساقُ الغَمامُ الغُرُّ من كل بلدةٍ ... إليك فأضحى حول بيتك نازلا فإن أنت تهلك يهلك الباعُ والنَّدى ... وتضحى قلوص الحمد جرباء حائلا1 فلا ملك ما يبلغنك سعيه ... ولا سوقه ما يمدحنك باطلا وانتهى هذا الفن من فنون شعرهم إلى الأعشى فأصبح حرفة خالصة للمنالة والتكسب؛ إذ لم يترك ملكًا ولا سيدًا مشهورًا في أنحاء الجزيرة إلا قصده ومدحه وفخم شأنه معرضًا بالسؤال. وإذا تركنا المديح إلى الغزل وجدناه موزعًا بين ذكريات الشاعر لشبابه ووصفه للمرأة ومعروف أن أول صورة تلقانا في قصائدهم هي بكاء الديار القديمة التي رحلوا عنها وتركوا فيها ذكريات شبابهم الأولى، وهو بكاء يفيض بالحنين الرائع، ومر بنا أنهم يردونه إلى شاعر قديم سبق امرأ القيس هو ابن خذام، وربما كان في ذلك ما يدل على أن هذا الجزء من غزلهم يسبق في قدمه الأجزاء الأخرى فيه. ونراهم يقفون عند المرأة فيصفون جسدها، ولا يكادون يتركون شيئًا فيها دون وصف له؛ إذ يتعرضون لجبينها وخدها وعنقها وصدرها وفمها وريقها ومعصمها وساقها وثديها وشعرها، كما يتعرضون لثيابها وزينتها وحليها وطيبها وحيائها وعفتها2. وقد يتعرضون لبعض مغامراتهم معها. وهي مغامرات تحوَّل بها بعض الرواة إلى قصص غرامية على نحو ما قصوا عن حب المرقش الأكبر لأسماء والأصغر لفاطمة بنت المنذر وعن حب المنخل اليشكري للمتجردة زوج النعمان، وله قصيدة رائعة رواها الأصمعي وهي تجري على هذا النمط3: ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير   1 الباع: الشرف، الندى: الكرم. القلوص: الناقة الشابة، الحائل: التي حمل عليها فلم تلقح. 3 المفضليات: رقم 20. 3 الأصمعيات: رقم 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ولَثَمْتُها فتنفست ... كتنفس الظبي البهير1 فدنت وقالت يا مُنَـ ... ـخل ما بجسمك من حرور ما شفَّ جسمي غير حُبِّـ ... ـك فاهدئي عني وسيري ووقف الشعراء طويلًا يصورون حبهم للمرأة وما يذرفون من دموعهم على شاكلة قول بشر بن أبي خازم2: فظلت من فرط الصبابة والهوى ... طَرِفًا فؤادُك مثل فعل الأيهم 3 وكانت ذكراها لا تزال تلم بهم، ومن ثم أكثروا الحديث عن طيفها وما يثيره في أنفسهم من تباريح الحب4 ولهم في وصف هذه الذكرى وما تصنع بهم شعر كثير يصفون فيه صبابتهم على شاكلة قول المرقش الأصغر5: صحا قلبُه عنها، على أن ذِكْرَةً ... إذا خطرتْ دارتْ به الأرضُ قائما وكانوا كثيرًا ما يصفون ظعنُها، وهي ترحل في الجزيرة من موضع إلى موضع، وكان الرحلة أساسًا في حياتهم؛ فهم يرحلون وراء منابت الغيث، وينتقلون معها حيث حلت، وفي معلقة زهير وصف طويل لهذه الظعن وربما فاقه في هذا الوصف المثقب العبدي في قصيدته6: أفاطمُ قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألتِ كأن تبيني فإني لو تخالفني شِمالي ... خلاَفك ما وصلتُ بها يَميني وقد مضى يصف ظعنها ويتتبع سيرها وما تصنع هي وصواحبها في قلوب الرجال وهن يظهرن بكلَّة ويسدلن أخرى ويرسلن براقعهن على وجوههن وذوائبهن على ظهورهن:   1 البهير: من البهر وهو ما يعتري الإنسان والحيوان عند السعي الشديد من النهج وتتابع الأنفاس. 2 المفضليات: ص346. 3 طرفًا: يطرف هنا وهناك، الأيهم: المجنون. 4 المفضليات: ص39، 113، والأصمعيات: ص57، 246. 5 المفضليات: ص245. 6 المفضليات: ص 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أَرَيْنَ محاسنًا وكَنَنَّ أُخرى ... من الأَجْياد والبشَرِ المصونِ ويقول: إنهن كن يمددن أعناقهن مستشرفات للنظر وصاحبته بينهن تفوقهن حسنًا وجمالًا. وكن كطبيعة النساء في كل عصر ينصرفن عن الشيب ومن قل ماله1؛ ولذلك كثر عتابهم معهن، وخاصة من حيث ما يأخذنه عليهم من البذل الذي يذهب بأموالهم، ودائمًا نراهم يحتجون عليهن بأن خلود المرء في بذله لا في ثرائه2. وقد يصورون في تعلقهم بالمرأة ضربًا من المتاع الحسي، على نحو ما يصور ذلك طرفة في معلقته وكذلك امرؤ القيس، ومرد ذلك إلى ضرب شاع عندهم من الفتوة؛ فهم يتمدحون بأنهم ينالون من المرأة ما يريدون، وكانوا وثنيين ولم يكن هناك دين يردعهم. على أن منهم من كان يتسامى في غزله حتى ليمكن القول بأن الغزل العذري له أصول في الجاهلية عند عنترة وأضرابه. ومن المؤكد أن المرأة الحرة لم تكن ممتهنة عندهم؛ بل كانت في المكان المصون، وكان الشاعر يستلهمها شعره؛ ولذلك كان يضعها في صدر قصيده، ونحس عند كثيرين منهم -وخاصة فرسانهم من مثل عنترة- أنهم يقدمون مغامراتهم في الكرم وفي الحرب لها لينالوا حبها، وكان أكثر ما يشجيهم ويبعث الموجدة في قلوبهم أن تؤسر وتسبى؛ فكان لا يقر لهم قرار إلا أن يعودوا بها مكرمة إلى ديارهم. ومن موضوعات شعرهم المهمة الوصف، وقد وصفوا كل شيء وقعت عليه أعينهم في صحرائهم، وفي العادة يذكرون ذلك بعد غزلهم وتشبيبهم؛ إذ يخرج الشعراء إلى وصف رحلاتهم في الصحراء، فيتحدثون عن قطَعهم للمفاوز البعيدة، فوق إبلهم، ويأخذون في وصفها وصفًا مسهبًا على نحو ما هو معروف عن طرفة في وصفه لناقته بمعلقته وقد كاد أن لا يترك فيها عضوًا ولا جزءًا دون وصف وتصوير، والمفضليات والأصمعيات تزخر بأحاديثهم عنها ومقدار ما كانوا يرون فيها من جمال وكانوا يشبهونها بالقصور ويشبهون قوائمها بالأعمدة وقد يشبهونها بالسفن والقناطر ويشبهون قوائمها بجذوع الطلح ويديها بالصخر الغليظ أو بيدي السابح، وصوتها   1 المفضليات: ص35، 186، 418. 2 المفضليات: ص118، ص125. بيت 4 وما بعده رقم 59 ورقم 104 بيت 11، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بصوت القصب وخفافها بالمطارق. وقد يشبهونها بالجبل ويشبهون صدرها بالطريق وكانوا يشبهونها بكثير من الحيوان مثل الظليم والثور وحمار الوحش، وحينئذ يستطردون إلى وصف هذه الحيوانات وما يكون من عراك بينها وبين كلاب الصيد1، يقول الجاحظ: "ومن عادة الشعراء إذا كان الشعر مرئية أو موعظة أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر مديحًا وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها كذا أن تكون الكلاب هي المقتلوة. ليس على أن ذلك حكاية عن قصة بعينها؛ ولكن الثيران ربما جرحت الكلاب وربما قتلتها. وأما في أكثر ذلك فإنها تكون هي المصابة والكلاب هي السالمة والظافرة وصاحبها الغانم"2. وكأنهم كانوا يتخذون قتل الكلاب في المديح رمزًا لأعداء الممدوح، وكانوا فعلًا يشبهونهم بالكلاب3. وعلى نحو ما أكثروا من وصف الإبل أكثروا من وصف الماعز، كما أكثروا من وصف الخيل وشبهوها بضروب من السباع المنعوتة بالمخالب وطول الأظفار ولامرئ القيس قطعة بديعة بمعلقته يصف فيها فرسه الذي اتخذه للصيد، وفيها يقول: له أَيطلا ظَبْيٍ وساقا نعامَةٍ ... وإرخاءُ سِرْجانٍ وتقريب تَتفُلِ4 يقول أبو عبيدة: "ومما يشبه خلقه من خلق النعامة طول وظيفها5 وقصر ساقيها وعُرْي نسيبها6 ومما يشبه من خلقه خلق الأرنب صغر كعبها، ومما يشبه من خلقه خلق الحمار الوحشي غلظ لحمه وظمأ فصوصه وسَراته7 وتمحُّص8 عصبه وتمكن أرساغه وعرض صهوته10، ومما يشبه من خلقه خلق الكلب هَرَتُ11 شدقه وطول لسانه وكثرة ريقة وانحدار قَصِّه12 وسبوغ ضلوعه وطول ذراعيه ورُحْب   1 انظر في ذلك معلقة لبيد والمفضليات رقم 17 بيت 64 وما بعده حيث وصف مزرد صائدًا مسميًّا كلابه الستة. 2 الحيوان: 2/ 20. 3 الأصمعيات: ص130. 4 أيطلا الظبي: خاصرتاه، الإرخاء: سير السرحان وهو الذئب. والتتفل: الثعلب، وتقريبه: قفزه ووثبه. 5 الوظيف: مستدق الساق والذراع. 6 النسي: عرق في الساق 7 ظمأ هنا: ضمور، الفصوص: ملتقى كل عظمتين، سراته: أعلاه. 8 تمحص: شدة. 9 الرسغ في الحيوان: المستدق بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل. 10 الصهوة: مقعد الفارس على الفرس. 11 هرت: اتساع. 12 قصه: صدره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 جلده ولحقو1 بطنه". وكثيرًا ما وصفوا كلاب الصيد وسموها أسماء كثيرة ولأبي زُبَيْد الطائي قصيدة طريفة يصور فيها معركة بين كلب له وأسد، وقد حطمه الأسد حطمًا3. وكما ذكروا الأسد ووصفوه وصفوا الذئب كقول طفيل الغنوي وقد شبه فرسه بذئب4: كسيدِ الغَضا العادي أضَلَّ جِراءَهُ ... على شَرَفٍ مُسْتَقْبِلَ الريحَ يَلْحَبُ5 وذكروا الهر والديك والخنزير في وصفهم لنشاط الناقة فقال أوس بن حجر6. كأن هِرًّا جَنيبًا عند مغرضها ... والتفَّ ديك برجليها وخنزيرُ وقد ذكروا كثيرًا الضباع والرخم والعقبان والنسور والغربان وأكلها القتلى7 كما ذكروا الحُبارى والضب واليربوع والجرذان والجراد والأرانب والضفادع والوعول أو المعز الجبلية، وتعرضوا كثيرًا لوصف الحيات والأفاعي، ويشبه عنترة نفسه إزاء بعض أعدائه بأسود قد علق فيه نابه، ويقول في بعض وصفه له8: رقود ضحيات كأن لسانه ... إذا سمع الأجراسَ مكحالُ أَرْمَدَا9 وعلى نحو ما وصفوا الحيوان والزواحف وصفوا الطير، وكثيرًا ما يستطردون من وصف فرسهم بالعقاب إلى وصفها10، وكانوا يذكرون الغراب كثيرًا ويتشاءمون به، وفيه يقول عنترة11: ظعَنَ الذين فراقَهم أتوقَّعُ ... وجرى بِبَيْنِهمُ الغراب الأبقع12   1 لحوق: ضمور 2 الحيوان: 1/ 275. 3 الحيوان: 2/ 274. والأغاني: 11/ 132. 4 الحيوان: 4/ 416. 5 السيد: الذئب، والغضا: نبت، وذئاب الغضا أخبث الذئاب، أضل جراءه: فقد أولاده فهو يسرع في عدوه، يلحب: يمر مرًّا سريعًا. 6 الحيوان: 1/ 277 وديوان أوس ص42 جنييًا: يجنبها، مغرضها: موضع الحزام منها؛ وإنما ذكر الهر لأنه يجمع العض بالناب والخمش بالمخالب، يصفها بشدة تفزعها لفرط نشاطها. 7 المفضليات ص304 وانظر ص252 والأصمعيات: ص119، 174، 234، والحيوان: 7/ 21. 8 الحيوان: 4/ 308. 9 رقود الضحى، ذاك من شأن الأفاعي تنام في الضحى وتستيقظ في الظلام، والأجراس الأصوات، مكحال الأرمد: ما يكتحل به، جعل لسانه كالمكحال في دقته وسواده. 10 الحيوان: 6/ 339 وما بعدها. 11 الحيوان: 3/ 442 ومختار الشعر الجاهلي ص392. 12 الأبقع: الأسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 حرِق الجناح كأنَّ لَحْيَ رأسِه ... جَلمانِ بالأخبار هَشٌ مولع1 إن الذين نَعَيتَ لي بفراقهم ... هم أسهروا ليلي التمام فأوجعوا2 وكانوا يذكرون القطا والجراد والعصافير والنمل والعنكبوت والحمام ونوحه وما يهيج فيهم من شوق وشجا. وقد أفاض الجاحظ بكتابه الحيوان فيما جاء على ألسنتهم من وصف ذلك كله وتصويره وينبغي أن لا نعتد بما جاء فيه من قصص أسطوري عن طوق الحمامة والديك والغراب والهدهد والحيات مما ساقه على لسان أمية بن أبي الصلت؛ فقد حمل عليه شعر كثير وضعه القصاصون والرواة. وقد استرعى الجاحظ كثرة ما جاء على ألسنتهم من وصف فلواتهم3 ووصف البرد وقوارصه والحر وهواجره4 وما يجري في ديارهم أحيانًا من خصب بعد مطر غزير5. وفي معلقة امرئ القيس قطعة طويلة يصف فيها سيلًا عَرمًا نزل في مواطن بني أسد بالقرب من تيماء. ويتردد هذا الوصف في شعره وشعر شاعرهم عبيد بن الأبرص. وكما أكثروا من ذكر الخصب ورطوبة النبات ولدونة الأغصان وكثرة الماء أكثروا من وصف الجدب، وطالما وصفوا وعوثة الصحراء ومخاوفهم في لياليها من الجن والشياطين. وكادوا لا يتركون شيئًا يتصل بهم إلا وصفوه. فوصفوا الرعي والمراعي، ووصفوا الأسلحة والحروب، ووصفوا الخمر وأوانيها وسقاتها ومجلسها وأثرها. وكانوا يقحمونها كما قدمنا في حماستهم. ويفتخرون بأنهم يسقونها الصحاب والرفاق على صوت القيان ومع نحر الجزور، يقول ثعلبة بن صعير في حماسية له6: أَسُمَيَّ ما يدريك أَنْ رُبَّ فِتْيَةٍ ... بيض الوجوه ذوي ندى ومآثر باكرتهم بسباء جون ذارعٍ ... قبل الصباح وقبل لغو الطائر7   1 حرق: أسود، وشبه لحييه بالجلمين؛ لأنه يخبر بالفرقة كما يقطع الجلمان أو المقراضان. 2 نعب: صاح، ليلي التمام: الشديد الطول. 3 الحيوان: 6/ 255 وانظر الأصمعيات رقم61 بيت29 وما بعده والمفضليات رقم 75. 4 الحيوان: 5/ 73، 5/ 78 وما بعدها وانظر المفضليات رقم120 بيت50، 51. 5 الحيوان: 3/ 120 والمفضليات: ص335. 6 المفضليات: ص130. 7 السباء: اشتراء الخمر، الجون: الزق الأسود: الذارع: المختلط بالماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فقَصَرْتُ يومهمُ برنَّة شارِفٍ ... وسماع مُدْجِنَةٍ وجَدْوى جازر1 وهذه الموضوعات التي قدمناها جميعًا كانت تتداخل في القصيدة الطويلة وكان يتداخل معها ضرب من الحكم والمعاني التهذيبية؛ فالشاعر ما يزال يدلي في تضاعيف قصيدته بتجاربه، وقد يفرد لها مقطوعات، إذا اتجه بها إلى تقديم وصية لبنيه، على نحو ما صنع عمرو بن الأهتم في وصيته لابنه التي يستهلها بقوله2: وإن المجد أوله وعور ... ومصدر غبه كرم وخِيرُ3 وممن كثرت الحكمة في شعرهم زهير والأفوه الأودي وعلقمة بن عبدة، وهي تكثر في ميمية الأخير وتتوالى في أبيات متعاقبة من مثل قوله4: الحمدُ لا يُشتَرى إلا له ثَمَنٌ ... مما يَضِنُّ به الأَقوامُ معلومُ والجود نافيةٌ للمال مَهْلَكَةٌ ... والبخلُ باقٍ لأَهليه ومذموم وكل حِصْن وإن طالت سلامته ... على دعائمه لا بُدّ مهدوم ويلخص لنا رأي الجاهلين في المرأة وما تطلبه من الرجل؛ فيقول في بائيته5: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب فإن شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب ويظهر أن الحكمة قديمة عندهم، فنحن نجدها في معلقة عبيد بن الأبرص، وفيها يقول: وكل ذي غيبة يثوب ... وغائب الموت لا يئوب ويقول عبدة بن الطبيب6: والمرءُ ساعٍ لأمر ليس يدركه ... والعيشُ شح وإشفاقٌ وتأميل   1 الشارف: الناقة، ورنتها: صوتها عند النحر. المدجنة: القينة تغني يوم الدجن والغيم. وجدوى الجازر: عطاياه من أطايب اللحم. 2 المفضليات: ص410 وانظر القصيدة رقم116. 3 غبه: عاقبته، الخير: الكرم 4 المفضليات: ص401. 5 المفضليات: ص392. 6 المفضليات: ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ويقول عدي بن رعلاء الغساني1: ليس من ماتَ فاستراح بِمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميِّتُ الأحْيَاءِ وتلك هي الموضوعات الأساسية التي تنظم في سلك القصيدة الجاهلية؛ فالشاعر يبدؤها بالتشبيب أو النسيب بالأطلال والديار، ويصف في أثناء ذلك حبه، ثم يصف رحلته في الصحراء، وهي أول ما يقدمه للمرأة من ضروب جرأته، وحينئذ يصف ناقته أو فرسه، وقد يؤخرهما إلى نهاية القصيدة، ويقدم عليهما غرضه من الحماسة أو الهجاء أو الرثاء أو المديح، مفتنًا في أثناء ذلك في وصف ما يقع تحت عينه، وناثرًا حكمه وتجاربه.   1 الأصمعيات ص 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 4- الخصائص المعنوية لعل أول ما يلاحظ على معاني الشاعر الجاهلي أنها معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف ولا بعد ولا إغراق في الخيال؛ سواء حين يتحدث عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله في الطبيعة؛ فهو لا يعرف الغلو ولا المغالاة، ولا المبالغة التي قد تخرج به عن الحدود المعقولة. ومرجع ذلك في رأينا إلى أنه لم يكن يفرض إرادته الفنية على الأحاسيس والأشياء؛ بل كان يحاول نقلها إلى لوحاته نقلًا أمينًا، يُبقي فيه على صورها الحقيقية دون أن يدخل عليها تعديلًا من شأنه أن يمس جواهرها. ومن أجل ذلك كان شعره وثيقة دقيقة لمن يريد أن يعرف حياته وبيئته برملها ووديانها ومنعرجاتها ومراعيها وسباعها وحيوانها وزواحفها وطيرها. وعرف القدماء ذلك فكلما تحدثوا عن عادات الجاهلين وألوان حياتهم استشهدوا بأشعارهم. وحينما كتب الجاحظ كتاب الحيوان وجد في هذه الأشعار مادة لا تكاد تنفد في وصفه ووصف طباعه وكل ما يتصل به من سمات ومشخصات. ومعنى ذلك أن الشاعر الجاهلي لم يغتصب الحيون لنفسه، فيسكب عليه من خياله ما يحيله عن حقيقته، ونستطيع أن نلاحظ ذلك في وصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 للمعارك الدائرة بينهم؛ إذ نراه يعترف بهزيمة قومه إن هُزموا1، وبفراره إن ولَّى الأدبار ونكص على أعقابه2، وفي أثناء ذلك لا يبخل على أعدائه بوصف شجاعتهم وبلائهم في الحروب، ولهم في ذلك قصائد تلقب بالمنصفات، مر الحديث عنها وجاءهم ذلك من أنهم لا يبذلون في الحقائق ولا يعدلون في علاقتها ومعانيها، بل يخضعون لها ويضبطون خيالاتهم وانفعالاتهم إزاءها. ونحن بهذا الوصف إنما نقصد إلى جمهور أشعارهم؛ فقد تندّ بعض أبيات تحمل ضربًا من المبالغة؛ ولكن ذلك يأتي شاذًّا ونادرًا. ونظن ظنًّا أن شيوع هذه الروح فيهم هو الذي طبع أفكارهم بنزعة تقريرية؛ إذ تعودوا أن يسندوا أقوالهم بذكر الحقيقة عارية دون خداع يموِّهها أو طلاء يزيفها. ومن هنا كانت معانيهم محددة تحديدًا يبرزها في أتم ما يكون من ضياء، ومن ثم تبدو في كثير من جوانبها كأنها شيء راسخ ثابت. ويتضح ذلك في حكمهم التي تصور أحكامًا سليمة وخبرات صائبة كما يتضح في جوانب كثيرة من تأبينهم ومديحهم وغزلهم وحماستهم؛ إذ يقدم الشاعر المعاني منكشفة كأنها أشياء صلبة محسوسة؛ فهي حقائق تُسْرَدُ سردًا وقلما شابها الخيال، إلا ليزيدها إمعانًا في الوضوح والجلاء. واقرأ في أشعاره فستجد معانية حسية، واضحة، لا يقف بينك وبينها أي غموض أو أشراك ذهنية تضل في ممراتها وشُعبها الفكرية؛ إذ يعرض عليك هذه المعاني دائمًا مجسمة في أشخاص أو في أشياء. وخذ فضائلهم التي طالما أشادوا بها في حماستهم ومراثيهم ومدائحهم، فستجدها دائمًا تساق في مادة الإنسان الحسية، فهم لا يتحولون بها إلى معنى ذهني عام يصور إحساسهم بالبشرية جميعها في هذه الفضيلة أو تلك، فالكرم مثل البخل والوفاء وغيرهما من الفضائل والرذائل لا بد أن يقترن بشخص معين يتحدثون عنه. وهذه النزعة في الشاعر الجاهلي جعلته لا يحلل خواطره ولا عواطفه إزاء ما يتحدث فيه من حب أو غير حب؛ فهو لا يعرف التغلغل في خفايا النفس الإنسانية ولا في أعماق الأشياء الحسية. وتتضح هذه النزعة في خياله وتشبيهاته فهو ينتزعها من عالمه المادي، ولنرجع مثلا إلى تشبيهاته للمرأة فهو يشبهها بالشمس والبدر والبيضة والدرة! والدمية والرمح والسيف والغمام والبقرة والظبية والقطاة، ويشبه   1 انظر مثلًا المفضليات رقم 108. 2 المفضليات: رقم 32 بيت 1-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أسنانها بالأُقحوان وبنانها بالعَنم وثغرها بالبللور وخدها وترائبها بالمرآة وشعرها بالحبال والحيات والعناقيد ووجهها بالدينار وثديها بأنف الظبي ورائحتها بالمسك وبالأترجة وريقها بالخمر وبالعسل وعينها بعين البقرة والغزال وعجزها بالكثيب وساقها بالبُردية أما الرجل فيشبهه بالبحر وبالغيث وبالأسد وبالذئب وبالعقاب وبالبعير وبالبدر والقمر وبالرمح والسيف وبالبقرة والتيس والضبع وبالأفعوان والحية وبالكلب والحمار وبالصخرة وبالصقر وبالفحل. وعلى هذه الشاكلة من الحسية في التشبيه الشعر الجاهلي جميعه؛ فالشاعر يستقي أخيلته من العالم الحسي المترامي حوله. وجعلهم تمسكهم بهذه الحسية إذا وصفوا شيئًا أدقوا النظر في أجزائه وفصلوا الحديث فيها تفصيلًا شديدًا، وكأنما يريدون أن ينقلوه إلى قصائدهم بكل دقائقه، وكأن الشاعر نحات لا يصنع قصيدة، وإنما يصنع تمثالًا؛ فهو يستوفي ما يصفه بجميع أجزائه وتفاصيله الدقيقة. وخير مثل لذلك وصف طرفة لناقته في معلقته فقد نعت جميع أعضائها وكل دقيقة فيها وجليلة. ولم يترك منها شيئًا دون وصف أو بيان. وهذه الحسية فيهم جعلتهم لا يتسعون بمعانيهم؛ بل جعلتهم يدورون حول معان تكاد تكون واحدة، وكأنما اصطلحوا على معان بعينها، فالشعراء لا ينحرفون عنها يمنة ولا يسرة، فما يقوله طرفة في الناقة يقوله فيها غيره، وما يقوله امرؤ القيس في بكاء الديار يقوله جميع الشعراء، واقرأ حماسية كمعلقة عمرو بن كلثوم فستجد الشعراء الحماسيين لا يكادون يأتون بمعنى جديد. وقل ذلك في غزلهم ومديحهم ورثائهم فالشعراء يتداولون معاني واحدة وتشبيهات وأخيلة واحدة. ومن ثم تَبَدو في أشعارهم نزعة واضحة للمحاكاة والتقليد، وجنَى عليهم ذلك ضيق واضح في معانيهم؛ غير أنه من جهة ثانية أتاح لهم التدقيق فيها وأن يجلوها ويكشفوها أتم كشف وجلاء، واقرأ في المفضليات والأصمعيات فستجد دائمًا نفس المعاني، وستجد أيضًا براعة نادرة في إعادتها وصوغها صوغًا جديدًا؛ فكل شاعر يحاول أن يعطيها شيئًا من شخصيته، وخذ مثلًا تشبيه المرأة بالظبية، فشاعر يشبهها بها تشبيهًا عاديًّا، وشاعر يشبهها بها وهي تمد عنقها إلى شجر السلم الناضر، يريد أن يستتم بذلك منظرًا بديعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 للظبية، يقول علباء بن أرقم1: فيومًا توافينا بوجهٍ مُقَسَّمٍ ... كأَن ظبية تعطو إلى ناضر السلم وثالث يشبه جيدها بجيد الظبية في استوائه وطوله وجماله، يقول الحادرة2: وتصدَّفت حتى استبتك بواضح ... صلت كمنتصب الغزال الأتلع ورابع يجعل وجه الشبه حور العين، وخامس يجعله في التنفس كقول المنخل اليشكري: ولثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي البهير وما يزال كل شاعر يضيف تفصيلًا جديدًا. وخذ مثلًا تصويرهم للرجال بالكواكب والنجوم، يقول عامر المحاربي3: وكنا نجومًا كلما انقض كوكبٌ ... بدا زاهرٌ منهن ليس بأقتما ويقول طفيل الغنوي في مديح قوم4: نجوم ظلام كلما غاب كوكب ... بدا ساطعًا في حندس الليل كوكب ويقول لقيط بن زرارة وقد أضاف إلى هذا المعنى زيادة بدعية5: وإني من القوم الذين عرفتم ... إذا مات منهم سيد قام صاحبه نجوم سماء كلما غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه6 وألمَّ النابغة بهذه الصورة فنقلها نقلة جديدة؛ إذ قال في النعمان بن المنذر مقارنًا بينه وبين الغساسنة7:   1 الأصمعيات: ص178 ومقسم: من القسام وهو الجمال، وأن في كأن زائدة، تعطو: تتناول، والسلم: من أشجار البادية. 2 المفضليات: ص44 وتصدفت: أعرضت بواضح: يريد بعنق ناصع جميل، وصلت: مشرق، الأتلع: طويل العنق. 3 المفضليات: ص321 الأقتم: من القتام وهو الغبار. 4 الحيوان: 3/ 94. 5 الحيوان: 3/ 93. 6 الجزع: خرز فيه سواد وبياض. 7 الحيوان: 3/ 95 ومختار الشعر الجاهلي: ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يَبْدُ مْنهنّ كوكب ومعنى ذلك أن ضيق الدائرة في معانيهم لم يحل بينهم وبين النفوذ منها إلى دقائق كثيرة؛ فقد تحولوا يولدونها ويستنبطون منها كثيرًا من الخواطر والصور الطريفة. وملاحظة ثانية هي أنهم لم يعرضوا علينا معانيهم الحسية جامدة؛ بحيث تنشر الملل في نفوسنا؛ فقد أشاعوا فيها الحركة، وبذلك بثوا فيها كثيرًا من الحيوية، وما من شك في أن هذه الحركة مشتقة من حياتهم التي لم تكن تعرف الثبات والاستقرار؛ فهم دائمًا راحلون وراء الغيث ومساقط الكلأ، ومن ثَمَّ كانوا إذا وصفوا الحيوان وصفوه متحركًا لا واقفًا جامدًا، وارجع إلى وصف طرفة لناقته فستجده يصفها وهي سائرة به في طريق إلى غاية تصبو إليها نفسه، يقول: أَمونٍ كأَلْواح الأرَان نَسَأْتُها ... على لاحبٍ كأَنه ظَهْرُ بُرْجُدِ1 وهو يشبه الطريق بكساء مخطط، يجد فيه جمالًا، كما يجد فيها روعة وبهاء؛ فيستمر في وصفها وكأنه تدلَّه بها حبًّا؛ فهو لا يترك شيئًا دون أن يقيده، وكأنه يصنع لها تمثالًا يريد أن يحفره حفرًا في أذهان العرب الذين كانوا يعجبون بنوقهم ويودون لو أتيح لهم من ينصبها لهم تمثالًا بديعًا، وعلى هذا النحو كانوا يصفون خيولهم وكانوا ينتقلون منها ومن وصف النوق إلى وصف النعام وبقر الوحش وثورها والأتن وحمارها ويصورونها لنا وهي تجري في الصحراء تطلب الماء، والصائد إما في طريقها بكلابه أو على الماء مستترًا منها، وما تلبث أن تنشب معركة هائلة لا تقل عن معاركهم هولًا. وطبيعي أن يفيض هذا الجزء من قصائدهم بحركة واسعة، فالحركة أساسه، وقد يُدخلون هذه الحركة في المقدمة نفسها؛ فالشاعر لا يكتفي بالوقوف بالأطلال وبكاء الديار؛ بل كثيرًا ما يصور ظعن حبيبته وصواحبها في القافلة، وقد خرجت تطلب مرعى جديدًا، فلا تزال متنقلة من موضع إلى موضع وعينُ الشاعر بإزائها تسجل هذه الرحلة الدائبة تسجيلًا بديعًا.   1 أمون: موثقة الخلق، والأران: تابوت لموتاهم، ونسأتها: زجرتها، اللاحب: الطريق البين الواضح الذي أثر فيه المشي. البرجد: كساء مخطط شبه به طرائق الطريق وما فيه من تعاريج وخطوط وآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وهذه الحركة في حياتهم التي تعني عدم الثبات والاستقرار، وبالتالي تعني عدم التوقف عند شيء وإطالة النظر فيه هي التي جعلت معانيهم سريعة، أو على الأقل كانت من أهم البواعث على سرعتها؛ فالشاعر لا يقف طويلًا عند المعنى الذي يلم به؛ بل لا يكاد يمسه حتى يتركه إلى معنى آخر؛ فحياته لا تثبت ولا تستقر، وهو كذلك في معانيه لا يثبت ولا يستقر؛ بل ينتقل من معنى إلى معنى في خفة وسرعة شديدة. ومن ثم غلب عليه الإنجاز، فهو لا يعرف الإطناب ولا ما يتصل به من هدوء وسكون. ولعل هذا هو الذي جعل البيت في قصائدهم وحدة معنوية قائمة بنفسها. وتتألف القصيدة من طائفة الأبيات أو البيوت المستقلة التي يكتفي فيها كل بيت غالبًا بنفسه؛ غير متوقف على ما يسبقه ولا على ما يلحقه إلا نادرًا. وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في أن القصيدة الطويلة لا تلم بموضوع واحد يرتبط به الشاعر؛ بل تجمع طائفة من الموضوعات والعواطف لا تظهر بينها صلة ولا رابطة واضحة، وكأنها مجموعة من الخواطر يجمع بينها الوزن والقافية وتلكهي كل روابطها، أما بعد ذلك فهي مفككة؛ لأن صاحبها لا يطيل المكث عند عاطفة بعينها أو عند موضوع بعينه. ومن أجل ذلك زعم بعض النقاد أن الاستطراد أساس في الشعر الجاهلي، ومن حقنا أن نعطيه اسمًا جديدًا مشتقًا من حياته، وهو التنقل السريع. وما أشبه القصيدة عندهم بفضائهم الواسع الذي يضم أشياء متباعدة لا تتلاصق، فهذا الفضاء الرحب الطليق المترامي من حولهم في غير حدود هو الذي أملى عليهم صورة قصيدتهم؛ فتوالت الموضوعات فيها جنبًا إلى جنب بدون نسق ولا نظام ولا محاولة لتوجيه فكري. إنما هي موضوعات أو أشكال متجاورة يأخذ بعضها برقاب بعض في انطلاق غريب كانطلاق حياة الشاعر في هذا الفضاء الصحراوي الواسع الذي لا يكاد يتناهى ولا يكاد يحد، والذي تتراءى فيه الأشياء متناثرة غير متجاورة. على أن هذه الحركة قد أتاحت لشعرهم ضربًا من الروح القصصية، لا نراه ماثلًا في وصفهم للحيوان الوحشي فحسب؛ بل نراه أيضًا في وصف الصعاليك لمغامراتهم على نحو ما تعرض علينا ذلك تائية الشنفرى التي أنشدها المفضل الضبي والتي يستهلها بقوله1:   1 المفضليات: ص 108، وأجمعت: عزمت أمرها، واستقلت: ارتحلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أَلَا أُمُّ عَمْرو أَجمعتْ فاستقلَّتِ ... وما ودَّعتْ جيرانَها إذ تولَّتِ فإنه يقص علينا بعد غزلها الطريف قصة غزوة له مع بعض رفاقه من الصعاليك، وهو لا يسردها في إجمال؛ بل يسرد تفاصيلها، إذ يذكر أنهم أعدو العدة للغزو والسلب، يحملون قسيَّهم الحمر، وقد خرجوا من واديين: مِشْعل والجَبا راجلين، وقد حمل زادهم تأبط شرًّا الصعلوك المشهور، وكان يقتر عليهم في الطعام خشية أن تطول بهم الغزوة فيهلكوا جوعًا. ويصف لنا الشنفرى جعبة السهام التي كانت معهم، وكيف أنهم كانوا يحملون حسامًا صارمًا؛ بل سيوفًا قاطعة كأنها قطع الماء في الغدير لمعانًا؛ بل كأنها أذناب البقر الصغير تحركه، وقد نهلت وعلت من دماء محرم ساق هديه إلى الكعبة؛ فقتلوه دون غايته وأخذوا ما معه، كما قتلوا بعض من كانوا ساق هديه إلى الكعبة، فقتلوه دون غايته وأخذوا ما معه، وعلت من دماء محرم ساق هديه إلى الكعبة، فقتلوه دون غايته وأخذوا ما معه، كما قتلوا بعض من كانوا يرافقونه، ومن لم يُقْتَل أخذوه أسيرًا وينهى القصة مفتخرًا بشجاعته وأنه لا يرهب الموت. ويكثر الصعاليك من قَصِّ مثل هذه المغامرة، ويلقانا في حماسياتهم كثير من وصف معاركهم، وقد يحاولون سردها، وهو سرد تتمشى فيه الروح القصصية على نحو ما تمثل ذلك معلقة عمرو بن كلثوم وقصائد بشر بن أبي خازم في المفضليات؛ إذ يتحدث فيها حديثا مفصلًا عن يوم النِّسار والجفار، فالقصص يتخلل شعرهم، وقد أفردوا له في مطوَّلاتهم قطعة وصف الحيوان الوحشي. ونراه ماثلًا في غزلهم على نحو ما مر بنا في غزلية المنخل اليشكري؛ وإنما تمثلنا بقطعة منها، وهو ماثل في غزل المرقّش الأصغر مما رواه صاحب المفضليات. فإذا قلنا بعد ذلك كله إن معانيهم كان يسودها في بعض جوانبها ضرب من الروح القصصية لم نكن مبالغين، وهي روح لم تتسع عندهم، فقد أضعفتها حركتهم وميلهم إلى السرعة والإيجاز. وبذلك لم يظهر عندهم ضرب من ضروب الشعر القصصي؛ فقد ظل شعرهم غنائيًّا ذاتيًّا، يتغنى فيه الشاعر بأهوائه وعواطفه، غير محاول صُنْعَ قصة، يجمع لها الأشخاص والمقومات القصصية، ويرتبها ترتيبًا دقيقًا، فإن شيئًا من ذلك لم يخطر بباله؛ إذ كان مشغولًا بنفسه، لا يهمه إلا أن يتغنى بها وبمشاعره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 5- الخصائص اللفظية من أهم ما يلاحظ على الشعر الجاهلي أنه كامل الصياغة؛ فالتراكيب تامة ولها دائمًا رصيد من المدلولات تعبر عنه، وهي في الأكثر مدلولات حسية، والعبارة تستوفي أداء مدلولها، فلا قصور فيها ولا عجز. وهذا الجانب في الشعر الجاهلي يصور رقيًّا لغويًّا، وهو رقي لم يحدث عفوًا فقد سبقته تجارب طويلة في غضون العصور الماضية قبل هذا العصر، وما زالت هذه التجارب تنمو وتتكامل حتى أخذت الصياغة الشعرية عندهم هذه الصورة الجاهلية التامة؛ فالألفاظ توضع في مكانها والعبارات تؤدي معانيها بدون اضطراب. وقد يكون من الأسباب التي أعانتهم على ذلك أن الشعراء كما أسلفنا كانوا يرددون معاني بعينها؛ حتى لتتحول قصائدهم إلى ما يشبه طريقًا مرسومًا، يسيرون فيه كما تسير قوافلهم سيرًا رتيبًا، وكانوا هم أنفسهم يشعرون بذلك شعورًا دقيقًا، مما جعل زهيرًا يقول بيته المأثور -إن صح أنه له-: مَا أَرَانَا نَقُوْلُ إلَّا معارًا ... أو مُعادًا من لفظنا مكرورا فهو يشعر أنهم يبدءون ويعيدون في ألفاظ ومعان واحدة، ويجرون على طراز واحد طراز تداولته مئات الألسنة بالصقل والتهذيب؛ فكل شاعر ينقح فيه ويهذب ويصفي جهده حتى يثبت براعته. ولم تكن هناك براعة في الموضوعات وما يتصل بها من معان إلا ما يأتي نادرًا؛ فاتجهوا إلى قوالب التعبير، وبذلك أصبح المدار على القالب لا على المدلول والمضمون، وبالغوا في ذلك، حتى كان منهم من يخرج قصيدته في عام كامل، يردد نظره في صيغها وعباراتها حتى تصبح تامة مستوية في بنائها1. وربما دل ذلك على أن مطولاتهم لم تكن تصنع دفعة واحدة؛ بل كانت تصنع على دفعات، ولعل هذا هو سبب تكرار التصريع في طائفة منها، ولعله أيضًا السبب   1 البيان والتبيين: 2/ 9 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 في تَفْككها واختلاف عواطفها؛ فقد كان الشاعر يصنعها في أزمنة مختلفة. وأغلب الظن أنه كان إذا صنع قطعة عرضها على بعض شعراء قبيلته وبعض من يلزمه من رواته؛ فكانوا يروونها بصورة، وما يلبث أن يعيد فيها النظر فيبدِّل في بعض أبياتِها، يبدل كلمة بكلمة، وقد يحذف بيتًا. ومعنى ذلك أن صناعة المطولات أعدت منذ العصر الجاهلي لاختلاف الرواية فيها بسبب ما كان يدخله صاحبها عليها من تعديل وتنقيح. وفي أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدل على البراعة في هذا التنقيح وما يطوى فيه من تجويد؛ فقد لقبوا امرأ القيس بن ربيعة التغلبي بالمهلهل لأنه أول من هلهل ألفاظ الشعر وأرقها1 ولقبوا عمرو بن سعد شاعر قيس بن ثعلبة بالمرقش الأكبر لتحسينه شعره وتنميقه2 ولقبوا ابن أخيه ربيعة بن سفيان بالمرقش الأصغر، كما لقبوا طفيلًا بالمحبر لتزيينه شعره3، ولقبوا علقمة بالفحل لجودة أشعاره4 ولقبوا غير شاعر بالنابغة في شعره، ومن ألقابهم التي تدل على احتفالهم بتنقيح الشعر المثقِّب والمتنخّل. وقد استطاعوا حقًّا أن يبهروا العصور التالية بما وفروه لأشعارهم من صقل وتجويد في اللفظ والصيغة. ونحن نعرف أن الصيغة في الشعر صيغة موسيقية، وقد أسلفنا كيف أحكموا هذه الصيغة؛ فقد كان الشاعر يتقيد في قصيدته بالنغمة الأولى، وما زالوا يصفون في نغم القصيدة، حتى استوى استواء كاملًا، سواء من حيث اتحاد النغم أو اتحاد القوافي وحركاتها، وبرعوا في تجزئة الأوزان حتى يودعوا شعرهم كل ما يمكن من عذوبة وحلاوة موسيقية على نحو ما نلاحظ في غزلية المتنخل اليَشْكَري السابقة. وحقًّا هو في جمهوره جزل؛ ولكنها جزالة تستوفي حظوظًا من الجمال الفني؛ ولذلك ظلت ماثلة في شعرنا العربي عند شعرائه الممتازين إلى عصورنا الحديثة. واقرأ في حوليات زهير وقصائده المطولة وفي غيره من المبرزين أمثال النابغة وعلقمة الفحل والمرقشين والأعشى وطرفة والمتلمس وعنترة ودريد بن الصمة وسلامة بن جندل والحادرة والمثقب العبدي فستجدك أمام قصائد باهرة، قد أُحكمت صياغتها وضبطت أدق ضبط، وسنعرض قطعًا منها فِي حديثنا عن الشُّعراء، لنصور براعتهم   1 أغاني: "طبعة دار الكتب" 57/ 5 2 انظر المفضليات "طبعة لايل" 1/ 410، 485. 3 المفضليات: 410/ 1. 4 أغاني "طبعة الساسي": 21/ 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 في هذا الجانب وكيف حققوا لموسيقاهم مهما جَزُلَتْ وتضخمت كل ما يمكن من بهاء ورونق. وقد استعانوا منذ أقدم أشعارهم؛ لغرض التأثير في سامعيهم، بطائفة من المحسنات اللفظية والمعنوية، وأكثرها دورانًا في أشعارهم التشبيه؛ فلم يصفوا شيئًا إلا قرنوه بما يماثله ويشبهه من واقعهم الحسي، فالفرس مثلًا يشبه من الحيوان بمثل الظبي والأسد والفحل والوعل والذئب والثعلب ويشبه من الطير بالعقاب والصقر والقطاة والباز والحمام، ويشبه بالسيف والقناة والرمح والسهم وبالأفعوان والحبل والهراوة والعيب والجذع وتشبه ضلوعه بالحصير وصدره بمداك العروس وغرته بخمار المرأة والشيب المخضوب ومنخره بالكير وعرفه بالقصبة الرطبة وحافره بقعب الوليد وعنقه بالرمح والصعدة وعينه بالنقرة والقارورة ولونه بسبائك الفضة وارتفاعه بالخباء. وكل هذه الأوصاف والتشبيهات مبثوثة في المفضليات والأصمعيات، ويعرض علينا امرؤ القيس في وصفه لفرسه بمعلقته طائفة طريفة منها. وعلى نحو ما لاحظنا آنفًا كانوا يحاولون الإطراف في التشبيه، حتى يخلبوا ألباب سامعيهم، وقد يقعون على صورة نادرة كتصوير المتنخل اليشكري لغدائر بعض النساء بأنها كالحيات، يقول1: يَعْكُفْنَ مِثْلَ أَساودِ الـ ... ـتَّنُّوم لم تُعْكَفْ لزُورِ2 وكانوا يشبهون المرأة بالبدر والشمس، وألم سويد بن أبي كاهل بهذا التشبيه، وحاول أن يخرجه إخراجًا جديدًا فقال3: حرّة تَجْلُو شَتِيتًا واضحًا ... كشعاع الشمس في الغَيْم سَطَعْ4 فجعل أسنان صاحبته المفلجة البيضاء كشعاع الشمس يبزغ من خلل الغيم. وكانوا يشبهون الرمح بالجمر ولهبه، وألمّ عَميرة بن جُعْل بهذا التشبيه فأضاف إليه إضافة جديدة؛ إذ قال5:   1 الأصمعيات: ص54. 2 يعكفن: يمشطن شعرهن، والأساود: الأفاعي، والتنوم: شجر، ولم تعكف لزور كناية عن عفتهن. 3 المفضليات: ص191. 4 الشتيت: المتفرق يريد أسنانها المفلجة، واضحًا: أبيض. 5 المفضليات ص259، والرديني: الرمح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 جمعتُ رُدَيْنِيًّا كأَنَّ سِنَانَهُ ... سَنَا لهب لم يَتَّصِلْ بدُخانِ وكان الجاحظ يعجب إعجابًا شديدًا بوصف عنترة لبعض الرياض وتصويره للذباب وحركة جناحيه حين يسقط، إذ يقول1: جادَت عليها كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهَمِ2 فترى الذبابَ بِها يُغَنِّي وحده ... هَزِجًا كفعل الشارب المترنم غَرِدًا يَحُكُّ ذِرَاعَه بذراعهِ ... فعل المُكِبِّ على الزِّنادِ الأَجْذم3 فقد شبه قرارات الروضة وحفرها بالدراهم، وشبه صوت الذباب بصوت الشارب المترنم، وما زال يطب صورة نادرة حتى وقع على الصورة الأخيرة؛ إذ شبه الذباب في حركة أجنحته الدائبة حين يسقط برجل مقطوع اليدين يقدح النار من عودين أو زَندين فلا تقتدح، فيستمر في قدحه لا يفتر. وبجانب التشبيهات الكثيرة التي تلقانا في شعرهم نجد الاستعارة بفرعيها من التصريحية والمكنية، وهي مبثوثة في أقدام أشعارهم. نجدها عند امرئ القيس ومعاصريه كما نجدها عند من جاءوا بعده، ومن أمثلتها الطريفة عند امرئ القيس تصويره طول الليل وفتوره وبطئه ببعير جاثم لا يريم؛ إذ يقول في معلقته مخاطبًا الليل: فقلتُ له لما تمطَّى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل4. وأنشد ابن المعتز في كتابه "البديع" كثيرًا من استعاراتهم مثل قول أوس بن حَجر: وإني امرؤ أعددت للحرب بعدما ... رأيتُ لها نابًا من الشر أَعْصَلا5 وقول علقمة بن عبدة: بل كلُّ قوم وإن عَزُّوا وإن كرموا ... عَريفُهم بأثافي الشرِّ مَرْجُومُ6   1 الحيوان: 3/ 312، ومختار الشعر الجاهلي للسقا: ص371. 2 العين الثرة هنا: السحابة غزيرة المطر، وشبه الحديقة بالدرهم في استدارته. 3 الأجذم: مقطوع اليدين. 4 الكلكل: الصدر. 5 الأعصل: المعوج في صلابة. 6 العريف: الرئيس، والأثافي: الحجارة التي تنصب عليها القدر، استعارها لنوائب الدهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقول طُفيل الغنَوي في وصف ناقته: وجعلتُ كوري فوق ناجية ... يقتاتُ شَحْمَ سنامها الرحل وقول الحارث بن حلزة اليشكري: حتى إذا التفع الظباء بأَطـ ... ـراف الظلال وقِلْنَ في الكُنْسِ2 وفي شعرهم كثير من هذه الاستعارات الطريفة، وسنعرض لطائفة منها ومن التشبيهات في دراستنا لشعرائهم المبرزين، وكانوا يضيفون إلى ذلك عناية ببعض المحسنات التي شاعت في الشعر العباسي وكثُر استخدامها فيه حتي اتخذها بعض الشعراء مذهبًا يطبقها على جميع أبياته أو جمهورها، ونقصد الطباق والجناس، فلهما أصول في الجاهلية، ونحن نجدهما عند امرئ القيس في وصفه لفرسه إذ يقول: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ كُمَيتٍ يَزِلُّ اللِبدُ عَن حالِ مَتنِهِ ... كَما زَلَّتِ الصَفواءُ بِالمُتَنَزَّلِ3. والطباق واضح في البيت الأول ومثله الجناس في البيت الثاني. وقد أنشد المفضل الضبي لعبد الله بن سلمة الغامدي قصيدة كثر في آخرها الجناس كثرة مفرطة، حتى لكأننا بإزاء شاعر عباسي من شعراء البديع، يقول عبد الله4: ولقد أصاحبُ صاحبًا ذا مَأْقَةٍ ... بصِحاب مُطَّلِع الأَذَى نقريس 5 ولقد أزاحم ذا الشذاة بمزحم ... صعب البداهة ذي شذا وشريس6   1 الكور: الرحل، ناجية: ناقة سريعة. 2 التفعت الظباء بالظلال: دخلت فيها واكتنت من الحر. وقلن: أمضين القائلة وهي نصف النهار. والكنس: جمع كناس وهي حفرة تحفرها الحيوانات الوحشية في أصل شجرة لتستتر فيها. 3 الكميت: الأحمر في سواد، يزل: يسقط، يريد أنه أملس المتن. الصفواء: الصخرة الملساء، المتنزل: النازل عليها. 4 المفضليات: ص107. 5 المأقة: حدة الغضب، وصحاب: مصدر صاحب، مطلع الأذى: مالك له في استعلاء، والنقريس: الحاذق. 6 ذا الشذاة: ذا الأذى. بمزحم: شديد المزاحمة. صعب البداهة: شديد المفاجأة. والشذا: الأذى، والشريس: الشراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ولقد أداوي داء كل مُعَبَّدِ ... بِعَنِيَّة غَلَبَتْ على النِّطِّيسِ1 فقد جانس في البيت الأول بين أصاحب وصاحبا وصحاب، وجانس في البيت الثاني بين أزاحم وبمزحم والشذاة وشذا وأدخل حرف الشين على كلمة شريس، وجانس في البيت الأخير بين أداوي وداء. وتلك كلها محسنات كان الشاعر الجاهلي يعني بها حتى يؤثر في نفوس سامعيه ويخلب ألبابهم، وهي تصور مدى ما كان يودعه قصيدته من جهد فني، وخاصة من حيث التصوير ودقته وبراعته؛ فقد كان ما يزال يجهد خياله يأتي فيه بالنادر الطريف.   1 المعبد: البعير الأجرب، أراد به الشريز. العنية: من أدوية الجرب. النطيس كالنطاسي: الطبيب الماهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الفصل السابع: امرؤ القيس 1- قبيلته وأسرته 1 امرؤ القيس من قبيلة كندة، ومن بيت السيادة فيها، وهي قبيلة يمنية2 كانت تنزل في غربي حضرموت، وهاجرت منها جماعة كبيرة إلى الشمال مع هجرات اليمنيين المعروفة، واستقرت جنوبي وادي الرمة الذي يمتد من شمالي المدينة إلى العراق. وقد احتلت كما مر بنا مكانًا بارزًا في نجد منذ أواسط القرن الخامس للميلاد؛ فإننا نجد على رأسها أميرًا يسمى حجرًا آكل المرار3 تعاقبت الإمارة في بنيه من بعده، ويظهر أنه استطاع أن يفرض سيادته على كثير من القبائل الشمالية، وأنه كان يدين بالطاعة لملوك حمير اليمنيين4. وهذه الإمارة الكندية النجدية كانت تقابل إمارة المناذرة في الحيرة والغساسنة في الشام، وقد أدى وقوعها بينهما ومحاولتها بسط نفوذها على قبائل معد من حولها إلى أن تصطدم بالإمارتين المجاورتين لها جميعًا، وهو اصطدام تُروى أخباره منذ قيام حجر آكل المرار؛ إذ كثيرًا ما كان يشتبك في حروب مع الغساسنة5. وما زال يمد رقعة ملكه حتى بلغت حدود المناذرة، ويتوفى فيخلفه ابنه عمرو ويحافظ على ما ورث عن أبيه من سلطان، ويُصهر إليه ملك الحيرة 6 مما يدل على اتساع نفوذه، ويعقبه.   1 راجع في كندة وأمرائها كتاب أوليندر السالف ذكره. 2 انظر في ذلك الاشتقاق "طبعة جوتنجن" 2/ 218 والأغاني: 9/ 77 وهناك من يزعم أن كندة قبيلة عدنانية "انظر الأغاني طبعة دار الكتب 13/ 79 والمفضليات طبعة لايل 1/ 427" ولكن هذا الزعم غير صحيح، ويدل على ذلك دلالة قاطعة أننا نجد في أسماء أعلامها كما قدمنا نفس الأسماء اليمنية مثل شرحبيل ومعد يكرب ابني الحارث. 3 آكل المرار لقب لحجر، وأصله فحل الإبل يأكل نبتًا مرًّا يسمى المرار، فكأنهم أرادوا به حجرًا الفحل. 4 الأغاني: "طبع الساسي" 15/ 28 وابن خلدون 2/ 273 وجواد على 3/ 220. 5 الأغاني 15/ 82 وما بعدها. 6 تاريخ الطبري "طبعة أوروبا" 1/ 900 وحمزة الأصفهاني ص 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ابنه الحارث، وهو أهم أمراء هذه الأسرة، والمظنون أنه بدأ حكمه حوالي سنة 490 للميلاد. ويذكر المؤرخون البيزنطيون أنه كان كثير الإغارة على الحدود الرومانية وكان يقود غاراته ابناه حُجْر ومعد يكرب، وقد أغارا على فلسطين الرومانية في عامي 497 و 501 للميلاد1. ولا نتقدم في القرن السادس حتى يعظم سلطان الحارث في نجد. وحدث أن غضب قباذ ملك الفرس على المنذر بن ماء السماء أمير الحيرة بسبب رفضه لمذهب المزدكية، كما مر بنا في غير هذا الموضع؛ فعزله وولى على الحيرة مكانه الحارث ختنه2؛ فتحقق له حلم آبائه بتقويض الإمارة اللخمية، وولى أبناءه على القبائل، فجعل -كما تقول بعض الروايات- حُجْرًا على أسد وغطفان وشرحبيل على بكر ومعد يكر على تغلب وسلمة على قيس3. وسرعان ما تطورت الأحداث، فإن الأحباش استولوا على اليمن وتوفي قباذ وخلفه كسرى أنوشروان سنة 528 وكان يكره مزدك والمزدكية، فاضطهد أنصارها في بلاده، وأعاد المنذر بن ماء السماء إلى الحيرة عاصمته، وقد أدار مع الحارث معارك طاحنة، انتهت بقتل الحارث. وتبع المنذر أبناءه يوقع بهم ويؤلب القبائل عليهم، وسرعان ما سقط معد يكرب وسلمة في معركة تعرف بيوم أوراة الأول4 ويقال إن معد يكرب أصابه الجنون، وكان شرحبيل قد سقط قبل ذلك في معركة بينه وبين أخيه سلمة تعرف بيوم الكُلاب الأول 5. أما حُجْر هو أبو امرئ القيس فقتلته قبيلة بني أسد، ويروي صاحب الأغاني أربع روايات مختلفة في قتله6، أما الأولى فقد رواها عن هشام بن الكلبي "المتوفى سنة 204هـ" وهي تزعم أن حجرًا كان له على بني أسد إتاوة يؤدونها كل عام؛ فلما قتل أبوه أرسل إليهم جباته فمنعوهم وضربوهم ضربًا مبرحًا، فسار إليهم حجر بجند من ربيعة وقيس وكنانة، فاستسلموا له، فأخذ سادتهم، وجعل يقتلهم بالعصا   1 انظر في ذلك تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 3/ 245. 2 نفس المصدر ص238 وما بعدها. 3 نفس المصدر ص 243 وما بعدها. 4 نقائض جرير والفرزدق "طبعة بيفان" ص887 وتاريخ ابن الأثير 1/ 228. 5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 12/ 208 وما بعدها والمفضليات "طبعة لايل" 1/ 428 وابن الأثير 1/ 227 ومعجم البلدان لياقوت 7/ 269. 6 أغاني "طبعة دار الكتب" 9/ 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 -فسموا عبيد العصا- وأباح أموالهم، وطردهم من منازلهم في جنوبي وادي الرُّمَّة إلى تهامة، وحبس سيدهم عمرو بن مسعود الأسدي، وشاعرهم عبيد بن الأبرص وقد استعطفه بقصيدة يقول له فيها: أنت المليكُ عليهمُ ... وهم العبيد إلى القيامة فأثر ذلك في نفس حجر، وعفا عنهم؛ ولكنهم أضمروا له الانتقام، وأصابوا منه غرة، فقتلوه في قبته، ونهبوا ما كان معه من أموال والرواية الثانية رواها أبو الفرج عن أبي عمرو الشيباني "المتوفى سنة 213هـ" وهي تزعم أن حجرا خاف على نفسه من بني أسد، فاستجار بعوير بن شجنة التميمي لبنته هند وأهله، ثم مال على بعض بني سعد بن ثعلبة فأدركه علباء بن الحارث الأسدي، وغافله، وقتله. والرواية الثالثة رواها أبو الفرج عن الهيثم بن عدي "المتوفى سنة 206" وهي تذكر أن حجرا لما استجار عوير بن شجنة لبنيه وأهله تحول عن بني أسد فأقام في عشيرته كندة مدة، وجمع لبني أسد منهم معًا عظيمًا، وأقبل مدلًا بمن معه من الجنود، فتآمرت بنو أسد بينها، وقالوا: والله لئن قهركم هذا ليحكمن عليكم حكم الصبى! وما خير عيش يكون بعد قهر وأنتم بحمد الله أشد العرب فموتوا كرامًا. فساروا إلى حجر وقد ارتحل نحوهم فلقوه، فاقتتلوا قتالًا عنيفًا، وكان صاحب أمرهم علباء بن الحارث فحمل على حجر فطعنه، فقتله، وانهزمت كندة وفيهم يومئذ امرؤ القيس بن حجر، فهرب على فرس له شقراء، وأعجزهم. وقد قتلوا من أهل بيته طائفة وأسروا أخرى وملئوا أيديهم من الغنائم، وأخذوا جواري حجر ونساءه وكل ما كان معه من أموال، واقتسموا ذلك جميعه. أما الرواية الرابعة فرواها أبو الفرج عن ابن السكيت "المتوفي سنة 244" وهي تزعم أن حجرا أقبل بعد موت أبيه راجعا إلى بني أسد، وكان قد أساء ولايتهم. وتشاورت بنو أسد فيه، وأجمع أمرهم على إعلان الحرب عليه، وخرج إليه بعض شجعانهم، فقتلوا من كان يقدم ركبه من غلمانه وسبوا جواريه. وعلم حجر بذلك فقاتلهم غير أنهم هزموه وأسروه، ووثب منهم فتى كان له عنده ثأر، فقتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والرواية الأولى رواية هشام الكلبي، وهو متهم فيها يرويه؛ فهي رواية ضعيفة ومما يدل على فسادها قصيدة عبيد التي ذكر في تضاعيفها يوم القيامة: ومن أين له بمعرفة هذا اليوم الذي جاء في القرآن الكريم وهو جاهلي وثني؟ ومثلها الروايتان الثانية والرابعة، فأثر الافتعال فيهما واضح، لسبب بسيط، وهو أن حجرًا يموت غيلة، ولا نرى عشيرته كندة تثأر له أو تشتبك من أجله في حرب مع بني أسد؛ لذلك نرجح الرواية الثالثة رواية الهثيم بن عدي، وهي تتفق مع ما ردده عبيد بن الأبرص في شعره مرارًا من أن قبيلته نكلت بكندة وصاحبها حجر، وكان عبيد معاصرًا للحوادث وشاهد عيان لها، ومن قوله في ذلك يخاطب امرأ القيس1: ورَكْضُك لولاه لقيت الذي لَقوه ... فذاك الذي أنجاك مما هنالكا وهو يشير بذلك في وضوح إلى فرار امرئ القيس من المعركة التي قتل فيها أبوه، ونراه يصف هذه المعركة، ويصرح بهزيمة كندة فيها وقَتْل حجر؛ إذ يقول معرضًا بامرئ القيس وساخرًا من وعيده وتهديده لقومه2: يا ذا المخوِّفنا بقتـ ... ـل أَبيه إذلالًا وحَيْنا3 أزعمتَ أنك قد قتلـ ... ـت سَرَاتنا كذبًا ومينا4 هلَّا على حُجْر ابن أُمِّ ... قَطام تبكي لا علينا هلا سأَلت جموع كندةَ ... يوم ولَّوا أَين أَينا أَيام نضربُ هامهم ... ببَواترٍ حتى انحنينا5 ويتكرر في ديوان عبيد وصف نهاية حجر ومُلك كندة على أسد بهذه الصورة مرارًا6؛ مما يدل على أن رواية الهيثم بن عدي أكثر قربًا إلى الصحة والصدق وأن الروايات الأخرى دخلها الفساد والانتحال.   1 ديوان عبيد بن الأبرص "طبعة لايل" ص53. 2 الديوان ص27. 3 الحين: الموت. 4 السراة: السادة، المين: الكذب. 5 السيوف البواتر: القاطعة. 6 انظر ديوان عبيد: القصائد رقم 4، 17، 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 2- حياته تتردد في كتب الأدب أسماء مختلفة لامرئ القيس؛ فيسمى حُنْدجًا وعديًّا ومُلَيْكة1. ويُكنى بأبي وهب وأبي زيد وأبي الحارث، ويلقب بذي القروح والملك الضليل2، وأشهر ألقابه امرؤ القيس، والقيس من أصنامهم في الجاهلية كانوا يعبدونه وينتسبون إليه. وأبوه حُجْر بن الحارث كما مر بنا أما أمه ففاطمة بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل التغلبيين3. ووهم بعض الرواة في نسبه؛ فقالوا: إنه امرئ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو الكندي، وإن أمه تَملك بنت عمرو بن زبيد بن مذحج من رهط عمرو بن معد يكرب4. وهو خلط أوقعهم فيه تشابه اسمه مع اسم هذا الشاعر، وكان في الجاهلية ستة عشر شاعرًا كلهم يتسمى باسم امرئ القيس. ولا نعرف سنة مولده، ويظن أنه ولد في أوائل القرن السادس للميلاد، وليس بين أيدينا أي شيء واضح عن نشأته وكيف أمضى أيامه الأولى في شبابه إلا أخبارًا تغلب عليها الأسطورة، من ذلك ما رواه5 هشام الكلبي؛ إذ يزعم أن أباه حجرًا طرده وآلى "أقسم" أن لا يقيم معه أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك؛ فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شُذَّاذ القبائل: من طيء وكلب وبكر بن وائل؛ فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد، فتصيد ثم عاد، فأكل وأكلوا معه، وشرب الخمر، وسقاهم، وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى.   1 انظر جواد علي 3/ 253 وOlinder ص95 وشرح المعلقات السبع للزوزني ص1 وما بعدها والمؤتلف والمختلف للآمدي ص9 وجمهرة أشعار العرب ص20 والمزهر للسيوطي2/ 422 وشرح شواهد المغني له ص6. 2 الأغاني 9/ 78 وانظر ترجمته في الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبعة دار المعارف" 1/ 52 وما بعدها. 3 أغاني: 9/ 77. 4 أغاني: 9/ 77. 5 أغاني: 9/ 87 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 غيره فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدَمّون من أرض اليمن، أتاه به رجل من بني عِجْل يقال له عامر الأعور أخو الوصاف، فلما أتاه بذلك قال: تَطاول الليلُ على دَمُّونْ ... دَمُّونُ إنا معشر يمانونْ وإننا لأَهلنا محبُّون ثم قال: ضيَّعني صغيرًا وحمَّلني دمه كبيرًا، لا صَحْوَ اليوم ولا سكر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر. فذهبت مثلًا، ثم قال: خليليَّ لا في اليوم مَصْحًي لشاربٍ ... ولا في غدٍ إذ ذاك ما كان يُشْرَبُ ثم شرب سبعًا؛ فلما صَحِيَ آلى أن لا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا ولا يدَّهن بدهن "طيب" ولا يقرب النساء حتى يدرك بثأره؛ فلما جَنَّه الليل رأى برقًا، فقال: أرقت لبرق بليل أهل ... يضيء سناه بأعلى الجبل أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القُلَل1 بقتل بني أسد ربَّهم ... ألا كلُّ شيء سواه جَلَل2 فأين ربيعةُ عن ربِّها ... وأين تميم وأين الخَوَل ألا يحضرون لدى بابِه ... كما يحضرون إذا ما أَكل وواضح أن هذا الخبر يخالف رواية الهيثم بن عدي السابقة في مقتل حجر والتي تذكر أن امرأ القيس كان مع أبيه في حربه لبني أسد وأنه فر حين هزمت كندة وقتل أبوه؛ فهو من منحولات ابن الكلبي، ومثله الخبر الذي ساقه ابن قتيبة؛ إذ يقول إن أباه طرده لما صنع في الشعر بفاطمة ابنة عمه ما صنع، وكان لها عاشقًا، فطلبها زمانًا فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غرّة، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان فقال قصيدته: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" فلما بلغ ذلك أباه دعا مولى يقال له ربيعة، فقال: اقتل امرأ القيس وائتني بعينيه،   1 القلل: قمم الجبال. 2 جلل هنا: هين. 3 الخول: العبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فذبح جُؤْذوا1، فأتاه بعينيه، وندم حجر على ذلك، فقال: أبيت اللعن! إني لم أقتله، قال: فأتني به.. فرده إلى أبيه، فنهاه عن قول الشعر، ثم إنه قال قصيدته: "ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي" فبلغ ذلك أباه فطرده، فبلغه مقتل أبيه بدمون2. وواضح أن هذا الخبر يلتقي بسابقه ويكتمل بنفس أسلوبه فهو منتحل، صنع تعليقًا وتوضيحًا لبعض أبيات معلقته التي يذكر فيها صاحبته فاطمة ويذكر معها يوم دارة جُلْجل. ومثل هذين الخبرين ما قاله بعض الرواة من أن أباه طرده لتغزله ببعض نسائه. والحق أن هذه الأخبار ظاهرة الانتحال هي وكل ما يتصل بها من أشعار يسوقونها على لسانه، وكأن ابن الكلبي وغيره من الرواة استلهموا ما تدل عليه أشعاره الصحيحة من أنه كان صبًّا بالشراب والصيد ومغازلة النساء؛ فلفقوا هذه الأخبار، وضمنوها بعض الأشعار. وفاتهم أنه عاش في عصر الوثنية وأنه كان أميرًا من أسرة تفرض سيادتها على كثير من القبائل فلا عجب أن يحيا حياة لاهية لا تتورع عن الإثم. على أن الدهر لم يلبث أن قلب لهذا الفتى -العاكف على الصيد واللهو- ظهر المجن فإذا أبوه يُقتل، وإذا هو موتور، لا بد له من أخذ ثأره على عادة العرب، ولا بد أن يجاهد في سبيل استرداد ملك آبائه وملك كندة قبيلته على بني أسد قتلة أبيه. ويظهر أن بني أسد خافوا العاقبة، فأرسلوا إليه -في رواية للخليل بن أحمد- وفدًا للمفاوضة، وعرض عليه الوفد إحدى ثلاث: القصاص أو الفداء أو النظرة "الإمهال" حتى تضع الحوامل، فتعقد الرايات وتكون الحرب؛ فقال: "لقد علمت العرب أن لا كفء لحُجر في دم، وإني لن أعتاض به جملًا أو ناقة، فأكتسب بذلك سُبّة الأبد، وفَتّ العَضُد، وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنقًا وفوق الأسنة علقًا "دمًا" ورويدًا ينكشف لكم دُجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير؛ فنهضوا عنه3 وقد عرفوا أنه طالبهم.   1 الجؤذر: ولد البقرة الوحشية. 2 انظر الشعر والشعراء: 1/ 54، وشرح شواهد المغني للسيوطي ص6. 3 الأغاني: 9/ 103 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ويلقانا قصص كثير عن طلبه لبني أسد، وأكثره مما رواه ابن الكلبي1؛ إذ يزعم أنه ارتحل حتى نزل بكرًا وتغلب فسألهم النصر على بني أسد، وعلمت بنو أسد بما يدبر لهم، فارتحلوا ولجئوا إلى بني كنانة، فاختلطوا بهم. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد؛ فوضع السلاح فيهم، فأعلموه أنهم ليسوا طَلبَتَهُ، وكان بنو أسد قد عرفوا قدومه بمن معه، فرحلوا، فتبعهم حتى لحقهم، وقاتلهم؛ حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم وحجز الليل بينهم؛ فهربت بنو أسد؛ فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم، وقالوا له: قد أصبت ثأرك، وانصرفوا عنه. ومضى لوجهه حتى لحق حمير، فاستنصر أزدَ شنوءة فأبوا أن ينصروه، فنزل بقيل "أمير" يدعى مرثد الخير الحميري فأمده بخمسمائة رجل، وتبعه شذاذ من العرب واستأجر من القبائل رجالًا؛ فسار بهم إلى بني أسد، ويقال إنهم عادوا فتركوه، ويقال إنه لجأ إلى عمرو بن المنذر بن ماء السماء وذكرَ ما بينهما من صهر فأجاره، وبلغ المنذر مكانه فطلبه، فهرب وفي رواية إن المنذر ألح في طلبه ووجه الجيوش إليه فلجأ إلى الحارث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة، فأرسل إليه المنذر مائة من رجاله ينذره بالحرب إن لم يسلم امرأ القيس ومن معه من بني آكل المرار. فخرج امرؤ القيس على وجهه حتى نزل في أرض طيء وقيل: بل نزل قبلهم على سعد بن الضباب الإيادي فأجاره، ثم تحول عنه إلى المعلى بن تيم الطائي، فأكرمه. وولى وجهه نحو عشيرة بني نبهان الطائية؛ فبذلت له من مالها، ثم خرج عنها فنزل بعامر بن جوين الطائي. وكان المنذر لا يزال يتبعه، فتحول عن طيء إلى رجل من بني فزارة يسمى عمرو بن جابر فدله على السموأل بن عادياء صاحب حصن الأبلق بتيماء؛ فلجأ إليه. وهنا يزعم ابن الكلبي وغيره من الرواة أنه طلب منه أن يكتب له إلى الحارث بن جبلة الغساني بالشام ليوصله إلى قيصر، واستودعه أهله وأمواله وما كان معه من سلاح. ومضى حتى انتهى إلى قيصر في القسطنطينية، وهو حينئذ جوستنيان فأكرمه ورفع منزلته، وضم إليه جيشًا كثيفًا. ولما فصل اندس إلى جوستنيان رجل من بني أسد يقال له الطماح فقال له: "إن امرأ القيس غَوِي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه   1 الأغاني 9/ 90 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارًا يشهرها بها في العرب، فيفضحها ويفضحك؛ فبعث إليه القيصر حينئذ بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك؛ فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل منزل، فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها؛ فأسرع فيه السم وسقط جلده؛ فلذلك سمي ذا القروح، وقال في ذلك: لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني مما يلبس أبؤسا1 فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفسا فلما صار إلى بلدة من بلاد الروم تدعى أنقرة احتُضر بها، فقال: رب خطبة مسحنفره ... وطعنة مثعنجره2 وجفنة متحيره ... حلت بأرض أنقره3 ورأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك قد فنت في سفح جبل يقال له عسيب فسأل عنها، فأخبر بقصتها فقال: أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب. ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك! ". وهذه الأخبار عن امرئ القيس بعد مقتل أبيه ومصيره رويت في جملتها عن ابن الكلبي المتهم فيما يرويه، والتلفيق فيها بين واضح. ويمكن أن يكون لها أصل، تشهد به الحوادث، وهو أن يكون امرؤ القيس حاول عبثًا استرداد ملك آبائه؛ ولكنه مات دون تحقيق غايته. ومن الممكن أيضًا أن يكون قد حاول اللجوء إلى الحارث بن جبلة النسائي وأنه أوصله إلى جوستنيان في القسطنطينية؛ غير أنه مات في الطريق. ومن المحقق أن قصة ثأر جوستنيان لشرفه منه قصة منتحلة، نسجها القصاص حين   1 يريد بالأبؤس ما لبسه من الحلة المسمومة. 2 مسحنفرة: مسهبة، مثعنجرة: سائلة. جفنة متحيرة: ممتلئة طعامًا ودسمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وجدوه في شعره يفخر بمغامراته الغرامية، وكأنهم أرادوا أن لا يخلوه في القسطنطينية من ضرب من ضروب هذه المغامرات الجريئة، وقد تمادوا فجعلوه يدخل مع القيصر الحمام وقالوا إنه كان ينادمه، وإن ابنته نظرت إليه فعشقته وواصلته. والحق أن القصص لعب دورًا واسعًا في حياة امرئ القيس؛ بحيث طمست معالمها، سواء قبل مقتل أبيه أو بعده. ومن ثم ذهب طه حسين إلى أن حياته بتفاصيلها وبما تزعمه من ذهابه إلى قيصر وموته في رجوعه من عنده إنما هي تمثيل لحياة عبد الرحمن بن الأشعث الكندي الذي ثار على الحجاج وحاول الاستعانة بملك الترك، وأخفق في مسعاه1. وفيما ذهب إليه طه حسين ضرب من المبالغة والخيال البعيد. وإذا رجعنا إلى المؤرخين البيزنطيين لم نجد عندهم أي إشارة إلى امرئ القيس ابن حجر الكندي وزيارته لبيزنطة وطلبه النصرة منها ضد المنذر بن ماء السماء، وقد ورد عند "بروكوبيوس" اسم شخص يدعى قيسًا اقترن اسمه بغزو الحبشة لليمن سنة 524 للميلاد، ويقال إن القيصر طلب منه أن يقود الجيوش ضد الفرس، وذكر "نونوسوس" أن جوستنيان كلفه بالسفارة لديه2. ومن ثم ظن كوزان دي برسفال أن قيسًا المذكور عند هذين المؤرخين هو امرؤ القيس3، وخاصة حين رآه يزور القسطنطينية، وأكبر الظن أن هذا مجرد تشابه في الأسماء. على أن بعض المصادر التاريخية اليونانية ذكرت في صراحة اسم شخص يدعى امرأ القيس كان من العرب التابعين لملوك الفرس، وقد جعل يغير على القبائل في شمالي الحجاز ويبسط سلطانه عليها وقد استطاع أن يستولي على جزيرة يوتابه Lotabe –جزيرة تيران الحالية في مدخل خليج العقبة- ويطرد منها عمال المكوس عند الروم، وعاد فرأى أن يصانع الروم، مخافة غزوهم له؛ فأرسل إلى بيزنطة أسقف العرب الذين خضعوا لحكمه سنة 473 للميلاد، ليفاوض قيصر في أن يعينه حاكمًا على جنوبي الأردن وساحل خليج العقبة، ويمنحه لقب فيلارك. ونجح الأسقف في   1 في الأدب الجاهلي: ص211 وما بعدها. 2 جواد علي: 3/ 265 وما بعدها. 3 انظر جواد علي في نفس الصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 سفارته، ودعا القيصر امرأ القيس لزيارة عاصمته، وبالغ في إكرامه، وعاد إلى بلاده1. وواضح، مما تذكره تلك المصادر اليونانية عن هذا الأمير وأنه كان من العرب التابعين لملوك الفرس، أنه كان من اللخميين، ولعل من الطريف أن محمد بن حبيب يذكر في كتابه "المحبر" أن فيروز ملك الفرس "475- 483م" هو الذي نصب امرأ القيس بن المنذر اللخمي ملكًا، وإذا رجعنا إلى ملوك الحيرة في هذا التاريخ لم نجد بينهم من يتسمى بهذا الاسم، وفي ذلك ما يؤكد ما تذكره المصادر اليونانية من أنه كان ملكًا، وإذا رجعنا إلى ملوك الحيرة في هذا التاريخ لم نجد بينهم من يتسمى بهذا الاسم، وفي ذلك ما يؤكد ما تذكره المصادر اليونانية من أنه كان ملكًا في شمالي الحجاز، وكأنه بدأ كما تقول المصادر اليونانية مواليًا للفرس، ثم استقل عنهم، وأصفى ولاءه للروم. ومر بنا في أخبار الحارث الكندي أنه استطاع أن يفرض سلطانه على القبائل العدنانية في الشمال، ومر بنا أيضًا أنه كان يغير في أواخر القرن الخامس على تخوم الروم، وكان يقود هذه الغارات ابناه حجر ومعد يكرب. وقد يكون في ذلك ما يدل على أن الحارث استطاع أن يقضي على امرئ القيس اللخمي في شمالي الحجاز وسواحل خليج العقبة، وكأنه قضى على اللخميين في غربي الجزيرة، ومر بنا أنه استطاع أن يخضع إمارة الحيرة لسلطانه؛ فكأنه قضى على دولتهم في الغرب والشرق، وإن كان ذلك لم يدم طويلًا؛ إذ سرعان ما ظهر المنذر بن ماء السماء يمده كسرى أنو شروان بجيوشه؛ فقضى على خصمه الكندي، وعادت الإمارة اللخمية الشرقية، أما الإمارة الغربية فلم تعد، فقد دخلت أملاكها في ملك الغساسنة. وإنما أطلنا في بيان ذلك لندل على أن أخبار امرئ القيس بن حجر الكندي اختلطت في ذاكرة العرب بأخبار امرئ القيس اللخمي2، ومن هنا كنا نظن ظنًّا أن امرأ القيس الشاعر الكندي لم يزر قيصر بيزنطة، وكنا ندفع هذه القصة   1 انظر جواد علي: 3/ 267 وما بعدها. 2 وبسبب من هذا الخلط قال هيار في ترجمته له بدائرة المعارف الإسلامية: عمل الإمبراطور جستنيان بنصيحة الحارث بن جبلة الغساني وإلى بادية الشام فدعا امرأ القيس إلى القسطنطينية حوالي عام 530م ليستمين به على الفرس ومكث هذا الشاعر طويلًا بالقسطنطينية، ثم استعمل على الشام وعلى القبائل التي تعيش هناك على الحدود ومن ثم لقب بلقب فيلارك أي الوالي؛ ولكنه توفي في أنقرة بين عامي 530 و540 في أثناء رحيله لتولي منصبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الطويلة التي نسجت حول مقتله؛ غير أننا لا نرتاب في أنه حاول أن يأخذ بثأر أبيه ولكن محاولاته ذهبت أدراج الرياح. ولم يلبث أن مات، ولا نعرف بالضبط تاريخ موته، ويغلب أن يكون بين سنتي 530 و 540 فإن القبائل انتقضت على أبيه وأعمامه منذ سنة 528 وهي السنة التي توفي فيها أو قتل جده الحارث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 3- ديوانه طبع ديوان امرئ القيس مرارًا، وكان أول من طبعه دي سلان "De Slane" بباريس سنة 1837، وقد أخرجه من مخطوطتين لكتاب "دواوين الشعراء الستة" للشنتمري، وهي دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة بن عبدة، ومعروف أن الشنتمري يحتفظ في شرحه لهذه الدواوين برواية الأصمعي، وبعد أن ينتهي منها في كل شاعر يضيف إليها بعض الزيادات من روايات أخرى. وقد نشر دي سلان الديوان باسم "نزهة ذوي الكيس وتحفة الأدباء في قصائد امرئ القيس" وجَرَّدَ نشرته من شرح الشنتمري. وعُني المستشرق ألوارد "Ahlwardt" بنشر الدواوين الستة في سنة1870 ولم يأخذ برواية الشنتمري في ديوان امرئ القيس؛ فقد نشره من نسخة مروية عن السكري، وألحق به غير قصيدة ومقطوعة مما وجده منسوبًا إليه في كتب الأدب والتاريخ. وطُبع الديوان بعد ذلك من صنعة أبي بكر البطليوسي في مصر والهند وإيران. وأخرجه حسن السندوبي في نشرة مرتبة على حروف المعجم ساق فيها كل ما وجده منسوبًا إليه في الكتب الأدبية والتاريخية. كما أخرجه مصطفى السقا مع بقية الشعراء الستة معتمدًا على رواية الشنتمري في مجموعته التي سماها "مختار الشعر الجاهلي" وفي سنة 1958 نشر محمد أبو الفضل إبراهيم الديوان نشرة علمية جديدة بدار المعارف في القاهرة، واعتمد في نشرته على طائفة من المخطوطات، استطاع من خلالها أن يوزعه على رواياته، وبدأ برواية الأصمعي نقلًا عن نسخة الشنتمري التي تضم الدواوين الستة كما قدمنا والتي تحتفظ بسند وثيق يصل بين الشنتمري والأصمعي؛ فهي رواية موثقة، وهي تشتمل على ثمان وعشرين قصيدة ومقطوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بشرح الشنتمري، وأتبعها بتسع عشرة قصيدة ومقطوعة من رواية الطوسي وهي رواية كوفية، ويلي ذلك زيادات من هذه الرواية نصّ الطوسي على انتحالها، وتقع في 32 قصيدة ومقطوعة، ثم زيادات من نُسَخ السكري وابن النحاس المصري وأبي سهل عن بعض الكوفيين، وبذلك تبلغ قصائد الديوان ومقطوعاته مائة. وقد ألحق بها أبو الفضل نخريجًا دقيقًا. وإذا أخذنا نبحث في هذه الروايات لاحظنا توًًا أن أعلاها في الثقة رواية الشنتمري عن الأصمعي؛ فهي موصولة السند، وقد تلاها زيادات من روايات كوفية، وبمجرد النظر في تخريجها نجد كثيرًا منها شك فيه الرواة، ومعنى ذلك أن هذه الزيادات ليست وثيقة، ولا يصح الأخذ بمضمونها والاعتماد عليها، ومثلها الزيادات الأخرى عن السكري وابن النحاس وأبي السهل. وإذن فالرواية التي ينبغي أن نناقش الديوان ونفحصه على أساسها هي رواية الأصمعي، وقبل مناقشتها ينبغي أن نلاحظ الشبه العامة التي تحوم حول شعر امرئ القيس، ولعل أهمها ما جاء على لسان الأصمعي نفسه؛ إذ روي عنه أنه كان يقول: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نتفًا سمعناها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء"1 وحماد في أشعاره يقابل ابن الكلبي في أخباره فأكثرها من منحوله. وفي الموشح للمرزباني: "يقال: إن كثيرًا من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه، وعن الرياشي يقال: إن كثيرًا من شعر امرئ القيس ليس له؛ وإنما هو لفتيان كانوا يكونون معه مثل عمرو بن قميئة وغيره"2. ولا بد أن نضيف إلى ذلك قدم عهد امرئ القيس؛ فقد بعدت الرواية بينه وبين عصور التدوين، وقد أديل من قومه، ولم يعد لهم شأن منذ زوال دولة آبائه. ولا بد أن نضيف أيضًا أنه كان في العصر الجاهلي كثير من الشعراء الذين تسموا باسم امرئ القيس؛ حتى يقال إنهم بلغوا ستة عشر، وقد تداخل شعرهم في شعره. وينبغي أن لا ننسى أبدًا أن رواية الأصمعي بشهادته غير وثيقة، لما دخلها من رواية حماد. وأمامنا الرواة الآخرون غير الأصمعي يلاحظون كثرة ما دخل من انتحال في شعر امرئ القيس حتى لنرى الطوسي يفرد لذلك فصلين في نسخته فصلًا يذكر فيه القديم المنحول، وفصلًا يفرده للمستحدث المصنوع.   1 مراتب النحويين: ص72. 2 الموشح ص34 وانظر ابن سلام ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 نحن إذن بإزاء شاعر زُيفت أخباره وزيف عليه كثير من أشعاره، ولذلك ينبغي أن نتلقى رواية الأصمعي بغير قليل من الحذر والاحتراس، وأول ما يلقانا فيها معلقته، وهي بين المعلقات التي يقال إن حمادًا أول من رواها؛ غير أن روايته لها شُفعت بروايات أخرى لرواة موثقين؛ فقد رواها المفضل الضبي ورواها الأصمعي إلا أنه أنكر منها أربعة أبيات، وهي التي تبتدي بقوله: وقِرْبَة أقوامٍ جعلت عصامَها ... على كاهل مني ذَلولٍ مُرَحََّلِ1 لأنها لا تشاكل شعره؛ إنما تشاكل شعر الصعاليك، ومن ثَمَّ نسبها بعض الرواة إلى تأبط شرًّا2. وتليها قصيدته "ألا عِمْ صباحا أيها الطلل البالي" وهي من روح القصيدة السابقة، ولم يشك فيها الرواة؛ فهي وثيقة عند المفضل الضبي والأصمعي وأبي عبيدة، ولذلك كنا نثبتها له. أما القصيدة الثالثة "خليلي مُرَّا بي على أم جندب" التي يقال إنه نظمها استجابة لزوجته أم جندب حتى تحكم بينه وبين علقمة الفحل أيهما أشعر؛ فإن القدماء شكوا فيها واتهموها هي وما يطوى فيها من قصة أم جندب3 على أن من الرواة من لاحظ أنها اختلطت بقصيدة على وزنها ورويها لعلقمة بن عبدة4، ولعل هذا هو الذي جعل بعض الرواة يصنع قصة المعارضة وأن أم جندب حكمت بين الشاعرين، غير ملاحظين أن علقمة كان يعيش في أوائل القرن السابع، فهو ليس من معاصري امرئ القيس. والقصيدة الرابعة "سما لك شوق بعد ما كان أقصرا" تصف رحلته إلى قيصر وصفًا مسهبًا، ويكفي ذلك لردها لأن كل ما يتصل بهذه الرحلة مما وضعه ابن الكلبي وأضرابه. وشك الأصمعي نفسه في القصيدة الخامسة "أعني على برق أراه وميض" وقال إنها تنسب في بعض الروايات لأبي دؤاد الإيادي5. ويمكن أن تقبل القصيدة السادسة "غشيت ديار الحي بالبكرات" وربما كانت مما قاله بعد مقتل أبيه. أما القصيدة السابعة "ألا إن قومًا كنتم أمس دونهم" وهي في مديح عُوَيْر بن   1 عصام القربة: الحبل الذي تحمل به، مرحل: تعود الرحلة. 2 انظر ديوان امرئ القيس: "طبع دار المعارف" ص372. 3 الموشح ص30. 4 ديوان امرئ القيس: ص381 وانظر كتاب الخيل لأبي عبيدة ص136. 5 الديوان: ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 شجنة التميمي فلم يروها الطوسي بين ما رواه عن المفضل الضبي1؛ ولذلك كنا ندفعها لأنها لم تثبت فيما يظهر عند المفضل. وشك أبو عبيدة في القصيدة الثامنة "لمن طلل أبصرته فشجاني"، وقال إنها محمولة عليه2. والقصيدة التاسعة "قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان" تذكر خشبات كان يحمل عليها في مرضه؛ فهي تتصل بقصة رحلته إلى قيصر، وهي لذلك لا يمكن الاطمئنان إلى صحتها. والمقطوعة العاشرة "دع عنك نهبًا صيح في حجراته" قيلت في مديح نبهاني أجاره في أثناء طوافه في القبائل ومطاردة المنذر له، وربما كانت نصيحته. والقصيدة الحادية عشرة "أرانا موضعين لأمر غيب" جيدة، وهي مما رواه الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء3. أما القصيدة الثانية عشرة "أماويّ هل لي عندكم من معرس" فقد روى أبو عمرو الشيباني أنها لبشر بن أبي خازم الأسدي4. والقصيدة الثالثة عشرة "ألما على الربع القديما بعسعسا" تشير بعض أبياتها إلى قصة الحلة المسمومة؛ ولذلك كنا نرفضها. ويمكن أن نقبل القصيدة الرابعة عشرة التي نظمها في مديح سعد بن الضباب الإيادي حين أجاره والتي يستهلها بقوله "لعمرك ما قلبي إلى أهله بحُر" وهي مما أثبته له الأصمعي وأبو عبيدة والمفضل جميعًا. وكذلك يمكن أن نقبل المقطوعة الخامسة عشرة "لمن الديار غشيتها بسحام" وهي في عتاب سُبيع بن عوف ومما قاله بعد مقتل أبيه. أما المقطوعة السادسة عشرة "يا دار ماويَّة بالحائل" فقد أنكرها الطوسي وقال عن أحمد بن حاتم إنه لم يجد أحدًا من الرواة يعرفها5. ولا ريب في أن المقطوعة السابعة عشرة "رب رام من بني ثُعَلٍ" محمولة عليه، لأنها تصف عمرو بن المسيح الطائي ورميه للصيد، وكان من أرمى العرب له، وزمنه متأخر عن زمن امرئ القيس؛ إذ وفد على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فيمن وفد عليه من العرب6. والمقطوعة الثامنة عشرة "يا هند لا تنكحي بوهة" أنكر الآمدي نسبتها إليه، وقال إنها لامرئ القيس بن مالك الحميري7. أما المقطوعة التاسعة عشرة "ألا قبح الله البراجم كلها" التي نظمها في   1 الديوان: ص397. 2 الديوان: ص398. 3 الديوان: ص402. 4 الديوان: ص404. 5 الديوان ص411. 6 الاشتقاق لابن دريد: "طبعة جوتنجن" 2/232. 7 معجم الشعراء: ص12 وانظر الديوان: ص413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 هجاء قبائل من تميم حين خذلت عمه شرحبيل في يوم الكلاب؛ فقد كان ابن الأعرابي لا يعرفها1. وأما المقطوعة رقم 20 "إن بني عوف ابتنوا حَسَبًا" التي قالها في مديح عوير بن شجنة فيمكن أن تكون صحيحة. وأما المقطوعة رقم 21 "والله لا يذهب شيخي باطلًا" فأغلب الظن أنها منتحلة؛ لأنهم يروون أنه قالها حين بلغه مقتل أبيه ومر بنا في رواية الهيثم بن عدي أنه كان حاضرًا مقتله. وقد أنكر الأصمعي المقطوعة رقم 22 "ألا إلا تكن إبل فمعزى"2. ويمكن أن تكون المقطوعة رقم 23 "ألا يا لهف هند إثر قوم" التي يقال إنه نظمها حين أخطأ بني أسد وأوقع ببني كنانة صحيحة ومثلها المقطوعة رقم 24 التي يمدح فيها المعلي الطائي والمقطوعة الخامسة والعشرون وأختها السادسة والعشرون، وهما مما نظمه في أثناء مطاردة المنذر له. أما المقطوعة السابعة والعشرون "ديمة هَطلاء فيها وطف" فما رواه الأصمعي عن أبي عمرو ابن العلاء عن ذي الرمة3، وهي لذلك من شعره الوثيق، أما الثامنة والعشرون التي تدور على إجازة الشطور بينه وبين التوءم اليشكري؛ بحيث يقول امرؤ القيس شطرًا ويتم البيت التوءم فأغلب الظن أنها من صنع الرواة، ولعل اتهامها هو الذي جعل الطوسي لا يرويها بين ما أسند روايته إلى الراوي الثبت المفضل الضبي. وإذن لا يبقى صحيحًا من رواية الأصمعي سوى القصيدتين الأوليين، وهما مطولتان، ومثلهما في الصحة والثقة القصيدة الحادية عشرة والمقطوعة السابعة والعشرون لأنهما رويتا عن أبي عمرو بن العلاء، وتظل بعد ذلك المقطوعات أرقام 6، 10، 14، 15، 20، 23، 24، 25، 26 قابلة لأن تكون صحيحة؛ على أن كثرتها الكثيرة نظمت –إن صحت- بعد مقتل أبيه، يتعرض فيها لمن أجاروه ومن ردوه، وقد رويت طائفة منها على لسان ابن الكلبي في أثناء حديثه الذي رواه له صاحب الأغاني عن طلب امرئ القيس لبني أسد واستعدائه القبائل عليهم، ولذلك قلنا إنها يمكن أن تكون صحيحة. وكأنما الثابت الصحيح له إنما هو المعلقة أو القصيدة الأولى في ديوانه، وتاليتها، ثم ما أنشده له أبو عمرو بن العلاء، أو بعبارة أخرى القصيدة الحادية عشرة والمقطوعة السابعة والعشرون.   1 الديوان: ص414. 2 الديوان: ص137. 3 الديوان: ص144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 4- شعره حاول طه حسين أن يرد شعر امرئ القيس جميعه؛ لأنه يمني من كندة وشعره قرشي اللغة، وقد مرّ بنا في غير الموضع أن كندة إن كانت يمنية الجنس؛ فقد كانت عدنانية اللغة، كما مر بنا أن لغة قريش هي التي سادت وذاعت منذ أوائل العصر الجاهلي على لسان جميع الشعراء الشماليين سواء منهم من ينتسب إلى القبائل العدنانية ومن ينتسب إلى القبائل اليمنية. وقد أسلفنا أن أشعاره وأخباره دخلها وضع كثير؛ غير أن هذا كله لا ينتهي بنا إلى إنكار شعره جملة، وقد رأينا أننا لم نبق منه إلا على قلة قليلة. ولعل أول ما يلاحظ على هذه الأشعار القليلة أنها تنقسم قسمين واضحين: قسمًا نظمه قبل مقتل أبيه، وقسمًا نظمه بعد مقتله. أما القسم الأول: فلا يعدو المعلقة، والمطولة الثانية في ديوانه "ألا عِمْ صباحًا أيها الطلل البالي" وهما جميعًا مما رواه الأصمعي والمفضل الضبي وأبو عبيدة كما يتبين من تخريجهما في طبعة الديوان بدار المعارف. وإذا رجعنا إلى المعلقة وجدنا فيها جزءًا خاصًّا بوصف البرق والمطر والسيول، ونجد نفس الموضوع في القطعة السابعة والعشرين التي رواها أبو عمرو بن العلاء عن ذي الرمة. ولعل في ذلك ما يؤكد صحة هذا الجزء على الأقل. ونحن نعرف أن امرأ القيس شب في ديار بني أسد بالقرب من تيماء1، وأن عبيد بن الأبرص كان يعاصره، وقد اشتهر بين الرواة بوصفه للمطر وإحسانه فيه2. واجتماعهما على هذا الوصف دليل بين على صحة ما ينسب إلى امرئ القيس منه. ومعنى ذلك أن المعلقة تحمل بين ثناياها ما يؤكد نسبتها إلى امرئ القيس، وهو يستهلها بقوله: قفا نَبْك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... بِسِقط اللوَى بين الدخول فحَوْمَلِ3   1 لعل من أكبر الدلالة على ذلك الأمكنة التي يذكرها في معلقته فجميعها من منازل بني أسد. 2 ابن سلام: ص76. 3 السقط: منقطع الرمل، واللوى حيث يلتوي ويرق؛ وإنما خص منقطع الرمل وملتواه لأنهم كانوا لا ينزلون إلا في صلابة من الأرض، والدخول وحومل: موضعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته؛ إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى من معه وذكر الحبيب والمنزل، ثم أخذ يصور لنا كيف كان أصحابه يحاولون أن ينفسوا عنه، وهو غارق في ذكرياته وبكائه وإرسال دموعه وزفراته. وانتقل انتقالًا سريعًا يقص علينا مغامراته مع النساء، وكأنه يريد أن يستثير صاحبته فاطمة وأن يزرع الغيرة في قلبها؛ فهو يذكر لها بعض صواحبه اللائي أبكينه وبرَّح حبهن مثل أم الحويرث وأم الرَّباب، ثم يفيض في وصف يوم عنيزة مصورًا كيف كان ينال منها وكيف كانت تدل عليه أحيانًا، وفي أثناء ذلك يتعهر ولا يتستر، فيقول لعنيزة بيته المشهور: فَمثلَكِ حُبْلَى قد طرقتُ ومُرْضِعًا ... فأَلْهَيْتها عن ذي تمائمَ مُغْيَلِ1 ثم يعود فيبث فاطمة حبه مصورًا دلالها، ومعاتبًا لها عتابًا رقيقًا، في تلك الأبيات البديعة: أفاطمَ مهلًا بعض هذا التدلُّلِ ... وإن كنت قد أزمعتِ صَرْمي فأجْملي2 وإن كنتِ قد ساءتْك مني خليقةٌ ... فسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تَنْسُلِ3 أغرَّكِ مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلبَ يَفْعَل وما ذرفَتْ عيناك إلا لتَقْدَحِي ... بِسَهْمَيْكِ في أعشار قلب مُقَتَّلِ4   1 التمائم: جمع تميمة وهي العوذة تعلق على الصبي، المغيل: المرضع. 2 بعض هذا التدلل: أي كفي عن بعضه وأزمعت: عزمت، وأجملي: من التجمل وهو ترك ما يقبح. 3 سلي ثيابي من ثيابك: انزعي أمري من أمرك، وتنسل: تسقط. 4 ذرفت العين: سال دمعها، الأعشار: القطع، يقول: ما بكيت إلا لتجرحي قلبًا مكسرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وما يلبث أن يرجع إلى استثارة فاطمة بمغامرة جريئة له مع من كنى عنها ببيضة خدر لا يرام خباؤها، مصورًا كيف اقتحم إليها الأهوال والأحراس وكيف انتحى بها ناحية من الحي يتبادلان فيها الصبابة والغرام، يقول: وَبَيضَةِ خِدرٍ لا يُرامُ خِباؤُها ... تَمَتَّعتُ مِن لَهوٍ بِها غَيرَ مُعجَلِ1 تَجاوَزتُ أَحراسًا إِلَيها وَمَعشَرًا ... عَلَيَّ حِراسًا لَو يُسِرّونَ مَقتَلي2 إِذا ما الثُرَيّا في السَماءِ تَعَرَّضَت ... تَعَرُّضَ أَثناءِ الوِشاحِ المُفَصَّلِ3 فَجِئتُ وَقَد نَضَّت لِنَومٍ ثِيابَها ... لَدى السِترِ إِلّا لِبسَةَ المُتَفَضِّلِ4 فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ ... وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي5 خَرَجتُ بِها تَمشي تَجُرُّ وَراءَنا ... عَلى أَثَرَينا ذَيلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ 6 فَلَمّا أَجَزنا ساحَةَ الحَيِّ وَاِنتَحى ... بِنا بَطنُ حقف ذي حِقافٍ عَقَنقَلِ7. إِذا اِلتَفَتَت نَحوي تَضَوَّعَ ريحُها ... نَسيمَ الصَبا جاءَت بِرَيّا القَرَنفُلِ8 إذا قلتُ هاتي نَوِّليني تمايلتْ ... عليَّ هَضيمَ الكَشْح رَيَّا المُخَلْخَل9 فهو يذكر خدرها وأحراسها ومنعتها، وكيف وصل إليها وقد استعدت للنوم وما كان بينه وبينها من حوار، وكيف أطاعته وخرجت معه من الحي إلى مكان بعيد.   1 شبه صاحبته بالبيضة لبياضها ورقتها. 2 يشرون: يظهرون. 3 يقول: تجاوزت هذه الأحراس حين مالت الثريا للمغيب فأرتك جانبًا منها على نحو ما ترى من جانب الوشاح حين يتلقاك بناحية منه، والمفصل: الذي جعل بين كل خرزتين فيه لؤلؤة. 4 نضت: نزعت. اللبسة: هيئة اللباس. المتفضل: اللابس ثوبًا واحدًا. 5 العماية: الغواية والجهالة. 6 المرط: إزار من خز، المرحل: الموشى. 7 أجزنا: قطعنا، والساحة: الفناء، والحقف: المعوج من الرمل، وركام: بعضه فوق بعض، وعقنقل: منعقد متداخل، والواو في وانتحى زائدة لأنها جواب لما. 8 تضوع: انتشر، الريا: الرائحة. 9 هضيم: ضامر، الكشح: الخاصرة، وريا المخلخل: أي أن موضع الخلخال من ساقيها ممتلئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 لا تراهما فيه العيون، وكيف كانت تعفي آثار أقدامهما بأذيال ثوبها الموشى. واسترسل يصف محاسنها ومفاتن جسدها وأطرافها، مصورًا كيف تستصبي الرجال وتعبث بقلوبهم. ومن يقرأ هذه المغامرات القصصية عند امرئ القيس تفد على ذهنه توًّا مغامرات ابن أبي ربيعة في غزله، لا من حيث حواره مع النساء وحكايته لأحاديثهن وكلامهن فحسب؛ بل أيضًا من حيث وصف الدبيب إليهن في الليل ومنعة أحراسهن على نحو ما تصور ذلك رائيته المشهورة: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر وقد لاحظ طه حسين هذا التشابه في غزل الشاعرين؛ فأنكر ما ينسب إلى امرئ القيس من هذا الغزل القصصي الصريح وقال إنه انتحل انتحالًا، انتحله بعض القصاص على غرار ما وجدوا منه عند ابن أبي ربيعة1. وليس هناك ما يمنع أن يكون ابن أبي ربيعة قد عرف غزل امرئ القيس وتأثر به كما تقضي طبيعة التأثر؛ إذ يتأثر اللاحق بالسابق، ومن التحكم أن نرفض ذلك، ولعل خيرًا من هذا الرفض أن نقارن بين صنيعي الشاعرين في وصف مثل هذه المغامرات وما بينهما من فروق، فكلاهما حقًا يتحدث عن زيارته لصواحبه وما يتجشم فيها من أهوال، وما يكون بينه وبينهن من لهو؛ غير أننا نلاحظ عند عمر كما تصور ذلك رائيته تفننًا في رقة النجوى وفي كلف صواحبه به، ونحس أثر الحضارة التي غمرت المدينة ومكة بعد الفتوح؛ فالمرأة تتعلق بالشباب، وتسوق معهم معابثات ومغازلات لم تكن تألفها المرأة الجاهلية لزمن امرئ القيس. ومعنى ذلك أن هذا المنحى من القصص الغرامي منحى قديم بدأه امرؤ القيس ونماه من بعده الأعشى2، ثم كان العصر الأموي فتعلق به عمر بن أبي ربيعة وأضرابه. ولعل من الطريف أنه لا يتضح عند امرئ القيس في المعلقة وحدها؛ فمثلها المطولة "ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي" فإنها تذهب نفس المذهب الذي رأيناه في المعلقة،   1 في الأدب الجاهلي: ص221. 2 ابن سلام: ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وهو يفتتحها بالوقوف على أطلال سلمى، ثم يفيض في وصف مغامراته ولهوه مع بعض النساء بالضبط على نحو ما رأينا في المعلقة يقول: سموتُ إليها بعد ما نام أهلُها ... سموَّ حَبابِ الماء حالًا على حالِ1 فقالت: سباك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي2 فقلت: يمينَ الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي فلما تنازعنا الحديثَ وأَسمحتْ ... هَصرتُ بغضنٍ ذي شماريخ ميَّالِ3 وصرنا إلى الحُسْنَى ورقَّ كلامُنا ... ورُضْت فذَلَّتْ صعبةً أيَّ إذلال4. فأصبحت معشوقًا وأصبح بعلها ... عليه القتامُ سيِّئ الظنِّ والبال5 يَغِطُّ غطيطَ البَكْر شُدَّ خِناقُهُ ... ليقتلني والمرءُ ليس بقتَّال6 أيقتلني والمشرفي مُضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال7 وكأن امرأ القيس هو الذي سبق إلى هذا الغزل الفاحش الصريح، وتبعه الشعراء من بعده وإن لم يبلغوا مبلغه من الفحش والصراحة وقد تبعوه في تشبيبه الذي يودعه مقدمات قصائده وما يطوى فيه من بكاء ولوعة. ورجع في معلقته بعد حديثه عن بيضة الخدر يصف لصاحبته شقاءه بحبها وأنه لا يستمع فيه إلى نصيحة ناصح، ولا إلى عذل عاذل، ويصور كيف يقتحم إليها الليل المخوف، ويسترسل في وصفه فيقول: وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَهُ ... عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي8.   1 سموت إليها: يريد نهضت إليها شيئًا فشيئًا؛ لئلا يشعر أحد بمكاني فكنت مثل حباب الماء يعلو بعضه بعضًا في رفق ومهل. 2 سباك: باعدك في رفق ومهل. 3 تنازعنا: تبادلنا، وأسمحت: انقادت وسهلت. وهصرت: جذبت: وأراد بالغصن قامتها وبالشماريخ شعرها شبهه بشماريخ النخل لكثرته وغزارته. 4 رضت: أذللت، وذلت: لانت. 5 القتام: الغبار يريد أن بعلها ساءه مار رآه من ميلها إليه فأصبح كأنه مغير كاسف الحال. 6 يغط: يردد صوتًا كصوت البكر وهو الشاب من الإبل يشد حبل في خناقه، فيسمع له غطيط؛ كأنه يريد أن يقول إنه يردد صوتًا كصوت البعير المختنق. 7 المشرفي: السيف، والمسنونة الزرق: السهام. 8 السدول: الستور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ ... وَأَردَفَ أَعجازًا وَناءَ بِكَلكَلِ1 أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي ... بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ2 فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ ... بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ3 كَأَنَّ الثُرَيّا عُلِّقَت في مَصامِها ... بِأَمراسِ كِتّانٍ إِلى صُمِّ جَندَلِ4 فهو يتصور الليل بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهي، ويحس كأنه طال وأسرف في الطول حتى ليظن كأن نجومه شدت بأسباب وأمراس من الجنادل والجبال فهي لا تتحرك ولا تزول؛ كأنما سُمِّرت في مكانها، فهي لا تجري ولا تسير، وقد رد الشعراء بعده هذا المعنى طويلًا. ونراه يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذاته فيه، وكأنه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش، يقول: وَقَد أَغتَدي وَالطَيرُ في وُكُناتِها ... بِمُنجَرِدٍ قَيدِ الأَوابِدِ هَيكَلِ5 مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ6 كُمَيتٍ يَزِلُّ اللِبدُ عَن حالِ مَتنِهِ ... كَما زَلَّتِ الصَفواءُ بِالمُتَنَزَّلِ7 مِسَحٍّ إِذا ما السابِحاتُ عَلى الوَنى ... أَثَرنَ غُبارًا بِالكَديدِ المُرَكَّلِ8   1 تمطى: امتد. بصلبه: بظهره وفي رواية بجوزه والجوز: الوسط. والكلكل: الصدر، وناء: نهض. 2 انجلى: انكشف. وما الإصباح بأمثل: يريد أنه مهموم في الليل وفي الصبح. 3 مغار: شديد. يذبل: جبل. 4 المصام: مكانها الذي لا تبرحه، والأمراس، جمع مرس وهو الحبل. والجندل: الحجارة الكبيرة، والصم: جمع أصم وهو الصلب الشديد. 5 الوكنات: المواضع التي تأوي إليها الطير ليلًا، والمنجرد: الفرس قصير الشعر، الأوابد: الوحش، هيكل: ضخم. 6 الجلمود: الصخرة الصلبة، حطه: أسقطه. 7 الكميت: الفرس الأحمر في سواد. يزل: يسقط، حال المتن: موضعه من وسط الظهر، الصفواء: الصخرة الملساء، المتنزل: النازل عليها. 8 مسح: عداء يصب الجري صبًّا، السابحات: الخيل المسرعة. الونى: الضعف والفتور. الكديد: ما غلظ من الأرض، المركل: الذي ركلته الخيل بحوافرها، يريد أن حوافره لا تكاد تمس الأرض، وهي لذلك لا تثير بها غبارًا كما تصنع السابحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عَلى العَقبِ جَيّاشٍ كَأَنَّ اِهتِزامَهُ ... إِذا جاشَ فيهِ حَميُهُ غَليُ مِرجَلِ1 يَطيرُ الغُلامَ الخِفُّ عَن صَهَواتِهِ ... وَيَلوي بِأَثوابِ العَنيفِ المُثَقَّلِ2 دَريرٍ كَخُذروفِ الوَليدِ أَمَرَّهُ ... تَقَلُّبُ كَفَّيهِ بِخَيطٍ مُوَصَّلِ3 لَهُ أَيطَلا ظَبيٍ وَساقا نَعامَةٍ ... وَإِرخاءُ سِرحانٍ وَتَقريبُ تَتفُلِ4. كَأَنَّ عَلى الكَتفَينِ مِنهُ إِذا اِنتَحى ... مَداكُ عَروسٍ أَو صَلايَةُ حَنظَلِ5. وهو وصف رائع لفرسه الأشقر؛ فقد صور سرعته تصويرًا بديعًا، وبدأ فجعله قيدًا لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنها لا تستطيع إفلاتًا منه كأنه قيد يأخذ بأرجلها. وهو لشدة حركته وسرعته يخيل إليك كأنه يفر ويكر في الوقت نفسه وكأنه يقبل ويدبر في آن واحد، وكأنه جلمود صخر يهوي به السيل من ذروة جبل عال، وإن لبْده لشدة حركته ليسقط عنه وينزلق كما تنزلق الصخرة من منحدر بعيد. وهو يصب الجري صبًّا، ويسبق كل الخيل سبقًا، لا يثير غبارًا ولا نقعًا؛ إنما هو أن يحركه راكبه فإذا به يغلي غليان القدر لا يني ولا يفتر، وإذا راكبه لا يستطيع الثبات عليه، وما أشبهه في سرعة انطلاقه بلعبة الخذروف الدوارة التي يلعب بها الصبيان؛ إذ يصلونها بخيط ويسرعون في إمرارها إسراعًا. وهو فرس ضامر كأنه ظبي نافر، فله خاصرتاه النحيلتان، بل لكأنه نعامة خفيفة فله ساقاها الضئيلتان الصلبتان، وهو يهوي في الأرض كأنه الذئب الفزع ويقفز كأنه الثعلب الخائف. وإذا اعترضك خيل إليك للمعانه وبريقه أنك تنظر إلى مداك عروس أو صَلاية حنظل. واستطرد امرؤ القيس يتحدث عن صيده، فوصف سربًا من بقر الوحش عنَّ لهم في الصحراء مصورًا كيف قيَّده فرسه؛ فإذا هو يلحق بأوائله.   1 العَقْب: جري بعد جري، اهتزامه: صوت جوفه عند الجري، الحمى: الغلي، المرجل: القدر. 2 يُطير: يسقط، الخف: الخفيف، والصهوات: موضع اللبد من ظهره، ويلوي بأثواب العنيف: يذهب بها، العنيف: الأخرق. المثقل: الذي لا يحسن الركوب. 3 درير: سريع، خيط موصل: وصلت أجزاؤه، أمره: أمضاه. 4 السرحان: الذئب، التتفل: الثعلب، والإرخاء: العدو، التقريب: القفز. 5 مداك العروس: حجر تسحق عليه طيبها فيبرق، شبه به الفرس في بريقه. الصلاية: حنظلة صفراء براقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 تاركًا وراءه ما تخلف منه: فصادوها ما ابتغوا، وأخذ الطهاة يعدون لهم طعامهم بين مشوي ومطبوخ. وانتقل من ذلك إلى وصف الأمطار والسيول التي ألمت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز، يقول: أَحارِ تَرى بَرقًا أُريكَ وَميضَهُ ... كَلَمعِ اليَدَينِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ1 يُضيءُ سَناهُ أَو مَصابيحَ راهِبٍ ... أَهانَ السَليطَ في الذَبالِ المُفَتَّلِ قَعَدتُ لَهُ وَصُحبَتي بَينَ حامِرٍ ... وَبَينَ إِكامِ بُعدَ ما مُتَأَمَّلِ3 وَأَضحى يَسُحُّ الماءُ عَنكُلِّ فَيقَةٍ ... يَكُبُّ عَلى الأَذقانِ دَوحَ الكَنَهبَلِ4 وَتَيماءَ لَم يَترُك بِها جِذعَ نَخلَةٍ ... وَلا أُطُمًا إِلّا مَشيدًا بِجَندَلِ5 كَأَنَّ طَمِيَّةَ المُجَيمِرِ غُدوَةً ... مِنَ السَيلِ وَالغُثّاءِ فَلكَةُ مِغزَلِ6 كَأَنَّ أَبانًا في أَفانينِ وَدقِهِ ... كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ7 وَأَلقى بِصَحراءِ الغَبيطِ بَعاعَهُ ... نُزولَ اليَماني ذي العِيابِ المُخَوَّلِ8 كَأَنَّ سِباعًا فيهِ غَرقى غُدَيَّةً ... بِأَرجائِهِ القُصوى أَنابيشُ عَنصُلِ9   1 حار: ترخيم حارث يعني يا حارث، وميض البرق: لمعانه. الحبي من السحاب: المتراكم، وكذلك المكلل، وقيل الحبي: الداني من الأرض. 2 السنا: الضوء، السليط: الزيت، الذبال: الفتائل، وأهانه هنا: أكثر منه، ويروى أمال بمعنى رعى، وهي أجود. 3 حامر وإكام: موضعان، بعد ما متأمل: تأملته من مكان بعيد. 4 الفيقة: ما بين الحلبتين: يريد أنه يسح ثم يسكن ثم يسح. وعن: معناها هنا بعد، يكب على الأذقان: يسقط ويلقي على الوجه، الكنهبل: ما عظم من شجر العضاه، والدوح: جمع دوحة وهي الشجرة كثيرة الورق والأغصان. 5 الأطم: البيت 6 طمية: جبل، المجيمر: أرض لنبي فزارة، الغثاء ما يحمله السيل من فتات الأشجار. وفلكة المغزل: ما استدار فوق رأسه. 7 أبان: جبل، أفانين: ضروب. الودق: المطر، البجاد: كساء مخطط، ومزمل: صفة لكبير أناس أي أنه متدثر بثيابه ملتف بها. 8 الغبيط: موضع، البعاع: الثقل، العياب: الحقائب، المخول، كثير المتاع والغلمان الذين يصحبونه. 9 غدية: حين يصبح الناس، وأنابيش العنصل: جذور البصل البري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 عَلى قَطَنٍ بِالشَيمِ أَيمَنُ صَوبِهِ ... وَأَيسَرُهُ عَلى السِتارِ فَيَذبُلِ1 وَأَلقى بِبَسيانَ مَعَ اللَيلِ بَركَهُ ... فَأَنزَلَ مِنهُ العَصمَ مِن كُلِّ مَنزِلِ2 وقد استهل القطعة بوصف وميض البرق وتألقه في سحاب متراكم، وشبَّه هذا التألق واللمعان بحركة اليدين إذا أشير بهما أو كأنه مصابيح راهب يتوهج ضوؤها بما يمدها من زيت كثير. ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأملونه بين حامر وإكام، والسحاب يسحّ سحًّا، حتى لتقتلع سيوله كل ما في طريقها من أشجار العضاه العظيمة. وتلك تيماء لم تترك بها نخلًا ولا بيتًا؛ إلا ما شيد بالصخر، فقد اجتثت كل ما مرت به وأتت عليه من قواعده وأصوله. وهذا طمية جبل المجيمر التفت به السيول وما تحمل من غثاء، حتى لكأنه فلكة مغزل. وذاك أبان بما غطاه من هذا السيل والغثاء يشبه شيخًا ملتفًا في كساء مخطط. وقد ألقى بصحراء الغبيط ثِقْله فنشر به من النباتات والأزهار ما يشبه ضروب الثياب الزاهية الألوان التي ينشرها التاجر اليماني حين يعرضها للشراء. وما زالت السيول تفيض حتى علمت آجام السباع فغرقت في لججها وتراءت رءوسها للعين كأنها جذور البصل البري. وقد تراكم السحاب وملأ أقطار السماء حتى ليظن مبصره أن أيمنه على قطن جبل بني أسد وأيسره على الستار ويذبل مما يلي بلاد البحرين، وعَمَّ المطر جبل بسيان حتى أنزل منه الأوعال التي كانت مستقرة به. ولامرئ القيس مقطوعة في الغيث والسيل تلتقي في كثير من معانيها وصورها بهذه القطعة، وهي ذات الرقم 27 في ديوانه، وقد مر بنا أن أبا عمرو بن العلاء رواها عن ذي الرمة، وهي تمضي على هذا النحو: دَيمَةٌ هَطلاءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَّقَ الأَرضَ تَحَرَّى وتَدُر3.   1 قطن: اسم جبل في ديار بني أسد، الشيم: النظر إلى البرق والمطر. الستار ويذبل: جبلان. 2 بسيان: جبل، والبرك: الصدر، العصم: الأوعال. 3 الديمة: المطر الدائم، هطلاء: كثيرة الهطل، والوطف: الدنو من الأرض. طبق الأرض: تطبقها وتعمها لكثرة مطرها. تحرى: تعمد إلى الأمكنة وتثبت فيها. وتدر: يكثر ماؤها وترسل درتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 تُخرِجُ الوِدَّ إِذا ما أَشجَذَت ... وَتُواريهِ إِذا ما تَشتَكِرْ1 وَتَرى الضَبَّ خَفيفًا ماهِرًا ... ثانِيًا بُرثُنُهُ ما يَنعَفِر2 وَتَرى الشَجراءَ في رَيِّقِهِ ... كَرُءوسٍ قُطِّعَت فيها الخُمِر3 ساعَةً ثُمَّ اِنتَحاها وابِلٌ ... ساقِطُ الأَكنافِ واهٍ مُنهَمِر4 راحَ تُمرِيهِ الصَبا ثُمَّ اِنتَحى ... فيهِ شُؤبوبُ جُنوبٍ مُنفَجِر5 ثَجَّ حَتّى ضاقَ عَن آذِيِّهِ ... عَرضُ خَيمٍ فَخُفاءٍ فَيُسُر6 قَد غَدا يَحمِلُني في أَنفِهِ ... لاحِقُ الإِطلَينِ مَحبوكٌ مُمِر7. وهو يصور في هذه المقطوعة منظرًا يماثل النظر السابق؛ فالمطر ينهمر حتى يعم الأرض من حوله، وهو يدر لها ويدنو منها بأهدابه، وحينًا يقلع فتبدو الأوتاد من الأرض ولا يلبث أن يعود وتكثر سيوله فتتوارى عن الأنظار. وتُتْرَعُ القيعان فيخرج الضب من جحره يعدو عدوًا سريعًا لما يرى من كثرة المطر. وما تزال السيول تتدفق حتى تغمر الأشجار؛ بل حتى لا يبدو منها إلا أعاليها. فتتراءى كأنها رءوس معممة قطعت في ساحة حرب عنيفة. وظل المطر على هذا الانصباب الشديد فترة لم تنكشف بعدها السماء؛ فقد ألقت السحب بوبلها وأثقالها تستدرها ريح الصبا الشمالية. ولم تلبث ريح الجنوب أن هبت فانهمرت الأمطار وعلت السيول حتى ضاقت بها خَيْم   1 الود: الوتد، أشجذت: أقلعت وسكنت. تشتكر: تحتفل ويكثر مطرها. وقيل: الود اسم ببل. 2 خفيفًا ماهرًا: يريد مسرعًا في عدوه وبرثن الضب: كالإصبع للإنسان. وما ينعفر: لا يصيبه العفر والتراب، يقصد أنه لا يلصق بالتراب لخفة عدوه. 3 الشجراء: الأرض ذات الشجر الكثير، ريق المطر، أوله، يريد أن المطر يغمر الأشجار فلا يبدو منها إلا أعاليها، فتتراءى كأنها رءوس قطعت وفيها الخمر وفيها العمائم. 4 انتحاها: قصدها. وابل: مطر غزير، ساقط الأكناف: دان من نواحي الأرض. واه: متخرق، منهمر: منسكب. 5 راح: عاد بالمطر في آخر النهار. تمريه: تحركه وتديره. الشؤبوب: دفعة المطر، والجنوب: ريح. منفجر: سائل. 6 ثج: سال. الآذى: الموج. وخيم وجفاف ويسر: مواضع. 7 يحملني في أنفه: يريد في أنف المطر أي أوله. لاحق الإطلين: فرس ضامر الكشحين، محبوك: موثق الخلق ومثله ممر، وأصله من الحيل الممر، وهو المحكم الفتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وجفاف ويسر. وأكبر الظن أنه قد اتضحت الآن الموضوعات الأساسية التي كان ينظم فيها امرؤ القيس شعره قبل مقتل أبيه، وهي التشبيب والغزل القصصي الصريح، ووصف الطبيعة المتحركة بما فيها من خيل ووحش والطبيعة الصامتة بما فيها من أمطار وسيول؛ فتلك هي الموضوعات التي تستغرق أشعاره الأولى. وتجمعها المعلقة جميعًا، بينما تقف المطولة الثانية "ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي" عند التشبيب والقصص الغرامي، ووصف الوحش والفرس وهو في أثناء وصفهما يعرض لصيده وما يجده فيه من لذة ومتاع ولهو. وكتب لامرئ القيس أن لا تجري حياته على هذه الوتيرة من الفراغ الذي يعد لاقتناص اللذات في اتباع المرأة واللهو بها والمتعة بركوب الخيل والصيد عليها وتملي مناظر الطبيعة؛ فقد قُتل أبوه، وانقلبت حياته من حياة لاهية إلى حياة جادة ومحاولة عاثرة في الأخذ بثأر أبيه ورجع سلطان كندة على بني أسد، وكأنه كان يحس ما ينتظره حين قال في مطولته "ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي": كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال ولم أسبأ الزق الرَّوِيَّ ولم أقل ... لخيليَ كُرِّي كرة بعد إجفالِ1. ولعله نظم هذه القصيدة في إبان الدورة الثانية من حياته. ونحن لا ننتظر منه في هذه الدورة سوى الحزن والألم العميق؛ فهذا أبوه حُجْر يُقْتَل وهؤلاء أعمامه يلقون نفس المصير، ومن قبلهم قتل جده الحارث، وهو يسعى في سبيل الأخذ بثأر أبيه، والمنذر بن ماء السماء يطلبه وتتحاماه القبائل والعشائر وهو يتنقل فيما بينها يستغيث ولا مغيث. وربما لقي في أول الأمر شيئًا من العون؛ ولكن ذلك لم يستمر، فقد ازوروا عنه، وهو يطلب من يجيره، وسيف المنذر مصلت يلمع أمام عينيه. فكان طبيعيًّا أن يشكو الدهر وأن يتحدث عن مصيره. وهنا تلقانا مقطوعة رواها الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، تصور حزنه على آبائه.   1 أسبأ: اشترى. الزق: دن الخمر. الروى: المملوء. الإجفال: الانهزام في سرعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وما تجمَّع عليه من البلاء، وهي ذات الرقم الحادي عشر في ديوانه، وفيها يقول: أرانا مُوضِعين لأمر غَيْبٍ ... ونُسْحَر بالطعام وبالشراب1 عَصافيرٌ وَذِبّانٌ وَدودٌ ... وَأَجرَأُ مِن مُجَلَّحَةِ الذِئابِ2 وَكُلُّ مَكارِمِ الأَخلاقِ صارَت ... إِلَيهِ هِمَّتي وَبِهِ اِكتِسابي فَبَعضَ اللومِ عاذِلَتي فَإِنّي ... سَتَكفيني التَجارِبُ وَاِنتِسابي إِلى عِرقِ الثَرى وَشَجَت عُروقي ... وَهَذا المَوتُ يَسلِبُني شَبابي3 وَنَفسي سَوفَ يَسلِبُها وَجِرمي ... فَيُلحِقَني وَشيكًا بِالتُرابِ أَلَم أَنضِ المَطِيَّ بِكُلِّ خَرقٍ ... أَمَقِّ الطولِ لَمّاعِ السَّرابِ4 وَأَركَبُ في اللَهامِ المُجرِ حَتّى ... أَنالَ مَآكِلَ القُحمِ الرِغابِ5 وَقَد طَوَّفتُ في الآفاقِ حَتّى ... رَضيتُ مِنَ الغَنيمَةِ بِالإِيابِ أَبَعدَ الحارِثِ المَلِكِ اِبنِ عَمروٍ ... وَبَعدَ الخَيرِ حُجرٍ ذي القِبابِ6 أُرَجّي مِن صُروفِ الدَهرِ لينًا ... وَلَم تَغفَل عَنِ الصُمِّ الهِضابِ 7 وَأَعلَمُ أَنَّني عَمّا قَليل ... سَأَنشِبُ في شَبا ظِفرٍ وَنابِ 8 كَما لاقى أَبي حُجرٌ وَجَدّي ... وَلا أَنسى قَتيلًا بِالكُِلابِ9 فقد ضاع منه الماضي بكل أحلامه، وهو ينظر أمامه في الأفق البعيد بل القريب، فلا يرى إلا وادي العدم الذي يشد إليه الناس جميعًا رحالهم، وهم   1 موضعين: مسرعين. لأمر غيب: يريد الموت المغيب. ونسحر بالطعام: نتلهى ونخدع. 2 مجلحة الذئاب: المصممة التي لا ترجع عما تريد. 3 وشجت: اشتبكت واتصلت. ويشير بعرق الثرى إلى آبائه الذين ماتوا. 4 أنض: أهزل بطول الرحلة. أخرق: الفلاة. أمق الطول: واسع الطول. 5 اللهام: الجيش الكثيف. المجر: الكثير. المأكل هنا: الغنائم، القحم: جمع قحمة من الاقتحام ويريد التزاحم في شدة الرغاب: الواسعة. 6 القباب: الخيام الكبيرة. 7 الصم المصمتة: الجبال. الهضاب: الصلبة. 8 شبا كل شيء: حده. أنشب: أعلق. 9 قتيل موقعة الكلاب هو عمه شرحبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يتعللون عنه بالطعام والشراب، وهو في انتظارهم، وهم جادون في المسير إليه ويصغر الناس وتصغر أطماعهم في عينه، ويراهم ضعافًا كالعصافير والذباب والدود، ومع ذلك يسقطون على أطماعهم كالذئاب الضارية. ويطلب إلى عاذلته أن تكف عن لومه لتركه اللهو؛ فإن التجارب غيرت شخصيته خلال ما مر به من أهوال الحياة. وهو ينتسب، فلا يجد أمامه إلا موتى، وهو يترقب نفس الأجل المحتوم، وكأنه شخص آخر سوى هذا الشخص الذي كان يركب الخيل وينضيها في الفلاة الواسعة، والذي كثيرًا ما انتظم في جيوش أبيه الكثيفة، يغنم المغانم الكبيرة. وها هو اليوم يطوف في الآفاق وراء مجده المضيع فلا يظفر إلا بالخيبة واليأس القاتل. وماذا يرجو بعد هذه الصخور الصلبة من آبائه وقد واراها التراب. إنه ينتظره نفس المصير؛ فالموت يفتح فاه، وأظفاره وأنيابه توشك أن تفترسه افتراسًا كما افترست جده الحارث وأباه حجرًا وعمه شرحبيل يوم الكلاب. والمقطوعة رائعة لأنها تصور لنا إحساسه بعبث الكفاح ضد المنذر وكيف كان هذا الإحساس يتعمقه في تلك الفترة من حياته. وليس له بعد ذلك أشعار تستحق الوقوف عندها سوى بعض مقطوعات قصيرة تتداخل فيها رواية الأصمعي مع رواية هشام بن الكلبي، وفيها يمدح ويهجو بعض من كانوا يكرمون جواره أو يسيئون هذا الجوار فلا يمدون يد العون إليه، وهي شظايا صغيرة لا توضح منهجًا في مديح ولا هجاء. وأكبر الظن أن فيما قدمنا ما يدل على قيمة امرئ القيس؛ فهو الذي نهج للشعراء الجاهليين من بعده الحديث في بكاء الديار والغزل القصصي ووصف الليل والخيل والصيد والمطر والسيول والشكوى من الدهر، ولعله سبق بأشعار في هذه الموضوعات؛ ولكنه هو الذي أعطاها النسق النهائي، مظهرًا في ذلك ضروبًا من المهارة الفنية، جعلت السابقين جميعًا يجمعون على تقديمه، سواء العرب في أحاديثهم عنه أو النقاد في نقدهم للشعر الجاهلي، يقول ابن سلام: "سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، استحسنها العرب واتبعته فيها الشعراء؛ منها: استيقاف صحبه والبكاء في الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ، وشبَّه النساء بالظباء والبيض وشبَّه الخيل بالعقبان والعصي، وقيَّد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيهًا"1 وواضح أن هذه الفقرة من كتاب طبقات فحول الشعراء تقرر أن امرأ القيس هو الذي فتح للجاهليين أبواب النسيب والغزل ووصف النساء والخيل، وهي تضيف إلى ذلك قرب المأخذ؛ بحيث جعل العبارات قريبة المنال لا يشوبها عسر ولا صعوبة، وأيضًا تضيف أنه فصل بين النسيب والمعنى؛ فلم يخلطه بشيء، بل أسهب فيه وأفرده عما يليه. وكل من يقرأ المعلقة وما أثبتناه له من شعر يلاحظ استواء في العبارات واتساقًا في ترتيب الألفاظ، مما يدل على أنه كان يملك أعنة اللغة في يده، وقليل جدًّا ما قد نلاحظه عنده من بعض النبو كقوله السابق في المعلقة: أَحارِ تَرى بَرقًا أُريكَ وَميضَهُ ... كَلَمعِ اليَدَينِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ2 يُضيءُ سَناهُ أَو مَصابيحَ راهِبٍ ... أَهانَ السَليطَ في الذَبالِ المُفَتَّلِ فقد كان ترتيب السياق ونسقه يقتضيان أن يكمل وصفه للبرق بأنه في حبي مكلل وسحاب متراكم وأنه يضيء سناه، ثم يشبهه بلمع اليدين ومصابيح الراهب؛ ولكن على كل حال مثل هذا قليل في شعره؛ إذ قلما نجد فيه اضطرابًا في ترتيب ألفاظه ومعانيه. وحقًّا ما تقوله الفقرة السابقة عند ابن سلام من أنه أحسن طبقته تشبيهًا؛ فتشبيهاته جيدة، وهي تتراكم في المعلقة وفي قصيدته "ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي" تراكمًا يجعله حقًّا صاحب فن التشبيه في العصر الجاهلي فالتشبيهات تتلاحق في صفوف متعاقبة، وقد عقد لها ابن سلام فصلًا في طبقاته2، استمده في جملته من القصيدتين السالفتين، وأول ما يلاحظ في هذه التشبيهات أنها مستمدة من واقعه الحسي. وارجع إلى تشبيهاته في المرأة؛ فستراه يشبهها بالبيضة في بياضها ورقتها، كما يشبهها بالدرة والبقرة الوحشية، أما ترائبها فكالمرآة وأما شعرها الغزير فكعذق النخلة المتداخل، وأما خصرها فلين كالزمام، وأما ساقها فكالبردي في بياضه،   1 ابن سلام: ص 46. وانظر الشعر والشعراء: 1/ 57. 2 انظر ابن سلام: ص 67 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وأما أصابعها فكمساويك شجر الإسحل. وكل هذه الأوصاف مبثوثة في المعلقة، وإذا تركنا حديثه فيها عن المرأة إلى حديثه عن الفرس وجدناه يشبهه بخُذْروف الوليد ومَداك العروس وصَلاية الحنظل والصخرة الملساء تسقط من عل، كما يشبهه بالظبي في خاصرتيه والنعامة في ساقيه والذئب في عدوة والثعلب في تقريبه وقفزه. ونحس دائمًا أنه يحاول أن يطرف سامعه بما يورد عليه من الصور الغريبة، كقوله: كأنَّ دماءَ الهاديات بنَحْرِهِ ... عُصارةُ حِنَّاءٍ بشيبٍ مرجَّلِ1 فدم الوحش الذي صاده امرؤ القيس يلطّخ صدر الفرس فيتراءى كأنه عصارة حناء صُبغ بها شيب؛ إذ لا يكاد يفترق عن الخضاب في شيء. ويخرج من ذلك إلى وصف السيل والمطر، فيفزع إلى التشبيه الكثير، كأنه لا يرى الشعر شيئًا بدونه، وهو لذلك يوشي به كل شيء يعرض له في المعلقة، سواء حين يصف الثريا أو يصف الليل، وقد أبدع في وصفه لقطعه وأجزائه؛ فهي ما تني تتدافع وتتلاحق غير منتهية. وألم بالوحش، فشبه بقره بعذارى دوار، يقول: فعنَّ لنا سِرْبٌ كأن نِعاجَه ... عَذارَى دُوَارٍ في المُلاء المذيَّلِ2 وبذلك عكس الصورة فشبه البقر بالنساء، وهو تشبيه مقلوب، تبعه فيه الشعراء، وأصبح ضربًا من ضروب الخيال التي ينسجونها. وننتقل معه إلى مطولته "ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي" فتلقانا نفس تشبيهاته للمرأة التي لقيتنا في معلقته؛ فهي كالظبية وبيضة النعامة، بل هي كالتمثال الجميل يقول: ويا ربَّ يومٍ قد لهوتُ وليلةٍ ... بآنسةٍ كأنها خطُّ تمثالِ ويشبه وجهها في إشراقه بالمصباح، ويقول إنها لينة ممتلئة كحقف الرمل أو ما استدار منه، ويشبهها بالغصن في اعتدال قوامها وتثنيها، أما شعرها فكشماريخ النخل في تداخله وغزارته. ويعرض لليل ونجومه فيشبهها بمصابيح رهبان، ويحدثنا   1 الهاديات: المتقدمات من بقر الوحش. مرجل: مسرح. 2 السرب: القطيع. النعاج هنا. بقر الوحش: ودوار صنم كانوا يطوفون به في الجاهلية. المذيل: الطويل السابغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عن شجاعته وأنه لا يرهب زوج مَنْ يغازلها ولا تهديده، يقول: أيقتُلني والمشرفيُّ مُضاجعي ... ومسنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أغْوالِ وهي صورة طريفة؛ لأنها تقوم على التخييل والوهم. ويخرج إلى وصف فرسه فيشبهه بالهراوة أو العصا في ضموره وصلابته، ويقول: إنه ذعر به قطيع بقر، يجري البياض والسواد في سيقانه، حتى لكأنها وشى برود يمانية بديعة. ويعود إلى فرسه، فيشبهه بعقاب تنقض. انقضاضًا على فريستها، ويقول إن هذه العقاب تصيد الطير وتحمله إلى وكرها، فتأكله إلا قلوبه؛ فمنها الطري الغض، ومنها الجاف المتقبض، ويعمل خياله، وما هي إلا أن يقول: كأن قلوبَ الطير رَطْبًا ويابسًا ... لدى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحشَفُ البالي وواضح أنه يشبه القلوب الرطبة بالعناب واليابسة بالحشف البالي أو التمر الرديء الجاف، وهو تشبيه كان القدماء يعجبون به؛ لأن امرأ القيس استطاع أن يلائم ملاءمة خيالية بين أشياء متعددة. ويُرْوَى عن بشار أنه قال: ما زلت أحسد امرأ القيس على جمعه في هذا البيت بين تشبيه شيئين بشيئين، حتى قلت: كأن مُثارَ النَّقْعِ فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوَى كواكبه1 فجمعت فيه بين ثلاثة وثلاثة2. ولعلنا لا نبعد بعد ذلك كله إذا قلنا إن امرأ القيس هو الذي ألهم الشاعر العربي على مر العصور فكرة التشبيه؛ بل هو الذي وجهه إلى الإسراف في استخدامه، حتى عد ذلك ضربًا رشيقًا من ضروب الزخرف والبديع3. وبجانب هذا التشبيه نجد عنده بعض أمثلة للاستعارة المكنية والتصريحية، وهو يأتي بها في قلة، من ذلك قوله في المعلقة يخاطب الليل: فقلت له لما تمطَّى بصُلْبِه ... وأَرْدفَ أعجازًا وناءَ بكَلْكَلِ   1 النقع: الغبار. 2 الأغاني: "طبعة دار الكتب" 3/ 196. 3 انظر كتاب البديع لابن المعتز "طبعة كراتشكوفسكي" ص 58 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 فقد استعار صورة البعير لهذا الليل الذي لا يزول. ومضى فاستعار صورة القيد لفرسه؛ فسماه قيد الأوابد فهي لا تفوته، على نحو ما مر بنا في بيته: وقد أغتدي والطيرُ في وُكُناتها ... بمنجردٍ قَيْدِ الأوابد هيكلِ وإذا صحت رواية1 أمال بدلًا من أهان في قوله يصف البرق: يُضيءُ سَناهُ أَو مَصابيحَ راهِبٍ ... أَهانَ السَليطَ في الذَبالِ المُفَتَّلِ كان البيت يتضمن استعارة بديعة؛ لأن من معاني أمال رعى، وكأنه استعار صورة رعي الأنعام للنبات لما يفنيه الذبال من الزيت شيئًا فشيئًا. وإذا تركنا معلقته إلى مطولته "ألا انعم صباحًا" وجدناه يستعير للحُلي على نحر صاحبته وتوهجه صورة الجمر، يقول: كَأَنَّ عَلى لَبّاتِها جَمرَ مُصطَلٍ ... أَصابَ غَضًا جَزلًا وَكُفَّ بِأَجذالِ2. ومن الحق أن الاستعارة قليلة في أشعاره؛ ولكنها على كل حال مبثوثة فيها، مثلها مثل لوني البديع المسميين بالطباق والجناس، ومن أمثلة طباقه قوله في المعلقة يصف غدائر صاحبته: غَدائِرُه مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا ... تَضِلُّ العِقاصَ في مُثَنّىً وَمُرسَلِ3. وقوله يصف فرسه: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ ومن أمثلة الجناس قوله في غزله: وإن كنتِ قد ساءتْك مني خليقةٌ ... فسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تَنْسُلِ وقوله: أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي ... بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ   1 ابن المعتز: ص7. 2 الغضا: من أشجار نجد. الجزل: الكثير، كف: مد. الأجذال: أصول الشجر. يقول إنه جمر لا يزال متقدًا؛ لأن بجواره مصطليًا بقلبه ويتعهده ومن حوله أصول شجر الغضا وعيدانه لا يزال يمد بها النار. 3 مستشزرات: مفتولات، المداري: الأمشاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وبجانب ذلك كله نجده يعنى بالتلاؤم بين ألفاظه، فقلما تلقانا فيها لفظة نابية في حروفها، وأيضًا نجد عنده عناية واضحة بموسيقاه، ولعله من أجل ذلك كان يكثر من التصريع على نحو ما صنع في المعلقة؛ فقد صرع فيها مرارًا، كما في بيته الذي أنشدناه آنفًا والذي يخاطب فيه الليل. وفي الحق أن الموسيقى تطرد في المعلقة اطرادًا، فلا نحس بنشاز، سوى الزحافات التي يكثر منها على شاكلة قوله: فجئت وقد نَضَتْ لنومٍ ثيابها ... لَدَى السِّتْرِ إلا لِبْسَةَ المتفضِّلِ. فإن التفعيلة الثانية في حشو البيت "مفاعلن" وليست مفاعيلن. وإذا قرأنا في المعلقة قوله: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ بضم لام القافية -وهذا ما يقتضيه القياس النحوي تقول: من أسفل الجبل ومن علُ، أي: من أعلاه فتضم اللام على نية حذف المضاف إليه- أصبح في البيت إقواء، وهو يكثر في الشعر الجاهلي وخاصة قديمه. وأيضًا إذا قرأنا وصفه للسيل وغثائه الملتف بجبل أبان في قوله: كَأَنَّ أَبانًا في أَفانينِ وَدقِهِ ... كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلُ بضم اللام في كلمة "مزمل" وهو ما يقتضيه القياس النحوي لأنها صفة لكلمة كبير أناس المرفوعة أصبح في هذا البيت هو الآخر إقواء، إذا اختلفت حركة الروي، فأصبحت مرفوعة بينما هي في بقية القصيدة مجرورة. ويظهر أن هذا لم يكن يكثر عنده. والحق أنه يعد أبًا للشعر الجاهلي بل للشعر العربي جميعه؛ فقد استوى عنده في صورة رائعة، سواء من حيث سبقه إلى فنون أجاد فيها، أو من حيث قدرته على الوصف والتشبيه، وقد مضى يعني بأخيلته ومعانيه وألفاظه مما نجده مائلًا في استعاراته وبعض طباقاته وجناساته، وبذلك أعد الشعراء من بعده للعناية بحُليٍّ معنوية ولفظية مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الفصل الثامن: النابغة الذبياني 1- قبيلته : النابغة من قبيلة ذبيان الغطفانية القيسية؛ إذ تنتسب إلى بَغيض بن رَيْث بن غطفان بن سعد بن قيس عَيْلان، وإلى بغيض تنتسب أيضًا قبيلة عَبْس ومن أهم عشائر ذبيان وبطونها بنو فزارة وبنو مرة وبنو أشجع وبنو سعد، ومن فزارة بنو مازن وبنو بدر، وفيهم كانت رياسة فزارة في الجاهلية؛ منهم حذيفة بن بدر وأخوه حَمل، ومن بني مرة بنو عبد الله بن غطفان وبنو سَهم وبنو صِرْمة وبنو خصيلة وبنو نُشْبة وبنو يَرْبوع عشيرة النابغة. وسيدا بني مرة غير مدافعين هَرِم بن سنان والحارث بن عوف ممدوحًا زهير بن أبي سُلْمى. وتظهر قبيلة ذبيان وعشائرها على مسرح التاريخ الجاهلي مع حرب داحس والغبراء التي نشبت بينها وبين أختها عبس واستمرت فيما يقول الرواة نحو أربعين عامًا امتدت فيما يظن من سنة 568 إلى سنة 608 للميلاد. ومر بنا أن السبب في نشوبها سباق داحس والغبراء، وكان داحس جوادًا لقيس بن زهير سيد بني عبس، وكانت الغبراء فرسًا لحمل بن بدر سيد بني فزارة. وسبق داحس إلا أن الفزاريين أقاموا له كمينًا في نهاية الشوط نفره عن غايته؛ فسبقته الغبراء. واستشاط قيس غضبًا، وطلب الرهان، وبعث حمل ابنه يطلب منه الرهان المضروب -وقتله قيس؛ فاستعرت نيران الحرب بين القبيلتين، واشترك فيها أحلافهما، فكان مع عبس بنو عامر، وكان مع ذبيان بنو تميم وبنو أسد، ودارت سلسلة معارك طاحنة، من أهمها يوم المريقب وكان لعبس على ذبيان، وفيه قتل عنترة ضمضمًا أبا حصين المري والحارث بن بدر. وممن قتل فيه أيضًا عوف بن بدر، ويوم ذي حسي وكان لذبيان على عبس، ويوم جفر الهباءة وكان لعبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 على ذبيان وفيه قتل حذيفة وحمل ابنا بدر، ورثاهما قيس خصمهما رثاء حارًّا، يقول في بعضه1: شفيتُ النفسَ من حَمَلِ بن بَدْرٍ ... وسيفي من حذيفة قد شفاني شفيتُ بقتلهم لغليل صَدْري ... ولكني قطعت بهم بَناني وثأرت ذبيان لنفسها في معركة الجراجر، أو ذات الجراجر. ثم تجمعت ذبيان وأحلافها من تميم وأسد كما تجمعت عبس وعامر، واشتبكت الفئتان في يوم شعب جبلة، وفيه دارت الدوائر على ذبيان وأحلافها؛ إذ أثخنت فيهم عبس وعامر القتل فقُتل لَقيط بن زُرارة التميمي وأسر أخوه حاجب، ولم تلبث ذبيان أن أوقعت بعبس وعامر في يوم شعواء وقعة منكرة. ورأت عبس أن تقف هذه الحروب التي أتت على الأبطال والرجال؛ فأرسلت وفدًا إلى ذبيان يطلب الصلح، ولقي الوفد سيدي بني مرة: الحارث بن عَوْف وهَرم بن سنان؛ فحملا قومهما على الصلح، وتحملا ديات القتلى، ويقال إنها بلغت ثلاثة آلاف بعير. وبذلك وضعت هذه الحروب أوزارها، ويُظَن أنه لم يكتب للنابغة أن يرى انفضاضها؛ فقد توفي قبل ذلك بقليل. وبينما كانت ذبيان تدير رحى هذه الحروب كانت تدير رحى حروب أخرى مع الغساسنة، وكان يؤازرها أحلافها من بني أسد، ولعل في ذلك ما يدل على أن القبيلتين جميعًا كانتا تدينان بالولاء للمناذرة خصوم الغساسنة؛ فهم يشرعون سيوفهم ويشهرونها في وجوه خصومهم، وكانوا آونة ينتصرون عليهم وآونة ينهزمون وتمتلئ أيدي الغساسنة بأسراهم، مما اضطر النابغة على نحو ما سنرى بعد قليل أن ينزل بالغساسنة ويستعطفهم حتى يردوا إلى هؤلاء الأسرى حريتهم. وتدل دلائل مختلفة على أن عشائر ذبيان لم تكن دائمًا في وفاق ووئام؛ فهي تتجمع لحرب عبس والغساسنة، ثم تعود فتتناحر داخليًّا، على نحو ما تصور ذلك أشعار بشامة بن الغدير والحصين بن الحمام المري وزبان بن سيار الفزاري والنابغة؛ إذ يشيرون إلى بعض المنازعات بين تلك العشائر وقد يشيرون إلى معارك وقعت بين عشائرها فمن ذلك قول الحصين بن الحمام عقب معركة بين عشيرته بني سهم وبين بني سعد، وفيها انتصر الأولون2:   1 عيون الأخبار3/ 88 والمرزوقي على الحماسة 1/ 203 وسمط اللآلي للبكري 305. 2 المفضليات "طبع دار المعارف" ص 65.والهام: الرءوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 صَبرنا وكان الصبرُ فينا سجيَّةً ... بأسيافنا يقْطَعْنَ كفًّا ومِعْصَما يُفَلِّقْنَ هامًا من رجالٍ أَعزَّةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأَظلما ونجد يزيد بن سنان أخي هرم بن سنان يطلق زوجه، وكانت ابنة النابغة، ويثير على عشيرتها يربوع عشيرتي خصيلة ونُشْبة، عاقدًا بينهما حلفًا سمي حلف المحاش، وما يزال بيربوع حتى يجليها عن ديارها إلى ديار بني عذرة، وفي ذلك يقول النابغة: جَمِّع مِحاشَكَ يا يَزيدُ فَإِنَّني ... أَعدَدتُ يَربوعًا لَكُم وَتَميما حَدِبَت عَلَيَّ بُطونُ ضِنَّةَ كُلِّها ... إِن ظالِمًا فيهِم وَإِن مَظلومًا1 فلم تكن عشائر ذبيان على صفاء دائمًا؛ بل كثيرًا ما كانت تتحارب وتتقاتل ويعتزل بعضها بعضًا، وقد تترك عشيرة منازلها إلى منازل جيرانها من عذرة وغير عذرة وكانت ذبيان كغيرها من قبائل غطفان تعبد في الجاهلية العزى وتتخذ لها كعبة تحج إليها، وتقدم لها النذر والقرابين، وقد هدمها خالد بن الوليد بأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم. ومعنى ذلك أن ذبيان ظلت على وثنيتها حتى دخلت في الإسلام الحنيف.   1 ضنة: عشيرة من عذرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 2- حياته هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب1 بن يربوع، وأمه عاتكة بنت أنيس من بني أسجع الذبيانيين؛ فهو ذبياني أبًا وأمًّا، وكان يكنى بأبي أمامة وأبي ثمامة2، وهما ابنتاه، كما كان يلقب بالنابغة، وبهذا اللقب اشتهر. واختلف الرواة في سبب تلقيبه به، فقيل: لقوله في بعض شعره: "فقد نبغت لنا منهم شئون" وقيل: لأنه قال الشعر بعد أن كبرتْ سنه ومات قبل أن يُهْتَر ويذهب عقله3.   1 هكذا في ترجمته بالأغاني "طبعة دار الكتب" 11/3 وفي شرح التبريزي للمعلقات العشر جابر بن يربوع بدلًا من جناب بن يربوع. 2 انظر الأغاني 11/ 3 وترجمته في الشعر والشعراء لابن قتيبة1/ 108 وما بعدها. 3 الأغاني 11/ 4 وراجع الشعر والشعراء 1/ 108 وشرح المعلقات العشر للتبريزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ونظن ظنًّا أنه سمي بذلك لنبوغه في شعره وتفوقه فيه، ومن أكبر الدلالة على ذلك أننا نجد مجموعة من الشعراء المخضرمين والإسلاميين تلقب بنفس اللقب مثل النابغة الجعدي والنابغة الشيباني والنابغة التغلبي، ويميز هو منهم باسم النابغة الذبياني. ولسنا نعرف شيئًا واضحًا عن نشأته ولا عن شبابه، وكل ما يحرص الرواة على قوله هو أنه كان من أشراف ذبيان وبيوتاتهم، وقد يكون في مصاهرة يزيد أخي هرم بن سنان له وهو من أشراف ذبيان ما يقطع بذلك. وإذا كنا نجهل نشأته وشبابه فإن في شعره وأخباره ما يصور لنا الشطر الثاني من حياته، وهو شطر بدأه بالنزول على النعمان بن المنذر أمير الحيرة1 ولزومه له يمدحه ويتغنى بمناقبه. ومعروف أن قبائل نجد كانت تدين بالولاء للمناذرة منذ قضوا على دولة كندة، وكانت تدخل ذبيان في هذا الولاء؛ فطبيعي أن يقصد شاعرها النابغة النعمان بن المنذر وأن يضفي عليه مدائحه، وسر النعمان بوفوده عليه، فقربه منه ونادمه، وأجزل له في العطايا والصلات، حتى أصبح شاعره الفذ، وكان بلاطه يموج بالشعراء من أمثال أوس بن حجر التميمي والمثقب العبدي ولبيد العامري؛ ولكن أحدًا منهم لم يكرمه إكرام النابغة، وقد صور ذلك في معلقته، إذ يقول: الواهِبُ المائَةَ المَعكاءَ زَيَّنَها ... سَعدانُ توضِحَ في أَوبارِها اللِبَدِ2 والأدم قد خيست فتلًا مرافقها ... مشدودة برحال الحيرة الجدد3 وَالراكِضاتِ ذُيولَ الرَيطِ فانَقَها ... بَردُ الهَواجِرِ كَالغِزلانِ بِالجَرَدِ4 وَالخَيلَ تَمزَعُ غَربًا في أَعِنَّتِها ... كَالطَيرِ تَنجو مِنَ الشُؤبوبِ ذي البَرَدِ5   1 واضح أننا لم نعتد بما ذهب إليه بعض الرواة من أن النابغة لحق عمرو بن هند ومدحه بقصيدة مطلعها: أَتارِكَةٌ تَدَلَّلَها قَطامِ ... وَضِنًّا بِالتَحِيَّةِ وَالكَلامِ وأغلب الظن أنها منتحلة عليه، وهي ليست على كل حال في رواية الأصمعي للديوان، وروى الشنتمري عن أبي عبيدة أنه مدح بها عمرو بن الحارث الغساني. 2 المعكاء: الغلاظ القوية، ويريد الإبل. توضح: موضع. السعدان: مراع. لبد الشعر: ما تلبد منه. 3 الأدم: النوق البيض. خيست: ذللت. فتلًا مرافقها: كناية عن قوة خلقها ومتانتها. 4 الراكضات: الساحبات، الريط: ثوب طويل. فانقها: نعمها. الجرد: موضع. 5 تمزع غربًا: تسح سحًّا شديدًا. الشؤبوب: السحاب أو دفعات مطره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فقد كان يعطيه المائة من الإبل الموثقة الخلق المذللة كما كان يعطيه القطيع من الخيل، غير الجواري المنعمات. على أن حادثًا حدث اضطره إلى مغادرة بلاط المناذرة والتوجه توًا إلى بلاط الغساسنة؛ إذ أوقعوا بذبيان وأحلافهم من بني أسد وقعة منكرة على أثر تعديهم على وادي أُقر الخصيب، وكانوا قد حموه ومنعوا أن ترتاده القبائل، وارتادته ذبيان وأسد؛ فنكلوا بهما تنكيلًا فظيعًا، وسبوا كثيرًا منهما ومن نسائهما. فألم النابغة ألمًا شديدًا صوره في قوله: لَقَد نَهَيتُ بَني ذُبيانَ عَن أُقُرٍ ... وَعَن تَرَبُّعِهِم في كُلِّ أَصفارِ1 وَقُلتُ يا قَومُ إِنَّ اللَيثَ مُنقَبِضٌ ... عَلى بَراثِنِهِ لِوَثبَةِ الضاري2 لا أَعرِفَن رَبرَبًا حورًا مَدامِعُها ... كَأَنَّ أَبكارَها نِعاجُ دُوّارِ3 يَنظُرنَ شَزرًا إِلى مَن جاءَ عَن عُرُضٍ ... بِأَوجُهٍ مُنكِراتِ الرِقِّ أَحرارِ4 يُذرينَ دَمعًا عَلى الأَشفارِ مُنحَدِرًا ... يَأمُلنَ رِحلَةَ حِصنٍ وَاِبنِ سَيّارِ5 ووضح أنه يصور نساء ذبيان وقد أسرن، وهن يذرفن الدموع ويتلفتن يمينًا وشمالًا، لعل بطلي قومهما حصن بن عيينة وزبان بن سيار يقدمان بالجيوش؛ فيلخصانهن من ذلك الأسر والعار. وفي بعض الروايات أنه كان بينهن إحدى بناته، وعرض لما صنعت جيوش الغساسنة ببني أسد؛ فقال في قصيدة أخرى مصورًا ما أصابهم من الجهد والبلاء. لَم يَبقَ غَيرُ طَريدٍ غَيرِ مُنفَلِتٍ ... وَموثَقٍ في حِبالِ القِدِّ مَسلوبِ6. أَو حُرَّةٍ كَمَهاةِ الرَملِ قَد كُبِلَت ... فَوقَ المَعاصِمِ مِنها وَالعَراقيبِ7   1 أقر: واد. تربعهم: إقامتهم وقت الربيع. أصفار: شهور الربيع جمع صفر. 2 البراثن. الأظفار. الضاري: متعود الافتراس. 3 الربرب. القطيع من بقر الوحش تشبه النساء به. حورًا: جمع حوراء، وهي العين الجميلة واضحة البياض والسواد. النعاج: إناث البقر. دوار: اسم صنم كن يطفن به في الجاهلية. 4 النظر الشذر: النظر بمؤخر العين. عرض: جانب 5 الأشفار: جمع شفر، وهو هدب العين. 6 القد: شراك كانوا يشدون به الأسير. 7 المهاة: البقرة الوحشية. المعصم: موضع السوار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 تَدعو قُعَينًا وَقَد عَضَّ الحَديدُ بِها ... عَضَّ الثِقافِ عَلى صُمِّ الأَنابيبِ1 ولم يجد النابغة بدًّا من أن يسعى إلى الغساسنة وأن يمدحهم، حتى يكفوا عن قومه ويردوا الحرية إلى من سبوه منهم، فنزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن جبلة، ومدحه مدحًا رائعًا كما مدح أخاه النعمان. وأكبرا سفارته لديهما؛ فعفوا عمن أسراه، وكان جزاؤهما من النابغة مديحه الرائع لهما، وظل عندهما يبالغان في إكرامه ويبالغ في مديحهما؛ محاولًا بكل ما استطاع أن لا يعودا إلى حرب قومه أو حرب أحلافهم. وقد مر بنا أن عشيرته يربوع كانت تنزل أحيانًا في بني ضنة العذريين وعشائرها مثل بني حُنّ، فتوسع لهم في ديارها ومراعيها، وحدثت النعمان نفسه بغزوهم؛ فتعرض له النابغة يخوفه منعتهم ومنعة ديارهم، ولما رأى منه إصرارًا شديدًا أرسل إلى عشيرته يدعوها أن تعين بني حن، فأعانتها ومنيت جيوش الغساسنة بالهزيمة، وفي ذلك يقول: لَقَد قُلتُ لِلنُعمانِ يَومَ لَقيتُهُ ... يُريدُ بَني حُنّ بِبُرقَةِ صادِرِ2 تَجَنَّب بَني حُنٍّ فَإِنَّ لِقائَهُم ... كَريهٌ وَإِن لَم تَلقَ إِلّا بِصابِرِ3 عِظامُ اللُهى أَولادُ عُذرَةَ إِنَّهُم ... لَهاميمُ يَستَلهونَها بِالحَناجِرِ4 وَهُم مَنَعوا وادي القُرى مِن عَدوِّهِم ... بِجَمعٍ مُبيرٍ لِعَدوِّ المُكاثِرِ5. وعلى هذا النحو كانت سفارته لدى الغساسنة ذات فوائد جليلة لقومه وأحلافهم، وما زال يرعى مصالحهم عندهم حتى توفر عمرو ثم أخوه النعمان، فرأى أن يعود إلى النعمان بن المنذر، وكان قد غضب عليه غضبًا شديدًا؛ إذ كان يتخذه داعية له في قومه، وكان يرى في نزوله بالغساسنة ما يدفع ذبيان إلى أن تخرج على ولائها له؛ فهذا شاعرها، وشريفها النابغة يلج في مديح خصومه. وكأنه يعلن بذلك ولاءه وولاءها لهم.   1 قعين: عشيرة من أسد. الثقاف: خشبة تقوم بها الرماح. الأنابيب: كعوب الرماح. 2 برقة صادر: موضع. 3 صابر: شجاع في الحرب. 4 اللهى هنا: المال. لهاميم: جمع لهموم وهو الضخم العظيم. يستهلونها: يبتلعونها، يصفهم بعظم الحلوق وكثرة الأكل وضخم الأجسام. 5 مبير: مهلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وبذلك كان ذنب النابغة عظيمًا، وقد أخذ يدفع عن نفسه في اعتذاراته المشهورة التي قدمها إلى النعمان، فعفا عنه، وعاد إلى بلاطه من جديد، وحظي برضاه ونائله الغمر؛ إلا أن كسرى لم يلبث أن غضب على النعمان؛ فاستدعاه سنة602 للميلاد، وألقى به في غياهب السجن حتى مات، ويقال: بل ألقى به تحت أرجل الفيلة. وواضح أننا لم نأخذ بالروايات1 التي رواها القدماء في سبب مفارقة النعمان خوفًا على حياته، فإن بعض الشعراء الذين نفسوا عليه مكانته عنده صنعوا على لسانه شعرًا هجاه به هجاء مقذعًا، وفي بعض الروايات أنه كان لأحدهم سيف قاطع كثير الفرند والجوهر؛ فذكر النابغة ذلك للنعمان فأخذه، واضطغن صاحبه على النابغة فوشى به إلى النعمان وحرضه عليه. وفي رواية أن النابغة وصف زوج النعمان المتجردة وصفًا استقصى فيه أعضاءها؛ فغار منه المنخل اليشكري وكان يهواها، فوسوس إلى الأمير أن هذا الوصف لا يقوله إلا من جرب، فغضب النعمان، وعلم النابغة فهرب إلى الغساسنة. وسنرى فيما بعد أن قصيدته في المتجردة موضوعة. وفي الحق أن كل هذه الروايات وما تضم من أشعار مخترعة، اخترعها الرواة ليفسروا اعتذارات النابغة التي تنبئ بأنه جنى جناية عظيمة، وأن هناك وشاة أوقعوا بينه وبين النعمان بن المنذر، ولم تكن هذه الوشاية إلا وفوده على الغساسنة أعداء النعمان وما صاغه من المديح فيهم، وقد كان يهمّ النعمان أن لا تضع الحرب أوزارها بينهم وبين ذبيان وقبائل نجد الغربية. فلم يكن ذنب النابغة عند النعمان ذنبًا شخصيًّا؛ وإنما كان ذنبًا سياسيًّا. وقد عاد إليه يطلب الصفح والعفو، لا لأنه بلغه أنه عليل كما تزعم بعض الروايات2. ونعتقد أن سفارته لقومه في بلاطي المناذرة والغساسنة هي التي أقلت الإشارات في شعره إلى حروب داحس والغبراء؛ إذ لم يشترك في وقائعها. ومع ذلك نراه في بعض شعره يأسى لتحول عبس إلى عامر ومفارقتها لديار أبناء عمومتها من ذبيان، يقول: أَبلِغ بَني ذُبيانَ أَن لا أَخا لَهُم ... بِعَبسٍ إِذا حَلّوا الدِماخَ فَأَظلَما3.   1الأغاني: 11/12 وما بعدها وانظر ترجمته في الشعر والشعراء. 2 أغاني: 11/ 29. 3 الدماخ: جبال. أظلم: موضع. يشير بهما إلى منازل بني عامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 هُمُ يَرِدونَ المَوتَ عِندَ لِقائِهِ ... إِذا كانَ وِردُ المَوتِ لا بُدَّ أَكرَما وكأنه يحرض قومه أن يعودوا إلى السلم مع عبس مستنصرين بها ضد أعدائهم؛ ففيها شجاعة وجرأة وإقدام وغناء في الحروب. وليس في شعره أي إشارة لوعيد أو تهديد لعبس، وكأنه كان يبقي على القربى والرحم بينه وبينها؛ فهو لا يتوعدها غارة ولا يندد بالوقائع التي انتصرت فيها قبيلته. ولكن إذا كان قد ترك عبسًا فقد تعرض لعامر حليفتها يهددها ويهدد سادتها وأبطالها من مثل زرعة بن عمرو وعامر بن الطفيل بغارات شعواء لقومهما تسبى فيها الأطفال والنساء. وحاول زرعة وبعض بني عامر أن يدفعوا ذبيان لنقض ما بينها وبين أسد من حلف وعقد حتى تحقن الدماء، وعلم النابغة بذلك وأن عيينة بن حصن وبعض الذبيانيين يفكرون في الأمر؛ فتولى غضبًا ينشد القصائد مسفهًا بني عامر وعيينة وداعيًا قومه إلى الوفاء بما بينهم وبين أسد من العهود والعقود، وفي ذلك يقول قصيدته: قالَت بَنو عامِرٍ خالوا بَني أَسَدٍ ... يا بُؤسَ لِلجَهلِ ضَرّارًا لِأَقوامِ1 يَأبى البَلاءُ فَلا نَبغي بِهِم بَدَلًا ... وَلا نُريدُ خِلاءً بَعدَ إِحكامِ2 وتوجه إلى عيينة يعنفه تعنيفًا شديدًا في قصيدة أخرى، يقول في تضاعيفها: إذا حاولتَ في أَسدٍ فجورًا ... فإني لستُ منك ولستَ مني وهو موقف يدل على نبله وحرصه على الوفاء، ويدخل في ذلك مدحه لبني أسد وإشادته بشجاعتهم وبلائهم في الحروب. وجميع أخباره وأشعاره الصحيحة تدل على أنه كان سيدًا شريفًا من سادات قومه؛ فهو لا يتفتَّى تفتي امرئ القيس وطرفة وأضرابهما؛ بل يتراءى سيدًا وقورًا ذا خلق وشيم كريمة، فهو لا يتدنى في سفاهة ولا يتبذل في مجون. وفي أشعاره بعض إشارات مسيحية، وقد جاءه ذلك من إقامته الطويلة في الحيرة ولدى الغساسنة وكأنه استمع إلى بعض ما يقوله الأحبار والرهبان. ولكن لا شك في أنه كان على دين.   1 خالوا: من المخالاة وهي نقض العهد. 2 البلاء: يقصد بلاءهم معهم في الحرب. 3 الخلاء: نقض العهد كالمخالاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 آبائه يتعبَّد العُزَّى وغيرها من آلهتهم الوثنية، ويختلف معهم إلى الحج بمكة، وفي معلقته: فلا لعمرُ الذي مسَّحْتُ كَعْبتَه ... وما هُرِيقَ على الأَنْصاب من جَسدِ فهو يقدس الدماء التي كانت تصب على الأنصاب. وكان فيه حكمة، وهي مبثوثة في شعره، ويقول ابن حبيب: إنه ممن حرم الخمر والأزلام في الجاهلية1. وهو بذلك كله يبدو سيدًا وقورًا. ويظهر أنه نال شهرة واسعة في عصره لا عند أمراء الحيرة والغساسنة فحسب؛ بل أيضًا في داخل الجزيرة وبين الشعراء؛ إذ كانوا يعرضون عليه في المواسم والأسواق أشعارهم قال صاحب الأغاني: "كان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها. وحدث ذات مرة أن أنشده الأعشى أبو بصير، ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء، ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشَّريد: وإن صخرًا لتأْتمُّ الهداةُ بهِ ... كأَنه عَلمٌ في رأْسه نارُ2 فقال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت إنك أشعر الجن والإنس؛ فقام حسان فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك، فقال له النابغة: يا بن أخي أنت لا تحسن أن تقول: فإنك كالليل الذي هو مُدْركي ... وإن خِلْتُ أَن المنتأَى عنك واسعُ خطاطيفُ حُجْنٌ في حِبالٍ متينةٍ ... تَمُدُّ بها أَيدٍ إليك نوازِعُ3. فخَنس حسان لقوله4". وفي رواية أخرى أنه لما غضب حسان وقال له أنا أشعر منك ومن أبيك قال له حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول: لنا الجَفنَان الغُرُّ يَلْمَعْن بالضُّحى ... وأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نجدةٍ دما.   1 المحبر لابن حبيب "طبع حيدر آباد" ص 238. 2 العلم هنا: الجبل. 3 خطاطيف: جمع خطاف وهو حديدة حجناء تستخرج بها الدلاء من البئر، حجن: جمع حجناء وهي المعوجة نوازع: حواذب ويقصد قصائده التي يستعطفه بها. 4 أغاني:11/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنَمَا1 فقال له النابغة: أنت شاعر ولكنك أقللت أجفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك2. وأكبر الظن أن هذه الزيادة في تلك الرواية من عمل بعض اللغويين الذين يذهبون إلى أن جمع المؤنث السالم ووزن أفعال في جمع التكسير يدلان على القلة. وفي الحقيقة لم يفتخر حسان بالأبناء دون الآباء؛ بل لقد افتخر بالآباء، وإن كان عبر بكلمة ولدنا فهي مماحكة لفظية، وما كان النابغة ليعمد إلى مثل هذه المماحكة والمغالطة. والمهم في الخبر أنه كان يحكم بين الشعراء فمن أشاد به تألق نجمه ومن أزرى به خمل ذكره. وقد رجع إلى قبيلته بعد موت النعمان بن المنذر سنة 602 وأمضى فيها بقية حياته، ويظهر أنه لم يعش طويلًا؛ فليس في أشعاره أي شيء يتصل بانتهاء حروب داحس والغبراء سنة 608 ولو أنه حضر نهايتها لأشاد بموقف سيدي قبيلته: هرم بن سنان والحارث بن عوف في حقن الدماء بما تحملا من ديات، ومن ثم كان لا يبعد عن الصواب ما زعمه لويس شيخو من أنه توفي سنة "604" 3.   1 العنقاء: جد الخزرج الأول. محرق: هو الحارث بن جبلة الغساني، ومعروف أن الغساسنة كالخزرج من الأزد، ولذلك يفخر بهم كما يفخر بقومه. 2 أغاني: "طبعة دار الكتب" 9/ 340 والموشح للمرزباني: ص60. 3 شعراء النصرانية: ص640. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 3 – ديوانه : لعل أقدم نشرة لديوان النابغة نشرة ديرنبورج له في المجلة الآسيوية "1868-1869" وقد استخرجها من شرح الشنتمري للدواوين الستة، وهي دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعنترة وعلقمة بن عبدة. وسبق أن قلنا في حديثنا عن ديوان امرئ القيس إن هذا الشرح يحتفظ برواية الأصمعي لتلك الدواوين، وبعد أن يفرغ منها يضيف إليها بعض قصائد من رواية الكوفيين. وقد اعتمد ديرنبورج في نشرته لديوان النابغة على مخطوطتين من شرح الشنتمري وجدهما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 باريس ومخطوطة ثالثة وجدها في فينا وهي بشرح البطليوسي. وقد نَشر في سنة 1899 ملحقًا للديوان في المجلة الآسيوية نقله عن مخطوطة في مجموعة شيفر وجد بها زيادات جديدة. ونشر الديوان آلورد في مجموعة الدواوين الستة التي عنى بها الشنتمري، سنة1870 واستخرج نشرته من عدة مخطوطات؛ إلا أنه لم يكتف بما جاء عند الشنتمري؛ فقد ألحق بتلك الدواوين الستة زيادات وإضافات مما وجده منسوبًا في كتب الأدب إلى كل منهم، وقد نُشر الديوان في القاهرة مع هذه الدواوين، ولكن لا يشرح الشنتمري؛ وإنما يشرح البطليوسي. ونشر نشرة أخرى باسم "التوضيح والبيان عن شعر نابغة بني ذبيان" وقام على هذه النشرة مصطفى أدهم سنة1910. ونشر في بيروت مع مجموعة دواوين أخرى باسم خمسة دواوين العرب، وهي دواوين النابغة وعروة بن الورد والفرزدق وحاتم الطائي وعلقمة الفحل. وقد نشره لويس شيخو في مجموعته "شعراء النصرانية" معتمدًا على نشرة ألوارد. ونشره مصطفى السقا في مجموعته "مختار الشعر الجاهلي" وهذه المجموعة كما مر بنا هي نفسها مجموعة الدواوين الستة التي عُني بها الشنتمري، وإن كان الناشر لم ينقل معها شرحه؛ فقد اختصره؛ غير أنه احتفظ بكثير من الإشارات والتعليقات التي بثها الشنتمري فيه. وفي دار الكتب المصرية غير مخطوطة من هذا الشرح. وفي مكتبة أحمد الثالث بإستانبول مخطوطة للديوان بشرح ابن السكيت وكذلك في مكتبة فيض الله مخطوطة أخرى له بشرح الخطيب التبريزي. والمخطوطتان جميعًا مصورتان بمعهد إحياء المخطوطات بالجامعة العربية. وسنعتمد في دراستنا للشاعر على شرح الشنتمري؛ لأنه يحتفظ لنا برواية الأصمعي أوثق رواة الشعر الجاهلي، وهي تنتهي بالقصيدة رقم22؛ إذ يقول الشنتمري بعقبها: "كمل جميع ما رواه الأصمعي من شعر النابغة، ونصل به قصائد متخيرة مما رواه غير الأصمعي إن شاء الله تعالى" وهي سبع قصائد رواها عن الطوسي، وهو إنما يروي عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، ومعنى ذلك أن هذه القصائد مما أضافه الكوفيون إلى رواية الأصمعي أستاذ البصرة والبصريين. وكأن الأصمعي كان يشك فيها أو كان ينكرها؛ ولذلك لم يثبتها في روايته، ومن ثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 لا نستطيع أن نعتمد عليها في دراسة النابغة، إنما نعتمد على ما رواه الأصمعي، ونتخذه أساسًا لبحث الشاعر وشعره. على أننا لا نكاد نمضي في رواية الأصمعي حتى نجدها في حاجة إلى مناقشة؛ فإن الأصمعي احتفظ فيها بقصيدته في المتجردة: "أمن آل ميَّة رائح أو مغتد" مع أنه كان لا يسندها كما يقول الشنتمري. ومعنى ذلك أنها ضعيفة الرواية. ونحن لا نقرؤها حتى نجدها تتضمن غزلًَا مفحشًا، وهو غزل لا يتفق وشخصية النابغة الوقور. ولو أن هذا اللون من الغزل كان دائرًا في شعر النابغة لأمكن أن نقبلها؛ ولكنه يأتي شذوذًا في هذه القصيدة، ليدلل -كما مر في غير هذا الموضع- على خبر مصنوع، وضعه الرواة ليفسروا به السبب في غضب النعمان بن المنذر على النابغة؛ إذ جعلوه يتغزل بزوجه هذا الغزل الماجن الذي يندى له الجبين، وكأنما ضاقت الدنيا على النابغة فلم يجد امرأة يتغزل بها هذا الغزل المفحش سوى زوج النعمان. ولو أن الرواة كانوا متعمقين في فهم العصر الجاهلي وما كان فيه من منافسة شديدة بين المناذرة والغساسنة؛ بل لو أنهم تعمقوا في درس شعر النابغة لعرفوا أنه اضطر اضطرارًا إلى مغادرة بلاط النعمان والتوجه إلى الغساسنة حتى يفك أسرى قومه عندهم عقب معارك رجحت فيها كفة الغساسنة؛ بل لقد هزموهم هزيمة منكرة. وبذلك فقد النعمان داعيته في ذبيان، وغضب غضبًا شديدًا. وما زال النابغة عندهم، ليرد كيدهم عن قومه، حتى إذا دار الزمن وتوفي خصما ذبيان من الغساسنة، وهما عمرو وأخوه النعمان، رأي النابغة أن يعود إلى بلاط النعمان بن المنذر، لا خوفًا على نفسه كما يقول الرواة؛ بل خوفًا من تأليبه القبائل على قبيلته؛ فالموقف كله كان موقفًا سياسيًّا، ولم يكن موقفًا شخصيًّا؛ ولذلك كنا نرد قصيدة المتجردة، كما نرد كل ما يتصل بقصة هرب النابغة من النعمان ورجوعه إليه حين علم بمرضه، ومن ثَمَّ كنا نشك في قصيدته الرائية التي يقول فيها: ألم تر خير الناس أصبح نَعْشُهُ ... على فتيةٍ قد جاوز الحيَّ سائرا ونحن لديه نسأل الله خُلْده ... يردُّ لنا ملكًا وللأَرض عامرا فإن الرواة وضعوها وضعًا، ليصوروا لنا النعمان عليلًا، ونفس أسلوبها وما في نهايتها من دعاء يدلان على أنها إسلامية، ومن ثَمَّ ننكرها كما ننكر مقطوعته التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 تتصل بمرض النعمان والتي يتوجه فيها إلى حاجبه عصام قائلًا في مطلعها: ألم أقسم عليك لتخبرنِّي ... أمحمولٌ على النَّعْش الهمامُ وأيضًا فإننا نشك في قصيدته: لعمرك ما خشيتُ على يزيدٍ ... من الفخر المضلَّل ما أتاني لأن الرواة يقولون إنه هجا بها يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي حين أصاب إبلًَا للنعمان، وكلاب عشيرة من عشائر بني عامر، وهي قيسية مضرية، ومع ذلك نجد النابغة يدعوه فيها يمنيًّا إذ يقول في نهايتها: "ولكن لا أمانة لليمان" وما كان ليضل عنه أنه مضري لا يمني، وكأنما القافية أعوزت في البيت منتحله، بل منتحل القصيدة فدعاه يمانيًّا ونسبه إلى اليمن. ومن القصائد التي جاءت في رواية الأصمعي ويملؤنا الشك فيها قصيدته: بانت سعاد وأمسى حَبْلُها انْجذَمَا ... واحتلَّتِ الشَّرْعَ فالأَجزاعَ من إضَما لأنها نسيب خالص، ولأن بها روحًا إسلامية تتضح في قوله مخاطبًا صاحبته: حَيَّاك ربي فإنا لا يحلُّ لنا ... لَهْوُ النساء وإن الدِّين قد عَزما1 مُشَمِّرين على خُوصٍ مزنَّمةٍ ... نرجو الإله ونرجو البِرَّ والطَّعمَا2 وإذن فنحن ننكر خمس قصائد في رواية الأصمعي ونبقي على سبع عشرة، ومع إبقائنا عليها لا نُخْلِيها من بعض أبيات أدخلت في روايتها؛ فمن ذلك قصيدته العينية التي يعتذر فيها للنعمان، فإن الرواة أدخلوا فيها خمسة أبيات تمضي على هذا النحو: لَعَمري وَما عُمري عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَد نَطَقَت بُطلًا عَلَيَّ الأَقارِعُ3 أَقارِعُ عَوفٍ لا أُحاوِلُ غَيرَها ... وُجوهُ قُرودٍ تَبتَغي مَن تُجادِعُ4 أَتاكَ اِمرُؤٌ مُستَبطِنٌ لِيَ بِغضَةً ... لَهُ مِن عَدوٍّ مِثلَ ذَلِكَ شافِعُ   1 الدين هنا: الحج. يريد أنهم عزموا عليه؛ فهو من باب القلب في التعبير. 2 مشمرين: جادين. الخوص: الإبل غائرة العيون. مزنمة: مشدودة بأزمتها ورحالها. الطعم هنا: الرزق. 3 الأقارع: بنو قريع بن عوف. 4 تجادع: تشاتم. ولفظ وجوه منصوب على الذم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أَتاكَ بِقَولٍ هَلهَلِ النَسجِ كاذِبٍ ... وَلَم يَأتِ بِالحَقِّ الَّذي هُوَ ناصِعُ أَتاكَ بِقَولٍ لَم أَكُن لِأَقولَهُ ... وَلَو كُبِلَت في ساعِدَيَّ الجَوامِعُ1 وإنما أدخلوا هذه الأبيات ليشيروا بها إلى ما قالوه من أن السبب في هربه من النعمان أن مرة بن سعد بن قريع وعبد قيس بن خفاف نظما هجاء في النعمان على لسانه؛ فلما علم به فر على وجهه. ونحن ننفي هذه الأبيات عن القصيدة ونبقي على ما عداها ونعده صحيحًا. ونقف نفس الموقف من هذه الأبيات التي جاءت في معلقته والتي يقول فيها عن النعمان بن المنذر: وَلا أَرى فاعِلًا في الناسِ يُشبِهُهُ ... وَلا أُحاشي مِنَ الأَقوامِ مِن أَحَدِ إِلّا سُلَيمانُ إِذ قالَ الإِلَهُ لَهُ ... قُم في البَرِيَّةِ فَاِحدُدها عَنِ الفَنَدِ2 وَخَيِّسِ الجِنَّ إِنّي قَد أَذِنتُ لَهُم ... يَبنونَ تَدمُرَ بِالصُفّاحِ وَالعَمَدِ3 فَمَن أَطاعَكَ فَاِنفَعهُ بِطاعَتِهِ ... كَما أَطاعَكَ وَادلُلهُ عَلى الرَشَدِ وَمَن عَصاكَ فَعاقِبهُ مُعاقَبَةً ... تَنهى الظَلومَ وَلا تَقعُد عَلى ضَمَدِ4 إِلّا لِمِثلِكَ أَو مَن أَنتَ سابِقُهُ ... سَبقَ الجَوادَ إِذا اِستَولى عَلى الأَمَدِ5 وواضح أنه يسترسل في الحديث عن سليمان كأنه من أهل الكتب السماوية وقد كان وثنيًّا على مذهب قومه، وبحق رأى طه حسين أن الأبيات أُقحمت على المعلقة إقحامًا6 وقد نسبت إلى النابغة أبيات في غير رواية الأصمعي يقول فيها معتذر إلى النعمان: أَتَيتَكَ عارِيًا خَلقًا ثِيابي ... عَلى خَوفٍ تُظَنَّ بيَ الظَنونُ فَأَلفَيتُ الأَمانَةَ لَم تَخُنها ... كَذَلِكَ كانَ نوحٌ لا يَخونُ   1 كبلت: وضعت. الجوامع: الأغلال. 2 احددها: أمنعها. الفند: الخطأ في القول والفعل. 3 خيس: ذلل. تدمر: مدينة الزباء في بادية الشام. الصفاح: حجارة عراض. العمد: أساطين الرخام. 4 الضمد: الغيظ وشدة الغضب. 5 الأمد: الغاية التي تجري إليها الحيل. والبيت معلق بما قبله أي لا تقعد على غيظ إلا لمن هو مثلك في الناس أو قريب منك. 6 في الأدب الجاهلي: ص337 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ونفى الجاحظ1 وابن سلام2 أن يكون النابغة قد قال هذا الشعر، وكأنهما أحسا ما أحسه طه حسين إزاء الأبيات السالفة وأنها خليقة بأن تكون مصنوعة. ومثلها في المعلقة الأبيات التالية التي تصور فطنة اليمامة وعدها الدقيق لحمام طائر في مضيق من الهواء يجعله يشتد في طيرانه ويسرع إسراعًا: اِحكُم كَحُكمِ فَتاةِ الحَيِّ إِذ نَظَرَت ... إِلى حَمامِ شِراعٍ وارِدِ الثَمَدِ3 يَحُفُّهُ جانِبا نيقٍ وَتُتبِعُهُ ... مِثلَ الزُجاجَةِ لَم تُكحَل مِنَ الرَمَدِ4 قالَت أَلا لَيتَما هَذا الحَمامُ لَنا ... إِلى حَمامَتِنا وَنِصفُهُ فَقَدِ5 فَحَسَّبوهُ فَأَلفَوهُ كَما حَسَبَت ... تِسعًا وَتِسعينَ لَم تَنقُص وَلَم تَزِدِ فَكَمَّلَت مِائَةً فيها حَمامَتُها ... وَأَسرَعَت حِسبَةً في ذَلِكَ العَدَدِ وهي أبيات واضحة الانتحال. ونحن بعد ذلك نصحح بقية المعلقة، كما نصحح قصائده ومقطوعاته الأخرى التي جاءت في رواية الأصمعي باستثناء ما اتهمناه.   1 الحيوان: 2/ 246. 2 طبقات فحول الشعراء: "طبع دار المعارف" ص49 - 50. 3 فتاة الحي: زرقاء اليمامة. شراع: مجتمعة. الثمد: الماء القليل. 4 يحفه: يحيط به. نيق: جبل. وجعل الحمام يمر في جانبي نيق لأنه إذا مر في مضيق من الهواء كان أسرع منه إذا اتسع عليه الفضاء. وشبه عين زرقاء اليمامة بالزجاجة في صفائها. لم تكحل من الرمد: لم يصبها رمد فتكحل منه. 5 قد: حسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 4- شعره : قَرن ابن سلام النابغة إلى امرئ القيس وزهير والأعشى؛ فهؤلاء الأربعة في رأيه هم المقدمون على سائر الشعراء في الجاهلية1، وتبعه الرواة والنقاد يؤمنون بهذا الحكم، وأن الأربعة حقًّا هم المجلون السابقون في اقتدارهم على تصريف الشعر والنظم في فنونه المختلفة.   1 انظر طبقات فحول الشعراء: ص43 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وإذا استعرضنا دواوينهم جميعًا وجدنا النابغة يقرب في ذوقه من أوس بن حجر وزهير ومدرستهما التي اشتهرت عند القدماء بالتجويد والتنقيح؛ فهو لا يقبل كل ما يفد على خاطره. بل لا يزال يثقفه ويصقل فيه حتى يستوي له اللفظ الموثق والديباجة الجزلة. وقد أتيح له أن يعيش في بيئتين متحضرتين هما الحيرة وبلاط الغساسنة، فرقَّ ذوقه وسهل منطقه ولفظه، وإن كان لم ينس البادية ولغتها وغرابة هذه اللغة. وقد وقف القدماء طويلًا عند إجادته لفني المديح والاعتذار؛ غير أنهم عادوا فقالوا: إنه أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم؛ فإنه مدح الملوك وقبل صلتهم ونوالهم، وكان في غنى عن هذا القبول. "قيل لأبي عمرو بن العلاء: أفمن مخافة النعمان بن المنذر امتدحه النابغة وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك؟ فقال: لا، لعمر الله ما لمخافته فعل، إن كان لآمنًا من أن يوجه النعمان له جيشًا، وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة؛ ولكنه رغب في عطاياه وعصافيره "إبله" وكان النابغة يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده، لا يستعمل غير ذلك1". ويبعد في رأينا أن يكون قد وفد على أبي النعمان وجده كما يقول أبو عمرو بن العلاء وغيره من الرواة فإن ديوانه برواية الأصمعي يخلو من مديحهما. أما أن تكسبه بالشعر وأخذه نوال المناذرة وكذلك الغساسنة قد غض منه وأنزله من مرتبة شرفة فغير صحيح؛ لأن وفوده عليهما لم يكن القصد منه التكسب؛ وإنما كان القصد رعاية مصالح قبيلته عندهما كما قدمنا؛ فقد كان سفيرها في بلاطهما. وحقًّا إنه يبالغ في مديحه واعتذاره، ولكنها مبالغة لا تنتهي إلى ذلة نفس؛ بل هي المبالغة التي تأتي من أنه يتحدث إلى أمراء كان لهم سلطان كبير على القبائل العربية، ويريد أن يصلح ما فسد من قلوبهم عليه وعلى قبيلته. وليس شعره جميعه مديحًا واعتذارًا؛ فقد رثى النعمان الغساني، وهو يقدم لرثائه ومديحه واعتذاراته بالنسيب ووصف ناقته، وقد يخرج من ذلك إلى وصف الحيوان في الصحراء وصيده. وأيضًا في شعره قصائد ومقطوعات تتصل بأحداث قبيلته.   1 أغاني: 11/ 29 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وأحلافها من بني أسد وأعدائها من بني عامر، وبعبارة أخرى في شعره فخر وهجاء، وفي تضاعيف ذلك كله نرى عنده أسرابًا من الحكمة والتجربة الصادقة، وما يدل على وفائه وصدق مودته. ونحن لا نلم بمديحه للغساسنة حتى نؤمن حقًّا بأنه كان شاعرًا بارعًا، يعرف كيف يتخير ألفاظه وكيف ينوع في معانيه وكيف يستتم صوره. وخير مدائحه فيهم قصيدته البائية، وهو يستهلها بوصف طول الليل وما تجمع عليه فيه من الهموم، يقول: كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ ... وَلَيلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكَواكِبِ1 تَطاوَلَ حَتّى قُلتُ لَيسَ بِمُنقَضٍ ... وَلَيسَ الَّذي يَرعى النُجومَ بِآيِبِ2 وَصَدرٍ أَراحَ اللَيلُ عازِبُ هَمِّهِ ... تَضاعَفَ فيهِ الحُزنُ مِن كُلِّ جانِبِ3 فهو محزون في أول القصيدة يخاطب بنته أمامه ويشكو لها همومه وأشجانه لما وقع في قبضة الغساسنة من أسرى قومه، ونراه يصور طول الليل وهمه فيه تصويرًا بديعًا؛ فالكواكب بطيئة لا تجري، حتى ليظن أن الصبح الذي يرعى النجوم بأضوائه ويحصدها حصدًا لن يؤوب، والليل يثقل على صدره بما يردُّ عليه من موجات الهم والحزن. وهي براعة استهلال رائعة تدل دلالة بينة على أننا بإزاء شاعر يعرف كيف يجسم معانيه وكيف يعبر عنها تعبيرًا واضحًا مستقيمًا بالصور. وقد خرج من ذلك توًّا إلى مدح عمرو بن الحارث الغساني وآبائه وعشيرته، ووقف طويلًا عند تصوير جيوشه وما تحقق من انتصارات مدوية، وأطال في هذا التصوير قائلًا: إِذا ما غَزوا بِالجَيشِ حَلَّقَ فَوقَهُم ... عَصائِبُ طَيرٍ تَهتَدي بِعَصائِبِ4 يُصاحِبنَهُم حَتّى يُغِرنَ مُغارَهُم ... مِنَ الضارِياتِ بِالدِماءِ الدَوارِبِ5   1 كليني: دعيني. ناصب: متعب. بطيء الكواكب: كناية عن أنها لا تغور ولا تمضي. 2 آيب: راجع. وأراد براعي النجوم الصباح. 3 أراح: رد. العازب: البعيد. 4 عصائب: جماعات. 5 الضاريات: المعودات. الدوارب: المدربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 تَراهُنَّ خَلفَ القَومِ خُزرًا عُيونُها ... جُلوسَ الشُيوخِ في ثِيابِ المَرانِبِ1 جَوانِحَ قَد أَيقَنَّ أَنَّ قَبيلَهُ ... إِذا ما اِلتَقى الجَمعانِ أَوَّلُ غالِبِ2 لَهُنَّ عَلَيهِم عادَةٌ قَد عَرَفنَها ... إِذا عُرِّضَ الخَطِّيُّ فَوقَ الكَواثِبِ3 عَلى عارِفاتٍ لِلطِعانِ عَوابِسٍ ... بِهِنَّ كُلومٌ بَينَ دامٍ وَجالِبِ4 إِذا استُنزِلوا عَنهُنَّ لِلطَعنِ أَرقَلوا ... إِلى المَوتِ إِرقالَ الجِمالِ المَصاعِبِ5 فَهُم يَتَساقَونَ المَنيَّةَ بَينَهُم ... بِأَيديهِمُ بيضٌ رِقاقُ المَضارِبِ يَطيرُ فُضاضًا بَينَها كُلُّ قَونَسٍ ... وَيَتبَعَها مِنهُم فَراشُ الحَواجِبِ7 وَلا عَيبَ فيهِم غَيرَ أَنَّ سُيوفَهُم ... بِهِنَّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكَتائِبِ8 تُوُرَّثنَ مِن أَزمانِ يَومِ حَليمَةٍ ... إِلى اليَومِ قَد جُرِّبنَ كُلَّ التَجارِبِ9 تَقُدَّ السَلوقِيَّ المُضاعَفَ نَسجُهُ ... وَتوقِدُ بِالصُفّاحِ نارَ الحُباحِبِ10 بِضَربٍ يُزيلُ الهامَ عَن سَكِناتِهِ ... وَطَعنٍ كَإيزاغِ المَخاضِ الضَوارِبِ11 وهو يبدأ تصويره بأن جماعات الطير من النسور والعقبان تتبع جيش الغساسنة، تنتظر زادها من أشلاء قتلاهم وربما سبقه الأفوه بقوله: وترى الطير على آثارنا ... رأْيَ عينٍ ثِقَةً أَن ستُمارُ12   1 خزر العيون: جمع أخزر وهو الذي ينظر بمؤخر عينه. المرانب: ثياب سوداء. 2 جوانح: مائلات للوقوع. 3 الخطي: الرماح. الكواثب: القربوس. 4 عارفات: صابرات. كلوم: جروح. دام وجالب: مدم ومتجمد عليه الدم. 5 أرقلوا: أسرعوا. المصاعب: النافرة. 6 بيض: سيوف 7 فضاضًا: متفرقًا. القونس: أعلى الرأس. فراش الحواجب: عظامها. 8 فلول: ثلوم. قراع: مضاربة 9 يوم حليمة: معركة مشهورة انتصر فيها الحارث بن جبلة الغساني على المنذر بن ماء السماء. 10 السلوقي: الدرع المنسوبة إلى سلوق من أرض اليمن. تقد: تشق. الصفاح: الحجارة ويريد خوذ الجنود. الحباحب: ذباب له شماع بالليل. 11 الهام: جمع هامة وهي الرأس. سكناته: حيث يسكن ويستقر. الإيزاغ: دفع الناقة بولها. المخاض: الحوامل. 12 انظر ديوان الأفوه ص13. تمار: تعطي الميرة من لحوم القتلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 غير أن النابغة فصلَّ الصورة حتى يحكم المعنى ويكشفه كشفًا دقيقًا؛ فالنسور والعقبان خزر العيون، وهي تشبه في ألوانها ثياب المرانب السوداء التي يلبسها الشيوخ، وهي تسير خلفهم موقنة بأنها لا بد أن تجد زادها من أعدائهم، وأنها على وشك الوقوع على ما تريد من هذا الزاد، وهي لذلك لا تزال جانحة، عادة عرفتها فيهم لا يخلفونها ولا يمطلونها. وقد أعجب القدماء طويلًا بهذه الصورة عند النابغة، فتعاور عليها الشعراء، وكل منهم يحاول أن يثبت مهارته وقدرته1. ويمضي النابغة فيصور شجاعة الجيش، وما على خيله من أثر للطعان وجروح بين مدم ومتجمد عليه الدم. ونلاحظ هنا الدقة في الوصف، وهي دقة استتبعت ضربًا من الطباق. وقد صورهم يتساقون كئوس المنية؛ كناية عن جرأتهم في الحرب واقتحامهم لأهوالها، ثم صور كيف يثخنون في أعدائهم، ولم يلبث أن جاء بصورة طريفة ظاهرها ذم وباطنها مدح شديد؛ فالغساسنة لا عيب فيهم إلا عيب واحد، وهو ليس في حقيقته عيبًا؛ بل هو مفخرة من مفاخرهم، فسيوفهم مفللة من طول قراعها ومضاربتها للكتائب. ومثل هذا التعبير الذي سبق إليه يدل على أنه كان يدقق في معانيه وألفاظه جميعًا. ولم ينس أن يشير إلى نصرهم القديم في يوم حليمة الذي هزم فيه المناذرة شر هزيمة؛ حتى لقد قُتل المنذر بن ماء السماء في ساحة المعركة. وقد جعل سيوفهم المفللة تشق الدروع المتينة وتمزق أصحابها تمزيقًا مطيحة برءوسهم ومرسلة شررًا لا ينقطع ضياؤه حتى لكأنه أشعة الحباحب، وسيولًا من الدماء كأنها إيزاغ المخاض. حتى إذا استوفى كل ما أراد من تصويرهم بالشجاعة في ميادين الحروب انتقل يصورهم في سلمهم متحدثًا عن شيمهم وشمائلهم ودينهم ونعيمهم، يقول: لهم شيمَةٌ لم يُعْطها اللهُ غيرهم ... من الجود، والأَحلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ2. محلَّتُهم ذاتُ الإِله، ودينُهم ... قويمٌ فما يرجون غيرَ العواقب3   1 انظر الصناعتين للعسكري: "طبعة الحلبي" ص225 والوساطة الجرجاني: "طبعة الحلبي" ص274. 2 الأحلام: العقول. عوازب: جمع عازب وهو الغائب. 3 محلتهم: منزلتهم، ذات الإله: يقصد كنائسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 رِقاقُ النِعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهُم ... يُحَيّونَ بِالريحانِ يَومَ السَباسِبِ1 تُحَيّهِمُ بَيضُ الوَلائِدِ بَينَهُم ... وَأَكسِيَةُ الإِضريجِ فَوقَ المَشاجِبِ2 يَصونونَ أَجسادًا قَديمًا نَعيمُها ... بِخالِصَةِ الأَردانِ خُضرِ المَناكِبِ3 وَلا يَحسَبونَ الخَيرَ لا شَرَّ بَعدَهُ ... وَلا يَحسِبونَ الشَرَّ ضَربَةَ لازِبِ4 حَبَوتُ بِها غَسّانَ إِذ كُنتُ لاحِقًا ... بِقَومي وَإِذ أَعيَت عَلَيَّ مَذاهِبي5 وهو في أول الأبيات يصفهم بالجود ورجاحة الأحلام والعقول، ثم يأخذ في وصفهم بأنهم متدينون بدين قويم، وكان الغساسنة نصارى كما مر بنا في غير هذا الموضع. ويقول: إن منازلهم تحل بأمكنة مقدسة، ولعله يريد كنائسهم، ولا يلبث أن يقول إنهم يخشون العواقب، وكأنه يستحثهم على أن يفكوا أسرى قبيلته من أغلالهم. وتحوَّل يصفهم بالترف وما كانوا فيه من رفاهة العيش؛ فهم رقاق النعال، وهم أعفاء، يحيّون بالأزهار في عيد السباسب أو يوم الشَّعانين، وهو من أعياد النصارى، وهم منعمون يلبسون ثيابًا بيض المناكب خضر الأكمام. وعاد يستعطفهم على قومه وأنهم إذا كانوا أهاجوهم واستتبع ذلك شرًّا وبلاء فإن في الغساسنة خيرًا وقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت بسبب من أسر منهم عند ممدوحيه، وكأنه يهيب بهم أن يردوا إليه حريتهم، وردوها فعلًا لما بهرهم به النابغة من هذا المديح الرائع. وواضح أن روعة هذا المديح ترجع إلى استيفاء النابغة لمعانيه وعرضها في معارض بديعة من اللفظ الواضح الجزل ومن الصور المونقة الدقيقة. وقد نفذ في أثناء ذلك إلى معان حضرية جديدة؛ إذ صور دينهم وترفهم وما هم فيه من نعيم. وهو في ذلك يختلف عن شعراء البادية أمثال زهير في مديحه؛ إذ كانوا لا يعرفون هذه المعاني ولا تلم بخواطرهم، أما هو فعاش أغلب أيامه في الحيرة وفي بلاط الغساسنة،   1 الحجزات: معاقد الثياب. طيب حجزاتهم. كناية عن عفتهم. 2 الولائد: الجواري والإماء. الإضريج: الحرير الأحمر: المشاجب: جمع مشجب وهو أعواد تعلق عليها الثياب. 3 الأردان: الأكمام. وخلوصها: نصوع بياضها. 4 لازب: لازم. 5 بها: يريد قصيدته. أعيت مذاهبه عليه: ضاقت وسدت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فكان طبيعيًّا أن يختلف ذوقه عن ذوق البدو وأن يأتي بمثل هذه المعاني التي تروق ممدوحيه من الأمراء. وإذا كان النابغة يتفوق في المديح تفوقًا ظاهرًا؛ فإنه كذلك يتفوق في الاعتذار، وكأن ذوقه الحضري هو الذي أعدَّه لهذا التفوق؛ إذ نحس فيه رقة في اللهجة وإلحاحًا في التلطف محاولًا أن يزيل من نفس النعمان بن المنذر ظنه السيء فيه. وقد استعان بموهبته في اختراع الصور والمعاني والتدقيق فيها، مدبجًا في ذلك قصائد طوالًا تعد من أروع ما خلّفه العصر الجاهلي لا لطولها فحسب؛ بل لما فيها من صدق اللهجة وسهولة اللفظ وحسن ديباجته. وقد أسعفه في ذلك ذوقه الحضري الذي خلصه من خشونة البدو ومن الأنفة الجامحة؛ فإذا ذنبه يكبر في نفسه، وإذا هو يحس كأنه أتى جريرة لا تغتفر، فما يني يقدِّم للنعمان المعاذير متخذًا إليه كل ما يستطيع من البراهين ومن سبل التلطف والملاينة. وقد يؤديه ذلك إلى غير قليل من التذلل والاسترحام، حفاظًا على صداقته القديمة له واستبقاء لوده، وهو حسن تأت لا صغار نفس ولا مهانة، ولا طلبًا لعصافير النعمان كما قال أبو عمرو بن العلاء؛ وإنما هو الذوق الحضاري الذي اكتسبه النابغة والذي جعله يختلف عن معاصريه ويقترب من ذوق العباسيين المتحضرين، حين يشعرون بضخم ذنبهم لدى الممدوحين ويأخذون في التنصل منه، وتقديم شتى المعاذير. وهو يخلط اعتذاره بمديح النعمان والثناء عليه، وارجع إلى المعلقة فستراه يستهلها بوصف أطلال درامية، ثم وصف ناقته التي قطع بها الصحراء إلى مقصده مفتنًّا في تصويرها، ومشبهًا لها بثور تناضله كلاب الصيد؛ حتى إذا انتهت به إلى النعمان أخذ يمدحه بكرمه الفياض وما وهبه من قطعان الإبل والخيل ومن الجواري المنعمات، ثم مضى يستعطفه قائلًا: فَلا لَعَمرُ الَّذي مَسَّحتُ كَعبَتَهُ ... وَما هُريقَ عَلى الأَنصابِ مِن جَسَدِ1 وَالمُؤمِنِ العائِذاتِ الطَيرِ تَمسَحُها ... رُكبانُ مَكَّةَ بَينَ الغَيلِ وَالسَعَدِ2   1 مسحت: لمست ألتمس البركة. هريق: سال. الجسد: الدم. الأنصاب: الحجارة التي كانوا يذبحون عليها قرابينهم للآلهة. 2 المؤمن: الذي آمنها من الخوف. العائدات: اللاجئات إلى الحرم. تمسحها الركبان: يريد أنها تمسح عليها ولا تهيجها بصيد. الغيل والسعد: أجمتان بين مكة ومنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ما قُلتُ مِن سَيِّئٍ مِمّا أَتَيتَ بِهِ ... إِذًا فَلا رَفَعَت سَوطي إِلَيَّ يَدي إِلّا مَقالَةَ أَقوامٍ شَقيتُ بِها ... كانَت مَقالَتُهُم قَرعًا عَلى الكَبِدِ1 إِذًا فَعاقَبَني رَبّي مُعاقَبَةً ... قَرَّت بِها عَينُ مَن يَأتيكَ بِالفَنَدِ2 أُنبِئتُ أَنَّ أَبا قابوسَ أَوعَدَني ... وَلا قَرارَ عَلى زَأرٍ مِنَ الأَسَدِ3 مَهلًا فِداءٌ لَكَ الأَقوامُ كُلُّهُمُ ... وَما أُثَمَّرُ مِن مالٍ وَمِن وَلَدِ4 لا تَقذِفَنّي بِرُكنٍ لا كِفاءَ لَهُ ... وَإِن تَأَثَّفَكَ الأَعداءُ بِالرِفَدِ5. وواضح أنه يقسم له بأيمانه الوثنية المغلظة أنه بريء مما يتهم به من غدر، ويستنزل غضب ربه عليه إن كان غير صادق، ولتشلَّ يده إن كان ما يقول الوشاة صحيحًا. ولا يلبث أن يصور نفسه ضعيفًا أمام النعمان وقوته وبطشه، ويمثله أسدًا جائعًا يزأر، وقد وقع منه موقع الفريسة. وسرعان ما يعود إلى الاستعطاف؛ فالناس جميعًا من غساسنة وغير غساسنة فداء النعمان، بل إنه ليفديه بماله وولده، ويقول له لا ترمني بما لا أطيق منك، وأنت الذي لا يستطيع الأعداء مهما تآزروا أن يثبتوا له. ويخرج من ذلك إلى مديحه، ثم يعود إلى استعطافه فيقول: فَما الفُراتُ إِذا هَبَّ الرِياحُ لَهُ ... تَرمي أَواذِيُّهُ العِبرَينِ بِالزَبَدِ6 يَمُدُّهُ كُلُّ وادٍ مُترَعٍ لَجِبٍ ... فيهِ رِكامٌ مِنَ اليَنبوتِ وَالخَضَدِ7 يَظَلُّ مِن خَوفِهِ المَلّاحُ مُعتَصِمًا ... بِالخَيزُرانَةِ بَعدَ الأَينِ وَالنَجَدِ8 يومًا بأجود منه سَيْبَ نافلةٍ ... ولا يحولُ عطاءُ اليوم دون غَدِ9   1 القرع: الضرب. 2 الفند: الكذب. 3 أبو قابوس: النعمان بن المنذر. 4 أثمر: أنمى وأجمع. 5 الكفاء: النظير والمثل. تأثف: تجمع. الرفد: الجماعات من الناس. 6 أواذيه: أمواجه. العبرين: الشاطئين. 7 مترع: مملوء. لجب: ذو صوت شديد. الينبوت: شجر. الخضد: المحطم من الأشجار. 8 الخيزرانة: سكان السفينة. الأين: التعب. النجد: الكرب. 9 سيب: عطاء. نافلة: زيادة يريد أن عطاءه وفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 هَذا الثَناءُ فَإِن تَسمَع بِهِ حَسَنًا ... فَلَم أُعَرِّض أَبَيتَ اللَعنَ بِالصَفَدِ1 ها إِنَّ ذي عِذرَةٌ إِلّا تَكُن نَفَعَتْ ... فَإِنَّ صاحِبَها مُشارِكُ النَّكَدِ2 وقد بدأ فشبهه بالفرات في كرمه، ثم أخذ يصف الفرات في ارتفاع فيضانه، وعمد إلى تفصيل الصورة، حتى يبرزها وحتى يظهر مقدرته الفنية في دقة التصوير؛ فهو قد علت أمواجه ورمت شاطئيه بالزبد، وهو ينساب حاملًا ما يقتلعه من الأشجار والنباتات، وإنه ليعصف بكل ما عليه حتى لنرى الملاح معتصمًا في مركبه بسكانها يخشى الغرق. وقد نفى أن يكون الفرات في فيضانه أكرم من النعمان وأكثر سَيْبًا. ودائمًا يحاول النابغة أن يخترع مثل هذه الصورة، ليدل على براعته. ونراه يعود إلى استعطاف النعمان، وأنه قدم له هذا الثناء لا يبغي به نواله؛ وإنما يبغي رضاه، وأنه إن لم يقبل اعتذاره ألقى به في مهاوي النكد والهم. ومن بديع اعتذاراته قصيدته العينية، وفيها يقول: وَعيدُ أَبي قابوسَ في غَيرِ كُنهِهِ ... أَتاني وَدوني راكِسٌ فَالضَواجِعُ3 فَبِتُّ كَأَنّي ساوَرَتني ضَئيلَةٌ ... مِنَ الرُقشِ في أَنيابِها السُمُّ ناقِعُ4 يُسَهَّدُ مِن لَيلِ التَمامِ سَليمُها ... لِحَليِ النِساءِ في يَدَيهِ قَعاقِعُ5 تَناذَرَها الراقونَ مِن سوءِ سُمِّها ... تُطَلِّقُهُ طَورًا وَطَورًا تُراجِعُ6 أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لُمتَني ... وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ7   1 الصفد: العطاء. أبيت اللعن: تحية كانوا يحيون بها ملوكهم. 2 عذرة: اعتذار. مشارك النكد: حليف نكد وهم. 3 في غير كنهه: كنهه: حقيقته، يريد على غير ذنب منه. راكس: واد في منازل بني أسد. الضواجع: منحنى الوادي. 4 ساورتني: لدغتني. ضئيلة: أفعى دقيقة الجسم. الرقش: جمع رقشاء، وهي المنقطة نقطًا بيضاء وسوداء. ناقع قاتل. 5 يسهد: يمنع من النوم. ليل التمام: أطول ليالي الشتاء السليم: الملدوغ. قعاقع: أصوات. كانوا يجعلون الحلى في يد الملدوغ اعتقادًا منهم بأنها تشفيه. 6 يقول من خبثها لا تجيب الراقي. بل مرة تجيب ومرة لا تجيب. تناذرها الراقون: خوف بعضهم بعضًا منها. 7 تستك: تضيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 مَقالَةُ أَن قَد قُلتَ سَوفَ أَنالُهُ ... وَذَلِكَ مِن تِلقاءِ مِثلِكَ رائِعُ حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ ريبَةً ... وَهَل يَأثَمَن ذو أُمَّةٍ وَهوَ طائِعُ1 بِمُصطَحِباتٍ مِن لَصافٍ وَثَبرَةٍ ... يَزُرنَ إِلالًا سَيرُهُنَّ التَدافُعُ2 سَمامًا تُباري الريحَ خوصًا عُيونُها ... لَهُنَّ رَذايا بِالطَريقِ وَدائِعُ3 عَلَيهِنَّ شُعثٌ عامِدونَ لِحَجِّهِم ... فَهُنَّ كَأَطرافِ الحَنيِّ خَواضِعُ4 لَكَلَّفتَني ذَنبَ اِمرِئٍ وَتَرَكتَهُ ... كَذي العُرِّ يُكوى غَيرُهُ وَهوَ راتِعُ5 فَإِن كُنتُ لا ذو الضِغنِ عَنّي مُكَذَّبٌ ... وَلا حَلفي عَلى البَراءَةِ نافِعُ وَلا أَنا مَأمونٌ بِشَيءٍ أَقولُهُ ... وَأَنتَ بِأَمرٍ لا مَحالَةَ واقِعُ فَإِنَّكَ كَاللَيلِ الَّذي هُوَ مُدرِكي ... وَإِن خِلتُ أَنَّ المُنتَأى عَنكَ واسِعُ6 خَطاطيفُ جُحنٌ في حِبالٍ مَتينَةٍ ... تَمُدُّ بِها أَيدٍ إِلَيكَ نَوازِعُ7 أَتوعِدُ عَبدًا لَم يَخُنكَ أَمانَةً ... وَتَترُكُ عَبدًا ظالِمًا وَهوَ ضالِعُ8 وَأَنتَ رَبيعٌ يُنعِشُ الناسَ سَيبُهُ ... وَسَيفٌ أُعيرَتهُ المَنِيَّةُ قاطِعُ9 أَبى اللَهُ إِلّا عَدلَهُ وَوَفاءَهُ ... فَلا النُكرُ مَعروفٌ وَلا العُرفُ ضائِعُ10.   1 أمة هنا: دين 2 بمصطحبات: أقسم بالإبل التي تصطحب في المسير إلى الحج. لصاف وثبرة: موضعان في ديار تميم. إلال: جبل بعرفة. التدافع: العجلة. 3 سمامًا: طائر شديد الطيران شبه به الإبل في سرعتها. خوصًا: غائرات من شدة السير وإجهاده. رذايا: جمع رذية وهي الساقطة إعياء من الإبل. ودائع: مستودعات في الطريق. يريد ما سقط منهن إعياء فترك. 4 شعث: جمع أشعث وهو المغبر من طول السفر. الحني: القسي. الخواضع: المتطامنة رءوسها من الأرض. 5 العر: الجرب. وكانوا يداوون الإبل منه بكيها. 6 المنتأى: المكان النائي البعيد. 7 مر شرحه 8 ضالع: مائل عن الحق، ويروى ظالع وهو الجائر المذنب. 9 الربيع هنا: الغيث: السيب: العطاء. 10 النكر: المنكر. العرف: المعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وَتُسقى إِذا ما شِئتَ غَيرَ مُصَرَّدٍ ... بِزَوراءَ في حافاتِها المِسكُ كانِعُ1 وهو في أول هذه الأبيات يقول له: إن وعيدك أتاني وأنا آمن في قومي وبيني وبينك منازل بني أسد ومن وراءهم، فألمت حفظًا للعهد وبت مسهدًا؛ كأنما لدغتني أفعى، وهي صورة بارعة، وقد أخذ يدقق فيها حتى يجسم ألمه، فهي أفعى من الرقش تستودع السم في أنيابها الحادة؛ فمن عضته لم يطف به النوم من شدة الألم، وعلق عليه أهله الحلى والخلاخيل حتى يفيق ويبرأ. وهي من الأفاعي الخبيثة التي قلما أجابت الرقى، وإن الرقاة والحاوين ليرهبونها ويتخوفون من يطأوا حماها. ويصور النابغة للنعمان فزعه حين أتاه أنه يلومه، ويحلف له بأيمانه الوثنية، ويختار هنا الحلف بالإبل التي كانوا ينذرونها لآلهتهم، ويقف ليعطينا صورة عن هذه الإبل؛ فهي تقبل على مكة مسرعة سرعة السمام، حتى لكأنها تباري الريح، وقد أجهدت من السير وطول السفر، حتى إن بعضها سقط في الطريق إعياء، فلم ينبعث ولم يستطع براحًا. وقد بقيت بقية عليها شعث مغبرون يقصدون الحج، وقد أخذها النحول حتى لكأنها القسي الضامرة. وهذا اليمين العظيم يقسم به متنصلًا مما سمع عنه من بعض الوشاة أنه انصرف إلى الغساسنة يمدحهم ويهجوه، وكان حريًّا به أن ينزل سخطه لا عليه؛ وإنما على هذا الواشي وإلا فمثله ومثل من وسوس للنعمان مثل البعير السليم يكوى من الجرب، والأجرب راتع بجانبه لا يصيبه كي ولا أذى. وهي صورة أخرى بارعة، ويقول إن كنت لا تكذب من يضطغن عليَّ ولا تصدق يميني ولا حلفي فما أحراني بالرهبة منك والخوف من بطشك، ويودع ذلك صورة رائعة؛ إذ يتخيل النعمان كالليل، لا مفر لشخص من أن يطبق عليه. وعاد إلى الاستعطاف فصور قصائده التي يرسل بها إليه ليلين قلبه عليه كأنها خطاطيف معوجة ثبِّتت في حبال متينة، وأيدي النابغة تمد بها إليه، تريد أن تظفر بعطفه ورضاه، ويصور له أمانته وأنه لا يخون عهده؛ بينما من يختانون هذا العهد يقربهم ويرعاهم، ويختم اعتذاره إليه   1 مصرد: من التصريد وهو الشرب دون الري. زوراء: كأس طويلة من فضة كان النعمان يتشرب فيها. كانع: لاصق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بمديحه والثناء عليه؛ فهو غيث منعش لأوليائه وسيف مصلت على أعدائه، وقد براه الله لرعيته عادلًا وفيًّا، لا يلقى المنكر بالمعروف ولا المعروف بالمنكر، يجزي على الإساءة إساءة وعلى الإحسان إحسانًا. وانتهى بتمثيل ما هو فيه من نعيم؛ فهو يشرب في كأس مفضضة مزج ما فيها بالمسك والطيب. ومن رائع اعتذاراته إليه قوله: أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لِمتَني ... وَتِلكَ الَّتي أهتَمُّ مِنها وَأَنصَبُ1 فَبِتُّ كَأَنَّ العائِداتِ فَرَشنَني ... هَراسًا بِهِ يُعلى فِراشي وَيُقشَبُ2 حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ رَيبَةً ... وَلَيسَ وَراءَ اللَهِ لِلمَرءِ مَذهَبُ لَئِن كُنتَ قَد بُلِّغتَ عَنّي خِيانَةً ... لَمُبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وَأَكذَبُ وَلَكِنَّني كُنتُ امرًَا لِيَ جانِبٌ ... مِنَ الأَرضِ فيهِ مُستَرادٌ وَمَذهَبُ 3 مُلوكٌ وَإِخوانٌ إِذا ما أَتَيتُهُم ... أُحَكَّمُ في أَموالِهِم وَأُقَرَّبُ كَفِعلِكَ في قَومٍ أَراكَ اِصطَنَعتَهُم ... فَلَم تَرَهُم في شُكرِ ذَلِكَ أَذنَبوا وَإِنَّكَ شَمسٌ وَالمُلوكُ كَواكِبٌ ... إِذا طَلَعَت لَم يَبدُ مِنهُنَّ كَوكَبُ فَلا تَترُكَنّي بِالوَعيدِ كَأَنَّني ... إِلى الناسِ مَطلِيٌّ بِهِ القارُ أَجرَبُ4 أَلَم تَرَ أَنَّ اللَهَ أَعطاكَ سورَةً ... تَرى كُلَّ مَلكٍ دونَها يَتَذَبذَبُ5 وَلَستَ بِمُستَبقٍ أَخًا لا تَلُمَّهُ ... عَلى شَعَثٍ أَيُّ الرِجالِ المُهَذَّبُ6 فَإِن أَكُ مَظلومًا فَعَبدٌ ظَلَمتَهُ ... وَإِن تَكُ ذا عُتبى فَمِثلُكَ يُعتِبُ7 وواضح أنه يصور نفسه في أول هذه الأبيات حين بلغه لوم النعمان بمريض،   1 أنصب: أجهد جهدًا شديدًا. 2 الهراس: شجر كثير الشوك. العائدات: الزائرات في المرض، فرشنني: بسطن لي. يقشب: يجدد. 3 جانب من الأرض: متسع. مستراد: يذهب فيه الإنسان كما يريد. كناية عن إكرام الغساسنة له في ديارهم. 4 القار: القطران، وكانوا يداوون به الإبل الجربى. 5 السورة: المنزلة. يتذبذب: يضطرب ولا يصل إليها. 6 شعث: فساد. تلمه. تجمعه وتضمه. 7 عتبى: رضًا. يعتب: يعطي العتبى والرضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قد أخذته آلام المرض وأهله يسوون له فراشه رحمة به وعطفًا عليه. ويحلف له بأنه بريء مما اتهمه به الواشي؛ إذ لا يزال يرعى أمانة عهده، وكل ما هناك أنه ألم بديار الغساسنة؛ فأكرموه وحكموه في أموالهم، فوجب عليه أن يشكر لهم يدهم وصنيعهم كما يشكر النعمان من يرعاهم من الشعراء ويغدق عليهم من نواله. وهو بذلك يقيم الحجة على النعمان؛ فليس هناك كفران لنعمته عليه ولا جحود لولائه، وما يلبث أن يرفعه على جميع الملوك من غساسنة وغير غساسنة؛ فهو كالشمس الساطعة وغيره من الملوك كالنجوم، يتوارون في ضيائه ومجده، وهي صورة باهرة لا شك أنها تركت أثرًا بليغًا في نفس النعمان. وقد تلاها باستعطافه؛ فصور له ما صبَّه عليه من غضب بالقار يُصَبُّ على الأجرب فيتحاماه الناس. ويعود إلى بيان منزلة صاحبه وأن غيره من الملوك لا يرتقون إلى مكانته؛ بل يضطربون دون سمائه. ويقول له: هَبْ أن مديحي للغساسنة هفوة واعف عني؛ فإن لكل شخص هفوة، وأين الأخ الذي لا يهفو ولا يعثر؟ ومثلك حري بأن لا يظلم أصفياءه ومن يخلصون له الولاء، فإن ظلمتني قبلت ظلمك، وإن أسدلت عليَّ عفوك ورضاك فليس غريبًا منك؛ فمثلك يعتب ويصفح الصفح الجميل. ولعل في كل ما قدمنا ما يدل دلالة بينة على براعة النابغة في اعتذاره ومديحه جميعًا؛ فقد كان يعرف كيف ينوع معانيه وكيف يسلك إليها شعابًا لم يسلكها أحد من قبله. والذي لا ريب فيه أن باب الاعتذار والاستعطاف ضيق؛ ولكنه عرف بمقدرته الخيالية كيف ينفذ منه إلى صور طريفة ومعان دقيقة، يقوده في ذلك ذوقه الحضري الذي نصب أمام عينه اتصاله بالغساسنة ذنبًا كبيرًا وجرمًا لا يغتفر في حق النعمان بن المنذر، وقد أخذ يتنصل من هذا الجرم تارة ويعظم فضيلة العفو عن المذنب تارة ثانية. وبذلك كان فاتحًا لباب الاعتذار على مصراعيه، وعلى هَدْيه تبعه الشعراء في العصور الإسلامية متخذين منه قُدْوتهم. وإذا كنا أعْجبنا باعتذارات النابغة ومديحه فإننا نعجب أيضًا برثائه للنعمان بن الحارث الأصغر الغساني، وهو يستهله بالنسيب ثم يصف ناقته مشبهًا لها بحمار وحشي، ويخرج من ذلك إلى الرثاء؛ فيقول إنه أحزنه نعي النعمان وإن كان سَرَّ قيسًا لما أثخن فيها بحروبه. وهو يعبِّر بذلك عن وفائه واعترافه بالجميل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ومن ثَمَّ لا يشمت بموت النعمان كما شمتت ذبيان وغيرها من قبائل قيس؛ بل إنه ليدعو على أعدائه أن لا يهنئوا بمصرعه، ويحدثنا عن جيوشه وانتصاراتها في القبائل، ويقف ليرد على من جهلوا شيمته من الحفاظ على العهد والضن بسابق الود؛ فقد ظنوا أنه لن يرثي النعمان ولن يذكره، ويقول كيف لا يذكره، وقد حرك موته ما يشبه الداء العضال في فؤاده، ونحس أنه سَعَر قلبه وأشعل صدره بشعلة من الحزن لا تخبو. وما زال يبكيه متعزيًا بأن الموت سنة الأحياء وأنه كأس دائر على الجميع، حتى قال داعيًا له ومترحمًا عليه. سَقى الغَيثُ قَبرًا بَينَ بُصرى وَجاسِمٍ ... بِغَيثٍ مِنَ الوَسمِيِّ قَطرٌ وَوابِلُ1 وَلا زالَ رَيحانٌ وَمِسكٌ وَعَنبَرٌ ... عَلى مُنتَهاهُ ديمَةٌ ثُمَّ هاطِلُ2 وَيُنبِتُ حَوذانًا وَعَوفًا مُنَوِّرًا ... سَأُتبِعُهُ مِن خَيرِ ما قالَ قائِلُ3 وهو يستمطر على قبره شآبيب الغيث، ولا يكتفي بذلك بل يدعو له أن يظل قبره معطرًا بالريحان والمسك والعنبر، ولا تزال تمده الأمطار بما ينبت عنده النباتات العاطرة من مثل الحوذان والعرف. وحقًّا كان الشعراء حوله ومن قبله يستسقون السحاب لقبور من يفقدونهم؛ ولكنه مدَّ أطناب الصورة بذوقه الحضري وأضاف إليها الريحان والمسك والعنبر، ودعا للأرض أن تنبت من حول النعمان الأزهار والرياض. وهي صورة حضارية تقابل أختها التي مرت في مديحه لأخيه عمرو. وقد قدَّم لهذه المرثية كما قلنا بالنسيب، وهو يقدم به لبعض اعتذاراته مؤتسيًا بمن حوله من شعراء الجاهلية إذ كانوا يضعونه غالبًا في مقدمات قصائدهم، وكأنهم يريدون أن يستوحوا المرأة شعرهم وقصيدهم. ومن نسيبه قوله في فاتحة معلقته التي أودعها إحدى اعتذاراته: يا دارَ مَيَّةَ بِالعَلياءِ فَالسَنَدِ ... أَقوَت وَطالَ عَلَيها سالِفُ الأَبَدِ4 وَقَفتُ فيها أُصَيلانًا أُسائِلُها ... عَيَّت جَوابًا وَما بِالرَبعِ مِن أَحَدِ5   1 بصرى وجاسم: موضعان بالشام. الوسمي: أول المطر. وابل: غزير. 2 منتهاه: قبره. الديمة: المطر ليس فيه برق ولا رعد. الهاطل: المطر المتتابع. 3 الحوذان والعوف: نباتان طيبا الرائحة. 4 العلياء والسند: موضعان. أقوت: خلت. الأبد: الزمن. 5 أصيلانًا: تصغير أصلان جمع أصيل أو لعله مصدر من أصيل على وزن غفران. عيت: عجزت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 إِلّا الأَوارِيَّ لَأيًا ما أُبَيِّنُها ... وَالنُؤيَ كَالحَوضِ بِالمَظلومَةِ الجَلَدِ1 رَدَّت عَلَيهِ أَقاصيهِ وَلَبَّدَهُ ... ضَربُ الوَليدَةِ بِالمِسحاةِ في الثَأَدِ2 خَلَّت سَبيلَ أَتِيٍّ كانَ يَحبِسُهُ ... وَرَفَّعَتهُ إِلى السَجفَينِ فَالنَضَدِ3 أَمسَت خَلاءً وَأَمسى أَهلُها اِحتَمَلوا ... أَخنى عَلَيها الَّذي أَخنى عَلى لُبَدِ4 وهو يستهلها بنداء دار مية ولا يسمع رجعًا لندائه ولا ردًّا عليه؛ فقد خلت من سكانها وبارحوها منذ أمد طويل. ويقول إنه وقف بها وقت الأصيل يسائلها ولا من مجيب، ويصف آثارها وما أبقى الزمن منها، ويقول لم يبق منه إلا الأوتاد وإلا النؤى. ويطيل في وصفه ليظهر قدرته الخيالية؛ فقد حفرته جارية في أرض المطر. وقد أبدع في تسمية الأرض التي لم تحفر بالمظلومة، وهو أول من أعطاها هذا الاسم، كأنه أحس إزاء الصخر الذي لا يُحْرَثُ ولا يزرع بضرب من الظلم. وقد ختم نسيبه بإظهار هذه الدار التي رحل عنها أهلها بمظهر بال، فقد جرَّت الأيام عليها أذيال البلى والعفاء، كما جرَّتها من قبل على لُبد نَسْر لقمان المشهور بطول عمره وطول سلامته. وواضح أن هذا النسيب فيه قدرة بارعة على الوصف، ولكن ليس فيه عاطفة قوية، وربما رجع ذلك إلى وقار النابغة؛ فهو ينسب بالمرأة لا ليصور حبًّا، وإنما ليتمسك بهذا التقليد الثابت عند الجاهليين من افتتاح قصائدهم بوصف آثار الديار وما صنعت بها الأحداث. وقد أوشك في مقدمته لاعتذاريته العينية أن يصور عواطفه وحبه ولكنه لم يكد يقول: فكفكفتُ مني عبرةً فَرَدَدْتُها ... على النَّحر منها مُستَهِلٌّ ودامعُ5   1 الأواري: الأوتاد وما يربط بها من حبال. النؤى: حفرة حول الخيام تمنع عنها السيول. المظلومة: الأرض صعبة الحفر. الجلد: الصلبة. 2 لبده: جمعه. الوليدة: الأمة. الثأد: الثرى الندى. 3 خلت: شقت. الأتي: السيل. رفعته: أعلته. السجفان: مصراعا الستر في الخيمة. النضد: المتاع. 4 أخنى عليها: أصابها بآفات الدهر. لبد: نسر للقمان يقولون إنه عمر طويلًا. 5 كفكف الدمع: مسحه المستهل: السائل. الدامع: الذي يترقرق في العين قبل أن يسقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 حتى أمسك نفسه، وعاتبها على الصبوة وقد علا رأسه الشيب. ونراه في معلقته يخرج من الغزل إلى وصف ناقته على عادة الشعراء من حوله؛ فصور قوة متنها وسرعة سيرها ومَضائها، ثم أخذ في تشبيهها بثور وحشي، ودفعه ذلك إلى وصف صائد وأكلبه وما نشب بينها وبين هذا الثور من عراك، يقول: مِن وَحشِ وَجرَةَ مَوشِيٍّ أَكارِعُهُ ... طاوي المُصَيرِ كَسَيفِ الصَيقَلِ الفَرَدِ1 أسْرَت عَلَيهِ مِنَ الجَوزاءِ سارِيَةٌ ... تُزجي الشَمالُ عَلَيهِ جامِدَ البَرَدِ2 فَاِرتاعَ مِن صَوتِ كَلّابٍ فَباتَ لَهُ ... طَوعَ الشَوامِتِ مِن خَوفٍ وَمِن صَرَدِ3 فَبَثَّهُنَّ عَلَيهِ وَاِستَمَرَّ بِهِ ... صُمعُ الكُعوبِ بَريئاتٌ مِنَ الحَرَدِ4 وَكانَ ضُمرانُ مِنهُ حَيثُ يوزِعُهُ ... طَعنَ المُعارِكِ عِندَ المُحجَرِ النَجُدِ5 شَكَّ الفَريصَةَ بِالمِدرى فَأَنقَذَها ... طَعنَ المُبَيطِرِ إِذ يَشفي مِنَ العَضَدِ6 كَأَنَّهُ خارِجًا مِن جَنبِ صَفحَتِهِ ... سَفّودُ شَربٍ نَسوهُ عِندَ مُفتَأَدِ7 فَظَلَّ يَعجُمُ أَعلى الرَوقِ مُنقَبِضًا ... في حالِكِ اللَونِ صَدقٍ غَيرِ ذي أَوَدِ8 لَمّا رَأى واشِقٌ إِقعاصَ صاحِبِهِ ... وَلا سَبيلَ إِلى عَقلٍ وَلا قَوَدِ9 قالَت لَهُ النَفسُ إِنّي لا أَرى طَمَعًا ... وَإِنَّ مَولاكَ لَم يَسلَم وَلَم يَصِدِ10   1 وجرة: موضع بنجد. موشى أكارعه: مزينة قوائمه بالنقط. طاوي المصير: ضامر البطن. الصيقل: الحداد. الفرد: المسلول. 2 أسرت: جاءت ليلًا. الجوزاء: برج في السماء. سارية: سحابة. تزجي: تدفع الشمال: ريح الشمال. 3 الشوامت: القوائم ويريد بطوعها إسراعها به. والصرد: البرد. 4 استمر به: اشتد به وقوي. صمع: ضوامر. بريات: بريئات. الحرد: العرج. 5 ضمران: اسم كلب للصائد. 6 يوزعه: يغريه. المحجر: حمى القبيلة النجد: الشجاع. 6 الفريصة: لحم الكتف. المدرى: القرن. المبيطر: معالج الحيوان. العضد: داء يلم بكتفها. 7 السفود: الحديدة التي يشوى عليها اللحم. نسوه: تركوه. مفتأد: موضع النار الذي يشوى فيه. 8 يعجم: يعلك. صدق: صادق في الطعن. أود: عوج. 9 واشق: اسم كلب آخر للصائد. الإقعاص: القتل السريع. العقل: الدية. القود: القصاص. 10 المولى: الناصر. يسلم هنا: يأسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وهو يبدأ برسم صورة هذا الثور؛ فقوائمه مزينة بما فيها من نقط، وهو ضامر كالسيف المسلول، يجري في الصحراء خائفًا متوجسًا لما تسقط عليه السماء من برد لا ينقطع. ولم يلبث أن ذعر ذعرًا شديدًا؛ إذ سمع صوت قانص يهتف بكلابه، فأسرع في جريه، ولمحه القانص فبعث عليه كلابه؛ فاشتدت قوائمه وكعوبه مستخرجًا منها كل ما يبتغي من سرعة، ولكن الكلاب لحقت به، وكان أول ما لقيه منها ضمران، ونشب بينهما صراع عنيف، أهوى فيه الثور على خصمه بقرنيه، ولم يلبث أن طعنه بأحدهما طعنة نجلاء، نفذت إلى ظاهر صدره؛ فكنت ترى الكلب من وهلته يعلك أعلى القرن وما خرج منه متقبضًا متألمًا إلى أن لفظ أنفاسه. ولما رأى واشق ما أصاب أخاه وأنه لن يستطيع أن يعينه ولا أن يدرك بثأره أحجم عن لقاء الثور إبقاء على نفسه، وقد أخذه اليأس من أن يصيد صاحبه كما كان ينبغي، فدون بغيته الموت والهلاك. وهذا الوصف أكثر حيوية من النسيب السابق، لما بثَّ النابغة في الحيوان من حياة الإنسان وعواطفه وقلقه وطمعه ويأسه؛ فالثور خائف يترقب، والكلاب طامعة تتربص. وتنشب المعركة وكأنها معركة آدمية، فالثور يطعن طعن الرجل المدافع عن عرينه وحماه. ويقتل ضمران. وينظر أخوه واشق فيرى أن القصاص غير ممكن، وتحدثه نفسه بأنه يطمع في غير طائل، وما يلبث أن ينصرف عن المعركة، وقد قذفت به في مهاوي اليأس والقنوط. ولا ينسى النابغة مهارته في التصوير سواء من حيث تمثيل المنظر وتجسيمه أو من حيث التشبيهات وإدخالها في نسيج الأبيات. وفي ديوانه فخر وهجاء يتصل بشئون قبيلته البدوية وما كان بينها وبين بني أسد من حلف وبينها وبين بني عامر من حرب، وهو في هذا القسم من شعره لا يتوفر على إحكامه وإظهار مهارته فيه شأنه في المديح والاعتذار والرثاء، وكأنه كان يمنعه وقاره أن يتمادى فيه، وخاصة في الهجاء، واقرأ له هذه الأبيات في عامر بن الطفيل وقد بلغه أنه يهجوه: فإن يك عامرٌ قد قال جَهْلًا ... فإن مَطِيَّةَ الجهل السِّبابُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فَكُن كَأَبيكَ أَو كَأَبي بَراءٍ ... تُوافِقكَ الحُكومَةُ وَالصَوابُ1 وَلا تَذهَب بِحِلمِكَ طامِياتٌ ... مِنَ الخُيَلاءِ لَيسَ لَهُنَّ بابُ2 وَإِنَّكَ سَوفَ تَحلُمُ أَو تَناهَى ... إِذا ما شِبتَ أَو شابَ الغُرابُ3 وهي أبيات تخلو من الإقذاع في الهجاء المعروف عند الجاهلين، وهو يعمد فيها بذوقه الحضري إلى التهكم به والسخرية منه، فيصفه بالحمق، ويصغر إليه نفسه بتفضيل أبيه وعمه عليه، وينهاه عن الخيلاء، ويؤمله في أنه سوف يحلم حين تتقدم به السن أو لعله لا يحلم أبدًا. وواضح أن الشطر الثاني في البيت الأول حكمة سائرة، وتكثر هذه الحكم عند النابغة يأتي بها في ثنايا شعره وقصيده، فتكون شطرًا كهذا الشطر، وقد تكون بيتًا كالبيت الأخير من هذه الأبيات، وفيما تمثلنا من شعره كثير منها، ومن رائعها قوله: وَلَستَ بِمُستَبقٍ أَخًا لا تَلُمَّهُ ... عَلى شَعَثٍ أَيُّ الرِجالِ المُهَذَّبُ ومما لا شك فيه أنه يدل بهذه الحكم على صدق نظرته ودقة حسه. وجوانب كثيرة في شعر النابغة تفصح عن مهارته في صوغ القصيدة ونظمها، سواء من حيث ألفاظه أو من حيث صوره ومعانيه؛ أما من حيث الألفاظ فإنك لا تقع منها على لفظة نابية؛ إنما تقع على الألفاظ المحكمة المستخدمة في دلالاتها الدقيقة، ولعل ذلك ما جعله يلتزم الألفاظ البدوية الغريبة حين يصف الديار والصحراء والحيوان الوحشي، أما حين يمدح الملوك أو يرثيهم أو يعتذر إليهم فإنه يستخدم الألفاظ المأنوسة الجزلة الناعمة. وهذه البراعة عنده جعلت نقاد العصر العباسي يقولون: إنه "كان أحسن الجاهلين ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام وأجزلهم بيتا4". على أنهم لم يلبثوا أن ادعو عليه أنه كان يقوي في شعره محتجين على ذلك ببيت في قصيدة المتجردة التي وُضعت عليه؛ فقد جاء فيها بيت مرفوع الروي؛ بينما رويها المطرد مكسور، ورووا في ذلك قصة، هي أن النابغة قدم   1 أبو براء: عامر بن مالك ملاعب الأسنة وهو عم عامر بن الطفيل. 2 طاميات: فائضات ومرتفعات. ليس لهن باب: لا مخرج منهن. 3 أو شاب الغراب: ضرب النابغة ذلك مثلًا لعامر وأنه لن يحلم أبدًا. 4 طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص 46 وانظر الشعر والشعراء 1/ 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 يثرب؛ فعاب عليه أهلها ذلك في قصيدته المذكورة؛ فلم يأبه لهم حتى أسمعوه إياه في غناء، ففطن إلى ما قالوا ولم يعد إلى ذلك1. ولكن القصيدة كما قدمنا مما نُحل على النابغة، فحري أن تكون القصة مثلها منحولة. وإذا كان النابغة يُعنى بألفاظه عناية راعت السابقين فإنه يعني كذلك بمعانيه، وهي عناية أتاحت له كثرة الخواطر في اعتذارياته على الرغم من ضيق هذا الموضوع، وأيضًا فإنها أتاحت له ضربًا من ترتيب أفكاره، ويتضح ذلك في تنسيقه لموضوعات بعض قصائده؛ إذ نراه يحسن التخلص من موضوع إلى موضوع، وارجع إلى معلقته فإنك تراه يخرج من النسيب إلى وصف ناقته خروجًا تسنده المناسبة؛ حتى إذا أتم هذا الوصف قال: فتلك تبلغني النعمانَ إن له ... فضلًا على الناس في الأدنى وفي البعدِ وكذلك صنع في اعتذاريته العينية فإنه خرج من النسيب إلى الاعتذار خروجًا متصلًا؛ إذ قال إنه كف عن التشبيب والحب لشيبه ولما يشغله من هم، هو غضب النعمان؛ على هذه الشاكلة. وقد حال همٌّ دون ذلك شاغلٌ ... مكان الشَّغاف تبتغيه الأَصابعُ2 وعيدُ أَبي قابوس في غير كُنْهِه ... أتاني ودوني راكسٌ فالضَّواجع وهذه العناية البالغة بالمعاني والألفاظ كان يؤازرها عنده عنايته بالصور وما يطوى فيها من تشبيهات واستعارات، ولا نلاحظ عنده الكثرة من الصور فحسب؛ بل نلاحظ أيضًا القدرة على الابتكار ومفاجأة السامع بالأخيلة التي تخلب لُبّه، وخاصة حين يتنصل للنعمان بن المنذر من ذنبه، وحين يصور بطشه بمن يغضب عليهم مستعطفًا مسترحمًا. وكان له ذوق جيد في اختيار صوره ومعانيه جميعًا، وهو ذوق هذبته الحضارة التي نعم بها في الحيرة وبلاط الغساسنة؛ فإذا هو رقيق الحس رقة شديدة، وإذا هو يأتي في مديحه ورثائه بمعان حضارية غير مألوفة للجاهلين. وليس ذلك فحسب؛ فإنه يفتح صفحة جديدة هي صفحة.   1 ابن سلام ص 55 وما بعدها والأغاني "طبعة دار الكتب" 11/ 10. 2 الشفاف: حجاب القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الاعتذاريات والاستعطافات وما يجري فيها من الحس المرهف والشعور الدقيق، وتسربت من ذلك أسراب في جميع موضوعات شعره، حتى الهجاء. وإذا أضفنا إلى كل ذلك عند النابغة أخلاقه الرفيعة التي تتمثل في وقاره وارتفاعه عن الدنيات ووفائه للأصدقاء والأحلاف وحفاظه الشديد على العهد وسابق الود؛ أمكننا أن نفهم منزلته التي احتلها في العصر الجاهلي وأسبابها؛ إذ جعلوه محكمًا بين الشعراء في عُكاظ كما قدمنا، وكأنه في رأيهم الشاعر الفذّ الذي لا يشق غباره والذي لا ينطق عن وهوى أو عصبية، ومن ثم كان حكمه قاطعًا لا يقبل طعنًا ولا نقضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الفصل التاسع: زهير بن أبي سلمى 1- قبيلته : هو زهير بن أبي سُلْمى ربيعة بن رياح المُزَني، فأبوه من قبيلة مُزَيْنة، وكانت تجاور في الجاهلية بني عبد الله بن غطفان حيث كانوا ينزلون في الحاجر بنجد شرق المدينة وينزل معهم بنو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان أخوال أبيه ربيعة. ويحدثنا الرواة أنه أقام فيهم زمنًا مع أمه، وحدث أن أغار مع قوم منهم على طيء وأصابو نعمًا كثيرة وأموالًا، ولما رجعوا لم يفردوا له سهمًا في غنائمهم؛ فغاضبهم وانطلق بأمه إلى قبيلته مزينة، ثم لم يلبث أن أقبل في جماعة منها مغيرًا على عشيرة أخواله، ولم يكادوا يتوسطون ديارها حتى تطايروا راجعين وتركوه وحده؛ فأقبل حتى دخل في أخواله، ولم يزل فيهم حتى توفي ومن ثم ولد له زهير وأولاده في منازل بني مرة وبني عبد الله بن غطفان1. وكان ذلك سببًا في أن يضطرب الرواة وأن يظن بعضهم أن زهيرًا غطفاني القبيلة2، وهو في الحقيقة مزني النسب غطفاني النشأة والمربى، وقد صرح ابنه كعب بهذا النسب؛ إذ يقول في بعض شعره ردًّا على مزرد بن ضرار وقد عَزاه إلى مزينة3: هم الأصل مني حيث كنتُ وإنني ... من المزنيين المصفَّيْنَ بالكرمْ ويظهر أن ربيعة لم يعش طويلًا في عشيرة أخواله، ويقول الرواة إن امرأته تزوجت من بعده أوس بن حجر الشاعر التميمي المشهور. وهنا يلمع في حياة زهير اسم خاله بشامة بن الغدير؛ فقد كفله هو وإخوته، ونعرف منهم سلمى كما نعرف أخرى تسمى الخنساء.   1 أغاني "طبعة دار الكتب" 10/ 291 وما بعدها. 2 انظر ترجمة زهير في الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 86. 3 طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص88 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وقد عاش زهير في خلال هذه الحروب التي نشبت بين عبس وذبيان، حروب داحس والغبراء التي سبق أن تحدثنا عنها في غير هذا الموضع، وقد أسهمت عشيرة أخواله، في تلك الحروب وصليت نارها، وأيضًا فإنها صليت نيران حروب أخرى كانت تنشب بينها وبين بعض العشائر الذبيانية، وفي شعر خاله بشامة ما يصور تلك الحروب الأخيرة؛ فقد رَوَى له صاحب المفضليات قصيدتين يحرض فيهما عشيرته أن لا يخذلوا حلفاءهم "الحُرَقة" وأن يقفوا معهم ضد بعض العشائر من بني سعد بن ذبيان. ومعنى ذلك أن الأيام التي عاشها زهير في عشيرة أخواله الذبيانيين لم تكن أيام استقرار وأمن؛ إنما كانت أيام حروب وسفك للدماء، فدائمًا تشن الغارات، ودائمًا تجيش القلوب بالأضغان، فتُسَلُّ السيوف وتُقْطَع الرقاب. ويعودون من حروبهم دائمًا إلى رعي الإبل والأغنام، وإلى صيد بعض الحيوان، شأن القبائل النجدية في العصر الجاهلي. وكانت ذبيان وغيرها من قبائل غطفان تتعبد في الجاهلية العزى، ويقال إنها كانت شجرة أقامت حولها كعبة كانت تحج إليها، وتهدي القرابين، وقد هدمها خالد بن الوليد بأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، وربما قال الرواة إنها شجرات ثلاث، وقد يقولون إنه كان في الكعبة وثن. وأكبر الظن أن هذا هو الصحيح فقد كان فيها وثن العزى، وكان من حوله شجرات يقدسونها1. ومهما يكن فقد كانوا وثنيين، وظلوا على وثنيتهم إلى ظهور الدين الحنيف2.   1 انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 5/ 97 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 2- حياته : ليس بين أيدينا شيء واضح عن نشأة زهير سوى أنه عاش في منازل بني عبد الله بن غطفان وأخواله من بني مرة الذبيانيين، وفي كنف خاله بشامة بن الغدير، وكان شاعرًا مجيدًا كما كان سيدًا شريفًا، يقول ابن سلام: "وكان كثير المال، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ممن فقأ عيْنَ بعير في الجاهلية، وكان الرجل إذا ملك ألف بعير فقأ عين فحلها1". وكان بشامة من أحزم الناس رأيًا فكان قومه يستشيرونه ويصدرون عن رأيه، ولم يكن له ولد؛ فلما حضرته الوفاة جعل يقسم ماله في أهل بيته وأعطى زهيرًا نصيبًا منه ويُروَى أنه قال له: إني أعطيتك ما هو أفضل من المال، فقال زهير: ما هو؟ فقال له: شعري2، وهو لم يرث عنه شعره وماله فقط؛ بل ورث عنه أيضًا خلقه الكريم. وفي أخباره أنه تزوج من امرأتين: أم أوفى وهي التي يذكرها كثيرًا في شعره، ويظهر أن المعيشة لم تستقم بينهما؛ فطلقها بعد أن ولدت منه أولادًا ماتوا جميعًا. والثانية التي تزوجها من بعدها هي كبشة بنت عمار الغطفانية، وهي أم أولاده: كعب وبجير وسالم، ومات سالم في حياته ورثاه ببعض شعره3. وهو يتحدث في شعره طويلًا عن حروب داحس والغبراء مشيدًا بهرم بن سنان والحارث بن عوف سيدي بني مرة اللذين حقنا دماء عبس وذبيان بعد أن طال عليهما الأمد في تلك الحروب؛ إذ تحمَّلا ديات القتلى، ويقال إنها كانت ثلاثة آلاف بعير أدياها في ثلاث سنين4. واعتدَّ زهير بهذه المنة الجليلة فأشاد بها في معلقته، وظل طوال حياته يمدح هرمًا ويمجده، وهرم يغدق عليه5.وبذلك أعطى كل منهما صاحبه خير ما يملك، وقد ذهب ما أعطاه هرم لزهير مع الزمن، أما ما أعطاه زهير هرمًا فخلد على الأيام. ومن طريف ما يُروى في هذا الصدد أن هرمًا "حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه ولا يسأله إلا أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه: عبدًا أو وليدة أو فرسًا، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه؛ فكان إذ رآه في ملإ قال: عموا صباحًا غير هرم، وخيركم استثنيت6". ونراه يشيد بحصن بن حذيفة سيد بني فزارة الغطفانيين، وخاصة بحروبه مع أحلافه بني أسد ضد النعمان بن الحارث الغساني وما أنزلوا بجيوشه من هزائم منكرة7. وليس في ديوانه وراء حروب حصن وحروب داحس والغبراء إشارة إلى غارات سوى ما كان من غارة الحارث بن ورقاء الأسدي في جماعة من قومه على عشيرته، وقد أخذ فيما أخذ   1 ابن سلام: ص563. 2 أغاني: "طبع دار الكتب" 10/ 312. 3 أغاني: 10/ 313. 4 أغاني: 10/ 297. 5 أغاني: 10/ 305. 6 أغاني: 10/ 305. 7 انظر ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص143 ومختار الشعر الجاهلي للسقا ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 إبلًا وغلامًا لزهير يسمى يَسارًا. وغضب زهير غضبًا شديدًا، وهدده إن لم يرد عليه إبله أن يهجوه هجاء مقذعًا، مذكرًا له بما بين عشيرتيهما من مواثيق وعهود نقضها نقضًا، وخشي الحارث معرة لسانه وما يصب عليه من لعنات فرد عليه ماله وغلامه1. وتدل الدلائل على أنه عاش في سعة من المال مما ورثه عن خاله وما كان يقدِّم له هرم وغيره من أشراف قبيلته من أموال، وكان فيه توقر ونبل؛ ولعل ذلك ما جعل شعره يخلو من الفحش والعهر؛ فهو من ذوق آخر غير ذوق امرئ القيس المفتون بالنساء وتصوير مغامراته القصصية معهن. ومن غير شك كان وثنيًّا، مثله مثل قومه، وإن كنا نلاحظ عنده بعض أبيات يؤمن فيها باليوم الآخر وما يه من حساب وعقاب وثواب، يقول في معلقته: فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يُكْتم اللهُ يعلمِ يؤخَّرْ فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجَّل فيُنْقم وإذا صحت نسبة البيتين إليه كان ذلك دليلًا على أنه أحد من تحنفوا في الجاهلية وشكوا في دينهم الوثني2 وأغلب الظن أنه لم يفارق دين قومه؛ إنما هي خطرات كانت تمر به. وحياة زهير من الوجهة الأدبية طريفة؛ فقد كان أبوه شاعرًا، وكذلك كان خاله كما قدمنا، وأختاه سلمى والخنساء، وورث عنه الشعر ابناه كعب وبجير، واستمر الشعر في بيته أجيالًا؛ فقد كان عقبة بن كعب شاعرًا، وكان العوام بن عقبة شاعرًا أيضًا 3 ويقولون إنه رحل عن البادية وأقام في البصرة. فنحن بإزاء شاعر اتصل الشعر في بيته اتصالًا لم يعرف لشاعر جاهلي ممن عاصروه، وليس هذا فحسب؛ فإنه عاش للشعر يعلمه ابناه بجير وكعب من جهة، وأناسًا آخرين من غير بيته أشهرهم الحطيئة، فهو تلميذه وخريجه.   1 أغاني: 10/ 307 وما بعدها. 2 انظر في ذلك المحبر لابن حبيب ص238 حيث يذكر أنه كان ممن حرموا على أنفسهم في الجاهلية الخمر والسكر والأزلام. 3 مقدمة ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص9 وقارن بالأغاني 10/ 314 والشعر والشعراء: 1/ 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وفي أخباره مع ابنه كعب ما يدل على الطريقة التي كان يخرج بها الشعراء؛ فقد كان يلقنهم شعره ويروونه عنه، وما يزالون يتلقنونه، حتى تنطبع في أنفسهم طريقة نظم الشعر وصوغه، وهو في أثناء ذلك يمتحن قدرتهم، بما يلقي عليهم من أبيات يطلب إليهم أن يجيزوها، بنظم بيت على غرار البيت الذي ينشده في الوزن والقافية1. ويظهر أنه عمر طويلًا؛ إذ يقال في بعض الروايات إنه أدرك الإسلام وله مائة سنة ولم يسلم2، ولكن إدراكه الإسلام غير صحيح؛ إنما الصحيح أنه مات قبيل الإسلام بمدة قليلة، والذي أدرك الإسلام حقًّا ابناه بجير وكعب، وقد أسلما وحسن إسلامهما. ولكعب قصيدة معروفة في مديح الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، وهي ذائعة مشهورة.   1 ديوان زهير: ص256. 2 أغاني: 10/ 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 3- ديوانه : طبع ديوان زهير طبعات مختلفة؛ لعل أقدمها طبعة ألوارد في مجموعة العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين ومر بنا -في حديثنا عن ديوان امرئ القيس- أنه استخرجها من شرح الشنتمري للدواوين الستة: دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة وعلقمة وعنترة، وهي برواية الأصمعي؛ غير أنه جردها من الشرح وأضاف إلى تلك الدواوين أشعارًا أخرى مما وجدها في كتب الأدب والتاريخ. ونشر الديوان لندبرج، السويدي بشرح الشنتمري سنة 1889 في سلسلته التي سماها "طرفا عربية" ومكانه فيها الطرفة الثانية، وطبع بعد ذلك في مصر وغيرها طبعات تعتمد على نشرة لدنبرج؛ ونشره مصطفى السقا في مجموعته مختار الشعر الجاهلي، وهي تتضمن كما مر بنا نفس الدواوين الستة التي شرحها الشنتمري، وقد أضاف إليها شرحًا مختصرًا من شرح الشنتمري. ونشرت هذه الدواوين برواية الأعلم البطليوسي، وهي تلتقي برواية الشنتمري عنده، وكأنه هو الآخر عني في عمله برواية الأصمعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وواضح أن هذه الطبعات تعتمد على رواية الأصمعي البصرية، وكانت هناك مخطوطات عدة لرواية ثعلب الكوفية بدار الكتب المصرية، ورأى القائمون فيها أن ينشروا هذه الرواية، مستعينين بنسخة منها قديمة تملكها مكتبة الجمعية الألمانية الشرقية في هلة، وظهر الديوان بهذه الرواية في سنة1944 للميلاد. وإذن فعندنا لديوان زهير روايتان مطبوعتان: رواية الأصمعي البصرية ورواية ثعلب الكوفية، وتمتاز الأولى بالتشدد؛ فهي لا تروي سوى ثماني عشرة قصيدة ومقطوعة ينهيها الشنتمري بقوله: "كمل جميع ما رواه الأصمعي من شعر زهير ونصل به بعض الروايات". ويضيف من رواية الكوفيين قصيدتين شك الرواة في ثانيتهما1. وإذا نظرنا في رواية ثعلب الكوفية وجدناها تضيف عشرات القصائد والمقطوعات، ومن حين إلى حين تنص على أن هذه القصيدة وتلك المقطوعة من رواية حماد أو ابن الكلبي المعروفين بكثرة الوضع. ومن ثم كنا لا نستطيع أن نتخذ من الرواية الكوفية أساسًا وثيقًا لدراسة زهير؛ فنحن نرفضها رفضًا، متخذين من رواية الشنتمري أو بعبارة أخرى رواية الأصمعي أساسًا لبحثنا في زهير وشعره، وإذا كان هناك قصيدة يمكن أن تضاف إلى هذه المجموعة فهي القصيدة التي تليها في رواية الشنتمري؛ إذ يظهر أنها صحيحة النسب إلى زهير2. وقد يكون مما يؤكد صحة شعر زهير برواية الأصمعي أن الشعر كما قدمنا اتصل في ولده أجيالًا، وأن آخرهم العوام نزل البصرة وأقام فيها، وأكبر الظن أن أبناءه ظلوا يروون شعره حتى أسلموه أو أسلمه العوام إلى رواة البصرة وعلمائها. وإذا أخذنا نفحص رواية الأصمعي التي تحتفظ بثماني عشرة قصيدة ومقطوعة وجدنا الشنتمري3 ينقل عنه أنه كان ينكر ثلاثًا منها، هي: "أبلغ بني نوفل عني وقد بلغوا" و "أبلغ لديك بني الصيداء كلهم" و "ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى" وكان أبو عبيدة ينكر مقطوعته: "إن الرزيَّة لا رزية مثلها"   1 انظر الديوان "طبعة دار الكتب" ص193. 2 أغاني: 10/ 289 وفي الديوان: ص219 أن المفضل الضبي كان يرويها. 3 راجع مخطوطة الشنتمري بدار الكتب المصرية رقم 81 أدب ش وفي الخزانة التيمورية بدار الكتب نسخة ثانية برقم450 أدب- شعر تيمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ويقول إنها لقُراد بن حنَش من شعراء غطفان1. ولا يبقى لزهير بعد ذلك من رواية الأصمعي سوى أربع عشرة قصيدة ومقطوعة، تضاف إليها القصيدة التي رواها المفضل واحتفظ بها الشنتمري، وهي: "غَشيتُ ديارًا بالبقيع وثهمد". على أنه ينبغي أن تسقط من قصيدته "لمن الديار بقُنَّة الحَجْر" الأبيات الثلاثة الأولى لأن حمادًا زادها فيها كما مر بنا في حديثنا عن الانتحال. وقد شك الأصمعي في الحكم الملحقة بالمعلقة وقال إنها لصرمة بن أبي أنس2 الأنصاري، ويمكن أن يكون لزهير طائفة منها اختلطت على الرواة بطائفة أخرى تماثلها نظمها صرمة، وسنرى أن زهيرًا كان يكثر من الحكم في شعره.   1 ابن سلام: ص568. 2 المعمر بن السجستاني: ص66. 3 العمدة لابن رشيق: "طبعة أمين هندية"1/ 132، وانظر الشعر والشعراء: 1/ 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 4- شعره : لعل الشعر الجاهلي لم يعرف شاعرًا عني بتنقيحه عناية زهير، وقد ذهب القدماء يقولون إنه كان يَرْوي شعر زوج أمه أوس بن حجر الشاعر التميمي المشهور، كما كان يروي شعر طفيل الغنوي1 المعروف ببراعته في وصف الخيل والصيد، وأيضاً فإنه كان يروي شعر خاله بشامة بن الغدير2. وهم لا يقفون بملاحظاتهم عند ذلك؛ إذ يقولون إنه خَرَّجَ ابنه كعبًا في الشعر كما خَرّج الخطيئة3. فنحن إذن بإزاء شاعر ممتاز، عاش للشعر يرويه ويعلمه، أو بعبارة أخرى نحن بإزاء مدرسة يتضح فيها زهير وتلميذاه كعب والحطيئة، وإذا أردنا أن نبحث لزهير عن أستاذ حقيقي تأثره في شعره من بين الثلاثة الذين ذكروهم؛ وجدنا أقربهم إلى شعره أوس بن حجر زوج أمه؛ فإنه يتأثره في جميع جونب فنه، يتأثره في الموضوعات التي عالجها وفي طريقة معالجته لها، وفيما يصوغه من معان.   1 العمدة لابن رشيق: "طبعة أمين هندية"1/ 132، وانظر الشعر والشعراء: 1/ 86. 2 أغاني: 10/ 312. 3 أغاني "طبع دار الكتب": 2/ 165، 8/ 91 والشعر والشعراء 1/ 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وصور، وسنشير إلى مواضع ذلك عما قليل. وإذا أخذنا نستعرض شعر زهير وجدناه يَنْظم في المديح والغزل ووصف الصيد والهجاء، وفي تضاعيف ذلك يجنح إلى الحكمة ووصف مكارم الأخلاق. وإذا أبدلنا المديح بالتأبين كانت هذه الموضوعات هي نفسها التي يدور فيها شعر أوس؛ فإنه لم يؤثر عنه مديح إلا أبياتًا متفرقة، وإذا كان مديحه فُقد؛ فإن تأبينه خلد على الزمن، وقد أنشدنا منه قطعة في غير هذا الموضع، وهو يلتقي فيه بزهير حين يشيد بفضائل فضالة بن كَلدَة ومناقبه، التي يعود بها إلى المثل العربي الكريم للمروءة. وتلمع بين مدائح زهير معلقته، وقد نظمها مشيدًا بِهَرِم بن سنان والحارث بن عوف حين سعيا بالصلح بين ذبيان وعبس فأعلنا أنهما يتحملان ديات القتلى حتى تضع الحرب أوزارها بين القبيلتين المتناحرتين، وتصادف في أثناء ذلك أن قتل الحصين بن ضمضم عبسيًّا ثأرًا لأخيه هرم بن ضمضم، وكان قتله ورد بن حابس العبسي، فثارت عبس وشهرت سيوفها تريد أن تعيد الحرب جَذَعَةً، وسرعان ما تقدم الحارث لهم بمائة من الإبل وبابنه ليختاروا إما الدية وإما قتل فلذة كبده؛ فقبلوا الدية ودخلوا في الصلح، وانتهت الحرب الدامية. وهنا نرى زهيرًا يشيد بهذه المكرمة الجليلة ناعيًا على حُصَيْن فعلته التي كادت تودي بفكرة الصلح، لاهجًا بالثناء على السيدين وما قدما للقبيلتين من ديات حقنت الدماء، يقول: يَمينًا لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما ... عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ1 تَدارَكتُما عَبسًا وَذُبيانَ بَعدَما ... تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ2 وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعًا ... بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ فَأَصبَحتُما مِنها عَلى خَيرِ مَوطِنٍ ... بَعيدَينِ فيها مِن عُقوقٍ وَمَأثَمِ3 عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ وَغَيرِها ... وَمَن يَستَبِح كَنزًا مِنَ المَجدِ يَعظُمِ4   1 السحيل: غير المبرم: يريد أنهما خير عشيرتهما في كل أمر، أبرماه أو لم يبرماه. 2 منشم: امرأة عطارة كانت في مكة، غمس قوم أيديهم في عطرها وتعاهدوا على الحرب حتى فنوا عن آخرهم. يشبه قبيلتي عبس وذبيان بهم. 3 يريد أنهما لم يشتركا في تلك الحروب؛ فهما يؤديان عن غيرهما الديات. 4 يريد بعليًّا معد رؤساءها وأشرافها. يعظم: يصبح عظيمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وجعلته هذه المأثرة يشيد بالسلم والسلام؛ فكان بذلك شذوذًا على ذوق الجاهليين وأشعارهم التي تدوي بفكرة الأخذ بالثأر والترامي على الحروب ترامي الفراس على النار. وقد مضى يصور الحرب في صورة بشعة، يقول: وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ ... وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ1 مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً ... وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ2 فَتَعرككمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها ... وَتَلقَح كِشافًا ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ3 فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم ... كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ4 فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها ... قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ5. وأنت تراه يصور الحرب في صور مخيفة قبيحة؛ فهي تارة أسد ضار، وتارة ثانية نار مشتعلة، وتارة ثالثة رحى تطحن الناس، وتارة رابعة تلد، ولكنها لا تلد إلا ذراري شؤم. ووسع التهكم؛ فقال إنهم يربحون منها ما لا يربحه أهل العراق من الغلال والدراهم. وهو بذلك يدعو إلى السلام وأن يتحول العرب من هذه الحروب والمعارك الطاحنة إلى حياة المسلم الوادعة الآمنة التي تنتشر فيها الأخوة والمحبة والرحمة. ونراه يصور ما هم فيه من بوار تصويرًا بديعًا، فيقول: رَعَوْا ما رعوا من ظِمْئهم ثم أوردوا ... غِمارًا تسيل بالرِّماحِ وبالدَّمِ6 فقضَّوا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كَلَأ مُسْتوبَلٍ مُتَوَخَّمِ7 فهم بحروبهم المستعرة كأنهم يرعون مراعي وخيمة وبيلة في سلمهم. وسرعان.   1 المرجم: المظنون. 2 تبعثوها: تهيجوها، تضر: من ضرى الأُسد إذا تهيأ للفريسة، وأضرى: درب وعود، وتضرم: تشتعل. 3 تعرككم: تطحنكم، الثقال: جلد يجعل تحت الرحى حين تطحن، ومن أجل ذلك ذكره، يريد أنها طاحنة وتلقح كشافًا: تحمل كل عام، وذلك أردأ النتاج. تتئم: تلد توءمًا. 4 أشأم: مشئوم، وأحمر عاد: أراد أحمر ثمود وهو قدار عاقر الناقة، وكان شؤمًا لقومه. 5 القفيز: مكيال في العراق. 6 الظمأ: ما بين الوردين أو الشربتين، والغمار: المياه الكثيرة. 7 أصدروا: رجعوا ضد أوردوا، مستوبل، مستثقل، ومثلها متوخم أي إنه كريه تعافه الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ما يردون موارد لا تشفى غليلهم، موارد تزخر بالرماح والدماء. نحن إذن بإزاء شخصية ممتازة من شخصيات الشعر الجاهلي شخصية فيها بر ورحمة وفيها نزعة قوية إلى الخير. وليس معنى ذلك أنه تخلص في مديحه لهرم بن سنان وابن عمه الحارث بن عوف من الصورة الجاهلية التي تشيد بالشجاعة والكرم المتهور؛ فنحن نراه في قصيدة ثانية يتحدث عنهما وعن عشيرتهما على هذه الشاكلة: إِذا فَزِعوا طاروا إِلى مُستَغيثِهِم ... طِوالَ الرِماحِ لا ضِعافٌ وَلا عُزلُ1 بِخَيلٍ عَلَيها جِنَّةٌ عَبقَرِيَّةٌ ... جَديرونَ يَومًا أَن يَنالوا فَيَستَعلوا وَإِن يُقتَلوا فَيُشتَفى بِدِمائِهِم ... وَكانوا قَديمًا مِن مَناياهُمُ القَتلُ عَلَيها أُسودٌ ضارِياتٌ لَبوسُهُم ... سَوابِغُ بيضٌ لا تُخَرِّقُها النَبلُ2 إِذا لَقِحَت حَربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أَنيابُها عُصلُ3 قُضاعِيَّةٌ أَو أُختُها مُضَرِيَّةٌ ... يُحَرَّقُ في حافاتِها الحَطَبُ الجَزلُ4 هُمُ خَيرُ حَيٍّ مِن مَعَدٍّ عَلِمتُهُم ... لَهُم نائِلٌ في قَومِهِم وَلَهُم فَضلُ5 وهو يصف سيدي بني مرة وعشيرتهما بالشجاعة ونجدة من يستغيث بهم، حتى ليكادون يطيرون إليه طيرانًا بسوابقهم وخيلهم وكأنهم جنة. وانظر إليهم حين تدور المعارك فستراهم أسودًا ضارية، لا يرهبون الموت، حين تشتد الحرب وتعض الناس بأنيابها وتحرقهم بنيرانها. وهم يحاربون في كل مكان، لا يخشون أحدًا، يحاربون قضاعة ومضرًا. وهم يضيفون إلى هذه الشجاعة كرمًا مفرطًا. وفي كل قبيل منهم ثأر، ومن ثم كانوا يشتفى بدمائهم، إنهم خير معد شجاعة وكرمًا فياضًا. ولا يلبث زهير أن يقول:   1 العزل: جمع أعزل وهو من لا سلاح معه. 2 لبوسهم سوابغ: لبسهم دروع تامة. 3 لقحت: حملت، يريد اشتدت. حرب عوان: مكررة قوتل فيها مرة بعد مرة ضروس: شديدة تهر الناس: تخيفهم عصل: قوية تطحن طحنًا. 4 الجزل: الغليظ ضد الرقيق. 5النائل: العطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 إِذا السَنَةُ الشَهباءُ بِالناسِ أَجحَفَت ... وَنالَ كِرامَ المالِ في الحجرَةِ الأَكلُ1 رَأَيتُ ذَوي الحاجاتِ حَولَ بُيوتِهِم ... قَطينًا بِها حَتّى إِذا نَبَتَ البَقلُ2 هُنالِكَ إِن يُستَخبَلوا المالَ يُخبِلوا ... وَإِن يُسأَلوا يُعطوا وَإِن يَيسِروا يُغلوا3 وَفيهِم مَقاماتٌ حِسانٌ وُجوهُهُم ... وَأَندِيَةٌ يَنتابُها القَولُ وَالفِعلُ4 عَلى مُكثِريهِم رِزقُ مَن يَعتَريهِمُ ... وَعِندَ المُقِلّينَ السَماحَةُ وَالبَذلُ5 وَإِن جِئتَهُم أَلفَيتَ حَولَ بُيوتِهِم ... مَجالِسَ قَد يُشفى بِأَحلامِها الجَهلُ6 وَإِن قامَ فيهِم حامِلٌ قالَ قاعِدٌ ... رَشَدتَ فَلا غُرمٌ عَلَيكَ وَلا خَذلُ7 وَما يَكُ مِن خَيرٍ أَتَوهُ فَإِنَّما ... تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِم قَبلُ وَهَل يُنبِتُ الخَطِّيَّ إِلّا وَشيجُهُ ... وَتُغرَسُ إِلّا في مَنابِتِها النَخلُ8 وهو يستمر هنا في مديحه لهم بالكرم في السنين المجدبة؛ حتى إن الناس ليرحلون إليهم ويقطنون حول خيامهم، وكلما سألوهم شيئًا وهبوه لهم. وهم في أثناء ذلك يقامرون بخير إبلهم؛ حتى يطعموها السائلين والمحتاجين. ولما استتم هذه الصورة وصفهم بجمال الوجوه وجمال الكلام في مجالسهم، ولم يُخْل مكثرًا ولا مقلًا منهم من سماحة وفضل وبر. وأشاد بمجالسهم، وأنهم عقلاء حلماء يشفون بآرائهم الصائبة جهل الجهلاء. وهم متعاونون، إن حمل منهم أحد حمالة لم يخذلوه؛ بل أعانوه. وذكر فضل آبائهم وأحسابهم. فقال إنهم ورثة مجد قديم توارثه الأبناء عن الآباء، وساق دليلًا على ذكاء الفروع بذكاء الأصول من الرماح والنخيل، فلا يولد الكريم إلا في البيت الكريم. وقد ظل زهير على شاكلة هذه القصيدة وسابقتها يدبج مدائحه في هرم بن سنان،   1 السنة الشهباء: المجدبة. الحجرة: السنة شديدة البرد. 2 قطينًا: ساكنين. 3 استخبال المال: أن يسألوهم شيئًَا فيعطوهم إياه. ييسروا: يتقامروا. يغلوا: يختاروا سمان الإبل. 4 المقامات والأندية: المجالس. 5 يعتريهم: ينزل بهم. 6 الجهل: الحمق. 7 الحامل: الذي يحمل الحمالة، وهي الدية، ويريد أي مغرم. 8 الخطي: الرماح، ووشيجه: أغصانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ومن أروعها داليته التي رواها المفضل الضبي والتي يقول فيها مصورًا كرمه وشجاعته وفصاحته وسبقه إلى المآثر المحمودة: سَواءٌ عَلَيهِ أَيَّ حينٍ أَتَيتَهُ ... أَساعَةَ نَحسٍ تُتَّقى أَم بِأَسعُدِ1 وَمِدرَهُ حَربٍ حَميُها يُتَّقى بِهِ ... شَديدُ الرِجامِ بِاللِسانِ وَبِاليَدِ2 إِذا اِبتَدَرَت قَيسُ بنُ عَيلانَ غايَةً ... مِنَ المَجدِ مَن يَسبِق إِلَيها يُسَوَّدِ سَبَقتَ إِلَيها كُلَّ طَلقٍ مُبَرِّزٍ ... سَبوقٍ إِلى الغاياتِ غَيرَ مُجَلَّدِ3 فَلَو كانَ حَمدٌ يُخلِدُ الناسَ لَم تَمُت ... وَلَكِنَّ حَمدَ الناسِ لَيسَ بِمُخلِدِ فهو يعطي في السعة وفي القلة، ويدفع عن قومه بلسانه وبيده وسلاحه، وإذا تسابق الناس إلى غاية من غايات المجد كن السابق المجلى، ولو أن حمدًا يخلد به مستحقه؛ لكان هرم أول خالد لكثرة مناقبه ومكارمه. وله فيه قصيدة رائية بديعة يقول في تضاعيفها: دَع ذا وَعَدِّ القَولَ في هَرَمٍ ... خَيرِ البُداةِ وَسَيِّدِ الحَضرِ وَلَنِعمَ حَشوُ الدِرعِ أَنتَ إِذا ... دُعِيَت نَزالِ وَلُجَّ في الذُعرِ4 حَدِبٌ عَلى المَولى الضَريكِ إِذا ... نابَت عَلَيهِ نَوائِبُ الدَهرِ5 وَيَقيكَ ما وَقّى الأَكارِمَ مِن ... حوبٍ تُسَبُّ بِهِ وَمِن غَدرِ6 وَلَأَنتَ تَفري ما خَلَقتَ وَبَعضُ ... القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفري 7 وَالسِترُ دونَ الفاحِشاتِ وَما ... يَلقاكَ دونَ الخَيرِ مِن سِترِ أُثني عَلَيكَ بِما عَلِمتُ وَما ... سَلَّفتَ في النَجَداتِ وَالذِكرِ   1 يريد بساعتي النحس والسعد أوقات القلة والكثرة في المال. 2 المدره: المدافع عن قومه. وحمى الحرب: شدتها: والرجام: المراماة في الحرب وفي الخطب والكلام. 3 الطلق هنا: المعطاء، وأصله الفرس السابق الذي لا يلوي على شيء، المجلد: الذي يضرب ويجلد. والتشبيه واضح. 4 الدعاء في الحرب نزال: حين تشتد فيتداعى الفرسان بالنزول عن الخيل والتقارع بالسيوف. ولج في الذعر: اشتد الخوف. 5 الضريك: الفقير المجهد. 6 الحوب: الإثم. 7 تفري: تقطع. يخلق: يقدر. يريد أنه إذا عزم على أمر أنفذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وعلى هذا النحو يبدئ ويعيد في هرم، وقد تراءى له في الصورة المثالية للسيد البدوي الجاهلي؛ فهو شجاع في معترك الحرب وهو كريم في معترك المسغبة والجوع، وليس بفحاش ولا غادر، وإذا صمم اندفع يُمضي ما صمم عليه، لا يستره عن الخير ستر؛ بينما تقوم الأستار بينه وبين كل فاحشة. وشاعرنا يثني عليه بما عرف من فضله وبما قدم من مآثر النجدة وإغاثة الضعفاء واحتمال كل بلاء. ودائمًا تلقانا في مدائحه لهرم هذه المثالية الرائعة؛ بل هذه القطع المتوهجة، ومن رائع ما قاله فيه: قَد جَعَلَ المُبتَغونَ الخَيرَ في هَرِمٍ ... وَالسائِلونَ إِلى أَبوابِهِ طُرُقا إِن تَلقَ يَومًا عَلى عِلّاتِهِ هَرِمًا ... تَلقَ السَماحَةَ مِنهُ وَالنَدى خُلُقا لَيثٌ بِعَثَّرَ يَصطادُ الرِجالَ إِذا ... ما كَذَّبَ اللَيثُ عَن أَقرانِهِ صَدَقا1 يَطعَنُهُم ما اِرتَمَوا حَتّى إِذا اِطَّعَنوا ... ضارَبَ حَتّى إِذا ما ضارَبوا اِعتَنَقا2 هَذا وَلَيسَ كَمَن يَعيا بِخُطَّتِهِ ... وَسطَ النَدِيِّ إِذا ما ناطِقٌ نَطَقا فهو لكرمه الفياض يسعى إليه الناس من كل حدب، ويسلكون إلى أبوابه كل طريق؛ حتى لقد أصبحت الطرق إليه مذللة ممهدة، وهو يجزل لهم في العطاء حتى حين تضيق ذات يده. وهو يجمع إلى الكرم المفرط الشجاعة المفرطة؛ حتى ليتفوق على الليث في جرأته وطلبه لفريسته، إنه يطعن الطعنات النجلاء، وما يزال على ذلك حتى تنحسر غمرة الحرب؛ فإذا كان السلم رأيته وسط الندى يبهرك بمقوله كما يبهرك بيده وسلاحه وطعانه ونزاله وقد أضفى حللًا من هذا المديح الرائع على سيد بني فزارة حصن بن حُذَيْفة، وكانت له مواقع مأثورة في حروب قومه مع عبس وغيرها من القبائل، وفيه يقول:   1 عثر: موضع، كذب الليث: نكل عن لقاء أقرانه. 2 ارتمو: تراموا بالنيل، اطَّعنوا: تطاعنوا بالسيوف. واعتنق: قرنه في الحرب: أخذ عنقه، كناية عن قتله. ويقول إذا ترامى المتحاربون بالنبال أبى هرم إلا أن يطعن بسيفه، وإذا تطاعنوا ضرب بسيفه ضربات مميتة وإذا ما تضاربوا صرع خصومه؛ فهو سابق في كل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَأَبيَضَ فَيّاضٍ يَداهُ غَمامَةٌ ... عَلى مُعتَفيهِ ما تُغِبُّ فَواضِلُه1 بَكَرتُ عَلَيهِ غُدوَةً فَرَأَيتُهُ ... قُعودًا لَدَيهِ بِالصَريمِ عَواذِلُه2 فَأَقصَرنَ مِنهُ عَن كَريمٍ مُرَزَّءٍ ... عَزومٍ عَلى الأَمرِ الَّذي هُوَ فاعِلُه3 أَخي ثِقَةٍ لا تُتلِفُ الخَمرُ مالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَد يُهلِكُ المالَ نائِلُه4 تَراهُ إِذا ما جِئتَهُ مُتَهَلِّلًا ... كَأَنَّكَ تُعطيهِ الَّذي أَنتَ سائِلُه5 وهو يمدحه بنقائه من العيوب وأنه كريم مفرط في كرمه حتى لتشبه يداه سحابة، فما تزالان تهطلان على قاصديه بالعطايا، وعبثًا يهتف به العواذل أن يكف عن كثرة نواله. إنه مثال للرجل الفاضل الذي لا ينفق أمواله في لهو؛ إنما ينفقها في الصنيع الجميل. وإنه ليقبل على معتفيه بالبشر والطلاقة، حتى ليكادون يظنون أنهم المسؤلون لا السائلون. وظل بعد ذلك يمدحه بحسن جداله للخصوم ومنطقه الصائب وكياسته وحلمه، وأشار إلى وراثته الطيبة عن آبائه فهو شريف حسيب، كما أشار إلى بلائه في حروبه مع الغساسنة. وهذه القطع المختلفة التي أنشدناها من مديحه تدل على براعة واضحة؛ فقد كان يحسن التعبير عما في نفسه، وكان يحرص على الاقتصاد في القول فلا يسرف ولا يغلو؛ بل يمثل ممدوحه بخصاله التي كان يشغف بها الجاهليون ويرونها أمارة السيادة والشرف. ولاحظ ذلك قديمًا عمر بن الخطاب؛ فقال: "كان لا يمتدح الرجل إلا بما يكون فيه6" فهو يعتدل في الثناء، وهو يمثل شخصية البدوي الحقيقي الذي يحيط كلامه بالصدق والبساطة. وكان إذا أحس إزاء صفة من الصفات أو معنى من المعاني بأنه يكاد يخرج عن حده أحاطه بما يجعل قوله مقبولًا فيقدم لفظة "لو" ونحوها حتى لا يتجاوز القصد، كما نرى في قوله يصف هرمًا وأمجاده:   1 المعتفون: السائلون. الفواضل: العطايا. وأبيض كناية عن نقائه من المساوئ وثغب: تنقطع. 2 الصريم: الصباح: عواذله: لائموه. 3 أقصرن: كففن. مرزأ: مصاب في ماله لكثرة ما يبذل منه. 4 النائل: العطاء. 5 متهللًا: طلق الوجه 6 أغاني: 10/ 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 لو نال حَيٌّ من الدنيا بمكرُمةٍ ... أُفْقَ السماء لنالتْ كَفُّه الأفقا وقوله: لو كنتَ من شَيءٍ سوى بشَرٍ ... كنتَ المنوِّرَ ليلةَ البَدْرِ فهو لا يطلق القول في مثل هذين المعنيين إطلاقًا؛ بل يجعلهما في حيز "لو" حتى يخرج من باب المبالغة الذي أوشك على الدخول فيه. وكان يقدم لقصائده بالغزل والتشبيب، متبعًا سنة الجاهليين في الوقوف بالأطلال وذكر الديار، ونحس عنده إحساسًا واضحًا بأنه لم يكن ممن شغف الحب قلوبهم؛ فهو يتغزل كي يرضي سامعيه، لا لكي يرضي نفسه، وبعبارة أخرى هو يتغزل أخذًا بتقليد متبع، ولذلك نراه يختتم غزله أحيانًا بقوله: "فعد عما ترى" أو "دع ذا" كأنه يريد أن يكف قلبه عن مثل هذا الحب الذي لا يتلاءم مع وقاره. وقد يعلن في أول قصيدته إعلانًا أن قلبه قد انصرف عن صاحبته على شاكلة قوله: صَحا القلبُ عن سلمى وقد كاد لا يَسْلو ... وأَقْفَرَ من سَلْمَى التعانيقُ فالثِّقْلُ1 ولعل من الطريف أن أستاذه أوس بن حجر كان يشركه في هذا الجانب؛ فهما جميعًا لا يتغزلان للغزل، وإنما يتغزلان جريًا على التقاليد. وقد يلم زهير بأثر الحب في النفس فيبدع في تصويره، وهو في هذا التصوير لا يمثل عاطفة ولا مشاعر حقيقية، وإنما يمثل قدرته الفنية كقوله في وصف دموعه: كأنَّ عيني وقد سال السَّليلُ بهم ... وجيرةٌ ما هم لو أنهم أَمَمُ2 غَرْبٌ على بَكْرةٍ أو لؤلؤٌ قَلِقٌ ... في السِّلْك خان به رَبَّاتِه النُّظُمُ3 فهم قد ساروا سيرًا سريعًا، فأبعدوا ولو كانوا جيرة لقصدهم بالزيارة، وإن دموعه لتتساقط من عينه تساقط الماء من الغرب أو الدلو، أو تساقط اللؤلؤ من   1 التعانيق والثقل: موضعان. 2 سال السليل بهم: السليل: واد. وسال بهم: ساروا سيرًا سريعًا. وما في قوله ما هم زائدة. وأمم: قريبون يزارون. 3 الغرب: الدلو. قلق: لا يستقر لانقطاع الخيط. رباته: صواحبه. النظم: جمع نظام وهو الخيط أو السلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 عقد انقطع سلكه. وبهاتين الصورتين البديعتين صور زهير الدموع، وهي ليست دموع حب؛ وإنما كل ما في الأمر أنه شاعر يعرف كيف يصور دموع الحب. وبهذا القياس نفسه تصويره لأسماء في قوله: قامَت تَراءى بِذي ضالٍ لِتَحزُنَني ... وَلا مَحالَةَ أَن يَشتاقَ مَن عَشِقا1 بِجيدِ مُغزِلَةٍ أَدماءَ خاذِلَةٍ ... مِنَ الظِباءِ تُراعي شادِنًا خَرِقا2 كَأَنَّ ريقَتَها بَعدَ الكَرى اِغتُبِقَت ... مِن طَيِّبِ الراحِ لَمّا يَعدُ أَن عَتُقا3 شَجَّ السُقاةُ عَلى ناجودِها شَبِمًا ... مِن ماءِ لينَةَ لا طَرقًا وَلا رَنِقا4 فهو يصور جيدها بجيد ظبية بيضاء، امتلأ قلبها بحب ابنها؛ فهي عاكفة عليه، كما يصور ريقها بخمر معتقة مزجت بالماء لشدتها وحدتها. وهما صورتان أريدتا لأنفسهما، أو بعبارة أخرى رسمهما زهير ليدل سامعيه على قدرته في التصوير، أما بعد ذلك فلا عاطفة ولا حبّ حقيقي، ولذلك يكرر دائمًا أن قلبه صحا عن حبه، وأنه راجع نفسه فكفت عن الهوى وما يتبع الهوى، على شاكلة قوله: لقد طالبتُها ولكل شيء ... وإن طالتْ لجاجته انتهاء فهو ليس من العشاق ولا ممن يشغلون أنفسهم بالغزل وبيان لوعة الحب؛ وإنما هو يتحدث في ذلك مترسمًا سننًا موضوعة كي يظهر قدرته على التصوير الفني. ولعله من أجل ذلك ملأ مقدماته الغزلية بوصف الظعن، وكأنه يريد بها أن يتلافي ما يفوته من وصف الحب والصبابة على نحو ما رأينا عند امرئ القيس، وفي الوقت نفسه يريد أن يدل على براعته في الوصف الدقيق؛ فهو يستقصي ويدقق، إذ ما يزال يتبع صاحبته وصواحبها وهن راحلات في نجد مع عشيرتهن من واد إلى   1 تراءى: تتبدى وتظهر. وذو ضال: موضع به الضال وهو السدر. 2 الجيد: العنق، مغزلة: الظبية التي معها غزال. أدماء: بيضاء. خاذلة: مقيمة على ولدها لا تتبع الظباء. الشادن: الذي شدن أي تحرك ولم يقو بعد. الخرق: الضعيف. 3 الكرى: النوم: اغتبقت: من الغبوق وهو شرب الليل، لما يعد أن عتقا: يريد أن الخمر معتقة ولم تفسد. 4 شج: صب. الناجود: أول ما يخرج من الخمر أو إناؤها. الشبم: الماء البارد لينة: اسم بئر. الطرق والرفق: الكدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 واد، محاولًا أن يحفر الصورة في أذهاننا حفرًا على نحو ما نجد في معلقته؛ إذ يقول: تَبَصَّر خَليلي هَل تَرى مِن ظَعائِنٍ ... تَحَمَّلنَ بِالعَلياءِ مِن فَوقِ جُرثُمِ1 عَلَونَ بِأَنماطٍ عِتاقٍ وَكِلَّةٍ ... وِرادٍ حَواشيها مُشاكِهَةِ الدَّمِ2 وورَّكن في السُّوبان يعلون مَتْنَهُ ... عليهن دلُّ الناعم المتنعِّمِ3 وَفيهِنَّ مَلهىً لِلصَديقِ وَمَنظَرٌ ... أَنيقٌ لِعَينِ الناظِرِ المُتَوَسِّمِ4 بَكَرنَ بُكورًا وَاِستَحَرنَ بِسُحرَةٍ ... فَهُنَّ لِوادي الرَسِّ كَاليَدِ لِلفَمِ 5 جَعَلنَ القَنانَ عَن يَمينٍ وَحَزنَهُ ... وَمَن بِالقَنانِ مِن مُحِلٍّ وَمُحرِمِ6 ظَهَرنَ مِنَ السوبانِ ثُمَّ جَزَعنَهُ ... عَلى كُلِّ قَينِيٍّ قَشيبٍ مُفَأَّمِ7 كَأَنَّ فُتاتَ العِهنِ في كُلِّ مَنزِلٍ ... نَزَلنَ بِهِ حَبُّ الفَنا لَم يُحَطَّمِ8 فَلَمّا وَرَدنَ الماءَ زُرقًا جِمامُهُ ... وَضَعنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ9 وواضح أنه يصور الرحلة التي سلكتها ظعن صاحبته، وهن يعلون الروابي ويهبطن الوديان، وعلى هوادجهن الكلل والستائر الحمراء وعلى وجوههن دلال النعمة، والأصدقاء من الشباب يطلبونهن ليمثلوا النظر بحسنهن ويتمتعوا برؤيتهن، وهن يقطعن واديًا إثر واد، ويمرون على منازل الأحلاف والأعداء، يأخذن في طريق ويعدلن عن طريق، وفي أثناء ذلك ينزلن ثم يرحلن وقد خلفن وراءهن فتات.   1 الظعائن: النساء الراحلات في الهوادج. العلياء: اسم موضع. جرثم: ماء لبني أسد أحلاف ذبيان. 2 الأنماط: الستائر على الهوادج. وراد: حمراء: مشاكهة: مشابهة. 3 وركن: ثنين أرجلهن للراحة. السوبان: واد في ديار بني تميم. متنه: ظهره. دل الناعم: أثر النعمة. 4 المتوسم: المتفرس في الوجه. 5 بكرن: رحلن صباحًا. استحرن: رحلن سحرًا. كاليد للفم أي: إن ما يقصدنه لا يخطئنه كما لا تخطئ اليد الفم. 6 القنان: جبل لبني أسد. حزفه: أرضه الصعبة الغليظة. المحل: الحليف ضد المحرم. قشيب: جديد. مفأم: واسع رحب. 8 العهن: الصوف. حب الفنا: عنب الثعلب. 9 جمامه: سطحه ومجتمعه. ووضع العصي كناية عن الإقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الصوف المتساقط من هوادجهن ورحالهن كأنه حب الفنا، حتى إذا انتهين إلى الماء الذي يطلبنه والمرعى الذي يلتمسنه ألقين مع عشائرهن عصا الترحال. وكان زهير يبدع في مثل هذا التصوير الذي يعرض به عرضًا حيًّا مليئًا بالحركة ظُعن صواحبه، وهي ترحل في الصحراء تلك الرحلة الدائبة، ومعها العشائر، طلبًا للآبار ومساقط الغيث والكلأ. وهو تصوير للتصوير فحسب؛ فليس فيه وصف حب، إلا ما قد يأتي عفوًا أو عرضًا كالبيت الرابع من هذه القطعة، وكان حريًّا به أن يقف ليصور جمال هؤلاء النساء وأثره في نفسه وفي الشباب من حوله؛ غير أن ذلك لم يكن يعنيه، إنما كان يعنيه الوصف للوصف؛ فهو يصور قدرته الفنية لا عواطفه ولا مشاعره. ومن غير شك كان يحسن الوصف والتصوير لا بما يسوقه من صور بيانية فحسب؛ بل بما يعمد إليه من رسم دقائق المنظر الذي يصفه وبما يبث فيه من حياة وحركة. ولزهير هجاء في بعض القبائل التي كانت تغير على عشيرته، وخاصة في الحارث بن ورقاء أحد بني أسد الذي أغار على قبيلته ونهب غلامه يسارًا وبعض أمواله، وهو فيما صح من هذا الهجاء لا يوغل في الإقذاع وهتك الأعراض إيغال أستاذه أوس والجاهليين من حوله؛ بل يبقى على مهجوه وعلى نفسه، عامدًا إلى السخرية كقوله في عشيرة حِصن من بني عُلَيْم الكلبيين: وما أدري وسوف إخالُ أدري ... أقوم آلُ حِصْنٍ أم نساءُ فإن قالوا النساءُ مخبَّآتٍ ... فحُقَّ لكل محصنة هِدَاءُ1 فهن نساء خُبِّئْن في الخدور، وينبغي أن يزوَّجن. وهي سخرية مرة، تحمل كل يريد من وصفهم بالجبن: وكان يجد في مثلها ما يكفيه على الإقذاع المفحش. وكأنما كان الإقذاع لا يتفق ووقاره، فتحاشاه؛ بينما كان أستاذه أوس من جهة وتلميذه الحطيئة من جهة ثانية يقذعان فيه، وقد استعار منه تلميذه هذه الأداة أداة السخرية فأشاعها في أهاجيه على شاكلة قول المشهور في الزبرقان ابن بدر:   1 الهداء: الزفاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغْيَتِها ... واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي فجعل مروءته لا تبلغ به إلا أن يأكل ويلبس. وليس بين أيدينا رثاء مأثور صحيح لزهير. ولم نتحدث حتى الآن عن أهم الموضوعات التي تتجلى فيها براعة زهير ودقة فنه في التصوير، ونقصد وصف الوحش والصيد، وقد أشاد القدماء كثيرًا ببراعة أستاذه أوس في هذا الباب1، ووقفوا عند معان وصور اقتبسها منه زهير؛ ولكن من الحق أنه نمَّى هذا الموضوع، بحيث يعد في الطليعة من شعراء الجاهلية في وصف الوحش والصيد. وكأني به كان يخبرُ اللغة خبرة أوسع من خبرة أستاذه، وكان له خيال دقيق ساعده على تجسيم الصور وتمثيل الحيوان بكل ما يتصل به من منظر وهيئة وحركة، وهو يعرض علينا ذلك تارة في بيت أو أبيات قليلة، وتارة في قطع كبيرة، وكأننا إزاء شريط يُعْرَض في دار من دور الخيالة، واقرأ له هذا البيت في معلقته يصف رسوم دار صاحبته، وقد ألم بها بعد عشرين عامًا؛ فلم يجد بها إلا بقر الوحش والظباء، يقول: بها العِينُ والآرامُ يمشين خِلْفَةً ... وأطلاؤهَا يَنْهَضْنَ من كلِّ مَجْثَمِ2 وهو بيت واحد؛ ولكنه عرف كيف يعرض علينا منظر البقر والظباء في بعض مواضع البادية عرضًا كاملًا؛ إذ نتمثلها وهي تمشي في جهات متضادة، وأطلاؤها أو أولادها تنتثر هنا وهناك، ناهضة من كل موضع. وانظر إليه يصور ناقته بظليم في بيتين، يودعهما وصفًا دقيقًا له؛ إذ يعرض هيئته وسرعة حركته وذعره الدائم وانطلاقه المستمر في الصحراء كأنه مجنون لا يلوي على شيء، يقول: كأن الرَّحْلَ منها فوق صَعْلٍ ... من الظِّلْمان جُؤْجُؤه هواءُ3 أصَكَّ مُصَلَّمِ الأذُنَيْنِ أَجْنَى ... له بالسِّيِّ تَنُّومٌ وآء4   1 خزانة الأدب للبغدادي: 2/ 235. 2 العين: بقر الوحش، والآرام: الظباء البيض. خلفة: من جهات متضادة. الأطلاء: أولاد الوحش. مجثم: مريض 3 الصعل: صغير الرأس. الظلمان: جمع ظليم. الجؤجؤ: الصدر. هواء: فارغ 4 أصك: مقارب العرقويين. مصلم: مقطوع. أجنى من الجنا، وهو إدراك الثمار ونضجها. السي: موضع. التنوم والآء من أشجار البادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وتلك صورة كاملة للظليم أو ذكر النعام فهو صغير الرأس متقارب العرقوبين ليس لأذنيه حجم، وهو ليس ظليمًا صغيرًا فقد أدرك، وهو هناك يرعى في السِّيِّ بعض أشجار البادية، وماذا بقي من هيئة الظليم؟ إنه لم يبق شيء إلا سرعته وحركته الدائبة، وهو يصورهما تصويرًا دقيقًا في قوله "جؤجؤه هواء" فصدره فارغ كأنما لا قلب أو لا عقل له؛ فهو يعتسف الصحراء اعتساف مجنون يسرع في العدو هربًا من كل شبح، فلا يكاد يقف. ولما تمت له هذه الصورة بتفاصيلها الدقيقة الجسمية والنفسية انتقل يصور ناقته في سرعتها بحمار وحش يسوق أتنه سوقًا عنيفًا ليرد بها ماء، وهو لا يغفل عنها، وهي خاضعة لمشيئته، يدعوها في كل فجر فتجيب، وصَوَّرَ هذا الدعاء تصويرًا بديعًا؛ فقال: كأنَّ سَحِيله في كل فجرٍ ... على أحْساءِ يَمئودٍ دُعاءُ1 فهو ينادي أتنه كل صباح كي يرد بها الحياض والمناهل، وهي تلبيه. وكأنه يرسم بذلك صورة عشيرة تتبع شيخها حين يدعوها. واقرأ له هذه القطعة الطويلة في وصف النبات والمطر والفرس والصيد فستلقاك خصائصه في التصوير مجتمعة: وَغَيثٍ مِنَ الوَسمِيِّ حُوٍّ تِلاعُهُ ... أَجابَت رَوابيهِ النِّجاءَ هَواطِلُه2 هَبَطتُ بِمَمسودِ النَواشِرِ سابِحٍ ... مُمَرٍّ أَسيلِ الخَدِّ نَهدٍ مَراكِلُه3 تَميمٍ فَلَوناهُ فَأُكمِلَ صُنعُهُ ... فَتَمَّ وَعَزَّتهُ يَداهُ وَكاهِلُه4 أَمينٍ شَظاهُ لَم يُخَرَّق صِفاقُهُ ... بِمِنقَبَةٍ وَلَم تُقَطَّع أَباجِلُه5 إِذا ما غَدَونا نَبتَغي الصَيدَ مَرَّةً ... مَتى نَرَهُ فَإِنَّنا لا نُخاتِلُه6   1 السحيل: نهيق الحمار. يمئود: موضع. الأحساء: جمع حسي، وهو الموضع كثير المياه. 2 الغيث: المطر. الوسمي: أول الغيث. حو: سوداء. تلاعه: مسايله، وهي سوداء لسواد أطراف النبات. النجاء: المرتفعة. 3 النواشر: عصب الذراع ممسود: مفتول. ممر: محكم الخلق. أسيل: ناعم. فهد: ضخم. المراكل: مواضع ركل الفارس من الفرس يريد أنه ضخم الجوف. 4 تميم: تام الخلقة، فلوناه: فطمناه. عزته: قوته. 5 أمين: قوي. شظاه: عظامه اللاصقة بالذراع. الصفاق: الجلدة الباطنة وراء البشرة، لم يخرق بمنقبة. لم يداو بآلة بيطار. الأباجل: عروق في اليد. 6 لا نخاتله: لا نأخذه بالخديعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فَبَينا نُبَغّي الصَيدَ جاءَ غُلامُنا ... يَدِبُّ وَيُخفي شَخصَهُ وَيُضائِلُه1 فَقالَ شِياهٌ راتِعاتٌ بِقَفرَةٍ ... بِمُستَأسِدِ القُريانِ حُوٍّ مَسائِلُه2 ثَلاثٌ كَأَقواسِ السَراءِ وَمِسحَلٌ ... قَدِ اِخضَرَّ مِن لَسِّ الغَميرِ جَحافِلُه3 وَقَد خَرَّمَ الطُرّادُ عَنهُ جِحاشَهُ ... فَلَم يَبقَ إِلّا نَفسُهُ وَحَلائِلُه4 فَقالَ أَميري ما تَرى رَأيَ ما نَرى ... أَنَختِلُهُ عَن نَفسِهِ أَم نُصاوِلُه5 فَبِتنا عُراةً عِندَ رَأسِ جَوادِنا ... يُزاوِلُنا عَن نَفسِهِ وَنُزاوِلُه6 وَنَضرِبُهُ حَتّى اِطمَئَنَّ قَذالُهُ ... وَلَم يَطمَئِنَّ قَلبُهُ وَخَصائِلُه7 وَمُلجِمُنا ما إِن يَنالُ قَذالَهُ ... وَلا قَدَماهُ الأَرضَ إِلّا أَنامِلُه فَلَأيًا بِلَأيٍ ما حَمَلنا وَليدَنا ... عَلى ظَهرِ مَحبوكٍ ظِماءٍ مَفاصِلُه8 فَقُلتُ لَهُ سَدِّد وَأَبصِر طَريقَهُ ... وَما هُوَ فيهِ عَن وَصاتِيَ شاغِلُه وَقُلتُ تَعَلَّم أَنَّ لِلصَيدِ غِرَّةً ... وَإِلّا تُضَيِّعها فَإِنَّكَ قاتِلُه9 فَتَبَّعَ آثارَ الشِياهِ وَليدُنا ... كَشُؤبوبِ غَيثٍ يَحفِشُ الأُكمَ وابِلُه10 نَظَرتُ إِلَيهِ نَظرَةً فَرَأَيتُهُ ... عَلى كُلِّ حالٍ مَرَّةً هُوَ حامِلُه11 يُثِرنَ الحَصى في وَجهِهِ وَهوَ لاحِقٌ ... سِراعٌ تَواليهِ صِيابٌ أَوائِلُه12   1 نبغي: نبتغي ونطلب. يدب: يمشي راجلًا ببطء. يضائل: يصغر. 2 الشياه هنا: الأتن. القريان: مجاري الماء. مستأسد النبت. ما طال منه. حو: سوداء. 3 السراء: شجر تصنع منه القسي، المسحل: حمار الوحش. جحافله: شفاهه. الغمير: نبت لسه: أكله 4 خرم: نفر وأبعد. حلائله: زوجاته من الأتن. 5 نختله: نخادعه. نصاوله: نجاهره. 6 عراة: في أرض عارية من الشجر. وقيل عراة من العروراء: وهي الرعدة عند الحرص يزاولنا: يدفعنا لشدة نشاطه. 7 القذال: مؤخر الرأس. خصائله: لحم العصب. 8 محبوك: متين. ظماء مفاصله: قليلة اللحم لا تترهل. 9 الغرة: الغفلة. 10 الشؤبوب: الدفعة من المطر. يحفش: يملأ. 11 يقول إن الفرس كان يحمل في كل حال الغلام، يحمله على الطمع وعلى اليأس. 12 التوالي: الأواخر يريد الرجلين والعجز. ويقصد بأوائله يديه وصدره. وصياب: سراع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فَرَدَّ عَلَينا العَيرَ مِن دونِ إِلفِهِ ... عَلى رُغمِهِ يَدمى نَساهُ وَفائِلُه1 وهو في مستهل هذه الأبيات يصف مطرًا يتساقط على بعض المرتفعات والوهاد، وقد انتشر فيها النبات الضارب إلى السواد، وهو يقبل مع بعض رفاقه على فرس محكم الخلق؛ فُطم منذ عهد قريب، فهو أَشد ما يكون قوة، لم يصبه مرض ولا علة. ويعرض علينا هيئته وخلقته كاملة. وسنراه بعد قليل يصور أحاسيسه وهواجسه؛ فتكتمل صورتيه الجسدية والنفسية. ويستطرد إلى وصف الصيد فيذكر أن غلامه الذي ذهب يستطلع الحيوانات الوحشية في الصحراء جاء يدب ويخفي شخصه ويضائله. وبهذه العبارة الموجزة رسمه لنا رسمًا دقيقًا، رسم حركته وسيره وأنه كان يحاول أن يخفي شخصه حتى لا تفزع الوحوش. وأخبرهم أنه رأى غير بعيد ثلاث أتن وحشية، وهي ضامرة كأقواس السَّراء، ومعها حمارها وقد أقبل على الطعام من النبات حتى اخضرت مشافره. واخضرار المشافر لمسة من لمسات زهير الذي كان يبتغي الدقة في التصوير بما يعطي من ألوان الأشياء وما يذكر من تفاصيلها. وينتقل فيحدثنا أنهم باتوا يروضون الجواد، حتى كان الصباح، فألجمه الغلام، وهو لا يكاد يطوله لضخامته. وزهير يوصيه كيف يتبع فريسته. ويبدع زهير في هذا الجزء من وصفه؛ فهم منذ أخبرهم الغلام بخبر الصيد مفزَّعون لشدة ما هم فيه من حرص على طلب الصيد والحصول عليه، وقد أحسّ الجواد ما هم فيه وما ينتظره في الصباح الباكر، فأخذه الخوف من جميع أطرافه؛ فهو يجاهدهم وهم يجاهدونه ويضربونه، حتى اطمأن وأمكنهم منه؛ غير أن قلبه وأعصابه لم تطمئن، فلا يزال يستحوذ عليه الفزع والخوف الشديد. ولم يكن الغلام من هذه الحالة النفسية غير بعيد؛ فقد كان زهير يوصيه كيف يطارد الصيد وهو في شغل عنه بمخاوفه وما ينتظره في تلك المعركة. وزهير بهذا كله يعد مصورًا بارعًا، إذ يصور الهيئات الجسدية والأحوال النفسية فيما يصفه، وكأنما كانت له عين كبيرة تعرف كيف تلتقط قسمات الجسد وسرائر النفس، لا نفس الإنسان وحده بل أيضًا نفس الحيوان وما يلم بهما جميعًا من وساوس وهواجس. وقد مضى يصور مطاردة الغلام -ولعله غلامه يسار- للأتن وحمارها وكيف انصب عليها كأنه شؤبوب.   1 العير: حمار الوحش. والنسا والفائل: عرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 أو صاعقة من السماء، وهي تثير الحصى في وجه فرسه، والفرس لا ينثني عنها حتى أفرد الحمار من دون صواحبه وصاده الغلام، وجاء به جريحًا تنزف دماؤه. وواضح أن زهيرًا استتم في هذا الوصف الدقيق كل براعته سواء من حيث توشيته بالتشبيهات، أو من حيث ملؤه بالحياة والحركة الجسدية والنفسية. وله قطعة لا تقل عن هذه القطعة جمالًا وروعة في قصيدته الدالية التي رواها المفضل الضبي، وفيها يصف بقرة وحشية شبه بها ناقته في سرعتها، ومضى يستكمل وصفها مستطردًا إلى مطارة الصائد لها بينما تفترس السباع أحد أفلاذ كبدها، يقول: كَخَنساءَ سَفعاءِ المَلاطِمِ حُرَّةٍ ... مُسافِرَةٍ مَزءودَةٍ أُمِّ فَرقَدِ1 غَدَت بِسِلاحٍ مِثلُهُ يُتَّقى بِهِ ... وَيُؤمِنُ جَأشَ الخائِفِ المُتَوَحِّدِ2 وَسامِعَتَينِ تَعرِفُ العِتقَ فيهِما ... إِلى جَذرِ مَدلوكِ الكُعوبِ مُحَدَّدِ3 وَناظِرَتَينِ تَطحَرانِ قَذاهُما ... كَأَنَّهُما مَكحولَتانِ بِإِثمِدِ4 طَباها ضَحاءٌ أَو خَلاءٌ فَخالَفَت ... إِلَيهِ السِباعُ في كِناسٍ وَمَرقَدِ5 أَضاعَت فَلَم تُغفَر لَها غَفلاتُها ... فَلاقَت بَيانًا عِندَ آخِرِ مَعهَدِ6 دَمًا عِندَ شِلوٍ تَحجُلُ الطَيرُ حَولَهُ ... وَبَضعَ لِحامٍ في إِهابٍ مُقَدَّدِ7   1 الخنساء: بقرة الوحش سميت بذلك لتأخر أنفها ومثلها الظباء لأنها جميعًا فطس خنس. سفعاء الملاطم: السفع سواد في حمرة. والملاطم: الخدان. مزءودة: مذعورة، مسافرة، ترحل من موضع إلى موضع الفرقد: ولد البقرة. 2 يريد زهير بالسلاح قرني البقرة. الجأش: الصدر. المتوحد: الوحيد المنفرد. 3 سامعتين: أذنين. العتق: الأصالة. ومعرفة العتق كناية عن أنهما محددتان منتصبتان. إلى جذر: إلى هنا بمعنى مع، والجذر: الاصل. مدلوك: أملس. والكعوب: جمع كعب وهو ما بين العقدتين في القرن. وزهير يريد بالشطر الثاني وصف قرنيها بأنهما أملسان محدد الرأس. 4 ناظرتين: عينين. تطحران قذاهما: ترميان به وتنفيانه. الإثمد: كحل أسود. 5 طباها: دعاها. ضحاء: رعي الضحى خلاء: خلو المكان؛ فخالفت إليه السباع: أي اختلفت إلى ولد البقرة. الكناس: بيت في الشجر تستتر فيه البقر أو تستر أولادها من الحر والبرد. 6 أضاعت: تركت ولدها وغفلت عنه. البيان: ما استبانته عندما رجعت ووجدت بقايا ولدها من بعض الجلود واللحم والدماء. آخر معهد: آخر موضع تركته فيه. 7 الشلو: بقية الجسد. البضع: جمع بضعة وهي القطعة. اللحام: جمع لحم. الإهاب: الجلد. المقدد: المشقق المخرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وَتَنفُضُ عَنها غَيبَ كُلَّ خَميلَةٍ ... وَتَخشى رُماةَ الغَوثِ مِن كُلِّ مَرصَدِ1 فَجالَت عَلى وَحشِيِّها وَكَأَنَّها ... مُسَربَلَةٌ في رازِقِيٍّ مُعَضَّدِ2 وَلَم تَدرِ وَشكَ البَينِ حَتّى رَأَتهُمُ ... وَقَد قَعَدوا أَنفاقَها كُلَّ مَقعَدِ3 وَثاروا بِها مِن جانِبَيها كِلَيهِما ... وَجالَت وَإِن يُجشِمنَها الشَدَّ تَجهَدِ4 تَبُذُّ الأُلى يَأتِينَها مِن وَرائِها ... وَإِن تَتَقَدَّمها السَوابِقُ تَصطَدِ5 فَأَنقَذَها مِن غَمرَةِ المَوتِ أَنَّها ... رَأَت أَنَّها إِن تَنظُرِ النَبلَ تُقصَدِ6 نَجاءٌ مُجِدٌّ لَيسَ فيهِ وَتيرَةٌ ... وَتَذبيبُها عَنها بِأَسحَمَ مِذوَدِ7 وَجَدَّت فَأَلقَت بَينَهُنَّ وَبَينَها ... غُبارًا كَما فارَت دَواجِنُ غَرقَدِ8 بِمُلتَئِماتٍ كَالخَذاريفِ قوبِلَت ... إِلى جَوشَنٍ خاظي الطَريقَةِ مُسنَدِ9 وزهير يستهل حديثه عن البقرة بوصفها الجسدي والنفسي؛ فهي خنساء في خدودها حمرة مشربة بسواد، وهي طليقة في الصحراء ترحل من موضع إلى موضع مذعورة؛ فقد خلفت ولدًا لها في كناس، وهي تخشى عليه من السبع والإنسان. وإنها لشاكية السلاح، كأنها معدَّة خلقة لكفاح أعدائها ونزالهم؛ فقد برز لها قرنان وإنهما حريان بأن يقياها الخطر ويؤمنَّا وحدتها وخوفها؛ إذ هما محددان أملسان كأنهما السيوف القاطعة، ومن ورائهما أذنان ترهف بهما السمع خشية العدو المفاجئ وباصرتان   1 تنفض: تنظر هل ترى ما تكره: الخميلة: الرملة بها شجر. الغوث: قبيلة من طيء تشتهر برماتها وقناصها. 2 جالت: ذهبت وجاءت. الوحشي: الجانب الذي لا يركب منه وهو الأيمن يريد أنها مالت على عطفها الأيمن. مسربلة: لابسة سربالًا وهو القميص. الرازق: ثوب أبيض. معضد مخطط. 3 وشك البين: سرعته، والبين هنا: فقدها لولدها. الأنفاق: الطرق والمسالك. 4 يجشمنها الشد: يكلفنها العدو ويحملنها عليه. تجهد: تسرع وتجتهد. 5 تبذ: تسبق. تصطد: تضرب بقرنيها ما يتقدمها من الكلاب. 6 تنظر النبل: يريد زهير تنتظر أصحابه وهم الرماة، تقصد: تقتل. 7 النجاء: سرعة العدو. الوتيرة: التلبث والانتظار. تذبيبها: دفاعها. الأسحم: الأسود. المذود: قرنها الذي تذود به عن نفسها 8 جدت: أسرعت في العدو. الدواخن: جمع دخان. الغرقد: شجر. 9 الملتئمات هنا: القوائم شبهها بالخذاريف. إلى جوشن: مع صدر، خاظي الطريقة مكتنز اللحم في أعلى الصدر. مسند: مرتفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 سوداوان كأنهما مكحولتان تحدُّ بهما النظر إلى ما حولها. وعلى هذا النحو يعرض علينا زهير تلك البقرة بهيئة جسدها وهيئة نفسها، لنستعد إلى ما سيفجؤها من كوارث. وهو يثبت هيئتها في نفوسنا بما يصوره من تفاصيل جسدها ولون خديها وعينيها. ولا يلبث أن يصور لنا فاجعتها في ولدها، وقد أعدنا لذلك منذ البيت الأول؛ فهي مسافرة، مسرعة في العودة، وقد أخذها الذعر. لقد خرجت تطلب الري والرعي، وعاودها الحنين إلى ولدها؛ بل عاودها الخوف الشديد، وكأنها تعرف أنها تركته وراءها للسباع. وعادت ويالهول ما رأت، لقد رأت بقايا ابنها من أشلاء وجلود ودماء، والطير تحجل حوله؛ فأخذها الحزن الشديد. إن أملها في الحياة فقدته. وقد عادت تجري في الصحراء مذعورة تتلفت يمينًا وشمالًا تنظر هل هناك ما تخشاه، وإنها لتخشى رماة عشيرة الغوث الذين تعودوا أن يطاردوها بسهامهم وكلابهم من كل مرصد. ومرت على جانبها الأيمن، كأنها تظنه أكثر أمنًا، وهي تتراءى في لونها الأبيض وقوائمها المخططة كأنها الثوب الناصع الجميل، ولم تكن تدري أن الموت يرصدها؛ حتى رأت رأي العين رماة الغوث، وقد أخذوا عليها جميع الطرق والمسالك، وأرسلوا عليها كلاب الصيد؛ فولت مسرعة، والكلاب تلاحقها وهي تارة تسبق أوائلها، وتارة تلحقها الكلاب فتنوشها بقرنيها. وما زالت تعدو حتى أفلتت من غمرة الموت يسعفها قرنها الأسود وما أثارته بينها وبين الكلاب من غبار كأنه الدخان. ويصور زهير سرعة قوائمها وخفة حركتها بخذاريف الصبيان التي يديرونها دورانًا سريعًا بخيوط يشدونها إلى أيديهم، وقد سبقه امرؤ القيس إلى هذه الصورة في وصف سرعة فرسه؛ إذ قال فيه كما مر في غير هذا الموضع: دَريرٍ كَخُذروفِ الوَليدِ أَمَرَّهُ ... تَقَلُّبُ كَفَّيهِ بِخَيطٍ مُوَصَّلِ وقد حاول زهير أن يضيف زيادة جديدة فجعل القوائم ملتئمات أي متناسقات كما جعلها متقابلات، كخذاريف لا كخذروف واحد، يقابل بعضها بعضًا. والحق أننا نحس إزاء زهير أنه استوفى كل ما كان ينتظر الشاعر الجاهلي من براعة في التصوير. وقد كان يحف هذه البراعة بضروب من الوقار تتضح في مدائحه وأهاجيه وغزلياته جميعًا؛ فهو يحتفظ بكرامته دائمًا، ولعل ذلك ما جعله ينفر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الخمر والميسر كما قدمنا في غير هذا الموضع. واقرأ مدائحه وأنعم النظر فيها فستراه يمثل لك في هرم والحارث بن أبي عَوْف وحصن بن حذيفة صورة السيد الفاضل؛ لا من حيث الشجاعة والكرم فحسب؛ بل أيضًا من حيث الحلم والعفو عن المسيء في العشيرة والدفع بالمعروف من القول والحدب على الفقراء وتجنب الفواحش والآثام. واقترنت هذه الصورة المثالية للسيد الفاضل في شعره بكثير من الحكم والدعوة إلى مكارم الأخلاق. وقد ذيل المعلقة بطائفة من الأبيات التي تذهب هذا المذهب، وقدمنا أن الأصمعي كان يشك فيها ويقول إنها لشاعر أنصاري يسمى صرمة، ويظهر أن حكمًا له اختلطت بحكم لهذا الشاعر، ونستطيع أن نفرد منها له مثل قوله: وَمَن يَعصِ أَطرافَ الزِجاجِ فَإِنَّهُ ... يُطيعُ العَوالي رُكِّبَت كُلَّ لَهذَمِ1 فإن هذا البيت يتفق وما لاحظناه عنده من ميله إلى إخراج أفكاره ومعانيه في صورة متلاحقة؛ فقد أراد أن يقول من أبي الصلح لم يكن له بد من الحرب؛ فلم يقل ذلك مباشرة؛ بل ذهب يبحث عن صورة تمثل الصلح عندهم، وسرعان ما لمعت في خياله عادة كانت معروفة لديهم، وهي أن يستقبلوا أعداءهم إذا أرادوا الصلح بأزجة الرماح، ومن ثم قال "ومن يعص أطراف الزجاج" يريد "ومن لا يطع الدعوة إلى الصلح والسلام" ومضى يمثل الدخول في الحرب بإطاعة أسنة الرماح والسيوف. وفكرة البيت متصلة بالمعلقة وما تدعو إليه من السلام والاستجابة إلى الصلح. وقد تكون الأبيات التي تتصل بفكرة الحياة والموت صحيحة النسبة إلى زهير لأنها تتصل كالبيت السابق بموضوع القصيدة، كقوله: رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب ... تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ وفي البيت أيضًا صورة بديعة؛ إذ يشبه الموت بناقة عشواء لا تبصر طريقها؛ فهي تخبط الطريق خبطًا أعمى ليس له نظام ولا قياس. والتفكير في الحياة والموت يكثر عند زهير كقوله في إحدى قصائده لهرم:   1 الزجاج: جمع زج وهو الحديدة في أسفل الرمح. والعوالي: سنان السيوف والرماح. اللهذم: السنان القاطع. وواضح أنه جعل رفع كعوب الرماح كناية عن الصلح والمسالمة؛ إذ كانت تلك عادتهم في الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 تَزَوَّد إِلى يَومِ المَماتِ فَإِنَّهُ ... وَلَو كَرِهَتهُ النَفسُ آخِرُ مَوعِدِ وإذا أخذنا نقرأ في أشعاره لقيتنا فيها حكم كثيرة، وهو ينثرها نثرًا خلال الموضوعات المختلفة التي يلم بها، فمن ذلك قوله: وَكُنتُ إِذا ما جِئتُ يَومًا لِحاجَةٍ ... مَضَت وَأَجَمَّت حاجَةُ الغَدِ ما تَخلو1 وقوله الذي أنشدناه: وَهَل يُنبِتُ الخَطِّيَّ إِلّا وَشيجُهُ ... وَتُغرَسُ إِلّا في مَنابِتِها النَخلُ وقوله: كَذَلِكَ خِيمُهُم وَلِكُلِّ قَومٍ ... إِذا مَسَّتهُمُ الضَرّاءُ خيمُ2 وقوله الذي أنشدناه: فَلَو كانَ حَمدٌ يُخلِدُ الناسَ لَم تَمُت ... وَلَكِنَّ حَمدَ الناسِ لَيسَ بِمُخلِدِ وقوله: فَإِنَّ الحَقَّ مَقطَعُهُ ثَلاثٌ ... يَمينٌ أَو نِفارٌ أَو جِلاءُ3 وكان عمر بن الخطاب يعجب بهذا البيت ويتعجب من صحة القسمة فيه، ويقول: لو أدركته لوليته القضاء لحسن معرفته ودقة حكمه4 ولعل في كل ما قدمنا ما يوضح مكانة زهير في الشعر الجاهلي؛ فقد كان شاعرًا من طراز ممتاز، شاعرًا له نظراته في الحياة والأخلاق، وهو إلى ذلك شاعر مصور يحسن أدوات صناعته من جميع وجوهها؛ فقد تمرس بنماذج أوس وغيره من فحول الجاهلية، ولم يكد ينظم أشعاره حتى ذاع اسمه في القبائل؛ فالتمسه بعض الشبان يتعلمون عليه هذه الصناعة الدقيقة التي يحسنها إلى أبعد حد، ونبغ   1 مضت وأجمت: مضت حاجة الأمس ودنت حاجة الغد. ما تخلو: يريد لا يخلو المرء من حاجة فحاجة من عاش لا تنقضي. 2 الخيم: الشيمة والخلق. 3 النفار: المنافرة إلى شيوخ القبائل للحكم. الجلاء: انكشاف الأمر. 4 الصناعتين للعسكري "طبعة عيسى الحلبي" ص342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 منهم الحطيئة، ولقَّن الشعر ولديه بجيرًا وكعبًا، وطار صيت الأخير في العصر التالي عصر المخضرمين. نحن إذن بإزاء شاعر ممتاز خبر صناعته الشعر الجاهلي وعرف أساليبها، واستطاع أن يؤدي أجمل صورة لها في لفظه وقوالبه وصيغه، وقد لاحظ القدماء ذلك وعبروا عنه عبارات مختلفة؛ فقالوا: إنه كان يصنع قصائده الطويلة في حول كامل وإنه صنع سبع حوليات1، ويَنْسُبُ الجاحظ هذا القول إلى زهير نفسه، فيقول: "كان زهير بن أبي سُلمى يسمي كبار قصائده الحوليات؛ ولذلك قال الحطيئة: خير الشعر الحولي المحكك "يقصد شعر أستاذه وشعره" وقال الأصمعي: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في شعره ووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجوده2". ويعلق الجاحظ على صنعة زهير وشعره في موضع آخر؛ فيقول: "من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا "كاملًا" وزمنًا طويلًا يردد فيها نظره ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه؛ اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات؛ ليصير قائلها فحلًا خِنذيذًا "تامًّا" وشاعرًا مفلقًا3". وسواء سمى زهير قصائده الطويلة بالحوليات أو سماها الرواة بهذا الاسم فإن هذه التسمية تدل على مدى ما أحس به القدماء تلقاه مطولاته؛ فقد أحسوا فيها بجهد شديد، وتصوروا أن هذا الجهد يستنفد آمادًا بعيدة من الزمن، وتخيلوها حولًا كاملًا، ومضوا يسمون زهيرًا والحطيئة وأضرابهما عبيد الشعر لما شعروا عندهم من طول الثقاف والتنقيح والتجويد والتحبير، وكأنهم يلغون حريتهم وإرادتهم؛ فهم عبيد في الشعر، يخضعون لإرادته الفنية وما يطوى في هذه الإرادة من تنسيق محكم للألفاظ والصيغ. ويظهر أن زهيرًا كان يعرف بذلك من قديم؛ فهم يروون عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: "زهير شاعر الشعراء لأنه كان لا يعاظل في   1 الخصائص لابن جني "طبع دار الكتب المصرية" 1/ 324. 2 البيان والتبيين: "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 2/ 13. 3 المصدر نفسه: 2/ 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الكلام وكان يتجنب وحشي الشعر ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه1". والمعاظلة بين الكلام المداخلة فيه بحيث لا ينضد نضدًا مستويًا. والحق أن صياغة زهير تستوفي حظوظًا بديعة من صفاء التعبير ونقائه وخلوصه من الأدران التي قد تؤذيه، وارجع إلى القطع التي أنشدناها له في المديح؛ فإنك ستجدها متوهجة، وما ذلك إلا من دقة التعبير وصقله إلى أبعد غاية وصل إليها شاعر جاهلي. والذي لا ريب فيه أنه كان يستولي على لغته ويسيطر عليها ويجمع منها خير ما فيها من ألفاظ وكلمات، وما يزال ينسقها حتى تتراءى كأنها عقود من الجواهر. وعلى نحو ما كان يستوفي حظوظًا مختلفة من الجمال في عباراته وصيغه كان يستوفي ضروبًا من الإتقان والكمال في موسيقاه؛ فليس فيها نشاز من إقواء وليس فيها اجتلاب قافية وإكراهها على إحلالها في أماكنها؛ فقوافيه تتمكن في مواضعها، ومهما ضاق عليه هذا الموضع نفذ منه على أجمل صورة، وانظر إلى قوله في معلقته: وأعلمُ ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِي فقد وصل إلى القافية؛ فوجد نفسه مضيَّقًا عليه، ولم يلبث أن نفذ إلى كلمة "عمي" فتمم البيت في غير عسر ولا مشقة. ومن ذلك قوله: هم يضربون حَبيكَ البَيْض إذ لَحِقُوا ... لا ينكصون إذا ما استُلْحِمُوا وحَمُوا2 فقد نفذ من الدرب الضيق في القافية، بما جاء به من كلمة "حموا" ولم ينفذ فحسب؛ فقد استخدم كلمة تناسق في حروفها مع الفعل السابق لها؛ فهي كلمة من نفس أسرتها، وهو ما يعبر عنه علماء البيان العربي باسم الجناس، وله أمثلة مختلفة في شعره كقوله الذي أنشدناه: كأن عيني وقد سال السَّليلُ بهم ... وجيزةٌ ما همُ لو أنهم أَمَمُ فقد جانس بين سال والسليل، وتعلق بحرف الميم في ألفاظ الشطر الثاني، فأحدث بينها تلاؤمًا واضحًا. ومن أمثلة الجناس عنده: وقد قلتما إن نُدْرِكِ السِّلْمَ واسعًا ... بمالٍ ومعروفٍ من القول نَسْلَمِ   1 أغاني 10/ 289. 2 حبيك البيض: طرائقه. البيض: خوذهم في الحرب. استلحموا: من التلاحم والمخالطة في القتال. حموا: اشتد غضبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وقوله: تقِيٌّ نِقيّ لم يُكثِّر غنيمةً ... بنهكة ذي القُرْبى ولا بِحَقَلَّدِ1 وعلى نحو ما كان يستخدم الجناس كان يستخدم الطباق، وله أمثلة كثيرة عنده كقوله الذي أنشدناه في وصفه للظُّعن. جعلنَ القَنانَ عن يمين وحَزْنه ... ومَنْ بالقنان من مُحِلٍّ ومُحْرِمٍ وقوله: يمينًا لنعم السيدان وجدتُما ... على كل حالٍ من سَحيلٍ ومُبْرَم وقوله: وقد كنت من سَلمى سنينًا ثمانيًا ... على صِيرِ أمرٍ ما يَمُرُّ وما يَحْلُو2 وقوله الذي أنشدناه: لَيثٌ بِعَثَّرَ يَصطادُ الرِجالَ إِذا ... ما كَذَّبَ اللَيثُ عَن أَقرانِهِ صَدَقا على أن زهيرًا إنما كان يستخدم الطباق والجناس من حين إلى حين فهما ليسا لونين فاقعين في شعره؛ إنما اللون الفاقع في شعره هو التصوير؛ إذ كان يودعه كل مهارته، وكان يأبى أن يخرج كثيرًا من أبياته إلا ويوشيها به؛ بحيث لا نبعد إذا قلنا إنه شاعر التصوير في الجاهلية، ومن ثم كثرت عنده التشبيهات والاستعارات كثرة مفرطة، وكان يسعفه بها خيال متوثب متهيئ ليخرج من جديد ما سمعه من أستاذه أوس وغيره، وليضيف إلى ذلك ثروة من عنده، ثروة خيالية تنعقد فيها مشابهات كثيرة بين الأشياء، وهي مشابهات من شأنها أن تجعلنا نحس بأننا ندخل معه في عالم خيالي حالم، وخاصة حين تلقانا استعاراته وما يملؤها به من أشباح وأرواح؛ فإننا نستشف معه كثيرًا من الأشياء وعلاقاتها بعضها ببعض، كما نستشف الجمال في داخلها ونشعر بغير قليل من المتاع.   1 النهكة: الإضرار. الحقلد: البخيل السيئ الخلق، يقول إنه لا يكثر ماله بظلم أقربائه، وليس ببخيل لئيم. 2 صير أمر: منتهاه وما يصير إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وارجع إلى عرضناه من أشعاره فستجد التشبيهات تتراكم فيها، وستراه دائمًا حين يفكر في شيء يلمع في ذهنه نظيره، محاولًا أن يربط بين الشبيه والشبيه بعلاقة لا تنفصم. وهي علاقات ننتقل بينها معجبين؛ بل هي مشاهد تجلب لنا البهجة والمسرة؛ إذ كان يعرف كيف يأتي منها بالنادر الطريف على شاكلة قوله الذي أنشدناه في وصفه للظعن وقصدها إلى غايتها: بَكَرنَ بُكورًا وَاِستَحَرنَ بِسُحرَةٍ ... فَهُنَّ لِوادي الرَسِّ كَاليَدِ لِلفَمِ وليس كل ما يلاحظ عنده كثيرة التشبيهات ولا وقوعه على نوادرها؛ بل لعل أهم ما يلاحظ أنه يعنى بتفصيل التشبيه؛ إذ لا يزال يلح على الصورة التي يعرضها، وكأنه يريد أن يستوفيها بجميع دقائقها وتفصيلها استيفاء؛ كقوله في وصف بعض صواحبه: تَنازَعَها المَها شَبَهًا وَدُرُّ الـ ... ـنُحورِ وَشاكَهَت فيها الظِباءُ1 فَأَمّا ما فُوَيقَ العِقدِ مِنها ... فَمِن أَدماءَ مَرتَعُها الخَلاءُ2 وَأَمّا المُقلَتانِ فَمِن مَهاةٍ ... وَلِلدُرِّ المَلاحَةُ وَالصَفاءُ فهو لا يشبه صاحبته ببقر الوحش والدر والظباء تشبيهًا عامًّا ويمضي؛ بل يعود إلى تفصيل تشبيهه؛ فهي تشبه الظباء في جيدها الطويل الجميل وبقر الوحش في سواد عينيها الفاتنتين والدر في ملاحته وصفائه ولمعانه وبهائه. وإذا كان زهير أتقن لون التشبيه من حيث كثرة الصور والتعمق فيها والإلحاح عليها بالتفاصيل؛ فإنه أتقن لون الاستعارة إتقانًا لعل شاعرًا جاهليًّا لم يبلغ مبلغه فيه، وارجع إلى معلقته وإلى صور الحرب التي أنشدناها فإنك تجد الاستعارات فيها تتلاحق، فالحرب أسد ضار؛ بل هي نار مشتعلة؛ بل هي رحى تطحن الناس؛ بل هي ناقة تنتج غلمان شؤم؛ بل هي أرض مغلة غلة قبيحة ليس فيها منافع للناس إنما فيها الموت الزؤام. وقد مثل -كما مر بنا- حياة العرب في حروبهم الدائرة وما يتخللها من فترات راحة بصورة قوم يرعون مراعي وخيمة، حتى   1 المها: بقر الوحش. شاكهت: شابهت. 2 الأدماء: الظبية البيضاء. الخلاء: الموضع الخالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 إذ أخذهم الظمأ الشديد وردوا على مياه وخيمة؛ بل على دماء مسفوحة. ونراه في نفس المعلقة يصف شجاعًا ويصوره في صورة أسد فيقول: لَدى أَسَدٍ شاكي السِلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظفارُهُ لَم تُقَلَّمِ1 وواضح أنه استتم في استعارته صورة الأسد بشعره المسترسل على منكبيه وأظفاره المسنونة التي لم تقلم يومًا والتي إن نشبت في شيء أتت عليه. ولم يكن زهير يكثر من الاستعارة في شعره فحسب؛ بل كان أيضًا يحاول أن يأتي فيها بالصور النادرة الغريبة كقوله في أحد مطالعه: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعري أفراس الصبا ورواحله2 وهو في الشطر الأول يقول: إن قلبه كف عن حب سلمى، وقد أراد على طريقته أن يعبر عن هذا المعنى بصورة؛ فذهب يتخيل، وبعد به خياله، فإذا هو يتصور أسباب حبه وصبوته التي كان دائمًا يلزمها أفراسًا ورواحل يركبها إلى صاحبته، وكان طريقه إليها مشغولًا دائمًا بهذه الرواحل والأفراس. وقد انتهى اليوم كل شيء؛ فقد انصرف عن سلمى وحبها، ولم تعد تشغله أسباب صبوته القديمة. وهي صورة بعيدة لا تقع إلا في ذهن يكثر من التخيل والإغراق في التصور، ذهن يتعمق في الأشياء والمعاني، حتى يتخيلها أحياء حقيقية. وأكبر الظن أننا لا نغلو إذا قلنا إن زهيرًا كان شاعرًا مصورًا، فالتصوير أساس فنه، وكأنما تحول عقله إلى آلة لاقطة، وهي ليست آلة فوتوغرافية؛ بل هي آلة خالقة، آلة تفكر في الأشياء من خلال أشياء أخرى فتعقد ما لا يحصى من مشابهات ومشاكلات، وما تلبث أن تتمثل فيما يقع تحت حسها أشباحًا وأطيافًا تتراءى لها واضحة تمام الوضوح. ومهما تحدثنا في هذا الجانب فلن نستطيع أن نوفي زهيرًا حقه من بيان مقدرته التصويرية، وكأني به كان الثمرة النهائية للجهود الفنية التي أودعها الجاهليون أشعارهم؛ فهو من جهة قد صقل أسلوبه إلى أبعد غاية من الصقل، ومن جهة ثانية.   1 شاكي السلاح: تام السلاح. مقذف: غليظ اللحم. لبدة الأسد: ما تلبد على كتفيه من شعره. 2 أقصر: كف. الأفراس: جمع فرس. الرواحل: الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 عني بموسيقاه وألحانه عناية واسعة؛ بحيث لا يبدو فيها أي شذوذ، ومن جهة ثالثة استتم فن التصوير بفرعيه من التشبيه والاستعارة. وكل هذه ألوان جمال تعجب بها عند زهير؛ فهو شاعر الجمال، وهو شاعر الحقيقة بحكمه، وهو شاعر الخير بدعوته إلى السلام وبما رسمه للفضيلة من مُثل فيمن مدحهم؛ حتى ليروى أن عمر بن الخطاب استمع إلى بعض قطعه المتألقة في مديح هرم؛ فقال ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم1. والحق أنه يصور مثلًا جيدًا من أمثلة الشعر الجاهلي؛ فقد انتهى عنده هذا الشعر إلى صورة رفيعة للخير والحق والجمال، وكان ما يزال يجهد نفسه في رسم خطوط هذه الصورة إجهادًا عبر عنه القدماء بأنه حَوْليٌّ صاحب حوليات، وهل يمكن أن نتصوره محققًا لهذه البراعة التي وصفناها بدون جهد عنيف كان يستنفد منه آمادًا طويلة من الزمن؟ إن كان جانب في شعره يدفعنا دفعًا إلى الإيمان بأنه كان يعاني طويلًا في صنع قصائده وما يتخذه لها من هذا الإطار الفني الدقيق.   1 أغاني 10- 304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الفصل العاشر: الأعشى 1- قبيلته : ينتسب الأعشى إلى قبيلة بكر بن وائل الكبيرة التي كانت تمتد فروعها وبطونها في شرق الجزيرة من وادي الفرات إلى اليمامة. ومن أهم هذه الفروع والبطون شيبان ويشكر وعجل، ثم حنيفة وقيس بن ثعلبة وكانتا تنزلان في اليمامة، وتتشعب قيس شعبًا أهمها مالك بن ضبيعة ومن عشائرهم بنو عبدان وبنو كعب، وربيعة بن ضبيعة ومن بيوتاتهم بنو جَحْدر، وسعد بن ضبيعة وإليهم ينتمي الأعشى. وتاريخ عشيرة بني سعد بن ضبيعة في العصر الجاهلي يندمج في تاريخ قبيلتها الكبيرة؛ فقد وقفت معها في حروب البسوس التي ظلت أربعين عامًا، كما وقفت معها في يوم الكلاب، ودخلت معها بعد هذا اليوم فيما دخلت فيه من الولاء للمناذرة، وطالما نصرتهم في حروبهم مع الغساسنة. ولما طلب كسرى أبرويز النعمان بن المنذر احتمى هو وأسرته ببني شيبان إحدى قبائل بكر وخلف عند سيدهم هانئ بن قبيصة الشيباني أولاده وسلاحه الذي يقال إنه بلغ نحو ألف درع. وقتل كسرى النعمان كما مر في غير هذا الموضع وولى على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي؛ فثارت شيبان وقبائل بكر ضده وأخذت جموعهما تغير على سواد العراق، فاضطر كسرى أن ينازلها، ودارت على جيوشه الدوائر في يوم ذي قار المشهور الذي انتصر فيه العرب على الفرس، وقد اختلف المؤرخون في توقيت تاريخه1 ولم تشترك قيس بن ثعلبة في هذه الحروب وحدها؛ فقد أسهمت مع بني حنيفة.   1 انظر في يوم ذي قار الأغاني "طبعة الساسي" 20/ 132 والطبري "طبعة دي غويه" 1/ 1015، 1/ 1028 وما بعدها. وابن الأثير 1/ 290 والعقد الفريد 6/ 111. وراجع معجم ما استعجم للبكري ومعجم البلدان لياقوت في "ذي قار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وغيرها من البكريين في حروب ضد تميم وغيرها من القبائل. وقد تقع حروب ومناوشات داخلية بين عشائرها، مثلها مثل بقية العشائر في الجاهلية؛ إذ كانت كثيرًا ما تنشب بينها خلافات تؤدي إلى بعض الدماء. ويظهر أنها رغم استقرارها في اليمامة وسكناها بعض القرى مثل "منفوحة" كانت تنزع إلى حياة البداوة وما يتصل بها من رعي الإبل والغنم؛ ولعل ذلك ما جعل الأعشى يهجو إيادًا في بعض شعره بأنها تعتمد على الزراعة يقول1: لسنا كمن جعلت إيَادٌ دارها ... تَكْرِيتَ تنظر حَبَّها أن يُحْصَدَا جعل الإلهُ طعامنا في مالنا ... رزقًا تضمَّنه لنا لن يَنْفَدَا2 مثل الهضاب جِزارةً لسيوفنا ... فإذا تُراع فإنها لن تُطْرَدا3 ضَمِنَت لنا أعجازُهن قُدورنا ... وضُروعُهنّ لنا الصَّريحَ الأجْردَا4 وواضح أنه يصرح بأن إيادًا تعتمد على الزراعة والحصاد، أما هم فما لهم الإبل التي لا تنفد، وهي إبل ضخمة كالهضاب، يعقرونها لضيوفهم، ولا يلم بها من يروعها أو يغير عليها خوفًا من بسالتهم، وهي تملأ قدورهم بلحمها وبيوتهم بألبانها. وعلى العكس كان أبناء عمومتهم من بني حنيفة أكثر استقرارًا، وقد اتخذوا الحجر قصبة لهم، وكان سيدهم في أواخر هذا العصر الجاهلي هَوْذَة بن علي، وكان يحمي القوافل الفارسية في طريقها إلى اليمن، ولعله من أجل ذلك وقف بعيدًا بقبيلته عن يوم ذي قار؛ فلم يشترك فيها. وأغلب الظن أن هذه القبيلة لم تعتمد على الرعي وحده شأن قبيلة الأعشى؛ بل كانت تعتمد أيضًا على الزراعة، فكانت نصف حضرية. وقد شاعت فيها النصرانية، أما قيس فظلت في جملتها وثنية تعبد الأصنام. وليس هذا كله ما بينهما من خلاف؛ فبينما حنيفة لا يُعْرَف   1 ديوان الأعشى طبعة جابر، القصيدة رقم 34، أبيات 33 وما بعده. 2 المال هنا: الإبل. 3 جزارة: مصدر جزره أي ذبحه ومنه يسمى جزورًا. 4 الصريح: اللبن الخالص. الأجرد: الصافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 لها شاعر مذكور في الجاهلية1 إذا قيس كثيرة الشعر والشعراء، وقد يكون ذلك بسبب بداوة قيس وكثرة الحروب التي عانتها، يقول ابن سلام: "وبالطائف شعر وليس بالكثير؛ وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء.. والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عُمان2" ونقول أيضًا إنه الذي قلل شعر حنيفة في اليمامة. أما قيس بن ثعلبة؛ فقد كانت كثيرة الحروب؛ فكانت تغير ويغار عليها، وفي أثناء ذلك ينشدها شعراؤها القصائد والأناشيد المحمسة، فنما الشعر فيها وازدهر، وقد اشتهر فيها غير شاعر من مثل المرقش الأكبر والمرقش الأصغر والمتلمس وابن أخته طرفة والمسيب بن علس. وقد أنشدنا في غير هذا الموضع قطعة طرفة في المعلقة التي يصور فيها فتوته وأنه ينفق حياته في الكرم والحرب والنساء والخمر. ونجد هذه الروح في شعر المرقشين، كما نجد عندهما غزلًا خفيفًا رقيقًا، ولكل منهما قصة عشق مأثورة.   1 ابن سلام: ص234. 2 ابن سلام: ص217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 2- حياته : عاش الأعشى في أواخر العصر الجاهلي، وليس بين أيدينا شيء واضح عن نشأته، وكل ما يقوله الرواة أنه ولد بمنفوحة في اليمامة وأن أباه كان يلقب بقتيل الجوع "لأنه دخل غارًا يستظل فيه من الحر؛ فوقعت صخرة عظيمة من الجبل، فسدت فم الغار، فمات فيه جوعًا"، وفي ذلك يقول جُهنَّام يهجوه، وكانا يتهاجيان: أبوك قَتيلُ الجوع قَيْس بن جَنْدَل ... وخالك عَبْدٌ من خُماعةَ راضعُ1 وخُماعة -فيما يظهر- جد بعيد لأمه، وهي أخت المسيب بن علس، وعنه حمل الشعر الأعشى؛ إذ كان راويته، ولا شك في أنه روى لغيره من شعراء قبيلته، فهو امتداد لهم جميعًا.   1 أغاني "طبعة دار الكتب" 9/ 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 واسم الأعشى ميمون؛ وإنما سميَّ الأعشى لضعف بصره، ومن أجل ذلك كان يكنى بأبي بصير1. وإذا كنا لا نعرف شيئًا واضحًا عن نشأته فإنه يتبين لنا من أخباره ومن اسمه "صَنَّاجة2 العرب" أنه انتقل بالشعر الجاهلي نقلة؛ فإن كلمة صنَّاجة تعني: أنه كان يتغنى بشعره، ويبالغون في ذلك حتى يجعلوا كسرى يستمع لبعض غنائه فيه3!! وتدل أخباره وأشعاره على أنه كان كثير التنقل والأسفار البعيدة في أنحاء الجزيرة يمدح سادتها وأشرافها، وفي ديوانه مديح للأسود بن المنذر وأخيه النعمان وإياس بن قبيصة الطائي وإلى الحيرة من بعده، ويظهر أنه كان يقيم بها كثيرًا. وفيه أيضًا مديح لقيس بن معد يكرب الكندي ولسلامة ذي فائش أحد أمراء اليمن ولبني عبد المدان بن الديان سادة نجران ولهوذة بن علي سيد بني حنيفة. وكان يفد على سوق عكاظ، ويمدح من يمر به في طريقه إليها من شيوخ العرب وأشرافهم4. ولا يكتفي الرواة بما يدل عليه شعره من الرحلة إلى الحيرة واليمن وديار كندة في حضرموت ونجران وعكاظ؛ بل يذهبون به إلى الفرس وعمان وبلاد الشام متغلغلًا فيها إلى حمص وأورشليم "بيت المقدس" ويجتازون به البحر إلى نجاشي الحبشة، ويُجرون على لسانه شعرًا يتحدث فيه عن هذه الرحلات البعيدة؛ فيقول:5 وقد طُفْتُ للمال آفاقَه ... عُمانَ فَحِمصَ فأورِيشَلِمْ أتيتُ النجاشيَّ في أرضه ... وأرضَ النَّبيط وأرضَ العجم وأكبر الظن أنه لم يصنع شيئًا من ذلك، وأنه إنما اقتصر في أسفاره ورحلاته على أطراف اليمن ونجد والحيرة يمدح شيوخ العرب وسادتهم. ووقع -كما يقول الرواة- في بعض رحلاته بديار بني عامر ومعه هداياه من بعض ممدوحيه، فخشي على نفسه وعلى هداياه؛ فاستجار بعلقمة بن عُلاثة، فقال له: قد أجرتك، فقال له الأعشى من الجن والإنس؟ قال: نعم، قال الأعشى: ومن الموت،   1 ذهب ابن قتيبة إلى أنه كان أعمى. انظر الشعر والشعراء "طبع دار المعارف" 1/ 212. 2 أغاني: 9/ 109. 3 أغاني: 9/ 115 والشعر والشعراء: 1/ 214. 4 أغاني: 9/ 113 وما بعدها. 5 ديوانه القصيدة رقم 4 وقارن بالقصيدة رقم 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فقال: لا. وتمضي القصة فتذكر أن علقمة كان قد اختلف مع ابن عمه عامر بن الطفيل على سيادة القبيلة، وتنافرا منافرة حادة، اشترك فيها كثير من الشعراء، فكان مع علقمة مروان بن سُراقة والحطيئة ومع عامر لبيد الشاعر المشهور؛ ولما لم يجر علقمة الأعشى من الموت أتى عامر بن الطفيل فقال له: أجرني قال: قد أجرتك، قال: من الجن والإنس؟ قال: نعم، قال: ومن الموت. قال: نعم. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إن مت وأنت في جواري بعثت إلى أهلك الدية، فقال: الآن علمت أنك قد أجرتني من الموت؛ فمدح عامرًا وهجا علقمة1. والأعشى في شعره لا يعيش لمديح السادة والأشراف وأخذ نوالهم فحسب؛ بل هو يعيش أيضًا لقبيلته ومنازعاتها الكبيرة مع بكر ضد الفرس؛ ففي ديوانه مطولة يهددهم فيها ويتوعدهم كما يتوعد من يقف معهم من العرب مثل إياد2، وهو يعيش كذلك في منازعات قبيلته مع بني شيبان، فيتعرض بالوعيد والتهديد ليزيد بن مسهر الشيباني، على نحو ما تصور ذلك معلقته. فإذا حدثت منازعات صغرى بين عشيرته وأبناء عمومتهم من عشائر قيس بن ثعلبة ناصرها ذاكرًا ما بينهم وبينها من أواصر الرحم، على نحو ما نرى في قصائده التي وجهها إلى بني جَحْدر وبني عبدان. وقد اصطدم عند الأخيرين بشاعرهم جُهُنَّام، فتهاجيا طويلًا. ويقال إنه لما سمع بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم وانتصاراته وانتشار دعوته رغب في الوفود عليه ومديحه، وعلمت قريش بذلك فتعرضت له تمنعه، وكان مما قاله له أبو سفيان بن حرب: إنه ينهاك عن خلال ويحرِّمها عليك، وكلها بك رافق ولك موافق، قال: وما هن؟ فقال أبو سفيان: الزنا والقمار والربا والخمر؛ فعدل عن وجهته، وأهدته قريش مائة من الإبل، فأخذها وانطلق إلى بلده معرضًا عن الرسول ودعوته؛ فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره، فقتله3 سنة629 للميلاد. وهذه الخلال التي ذكرها أبو سفيان والتي جعلته يصد عن لقاء الرسول الكريم تدل على أنه كان وثنيًّا مغرقًا في وثنيته، وفي شعره نفسه ما يصور معالم هذه الوثنية،   1 انظر في هذه المنافرة وصلة الأعشى بها الأغاني: "طبعة الساسي" 15/ 55 وديوان الأعشى: ص165. 2 الديوان: القصيدة رقم 34. 3 أغاني: 9/ 125 وما بعدها والشعر والشعراء: 1/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 إذا نراه كثير الحديث عن القيان مثل هُرَيْرة وقُتَيلة وجُبَيْرة بل إنه ليتحدث عن البغايا اللائي يبعن أعراضهن1، ويقرنه ابن سلام في هذا الصدد بامرئ القيس فيقول: "وكان من الشعراء من يتأله في جاهليته ويتعفف في شعره ولا يستبهر بالواحش.. ومنهم من كان يتعهر ولا يبقي على نفسه ولا يتستر، منهم امرؤ القيس ومنهم الأعشى2" وقد تمدح في شعره كثيرًا بالقمار كقوله مفتخرًا بعشيرته3: من شبابٍ تراهم غير مِيلٍ ... وكهولًا مَراجِحًا أحلاما4 ولقد تُصْلَقُ القِدَاحُ على النَّـ ... ـيب إذا كان يَسرُهن غَراما5 فهم يضربون قداح الميسر على النوق الضخمة التي يتأبى غيرهم أن يضربها عليها اعتزازًا بها، أما الخمر فهو أكبر شاعر تغني بها في الجاهلية. وطبيعي لمن تكون حياته على هذا النحو من المجون والإثم فيه أن يكون وثنيًّا متعمقًا في وثنيته وأن لا يعتنق الإسلام ولا غير الإسلام من الأديان السماوية، وقد زعم لويس شيخو أنه كان نصرانيًّا، وشاركه في هذا الزعم بعض المستشرقين مستدلين على ذلك بأنه كان يمدح أساقفة نجران ويتصل بالبيئات المسيحية في الحيرة وبمثل قوله في القصيدة رقم أربع وثلاثين: رَبِّي كريمٌ لا يكدِّر نعمةً ... وإذا يناشَدُ بالمهارق أنْشَدَا والمهارق هنا الصحف الدينية؛ فكأنه يعترف بأنه نصراني، ترتَّل لربه الأناشيد الكنسية؛ غير أن هذا ليس حتمًا؛ فقد تكون لدى الوثنيين من الجاهليين مهارق كانوا يتلون فيها بعض أدعيتهم. وقد يكون البيت دخيلًا على القصيدة، وسنعرف بعد قليل أن راوي ديوانه كان مسيحيًّا، وأغلب الظن أنه هو الذي أدخل هذا البيت في القصيدة، كما أدخل في قصيدة أخرى قسمه بالمسيح في قوله6:   1 الديوان: القصيدة رقم: 22. 2 ابن سلام ص34 ويستبهر في الفواحش يتبجح بذكرها ويفصح عما حقه أن يكتتم. 3 الديوان، القصيدة رقم38. 4 ميل: جمع أميل وهو الجبان. مراجحًا: راجحي العقول. 5 تصلق: تضرب. النيب: الإبل الكبيرة. اليسر: القمار. 6 انظر الديوان، القصيدة رقم23 البيت16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وَإِنّي وَرَبِّ الساجِدينَ عَشِيَّةً ... وَما صَكَّ ناقوسَ النَصارى أَبيلُها1 وقد جعله في قصيدة ثالثة يقسم براهب اللِّج؛ بل بثوبه2. وقد يكون في ذلك ما يدل على أن القصيدتين جميعًا موضوعتان؛ فقد كان الأعشى وثنيًّا غاليًا في وثنيته، كما يدل على ذلك خلاله التي وصفناها في شعره، وأيضًا أقسامه الوثنية التي رواها نفس هذا الراوي المسيحي؛ إذ نراه يقسم بالكواكب والنجوم3، كما يقسم بالكعبة التي يحج إليها العرب وبما يهدون إليها من القرابين في مثل قوله4: إني لعمرُ الذي خطَّت مَناسِمُها ... تَخْدِي وسِيق إليه البَاقِرُ الغُيُل5 والحق أنه لم يكن نصرانيًّا؛ إنما كان وثنيًّا على دين آبائه، وقد احتفظ في وثنيته بكل ما كان فيها من إثم وفجور.   1 صك: ضرب. الأبيل: الراهب. 2 القصيدة رقم 15 البيت 44. 3 القصيدة رقم 27 البيت 18. 4 القصيدة رقم 6 البيت 62. 5 خطت: شقت التراب. المناسم: جمع منسم وهو طرف الخف. تحذي: تسرع في السير مع اضطراب. الباقر. اسم جمع للبقر. الغيل: جمع غيول وهو الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 3- ديوانه : للأعشى ديوان كبير نشره جاير في لندن سنة 1928 وقد اعتمد في نشره على مخطوطة في الإسكوريال برواية ثعلب المتوفى سنة291 للهجرة ثم مخطوطة دار الكتب المصرية ونسختين نُقلتا عنها في إستراسبورج وزاخو، ومخطوطة في باريس وأخرى في ليدن. وأضاف إلى الديوان ملحقين بما وجده من شعر الأعشى في كتب الأدب وما وجده من أشعار لمن لقبوا بالأعشى وهم كثيرون. وكان اعتماده الأساسي على مخطوطة الإسكوريال؛ لأنها رواية ثعلب، ورغم أنها تنقص أوراقًا من نهايتها تحتفظ للأعشى بسبع وسبعين قصيدة ومقطوعة. وقد أضاف إليها خمس قصائد من المخطوطات الخمس الأخرى، وجميعها تتفق في رواية خمس عشرة قصيدة له، كما تتفق في أنها مجهولة النسب؛ ولذلك لا يمكن الاعتماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 على هذه المخطوطات، وأغلب الظن أنها مختارات جمعت من نسخة ثعلب، وليست رواية مقابلة لها. وقد صورت دار الكتب المصرية أخيرًا مخطوطة من المكتبة المتوكلية اليمنية بها ست وأربعون قصيدة ومقطوعة للأعشى، ويفجؤنا كاتبها في فاتحتها بأن هذا كتاب فيه من شعر الأعشى؛ فهي لا تتضمن ديوانه إنما تتضمن مختارات منه، وهي مختارات تدل على أنها جمعت من نفس الرواية الكوفية، وإن كنا نجد فيها قصائد غير مثبتة في رواية ثعلب؛ ولكن هذا لا يقوم دليلًا على أنها لم تستق من روايته، فروايته التي نشرها جاير كما قدمنا غير كاملة؛ إذ تنقص بعض أوراق. ومعنى ذلك أننا نفتقد في شعر الأعشى الرواية البصرية؛ فيما عدا القصيدتين رقم 6، 11، فقد نصَّ شارح الديوان على أن أبا عبيدة قرأ الأولى على أبي عمرو بن العلاء وأن الأصمعي سمع أبا عمرو ينشد الثانية حفظًا، ونص الشارح أيضًا على أن القصائد 28، 29، 30، 57، 65، 66 برواية أبي عمرو، وظن جاير -كما ذكر في مقدمته- أنه أبو عمرو بن العلاء، وليس بصحيح إنما هو أبو عمرو الشيباني؛ فهو الذي كانت تروى عنه الدواوين، وهو راوية كوفي ينقل عنه السكري وثعلب وأضرابهما من الكوفيين. على أن الشارح نص في القصائد1، 29، 34، 55، 58، 59، 60 أنها من رواية أبي عبيدة البصري، وإن كنا نلاحظ أن القدماء شكوا في القصيدة رقم 60 وقالوا إنها لابن دأب1. على كل حال ليس بين أيدينا رواية بصرية كاملة للديوان؛ إنما بين أيدينا راوية كوفية فيها إشارات إلى بعض ما تضمنته الرواية البصرية. فإذا لاحظنا أن الرواية الكوفية للشعر الجاهلي غير دقيقة وأنها تتزيد فيه كما لاحظنا سابقًا في دواوين امرئ القيس والنابغة وزهير؛ كان من الواجب ألا نقبل روايتها لديوان الأعشى دون احتياط واحتراس شديد، وقد تصادف أن روايته الذي حمله عنه وأذاعه في الناس كان نصرانيًّا معمرًا هو يحيى2 أو يونس بن متى وأن هذا الراوي من الممكن أن يكون قد عبث بالديوان فأدخل فيه ما ليس منه، ليزيد بعض المعاني المسيحية، وقد رُوِيَ عنه أنه كان يقول: "كان الأعشى قَدَريًّا إذ يقول: استأثرَ اللهُ بالوفاء وبالـ ... ـعدل وولَّى الملامةَ الرّجُلا   1 الديوان: ص207 2 الأغاني: 9/ 112 ومصادر الشعر الجاهلي ص238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فسأله سائل: من أين أخذ الأعشى قوله ومذهبه فأجاب: "من قِبَل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك1". ويبعد أن يكون الأعشى حقًّا قد تغلغل نظره كل هذا التغلغل؛ فإذا هو يقول بالقدر وأن الإنسان حر في تصرفاته، ولا يكتفي بذلك؛ بل يقول بالعدل على الله كما تقول المعتزلة، والمعقول أن يكون يحيى هو الذي وضع البيت؛ بل لقد شك ابن قتيبة في القصيدة جميعها، وقال بعد أن روى طائفة من أبياتها هذا شعر منحول2، وينبغي أن نشك كما شك ابن قتيبة في قصائد الأعشى الأخرى التي تصور أفكارًا مسيحية أو أفكارًا إسلامية؛ أما الأفكار المسيحية فلأن راويه الذي نشره نصراني، وأما الثانية فلأنها معان جديدة لم تعرفها الجاهلية لا هي ولا كل ما يتصل بها من ألفاظ القرآن وأساليبه. ويصور ذلك تصويرًا واضحًا قصيدته رقم17 التي قالوا إنه مدح بها الرسول صلوات الله عليه؛ مع أنه -كما قدمنا- لم يلقه وصدَّته قريش عن لقائه، وبمجرد أن نقرأ القصيدة وقوله فيها: إِذا أَنتَ لَم تَرحَل بِزادٍ مِنَ التُقى ... وَلاقَيتَ بَعدَ المَوتِ مَن قَد تَزَوَّدا نَدِمتَ عَلى أَن لا تَكونَ كَمِثلِهِ ... وَأَنَّكَ لَم تُرصِد لِما كانَ أَرصَدا3 فَإِيّاكَ وَالمَيتاتِ لا تَأكُلَنَّها ... وَلا تَأخُذَن سَهمًا حَديدًا لِتَفصِدا4 وَذا النُصُبِ المَنصوبَ لا تَنسُكَنَّهُ ... وَلا تَعبُدِ الأَوثانَ وَاللَهَ فَاِعبُدا5 وَصَلّ عَلى حينِ العَشِيّاتِ وَالضُحى ... وَلا تَحمَدِ الشَيطانَ وَاللَهَ فَاِحمَدا وَلا السائِلَ المَحرومَ لا تَترُكَنَّهُ ... لِعاقِبَةٍ وَلا الأَسيرَ المُقَيَّدا وَلا تَسخَرَن مِن بائِسٍ ذي ضَرارَةٍ ... وَلا تَحسَبَنَّ المَرءَ يَومًا مُخَلَّدا6 وَلا تَقرَبَنَّ جارَةً إِنَّ سِرِّها ... عَلَيكَ حَرامٌ فَاِنكِحَن أَو تَأَبَّدا7   1 الأغاني 9/ 113 وما بعدها. 2 الشعر والشعراء "طبعة دار المعارف": ص14 3 أرصد: أعد وهيأ. 4 يشير إلى أنه لا بد من الذبح كما تقضى تعاليم الإسلام. 5 النصب: حجارة كانوا ينصبونها حول الكعبة ويقدسونها أو هي الأوثان. 6 الضرارة: ذهاب البصر أو النقص في الأنفس والأموال. 7 السر هنا: البضع. النكاح: الزواج. التأبد: البعد عن النساء والتعزب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 نعرف توًّا أنها موضوعة، لا لأنه فيها يدعو إلى تعاليم إسلامية فحسب؛ بل لأنه ينظم فيها آيات قرآنية من مثل قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وقد نظم في البيتين الثالث والرابع قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أما في البيت الخامس فنظم قوله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} 342 نعرف توًّا أنها موضوعة، لا لأنه فيها يدعو إلى تعاليم إسلامية فحسب؛ بل لأنه ينظم فيها آيات قرآنية من مثل قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وقد نظم في البيتين الثالث والرابع قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أما في البيت الخامس فنظم قوله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} . ونظم في البيت السادس قوله جل وعز: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وفي البيت السابع نظم قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} أما البيت الثامن فنظم فيه مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} وقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . وواضح من هذا كله أن القصيدة منتحلة، وهي لا تتفق في شيء ونفسية الأعشى، وما كان ليسمع القرآن ويؤمن بتعاليمه على هذا النحو، ثم ينصرف عن رسوله الكريم وهديه. ونحن لا نشك فقط في هذه القصيدة؛ بل نشك كذلك في القصائد الأخرى التي تردد معاني الإسلام ومثاليته الخلقية أو تردد بعض المعاني المسيحية. وبهذا القياس نتهم قصيدته رقم 5 لقوله فيها يمدح قيس بن معد يكرب الكندي: وَما أَيبُلِيُّ عَلى هَيكَلٍ ... بَناهُ وَصَلَّبَ فيهِ وَصارا1 يُراوِحُ مِن صَلَواتِ المَليـ ... ـكِ طَورًا سُجودًا وَطَورًا جُؤارا 2 بِأَعظَمَ مِنهُ تُقى في الحِسابِ ... إِذا النَسَماتُ نَفَضنَ الغُبارا وواضح أنه يصفه بالتقوى وأنه يراقب ربه، ويقول إن الراهب الذي يصلب له في هيكله ويصلي له ساجدًا ويتضرع ليس أعظم منه تقوى وخشية، حين تهب الريح اللينة نافضة للغبار. وقد نظم منتحلها قوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} فقال: عَطاءَ الإِلَهِ فَإِنَّ الإِلَـ ... ـهَ يَسمَعُ في الغامِضاتِ السِرارا   1 أيبلي: راهب. الهيكل: موضع في صدر الكنيسة يوضع فيه القرابين. صلب: صور الصليب بيده. صار: سكن 2 الجؤار: التضرع بالدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ومثلها القصيدة رقم 15 التي أنشد فيها منتحلها قسمه بئوبى راهب اللج فقال: فَإِنّي وَثَوبي راهِبِ اللُجِّ وَالَّتي ... بَناها قُصَيٌّ وَالمُضاضُ بنُ جُرهَمِ1 وحقًّا إنه أضاف إلى ثياب الراهب القسم بالكعبة، ولكن مما يزيد الشبهة في القصيدة أننا نجد فيها هذا البيت، يهجو به خصمه: وَما جَعَلَ الرَحمَنُ بَيتَكَ في العُلا ... بِأَجيادِ غَربِيِّ الصَفا وَالمُحَرَّمِ2 ولم تشع كلمة الرحمن بين الشعراء إلا في الإسلام أخذًا من قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقد دارت في القرآن الكريم. ونقف نفس الموقف من القصيدة رقم 23 للبيت الذي مر بنا والذي يقسم به بالمسيح وضرب الراهب للناقوس. ومما لا شك فيه أن قوله في قصيدة النعمان رقم 28: فَلا تَحسَبَنّي كافِرًا لَكَ نِعمَةً ... عَلَيَّ شَهيدٌ شاهِدُ اللَهِ فَاِشهَدِ مما يضعفها؛ لأنه يلخص فكرة الملائكة الشاهدين المعروفة في الإسلام. وقد شك ابن قتيبة في القصيدة رقم35 وبها بيت القدر الذي أنشده يحيى بن متى فيما أسلفنا. وتكاد تكون القصيدة رقم66 في كثير من أبياتها نظمًا لمواد قرآنية على هذه الشاكلة: وَرَبَّكَ لا تُشرِك بِهِ إِنَّ شِركَهُ ... يَحُطُّ مِنَ الخَيراتِ تِلكَ البَواقِيا بَلِ اللَهَ فَاِعبُد لا شَريكَ لِوَجهِهِ ... يَكُن لَكَ فيما تَكدَحُ اليَومَ راعِيا وقد مضى واضعها يدعو إلى تقوى الله وصلة الرحم ورد الأمانات إلى أهلها والتعفف عن الجارة، ويقول محذرًا من معصية الله: "فإنك لا تخفى على الله خافيا" ويقول أيضًا: "كفى بكلام الله عن ذاك ناهيا"؛ فلا شك في أن هذه القصيدة إسلامية. على أنها تلفتنا إلى شيء مهم، وهو أن الأعشى أضيفت إليه أشعار تذهب مذهب العظة والاعتبار، ولا نرتاب في أن يحيى بن متى لعب في ذلك.   1 اللج: غدير عند دير هند. ويريد بثوبيه أعماله الصالحة. ومعروف أن أمر الكعبة كان إلى جرهم ثم صار إلى قصي. 2 أجياد: موضع في بطحاء مكة، والفناء المحرم: حرم مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 دورًا كبيرًا، وقد تبعه القصاص والوعاظ المسلمون يزيدون في النسيج خيوطًا فإذا الأعشى كأنه واعظ من وعاظ الكوفة، يتحدث إلى الناس حديث عظة عن الدهر وتقلباته والموت وما طوى من الملوك وأسباب ترفهم ونعيمهم، وكيف يأتي على الناس؛ فالكل إلى فناء، ولا يبقى سوى وجه ربك ذي الجلاء والإكرام ولا يبدو ذلك في قصيدة من ديوانه أو قصيدتين؛ بل إنه يجري في قصائد كثيرة واقرأ قصيدته ذات الرقم2 فإنك ستراه يستهلها بالحديث عن حياة الإنسان وما يلقى فيها من العناء والشقاء بالموت وما ينزل به من الأمراض والأحزان، وكيف أن أحدًا لا يستطيع الفرار من المنية، ويسترسل في الحديث عمن مات من الملوك الأولين. وفجأة يخرج إلى الحديث عن لذاته. ولعل من الطريف أن القدماء أنكروا القصيدة1. ومثلها القصيدة رقم 4 وفيها يتحدث عن طوافه في البلاد، وقد أنشدنا منها فيما مر البيتين اللذين يذكر فيهما أنه زار أورشليم والنجاشي في أرضه، ولكن ليس هذا هو الذي نقف عنده فحسب؛ فقد مضى يتحدث عن قصة حصن الحضر وتخريب سابور له بجنوده، وينهي قصته تلك بقوله: وَفي ذاكَ لِلمُؤتَسِي أُسوَةٌ ... وَمَأرِبُ قَفّى عَلَيها العَرِم2 ويمضي في هذه القصة قصة سد مأرب وخرابه وتشتت حمير في البلاد، متخذًا من ذلك عظة جديدة. وعلى هذا المثال قصيدته رقم13 وفيها يحدثنا عن زرقاء اليمامة وكيف عصاها أهلها ولم يأتمروا بأمرها حين خوفتهم جيوشًا قادمة هي جيوش حسان تُبَّع، وقدمت الجيوش فجعلت عاليها سافلها وحطمتهم حطمًا، وقد شك القدماء في القصيدة وأنكروها3. وليس في القصيدة رقم14 ذكر للملوك الأولين؛ ولكنها تحمل وصية خلقية بها كثير من الخيوط الإسلامية تجعلها أشبه بموعظة؛ إذ لا يعد القريب قريب النسب، وإنما هو قريب الود والبر، ويقول إنه ليس عاقًّا ولا ذا نميمة، وإنه لا ينتظر من الناس جزاءه وإنما ينتظره من ربه. ومثل هذه المعاني تجعلنا نشك فيها كما نشك في القصيدة رقم33 وفيها حديث طويل عن فناء الحياة وأن كل شيء فيها إلى زوال؛ فالكل هالك كما هلك ساسان.   1 انظر الموشح للمرزباني ص49. 2 العرم: سيل مشهور. 3 الموشح ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ملك الفرس ومورق ملك الروم وكسرى شاهنشاه، وهذا عادياء لم يغنه حصنه بتيماء الذي بناه سليمان، ويسهب في وصف الحصن، وكذلك كان أمر النعمان؛ إذ لم تنفعه أمواله ولا ما كان يجبى إليه، فلم ينج من القضاء. ومن هذا النمط نفسه قصيدته رقم36 التي يقول فيها. إِنَّما نَحنُ كَشَيءٍ فاسِدٍ ... فَإِذا أَصلَحَهُ اللَهُ صَلَح ويحدثنا عن هلاك الملوك الأولين مثل عمرو بن هند حديثًا كله عظة واعتبارًا؛ فإن الناس هالكون لا محالة، وكذلك يصنع في قصيدته رقم39، ومثلها رقم53 أما القصيدة رقم54 فإنه يتحدث فيها عن قصر ريمان قصر الحميريين الذي تداوله الحبش والفرس وما أصابه من البلى والخراب. وقد أنكر القدماء نسبة المقطوعة رقم56 1 كما أنكروا أختها رقم60 وأشرنا إلى ذلك فيما أسلفنا. وأبيات الأخيرة تختلط بأبيات القصيدة رقم72 ولذلك كنا نتهمها هي الأخرى، وأنكر القدماء القصيدة رقم 62 وقالوا إنها تختلط بشعر لنابغة بني شبيان2. ونراه في القصيدة رقم 79 يدعو لإياس بن قبيصة أن يجزيه الله جزاء نوح؛ إذ أوحى إليه أن يصنع الفلك ليعصمه من الطوفان. ونلتقي في نهاية الديوان بالقصيدة رقم82 وهي تلتقي في بعض أبياتها بقصيدة رواها المفضل الضبي في المفضليات لعوف بن الأحوص وهي فيها ذات الرقم36 ونسب الجاحظ بعض أبياتها في الحيوان إلى مضرس3 بن زرارة لقيط. وليست هذه القصائد وحدها في الديوان هي التي ينبغي أن لا نطمئن إليها؛ لما يداخلها من الوعظ والمعاني الإسلامية والمسيحية؛ فقد أضاف إليه الرواة الوضاعون غير قليل من القصائد والأشعار، ويمكننا معرفة وضعها من عرضها على تقاليد الشعر الجاهلي وأسلوب الأعشى نفسه في مطولاته التي لا يعتورها الشك. وقد تأخذ القصيدة شكلًا قصصيًّا غير مألوف لدى الشعراء الجاهليين. وإذا أخذنا نقرأ في الديوان على هذه الأسس؛ وجدنا غير قليل من القصائد يستوقفنا، من ذلك القصيدة رقم12 لما يصور فيها من قصة عماه وقائده، وتدل رحلاته الكثيرة أنه كان ضعيف   1 السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 66 وانظر الديوان ص204. 2 الديوان: ص208. 3 الحيوان: 5/ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 البصر ولم يكن مكفوفًا، ومثلها القصيدة رقم20 للين أسلوبها وضعفه، وهو أشبه بأساليب العباسيين، ونراه في القصيدة رقم25 يسوق في تفصيل قصة السموأل وما كان من إبداع امرئ القيس عنده مائة درع قبل رحيله إلى قيصر وحصار الحارث بن ظالم أو الحارث الغساني له حتى يأخذها وتحصنه منه بحصنه، ومفاجأته له بأحد أبنائه، وكان يصطاد، وقوله له إما أن تسلم الأدراع إليَّ وإما أن أقتل ابنك، وأبى السموأل أن يسلم الأمانة وفاء، وقتل الحارث ابنه تحت عينه. وهي قصة مشكوك في أصلها، ويزيدها شكًّا في قصيدة الأعشى أنه رواها مفصلة بصورة تدل على أنها موضوعة، وربما وضعها أحد أولاد السموأل في الإسلام، ومن أجل ذلك نشك في القطعة رقم24 التي تقدم لها. وإذا تقدمنا في الديوان وأعدنا النظر في القصيدة رقم39 التي اتهمناها لما فيها من حديث عن هلاك القرى والأمم؛ لاحظنا أنها تتضمن في نحو عشرين بيتًا قصة غزلية، يصور لنا فيها كيف بعث لصاحبته رسولًا شيطانًا لا يخشى الرقباء، وكيف تخلص إليها الرسول فنازعها الحديث مخافتًا؛ حتى إذا أنكرته ظل يغويها حتى أسلس له قيادها، فشاورها متى يأتيها الأعشى وكيف يدخل إليها. ويحدثنا أنه ألم بها وقد غفل الرقباء وبات إلى جنبها لا يفصلهما حجاب، ويمضي فيصف مبيته عندها وصفًا صريحًا. وليس من ريب في أن هذه القصة تعلن بدورها عن انتحال القصيدة وأنها موضوعة، ولكن ليس هذا ما نريده، إنما نريد أن نقول: إنه ينبغي أن نشك فيما يجري مجرى هذه القصيدة المنتحلة وقصتها الغزلية. ومن أجل ذلك كنا نشك فيما يجري مجرى هذه القصيدة المنتحلة وقصتها الغزلية. ومن أجل ذلك كنا نشك في القصيدة رقم52 وخاصة أنها غزل ووصف خالص، وليس لها موضوع من مديح أو فخر أو هجاء كما تعودنا عنده، ومما يزيدنا شكًّا فيها استرساله في الخيال مع كل ما يشبه صاحبته به، وخاصة حين شبه مذاق ريقها بطعم الزنجبيل والتفاح ممزوجين بعسل النحل؛ فقد أخذ في وصف من يشتار العسل ويجنيه، ولم يكن العسل واشتياره مما تعرف به قيس بن ثعلبة في الجاهلية؛ إنما كانت تعرف به هذيل. ونقف نفس الموقف من القصيدة رقم55 لكثرة ما فيها من ألفاظ فارسية، وكذلك القصيدة رقم63 لأنها تفتقد الغرض الواضح، وكأن من نحلوها الأعشى أرادوا بها أن يجروا على لسانه حديثه عن أسفاره البعيدة إلى الغساسنة في الشام وبني الجُلَنْداء في عمان وغيرهم. وليس في القصيدتين رقمي64 و 65 غرض واضح إنما فيهما غزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وخمر أو غزل ووصف، ولذلك كنا نشك فيهما كما نشك في القصيدة رقم76 لأنها كما يقول رواتها في مديح قيس بن معد يكرب، وليس له فيها سوى ثلاثة أبيات في مطلعها ثم تمضي القصيدة في الغزل والخمر، وهي صورة معكوسة للصورة الطبيعية عنده؛ إذ يبدأ بالغزل، ثم يطيل في المدح. ونحن نشك أيضًا في القصيدة التي تليها رقم77 لا لغزلها الماجن فحسب؛ بل لأن هذا الغزل يستنفد منها 24 بيتًا، ويليه وصف للناقة في 3 أبيات وفخر لا يتجاوز 5 أبيات. ومثلها القصيدة رقم 78؛ إذ نراه يصور فيها لهوه ومجونه في 22 بيتًا، ثم يترك لممدوحه 5 أبيات ومثلهما القصيدة رقم 80 وهي غزل خالص أودع في أسلوب ركيك. أما القصيدة رقم 81 فاعتذار لعلقمة بن علاثة أجراه الوضاعون على لسانه حتى يمحوا هجاءه المقذع فيه، وما كان ليهجوه في قصيدتين مطولتين ويدور هجاؤه في العرب ثم يعتذر له بستة أبيات. وإذا أضفنا إلى هذه القصائد التي شككنا فيها مقطوعاته القصيرة التي لا تتجاوز أحيانًا بيتًا والتي لا نستطيع أن نقيم عليها مراصد نمتحنها بها لقصرها وهي ذوات الأرقام 31، 37، 41، 42، 43، 44، 45، 46، 47، 48، 49، 50، 51، 57، 58، 59، 61، 67، 69، 71، 74، 75؛ استطعنا أن ندرس ما بقي له دراسة نطمئن إليها على الأقل بعض الاطمئنان. ولم يبق له قليل بعد هذا الفحص للديوان؛ بل إنه كثير؛ إذ يتضمن القصائد ذوات الأرقام: 1، 3، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 16، 18، 19، 21، 22، 26، 27، 29، 30، 32، 34، 38، 40، 68، 70، 73؛ على أن أعلاها ثقة هي القصائد ذوات الأرقام1، 6، 11، 29، 34 لأن الشارح أسند الأولى والاثنتين الأخيرتين إلى أبي عبيدة كما أسند الثانية والثالثة إلى أبي عمرو بن العلاء؛ فتلك القصائد إذن من رواية البصرة التي نرفعها على رواية الكوفة في التوثيق. على أننا نضرب صفحًا عمَّا ألحقه جابر ناشر الديوان به من أبيات وأشعار وجدها تنسب للأعشى في بعض الكتب، إذ بمجرد النظر فيما نعرف خطأ نسبتها إليه أو على الأقل خطأ نسبة الكثير الأكثر منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 4- شعره : يمتاز الأعشى بكثرة قصائده الطويلة، كما يمتاز بكثرة تصرفه في فنون الشعر من مديح وهجاء وفخر ووصف وخمر وغزل، أما المديح فقد قالوا إنه أول من سأل بالشعر واستجدى بالقريض1 واتخذه مَتْجَرًا يطوف به البلاد2، وحقًّا سبقه غير شاعر إلى المديح كزهير والنابغة؛ ولكن أحدًا منهم لم يحرص على الاستعطاء وطلب النوال كما حرص الأعشى؛ فقد طاف في أطراف الجزيرة العربية يمدح السادة والأمراء، ذاكرًا ما يفيضون عليه من الإبل والجياد والإماء وصحاف الفضة وثياب الخز والديباج، منوهًا في أثناء ذلك بسؤاله لهم غير مبق على شيء من نفسه. ومعاني المديح عنده لا تفترق عن المعاني العامة في مدائح الجاهليين؛ فهو ما يني يمدح بالكرم والشجاعة والوفاء وعَوْن الضعفاء في القبيلة، وكثيرًا ما يعرض لجيوش ممدوحه إذا كان أميرًا أو شيخًا لقبيلته مصورًا ما تنزله على الأعداء من التقتيل والنكال، وقد يطيل في وصف ما تشنه من غارات على الأعداء، وفي تضاعيف ذلك يورد على ممدوحه ثناء مفرطًا. ومن أهم ما يميز مديحه بالقياس إلى الجاهليين كثرة إسرافه فيه، ولا نقصد الإسراف في الأوصاف من حيث هي وإنما نقصد الغلو فيها والإفراط، بحيث يعد مقدمة لمبالغات العباسيين في مدائحهم. وقد يكون ذلك من أثر رغبته الشديدة في العطاء، وقد يكون من أثر الحضارات التي ألم بها في طوافه، وهذا هو معنى ما نقوله من أنه يشبه العباسيين؛ فذوقه في المديح يقترب من ذوقهم وما نعرفه عندهم من غلو دفعهم إليه ملق الخلفاء والوزراء بنفس الباعث الذي بعث الأعشى على إفراطه في مديحه، ونقصد طلب النوال والعطاء الجزيل. واقرأ له هذه القطعة من مديحه لقيس بن معد يكرب إذ يقول: وَسَعى لِكِندَةَ سَعيِ غَيرَ مُواكِلٍ ... قَيسٌ فَضَرَّ عَدُوَّها وَبَنى لَها   1 ابن سلام: ص54. 2 العمدة لابن رشيق "الطبعة الأولى": 1/ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وَأَهانَ صالِحَ مالِهِ لِفَقيرِها ... وَأَسى وَأَصلَحَ بَينَها وَسَعى لَها1 وَتَرى لَهُ ضُرًّا عَلى أَعدائِهِ ... وَتَرى لِنِعمَتِهِ عَلى مَن نالَها أَثَرًا مِنَ الخَيرِ المُزَيِّنِ أَهلَهُ ... كَالغَيثِ صابَ بِبَلدَةٍ فَأَسالَها2 وَإِذا تَجيءُ كَتيبَةٌ مَلمومَةٌ ... خَرساءُ يخشى الدارعون نزالها3 كُنتَ المُقَدَّمَ غَيرَ لابِسِ جُنَّةٍ ... بِالسَيفِ تَضرِبُ مُعلِمًا أَبطالَها4 وَعَلِمتَ أَنَّ النَفسَ تَلقى حَتفَها ... ما كانَ خالِقُها المَليكُ قَضى لَها فإنك تحس فيه روح العصر العباسي، لا من حيث سهولة اللفظ فحسب، ولا من حيث المقابلة بين المعاني فحسب؛ بل من حيث ما يجري في ذلك من أثر رقة الذوق بتأثير الحضارة، وهي رقة دفعته إلى الغلو في وصف شجاعة ممدوحه، فإذا هو لجرأته وبسالته يقتحم ميادين الحرب غير لابس ترس يحميه، وبيده سيفه يضرب به في الأقران تاركًا فيهم آثاره. وقد آمن بينه وبين نفسه بأن الإنسان لا بد أن سيموت، فلا داعي للخوف؛ فلكل امرئ أجل مضروب. لا يتأخر عنه ولا يتقدم. واقرأ هذه القطعة في مديحه لهوذة بن علي سيد بني حنيفة: إِلى هَوذَةَ الوَهّابِ أَهدَيتُ مِدحَتي ... أُرَجّي نَوالًا فاضِلًا مِن عَطائِكا سَمِعتُ بِرَحبِ الباعِ وَالجودِ وَالنَدى ... فَأَدلَيتُ دَلوي فَاِستَقَت بِرِشائِكا5 فَتىً يَحمِلُ الأَعباءَ لَو كانَ غَيرُهُ ... مِنَ الناسِ لَم يَنهَض بِها مُتَماسِكا وَأَنتَ الَّذي عَوَّدتَني أَن تَريشَني ... وَأَنتَ الَّذي آوَيتَني في ظِلالِكا6 فَإِنَّكَ فيما بَينَنا فِيَّ موزَعٌ ... بِخَيرٍ وَإِنّي مولَعٌ بِثَنائِكا7   1 آسى: داوى. 2 صاب المطر: سقط وانصب. 3 ملمومة: مجتمعة. خرساء: لا يسمع لها صوت من كثرة الدروع أي ليس لها قعقعة. 4 الجنة: الترس. 5 الباع: الكرم وكذلك الندى. الرشاء: حبل الدلو. 6 تريشني: تعينني وتغنيني. 7 هكذا رواية البيت في المخطوطة اليمنية وهو مضطرب في الديوان. موزع: مولع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وَجَدتَ عَلِيًّا بانِيًا فَوَرِثتَهُ ... وَطَلقًا وَشَيبانَ الجَوادَ وَمالِكا1 بُحورٌ تَقوتُ الناسَ في كُلِّ لَزبَةٍ ... أَبوكَ وَأَعمامٌ هُمُ هَؤُلائِكَا2 وَما ذاكَ إِلّا أَنَّ كَفَّيكَ بِالنَدى ... تَجودانِ بِالإِعطاءِ قَبلَ سُؤالِكا يَقولونَ في الإِكفاءِ أَكبَرُ هَمِّهِ ... أَلا رُبَّ مِنهُم مَن يَعيشُ بِمالِكا3 وَجَدتَ اِنهِدامَ ثُلمَةٍ فَبَنَيتَها ... فَأَنعَمتَ إِذ أَلحَقتَها بِبِنائِكا4 وَرَبَّيتَ أَيتامًا وَأَلحَقتَ صِبيَةً ... وَأَدرَكتَ جَهدَ السَعيِ قَبلَ عَنائِكا5 وَلَم يَسعَ في العَلياءِ سَعيَكَ ماجِدٌ ... وَلاذو إِني في الحَيِّ مِثلَ إنائِكا 6 فإنك تحس المبالغة في المديح واضحة، وهو يمزجها بالتبذل في السؤال تبذلًا لم يعرف في عصره. وكل ذلك واضح فيه رقة اللهجة وأن الأعشى من ذوق يخالف ذوق الجاهليين، وهو ذوق جاءه من طول اختلاطه بأهل الحضر. ولا نشك في أن هذا الذوق هو الذي جعله في أهاجيه ينحو نحو السخرية من مهجوه في كثير من شعره؛ وكأنما يجد فيه مرارة أشد وألذع من مرارة الهجاء المقذع. واقرأ معلقته أو قصيدته السادسة في الديوان التي وجه بها إلى يزيد بن مسهر الشيباني، وكان قد قتل أحد بني قيس بن ثعلبة رجلًا من قومه؛ فحمسهم للثأر لقتيلهم، فتعرض له الأعشى يهدده ويهجوه مستهلًا تهديده وهجاءه بقوله: أَبلِغ يَزيدَ بَني شَيبانَ مَألُكَةً ... أَبا ثُبيتٍ أَما تَنفَكُّ تَأتَكِلُ7 أَلَستَ مُنتَهِيًا عَن نَحتِ أَثلَتِنا ... وَلَستَ ضائِرَها ما أَطَّتِ الإِبِلُ8   1 واضح من الشطر الثاني أن مالكًا وشيبان وطلقًا أعمام هوذة. 2 لزبة: شدة وأزمة. 3 يريد بالشطر الأول أن ممدوحه يتهم بأنه يظلم أكفاءه. 4 الثلمة: فرجة المهدوم أو ما فيه من شقوق. 5 هكذا رواية البيت في المخطوطة اليمنية وبه بعض الاضطراب في الديوان. 6 إنى: مقصور إناء. 7 مألكة: رسالة. تأتكل: تسعى بالشر أو تغضب وتغلي حتى لكأنك تأكل نفسك. 8 الأثلة: شجرة. ونحت أثلته: تنقصه وعابه. أطت: أنت: ويريد بقوله ما أطت الإبل التأبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 كَناطِحٍ صَخرَةً يَومًا لِيَفلِقَها ... فَلَم يَضِرها وَأَوهى قَرنَهُ الوَعِلُ1 وواضح أنه يوبخه ساخرًا منه مزدريًا له؛ إذ يقول: يا أبا ثبيت أما تنفك تسعى بالشر والفساد وتقع في أعراضنا بالذم والقدح؟ ألست منتهيًا عن ذمنا وتنقصنا؟ وإنك مهما أتيت من قوارع الطعن لن تضر أصلنا الشامخ مدى الدهر، وما مثلك إلا كمثل وعل ينطح صخرة ليضعفها؛ فاستعصت عليه ولم يضرها ولم يوهنها إنما ضر قرنه وأوهنه. وارجع إلى قصيدتيه اللتين يهجو بهما علقمة بن علاثة؛ فستجده يعمد إلى هذا اللون من السخرية المرة بعلقمة؛ إذ يقول له في أولادهما موازنًا بينه وبين خصمه ومنافره عامر بن الطفيل: عَلقَمَ ما أَنتَ إِلى عامِرٍ ... الناقِضِ الأَوتارَ وَالواتِرِ2 يا عَجَبَ الدَهرِ مَتى سَوَّيا ... كَم ضاحِكٍ مِن ذا وَكم ساخِرِ وَلَستَ بِالأَكثَرِ مِنهُم حَصىً ... وَإِنَّما العِزَّةُ لِلكاثِرِ3 عَلقَمَ لا تَسفَه وَلا تَجعَلَن ... عِرضَكَ لِلوارِدِ وَالصادِرِ وَلَستَ في السِلمِ بِذي نائِلٍ ... وَلَستَ في الهَيجاءِ بِالجاسِرِ4 وهذا من أشد الهجاء وأمضه، ولو أنه شتم وأفحش لعد سفيهًا، أما أن يهجو على هذا النحو من التعريض؛ فإنه يجعل الظنون تتسع كما يجعل النفوس تتعلق بمعنى كلامه وتكثر من تأويله. وهو يشير في الأبيات إلى حكم هرم بن قطبة حين تنافر إليه علقمة وعامر؛ فسوى بينهما في عبارته المأثورة: "إنكما كرُكْبَتي البعير الأدرم -الفحل- تقعان على الأرض معًا" والأعشى يرد هذا الحكم وينقضه قائلًا: أين الثَّرى من الثَّرَيَّا. وقد مضى في القصيدة الثانية يذمه، ولم يكن من أبياتها بيت أشد إيلامًا لعلقمة من قوله: تبيتون في المَشْتَى مِلاءً بطونُكم ... وجاراتُكم غَرْثَى يَبِتْن خَمائصا5   1 الوعل: من الماعز الجبلي. 2 الأوتار: جمع وتر وهو الثأر وناقصها: الآخذ. الواتر: الذي يترك ثأرهم في الأعداء فلا يستطيعون نقضه. 3 الحصى هنا: العدد. 4 النائل: العطاء. الجاسر: الجريء. 5 المشتى: زمن الشتاء. غرثى: جائعة خمائص: ضامرات البطون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 حتى لقد زعم الرواة أنه بكى حين سمعه. وواضح أنه لم يجعله بخيلًا فحسب؛ بل جعله هو وعشيرته يملأون بطونهم ويتخمون في ليالي الشتاء الباردة؛ على حين يشتد كلَبُ الجوع والمسغبة على جاراتهم. واختار النساء لينزع من قلوبهم كل عطف ورحمة؛ فهم ليسوا بخلاء فحسب؛ بل إن قاويهم لأشد قسوة من الحجارة واستمع إليه يسخر من كسرى قبل وقعة ذي قار: واقعُد عَلَيكَ التاجُ مُعتَصِبًا بِهِ ... لا تَطلُبَنَّ سَوامَنا فَتَعَبَّدا1 وفي كلمة "اقعد" من الهجاء ما يفوق كل إقذاع؛ إذ يستخف به وبجيوشه التي يعدها لقتالهم وقتال شيبان، وكأنه يلوح له أنه إن هاجمهم مني بهزيمة تطيح بتاجه. ولعلنا الآن نفهم ما كان يقال عن الأعشى من أنه: "إذا مدح رفع وإذا هجا وضع"؛ فهو إذا مدح غالى في مدحه حتى رفع ممدوحه على جميع الناس، وإذا هجا أوجع لا بالشم والهجاء المقذع؛ وإنما بالتهكم والسخرية والاستهزاء. والأعشى كثير الفخر في شعره بقبيلته وعشيرته، وهو يجمع لهما ضروب المفاخر والمناقب التي كانوا يعتزون بها في الجاهلية من الجود في الجدب والشجاعة في الحرب والرعي في المكان المخوف وإغاثة المستصرخ. وكثيرًا ما يضمن هجاءه لمن يختلف معهم من قبيلته الكبرى بكر وقبيلته الصغرى قيس بن ثعلبة فخرًا مدويًّا، كقوله في معلقته التي أشرنا إليها آنفًا متوعدًا يزيد بن مسهر الشيباني ومفتخرًا بشجاعة قبيلته وما أثخنت في القبائل من جراح: سائِل بَني أَسَدٍ عَنّا فَقَد عَلِموا ... أَن سَوفَ يَأتيكَ مِن أَنبائِنا شَكَلُ2 وَاِسأَل قُشَيرًا وَعَبدَ اللَهِ كُلُّهُمُ ... وَاِسأَل رَبيعَةَ عَنّا كَيفَ نَفتَعِلُ3 إِنّا نُقاتِلُهُم ثُمَّتَ نُقَتِّلهُم ... عِندَ اللِقاءِ وَهُم جاروا وَهُم جَهِلوا لَئِن مُنيتَ بِنا عَن غِبِّ مَعرَكَةٍ ... لَم تُلفِنا مِن دِماءِ القَومِ نَنتَفِلُ4   1 السوام: الإبل الراعية ويقصد بها الأعشى ديار العرب. تعبد: تصبح كالعبد، يريد أنه يهزم ويقهر. 2 شكل: أزواج مختلفة يريد خبرًا من بعد خبر 3 نفتعل هنا: نفعل العظائم. 4 غب: عقب، يقصد أنهم لا يتعبون من لقاء الأعداء؛ فإن لقيهم بعد معركة فسيجدهم على أتم استعداد للقاء. ننتقل: ننتفي، ويروي ننتقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 قَد نَخضِبُ العيرَ في مَكنونِ فائِلِهِ ... وَقَد يَشيطُ عَلى أَرماحِنا البَطَلُ1 نَحنُ الفَوارِسُ يَومَ العين ضاحِيَةً ... جَنبَى فُطَيمَةَ لا ميلٌ وَلا عُزُلُ2 قالوا الرُكوبَ فَقُلنا تِلكَ عادَتُنا ... أَو تَنزِلونَ فَإِنّا مَعشَرٌ نُزُلُ3 وقد ذهب بعض القدماء إلى أن البيت الأخير أشجع بيت لما صور فيه الأعشى قومه بأنهم يحسنون الطعان فرسانًا كما يحسنون الضراب راجلين منوهًا بأن تلك سجية لهم درج عليها شيوخهم وشبابهم. ونراه يكثر من وصف الصحراء وناقته، وهذا طبيعي لكثرة رحلاته وأسفاره، وهو في الموضوع يجري على عادة الجاهليين؛ فيصور الأودية وما يجري فيها من ظلام أو سموم أو مياه أمطار كما يصور طرقها الوعثة ورمالها ومناهلها ووحشتها وعزيف الجن ليلًا بها، يقول في معلقته: وَبَلدَةً مِثلِ ظَهرِ التُرسِ موحِشَةٍ ... لِلجِنِّ بِاللَيلِ في حافاتِها زَجَلُ4 لا يَتَنَمّى لَها بِالقَيظِ يَركَبُها ... إِلّا الَّذينَ لَهُم فيما أَتَوا مَهَلُ5 جاوَزتُها بِطَليحٍ جَسرَةٍ سُرُحٍ ... في مِرفَقَيها إِذا اِستَعرَضتَها فَتَلُ6 وواضح أنه في هذه الأبيات يفخر بتحمله لمشقات السفر في مثل هذه الأرض الوعرة الصلبة الموحشة التي لا يسمع فيها صوت سوى صوت الجن والتي لا يركبها في حمارة القيظ واشتعال الرمال إلا من تعود الصبر واحتمال المكاره، ويقول إنه يقطع مثل هذه الأرض بناقة نضو أسفار ضامرة موثقة الخلق صلبة قوية وهو.   1 العير: حمار الوحش استعارة للفارس لأن العير يتقدم الأتن: الفائل: القناة الدموية كالشريان. يشيط: يهلك. 2 يوم العين: يوم كان بين قيس بن ثعلبة وشيبان بجنب موضع في البحرين يسمى فطيمة. ميل: جمع أميل وهو الجبان. عزل: جمع أعزل: من لا سلاح له. 3 يريد بالنزول التضارب بالسيوف. 4 البلدة: القطعة من الأرض. وشبهها بالترس لبيان أنها غليظة وصعبة على من ينفذ فيها. موحشة: كثيرة الوحش. زجل: صوت حافاتها: نواحيها. 5 يتمني: يرتفع. القيظ: شدة الصيف مهل: أناة وصبر. 6 طليح: مهزولة لكثرة أسفارها. جسرة: ضخمة. سرح: سريعة. قتل: قوة وصلابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 لا يطيل في وصف أعضاء الناقة صنيع طرفة؛ بل يقتضب الحديث عنها غالبًا، ويكثر حين يلم ببيان سرعتها أن يشبهها بحمار وحش أو ثور أو نعامة، ويطيل في وصف ما يلم به منها على عادة الجاهليين. واقرأ هذه القطعة. وَفَلاةٍ كَأَنَّها ظَهرُ تُرسٍ ... لَيسَ إِلّا الرَجيعَ فيها عَلاقُ1 قَد تَجاوَزتُها وَتَحتي مَروحٌ ... عَنتَريسٌ نَعّابَةٌ مِعناقُ2 عِرمِسٌ تَرجُمُ الإِكامَ بِأَخفا ... فٍ صِلابٍ مِنها الحَصى أَفلاقُ3 وَكَأَنَّ القُتودَ وَالعِجلَةَ وَالـ ... ـوَفرَ لَمّا تَلاحَقَ السُوّاقُ4 فَوقَ مُستَبقِلٍ أَضَرَّ بِهِ الصَيـ ... ـفُ وَزَرُّ الفُحولِ وَالتَنهاقُ5 أَو فَريدٍ طاوٍ تَضَيَّفَ أَرطا ... ةً عليه من الغصونِ رُوَاق6 أَخرَجَتهُ شَهْباءُ مُسبِلَةُ الوَدْ ... قِ رَجوسٌ قُدّامُها فُرّاقُ7 وَتَعادى عَنهُ النَهارَ تُواريـ ... ـهِ عِراضُ الرِمالِ وَالدَرداقُ8 وَتَلَتهُ غُضفٌ طَوارِدُ كَالنَحـ ... ـلِ مَغاريثُ هَمُّهُنَّ اللُحاقُ9 وهو يصور فيها فلاة مقفرة، لا تجد فيها الإبل ما تأكله سوى الاجترار، ويقول إنه تجاوزها بناقة نشيطة قوية مسرعة سرعة شديدة، كانت ترجم المرتفعات بأخفاقها الصلبة، فتشق ما فيها من حصى شقًَّا، وسرعان ما يشبهها.   1 الرجيع: ما تجتره من طعامها. العلاق: ما تطعمه الإبل من الشجر. 2 مروح: نشيطة. عنتريس: صلبة نعابة: تمد عنقها في سيرها. معناق: من العنق وهو سير واسع للإبل. 3 عرمس: صلبة الإكام: المرتفعات. 4 القتود: الرحل بأدواته. العجلة المزادة، وهي قرية الماء. الوفراء: كثيرة المياه. السواق: طويل الساق. تواهق: مد عنقه في السير. وتلك رواية المخطوطة اليمنية، والبيت في الديوان مضطرب. 5 مستقبل: حمار وحش يأكل البقل، زر: طرد وعض. 6 فريد: منفرد، ويقصد ثور الوحش. طاو: جائع. الأرطاة: من أشجار البادية رواق البيت: شقته التي دون شقته العليا وتلك رواية المخطوطة اليمنية. 7 شهباء: سحابة بيضاء يصدعها سواد مسبلة: مرسلة. الودق: المطر. رجوس: مرعدة. فراق: جمع فارق وهي السحابة المنفردة. 8 تعادى: تباعد. الدرداق: دك متلبد من الرمال. 9 الغضف: كلاب الصيد مسترخية الآذان. مغاريث: جائعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 في سرعتها بحمار وحش، يقاسي من لظى الصيف وعض أمثاله وتنهاقها عليه؛ فهو يسرع لا يلوي. ولا يمضي طويلًا مع هذا الحمار؛ بل يتركه إلى ثور وحش يشبه به ناقته، ويصوره طاويًا في ليلة من ليالي الشتاء القاسية، وقد بات مستظلًا بأغصان أرطاة، والمطر يسقط من حوله والفزع يأخذه من كل جانب، ولم تلبث نفسه أن راودته على الخروج من كناسه؛ فخرج يتوارى في عراض الرمال وكثبانها، ولم تلبث كلاب الصيد أن رأته فأسرعت تحاول اللحاق به، وأسرع يحاول فَوْتَها. والأعشى يشبه ناقته به وهي تترامى فوق الرمال مسرعة كأنما شيء يطلبها. وتتكرر مثل هذه الصورة لا عند الأعشى وحده؛ بل عند جميع شعراء الجاهلية؛ إذ يشبهون الناقة بوحش الفلاة، وخاصة حين يناضل كلاب الصيد، وإن كنا نلاحظ أن الأعشى لا يطيل في تصوير ذلك إطالة النابغة أو لبيد أو غيرهما من الجاهليين، وربما جاءه ذلك من ذوقه المتحضر؛ فكان يوجز في وصف الصحراء والناقة والحيوانات الوحشية، على حين يتسع في الحديث عن الخمر والغزل. وحقًّا نجد عند الجاهليين تعرضًا كثيرًا للخمر، ولكنهم عادة يسوقونها مع الحديث عن فتوتهم وكرمهم وبذلهم، على نحو ما نرى في معلقة طرفة، أما عند الأعشى فإننا نجدها في فاتحة كثير من قصائده تالية لبعض غزله، ونحس كأنها لذته من الدنيا؛ فهو يطيل الحديث عنها وعن تأثيرها في نفوس شاربيها، وكأنه يقدسها تقديسًا، فهي وثنه وصنمه؛ ولذلك لم يكد يسمع من قريش -كما أسلفنا- أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يحرمها حتى كف عن لقائه وانصرف لساعته. وهو يجيد وصفها إجادة لفتت القدماء إليه؛ فقالوا إنه أشعر الجاهليين إذا طرب1، يقصدون إذا شرب الخمر ووصفها، وهو وصف يفيض بالحيوية، إذ يجسم فيه بيئتها ومجالسها وما ينثر فيها من الورود والرياحين وما يقوم فيها من السقاة والمغنيين والإماء الخليعات اللاتي يلبسن الشفوف الرقيقة وما يضرب عليه العازفون من آلات طرب كالصنج والعود، واستمعْ إليه يقول في معلقته:   1 أغاني 9/ 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وَقَد غَدَوتُ إِلى الحانوتِ يَتبَعُني ... شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلشُلٌ شَوِلُ1 في فِتيَةٍ كَسُيوفِ الهِندِ قَد عَلِموا ... أَن لَيسَ يَدفَعُ عَن ذي الحيلَةِ الحِيَلُ نازَعتُهُم قُضُبَ الرَيحانِ مُتَّكِئًا ... وَقَهوَةً مُزَّةٌ راوُوقُها خَضِلُ2 لا يَستَفيقونَ مِنها وَهيَ راهَنَةٌ ... إِلّا بهاتٍ وَإِن عَلَّوا وَإِن نَهلوا3 يَسعى بِها ذو زُجاجاتٍ لَهُ نُطَفٌ ... مُقَلِّصٌ أَسفَلَ السِربالِ مُعتَمِلُ4 وَمُستَجيبٍ تَخالُ الصَنجَ يَسمَعُهُ ... إِذا تُرَجِّعُ فيهِ القَينَةُ الفُضُلُ5 وَالساحِباتُ ذُيولَ الخَزِّ آوِنَةً ... وَالرافِلاتُ عَلى أَعجازِها العِجَلُ6 مِن كُلِّ ذَلِكَ يَومٌ قَد لَهَوتُ بِهِ ... وَفي التَجارِبِ طولُ اللَهوِ وَالغَزَلُ وهو يصف في الأبيات يومًا من أيام لهوه غدا فيه إلى خمار مع رفيق ناشط خفيف الحركة طيب النفس في فتية كسيوف الهند مضاء وقوة ورونقًا. ويقول إنهم تجاذبوا أغصان الريحان وخمرة مزة ما زالوا يتعاطونها، فراووقها لا يجف، وهم لا يسأمون من تعاطيها ولا يفيقون من شربها إلا ليقولوا للساقي: هات، ويكررون هذه اللفظة مهما شربوا. ويصف الساقي بأنه غلام أو شاب حدث، كان يعلق في أذنه قرطًا ويلبس قميصًا قصيرًا، وقد طبع على العمل بجد ونشاط. ويضيف إلى ذلك وصف عود كانت ألحانه تتسق مع صنج كانت تعزف عليه وتغني قينة في ثوب واحد رقيق، ومن ورائها نساء ترفل في ثياب الخز والحرير، وقد علت أعجازهن كأنها قرب ممتلئة؛ فهي تهتز وترتج. ويختم أبياته بأنه تمتع بكل ذلك   1 غدوت: ذهبت. شاو: يشوي اللحم. ومعنى مشل شلول شلشل شول أنه خفيف الحركة نشيط. 2 قضب: جمع قضيب وهو الغصن، القهوة: الخمر الراووق: الوعاء الذي تروق فيه الخمر. خضل: ندى، كنى بذلك عن اتصال شربهم. 3 علوا: من العلل وهو الشرب بعد الشرب تباعًا، نهلوا: من النهل، وهو أول الشرب إلا بهات: إلا بمقدار قولهم هات. 4 ذو زجاجات: يريد الساقي. نطف: جمع نطفة وهي القرط به لؤلؤة صافية مقلص أسفل السربال: قصير القميص معتمل: مطبوع على العمل والنشاط. 5 المستجيب: العود ذو الأوتار لأنه يجيب صاحبه كما يجيب الصنج وهو الآخر من آلات الطرب: وجعل الصنج يسمعه كناية بذلك عن اتساق ألحانهما. القينة: الأمة المغنية. الفضل: اللابسة ثوبًا واحدًا. 6 العجل: جمع عجلة بكسر العين وسكون الجيم وهي قربة الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَلَهَا به، وجربه مرارًا وتكرارًا. والأعشى لا يصف مجالس الخمر فحسب؛ بل يصف وصفًا دقيقًا أوانيها وألوانها وما تفعله بعقول شاربيها وما تحدث في قلوبهم من نشوة، مما يدل على أنه كان مشغوفًا بها مفتونًا، بل سكيرًا مغرقًا في السكر. وهو في ذلك يقترب من ذوق جماعة المجان في العصر العباسي أمثال أبي نواس، وفي الوقت نفسه يفترق من ذوق معاصريه الذين لم يكونوا يسرفون على أنفسهم إسرافه في اللهو والمجون. ولا نشك في أن هذا جاءه من أثر الحضارات التي ألمَّ بها في الحيرة وغير الحيرة؛ بحيث تحول مدمنًا لها، يلزم حوانيتها، فإن ولى وجهه نحو منازل قومه حمل منها ما يكفيه هو ورفاقه هناك، فينهلون ويعلون ولا يفيقون، وهو في أثناء ذلك ينشدهم ما ينظمه فيها، وهم يصفقون استحسانًا. ولم يكن يحسن وصفها فحسب؛ بل كان يُضفي عليه حيوية بما يمزجه به من قصص على شاكلة قوله: أَتاني يُؤامِرُني في الشَمو ... لِ لَيلًا فَقُلتُ لَهُ غادِها1 أَرَحنا نُباكِرُ جِدَّ الصَبو ... حِ قَبلَ النُفوسِ وَحَسّادِها2 فَقُمنا وَلَمّا يَصِح ديكُنا ... إِلى جَونَةٍ عِندَ حَدّادِها3 تَنَخَّلَها مِن بِكارِ القِطافِ ... أُزَيرِقُ آمِنُ إِكسادِها4 فَقُلت لَهُ هَذِهِ هاتِها ... بِأَدماءَ في حَبلِ مُقتادِها5 فَقالَ تَزيدونَني تِسعَةً ... وما ذاك عدلًا لِأَندادِها6 فَقُلتُ لِمِنصَفِنا أَعطِهِ ... فَلَمّا رَأى حَضرَ شُهّادِها7 أَضاءَ مِظَلَّتَهُ بِالسِرا ... جِ وَاللَيلُ غامِرُ جُدّادِها8   1 يؤامرني: يشاورني. الشمول: الخمر. غادها: انطلق بنا إليها. 2 جد: نشاط. الصبوح: خمرة الصباح. 3 جونة: جرة وخابية. حدادها: خمارها. 4 تنخلها: تخيرها. بكار القطاف: أول ما يقطف. أزيرق: أزرق العينين. آمن إكسادها: آمن كسادها لا يخاف. 5 أدماء: ناقة بيضاء. مقتادها: غلامها الذي يرعاها 6 أندادها: أمثالها. 7 منصف: خادم. حضر: حضور شهادها هنا: الدراهم. 8 مظلته: حانوته أو خباؤه. الجداد: الأهداب والأستار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 دَراهِمُنا كُلَّها جَيِّدٌ ... فَلا تَحبِسَنّا بِتَنقادِها1 فَقامَ فَصَبَّ لَنا قَهوَةً ... تُسَكِّنُنا بَعدَ إِرعادِها2 كُمَيتًا تَكَشَّفُ عَن حُمرَةٍ ... إِذا صَرَّحَت بَعدَ إِزبادِها3 كَحَوصَلَةِ الرَألِ في جَرْيها ... إِذا صُوِّبَت بَعدَ إِقعادِها4 فَجالَ عَلَينا بِإِبريقِهِ ... مُخَضَّبُ كَفٍّ بِفِرصادِها5 فَباتَت رِكابٌ بِأَكوارِها ... لَدَينا وَخَيلٌ بِأَلبادِها6 فَرُحنا تُنَعِّمُنا نَشوَةٌ ... تَجورُ بِنا بَعدَ إِقصادِها7 ولا تختلف هذه الأبيات المنتزعة من القصيدة الثامنة في الديوان عن خمريات أبي نواس وأضرابه في شيء؛ لولا ذكره للأكوار والألباد في نهايتها، ولو حذفنا بيتهما لأصبحنا إزاء خمرية عباسية تعتمد على القصص والإطراف به. وهو في أولها يذكر أن فتى طرقه قبل أن يسفر الصباح يدعوه أن يذهبا معًا لتناول الخمر. وذهبا في هزيع الليل الأخير -قبل أن تصيح الديكة وقبل أن يسبقهما أي كاشح حسود- إلى حانوت خمار أعجمي، كنى عنه بزرقة العين، وهو خمار حاذق لصنعته، استخلص خمره من بكار القطاف؛ فهي خمر معتقة ومثلها لا يكسد ولا يبور. وطلبا إليه أن يسقيهما بناقة قاداها إليه، وهي واقفة ببابه مزمومة بحبل غلامها؛ فلم تكفه وطلب فوقها تسعة دراهم، مشيدًا بخمره وأن هذا الثمن ليس كفؤًا لها ويقول الأعشى: إنه قال لصاحبه: أعطه ما يريد، ويضيء الخمار خباءه أو حانوته، ويعد الدراهم ويتبينها خشية زيفها؛ حتى إذا اطمأن لها ولهم قام، فناولهم خمرًا تمشت في أجسادهم؛ فسكنوا إليها، وهي خمر حمراء فاقعة كأنها الفرصاد.   1 تنقادها: نقدها وعدها حتى يتبين زائفها من صحيحها. 2 تسكننا: نسكن إليها. 3 كميتًا: حمراء. صرحت ذهب زبدها. 4 الرأل: فرخ النعام. شبه الخمر بحوصلته في الحمرة. جليت أخرجت، مأخوذ من جلوة العروس القاعدة، إذا قعدت عن الطلب. وانظر الحيوان: 4/14. 5 الفرصاد: التوت الأحمر. 6 الأكوار: الرحال. الألباد جمع لبد وهو قطعة الصوف توضع تحت السرح. 7 إقصاد: قصد واعتدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أو التوت الأحمر، وما يزال صاحبها يسقيهم، وهم بها مشغوفون؛ حتى انبثقت أضواء الصباح، فنهضوا بركابهم وخيلهم، تستخفهم النشوة استخفافًا خرجوا به عن أطوارهم وما تعودوه في صحوهم من قصد واعتدال. وأنت تراه قد وصف الخمر ودنِّها ولونها وخمَّارها وحانوتها وتعرض لصياح الديكة في السحق ومساومة. صاحبها في ثمنها وأثرها في النفس وما تصيب به شاربها من انتشاء يتمشى في المفاصل. وهذه المعاني جميعها تدور فيها وفي أفلاكها خمريات العباسيين. واستمع إليه يقول: وَأَدكَنَ عاتِقٍ جَحلٍ سِبَحلٍ ... صَبَحتُ بِراحِهِ شَربًا كِراما1 مِنَ اللاتي حُمِلنَ عَلى الرَوايا ... كَريحِ المِسكِ تَستَلُّ الزُكاما2 مُشَعشَعَةً كَأَنَّ عَلى قَراها ... إِذا ما صَرَّحَت قِطَعًا سَهاما3 تَخَيَّرَها أَخو عاناتَ شَهرًا ... وَرَجّى أَولَها عامًا فَعاما4 يُؤَمِّلُ أَن تَكونَ لَهُ ثَراءً ... فَأَغلَقَ دونَها وَعَلا سِواما5 فَأَعطَينا الوَفاءَ بِها وَكُنّا ... نُهينُ لِمِثلِها فينا السَواما6 كَأَنَّ شَعاعَ قَرنِ الشَمسِ فيها ... إِذا ما فَتَّ عَن فيها الخِتاما7 وواضح أنه يتحدث عن دن من دنان الخمر أسود عتيق، صبح به رفاقه، ويقول إنه من نادر الدنان التي تجتلب من البلاد البعيدة والتي تنفذ رائحة خمرها بطيبها إلى الأنف، فتستل منه الزكام. ويصف هذه الخمر فيقول إنها مروقة صافية كأنها بياض الحر أوسرابه اللامع، وقد انتقاها صاحبها في "عانات" وظل   1 أدكن: هو الدن لأنه يطلى بالقطران. عائق: قديم. الجحل: السقاء الكبير أو القرية الكبيرة. سجل: ضخم. الشرب: جماعة الشاربين. صبحت: ناولت، وهو خمر الصباح. 2 الروايا: جمع راوية وهو البعير. 3 مشعشعة: مروقة. قراها: ظهرها. صرحت: صفت. السهام: وهج الصيف وما يكون معه من البياض. 4 عانات: بلد بالشام. أولها: ما تؤول إليه من ثمن غال. 5 السِوام: بكسر السين المساومة في البيع والمغالاة. 6 السَوام: بفتح السين الإبل الراعية. 7 قرن الشمس: أول ما يبدو منها في الصباح. الختام: السداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 يعلق عليها الآمال عامًا بعد عام، مغاليًا في ثمنها؛ حتى اشتريناها منه. ويصورها وهي تسقط من دنها بشعاع الشمس الوهاج، وهي من الصور التي أكثر العباسيون من تداولها، كما أكثروا من الحديث عن رائحتها ووصف دنانها، ومن قوله في كأس من كئوسها: وَكَأسٍ كَعَينِ الديكِ باكَرتُ حَدَّها ... بِفِتيانِ صِدقٍ وَالنَواقيسُ تُضرَبُ1 سُلافٍ كَأَنَّ الزَعفَرانَ وَعَندَما ... يُصَفَّقُ في ناجودِها ثُمَّ تُقطَبُ2 وهو يشبهها بعين الديك في صفائها، ويقول إنه باكرها أو باكر سورتها برفاق مخلصين، يشربونها معه في الأديرة على قرع النواقيس، ويحدثنا عن رائحتها وأثرها في نفسه، حتى ليتصورها زعفرانًا أحمر خلط بصبغ العندم، وقد سطعت منه رائحة زكية. وعلى هذا النحو ما يزال يصف الخمر وصف مفتون بها، معلنًا أنه لا يستطيع عنها انصرافًا فهي كل لذته ومتاعه، يقول: وَكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَذَّةٍ ... وَأُخرى تَداوَيتُ مِنها بِها لِكَي يَعلَمَ الناسُ أَنّي اِمرُؤٌ ... أَتَيتُ المَعيشَةَ مِن بابِها وما يني يتحدث عن مجالسها وما ينثر فيها من ورود وما يكون فيها من قيان وآلات طرب، بنفس الصورة التي تلقانا عند أصحاب الخمر والمجون في العصر العباسي. ونحن إنما سقنا ما وثَّقناه من أشعاره، ومن يرجع إلى ديوانه وما رفضناه من قصائده يستطيع أن يلاحظ عبث الرواة بشعره؛ فقد أجروا على لسانه خمرية تزخر بالألفاظ الفارسية، وكأنه فارسي أبًا وأمَّا ممن أتقنوا الشعر العربي في العصر العباسي وأتقنوا فن الخمرية بنوع خاص، ومن تفترق قصيدته رقم55 من قصائد أبي نواس وأضرابه في شيء؟ إنها تكتظ بأسماء الرياحين والأزهار وآلات الطرب الفارسية، ولا يبخل عليه واضعها بذكره لنيل مصر في تضاعيفها وإجرائه على لسان الأعشى بعض ما كان يجري على لسان أبي نواس ونظرائه من أن صاحبها مجوسي يصلي عليها   1 باكر: شربها في الصباح الباكر. حدها: سورتها وحدتها. 2 السلاف: أجود الخمر. العندم: شجر عروقه حمراء يصبغ به. يصفق: يروق. ناجودها: جرتها. تقطب: تمزح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ويزمزم. فماذا بقي لمجان الفرس في العصر العباسي. وقال ذلك نفسه في قصيدته رقم36 وقد رفضناها لما فيها من حديث عن هلاك الملوك الأولين، وهي ترفض أيضًا لما فيها من صور خمرية تنبو على ذوق الجاهليين؛ إذ يوصف زقها الأسود وقد طلي بالقار وطرح على الثرى بحبشي نام وانبطح، كما يوصف السكارى وقد تمددوا على الأرض وخذلتهم أرجلهم من غير كسح فلا يستطيعون حراكًا بالحبال الممدودة لصيد بعض الطير. وإذا تركنا خمره إلى غزله لاحظنا أنه لا يقف طويلًا عند الأطلال صنيع غيره من الجاهليين؛ بل يأخذ في وصف صاحبته ووصف عواطفه نحوها. وقد يعمد إلى نفس الصورة القصصية المبثوثة في معلقة امرئ القيس. فيتحدث عن مغامراته ووصوله إلى محبوباته من المتزوجات على شاكلة قوله: فَظَلِلتُ أَرعاها وَظَلَّ يَحوطُها ... حَتّى دَنَوتُ إِذا الظَلامُ دَنا لَها فَرَمَيتُ غَفلَةَ عَينِهِ عَن شاتِهِ ... فَأَصَبتُ حَبَّةَ قَلبِها وَطِحالَها1 حَفِظَ النَهارَ وَباتَ عَنها غافِلًا ... فَخَلَت لِصاحِبِ لَذَّةٍ وَخَلا لَها فهو يخالس الزوج ويخاتله؛ حتى يظفر ببغيته. وطبيعي أن يكون غزله ماديًّا صريحًا لما رأينا من لهوه وخمره؛ غير أننا نلاحظ عنده رقة في الغزل وشدة في الوله والتعلق بالمحبوبة؛ حتى إن روحه لتكاد تسقط من بين جنبيه جزعًا وصبابة، وخاصة حين الوداع. واستمع إليه يقول في فاتحة معلقته: وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ ... وَهَل تُطيقُ وَداعًا أَيُّها الرَجُلُ فهو يأمر قلبه أن يودعها قبل الرحيل، وسرعان ما يرجع إلى نفسه ينكر ما ظنه فيها من الصبر على الوداع. وهي صبابة لا نعرفها عند الجاهليين؛ إنما نعرفها عند الأعشى صاحب الذوق الرقيق الذي أثرت فيه الحضارة، وحولته دقيق الحس دقة شديدة؛ فإذا هو يتذلل في حبه ويخضع، وامض معه في المعلقة فستجده يشبب بصاحبته منحرفًا عن طريقة الجاهليين في بكاء آثار الديار والأطلال؛ فهي موضوع حبه وغزله، ولا داعي لأن يذهب بعيدًا مع الذكريات، وإذن   1 الشاة هنا: كناية عن المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فليأخذ في وصفها مفتنًّا في ذلك افتنانًا؛ فتارة يصف بشرتها وشعرها وعوارضها وتارة يصف مشيتها الوانية وحليها، وتارة يصف تعلق الناس بطلعتها الفاتنة وما تغرق فيه من ترف ونعيم وعطور. ولا يلبث أن يورد علينا هذا البيت الغريب: عُلَّقتُها عَرَضًا وَعُلَّقَت رَجُلًا غَيري وَعُلَّقَ أُخرى غَيرَها الرَجُلُ وهو يصور فيها شقاءه بحبها؛ فهو يحبها، وهي تعرض عنه، وتحب رجلًا آخر، والرجل يعرض عنها ويحب فتاة أو امرأة ثانية، وسرعان ما يعود، فيتذكر كيف كانت تشفق عليه وعلى نفسها حين زارها ذات مرة؛ فقال: قالَت هُرَيرَةُ لَمّا جِئتُ زائِرَها ... وَيلي عَلَيكَ وَوَيلي مِنكَ يا رَجُلُ فقد بالغ في وصف ارتياعها وخوفها على نفسها وعليه؛ حتى إنها لتتفجع وتتوجع إشفاقًا وضعفًا. ولعل في هذا كله ما يوضح غزل الأعشى وأنه يمتاز من ناحية بأنه حسي مادي ومن ناحية أخرى برقته المفرطة وتصويره لعواطف المحبين وأحاسيسهم التي يبوحون بها ولا يستطيعون كظمها ولا كتمها؛ بل يندفعون في تصويرها معبرين عن ولههم وعشقهم. والحق أن الأعشى في شعره جميعه يعد تمهيدًا للشعر الحضري الذي ظهر من بعده، سواء في غزله وخمره أو في هجائه ومديحه؛ فهو في هذه الموضوعات جميعًا يفصح عن ذوق متحضر، سواء في خطاب الأمراء والأشراف والخضوع لهم أو في خطاب النساء والتذلل لهن أو في اللعب بمهجويه والاستهزاء والاستخفاف، أو في وصف الخمر ومجالسها ودناتها وكئوسها. ولعلنا بعد ذلك لا نعجب إذا رأيناه يشبه العباسيين في مبالغاتهم؛ فقد كان يسرف على نفسه مثلهم في تصور ممدوحيه؛ فإذا هو يقول في هوذة بن علي الحنفي: فَتىً لَو يُباري الشَمسَ أَلقَت قِناعَها ... أَوِ القَمَرَ الساري لَأَلقى المَقالِدا1 فهو لو يباري الشمس لألقت قناعها خجلًا ولو بارى القمر لذل له وانقاد صغارًا. وهي مبالغة مفرطة، ومثلها قوله متغزلًا:   1 ألقى المقالد: ذل وانقاد، وفي رواية ينادي بدلًا من يباري بمعنى يجالس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 لَو أَسنَدَت مَيتًا إِلى نَحرِها ... عاشَ وَلَم يُنقَل إِلى قابِرِ حَتّى يَقولُ الناسُ مِمّا رَأوا ... يا عَجَبًا لِلمَيِّتِ الناشِرِ1 فلو ضمت ميتًا إلى نحرها؛ لدبت به الحياة من جديد، وعجب الناس لما يرون من هذا الميت المبعوث. ويبالغ الأعشى أو قل يزيد مبالغته إفراطًا؛ فيقول إن هذا الميت حين يبعث إلى دنياه يخلد فيها ولا ينقل إلى مقبرة من المقابر. ولا يلاحظ عنده إطرافه بمثل هذه المبالغات فحسب؛ بل يلاحظ أيضًا تعمقه في صنع الأخيلة والصور، فإذا هو يقع منها على مبتكرات كثيرة، نلاحظها لا في موضوعه الجديد فحسب، ونقصد الخمر، وإنما في أقدم الموضوعات وأكثرها دخولًا في البداوة، ونقصد وصف الناقة؛ إذ يقول في بعض شعره إنها تجترع الآكام اجتراعًا، لما تطوى منها، يقول: إِذا ما الآثِماتُ وَنَينَ حَطَّت ... عَلى العِلّاتِ تَجتَرِعُ الإِكاما2 ويقول مصورًا سرعة ناقته في الهاجرة: بِجُلالَةٍ سُرُحٍ كَأَنَّ بِدَفِّها ... هِرًّا إِذا اِنتَعَلَ المَطِيُّ ظِلالَها3 فهي تجري مذعورة كأن هرًّا يخدشها، وليس ذلك الذي يلفتنا عنده؛ إنما يلفتنا أنه عبر عن تقلص الظلال في الهاجرة بأنه لم يبق لناقته إلا ظل أخفاقها، وهي تنتعله في خطاها. وتكثر عنده الصور المخترعة في الخمر، وهي مبثوثة فيما أنشدناه من شعره. ومن أهم ما يلاحظ عنده سهولة لفظه بالقياس إلى معاصريه وسابقيه من قبيلته أمثال طرفة، وما نشك في أن هذا يرجع إلى أنه تأثر بالحضارة، فرقت معانيه، ورقت ألفاظه رقة لم تعرف لشاعر جاهلي، وليس لفظه وحده الذي رق؛ بل إن نفسه رقت هي الأخرى ولانت، فإذا هو يأتي بخمرياته وغزلياته السابقة. وحقًّا تأثر النابغة مثله بالحضارة؛ ولكنا نحس عنده أنه يبقي على كثير من بداوته، ولذلك   1 الناشر: المنشور أو المبعوث. 2 الآثمات هنا: الوانيات. العلات: الحالات المختلفة. حطت هنا: أسرعت. الإكام: المرتفعات. 3 جلالة: ناقة ضخمة. سرح: سهلة. الدف: الجانب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 لم يرقّ غزله ولا خاض في الخمر، أما الأعشى فأقبل على اللهو والطرب والعكوف على الخمر والاستماع إلى القيان؛ فكان طبيعيًّا أن يسهل الشعر عنده بأكثر مما يسهل عند النابغة، وأن تظهر فيه رقة الحضارة ونعومتها. ولا يظهر تأثير الحضارة في سهولة ألفاظه فحسب؛ بل يظهر أيضًا في خفة أوزانه وجمال موسيقاه، وكأنما أثر فيه كثرة استماعه للمغنيات والغناء؛ فإذا هو يُحيل شعره ألحانًا وأنغامًا خالصة. وهو كثير التنويع في أوزانه يستخدم منها التام والمجزوء، ويُحسن هذا الاستخدام إلى أقصى الحدود؛ إذ كان يقتدر على الإتيان بالألفاظ العذبة والكلمات الرشيقة والقوافي المتمكنة. على أنه ينبغي أن نلاحظ شيئين، هما كثرة ما نحل عليه، وقد أدى ذلك إلى دخول ألفاظ فارسية في بعض قصائده، حمل عليه من أجلها المرزباني في كتاب الموشح. والذي لا شك فيه أن هذا من صنع المنتحلين، ولا يصح أن نحمل على الأعشى بسببه بل ننحي عنه هذا الشعر على نحو ما نحينا عنه القصيدة رقم55. أما الشيء الثاني فهو أن الأسلوب عند الأعشى ينفك قليلًا عن صورة الأسلوب الجاهلي؛ ولذلك مظهر واضح هو أننا نفتقد عنده الأبيات المفردة التي تدور في الحكم والأمثال، وكأنما لم تكن لديه مقدرة زهير والنابغة في التركيز وحشد المعاني في الألفاظ القليلة. وربما كان هذا هو سبب كثرة التضمين في أشعاره كقوله في مطلع قصيدته الأولى في ديوانه: ما بُكاءُ الكَبيرِ بِالأَطلالِ ... وَسُؤالي فَهَل تَرُدُّ سُؤالي دِمنَةٌ قَفرَةٌ تَعاوَرَها الصَيـ ... ـفُ بِريحَينِ مِن صَبا وَشَمالِ1 فقد جاء بفاعل ترد في أول البيت الثاني. ومن ذلك قوله في قصيدته التي يفخر فيها بتغلُّب شيبان على الفرس في يوم ذي قار: وَلِلَّهِ عَينًا مَن رَأى مِن عِصابَةٍ ... أَشَدَّ عَلى أَيدي السُقاةِ مِنَ الَّتي2   1 الدمنة: آثار الدار. الصبا: ريح جنوبية لينة. تعاورها: تتداولها. 2 السعاة: الذين يسعون في الحرب ويهيجونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أَتَتنا مِنَ البَطحاءِ يَبرُقُ بَيضُها ... وَقَد رُفِعَت راياتُها فَاِستَقَلَّتِ1 وهو يوازن في البيتين بين بني شيبان وجيوش الفرس؛ فيقول ألا سلمت عينًا من رأى عصابة بني شيبان، وإنها لأشد على من يثيرون الحروب من تلك التي أتتنا من البطحاء تبرق خوذاتها وتخفق راياتها. وواضح أنه فصل بين الصلة والموصول في البيتين، وكأنه لم يعرف بأن للبيت الأول نهاية يقف عندها. وهذا التضمين في شعره أكثر من أن نمثل له؛ فليرجع إليه من أراد. والمهم أنه يدل على انفكاك التعبير عنده؛ فهو لا يتمه في البيت؛ بل يتمه في بيت ثان أو أبيات. ولعل ذلك هو سبب كثرة صيغة التفضيل التي اشتهر بها في شعره، وذلك أنه حين يبتغي تفضيل شيء على شيء يجعل المفضل عليه مبتدأ منفيًّا بها، ثم يسترسل في وصفه؛ حتى إذا استوفى ما أراد من هذا الوصف جاء بخبر المبتدأ على شاكلة قوله في المعلقة يصف صاحبته وما ينتشر من طيبها. ما رَوضَةٌ مِن رِياضِ الحَزنِ مُعشَبَةٌ ... خَضراءُ جادَ عَلَيها مُسبِلٌ هَطِلُ2 يُضاحِكُ الشَمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَبتِ مُكتَهِلُ3 يَومًا بِأَطيَبَ مِنها نَشرَ رائِحَةٍ ... وَلا بِأَحسَنَ مِنها إِذ دَنا الأُصُلُ4 فقد بدأ بالمبتدأ وهو الروضة، ووصفها في بيتين مادحًا جمالها وما تمدها به الأمطار وكيف تضاحك الشمس أزهارها ونباتاتها، ثم قال إن هذه الروضة على حسنها وشذاها العطر ليست أطيب من صاحبته شذى ولا أبهى منظرًا. وواضح من كل ما قدمنا أن الأعشى يعد حلقة مهمة من حلقات الشعر الجاهلي، وهي حلقة تضيف جديدًا واضحًا إلى هذا الشعر سواء في موضوعاته أو في معانيه أو في أحاسيسه أو في سهولة ألفاظه أو خفة أوزانه وجمال أنغامه وألحانه.   1 البطحاء: موضع بقرب ذي قار. البيض: الخوذ. استقلت: ارتفعت وعلت. 2 الحزن: ما غلظ من الأرض وارتفع. وعندهم رياض الحزن أجود وأنضر من رياض المنخفضات. مسبل هطل: كثير الأمطار. 3 كوكب: أراد به ما طال من النبات. شرق: ريان من الماء، وأراد بالمضاحكة تفتح الأزهار. مؤزر: لابس إزارًا. عميم النبت: ما اجتمع منه وتكاثر. مكتهل: تام. 4 الأصل: جمع أصيل وهو الوقت قبل الغروب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الفصل الحادي عشر: طوائف من الشعراء . 1- الفرسان : رأينا القبائل في الجاهلية تعيش معيشة حربية؛ فهي كتائب تنزل للرعي، وفي الوقت نفسه تجهز بالأسلحة كي تدفع خصومها عن مراعيها، أو تغير عليهم وتسبي نساءهم وتنهب أموالهم من الإبل وغير الإبل. وكانوا يحاربون راجلين وركبانًا على الإبل والخيل، وكانوا يرون في الثانية مزية على الأولى لسرعتها في الطراد والإغارة؛ فأحبوها وعنوا بها وبتربيتها وصيانتها واستنتاج كرائمها وترويضها للحروب والسباق. وقد دارت أوصافهم لها في شعرهم الجاهلي؛ فلم يكادوا يتركون عضوًا من أعضائها إلا وصفوه، ولا خصلة ولا عيبًا إلا ذكروه، وفي معلقة امرئ القيس صورة من وصفهم لخيلهم، وممن اشتهر بوصفها أبو دُوَاد الإيادي وطفيل الغنوي وسلامة بن جندل التميمي. واشتهر كذلك جماعة من الفرسان الذين أظهروا بطولة نادرة في حربهم عليها لخصومهم وأقرانهم، وهم كثيرون؛ فقد كان لكل قبيلة فارسها أو فرسانها الذين يتدربون على ركوب الخيل طويلًا وكيف يقفزون عليها ويشهرون سيوفهم ويلوحون برماحهم وكيف يسددون ضرباتهم إلى أعدائهم، وتلقانا دائمًا أسماؤهم وخاصة في حروبهم الطويلة مثل حرب البسوس وفارسها المهلهل التغلبي، وهو الذي أشعل نيرانها ثأرًا لأخيه كليب، ويقال إنه أول من هلهل الشعر وأرقَّه1. وشعره يدور في رثاء أخيه وتوعد قبيلة بكر بما سينزله بها من هزائم لا تقل شدة ولا فتكًا عن هزائمها السابقة. وكانت الحرب كما قدمنا في غير هذا الموضع بين بكر وقبيلته تغلب.   1 انظر أخباره في الأغاني: "طبعة دار الكتب" 5/ 34 والشعر والشعراء: 1/ 256 وخزانة الأدب للبغدادي: 1/ 302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 سجالًا، تارة تنتصر هذه وتارة تنتصر تلك. وكان لا يني يحمِّس قومه ويدعوهم إلى مواصلة القتال؛ مفصحًا في أثناء ذلك عن رغبة حارة في الانتقام، واسمعه يقول1: وَإنّي قَد تَرَكتُ بِوارِدَاتٍ ... بُجَيرًا في دَمٍ مِثلِ العَبيرِ2 وَهَمّامَ بنَ مُرَّةَ قَد تَرَكنا ... عَلَيهِ القُشعُمانِ مِنَ النُسورِ3 وصبَّحنا الوُخومَ بيومِ سَوْء ... يُدافعْن الأسنَّةَ بالنُّحور4 كأنا غُدْوَة وبَني أبينا ... بجوف عنيزة رَحَيا مُديرِ5 فلولا الريحُ أُسْمِعَ أهلُ حِجْر ... صَليلَ البَيْضِ يُقْرَع بالذكورِ6 وواضح أنه يفخر بانتصاراته على بكر في موقعة واردات وموقعة عنيزة، وقد قتل في الأولى بجير بن الحارث بن عباد أحد فرسان بكر، كما قتل همام بن مرة أخا جساس، وكم قتلوا من عشيرة الوخوم، ولم يكن يوم عنيزة بأقل من يوم واردات فيما اصطلته بكر من حر اللقاء. ومن فرسانهم المشهورين عامر بن الطفيل7 فارس بني عامر بن صعصعة، أقوى عشائر هوازن وأشدها بأسًا، وكان بنو عامر ينتشرون في أواسط نجد شرقي الحجاز، وجنوبي منازل عبس وذبيان، وغربي منازل بني تميم، وكانت مراعيهم تمتد جنوبًا حتى بني حنيفة في اليمامة وبني الحارث بن كعب في نجران ومذحج في شمالي اليمن، ولما نشبت الحروب بين عبس وذبيان أخذوا صف عبس، فاصطدموا بذبيان وأحلافها، وقد جعلهم انتشارهم في أواسط نجد يحاربون.   1 الأصمعيات "طبع دار المعارف" ص174 والأغاني 5/ 53. 2 واردات: موضع سميت به موقعة حدثت فيه بين بكر وتغلب في حرب البسوس. العبير: الزعفران. 3 القشعم من النسور: الضخم. وهمام: أخو جساس قاتل كليب. 4 الوخوم: عشيرة من بكر. 5 عنيزة: موضع سميت به إحدى وقائع حرب البسوس. والرحيان إذا أدارهما مدير أثرت كل منهما في الأخرى، والصورة واضحة. 6 حجر: قرية باليمامة. البيض: خود الحرب. يقرع: يضرب. والذكور أجود السيوف وأيبسها وأشدها. 7 انظر أخبار عامر في الأغاني "طبعة الساسي" 15/ 50، وراجع ترجمته الشعر والشعراء 1/ 293 وانظر الخزانة: 1/ 473، 3/ 492، والمعمرين ص60 وشرح النقائض في يوم فيف الريح ص469 وشعب جبلة ص654 وتاريخ ابن كثير 5/ 56 والسيرة النبوية 4/ 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قبائل كثيرة مضرية ويمنية. ولعامر بن الطفيل ديوان نشره لايل مع ديوان عبيد بن الأبرص في سلسلة جبل التذكارية. وهو فيه دائم الحديث عن فروسيته وحسن بلائه في حروب قومه مع ذبيان، في يوم الرقم، ويوم ساحوق، وغيرهما من الأيام. وقد أظهر بطولة نادرة في يوم فيف الريح وكان لقومه على بني الحارث بن كعب النجرانيين وعشائر مذحج، وتغنى به طويلًا في شعره على شاكلة قوله1: لَقَد عَلِمَت عُليا هَوازِنَ أَنَّني ... أَنا الفارِسُ الحامي حَقيقَةَ جَعفَرِ2 وَقَد عَلِمَ المَزنوقُ أَنّي أَكُرُّهُ ... عَشِيَّةَ فَيفِ الريحِ كَرَّ المُشَهَّرِ3 إِذا اِزوَرَّ مِن وَقعِ الرِماحِ زَجَرتُهُ ... وَقُلتُ لَهُ اِرجِع مُقبِلًا غَيرَ مُدبِرِ4 وَأَنبَأتُهُ أَنَّ الفِرارَ خَزايَةٌ ... عَلى المَرءِ ما لَم يُبلِ عُذرًا فَيُعذَرِ5 أَلَستَ تَرى أَرماحَهُم فيَّ شُرَّعًا ... وَأَنتَ حِصانٌ ماجِدُ العِرقِ فَاِصبِرِ6 وَقَد عَلِموا أَنّي أَكُرُّ عَلَيهِمُ ... عَشِيَّةَ فَيفِ الريحِ كَرَّ المُدَوَّرِ7 وَما رِمتُ حَتّى بَلَّ نَحْرِي وَصَدْرَهُ ... نَجيعٌ كَهُدّابِ الدِمَقسِ المُسَيَّرِ8 وهو يصور في هذه القطعة اقتحامه للحروب، وكيف أنه لا يتخلى عن بسالته الحربية، حتى يحمي عشيرته وضعفاءها ونساءها. ويقول إنه لا يزال يرد إلى الحرب فرسه المزنوق كلما خرج منها، وإن ازور عنها أو انحرف دفعه فيها دفعًا، أما الفرار وعاره فدونه الموت. ويدعو فرسه إلى التأسي به؛ فالرماح تنوشه من كل جانب، وهو يهجم على أعدائه غير مبال، ويدعو فرسه إلى الصبر معه؛ حتى   1 المفضليات: ص361. 2 عليا هوازن: مجموعة من قبائلها هي سعد وجشم، ونصر وثقيف. وحقيقة: حمى جعفر: عشيرة عامر، وهي جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر. 3 المزنوق: اسم فرسه. المنيح: من قداح الميسر ويكثر جولانه في القداح؛ فكلما خرج منها رد فيها. 4 ازور: مال وانحرف. 5 خزاية: خزي. يعذر: يأتي بعذر. 6 شرعًا: مسددة. 7 المدور: الذي يطوف بالدوار وهو من أصنامهم. 8 ما رمت: ما برحت. النجيع: الدم. الدمقس: الحرير المسير: برود من اليمن بها خطوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ينالا شرف النصر جميعًا. ويلمع أمام عينيه يوم فيف الريح وما أظهر فيه من بسالة، ويقول إنه لم يبرح موضعه في ميدان القتال؛ حتى غرق نحره وصدر فرسه بالدماء. واشتهر عامر كما مر بنا بمنافرته لعلقمة بن عُلاثة ابن عمه؛ بسبب منافستهما على سيادة عشيرتهما، وقد احتكما إلى هرم بن قطبة الفزاري، فسوى بينهما –كما مر بنا- في عبارته المأثورة إذ قال لهما: "أنتما كركبتي البعير الأدْرَم –الفحل- تقعان إلى الأرض". وقد تقدم أن الأعشى كان ممن وقفوا في صف عامر ضد علقمة. وقد وفد عامر على الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، سنة تسع للهجرة؛ غير أن الله لم يوفقه للإسلام؛ فمضى على وجهه، والرسول غضبان عليه، ولم يلبث أن مات بالطاعون عن اثنتين وستين سنة. ولا نغلو إذا قلنا إن أهم فارس احتفظت به ذاكرة العرب في أجيالهم التالية إلى يومنا الحاضر هو عنترة بن شداد1 "وقيل: ابن عمرو بن شداد" العبسي، وكان أبوه من أشراف عبس، أما أمه فكانت حبشية يقال لها زبيبة، وقد ورث عنها سواده، ولذلك كان يعد من أغربة العرب، كما ورث عنها تشقق شفتيه، ولذلك كان يقال له: عنترة الفلحاء. وكان من عادة العرب في الجاهلية إذا استولدوا الإماء أن يسترقوا أبناءهم ولا يلحقوهم بأنسابهم إلا إذا أظهروا نجابة وشجاعة. ومن ثم لم يعترف شداد بعنترة ابنًا له إلا بعد ما أبداه من بسالة في حروب داحس والغبراء وغيرها. وقد ظل يذكر هذا الجرح الذي أصابه في الصميم، وفي ذلك يقول2: إِنّي اِمرُؤٌ مِن خَيرِ عَبسٍ مَنصِبًا ... شَطرِي وَأَحمي سائِري بِالمُنصُلِ3 وَإِذا الكَتيبَةُ أَحجَمَت وَتَلاحَظَت ... أُلفيتُ خَيرًا مِن مُعَمٍّ مُخوَلِ4 وواضح أنه يشير إلى كرم أصله الأبوي في شطره الأول، أما شطره الثاني من جهة أمه فتنوب عنه شجاعته واقتحامه للحروب حتى غدا في قومه خيرًا ممن   1 انظر في عنترة الأغاني "طبعة دار الكتب": 8/ 237 والشعر والشعراء: 1/ 204. وما بعدها. والخزانة: 1/ 59. وراجع ديوانه برواية الأصمعي، في مخطوطة الشنتمري "شرح الدواوين الستة" بدار الكتب المصرية. وقد طبع مصطفى السقا نص المخطوطة بشرح مختصر في مجموعة "مختار الشعر الجاهلي" وطبع الديوان طبعات أخرى في بيروت والقاهرة وليدن. 2 مختار الشعر الجاهلي: ص388. 3 منصبًا: أصلًا. المنصل: السيف. 4 تلاحظت: نظرت من يقدم على العدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 عمه وخاله من سادتهم؛ إذ لا يغني القبيلة أحد غناءه، ولا يذود عن حماها ذياده، ويصور لنا في نفس القصيدة شجاعته وجرأته تصويرًا باهرًا إذ يقول: بَكَرَت تُخَوِّفني الحُتوفَ كَأَنَّني ... أَصبَحتُ عَن غَرَضِ الحُتوفِ بِمَعزِلِ1 فَأَجَبتُها إِنَّ المَنِيَّةَ مَنهَلٌ ... لا بُدَّ أَن أُسقى بِكَأسِ المَنهَلِ2 فَاِقِني حَياءَكِ لا أَبا لَكِ وَاعلَمي ... أَنّي اِمرُؤٌ سَأَموتُ إِن لَم أُقتَلِ3 إِنَّ المَنِيَّةَ لَو تُمَثَّلُ مُثِّلَت ... مِثلي إِذا نَزَلوا بِضَنكِ المَنزِلِ4 وَالخَيلُ ساهِمَةُ الوُجوهِ كَأَنَّما ... تُسقى فَوارِسُها نَقيعَ الحَنظَلِ5 فهو لا يستمع إلى تخويف صاحبته له مما قد يلقاه من المكاره والمتالف بسبب تهافته على الحروب؛ بل إنه ليصم أذنيه عن ندائها قائلًا لها إن المنية مورد كل إنسان ولا بد أن أموت؛ فليكن موتي شريفًا في ميدان الحروب. ويدعوها أن تصون حياءها؛ فهو ميت على كل حال، وخير له أن يموت مناضلًا عن قومه مدافعًا عن نسائهم وأطفالهم وضعفائهم. ولا يلبث إحساسه ببطولته أن يتضخم في نفسه؛ فإذا هو يتصور أن المنية لو خلقت في مثال لكانت في مثل صورته وخلقته وهو يقتحم الصفوف، والخيل ساهمة من هول الحرب، والفرسان كالحة وجوههم كأنما يشربون من نقيع الحنظل. وقد طارت شهرة عنترة بالفروسية والشجاعة النادرة منذ الجاهلية، وما زالت ذكراه عالقة بأذهان العرب إلى اليوم؛ فهو مثلهم الأعلى في البسالة والبطولة الحربية، وقد اتخذت من أخباره نواة للملحمة المعروفة باسمه والتي يمكن أن تعد إلياذة العرب، وهو فيها يحارب في الجزيرة العربية وخارجها في الحبشة وإيران وبلاد الروم والفرنج وشمال إفريقية والأندلس، وينازل الصليبين. وبذلك كانت هذه القصة أو السيرة تلخص تاريخ العرب وملحمة فروسيتهم في الجاهلية، وفي الفتوح الإسلامية وبعد الفتوح في حروبهم مع الروم والصليبيين في الشرق والغرب. ونحن لا نُعنى الآن بعنترة الأسطورة؛ إنما نعنى بعنترة الفارس الجاهلي الذي   1 الحتوف: المتالف. 2 منهل: مورد. 3 اقني: احفظي وصوني 4 الضنك: الضيق. 5 ساهمة: متغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 دوخ الأقران والأبطال في حروب داحس والغبراء، وبذلك غسل مذمة ولادته ولونه وفلَحَ شفتيه، والذي لا شك فيه أنه كان على خلق عظيم وأنه كان يجمع إلى فروسيته المادية فروسية معنوية أو خلقية. ولا بد أن نلاحظ بصفة عامة أن الفروسية الجاهلية بعثت في نفوس أصحابها ضربًا من التسامي والإحساس بالمروءة الكاملة؛ فإذا هم يتغنون دائمًا بمجموعة من الفضائل والخصال الحميدة، واقرأ فيهم فستراهم يتحدثون عن كرمهم الفياض ووفائهم وحلمهم وأنفتهم وعزتهم وصبرهم على الشدائد وتحمل المشاق وحفاظهم على العهد وحماية الجار. وهو جانب واضح في أشعار عنترة، ونظن ظنًّا أنه نماه عنده ما قصه الرواة من أنه طلب عبلة من عمه مالك فأباها عليه لسواده، ولأنه ابن أمة، وقد ظل يتغنى بها طوال حياته تغني المحب المحروم، وهو تغن نستشف فيه غير قليل من الإحساس بالحزن واليأس. ومن ثم كان يمكن أن يعد أبًا لشعر الحب العذري عند العرب، كما يعد فعلًا أبًا للفروسية العربية بخصالها وخلالها النبيلة السامية التي استرعت أنظار الصليبيين؛ فاتخذوا منها مثالًا لفروسيتهم وما انطوى فيها من حب عذري1. وردّد البصر في أشعار عنترة فستجده يأسر لبك بمثله الخلقية الرفيعة؛ فهو مع فروسيته وبذله لنفسه في سبيل قومه سمح السجايا سهل المخالطة والمعاشرة لا يبغي على غيره، ولا يحتمل البغي، ولا يظلم ولكنه لا يستكين للظلم؛ فإن ظُلم تحول كالإعصار العاصف، حتي يأتي على ظالمه، وقد يشرب الخمر ولكنها لا تفسد مروءته، وإذا دعاه داعي المكرمات لبى باذلًا كل ما يملك عن طيب نفنس، يقول –في معلقته- مخاطبًا ابنة عمه عبلة التي شعف قلبه بها حبًا: أَثني عَلَيَّ بِما عَلِمتِ فَإِنَّني ... سَمحٌ مُخالَقَتي إِذا لَم أُظلَمِ وَإِذا ظُلِمتُ فَإِنَّ ظُلمِيَ باسِلٌ ... مُرٌّ مَذاقَتَهُ كَطَعمِ العَلقَمِ2   1 انظر قصة الحضارة "لول ديورانت" الجزء الثالث: من المجلد الرابع، الفصل الخامس الخاص بالفروسية ص446 وما بعدها. 2 باسل: كريه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وَإِذا شَرِبتُ فَإِنَّني مُستَهلِكٌ ... مالي وَعِرضي وافِرٌ لَم يُكلَمِ1 وَإِذا صَحَوتُ فَما أُقَصِّرُ عَن نَدىً ... وَكَما عَلِمتِ شَمائِلي وَتَكَرُّمي ويتحدث إليها عن فروسيته وبسالته في الطعن الأول والنزال وصراع الأقران وكيف ينصبُّ عليهم كالقضاء النازل أو كشواظ من نار يحرق ويُصمي. ولا يلبث أن يعود إلى الحديث عن كرم نفسه وشرف طباعه؛ فيقول: يُخبِركِ مَن شَهِدَ الوَقيعَةَ أَنَّني ... أَغشى الوَغى وَأَعِفُّ عِندَ المَغنَمِ2 فهو يقدم في أهوال الحروب وخطوبها، أما عند الأسلاب فيتردد ويحجم ويتعفف وكأنه ليس صاحبها. إنه لا يحارب من أجل الأسلاب والغنائم؛ وإنما يحارب ليكسب لقومه شرف الانتصار. وما يزال يحدثنا في شعره عن كرامته، وشعوره القوي بعزته وأنه لا يقبل الضيم والهوان، يقول في لاميته3: وَلَقَد أَبيتُ عَلى الطَوى وَأَظَلُّهُ ... حَتّى أَنالَ بِهِ كَريمَ المَأكَلِ فالجوع حتى الموت خير من الطعام الخبيث الدنيء. وعلى هذه الشاكلة ما تزال تلقانا في أشعاره معاني نبيلة، وهي معان ارتفعت عنده إلى أروع صورة للنبل الخلقي؛ حتى لنراه يرقُّ لأقرانه الذين يسفك دماءهم، يقول -في معلقته- وقد أخذه التأثر والانفعال الشديد لبطشه بأحدهم: فَشَكَكتُ بِالرُمحِ الطويل ثِيابَهُ ... لَيسَ الكَريمُ عَلى القَنا بِمُحَرَّمِ4 فهو يرفع من قدر خصمه، فيدعوه كريمًا، ويقول إنه مات ميتة الأبطال الشرفاء في ساحة القتال. وكان يجيش بنفسه إحساس عميق نحو فرسه الذي يعايشه ويعاشره حين تنال منه سيوف أعدائه ورماحهم، يقول مصورًا آلامه وجروحه الجسدية وقروحه النفسية:   1 يكلم: يجرح. 2 الوغى: الحرب. 3 مختار الشعر الجاهلي: للسقا ص387، والطوى: ضمور البطن، ويريد به الجوع الشديد. 4 يريد بالثياب جسده وبدنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فَاِزوَرَّ مِن وَقعِ القَنا بِلَبانِهِ ... وَشَكا إِلَيَّ بِعَبرَةٍ وَتَحَمحُمِ1 لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اشتَكى ... وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي وكأنما فرسه بضعة من نفسه. وبهذه الرقة والرحمة كان يعامل النساء سبيات وغير سبيات؛ فإذا سبى امرأة لم يقربها إلا بعد أداء صداقها إلى أهلها. وكما للسبية حُرمتها كذلك لامرأة جاره، وخاصة إذا كانت زوجة صديق، فإنه يغض طرفه عنها ولا يتبعها قلبه وهواه، يقول2: ما استَمتُ أُنثى نَفسَها في مَوطِنِ ... حَتّى أُوَفّي مَهرَها مَولاها3 أَغشى فَتاةَ الحَيِّ عِندَ حَليلِها ... وَإِذا غَزا في الجَيشِ لا أَغشاها4 وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي ... حَتّى يُواري جارَتي مَأواها إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ ... لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها وعنترة بهذا كله يصور لنا المروءة الجاهلية الكاملة، وهي مروءة طرزها حب عذري عفيف لابنة عمه عبلة. وحقًّا إن هذا الحب إنما شاع في بوادي نجد في أثناء العصر الأموي، بسب المعاني الروحية التي بثها الإسلام في نفوس العرب، وهو لم يشع في الجاهلية؛ إنما ظهر عند بعض الأفراد من الفرسان مثل عنترة؛ فقد كان يتسامى لا في خلقه فحسب؛ بل أيضًا في حبه، وقد جعله ذلك يستشعر غير قليل من الأسى والحزن حين رفض عمه يده، فلم يزوجه من ابنته. ومضى يحبها حبًّا عفيفًا، أو قل حبا يائسا محروما فيه طهارة النفس ونقاؤها وفيه الفؤاد الملذلع الذي يكظم حزنه فتفضحه عبراته، يقول5: أَفَمِن بُكاءِ حَمامَةً في أَيكَةٍ ... ذَرَفَت دُموعَكَ فَوقَ ظَهرِ المَحمِلِ6   1 ازور: مال وانحرف. اللبان الصدر. التحمحم. صهيل فيه شبه الأنين. 2 مختار الشعر الجاهلي: ص409. 3 استام المرأة: راودها عن نفسها. الموطن هنا: موطن القتال. 4 أغشى: أزور. 5 مختار الشعر الجاهلي: ص387. 6 أيكة: شجرة. ذرفت: سالت. المحمل: علاقة السيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فالحمام يهيجه كما يهيجه النسيم الذي يهب من صوبها، وكما تهيجه الرسوم والأطلال؛ إذ يعبث الحنين بعقله وبقلبه، يقول في معلقته: حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهدُهُ ... أَقوى وَأَقفَرَ بَعدَ أُمِّ الهَيثَمِ1 وَلَقَد نَزَلتِ فَلا تَظُنّي غَيرَهُ ... مِنّي بِمَنزِلَةِ المُحَبِّ المُكرَمِ ودائمًا نراه يعبر عن ظمأ شديد إلى رؤيتها، لا لغاية حسية؛ ولكن ليمتع طرفه بجمالها، ومن أهم ما يلاحظ عنده أنه يقدم لها في معلقته وغير معلقته مغامراته الحربية؛ فمن أجلها يحارب ويستبسل في القتال، ومن أجلها يذود عن قومه ويحمي حماهم، ومن أجلها يسوق كل مناقبه ومحامده، وكان حين يشتد القتال يلمع خيالها أمام عينيه فيندفع كالثور الهائج، يقول: وَلَقدْ ذَكَرْتُك والرِّماحُ نواهل ... منِّي وبيضُ الهندِ تَقْطُر من دمي فوَدِدْتُ تقبيل السيوفِ لأنها ... لمعتْ كبارقِ ثَغْرِك المتبسِّمِ فهو دائم الذكر لها في وغى الحرب؛ حتى حين تعبث به سيوف أعدائه ورماحهم. إنه من أجلها يحارب ويخاطر ويغامر؛ فلا غرو أن يذكرها في ساعات القتال الحرجة، فإذا هو يتحول إلى أسد ضار لا يعبس، بل يبتسم؛ لأنها تتراءى له من خلال بريق السيوف، فيؤمن بأنه منتصر. وعلى هذا النحو تكاملت الفروسية عند عنترة؛ فلم تصبح فروسية حربية فحسب، بل أصبحت فروسية خلقية سامية، فيها الحب الطاهر العفيف الذي يجعل من المحبوبة مثلًا أعلى، والذي يرتفع صاحبه عن الغايات الجسدية الحسية إلى غايات روحية تنم عن صفاء النفس ونقاء القلب، وفيها التسامي عن الدنايا والنقائص الذي يملأ النفوس بالأنفة والإباء والعزة والكرامة والحس المرهف والشعور الدقيق. ويقال: إنه قتل في غارة له على بني نبهان الطائيين بعد أن تقدمت به السن؛ إذ أصابه أحد رماتهم بسهم من سهامه، ويقال: بل مات حتف أنفه2.   1 أقوى وأقفر: خلا ممن كان يسكنه. 2 انظر الأغاني: 8/ 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 2- الصعاليك : 1 الصعلوك في اللغة الفقير الذي لا يملك من المال ما يعينه على أعباء الحياة، ولم تقف هذه اللفظة في الجاهلية عند دلالتها اللغوية الخالصة؛ فقد أخذت تدل على من يتجردون للغارات وقطع الطرق. ويمكن أن نميز فيهم ثلاث مجموعات: مجموعة من الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم مثل حاجز الأزدي وقيس بن الحدادية وأبي الطحان القيني. ومجموعة من أبناء الحبشيات السود، ممن نبذهم آباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار ولادتهم مثل السليك بن السلكة وتأبط شرًّا والشَّنْفَرى، وكانوا يشركون أمهاتهم في سوادهم فسموا هم وأضرابهم باسم أغربة العرب. ومجموعة ثالثة لم تكن من الخلعاء ولا أبناء الإماء الحبشيات؛ غير أنها احترفت الصعلكة احترافًا، وحينئذ قد تكون أفرادًا مثل عروة بن الورد العبسي، وقد تكون قبيلة برمتها مثل قبيلتي هذيل وفهم اللتين كانتا تنزلان بالقرب من مكة والطائف على التوالي. وتتردد في أشعارهم جميعًا صيحات الفقر والجوع، كما تموج أنفسهم بثورة عارمة على الأغنياء الأشحاء، ويمتازون بالشجاعة والصبر عند البأس وشدة المراس والمضاء وسرعة العدو؛ حتى ليسمون بالعدائين، وحتى لتضرب الأمثال بهم في شدة العدو؛ فيقال: "أعدى من السليك" و"أعدى من الشنفرى"، وتُروى عنهم أقاصيص كثيرة في هذا الجانب؛ من ذلك ما يقال عن تأبط شرًّا من أنه "كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة؛ فكان ينظر إلى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته، حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله2". وكما كانوا يحسنون العدو كان كثير منهم يحسن ركوب الخيل والإغارة عليها، ويقال: إنه كان للسليك فرس يسمى النّحَّام3،   1 راجع بحثًا في الشعراء الصعاليك ليوسف خليف "طبع دار المعارف". 2 الأغاني: 18/ 21 3 ذيل الأمالي للقالي ص 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وللشنفرى فرس يسمى اليَحْمُوم1، أما اسم فرس عروة بن الورد فقَرْمَل2 وكانوا يغيرون أحيانًا فرادى وأحيانًا في جماعات. وكانت أكثر المناطق التي يغيرون عليها مناطق الخصب، وكانوا يرصدون طرق القوافل التجارية وقوافل الحجاج القاصدة إلى مكة، ومعنى ذلك أنهم كانوا ينتشرون حولها في جبال السراة كما كانوا ينتشرون بالقرب من الطائف والمدينة وأطراف اليمن الشمالية؛ ففي كل هذه الجهات يكثر هؤلاء الذؤبان من قطاع الطرق وقراصنة الصحراء. وهم في أشعارهم يتغنون بمغامراتهم ونراهم في أثناء ذلك يتمدحون بالكرم كما نرى فيهم كثيرًا من البر بالأقارب والأهل، وأيضًا فإننا نحس عندهم غير قليل من الترفع والشعور بالكرامة في الحياة، ويصور لنا ذلك أبو خراش الهذلي فيقول3: وَإِنّي لَأُثوي الجوعَ حَتّى يَمَلَّني ... فَيَذهَبَ لَم يَدنَس ثِيابي وَلا جِرمي4 وَأَغتَبِق الماءَ القَراحَ فَأَنتَهي ... إِذا الزادَ أَمسى لِلمُزَلَّجِ ذا طَعمِ5 أَرُدُّ شُجاعَ البَطنِ قَد تَعلَمينَهُ ... وَأوثِرُ غَيري مِن عِيالِكِ بِالطُعمِ مَخافَةَ أَن أَحيا بِرَغمٍ وَذِلَّةٍ ... وَلَلمَوتُ خَيرٌ مِن حَياةٍ عَلى رَغمِ فهو يفتخر لزوجه بأنه يصبر على الجوع؛ حتى ينكشف عنه، دون أن يلحقه فيه ضيم، وإنه ليكفيه الماء القراح؛ بينما يتخمم من حوله أشحاء النفوس بالطعام، أما هو فحتى إن وجد الطعام آثر به عياله وأولاده. وكل ذلك يصنعه حتى لا يوصم بعار الذل. وسنرى عما قليل عروة بن الورد يعبِّر عن مثالية خلقية رفيعة لا تقل جمالًا عن مثالية عنترة. وكأنما تحولت الصعلكة في أواخر العصر الجاهلي إلى نظام يشبه نظام الفروسية، وهي حقًّا تقوم على السلب والنهب؛ ولكنهم كانوا لا يسلبون ولا ينهبون سيدًا كريمًا، واقرأ في صعاليك هذيل من مثل أبي كبير والأعلم وفي السليك وتأبط شرًّا وغيرهم؛ فستجد للصعلوك مثاليته في الحياة أو على   1 ديوانه المطبوع في لجنة التأليف والترجمة والنشر: ص40. 2 ديوانه "طبع الجزائر": ص120. 3 ديوان الهذليين: طبعة دار الكتب المصرية: 2/ 127 والأغاني: 21/ 42. 4 أثوي: أطيل حبسه. 5 أغتبق: أشرب عشاء. القراح: الصافي. المزلج: البخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الأقل ستجد من بينهم من يصورون مستوى خلقيًّا رفيعًا من البر، وإن كان ذلك لا يمنع من أن فريقًا منهم عاش سفاحًا لا يرعى عهدًا ولا ذمة. ونقف قليلًا عند أكثرهم دورانًا على الألسنة، وهم تأبط شرًّا والشنفرى وعروة بن الورد. أما تأبط شرًّا فمن قبيلة فهم واسمه ثابت1 بن جابر بن سفيان ويعد في أغربة العرب؛ إذ كان ابن أمة حبشية سوداء، فورث عنها سوادها، وقيل: بل أمة حرة من فهم تسمى أميمة. واختلف القدماء في تعليل لقبه "تأبط شرًّا" فقيل: لقبته به أمه إذ تأبط سيفًا وخرج؛ فلما سئلت عنه قالت: تأبط شرًّا ومضى لوجهه، وقيل: بل سمته -أو لقبته- بذلك لأنها رأته يتأبط جرابًا مليئًا بالأفاعي. وربما كانت قبيلته هي التي لقبته بهذا اللقب لكثرة ما كان يرتكب من جنايات وجرائر، أي أنه يحمل دائمًا في أطوائه شرًّا يريد أن ينفذه. ويظهر أن أباه مات وهو صغير؛ فتزوجت أمه بأبي كبير الهذلي، وكان صعلوكًا كبيرًا، فخرجه على شاكلته، وربما كان لسواده وتعيير عشيرته له به، وبأنه ابن أمة أثر في تصعلكه، وكان يرافق الشَّنْفَرى في كثير من غاراته كما كان يرافقهما صعلوك آخر يسمى عمرو بن براق. وليس له ديوان شعر مطبوع؛ غير أن له أشعارًا كثيرة منثورة في كتب الأدب، وتُرْوَى له مغامرات كثيرة؛ غير أنها مطبوعة بطابع القصص الشعبي، مما أتاح للانتحال أن يلعب دورًا واسعًا فيما نسب إليه من أشعار؛ فمن ذلك لاميته التي أنشدها أبو تمام في حماسته يرثي بها خاله والتي تستهل بقوله: "إن بالشِّعب الذي دون سَلْعٍ" فقد ذكر بعض الرواة أنها مما نحله إياه خلف الأحمر2. ويمكن أن نُدْخل في هذا الباب من الانتحال ما يروى له من أشعار يقص علينا فيها لقاءه للجن أو للغول. وقد روى له صاحب المفضليات قصيدة طويلة جعلها فاتحة كتابه، وهو يستهلها بالحديث عن الطيف، ولا يلبث أن يحدثنا عن إحدى غاراته أو مغامراته الفاشلة مع صديقيه الشنفرى وعمرو بن براق على بَجيلة في الطائف؛ إذا أرْصَدُوا لهم كمينًا على ماء أوثقهم؛ غير أنه وصاحبيه دبروا حيلة بارعة، نجوا بها عَدْوًا على الأقدام، ويصور لنا عدوة وشَدَّه السريع حينئذ فيقول:   1 انظر ترجمته في الأغاني: 18/ 209 والشعر الشعراء: 1/ 271 وشرح شواهد المغني للسيوطي: ص19، 43 والخزانة: 1/ 66. 2 انظر تعليق التبريزي على القصيدة في شرحه لديوان الحماسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 لَيلَةَ صاحوا وَأَغرَوا بي سِراعَهُمُ ... بِالعَيكَتَينِ لَدى مَعدى بنِ بَرّاقِ1 كَأَنَّما حَثحَثوا حُصًّا قَوادِمُهُ ... أَو أُمَّ خِشفٍ بِذي شَثٍّ وَطُبّاقِ2 لا شَيءَ أَسرَعُ مِنّي لَيسَ ذا عُذَرٍ ... وَذا جَناحٍ بِجَنبِ الرَيدِ خَفّاقِ3 حَتّى نَجَوتُ وَلَمّا يَنزِعوا سَلَبي ... بِوالِهٍ مِن قَبيضِ الشَدِّ غَيداقِ4 وواضح أنه يذكر كيف فات عَدَّائي بجيلة ليلة صاحوا به وأسرعوا من خلفه، هو وصاحبه ابن براق، ويقول: إنهم أثاروه حتى غدا أسرع من الظليم والظبية، وحتى أصبحت الخيل الجياد لا تلحق شأوه؛ بل حتى الطير أصبحت تقصر عن عدوه، وكأنما جن جنونه. ويمضي فيرسم لنا صورة الصعلوك من أمثاله الذي يقدره ويجله، قائلًا: لَكِنَّما عِوَلي إِن كُنتُ ذا عِوَلٍ ... عَلى بَصيرٍ بِكَسبِ الحَمدِ سَبّاقِ5 سَبّاقِ غاياتٍ مَجدٍ في عَشيرَتِهِ ... مُرَجِّعِ الصَوتِ هَدًّا بَينَ أَرفاقِ6 عاري الظَنابيبِ مُمتَدٍّ نَواشِرُهُ ... مِدلاجِ أَدهَمَ واهي الماءِ غَسّاقِ7 حَمّالِ أَلوِيَةٍ شَهّادِ أَندِيَةٍ ... قَوّالِ مُحكَمَةٍ جَوّابِ آفاقِ8 فَذاكَ هَمّي وَغَزوي أَستَغيثُ بِهِ ... إِذا استَغَثتُ بِضافي الرَأسِ نَعّاقِ9   1 العيكتان: موضع. معدى: عدو. 2 حثحثوا: حركوا وأثاروا. القوادم: ما يلي الرأس من ريش الجناحين. الحص: جمع أحص وهو ما تناثر ريشه وتكسر لسرعته. يريد بذلك الظليم. الحشف: ولد الظبية. الشث والطباق: من نباتات الصحراء. 3 ذا العذر: الفرس. والعذر: ما أقبل من شعر الناصية على الوجه. وذا جناح: يريد الطير. الريد حرف الجبل. 4 السلب: ما يسلب في الحرب. الواله: ذاهب العقل. القبيض: السريع. الشد: العدو: غيداق: واسع. 5 العول: الاستغاثة وأصله رفع الصوت كالعويل. 6 مرجع الصوت: يصيح آمرًا ناهيًا. أرفاق: رفاق: الهد: الصوت الغليظ. 7 عاري الظنابيب: خفيف اللحم. وأصل الظنبوب عظم الساق. النواشر: عروق ظاهر الذراع. ممتد النواشر كناية عن طول الذراع واكتمال الخلق: الأدهم: الليل. واهي الماء: مطره شديد. غساق: شديد الظلمة. 8 المحكمة: الكلمة الفاصلة. 9 غزوي هنا: مقصدي. ضافي الرأس: كثير الشعر لا يتعاهده لكثرة غزوه. نعاق: يكثر من الصياح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فهو إنما يعوِّل على الصعلوك المثالي الذي يشركه في غزواته والذي يتصف بسبقه إلى المحامد في عشيرته، كما يتصف بجهارة صوته وزعامته بين الرفاق وبضمور جسمه وقوته وصلابته، وجرأته في اقتحام الليالي المظلمة الممطرة؛ حتى إذا كانت الحرب كان المقدم فيها الذي يحمل لواءها، وإذا كانت السلم كان ذا رأي صائب يتردد في مجالس العشيرة وأنديتها. ولا ينسى أن يضيف إلى هذه الخصال خصلة الكرم، ويجعلا حوارًا بينه وبين شخص يعذله على كثرة كرمه وإفراطه فيه؛ حتى إنه لا يبقي على شيء لغده، ويزجره زجرًا شديدًا، يقول: بل مَن لِعَذّالَةٍ خَذّالَةٍ أَشِبٍ ... حَرَّقَ بِاللَومِ جِلدي أَيَّ تِحراقِ1 يَقولُ أَهلَكتَ مالًا لَو قَنِعتَ بِهِ ... مِن ثَوبِ صِدقٍ وَمِن بَزٍّ وَأَعلاقِ2 عاذِلَتي إِنَّ بَعضَ اللَومِ مَعنَفَةٌ ... وَهَل مَتاعٌ وَإٍن أَبقَيتُهُ باقِ3 ولعل في هذه الأبيات وما سبقها ما يدل في وضوح على أن الصعلوك الذي كان يقطع الطريق في الجاهلية كانت تنعكس عليه أحيانًا صفات الفروسية وما بعثت لعصره من سمو في الأخلاق. وما زال تأبط شرًّا يقوم بمغامراته حتى قتل في إحدى غاراته بمنازل هذيل. أما الشنفرى، فكان من عشيرة الإواس4 بن الحجر الأزدية اليمنية، فهو قحطاني النسب، ويدل اسمه -ومعناه الغليظ الشفاه5- أن دماء حبشية كانت تجري فيه من قبل أمه؛ فهي أمة حبشية، وقد ورث عنها سوادها؛ ولذلك عد في أغربة العرب. ولا نراه ينشأ في قبيلة الأزد، إنما ينشأ في قبيلة فَهْم، ويضطرب الرواة في سبب نزوله مع أمه وأخ له بها، وربما كان أقرب ما يروونه من ذلك أن قبيلته قتلت أباه، فتحولت أمه عنها إلى بني فهم، ومما يرجح ذلك أننا نجده يخص بغزواته بن سلامان الأزديين معلنًا في أشعاره أنه يقتص لنفسه منهم. ويقال   1 العذالة: كثير العذل. الخذالة: كثير الخذلان لصاحبه. أشب: معترض. يريد من يعينني على هذا العذالة. 2 ثوب صدق: ضد ثوب سوء. البز: الثياب والسلاح. الأعلاق: كرائم المال. 3 معنفة: عنف. 4 انظر في ترجمة الشنفرى الأغاني "طبع الساسي" 21/ 87. وخزانة الأدب: 2/ 14. وما بعدها وشرح المفضليات لابن الأنباري 195 وما بعدها وذيل الأمالي ص 208 وما بعدها، والشعراء والصعاليك ص328. 5 خزانة الأدب: 2/ 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 إن الذي روضه على الصعلكة وقطع الطرق تأبط شرًّا؛ فكان يغير معه، حتى صار لا يُقام لسبيله1. وما زال يغير على الأزد، وينكل بها، حتى قتل، فيما يقص الرواة، تسعة وتسعين، انتقامًا لأبيه، وأخيرًا يرصدون له كمينًا؛ فيقع فيه، ويمثلون به تمثيلًا فظيعًا، يقطعون فيه جسده تقطيعًا، ويرمون به للسباع، ويقال: إن رجلًا عثر بجمجمته، فعقرته، فمات. وبذلك يبلغ قتلاه من الأزد مائة. وخيوط الأسطورة واضحة في مقتل الرجل المكمل للمائة، وتلعب هذه الخيوط في أخباره جميعًا كما تلعب في أخبار تأبط شرًّا رفيقه. وللشنفرى ديوان شعر صغير طبع في لجنة التأليف والترجمة والنشر بمجموعة الطرائف الأدبية، ومما اشتهر له لامية العرب، وهي مما نُحل عليه؛ فقد نص الرواة على أنها من صنع خلف الأحمر2، وقد أحكم صناعتها وساق فيها اسم موضع في جنوبي اليمن هو إحاظة ليدل على أن قائلها كان يتجول في هذه الأنحاء، وحتى يكون ذلك أدعى إلى تصديقها والثقة بها. وهي تصور تصويرًا حيًّا حياة الصعلوك الجاهلي وروحه البدوية الوحشية. وبجانب هذه القصيدة المنتحلة نجد له قصيدته التائية الطويلة التي رواها المفضل في مفضلياته، ثم مجموعة من المقطوعات. ويبدو في أشعاره على شاكلة تأبط شرًّا هزيلًا نحيلًا يلبس ثيابًا بالية ونعالًا ممزقة. ولو لم يصلنا إلا تائيته لكان ذلك كافيًا في تصور حياته ومغامراته، وقد سبق أن تمثلنا بأبيات منها في وصف زوجته أميمة نعتها فيها بأخلاقية مثالية ممتازة، ثم مضى يصف غارة أغارها على بني سلامان في جمع من رفاقه الصعاليك وعلى رأسهم تأبط شرًّا، ونراه في مستهل وصفه يحدثنا أنه كان يقودهم ويعرفنا بالطريق الذي سلكوه، وأنهم كانوا راجلين، يقتحمون الصعاب؛ غير هيابين ولا وجلين، يقول: وَباضِعَةٍ حُمرِ القِسِيَّ بَعَثتُها ... وَمَن يَغزُ يَغنَم مَرَّةً وَيُشَمَّتِ3 خَرَجنا مِنَ الوادي الَّذي بَينَ مِشعَلٍ ... وَبَينَ الجَبا هَيهاتَ أَنشَأتُ سُرَبتي4   1 شرح المفضليات: ص196 وما بعدها. 2 الأمالي للقالي: "الطبعة الأولى" 1/ 157. 3 باضعة: قاطعة. ويريد بها رفاقه الصعاليك بعثتها: غزوت بها. حمر القسي، يقال: إنها تحمر لقدمها وطول تعرضها للشمس. يشمت: يخيب ويفشل. 4 مشعل والجبا: موضعان. السرية: الجماعة. أنشأت: أظهرت من مكان بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أُمَشّي عَلى الأَرضِ الَّتي لَن تَضُرَّني ... لِأَنكِيَ قَومًا أَو أُصادِفَ حُمَّتي1 أُمَشّي عَلى أَينِ الغَزاةِ وَبُعدَها ... يُقَرَّبُني مِنها رَواحي وَغُدوَتي2 وهو يعترف في البيت الأول بأنهم قد يرجعون خائبين أو مهزومين من غارتهم أو غزوتهم، ولكن ذلك لا يردهم عن الغزو؛ بل يدفعهم دفعًا إليه، فهم لا يتهيبون الموت ولا وعثاء الطريق. ويصور لنا كيف كان تأبط شرًّا يحمل زادهم ويقتر عليهم في الطعام خيفة أن تطول الغزاة بهم فيموتوا جوعًا، ويقص علينا ذلك في مداعبة طريفة له، إذ يدعوه أمهم، وهو وأصحابه عيالها، يقول: وَأُمُّ عِيالٍ قَد شَهِدتُ تَقوتُهُم ... إِذا أَطعَمَتهُم أَوتَحَت وَأَقَلَّتِ3 تَخافُ عَلَينا العَيلَ إِن هِيَ أَكثَرَت ... وَنَحنُ جِياعٌ أَيَّ آلٍ تَأَلَّتِ4 مُصَعِلكَةٌ لا يَقصُرُ السِترُ دونَها ... وَلا تُرتَجى لِلبَيتِ إِن لَم تُبَيَّتِ5 لَها وَفضَةٌ مِنها ثَلاثونَ سَيحَفًا ... إِذا آنَسَت أولى العَدِيَّ اقشَعَرَّتِ6 وَتَأتي العَدِيَّ بارِزًا نِصفُ ساقِها ... تَجولُ كَعَيرِ العانَةِ المُتَلَفَّتِ7 إِذا فَزِعوا طارَت بِأَبيَضَ صارِمٍ ... َرامَت بِما في جَفرِها ثُمَّ سَلَّتِ8 حُسامٌ كَلَونِ المِلح صافٍ حَديدُهُ ... جُرازٍ كَأَقطاع الغَدير المُنَعَّتِ9 تَراها كَأَذنابِ الحَسيلِ صَوادِرًا ... وَقَد نَهِلَت مِنَ الدِماءِ وَعَلَّتِ10   1 لن تضرني: لن يخيفني بها شيء. أنكي العدو: أصيب منه. الحمة: المنية. 2 أمشي: إشارة إلى غزوه على رجليه. أَيْن: تعب. 3 أم عيال هنا: تأبط شرًّا. تقوتهم: تطعمهم. أوتحت: أقلت وقترت. 4 العيل: الفقر وفقد الطعام. أي آل تألت: أي سياسة ساست من آله بمعنى ساسه. 5 مصعلكة بكسر اللام: صاحبة صعاليك، لا يقصر الستر دونها: لا تغطي أمرها. 6 وفضة: جعبة. صيحف: سهم عريض النصل. العدى: العداءون أو الرجالة اقشعرت: تهيأت للقتال. 7 بارزًا نصف ساقها: كناية عن الجد في الأمر. العير: حمار الوحش. العانة: جماعة أتنه الوحشية. 8 فزعوا: دهمهم محاربون وتهيأوا لقتالهم. أبيض صارم: سيف قاطع. الجفر: الجعبة رامت بما فيه أي بسهامه. صلت السيف: شهرته. 9 جراز: قاطع. أقطاع الغدير: قطع الماء فيه. شبه السيف بها في اللمعان والبريق. 10 الحسيل: جمع حسيلة. وهي أولاد البقر. والنهل: الشرب الأول، والعلل الشرب المكرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وواضح أنه ينتقل من تصور شح هذه الأم بالطعام إلى بيان أنها ليست أمًّا حقيقية؛ فهي صعاليك، لا تتخذ ولا تبيت في الخيام، ولها جعبة سهام، تناضل بها عن أصحابها حين يفجؤهم بعض الأعداء. وما تزال ترعاهم رعاية حمار الوحش لأتنه؛ حتى إذا دهمهم غزاة أو مغيرون بادرت إلى سهامها، ثم نازلتهم هي ومن معها بسيوفهم القاطعة اللامعة التي تنهل من دمائهم وتعل، فترى وكأنها أذناب الحسيل، وهي أولاد البقر المستأنسة. ووقف لايل في ترجمته للمفضليات عند هذا التشبيه واتخذ منه دليلًا على أصل الشنفرى وأنه يمني حقًّا، لأن البقر المستأنس كما يقول: لم يعرف عند العرب قديمًا إلا في بلاد اليمن1. ونمضي مع الشنفرى في القصيدة فإذا هو يحدثنا عن أهداف غارته وأنه كان يقصد بها بني سلامان، حتى يأخذ بثأره لأبيه ويشفي حقده وغليله، يقول: جَزَينا سَلامانَ بنَ مُفرِجَ قَرضَها ... بِما قَدَّمَت أَيديهِمُ وَأَزَلَّتِ2 وَهُنّئَ بي قَومٌ وَما إِن هَنَأتُهُم ... وَأَصبَحتُ في قَومٍ وَلَيسوا بِمُنيَتي3 شَفَينا بِعَبدِ اللَهِ بَعضَ غَليلِنا ... وَعَوفٍ لَدى المَعدى أَوانَ اِستَهَلَّتِ4 وَإنّي لَحُلوٌ إِن أُرِيَدت حَلاوَتي ... وَمُرٌّ إِذا نَفسُ العَزوفِ استَمَرَّتِ5 وهو يصرح بأنه جزى بني سلامان بما قدمت أيديهم، ويأسى أن يكونوا قومه ولا ينتفعوا به وببأسه، وأن يقعد لهم ويقعدوا له، لما بينه وبينهم من ثأر قديم، ويحدثنا أنه شفى بعض غليله بقتله لرجلين منهم، هما عبد الله وعوف، ويقول: إنه حلو لأصدقائه مر على أعدائه كأنه الحنظل. وهكذا كانت حياته غارات ومغامرات، حتى أصاب أعداؤه منه مقتلًا فقتلوه. وثالث صعاليك الجاهلية المشهورين عروة بن الورد العبسي6، وكان أبوه   1 راجع ترجمة المفضليات للايل: 2/ 68. 2 أزلت: قدمت. 3 معنى الشطر الأول: أن الأزد يهنئون به وبشجاعته؛ لأنه منهم، وفي الوقت نفسه هو لا يهنؤهم لأنهم لا ينتفعون به. وهو يشير في وضوح إلى أنه ينزل في بني فهم وليس منهم. 4 الغليل في أصله: حرارة العطش، هو هنا العطش إلى القتل. المعدي: موضع العدو، والمراد ساحة المعركة. أوان استهلت: في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات للحرب. 5 العزوف: المنصرف عن الشيء. استمرت: من المرارة. 6 راجع في ترجمة عروة الأغاني "طبعة دار الكتب": 3/ 73، والشعر والشعراء: 2/ 675. والخزانة: 4/ 194، والشعراء الصعاليك: ص320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 من شجعان قبيلته وأشرافهم، ومن ثم كان له دور بارز في حرب داحس والغبراء1 أما أمه فكانت من نهد من قضاعة، وهي عشيرة وضيعة لم تعرف بشرف ولا خطر، فآذى ذلك نفسه؛ إذ أحس في أعماقه من قبلها بعار لا يمحى، يقول2: وما بِيَ مِن عارٍ إِخالُ عَلِمتُهُ ... سِوى أَنَّ أَخوالي إِذا نُسِبوا نَهدُ فهي عاره، الذي حلت البلية عليه منه، والذي دفعه دفعًا إلى الثورة على الأغنياء، وهي ثورة كانت مهذبة، إذا لم يتحول إلى سافك دماء ولا إلى متشرد يرود مجاهل الصحراء؛ فقبيلته لم تخلعه، بل ظل ينزل فيها مرموق الجانب لسيرة كانت تروع معاصريه ومن جاءوا بعدهم، إذ اتخذ من صعلتكه بابًا من أبواب المروءة والتعاون الاجتماعي بينه وبين فقراء قبيلته وضعفائها، ومن أجل ذلك لقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم وضاقت بهم الدنيا. وفي الأغاني "كان عروة بن الورد؛ إذا أصابت الناس سنة -أزمة جدب- شديدة وتركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة، ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف –الحظائر- ويكسبهم. ومن قوي منهم –إما مريض يبرأ من مرضه أو ضعيف تثوب قوته- خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبًا. حتى إذا أخصب الناس وألْبَنُوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها؛ فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى؛ فلذلك سمي عروة الصعاليك3". وفي خبر آخر أن عبسًا كانت إذا أجدبت أتى ناس منها ممن أصابهم جوع شديد وبؤس فجلسوا أمام بيت عروة؛ حتى إذا أبصَروُا به صرخوا، وقالوا: أيا أبا الصعاليك أغثنا؛ فكان يرق لهم ويخرج بهم فيصيب معاشهم4. وعروة بذلك كله يعبر عن نفس كبيرة، فهو لا يغزو للغزو والنهب والسلب كالشنفرى وتأبط شرًّا، وإنما يغزو ليعين الهُلَّاك والفقراء والمرضى والمستضعفين من قبيلته، والطريف أنه لم يغير على كريم يبذل ماله للناس بل كان يتخير.   1 أغاني: 3/ 88. 2 ديوانه: ص157. 3 أغاني: 3/ 78 وما بعدها والشعر والشعراء 2/ 657. 4 أغاني: 3/ 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 لغارته من عَرفوا بالشح والبخل ومن لا يمدون يد العون للمحتاج في قبائلهم، فلا يرعون ضعفًا ولا قرابة ولا حقًّا من حقوق أقوامهم1؛ وبذلك كله تصبح الصعلكة عنده ضربًا من ضروب النبل الخلقي، وكأنها أصبحت صنوًا للفروسية؛ بل لعلها تتقدمها في هذه الناحية من التضامن الاجتماعي بين الصعلوك والمعوزين في قبيلته. وبلغ عروة من ذلك أنه كان لا يؤثر نفسه بشيء على من يرعاهم من صعاليكه؛ فلهم مثل حظه غزوا معه أو قعد بهم المرض والضعف. وهو يضرب بذلك مثلًا رفيعًا في الرحمة والشفقة والبذل والإيثار. ولعروة ديوان برواية ابن السكيت، طبع مرارًا، في جونتجن والجزائر والقاهرة وبيروت، وتردد أشعاره فيه هذه المعاني الكريمة التي قدمناها، وهي معان جعلت معاصريه ومن جاءوا بعدهم يعجبون به إعجابًا شديدًا، فقد كانت قبيلته تأتم به في خلاله وخصاله، وكان معاوية يقول: "لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم2" أما عبد الملك بن مروان فكان يقول: "من زعم أن حاتمًا أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد3" وكان يقول أيضًا: "ما يسرُّني أن أحدًا من العرب ولدني ممن لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله: إِنّي اِمرُؤٌ عافي إِنائِيَ شِركَةٌ ... وَأَنتَ اِمرُؤٌ عافي إِنائكَ واحِدُ4 أَتَهزَأُ مِنّي أَن سَمِنتَ وَأَن تَرى ... بِوَجهي شُحوبَ الحَقِّ وَالحَقُّ جاهِدُ أُفَرِّقُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرَةٍ ... وَأَحسو قَراحَ الماءِ وَالماءُ بارِدُ5 وعروة يعبر عن معنى إنساني رفيع؛ إذ تعرض له بعض أصحابه يعيبه بأنه مُضنى هزيل شاحب اللون، فقال له: إنني يشركني كثيرون من العفاة والسائلين ذوي الحاجة في إنائي أو طعامي، أما أنت فلا يشركك أحد؛ ولذلك سمنت أما أنا فأصبحت ضامرًا نحيلًا، وما شحوب وجهي إلا أثر من آثار نهوضي بحقوق هؤلاء المحتاجين والمعوزين؛ فلست أنا الخليق بالهزؤ والسخرية، إنما الخليق بذلك السمين   1 أغاني: 3/ 81. 2 أغاني: 3/ 73. 3 أغاني: 3/ 74. 4 العافي: طالب المعروف. ويريد بقوله: "عافي إنائك واحد": أنه يأكل وحده. 5 حساء الماء: شربه شيئًا بعد شيء. القراح: الخالص الذي لا يخالطه لبن ولا غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 البطين. وما لبث أن قال: إنه يقسم طعامه بينه وبين الفقراء أو بعبارة أدق يقسم جسمه في جسومهم؛ بل كثيرًا ما يؤثرهم على نفسه بكل طعامه مع جوعه ومسغبته مكتفيًا بشرب الماء البارد، على حين يعصف الشتاء بزمهريره. والذي لا ريب فيه أنه طمح إلى مثل نبيل في البر والإيثار ودفع غوائل البؤس والشقاء عن البؤساء والضعفاء. ونحن نقف عند قصيدة أنشدها له الأصمعي في أصمعياته1، وهي بذلك من أوثق شعره وأصدقه. وهو يستهلها بتوجيه الخطاب إلى امرأته سلمى التي تلومه على كثرة مخاطراته ومغامراته في الغزوات والغازات، وقد رد عليها بأنه يبغي حسن الأحدوثة وبقاءها، وأنه إنما يرمي بنفسه في المهالك من أجلها، حتى يغنيها، وحتى لا تشعر بالحاجة من بعده أو بالذل والهوان، وهي تماريه شفقة عليه: تَقولُ لَكَ الوَيلاتُ هَل أَنتَ تارِكٌ ... ضُبُوًّا بِرَجلٍ تارَةً وَبِمِنسَرِ2 فهي تقول له: إنك لن تنتهي عن غاراتك بالصعاليك من الراجلين تارة ومن الفرسان تارة ثانية، وحري بك أن تكف عن ذلك؛ حتى لا تلقى حتفك ويرد عليها: أَبى الخَفضَ مَن يَغشاكِ مِن ذي قَرابَةٍ ... وَمِن كُلِّ سَوداءِ المَعاصِمِ تَعتَري3 وَمُستَهنِئٍ زَيدٌ أَبوهُ فَلا أَرى ... لَهُ مَدفَعًا فَاقني حَياءَكِ وَاِصبِري4 فهو لا يستطيع القعود عن الغزو كما تريد زوجه؛ لما عليه من واجبات وحقوق لأقربائه المحتاجين من قبيلته، ونسائها المعوزات، والعُفاة، طلاب العطاء من الضعفاء؛ فهو إنما يغزو من أجل الوفاء بحقوق هؤلاء جميعًا. ويعرض عليها صورتين للصعلوك، صورة رديئة، وصورة جيدة، أما الصورة الأولى ففيها يتراءى الصعلوك خاملًا، حسبه أن ينال أكلة من فتات مائدة، لا يهمه أهله ولا عياله   1 الأصمعيات: "طبع دار المعارف" ص35. 2 ضبوء: غزو. رجل: جمع راجل ضد راكب. المنسر: كمجلس ومنبر: الجماعة من الخيل بين الثلاثين والأربعين. 3 الخفض: الدعة ولين العيش: ويريد بسوداء المعاصم التي أجهدها الجوع والهزال. تعتري: تغشى. 4 مستهنئ: طالب للهنء وهو العطاء، وزيد من أجداد عروة يريد أنه قريبه. اقني حياءك: صونيه واحفظيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ولا قوتهم، يقول: لَحى اللَهُ صُعلوكًا إِذا جَنَّ لَيلُهُ ... مضى في المُشاشِ آلِفًا كُلَّ مَجزَرِ1 يَعُدُّ الغِنى مِن نَفسِهِ كُلَّ لَيلَةٍ ... أَصابَ قِراها مِن صَديقٍ مُيَسَّرِ2 يَنامُ عِشاءً ثُمَّ يُصبِحُ قاعِدًا ... يَحُتُّ الحَصى عَن جَنبِهِ المُتَعَفِّرِ3 يُعينُ نِساءَ الحَيِّ ما يَستَعِنُّهُ ... وَيُمسي طَليحًا كَالبَعيرِ المُحَسَّرِ4 وواضح أنه ينعته بأنه ضعيف الهمة؛ فحسبه لقمة تشبعه، مما يتساقط من فضلات الموسرين، وإنه لينام ملء جفونه فليس هناك ما يشغله، وحتى هو في النهار ليس هناك ما يعمله سوى خدمة النساء؛ فهو ذليل مهين يعيش عالة على مجتمعه. ومثل هذا الصعلوك جدير بكل ملامة، لأنه يَحْيَا حياة وضيعة، أما الصعلوك الآخر الشريف فهو جدير بكل ثناء وتشجيع من الزوجة وغير الزوجة، يقول في وصفه: وَلله صُعلوكٌ صَحيفةُ وَجهِهِ ... كَضَوءِ شِهابِ القابِسِ المُتَنَوِّرِ5 مُطِلًّا عَلى أَعدائِهِ يَزجُرونَهُ ... بِساحَتِهِم زَجرَ المَنيحِ المُشَهَّرِ6 وإن بَعُدوا لا يَأمَنونَ اِقتِرابَهُ ... تَشَوُّفَ أَهلَ الغائِبِ المُتَنَظَّرِ7 فَذلِكَ إِن يَلقَ المَنِيَّةَ يَلقَها ... حَميدًا وَإِن يَستَغنِ يَومًا فَأَجدِرِ فهذا هو الصعلوك الذي يعجب به عروة، صعلوك وجهه مشرق بأعماله المجيدة، لا يزال يطل على أعدائه ويشرف عليهم؛ فيظفر منهم بكل ما يريد، رغم صياحهم به وزجرهم له. وهم مهما بعدوا لا يأمنون غزوه؛ بل إنهم لينتظرونه انتظار أهل   1 لحى: قبّح ولعن. المشاش: رءوس العظام اللينة. المجزر: موضع الجزر. 2 قراها: طعامها. ميسر: غني كثرت إبله. 3 يحث: يحرك. 4 الطليح: المعيي ومثله المحسر. 5 صحيفة الوجه: بشرته. الشهاب شعلة ساطعة من النار. القابس: الذي يقبس النار أو يأخذها. المتنور: المضيء. 6 مطلًا: مشرفًا. يزجرونه: يصيحون به كما يزجر القدح إذا ضرب. المنيح: قدح سريع الخروج والفوز. المشهر: المشهور. 7 تشوف: تطلع. المتنظر: المنتظر قدومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الغائب له، علمًا منهم بأنه لا بد راجع إليهم، ومصيب منهم. ويقول: إن مثل هذا الصعلوك المغامر الجريء، إن يمت تظل ذكراه خالدة لمحامده ومناقبه. ويمضي فيحدثنا عن غزواته وغاياتها؛ يقول: أَيَهلِكُ مُعتَمٌّ وَزَيدٌ وَلَم أَقُم ... عَلى نُدَبٍ يَومًا وَلي نَفسُ مُخطِرِ1 سَتُفزِعُ بَعدَ اليَأسِ مَن لا يَخافُنا ... كَواسِعُ في أُخرى السَوامَ المُنَفَّرِ2 نُطاعِنُ عَنها أَوَّلَ القَومِ بِالقَنا ... وَبيضٍ خِفافٍ ذاتِ لَونٍ مُشَهَّرِ3 وَيَومًا عَلى غَاراتِ نَجدٍ وأَهلِه ... وَيَومًا بِأَرضٍ ذاتِ شَثٍّ وَعَرعَرِ4 يُريحُ عَلَيَّ اللَيلُ أَضيافَ ماجِدٍ ... كَريمٍ وَمالي سارِحًا مالُ مُقتَرِ5 وهو في أول هذه الأبيات يستنكر أن تهلك عشيرتي معتم وزيد، وهو قاعد في الحي، لا يخاطر بنفسه من أجلها فذلك عار ما بعده عار. لقد خلق لرعاية الضعفاء والهلَّاك من قبيلته، وهو لذلك لا بد مقتحم مع رفاقه من الصعاليك الفرسان حِمَى بعض القبائل ليسوقوا منها ما يشاءون من الإبل السائمة، وهم يهجمون تارة في الحجاز وتارة في نجد. وكل ذلك حتى يغنم ما يقدمه لضيفانه، وكم يغنم! إلا أنه لا يُبْقِي على شيء في يده، فماله مال مقتر أو فقير مقل. والحق أن عروة كان صعلوكًا شريفًا، وأنه استطاع أن يرفع الصعلكة وأن يجعلها ضربًا من ضروب السيادة والمروءة؛ إذ كان يستشعر في قوة فكرة التضامن الاجتماعي وما يطوى فيها من إيثار وبر بالفقراء، فهو لا يسعى لنفسه فحسب، وإنما يسعى قبل كل شيء للمعوزين من عشيرته حتى يدفع عنهم كل ما يجدون من بؤس وشقاء.   1 معتم وزيد: بطنان من عبس. ندب: خطر. 2 كواسع: خيل تطرد إبلًا وتكسعها. السوام: الإبل السائمة أخرى: آخر. المنفر: المذعور. 3 بيض: سيوف. وفي البيت إقواء. ورواية الديوان: ذات لون مشهر ولو صحت لم يكن في البيت إقواء. 4 الشث والعرعر: من أشجار البادية. 5 يريح: يرد. ويقصد بالماجد الكريم نفسه، كما يقصد بماله إبله. سارحًا: سائمًا في المرعى. مقتر: فقير مقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 3- شعراء آخرون : مرَّ بنا في غير هذا الموضع أن جماعات من اليهود نزلت في أواخر القرن الأول للميلاد وأوائل الثاني بالمدينة والواحات المنثورة في شماليها بالحجاز مثل فدك وخيبر ووادي القرى وتيماء. واضطرتهم مواطنهم الجديدة إلى تعلم العربية، وإن ظلوا على دينهم. ومما يلفت النظر أنهم لم يتركوا أي أثر مكتوب. وقد عني هؤلاء اليهود بالزراعة والصناعات اليدوية. وأخبارهم في الجاهلية توحي بأن العرب لم يأمنوهم؛ إذ كانوا يعدونهم من أعدائهم، وكانوا يزدرونهم ازدراءً شديدًا. ومن يتابع موقفهم من الإسلام وكيف أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم اضطر – لكيدهم له ونقضهم لما بينهم وبينه من عهود موثقة مرارًا وتكرارًا- إلى إجلائهم عن المدينة، وأتم عمر من بعده هذا الإجلاء عن الجزيرة، من يتابع ذلك يعرف أن العرب كانوا في الجاهلية يجفونهم وينفرون منهم ومن دينهم؛ فلم يؤثروا فيهم شيئًا، وعلى العكس نجد اليهود يتعلمون العربية، وينفذ بعضهم إلى النظم بها. على أنه ينبغي أن نحتاط إزاء ما يحدثنا الرواة عن شعرائهم وأشعارهم، فلا نثق بكل ما رووه في هذا الصدد، فقد يكون بعض أبناءهم ممن أسلموا هم الذين زيفوا هذه الأشعار ووضعوها على ألسنتهم. ويظهر أن هذا الوضع قديم فنحن نجد ابن سلام يفتح لشعرائهم فصلًا1 في كتابه "طبقات فحول الشعراء" يسوق فيه ذكر ثمانية من شعرائهم وينشد لكل شاعر بعض ما اشتهر له، وهم على التوالي: السموأل بن الغريض بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعية بن الغريض أخو السموأل، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال ودرهم بن يزيد. ويضيف أبو الفرج في الأغاني2 وابن هشام في السيرة النبوية أسماء أخرى مثل أوس بن دنيّ وسماك والغريض بن السموأل.   1 ابن سلام: ص235. 2 الاغاني "طبعة الساسي" 19/ 94 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وأشهرهم جميعًا السموأل1 صاحب حصن الأبلق بتيماء، وكان معاصرًا لامرئ القيس، ومرت بنا أسطورته معه وما قالوا من أن امرأ القيس استودعه سلاحه؛ فسار إليه الحارث بن أبي شمر الغساني أو الحارث بن ظالم المري على اختلاف الروايات؛ فطلب منه سلاح امرئ القيس، فأغلق حصنه من دونه، وتصادف أن كان له ابن خارج الحصن، فأخذه الحارث، وهدده إن لم يعطه السلاح قتل ابنه، فقال له: اقتله، فلن أعطيه لك. وبذلك وَفَّى على غير عادة قومه! وسبق أن قلنا: إن هذا من باب الأساطير، كما سبق أن اتهمنا قصيدة الأعشى التي عرضت لهذه القصة في إسهاب. ومما نسب إلى السمؤال خطأ القصيدة المشهورة: إذا المرءُ لم يَدْنَس من اللُّؤم عِرْضُه ... فكلُّ رداءٍ يَرْتَديه جميلُ وهي لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي2، وهو شاعر إسلامي. وقد نشر لويس شيخو ديوانًا له برواية نفطويه في مجلة المشرق ببيروت سنة 1909 وهي رواية ضعيفة؛ إذ تشتمل على مقطوعات كثيرة يتضح فيها أنها منحولة. وروى الأصمعي تائية3 له، لا نكاد نقرأ فيها حتى نحس أثر الصنعة والانتحال، وهي تستهل بالحديث عن نشأة الإنسان وحياته وبعثه بعد موته على هذا النمط: نُطفَةٌ ما مُنيتُ يَومَ مُنيتُ ... أُمِرَت أَمرَها وَفيها بُريتُ4 كَنَّها اللَهُ في مَكانٍ خَفِيٍّ ... وَخَفيٍ مَكانُها لَو خَفيتُ أنا مَيِّتٌ إذ ذاك ثُمْتَ حَيٌّ ... ثم بعدَ الحياة للبعْثِ مَيْتُ وصلة هذه الأبيات بما جاء في القرآن الكريم عن نشأة الإنسان وأنه من نُطْفة يُمْنَي وأنه يحي ثم يموت ثم يُبْعَثُ فهو ينتقل من موت إلى حياة، وما حياته الثانية في الآخرة بمستغربة، إنها تلي موته وحياته الأولى التي تحول إليها من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، ويقول جل وعز: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ   1 انظر ترجمته في الأغاني: 19/ 98. 2 شرح المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام "طبع لجنة التأليف" 1/ 110. 3 الأصمعيات "طبع دار المعارف": ص84 وراجع ابن سلام ص236. 4 ما منيت: ما زائدة. ومنيت: قدرت وخلقت. وبيت: هيئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . وتردد هذا المعنى في الذكر الحكيم هو الذي يجعلنا نشك في هذه القصيدة، ونعتقد اعتقادًا أنها نظمت في العصور الإسلامية على هدي التنزيل العزيز، ويدل على ذلك دلالة قاطعة أننا نحس إزاء بعض أبياتها أنها نظم مباشر لبعض آي القرآن الكريم مثل: ليت شعري وأشعرنَّ إذا ما ... قِيل إِقرأْ عُنْوانها وقريتُ1 وأصل هذا البيت قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وعلى هذه الشاكلة: مَيْتَ دَهْرٍ قد كنتُ ثم حييتُ ... وحياتي رَهْنٌ بأن سأموتُ فإن البيت ترديد لمثل قوله سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . والحق أن الشعر المضاف إلى يهود الجاهلية من أمثال السموأل ينبغي أن نحذر منه، وخاصة حين يعلي من أخلاقهم ويسمو بها، أو حين يندمج في بعض ما يردده القرآن الكريم من أفكار ومعاني لم تكن معروفة قبله، ولعله من أجل ذلك لم يرو المفضل الضبي في مفضلياته شعرًا ليهودي، وكأنه لم يثبت عنده شعر لهم. وإذا كان العرب الشماليون في الجاهلية استشعروا البغضاء لليهود فلم يتهود منهم أحد؛ فإنهم لم يحسوا نفس الإحساس إزاء النصرانية والنصارى، وإن ظلوا في الجملة يحتفظون بدينهم الوثني ويرون فيه رمز استقلالهم وسيادتهم، وأنه ينبغي أن لا تتخطفهم الديانات من حولهم. وقد كانت المسيحية أمامهم في الشام دينًا للدولة، ودخل فيها الغساسنة كما قدمنا في غير هذا الموضع، وكانت منتشرة بين الآراميين فيما بين النهرين بالعراق، واعتنقها اللخميون في أواخر القرن   1 رواية هذا الشطر في ابن سلام: "قربوها منشورة فقريت" وقريت: لغة في قرأت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 السادس للميلاد، وكانت منتشرة قبل اعتناقهم لها في جمهور عربي من سكان الحيرة سمي بالعباديين، وتشير الكلمة التي سموا بها، إلى أنهم عباد الله، وكانوا أخلاطًا من قبائل شتى. وقد انتشرت في الجنوب بنجران فكانت مركزًا مهمًّا من مراكزها، كما انتشرت في القبائل الشمالية والشرقية مثل قضاعة وكلب وطيء وبكر وتغلب وتنوخ وتميم، ويزعم اليعقوبي أن نفرًا من مكة تنصروا قبيل الإسلام1. وكل ذلك معناه أن المسيحية كانت منبثة في الجزيرة وأن كثيرين من العرب الجاهليين دخلوا فيها، ويتردد، ويتردد عند شعرائهم الوثنيين ذكر الراهب المسيحي، وكأنه كان شخصية شعبية معروفة للجمع. وأشهر شعراء المسيحية في الجاهلية عدي بن زيد2 شاعر الحيرة المشهور، وهو من العباديين ومن بيت شريف من بيوتهم النصرانية، خدم أبوه في دواوين الفرس وفي دواوين المناذرة بالحيرة، ولما أيفع ابنه عدي عُني بتربيته وتأديبه على الطريقة الفارسية؛ فكان يُحْسن لغة الفرس كما كان يحسن لغة العرب، وتعلَّم الرمي بالنشَّاب ولعب العجم على الخيل بالصَّوالجة. ولم يلبث أن التحق بديوان كسرى أبرويز بن هرمز "590 - 628م" وعُهد إليه فيه بالشئون العربية، ويقال: إن كسرى أرسله إلى ملك الروم في بيزنطة بهدية؛ فلما أتاه بها أكرمه، وفي أثناء عودته مر بدمشق وهناك انطلق لسانه بالشعر. وعاد إلى الحيرة فوجد أباه قد توفي. وظل مدة متنقلًا بين الحيرة والمدائن، وما نلبث أن نرى الأمور تفسد بينه وبين النعمان أبي قابوس، مع أنهم يقولون: إنه لعب دورًا في توليته على الحيرة بعد أبيه دون بقية إخوته. ويقال: إن الذي أفسد ما بينهما بعض بني مَرِينا؛ إذ زعموا للنعمان أنه يقول: إنه عامله وإنه هو الذي ولاه ما ولاه؛ فاضطغن عليه النعمان، وانتهز فرصة مجيئة من لدن كسرى ذات مرة، وأمر بحبسه، ولم يُجْده عنده استعطافه ولا ما نظمه فيه من أشعار. وعلم كسرى فكتب إلى النعمان يأمره   1 تاريخ اليعقوبي "طبعة أوروبا" 1/ 298 وراجع المحبر لابن حبيب ص71. وابن هشام 1/ 239. 2 انظر في عدي بن زيد الأغاني "طبعة دار الكتب": 2/ 97 وما بعدها، والشعر والشعراء لابن قتيبة: 1/ 176 وخزانة الأدب: 1/ 184 وما بعدها والموشح للمرزباني ص72 وكتاب لويس شيخو: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 بإطلاقه؛ غير أن الرسول وجد عديًّا قد مات في سجنه مختنقًا. وغضب كسرى حين علم بذلك على النعمان غضبًا شديدًا، وربما كان هذا الغضب أهم الأسباب في قضائه عليه كما مر بنا في غير هذا الموضع. وأهم الموضوعات التي يدور فيها شعر عَدِيّ الخمرُ، وذكر الموت والفناء، وهو في الموضوع الأول يعد أبًا لشعراء الخمر في الجاهلية من مثل الأعشى، ثم لمن ظهروا في العصور الإسلامية بعد ذلك من مثل الوليد بن يزيد وأبي نواس. وفي أخبار الوليد أنه كان من ندمائه القاسم بن الطويل العبادي، وكان أديبًا ظريفًا شاعرًا، وكان لا يصبر عنه. ونظن ظنًّا أنه هو الذي وصله بشعر عدي؛ إذ كان يرويه له ويغني فيه معبد وغيره من المغنيين بمثل هذا الصوت1: بَكَرَ العاذِلونَ في وَضَحِ الصُبـ ... ح يَقولونَ لي أَما تَستَفيقُ لَستُ أَدري وقد جفاني خليلي ... أَعَدُوٌّ يَلومُني أَم صَديقُ ثم قالوا ألا اصْبَحُونا فقامت ... قَينَةٌ في يَمينِها إِبريقُ2 قَدَّمَتهُ عَلى عُقارٍ كَعَينِ الد ... ديك صَفّى سُلافَها الراووقُ3 وواضح أن الأبيات من نفس الألحان والأنغام المعروفة للوليد ومن جاءوا بعده من شعراء الخمريات، وكأن القاسم العبادي هو الذي وجه الوليد ليحتذى في خمرياته على أسلوب عدي وليجري في طريقته. ويروي الرواة لعدي بجانب شعره في الخمر أشعارًا في الفناء وزوال الحياة، وهي تأخذ عنده أسلوبين: أسلوبًا يتحدث فيه عن الحياة والموت وأن الدنيا غير باقية، وأسلوبًا قصصيًّا يتخذ فيه من التاريخ وهلاك الملوك والأوائل وسيلة إلى العظة والعبرة. ومن الأسلوب الأول قوله على لسان المقابر4: من رآنا فليحدِّثْ نفسَه ... أنه موفٍ على قَرْنِ زوالِ5 وصروفُ الدَّهر لا يبْقَى لها ... ولما تأتى به صُمُّ الجبالِ   1 الأغاني: "طبعة دار الكتب" 7/ 65. 2 أصبحونا: اسقونا خمر الصباح. 3 الراووق: الدن. 4 الأغاني: 2/ 134. 5 قرن: طرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 رُبَّ رَكبٍ قَد أَناخوا حَولَنا ... يَشرَبونَ الخَمرَ بِالماءِ الزُلال1 عُمِّروا دَهرًا بِعَيشٍ حَسَنٍ ... آمني دَهرَهُمُ غَيرَ عِجال ثم أضْحَوْا عَصَف الدهرُ بهم ... وَكَذاكَ الدَهرُ حالًا بَعدَ حالِ وَكَذاكَ الدَهرُ يرمي بالفتى ... في طِلاب العيش حالًا بعد حالِ فالدنيا إلى زوال وكلّ من عليها فان؛ حتى صم الجبال، ولا يغرنك ما يغرق فيه بعض الناس من ترف ونعيم، فعما قليل يعصف بهم الدهر كما عصف بمن قبلهم. ومن الأسلوب الثاني قوله2: أَيُّها الشامِتُ المُعَيِّرُ بِالدَهـ ... ـر أَأَنتَ المُبَرَّأُ المَوفورُ أَم لَدَيكَ العَهدُ الوَثيقُ مِنَ الأيْـ ... ـيامِ بَل أَنتَ جاهِلٌ مَغرورُ مَن رَأَيتَ المَنونَ خَلَّدنَ أَم مَن ... ذا عَلَيهِ مِن أَن يُضامَ خَفيرُ أَينَ كِسرى كِسرى المُلوكِ أَنوشِر ... وانُ أَم قَبلَهُ سابورُ وَبَنو الأَصفَرِ الكِرامُ مُلوكُ الـ ... روم لَم يَبقَ مِنهُمُ مَذكورُ ويستمر في ذكر ملوك مختلفين شيدوا قصورًا شامخة، وانتهى أمرهم إلى الفناء، وطوتهم الحفر والقبور كأن لم يكونوا شيئًا مذكورًا، إلى أن يقول: ثم بعد الفلاح والملك والإمَّـ ... ـة وارتهمُ هناك القبورُ4 ثم صاروا كأنهم وَرَقٌ جَـ ... ـفّ فأَلْوَتْ به الصَّبَا والدَّبورُ5 ويكثر البحتري في حماسته من إنشاد مثل هذه الأبيات لعدي بن زيد التي يتحدث فيها عن الحياة والموت ومصير الملوك السابقين. ونحن لا نطمئن إلى كل هذه الأشعار؛ بل نقف منها موقفنا من نظيرها عند الأعشى، فإن القصاص والوعاظ على ما يظهر أضافوا إليه أشعارًا كثيرة. ولعل ذلك ما جعل اللغويين.   1 الزلال: الصافي العذب. 2 الأغاني: 2/ 138. 3 المنون: الموت، وأعاد عليه الضمير مجموعًا. 4 الإمة: النعمة. 5 ألوت: ذهبت. الصبا والدبور: ريحان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 يرفضون الاستشهاد بشعره، ولاحظ ابن سلام كثرة الوضع عليه فقال: "عدي بن زيد كان يسكن الحيرة ومراكز الريف فلان لسانه وسَهُل منطقه؛ فحمل عليه شيء كثير وتخليصه شديد1" وأكبر الظن أن هذا هو السبب في أن المفضل والأصمعي لم يثبتا له في مجموعتيهما شيئًا من شعره. وقد قلنا في غير هذا الموضع: إنه لا يفصح في شعره عن فكرة التثليث المسيحية، وينبغي أن لا تغلو في فهم مسيحية أمثال عدي في الجاهلية؛ فإنها لم تكن تتعمق نفوسهم، وإن كان من المؤكد أنها أثرت فيهم؛ بل لقد سقط منها تأثيرات إلى الشعراء الوثنيين فرأيناهم يذكرون أحيانًا الرهبان والنواقيس ومحاريب الكنائس أو قد يذكرون بعض الأنبياء مما جعل لويس شيخو يسلك أكثر شعراء الجاهلية في النصرانية، وهو مخطئ في ذلك خطأ بينًا. وربما كان أهم شاعر جاهلي وثني ظهر عنده واضحًا التأثر بأهل الكتاب أمية2 ابن أبي الصلت الثقفي، وهو من الطائف ويقال: إنه اتصل بالأحبار وتحنَّف ولبس المسوح وتنسك. وكان يزور مكة قبل البعثة، وله مدائح في سيد من سادتها المشهورين هو عبد الله بن جدعان، الذي يقول له في بعض مديحه3: أأذْكرُ حاجتي أم قد كفاني ... حَياؤك إن شيمتَك الحياءُ كريمٌ لا يغيِّره صباحٌ ... عن الخُلقِ الكريمِ ولا مساءُ وأرضُك كلُّ مكرمةٍ بَنَتْها ... بنو تَيْمٍ وأنتَ لهم سماءُ4 ويقول أيضًا5: عَطاؤُكَ زَينٌ لاِمرِئٍ قد حَبَوتَهُ ... بِبَذلٍ وَما كُلُ العَطاءِ يُزينُ وَلَيسَ بَشينٍ لاِمرِئٍ بَذَلَ وَجهَهُ ... إِليكَ كَما بَعضُ السُؤالِ يَشينُ ولما بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم إلى قومه أضله الله فعاداه، وزين له الشيطان سوء عمله وأغواه، فلم يسلم؛ بل أخذ في معاندة الرسول ومحادَّته بلسانه،   1 ابن سلام: ص117، وانظر الحيوان: 7/ 149 والشعر والشعراء 1/ 176. 2 انظر في أمية الأغاني "طبعة الساسي": 16/ 69 وطبعة دار الكتب: 8/ 327، وما بعدها وابن سلام: ص220 وما بعدها. وخزانة الأدب: 1/ 130 وحياة الحيوان للدميري: 2/ 154 والشعر والشعراء لابن قتيبة: 1/ 429. 3 ابن سلام: ص222 والأغاني: 8/ 328. 4 بنو تيم: عشيرة عبد الله بن جدعان. 5 ابن سلام: ص222 والأغاني: 8/ 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ولما هُزِمتْ قريش في موقعة بدر هزيمتها المشهورة؛ فقتل كثير من رجالها وسادتها حز ذلك في نفسه، فناح على قتلاها بقصيدة طويلة يقول فيها1: ماذا ببَدْرٍ فالعَقَنْـ ... ـقَلِ من مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ2 هلَّا بكيتَ على الكِرا ... م بني الكرام أُولي الممادِحْ وجمع له شولتهسSchulthess مجموعة من أبياته ترجمها إلى الألمانية ونشرها في ليبزج سنة1911 وفي سنة 1936 نشر له بشير يموت في بيروت طائفة من أشعاره باسم ديوان أمية. وتدور هذه الأشعار في موضوعين أساسيين، أما الموضوع الأول فيتحدث فيه عن خلق السموات والأرض ونشأة الكون مستدلًا بذلك على وجود الله، ومتحدثًا عن الموت والفناء والبعث والنشور والعذاب والثواب على شاكلة قوله3: إِلَهُ العالَمينَ وَكُلِّ أَرضٍ ... وَرَبُّ الراسِياتِ مِنَ الجِبالِ بَناها وَاِبتَني سَبعًا شِدادًا ... بِلا عَمَدٍ يُرَينَ وَلا رِجالِ4 وَسَوَّاها وَزَيَّنَها بِنورٍ ... مِنَ الشَمسِ المُضيئَةِ وَالهِلالِ وَمِن شُهُبٍ تَلألأُ في دُجاها ... مَراميها أَشَدُّ مِنَ النِصالِ5 وَشَقَّ الأَرضَ فَاِنبَجَسَت عيونًا ... وَأَنهارًا مِنَ العَذبِ الزُلالِ6 وكل معمر لا بد يومًا ... وذى دنيا يصير إلى زوال وَيَفنى بَعدَ جِدَّتِهِ وَيبلى ... سِوى الباقي المُقَدَّسِ ذي الجَلالِ وَسيقَ المُجرِمونَ وَهُم عُراةٌ ... إِلى ذاتِ المَقامِعِ وَالنَكالِ7 فَنادوا وَيلَنا وَيلًا طَويلًا ... وَعَجّوا في سَلاسِلِها الطِوالِ8   1 ابن سلام: ص221. 2 العقنقل: كتيب رمل ببدر. المرازبة: جمع مرزبان وهو رئيس القوم المقيم عليهم. الجحاجح: جمع جحجاح وهو السيد الكريم. 3 ديوان أمية: "طبعة شولتهس" ص30. 4 السبع الشداد: السموات السبع. 5 النصال: جمع نصل وهو حد السيف. 6 انبجست: انفجرت. 7 المقامع: محاجن من حديد يضرب بها الحيوان الشكس. 8 عجوا: صاحوا ورفعوا أصواتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فَلَيسوا مَيِّتينَ فَيستَريحوا ... وَكُلُّهُم بِحَرِّ النارِ صالِ وَحَلَّ المُتَّقونَ بِدارِ صِدقٍ ... وَعَيشٍ ناعِمٍ تَحتَ الظِلالِ وهذه المعاني تستمد من القرآن الكريم بصورة واضحة، وأسلوبها ضعيف واهن؛ ولذلك كنا ظنا أنها وما ويماثلها مما نحل على أمية. والموضوع الثاني الذي يدور فيه شعره ليس أقل من الموضوع الأول اتهامًا؛ بل لعل الاتهام فيه أوضح، إذ نراه يقص علينا سير الأنبياء قصصًا لا يكاد يفترق في شيء عما جاء في القرآن الكريم كقوله في رؤية إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل وما كان من افتدائه بذبح عظيم1: وَلِإِبراهيمَ الموَّفي بِالنَذ ... ر اِحتِسابًا وَحامِلَ الأَجزالِ2 بِكرَهُ لَم يَكُن ليَصبِرَ عَنهُ ... لَو رآهُ في مَعشَرٍ أقتالِ أبني إنّي نَذَرتُكَ لِلَّهِ شَحيطًا ... فَاِصبِر فِدىً لَكَ حالي3 فأَجابَ الغُلامُ أَن قالَ فوهُ ... كُلُّ شَيءٍ لِلَّهِ غَيرُ اِنتِحالِ فَاِقضِ ما قَد نَذَرتَ لِلَّهِ وَاَكفُف ... عَن دَمي أَن يَمَسُّهُ سِربالي4 بَينَما يَخلَعُ السَرابيلَ عَنهُ ... فَكَّهُ رَبُّهُ بِكَبشٍ جُلالِ5 قالَ خُذهُ وَأَرسِل ابنَكَ إِنّي ... لِلَّذي قَد فَعَلتُما غَيرُ قالِ وواضح أن هذا شعر ركيك ساقط الأسلوب نظمه بعض القصاص والوعاظ في عصور متأخرة عن الجاهلية. وقد ذهب هيار يزعم حين اطلع على هذا القسم من شعر أبيه أنه اكتشف فيه مصدرًا من مصادر القرآن الكريم6، ولو كان له علم بالعربية وأساليب الجاهليين لعرف أنه وقع على أشعار منتحلة بين الانتحال، ولما تورط في هذا الخطأ البين، وقد ورد عليه غير واحد من المستشرقين7. ويظهر   1 ديوان أمية ص33. 2 الأجزال: العظائم. 3 شحيطًا: ذبيحًا. 4 سربالي: ثوبي. 5 جلال: عظيم. 6 انظر الجزء العاشر من المجلة الآسيوية قسم4 "1904" ص125. 7 انظر تاريخ الآداب العربية لبروكلمان: 1/ 113، ودائرة المعارف الإسلامية في "أمية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أن الانتحال على أمية قديم؛ ففي ابن سلام أن الحسن بن علي بن أبي طالب استنشد النابغة الجعدي بعض شعره، فأنشده قصيدته: الحمدُ لله لا شريك لَهُ ... من لم يَقُلْها فنفسَه ظلَما فقال له: "يا أبا ليلى ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت، قال: يابن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها1" وكأن اختلاطًا حدث بين شعر النابغة الجعدي وأمية. ومما نحلوا أمية من قديم أيضًا أشعار مختلفة في قصص الحيوان والطير وبعض الزواحف كالحيات، ويشركه عدي في بعض هذه الجوانب، وكأن القصاص والوعاظ أجروا على لسانهما كثيرًا من الشعر الذي أرادوا به إلى العظة والاعتبار؛ وإنما نقول إنهم نحلوها ذلك من قديم، لأننا نجد الجاحظ ينشد لهما أشعارًا كثيرة في هذا الاتجاه2. وواضح مما قدمناه أن ما رُوي من أشعار على ألسنة اليهود ومن تنصَّر من العرب في الجاهلية، وكذلك من تحنَّف كأمية دخله وضع كثير؛ ولذلك ينبغي أن نحترس منه وأن لا نتسع في الحكم عن طريقه على ديانات القوم ومعتقداتهم؛ إذ يجري فيه الانتحال، وقد دخله كثير من الغثاء والإسفاف في اللفظ والتعبير.   1 ابن سلام ص106 وما بعدها. 2 انظر مثلًا الحيوان: 1/ 320 وما بعدها، 3/ 511، 4/ 196 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الفصل الثاني عشر: النثر الجاهلي 1- صور النثر الجاهلي : حين نتحدث عن النثر الجاهلي ننحّي النثر العاديَّ الذي يتخاطب به الناس في شئون حياتهم اليومية؛ فإن هذا الضرب من النثر لا يعد شيء منه أدبًا إلا ما قد يجري فيه من أمثال؛ إنما الذي يعد أدبًا حقًّا هو النثر الذي يقصد به صاحبه إلى التاثير في نفوس السامعين والذي يحتفل فيه من أجل ذلك بالصياغة وجمال الأداء، وهو أنواع، منه ما يكون قصصًا وما يكون خطابة وما يكون رسائل أدبية محبرة، ويسمي بعض الباحثين النوع الأخير باسم النثر الفني. وليس بين أيدينا وثائق جاهلية صحيحة تدل على أن الجاهلين عرفوا الرسائل الأدبية وتداولوها، وليس معنى ذلك أنهم لم يعرفوا الكتابة؛ فقد عرفوها، غير أن صعوبة وسائلها جعلتهم لا يستخدمونها في الأغراض الأدبية الشعرية والنثرية، ومن ثم استخدموها فقط في الأغراض السياسية والتجارية1. ولا ينقض ذلك ما جاء في السيرة النبوية من أن سويد بن الصامت قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا؛ فتصدى له رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "وما الذي معك؟ " قال: مجلة لقمان، فقال له رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "اعرضها عليّ"، فعرضها عليه، فقال له: "إن هذا لكلام حسن والذي معي أفضل من هذا: قرآن أنزله الله عليّ، هو هدى ونور؛ فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يَبْعُد منه، وقال: إن هذا القول حسن.." 2   1 انظر الفن ومذاهبه في النثر العربي "الطبعة الثالثة بدار المعارف": ص19. 2 السيرة النبوية لابن هشام "طبعة الحلبي": 2/ 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وهذا الخبر إنما يفيد أنه كان عندهم صحيفة بها بعض أمثال وحكم مما كانوا ينسبونه إلى لقمان، ووجود مثل هذه الصحيفة لا يدل على أنهم استخدموا الكتابة في التعبير عن وجدانهم نثرًا وشعرًا؛ فقد كانت محدودة الانتشار بينهم، ومن التعسف أن نزعم ذلك لمجرد الظن؛ بينما تنقصنا أو تعوزنا النصوص الحسية. وإذا كنا نفتقد الأدلة المادية على وجود رسائل أدبية في العصر الجاهلي فمن المحقق أنه وجدت عندهم ألوان مختلفة من القصص والأمثال والخطابة وسجع الكهان. ومن المؤكد أنهم كانوا يشغفون بالقصص شغفًا شديدًا. وساعدتهم على ذلك أوقات فراغهم الواسعة في الصحراء؛ فكانوا حين يُرْخي الليل سدوله يجتمعون للسمر، وما يبدأ أحدهم في مضرب من مضارب خيامهم بقوله: كان وكان، حتى يرهف الجميع أسماعهم إليه، وقد يشترك بعضهم معه في الحديث، وشباب الحي وشيوخه ونساؤه وفتياته المخدرات وراء الأخبية كل هؤلاء يتابعون الحديث في شوق ولهفة. ومن غير شك كان يفيض القَصَّاص على قصصه من خياله وفنه، حتى يبهر سامعيه، وحتى يملك عليهم قلوبهم فيحولهم من الشفقة إلى محبة الانتقام ومن الضحك إلى الجدّ. وعيونهم تلمع في وجوههم السمْر وقلوبهم تخفق من آن إلى آن. وليس بين أيدينا شيء من أصول هذا القصص الذي كان يدور بينهم؛ غير أن اللغويين والرواة في العصر العباسي دونوا لنا ما انتهى إليه منه. وطبيعي أن تتغير وتتحرف أصوله في أثناء هذه الرحلة الطويلة التي قطعتها من العصر الجاهلي إلى القرن الثاني الهجري، وإن كان من الحق أنها لا تزال تحتفظ بكثير من سمات القصص القديم ولا تزال تنبض بروحه وحيويته. ويمكننا بواسطة ما دونه العباسيون أن نعرف ألوان هذا القصص الذي كانوا يتناقلونه بينهم، وربما كان أكثر هذه الألوان شيوعًا على ألسنتهم أيامهم وحروبهم وما سجله أبطالهم فيها من انتصارات مروعة وما منيت به بعض قبائلهم من هزائم منكرة. وقد ظلوا يقصون هذه الأيام والحروب إلى أن تناولها منهم لغويو القرن الثاني للهجرة ورواته؛ فدونوها تدوينًا منظمًا على نحو ما هو معروف عن أبي عبيدة في شرحه لنقائض جرير والفرزدق، وتوالى من بعده التأليف فيها والعناية بها على نحو ما تقدم في غير هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وكانوا يقصون كثيرًا عن ملوكهم من المناذرة والغساسنة ومن سبقوهم أو عاصروهم مثل ملوك الدولة الحميرية ومثل الزبَّاء، مما نجده مبثوثًا في تاريخ الطبري وفي السيرة النبوية لابن هشام، وسقط من ذلك كثير إلى أبي الفرج في أغانيه. ومن المحقق أن كثيرًا من هذا القصص يخالف التاريخ الحقيقي لهؤلاء الملوك، على نحو ما هو معروف عن قصة الزباء، فإنها لا تتفق في شيء ووثائق التاريخ الروماني الصحيحة1 حتى اسمها وهو زنوبيا Zenobia حرف إلى الزباء، وربما جاء هذا التحريف من أن أباها كان يُدعى زباي، فنسبوها إليه وقالوا: بنت زباي، ومع مر الزمن حذفوا كلمة بنت. وأبدلوا الياء المتطرفة بعد الألف حسب قواعدهم الصرفية همزة، وأدخلوا على الاسم أداة التعريف فأصبح الزباء. وعلى نحو ما كانوا يقصون عن ملوكهم وأبطالهم كانوا يقصون عن ملوك الأمم من حولهم وشجعانهم، يدل على ذلك ما جاء في السيرة النبوية من أن النضر بن الحارث كان من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم وإسفنديار؛ فكان إذا جلس رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، مجلسًا، فذكر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خَلَفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلم إلي؛ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار2". ومما لا ريب فيه أنهم كانوا يقصون كثيرًا عن كهانهم وشعرائهم وسادتهم، وهو قَصَص استمدت منه كتب التاريخ والشعر والأدب مَعِينًا لا ينضب من الأخبار، وارجع إلى تراجم صاحب الأغاني فستراها تحفل بمادة غنية من القصص، وقد بثوا فيها غير قليل من قصص الهوى، كقصة المرقش الأكبر وصاحبته أسماء بنت عوف، وما كان من عشقه لها وهو غلام ومحاولته خطبتها من أبيها. واعتذار الأب له بحداثة سنه وأنه لم يُعْرَف بعد بشجاعة. وما كان من انطلاق المرقش إلى بعض الملوك ومديحه له وبقائه عنده زمنًا، وفي هذه الأثناء أصاب عوفًا زمان شديد،   1 تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي: 3/ 99 وما بعدها. 2 السيرة النبوية "طبعة الحلبي": 1/ 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فأتاه رجل من مراد، فأرغبه في المال، فزوجه ابنته على مائة من الإبل، ورحل بها إلى أهله. وقال إخوة المرقش: لا تخبروه بخبرها حين يرجع؛ بل قولوا له: إنها ماتت، وذبحوا لذلك كبشًا، أكلوا لحمه ودفنوا عظامه. فلما قدم المرقش قالوا له: إنها ماتت. ولم يلبث أن عرف الحقيقة بعد أن ظل مدة يعود قبر الكبش ويزوره. وخرج المرقش يطلب أسماء، وبعد مغامرات يتعرف على راعي زوجها، ويتوسل إليه أن يحدثها عنه، فيقول له: إني لا أستطيع أن أدنوا منها؛ ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة، فأحلب لها عنزًا، فتأتيها بلبنها. فقال له مرقش: خذ خاتمي هذا؛ فإذا حلبتَ فألقه في اللبن، فإنها ستعرفه، وإنك مصيب بذلك خيرًا لم يصبه راع قط إن أنت فعلت ذلك. فأخذ الراعي الخاتم. ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز طرح الخاتم فيه؛ فانطلقت الجارية به وتركته بين يدي أسماء فلما سكنت الرغوة أخذته فشربته، وكذلك كانت تصنع. فقرع الخاتم ثنيتها، فأخذته واستضاءت بالنار، فعرفته، فقالت للجارية: ما هذا الخاتم؟ قالت: ما لي به علم فأرسلتها إلى مولاها وهو بنجران، فأقبل فزعًا، فقال لها: لم دعوتني؟ قالت له: ادع عبدك راعي غنمك، فدعاه، فقالت: سله أين وجد هذا الخاتم، قال: وجدته مع رجل في كهف خُبَّان، فقال لي: اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء، فإنك مصيب به خيرًا، وما أخبرني من هو، ولقد تركته بآخر رمق. فقال لها زوجها: وما هذا الخاتم؟ قالت: خاتم مرقش، فأعجل الساعة في طلبه؛ فركب فرسه وحملها على فرس آخر وسارا حتى طرقاه من ليلتهما، فاحتملاه إلى أهلهما؛ فمات عند أسماء وقال قبل أن يموت: سَرى لَيْلًا خَيالٌ مِنْ سُلَيْمى ... فأَرَّقَني وأصْحابي هُجُودُ فَبِتُّ أُدِيرُ أَمْرِي كلَّ حالٍ ... وأَرْقُبُ أَهْلَها وهُمُ بعيدُ سَكَنَّ ببلْدَةٍ وسَكَنْتُ أُخرى ... وقُطِّعَتِ المواثِقُ والعُهُودُ فَما بالي أَفِي ويُخانُ عَهْدِي ... وما بالي أُصادُ وَلا أَصِيدُ ثم مات فدفن في أرض مراد1.   1 أغاني "طبعة دار الكتب": 6/ 129 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ولم نسق هذه القصة مؤمنين بأنها نفس قصة المرقش التي دارت في الجاهلية بلغتها وبجميع تفاصيلها؛ ولكنا سقناها لندل بطوابعها على صورة أمثالها في الجاهلية، وما كان يتيح القَصَّاص لمثلها من عناصر التشويق؛ تارة بما يضيف إلى القصة من خياله، وتارة بما يضيف إليها من أشعار، وقد يضيف إليها أمثالًا، على نحو ما نعرف في قصة الزباء، وهي تتضمن عند الضبي اثني عشر مثلًا1. وإذا صح ما ذهب إليه بروكلمان من أن تعرف أحد العاشقين على الآخر عن طريق الخاتم شائع في كثير من الحكايات عند أمم غير العرب2 كان معنى ذلك أن قصص الجاهليين حتى في الحب تسربت إليه عناصر من حكايات العشق المماثلة عند الأمم الأجنبية. ويدخل في هذا الجانب بعض خرافاتهم عن الحيوانات التي يلتقون فيها بخرافات الأجانب3، كخرافة الحية والفأس، وقد رواها الضبي على هذه الشاكلة4. "زعموا أن أخوين كانا فيما مضى في إبل لهما؛ فأجدبت بلادهما، وكان قريبًا منهما واد فيه حية، قد حمته من كل أحد؛ فقال أحدهما للآخر: يا فلان، لو أني أتيت هذا الوادي المُكْلى؛ فرعيت فيه إبلي وأصلحتها، فقال له أخوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحدًا لم يهبط ذاك الوادي إلا أهلكته، قال: فوالله لأهبطن. فهبط ذلك الوادي، فرعا إبله به زمانًا، ثم إن الحية لدغته، فقتلته: فقال أخوه: ما في الحياة بعد أخي خير، ولأطلبن الحية فأقتلها أو لأتبعن أخي؛ فهبط ذلك الوادي؛ فطلب الحية ليقتلها، فقالت: ألست ترى أني قتلت أخاك، فهل لك في الصلح، فأدعك بهذا الوادي، فتكون به، وأعطيك ما بقيت دينارًا في كل يوم. قال: أفاعلة أنت؟ قالت: نعم، قال: فإني أفعل؛ فحلف لها وأعطاها المواثيق، لا يضيرها. وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا؛ فكثر ماله ونمت إبله؛ حتى كان من أحسن الناس حالًا. ثم إنه ذكر أخاه، فقال: كيف ينفعني العيش، وأنا أنظر إلى قاتل أخي فلان؟ فعمد إلى فأس؛ فأحدها، ثم قعد لها، فمرت به، فتبعها، فضربها فأخطأها، ودخلت الجحر، فرمى الفأس بالجبل فوقع فوق جحرها، فأثر فيه؛ فلما رأت ما فعل قطعت عنه.   1 أمثال العرب للمفضل الضبي "الطبعة الأولى بالقاهرة" ص81 وما بعدها. 2 انظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان: 1/ 102. 3 وانظر كتاب الأمثال في النثر العربي القديم لعبد المجيد عابدين ص42. 4 أمثال العرب للضبي ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الدينار الذي كانت تعطيه، ولما رأى ذلك تخوف شرها وندم فقال لها: هل لك في أن نتواثق –نتعاهد- ونعود إلى ما كنا عليه؛ فقالت: كيف أعاهد؟ وهذا أثر فأسك وأنت فاجر، لا تبالي العهد. فكان حديث الحية والفأس مثلًا مشهورًا من أمثال العرب، قال نابغة بني ذبيان، من قصيدة يعاتب بها بني مرة: وَإِنّي لَأَلقى مِن ذَوي الضِغنِ مِنهُمُ ... بلا عَثْرَةٍ والنفس لا بُد عاثرة كَما لَقِيَت ذاتُ الصَفا مِن حَليفِها ... وَما اِنفَكَّتِ الأَمثالُ في الناسِ سائِرَه وينشد الضبي بقية القطعة التي يتحدث فيها النابغة عن قصة الحية مع هذا الراعي الذي اختان عهده. ونحن نشك في الأبيات كما نشك في أن القصة حافظت على الأصل الجاهلي، وإن كنا في الوقت نفسه نظن ظنًّا أنها تعطينا جانبًا من روح القصص الجاهلي، وأنه كان يلتقي في بعض جوانبه بقصص الحيوان المعروف عند الهنود، والذي تسرب منهم إلى الأمم الأخرى على نحو ما نعرف في قصص إيسوب اليوناني، وبين قصصه الزارع والحية1، وكأنما تسرب هذا النوع من الهند إلى العرب واليونان جميعًا. ومما لا شك فيه أن عرب الجاهلية قصوا كثيرًا عن الجن والعفاريت والشياطين، وقد زعموا أنها تتحول في أي صورة شاءت إلا الغول فإنها دائمًا تبدو في صورة امرأة عدا رجليها؛ فلا بد أن تكونا رجلي حمار. وكثيرًا ما تتراءى الجن في صورة الثيران والكلاب والنعام والنسور. وكانوا يزعمون أن أهم منازلها أرض وبار وصحراء الدهناء ويبرين. ومن غير شك دخل كثير من قصصهم عنها في كتب الأساطير والعجائب التي ألفت في العصر العباسي. ونحن لم نسق ذلك لنؤكد أنه بقيت لنا من القصص الجاهلي بقية صالحة للدراسة؛ فإن شيئًا من هذا القصص الذي يضاف إلى الجاهليين لم يصلنا مدونًا مكتوبًا، ولذلك كنا نتهمه جملة، وإن كنا بعد هذا الاتهام نعود فنزعم أنه يصور لنا مادة قصصهم وروحه وطبيعته وكثيرًا من ملامحه؛ ولكن لا بصورة دقيقة، وإنما بصورة عامة.   1 انظر الأمثال في النثر العربي القديم: ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 2- الأمثال : إذا كان القصص الذي أضيف إلى الجاهليين لا يحمل لنا صورة دقيقة للنثر الجاهلي بحكم تأخره في التدوين؛ فإن الأمثال تحمل لنا غير قليل من هذه الصورة؛ إذ إن من شأنها أن لا تغير، وأن تظل طويلًا بصورتها الأصلية، بحكم إيجازها وكثرة دورانها على الألسنة. وقد سارع العرب إلى تدوينها منذ أواسط القرن الأول للهجرة؛ إذ ألف فيها صُحار العَبدي أحد النسابين في أيام معاوية بن أبي سفيان "41-60هـ" كتابًا كما ألف فيها عبيد بن شَرِيَّة معاصره كتابًا آخر، ويقول صاحب الفهرست: إنه رآه في نحو خمسين ورقة1. وإذا انتقلنا إلى القرن الثاني وجدنا التأليف في الأمثال يكثر؛ إذ أخذ علماء الكوفة والبصرة جميعًا يهتمون بها ويؤلفون فيها، وقد وصلنا عن هذا القرن كتاب أمثال العرب للمفضل الضبي. ونمضي إلى القرن الثالث، فيؤلف أبو عبيد القاسم بن سلام فيها كتابًا يشرحه من بعده أبو عبيد البكري باسم "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام" وما تزال المؤلفات في الأمثال تتوالى، حتى يؤلف أبو هلال العسكري كتاب "جمهرة الأمثال" ويخلفه الميداني، فيؤلف كتابه "مجمع الأمثال" وهو يقول في مقدمته إنه رجع فيه إلى ما يربو على خمسين كتابًا. ومن يرجع إلى هذه الكتب يجدهم يسوقون الكلمة السائرة التي تسمى مثلًا، ولا يكتفون بذلك؛ بل يقفون غالبا لسرد القصة أو الأسطورة التي تمخض عنها المثل، وقد تتمخض عن أمثال أخرى تروي في تضاعيفها. وموقفنا من هذه الأقاصيص والأساطير لا يختلف عن موقفنا من القصص الجاهلي بعامة؛ فنحن لا نتخذ منها صورة للنثر الجاهلي وإن اختلجت بروحه وطبيعته وحيويته، لنفس السبب الذي ذكرناه، وهو تأخر تدوينها، أما الأمثال نفسها فمن المحقق أن طائفة كبيرة مما روته الكتب السالفة يتحتم أن يكون جاهليًّا، وخاصة أكثر ما رواه عبيد بن شَرِيَّة، ولو أن كتابه لم يسقط من يد الزمن ووصلنا لاطمأننا إلى ما يرويه   1 الفهرست ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 من هذه الأمثال؛ غير أنه فُقد. ولم يحاول من جاءوا بعده أن يفردوا الأمثال الجاهلية من الإسلامية؛ إذ دَرَج أكثرهم على ترتيب الأمثال حسب الحروف الأولى على نحو ما ترتب المعاجم ألفاظها، فهم يرتبونها أو يؤلفونها في تسعة وعشرين بابًا بعدد أبواب الحروف الهجائية. وبذلك أصبح من الصعب تمييز جاهليها من إسلاميها في كثير من الأحيان، ومع ذلك قد يورد أصحاب هذه الكتب مع ما يرونه من الأمثال إشارات تدل على جاهليتها وقدمها. وهي تتخذ عندهم طريقين: الطريق الأول: أن يسوقوا مع المثل قصة جاهلية تفسره، أو أن يساق هو في أثناء قصة جاهلية، كتلك الأمثال التي نقرؤها في قصة الزباء من مثل: "لا يطاع لقصير أمر" و "لأمر ما جدع قصير أنفه" و "بيدي لا بيد عمرو". وقد بلغت أمثال هذه القصة عند الميداني ثمانية عشر مثلًا. ومن هذا الطريق ما يتصل بأحداث أو أساطير جاهلية كالذي زعموا أن النعمان بن امرئ القيس اللخمي ابتنى قصرًا له يسمى الخَورنق، بناه له رومي يُسمى سِنمَّار؛ فلما أتمه قال له سنمار: إني أعرف موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله، فقال له النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ فقال: لا، فقال: لا جرم لأدَعَنَّها وما يعرفها أحد، ثم أمر به فرمي من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع؛ فضرب به الجاهليون المثل فقالوا: جزاء سنمار. وأما الطريق الثاني: فهو أن ينسبوا المثل إلى جاهليين؛ فحينئذ يتعين زمنه وتاريخه، وهناك كثيرون اشتهروا فيهم بالحكم والأمثال السائرة، ومنهم من يغرق في القدم مثل لقمان عاد؛ تلك القبيلة اليمنية التي كانت تنزل في الأحقاف، والتي بادت ولم تبق منها باقية في الجاهلية، وقد ظل اسم لقمان يدور على ألسنة شعرائهم1 وظلوا يذكرونه بالحكمة والبيان والحلم. يقول الجاحظ: "من القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء لقمان عاد" وينص على أنه غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن الكريم2 كما ينص على ذلك المفسرون3. ولقدم لقمان حفت الأسطورة به وبحياته وكل ما يتصل بصلاته مع الناس والنساء؛ فقال الأخباريون إنه كان عملاقًا كبير الرأس قويًّا قوة   1 البيان والتبيين: 1/ 183 وما بعدها و 3/ 304. 2 البيان والتبيين: 1/ 184. 3 قصص الأنبياء الثعلبي "طبعة القاهرة": 340. وتفسير أبي حيان: 7/ 186 وانظر خزانة الأدب للبغدادي: 2/ 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 خارقة حكيمًا حكمة بالغة. وقالوا: إنه عاش عُمْرَ سبعة نسور وأن كل نسر منها عاش ثمانيين سنة وكان لُبَد آخرها، وبه ضربوا المثل في طول العمر فقالوا "طال الأبد على لبد1". ونسبت إلى لقمان في عصور متأخرة طائفة من الأقاصيص أريد بها إلى العظة والاعتبار، سميت أمثال لقمان، وهي مكتوبة بأسلوب ركيك ضعيف وقد زعم هلر Heller كاتب مادة لقمان في دائرة المعارف الإسلامية أن شخصية لقمان مرت بثلاث مراحل: "أ" مرحلة جاهلية وفيها يتراءى لقمان عاد الأسطوري الذي يقال إنه عاش عمر سبعة نسور، وكلما هلك منها نسر خلفه نسر آخر، حتى كان لُبَد الذي ذكره شعراؤهم كثيرًا. "ب" مرحلة قرآنية: وفيها نجد للقمان سورة خاصة به في الذكر الحكيم وقد ربط بعض المفسرين بين لقمان هذا وبين بلعام حكيم بني إسرائيل فسردوا له نفس نسبه؛ إذ قالوا إنه لقمان بن باعور2 بن ناحور بن تارخ. "ج" مرحلة متأخرة: وهي مرحلة نسج فيها ولفق قصص كثير حول لقمان كما يصور ذلك كتاب "أمثال لقمان". ومن المحقق أن "هلر" مخطئ فيما ذهب إليه من هذا التطور لشخصية لقمان، لسبب بسيط، وهو ما قلناه من أن قدماءنا فرّقوا بين لقمان عاد ولقمان القرآن الكريم؛ فهما ليسا شخصًا واحدًا بل هما شخصان، وبينما تعني بالأول كتب الأمثال نجد الثاني تعني به وبوصاياه كتب الفقه والتفسير مثل موطأ مالك وتفسير أبي حيان، وقد روى الجاحظ طرفًا من تعاليمه، وهي تطبع بطابع ديني3. واشتهر في الجاهلية بينهم كثيرون بهذا اللون من الأمثال وما يتصل بها من حكم، يقول الجاحظ: "ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيفي، وربيعة بن حذار، وهرم بن قطبة، وعامر بن الظرب، ولبيد بن ربيعة4" وأحكمهم أكثر بن صيفي التميمي وعامر بن ظرب العدواني؛ فأما أكثم فكان من المعمرين5،   1 انظر المعمرين للسجتاني: ص1. وأخبار عبيد بن شرية ص356 والخزانة: 2/ 77، والميداني: 1/ 375. 2 انظر الثعلبي: 340 وتفسير أبي حيان: 8/ 168. 3 البيان والتبيين: 2/ 149. 4 البيان والتبيين: 1/ 365. 5 انظر في أكثر المعمرين السجستاني: ص10 والأغاني "طبعة الساسي": 15/ 70 ومجمع الأمثال: 2/ 145، وجمهرة الأمثال العسكري على هامشه: 1/ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ويقال: إنه لحق الإسلام، وحاول أن يعلن إسلامه فركب متوجهًا إلى الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم؛ غير أنه مات في الطريق. وتدور على لسانه حكم وأمثال كثيرة، وقد ساق السيوطي في المزهر طائفة منها نقلًا عن ابن دريد في أماليه، وهي تجري على هذا النسق1: "رُبَّ عُجلةٍ تهب رَيْثًا"2. "ادَّرِعوا الليل فإن الليل أخفى للويل". "المرء يعجز لا محالة". "لا جماعة لمن اختلف لكل امرئ سلطان على أخيه حتى يأخذ السلاح؛ فإنه كفى بالمشرفية واعظًا". "أسرع العقوبات عقوبة البغي". "شر النصرة التعدي". "آلم الأخلاق أضيقها". "أسوأ الآداب سرعة العقاب". "رُبَّ قول أنفذ من صول"3. "الحرُّ حر وإن مسه الضر". "العبد عبد وإن ساعده الجد"4. "إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد". "رُبَّ كلام ليس فيه اكتتام". "حافظ على الصديق ولو في الحريق". "ليس من العدل سرعة العَذْل". "ليس بيسير تقويم العسير". "إذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة". "لو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم". "قد يبلغ الخضم بالقضم"5. "استأن أخاك فإن مع اليوم غدًا". "كل ذات بعل ستَئِيمُ"6. "الحر عزوف". "لا تطمع في كل ما تسمع". وعامر مثل أكثم يدخل في المعمرين7، ويقال إنه "لما أسنَّ واعتراه النسيان أمر ابنته أن تَقْرَعَ بالعصا إذا هو فَهّ8 عن الحكم وجار عن القصد. وكانت من حكيمات العرب حتى جاوزت في ذلك مقدار صُحَر بنت لقمان، وهند بنت الخُسّ، وجمعة بنت حابس. وقال المتلمس في ذلك: لذي الحِلْم قبل اليوم ما تُقْرَعُ العَصَا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلا ليعلما9" وكان مثل أكثم حكمًا للعرب تحتكم إليه، وافتخر بذلك ذو الإصبع العدواني في بعض شعره فقال10:   1 المزهر للسيوطي "طبعة الحلبي": 1/ 501. 2 الريث: البطء أي رب عجلة تفوت على صاحبها حاجته. 3 الصول: الاستطالة في الحرب. 4 الجد: الخط. 5 الخصم: الأكل ملء الفم. القضم: الأكل بأطراف الأسنان. 6 تئيم: يهلك عنها الزوج. 7 انظر المعمرين: ص44 وأمثال الميداني في المثل: إن العصا قرعت لذي الحلم. 8 فه: حاد وجار وانحرف. 9 البيان والتبيين: 3/ 38. 10 الأغاني: "طبعة دار الكتب" 3/ 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ومنا حَكَمٌ يَقْضِي ... فلا يُنْقَضِي ما يَقْضِي وتنسب إليه حكم ووصايا كثيرة لقومه1. على أن أكثر حكمهم وأمثالهم لا يعيِّنون قائلها، وهذا طبيعي لأنها تنبعث غالبًا من أناس مجهولين من عامة القبائل، ممن لا يمجدون ولا يحفل بهم الناس، وهم أيضًا لا يحفلون بأنفسهم لأنهم من العامة، والعامة عادة لا يهتمون بنسبة فضل إليهم. ولا بد أن نلاحظ أن بعض أمثالهم يخفي المعنى المراد منه، ومن أجل ذلك كان لا يفهم إلا بالرجوع إلى كتب الأمثال، كقولهم: "بعَيْنٍ ما أرينّك" فإن معناه: أسرع، وهو معنى لا يتبادر إلى السامع من ظاهر اللفظ، ومن ثم علق عليه أبو هلال العسكري بقوله: "هو من الكلام الذي قد عرف معناه سماعًا من غير أن يدل عليه لفظه2" ولا بد أن نلاحظ أيضًا أن الأمثال لا تتغير، فتقول: " الصيف ضيَّعتِ اللبن3" بكسر التاء إذا خاطبت الواحد والواحدة والاثنين والاثنتين والجماعة. ومن ثم كانوا يستجيزون في المثل مخالفة النحو وقواعد التصريف والجمع، ففي أمثالهم: "أعط القوسَ باريها4" بتسكين الياء في باريها والقياس فتحها، وفيها أيضًا: "أجناؤها أبناؤها" جمع جان وبان، والقياس. "جُناتها بُناتها" لأن فاعلًا لا يجمع على أفعال. وإذا كانت بعض الأمثال تخالف نظام التصريف والنحو فإن الكثرة الكثيرة لا تشذ على هذا النظام؛ بل إن طائفة تدخل في الصياغة الجاهلية البليغة إذ نطق بها بعض بلغائهم وفصحائهم من أمثال أكثم بن صيفي، وعامر بن الظرب، وكان خطباؤهم المفوهون كثيرًا ما يعمدون إلى حشدها في خطابتهم، يقول الجاحظ: "كان الرجل من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعًا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع5" وتبع شعراؤهم خطباءهم يودعونها أشعارهم. ومن ثم كنا نجد كثيرًا منها يتم له لحنه الموسيقي؛ فإذا هو شطر   1 البيان والتبيين: 1/ 401، 2/ 199. 2 جمهرة الأمثال للعسكري على هامش مجمع الأمثال للميداني: 1/ 168. 3 يضرب هذا المثل لمن يطلب حاجة بعد فوت أوانها. 4 أي استعن على ما تعمل بأهل الحذق والمهارة. 5 البيان والتبيين: 1/ 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 أو بيت. وكثيرًا ما نلاحظ في بعض عباراتها احتفالًا بتوازن الكلمات توازنًا ينتهي بها إلى السجع كما نلاحظ في بعض جوانبها اهتمامًا بالتصوير، ومن أجل ذلك يقول النَّظَّام إنها: " نهاية البلاغة لما تشتمل عليه من حسن التشبيه وجودة الكناية1" واقرأ هذه الأمثال: "تجوع الحُرَّةُ ولا تأكل بثَدْيَيْها"2. "المقدرة تُذْهب الحفيظة". "مقتل الرجل بين فكيه"3. "إن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه". "من استرعى الذئب ظلم". "في الجريرة تشترك العشيرة"4. "ويأتيك بالأخبار من لم تزود"5. "كذي العُرّ يكوي غيره وهو راتع"6. "استنوق الجمل"7. "كالمستجير من الرمضاء بالنار"8. "حلب الدهر أشطره"9. "يَخْبِط خَبْط عَشْواء"10. المنية ولا الدنية11. تحت الرغوة اللبن الصريح12. هدنة على دخن 13. رمتني بدائها وانسلت. فإنك تحس جمال الصياغة وأن صاحب المثل قد يعمد إلى ضرب من التنغيم الموسيقي للفظه؛ فإذا هو يسجع فيه أو إذا هو ينظمه شطرًا من بيت. وقد يعمد إلى ضرب من الأخيلة، ليجسِّم المعنى ويزيده حدة وقوة. والحق أن كل شيء يؤكد أن العرب في الجاهلية عنوا بمنطقهم واستظهار ضروب من الجمال فيه، سواء ضربوا أمثالهم أو تحدثوا أو خطبوا، وقد وصفهم جل وعز أو وصف فريقًا منهم بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكأنما أصبحت المقدرة البيانية عندهم سليقة من سلائقهم؛ ولذلك لم يكن عجبًا أن تكون آية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم على صدق رسالته معجزة بلاغية لا يستطيعون أن يجاروها هي القرآن الكريم {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .   1 مجمع الأمثال: 1/ 5. 2 يضرب في صيانة الرجل الكريم نفسه عن المكاسب الخسيسة. 3 بين فكيه: أي لسانه وما يتكلم به. 4 الجريرة: الجناية. 5 شطر بيت لطرفه. 6 شطر بيت للنابغة. 7 استنوق: أصبح ناقة. يضرب مثلًا لمن يظهر أن عنده رأيًا ثم يتضح عجزه. 8 الرمضاء: الأرض شديدة الحرارة. 9 أشطره، الأشطر: أخلاف الناقة يضرب مثلًا لمن عرك الدهر. 10 العشواء: الناقة ضعيفة البصر، يضرب مثلًا في التعثر. 11 الدنية: العمل الدنيء. 12 الصريح: الخالص. 13 دخن: حقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الخطابة: ليس بين أيدينا نصوص وثيقة من الخطابة الجاهلية، لما قلناه من بعد المسافة بين العصر الذي قيلت فيه عصور تدوينها؛ ولذلك كان ينبغي أن نحترس مما رواه منها صاحب الأمالي وصاحب العقد الفريد، فأكثره أو جمهوره منحول؛ على أن اتهامنا لنصوصها لا ينتهي بنا إلى إنكارها على الجاهليين؛ بل إنه لا ينتهي بنا إلى إنكار ازدهارها كما حاول بعض الباحثين1؛ فقد كان كل شيء عندهم يؤهل لهذا الازدهار؛ إذ لم يكن ينقصهم شيء من الحرية، وكثرت المنازعات والخصومات بينهم والدعوة إلى الحرب مرة وإلى العلم مرة أخرى. وقد اتخذوا من مجالسهم في مضارب خيامهم ومن أسواقهم ومن ساحات الأمراء ووفاداهم عليهم ميادين لإظهار براعتهم وتفننهم في المقال وحوك الكلام. وأسعفتهم في ذلك ملكاتهم البيانية وما فطروا عليه من خلابة ولسن وبيان وفصاحة وحضور بديهة؛ حتى ليقول الجاحظ: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة؛ وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام.. عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا "أفواجًا" وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا.. وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر.. من غير تكلف ولا قَصْد ولا تحفظ ولا طلب"2. وكل ذلك عمل على ازدهار الخطابة في الجاهلية، وأن تتناول أغراضًا مختلفة؛ فقد استخدموها في منافراتهم ومفاخراتهم بالأحساب والأنساب والمآثر والمناقب، كمنافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل إلى هرم بن قطبة الفزاري3 ومنافرة   1 في الأدب الجاهلي لطه حسين: ص374. 2 البيان والتبيين: 3/ 28. 3 أغاني "ساسي" 15/ 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 القعقاع بن معبد التميمي وخالد بن مالك النهشلي إلى ربيعة بن حذار الأسدي1 واستخدموها في الحض على القتال وبعث الوجدة في نفوس قبائلهم ودفعها إلى نيران الحرب وتراميهم في أوارها كأنهم الفراش، يقول أبو زُبَيْد الطائي2: وخطيبٍ إذا تمعَّرتِ الأَوْ ... جُهُ يومًا في مَأْقِطٍ مشهودِ3 ويقول عامر المحاربي في مديح قومه4: وهم يَدْعَمُونَ القولَ في كل موطنٍ ... بكل خطيبٍ يترك القوم كُظَّما5 يقول فلا يَعْيا الكلامَ خطيبُنا ... إذا الكربُ أَنْسى الجِبْسَ أن يتكلما6 وكما كان يدعو خطباؤهم إلى الحرب وسفك الدماء كانوا يدعون إلى الصلح وإصلاح ذات البين، وأن تضع الحرب أوزارها، يقول ربيعة بن مقروم الضبي7: ومتى تَقُمْ عند اجتماع عشيرةٍ ... خطباؤنا بين العشيرة يُفْصَلِ وكانوا كثيرًا ما يخطبون في وفادتهم على الأمراء؛ إذ يقف رئيس الوفد بين يدي الأمير من الغساسنة أو المناذرة؛ فيحييه متحدثًا بلسان قومه. وفي السيرة النبوية ما يصور جانبًا من هذه الوفود؛ إذ وفد كثير منها على الرسول منذ السنة الثامنة، وكان يقوم خطيب الوفد بين يديه متحدثًا، ويرد عليه خطيب الرسول على نحو ما هو معروف عن وفد تميم وخطبة عطارد بن حاجب بن زرارة بين يديه8. وكان ذلك سنة شائعة بينهم في الجاهلية حين يفدون على الأمراء أو على من له رياسة وسيادة، يقول أوسل بن حجر في رثاء فضالة بن كلدة9: أبادُ لَيْجَةَ من يَكْفي العشيرةَ إذ ... أمسوا من الخَطْبِ في نارٍ وبَلْبَالِ أم من يكون خطيبَ القوم إذ حَفلوا ... لدى الملوك ذوي أيدٍ وأَفْضال10   1 البيان والتبيين: 2/ 272. 2 البيان والتبيين: 1/ 176. 3 تمعرت الوجوه: تغيرت واصفرت. المأقط: موضع القتال. 4 المفضليات، القصيدة91. 5 كظمًا: جمع كاظم وهو الساكت غيظًا. 6 الجبس: اللئيم المنقطع. 7 أغاني "ساسي": 19/ 93. 8 تاريخ الطبري، القسم الأول: ص1711 والأغاني "طبعة دار الكتب": 4/ 146. 9 نقد الشعر لقدامة "طبعة الجوائب": ص35 وديوان أوس "طبعة بيروت" ص103. 10 أيد: قوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وقد يَنْبرون في الأسواق العظام ينصحون قومهم ويرشدونهم، على نحو ما هو معروف عن قُسٍّ وخطبته بسوق عكاظ. وربما نصح الخطيب عشيرته وقومه الأقربين، كبعض ما يروى عن عامر بن الظرب وأكثم بن صيفي. وكان من عادتهم في الزواج، وخاصة زواج أشرافهم وأبنائهم أن يتقدم عن الخاطب سيد من عشيرته، يخطب باسمه الفتاة التي يريد الاقتران بها، وخطبة أبي طالب للسيدة خديجة للرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، مشهورة. ويقول الجاحظ: "كانت خطبة قريش في الجاهلية –يعني خطبة النساء-: باسمك اللهم ذكرت فلانة، وفلان بها مشغوف، باسمك اللهم، لك ما سألت، ولنا ما أعطيت"1. ويقول كان من عادة العرب في هذه الخطبة أن يطيل الخاطب ويقصر المجيب2. ويتحدث عن خطابتهم عامة فيقول: "اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المَدَر والوبر والبدو والحضر على ضربين منها الطول، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به وموضع. يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة ومتشاكلًا في استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان والنتف الجياد.. ووجدنا عدد القصار أكثر ورواة العلم إلى حفظها أسرع"3. وليس كل ما يدل على ازدهار الخطابة في الجاهلية ما رأيناه آنفًا من تعدد أنواعها وخوضها في أغراض مختلفة من المصاهرة أو الوفادة على الأمراء أو النصح والإرشاد أو الدعوة إلى الحرب أو الكف عن القتال أو في المنافرات والمفاخرات؛ فقد استقر في نفوس العباسيين وعلى رأسهم الجاحظ أنهم كانوا يكثرون من الخطب وأن قبيلة من القبائل بل عشيرة من العشائر لم تكن تخلو من خطيب، وهو يسوق في البيان والتبيين أثباتًا طويلة بأسمائهم ومواقفهم مُوردًا من حين إلى حين فقرًا وشَظايا من أقوالهم. ولعل من الخير أن نعرض أطرافًا من ذلك، حتى تتضح لنا هذه النهضة الخطابية عندهم من بعض وجوهها؛ وخاصة أننا لا نطمئن إلى ما يروى لهم في كتب الأدب والتاريخ من خطب، ومن ثم سنعمد عمدًا إلى سرد أسماء خطبائهم من جهة وإنشاد بعض الأشعار التي تصور بيانهم وبراعتهم في هذا اللون من ألون نثرهم، لما هو معروف من أن الشعر يمكن أن ينقل عن طريق الرواية آمادًا من الأزمنة بفضل ما فيه من موسيقى تحفظه من الاضطراب على ألسنة الرواة   1 البيان والتبيين: 1/ 408. 2 البيان والتبيين: 1/ 116. 3 البيان والتبيين: 2/ 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وتحولُ بينه وبين دخول خلل واسع في صُوَره الأصلية. وإذا رجعنا نستعرض أسماء خطبائهم وجدنا البيان والتبيين يموج بهم من مثل: قيس بن شماس في يثرب، وابنه ثابت وهو خطيب النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم. ومن خطباء الأنصار أيضًا: سعد بن الربيع، وهو الذي اعترضت ابنته النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم؛ فقال لها: "من أنت؟ " قالت: ابنة الخطيب النقيب الشهيد سعد بن الربيع1. أما مكة فمن قدماء خطبائها هاشم وأمية، ونُفيل بن عبد العُزى جد عمر بن الخطاب، وإليه تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية2. ويظهر أنه كان بها خطباء كثيرون، وربما كان مما هيأ لكثرتهم وجود دار الندوة بها، وهي تشبه مجلس شيوخ مصغر، كانوا يجتمعون فيها ويخطبون ويتحاورون3، وممن عرف فيها بالخطابة عتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو الأعلم، وهو الذي قال فيه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "يا رسول الله، انزع ثنيتيه4 السُّفليين حتى يُدْلَع5 لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا" فقال الرسول عليه السلام: "لا أمثل فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًّا، دعه يا عمر؛ فعسى أن يقوم مقامًا تحمده" 6 وممن اشتهروا بالخطابة في القبائل عامر بن الظرب في عدوان، وربيعة7 بن حذار في أسد، وحنظلة بن ضرار في ضبة، وقد طال عمره حتى أدرك يوم الجمل8، وعمرو بن كلثوم في تغلب9، وهانئ بن قبيصة في شيبان، وهو خطيب يوم ذي قار10، وزهير بن جناب في كلب وقضاعة11، وابن عمار في طيء، وهو خطيب مذحج كلها12. ومن خطبائهم لبيد بن ربيعة العامري، ومن قوله13: وأَخْلُفُ قُسًّا ليتني ولو انني ... وأُعْيا على لقمانَ حكمَ التدبُّر وهَيْذان بن شَيْخ الذي قال فيه الرسول صلوات الله عليه: ربَّ خطيب عبس14، وخُوَيْلد بن عمرو والعُشَراء بن جابر الغطفانيان15، ومن خطباء غطفان أيضًا قيس بن خارجة بن سنان الذي خطب في حرب داحس والغبراء   1 البيان والتبيين: 1/ 358-360. 2 تاريح الطبري: القسم الأول: ص1091. 3 السيرة النبوية "طبعة الحلبي": 2/ 124. 4 الثنيتان: الأضراس في مقدم الفم. 5 يدلع: يسترخي، فلا يحسن النطق. 6 البيان والتبيين: 1/ 317. 7 نفس المصدر: 1/ 356. والأغاني "ساسي": 10/ 61. 8 نفس المصدر: 1/ 341. 9 نفس المصدر: 2/ 141. 10 أغاني "ساسي" 20/ 137. 11 نفس المصدر: 21/ 65. 12 البيان والتبيين: 1/ 349. 13 البيان والتبيين: 1/ 189. 14 البيان والتبيين: 1/ 273. 15 نفس المصدر: 1/ 350-351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 يومًا إلى الليل1 وهَرِم بن قطبة الفزاري2 الذي احتكم إليه علقمة بن عُلاثة وعامر بن الطفيل؛ فقال لها، كما مر بنا: "أنتما كركبتي البعير الأدْرَمِ –الفحل- تقعان على الأرض معًا"3. ومن خطباء تميم المفوهين: أكثم بن صيفي، وضمرة بن ضمرة، ويروى أنه لما دخل على النعمان بن المنذر زَرَى عليه للذي رأى من دمامته وقصره وقلته؛ فقال للنعمان: "تسمع بالمعيدي لا أن تراه" فقال: أبيتَ اللَّعن! إن الرجال لا تُكال بالقُفْزان4 ولا توزن بالميزان، وليست بمُسوكٍ5 يُسْتَقَى بها، وإنما المرء بأصغريه: بقلبه ولسانه، إن صال صال بِجَنَان، وإن قال قال ببيان"6. ومن خطباء تميم أيضًا عطارد بن حاجب بن زرارة وهو خطيب وفدها، كما مرَّ بنا، بين يدي الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، ومنهم عمرو بن الأهتم المنقري، ولم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه7، ويروى أن الرسول سأله عن الزبرقان بن بدر فقال "مانع لحوزته، مطاع في أدنيه" فقال الزبرقان: "أما إنه قد علم أكثر مما قاله، ولكنه حسدني شرفي" فقال عمرو: "أما لئن قال ما قال؛ فو الله ما علمته إلا ضيق الصدر، زَمِرُ8 المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى؛ فلما رأى أنه قد خالف قوله الآخر قوله الأول ورأى الإنكار في عيني رسول الله قال: "يا رسول الله! رضيت فقلت: أحسن ما علمت، وغضبت فقلت: أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة" فقال رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، عند ذلك: "إن من البيان لسحرًا" 9. ومن خطباء بني منقر التميميين أيضًا قيس بن عاصم الذي قال فيه الرسول، صلوات الله عليه، حين رآه: "هذا سيد أهل الوبر" 10، وهو الذي قال فيه عبدة بن الطبيب حين مات11: وما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْك واحدٍ ... ولكنهُ بُنْيانُ قومٍ تهدَّما   1 البيان والتبيين: 1/ 116. 2 البيان والتبيين: 1/ 365. 3 أغاني "ساسي": 15/ 51. 4 القفزان: جمع قفيز، وهو مكيال عراقي. 5 المسوك: جمع مسك وهو الجلد. 6 البيان والتبيين: 1/ 171. 7 البيان والتبيين: 1/ 355. 8 زمر: قليل. 9 البيان والتبيين: 1/ 53. 10 البيان والتبيين: 2/ 33. 11 البيان والتبيين: 2/ 353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ومن خطباء إياد قس بن ساعدة، وهو الذي قال فيه النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وَعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت"1. ويقول الحاحظ: "ولإياد خَصْلة ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، هو الذي رَوَى كلام قس بن ساعدة، وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش وللعرب، وهو الذي عجب من حُسنه وأظهر من تصويبه، وهذا إسناد تعجز عنه الأماني وتنقطع دونه الآمال"2. على أن ابن حجر اتهم هذا الإسناد3، وخاصة بعد توسُّع الرواة في خطبة قس وتحميلهم لها إشارات بقرب مبعث الرسول عليه السلام. ومما لا ريب فيه أن لها أصلًا صحيحًا تزيد فيه الرواة. وواضح أن هذه كثرة من الخطباء الجاهليين، إن لم يصح ما أثر عنهم من خطب فإن من المحقق أنهم خطبوا كثيرًا في أقوامهم وقبائلهم، وإلا ما اشتهروا بالبراعة في هذا اللون من ألوان اللَّسنِ والبيان. وكان مما بعثهم على إحسانه حاجتهم إليه في مواطن ومواقف عدة، وكان قلما يرتفع نجم سيد من سادتهم إلا والخطابة صفة من صفاته وسجية من سجاياه؛ حتى تساق له القلوب بأزمتها وتجمع له النفوس المختلفة من أقطارها. وكل شيء يؤكد أن منزلة الخطيب عندهم كانت فوق منزلة الشاعر؛ فهي قرين السؤدد والشرف والرياسة، يقول أبو عمرو بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيِّد عليهم مآثراهم، ويفخم شأنهم، ويهوِّل على عدوهم ومَنْ غزاهم، ويهيِّب من فرسانهم، ويخوِّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوق، وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"4 وعلى هدي هذا القول مضى الجاحظ يقول: "كان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر"5.   1 البيان والتبيين: 1/ 308. 2 نفس الصدر: 1/ 52. 3 السيرة الحلبية "طبعة مصر": 1/ 210. وقارن باللآلئ المصنوعة للسيوطي: 1/ 95. 4 البيان والتبيين: 1/ 241. 5 البيان والتبيين: 4/ 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وربما كان من أسباب ذلك أن الشاعر-إذا استثنينا زهيرًا- كان هو الذي يهيج النفوس للحرب بما يدعو للأخذ بالثأر، أما الخطيب فكان غالبًا يدعو إلى السلم وأن تضع الحرب بين القبائل المتخاصمة أوزارها، وكثيرًا ما يقف من قومه موقف الناصح الأمين يهديهم ويرشدهم، أما الشاعر فأكثر مواقفه هجاء وتنابذ بالألقاب والأحساب والمآثر والمعايب. وقد تعارف خطباؤهم على جملة من السنن والتقاليد في خطابتهم؛ فكانوا يخطبون على رواحلهم في الأسواق العظام والمجامع الكبار1، وقد لاثوا العمائم على رءوسهم. وفي أثناء خطابتهم كانوا يمسكون بالعصى والمخاصر والقضبان والقنا والقسي راكبين أو واقفين على مرتفع من الأرض، وأشار إلى ذلك لبيد إذ يقول2: ما إِن أَهابُ إِذا السُرادِقُ عَمَّهُ ... قَرعُ القِسيِّ وَأُرعِشَ الرِعديدُ ووقفت الشعوبية طويلًا عنده عادة خطباء العرب من اتخاذ العصي والمخاصر وردَّ عليهم الجاحظ في بيانه مبينًا فوائد العصا، ومن قوله في تلك العادة: "إن حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة والتهيؤ للإطناب والإطالة؛ وذلك شيء خاص في خطباء العرب ومقصور عليهم ومنسوب إليهم؛ حتى إنهم ليذهبون في حوائجهم، والمخاصر بأيديهم إلفًا لها وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها والإشارة بها"3 وكانوا يمدحون في الخطيب ثبات الجنان وحضور البديهة وقلة التلفت وكثرة الريق وجهارة الصوت وقوته، وكانوا يعيبون فيه التنحنح والارتعاش والحصَر والتعثر في الكلام، يقول النمر بن تولب4: أَعِذني رَبِّ مِن حَصَرٍ وَعيٍ ... وَمِن نَفسٍ أُعالِجُها عِلاجا ويقول أبو العيال الهذلي: وَلا حَصِرٌ بِخُطبَتِهِ ... إِذا ما عَزَّتِ الخُطَبُ وذموا في الخطيب أن يكثر من مسه لذقنه وشواربه ولحيته، وكأنما رأوا في ذلك   1 البيان والتبيين: 3/ 7. 2 نفس المصدر: 1/ 272، 3/ 9. 3 البيان والتبيين: 3/ 117. 4 انظر في هذا البيت وتاليه البيان والتبيين: 1/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ضربًا من الخرق في استخدام الجوارح، يقول معن بن أوس المزني في بعض هجائه1: إِذا اجتَمَع القبائل جِئتَ رِدفًا ... وَراءَ الماسِحينَ لَكَ السِبالا2 فَلا تُعطى عَصا الخَطباءِ فيهِم ... وَقَد تُكفى المقادَةَ وَالمَقالا وكثيرًا ما كانوا يتزيدون في جهارة الصوت وينتحلون سعة الأشداق وهدَل الشفاه، ومن أجل ذلك قال الرسول، صلوت الله عليه: "إياي والتشادق" وقال: "أبغضكم إليّ الثرثارون المُتَفَيْهِقُونَ" 3. وإذا ذهبنا نستنطق النصوص عن أساليب خطابتهم، وهل كانوا يعمدون فيها إلى الأسلوب المرسل أو إلى الأسلوب المسجَّع؛ وجدنا أنفسنا بإزاء تراث متهم لا يمكن الاعتماد عليه في الاستنتاج، لما قلنا مرارًا من أن حقبًا متطاولة تفصل بين العصر الذي دونت فيه تلك الخطب والآخر الذي قيلت فيه. ومع أن الكثرة الكثيرة من هذه الخطب منتحلة نلاحظ أن من نحلوها الجاهليين؛ إنما قاسوها على أمثلة رويت لهم؛ فإذا لاحظنا أن أكثر مفاخراتهم ومنافراتهم روي مسجوعًا، كان معنى ذلك أنه ثبت عند من نحلوا الجاهليين هذه المفاخرات والمنافرات أنهم كانوا يسجعون فيها. وتستطيع أن ترجع إلى منافرة عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية وتحكيمهما لنفيل بن عبد العزى في تاريخ الطبري4 فستجدها مسجوعة، ومثلها منافرة جرير بن عبد الله البجلي، وخالد بن أرطاة الكلبي إلى الأقرع بن حابس؛ فقد رويت في شرح نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة، وهي مسجوعة5، ومثلهما منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل المروية في كتاب الأغاني؛ فهي الأخرى مبنية على السجع6. ويجعل الجاحظ ذلك قاعدة عامة أو كالقاعدة العامة؛ فيقول: "إن ضمرة بن ضمرة وهَرِم بن قطبة والأقرع بن حابس ونُفَيْل بن عبد العزى كانوا يحكمون وينفرون بالأسجاع، وكذلك ربيعة بن حذار"7.   1 البيان والتبيين: 1/ 372. 2 السبال: مقدم اللحية. يهجوه بأنه ليس رئيسًا ولا خطيبًا. 3 البيان والتبيين: 1/ 13. المتفيهق: الذي يفتح بالكلام جونب فمه ويملؤه به. 4 الطبري: القسم الأول: ص1091. 5 النقائض: 1/ 114. 6 أغاني "طبعة الساسي": 15/ 51. 7 البيان والتبيين: 1/ 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 كما يقول في موضع آخر إنهم كانوا يستخدمون الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة؛ بينما كانوا يستعملون المنثور المرسل في خطب الصلح وسل السخيمة وعند المعاقدة والمعاهدة. وكأنهم عرفوا في الجاهلية لونين من الخطابة لونًا مسجوعًا ولونًا مرسلًا، ولا تظن أنهم في خطابتهم المرسلة لم يكونوا يروون فقد كانوا يعمدون إلى ما يثير السامعين من كلم بليغ؛ حتى يؤثروا فيهم ويبلغوا ما يريدون من استمالتهم، يقول الجاحظ: "لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم في طوال القصائد وفي صنعة طوال الخطب، وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات الأمور ميَّثوه1 في صدورهم وقيدوه على أنفسهم؛ فإذا قوَّمه الثقاف، وأدخل الكير، وقام على الخلاص أبرزوه محككًا منقحًا ومصفى من الأدناس مهذبًا2". ومن يقرأ الفقر القصار والمحاورات المختصرة التي بقيت من تراثهم، تلك التي يرويها الجاحظ، يشعر حقًّا أنهم كانوا يبتغون التجويد في كلامهم، تارة بما يصوغونه فيه من سجع، وتارة أخرى بما يخرجونه فيه من استعارات وأخيلة. ودائمًا يعنون ببهاء اللفظ وقوته ونصاعته، كما يعنون بوضوح الحجة. وتصوِّر أشعارهم جوانب من ذلك كقول لبيد لهرم بن قطبة حين احتكم إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة3: إنك قد أوتيت حُكْمًا معجِبا ... فَطَبِّقِ المَفْصِلَ واغْنَمْ طَيِّبا وواضح أنه يقول له: إنك قد أوتيت حكمًا فاصلًا قاطعًا يفصل بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين. ومن ذلك قولهم فلان يفلُّ المحزَّ، ويصيب المفصل، ويضع الهناء مواضع النُّقَبِ4. والعبارة الأخيرة مستعارة من صنيع الحاذق حين يلم الجرب بإبله فيضع دواءه في مواضعه الدقيقة. يمثلون بذلك للمصيب الموجز في خطابته وبيانه، كما مثلوه في التعبيرين الأولين بالجزار الحاذق الذي يصيب عين الموضع من جزوره سواء في العظم أو في اللحم. وقد يشبهون كلامهم بالسهام المصمية، ومن ثم استخدموا كلمة مدره للشجاع والخطيب المفلق في الوقت نفسه، وأصل معناها المرامي؛ فاستعيرت من رامي السهام لرامي الكلام   1 ميثوه: ذللوه. 2 البيان والتبيين: 2/ 14. 3 البيان والتبيين: 1/ 109. 4 نفس المصدر: 1/ 107. الهناء: القطران. والنقب: أول ما يبدو من الجرب في الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الذي يبلغ به ما يريد من إصابة خصمه والنكاية به، يقول زهير بن أبي سلمى1: وَمِدرَهُ حَربٍ حَميُها يُتَّقى بِهِ ... شَديدُ الرِجامِ بِاللِسانِ وَبِاليَدِ ونراهم يصفون خطباءهم بأنهم مصاقع ولسن، وافتخروا بذلك طويلًا على نحو ما نجد عند قيس بن عاصم المنقري يصف ما فيه وفي عشيرته بني منقر من الخطابة والفصاحة2: إني امرؤٌ لا يَعْتري خُلُقي ... دَنَسٌ يُفَنِّدُهُ ولا أفْنُ3 من مِنْقَرٍ في بيت مكرُمةٍ ... والأصلُ ينبت حوله الغُصْنُ خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقعٌ لُسْن وقد حذروا طويلًا من شدة وقع اللسان، وقالوا: إن جرح اللسان كجرح اليد وإنه عَضْب وقاطع كالسيف، يقول طرفة4: بِحُسامِ سيفك أو لسانك والـ ... كَلِمُ الأصيلُ كأَرْغَب الكَلْمِ ولعل مما يدل دلالة قاطعة على أنهم أحسوا بجمال ما يلفظ به خطباؤهم أننا نراهم يشبهون كلامهم بالثياب الموشَّاة وبالحُلل والدِّيباج وأشباه ذلك، يقول أبو قُرْدُودة الطائي في رثاء ابن عَمَّار خطيب مَذْحج وقد مات مقتولًا5: ومنطقٍ خُرَّق بالعَواسلِ ... لَذّ كَوَشْي اليُمْنَةِ المَرَاحلِ6 ولعل في كل ما قدمنا ما يدل دلالة واضحة على أن الخطابة كانت مزدهرة في الجاهلية؛ فقد كانوا على حظ كبير من الحرية، وكانوا يخطبون في كل موقف في المفاخرات وفي الدعوة إلى السلم أو الحرب وفي النصح والإرشاد وفي الصهر والزواج. وابتغوا دائمًا في كلامهم أن يؤثر في نفوس سامعيهم بما حققوا له من ضروب بيان وبلاغة.   1 ديوان زهير: "طبعة دار الكتب" ص223. 2 البيان والتبيين: 1/ 219. 3 يفند: ينقض ويضف. الأفن: ضعف الرأي. 4 البيان والتبيين: 1/ 156. أرغب: أوسع. الكلم: بسكون اللام: الجرح. 5 البيان والتبيين: 1/ 349. 6 العواسل: الرماح. المراحل: جمع مرحل وهو ما نقش فيه تصاوير الرحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 4- سجع الكهان كانت في الجاهلية طائفة تزعم أنها تطلع على الغيب، وتعرف ما يأتي به الغد بما يلقي إليها توابعها من الجن، وكان واحدها يسمى كاهنًا كما يسمى تابعه الذي يوحي إليه باسم "الرَّئِيِّ" وأكثرهم كان يخدم بيوت أصنامهم وأوثانهم؛ فكانت لهم قداسة دينية، وكانوا يلجأون إليهم في كل شئونهم، وقد يتخذونهم حكامًا في خصوماتهم ومنافراتهم على نحو ما كان من منافرة هاشم بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس، واحتكامهما إلى الكاهن الخزاعي، وقد نفر هاشمًا على أمية1. وكانوا يسشيرونهم ويصدرون عن آرائهم في كثير من شئونهم كوفاء زوجة، أو قتل رجل، أو نحر ناقة2، أو قعود عن نصرة أحلاف3، أو نهوض لحرب؛ ففي أخبار بني أسد أن حجرًا أبا امرئ القيس رَقَّ لهم؛ فبعث في إثرهم فأقبلوا حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة، فقال لبني أسد: "يا عبادي، قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلَّاب غير المغلَّب، في الإبل كأنها الرَّبْرب4، لا يعلق رأسه الصَّخَب، هذا دمه ينثعب5، وهذا غدًا أولُ من يسلب، قالوا: من هو يا ربنا؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذَلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عكر حجر فهجموا على قبته" وقتلوه6. وكثيرًا ما كانوا ينذرون قبائلهم بوقوع غزو غير منتظر7، كما كانوا كثيرًا ما يفسرون رؤاهم وأحلامهم8. فمنزلة كهَّانهم في الجاهلية كانت كبيرة؛ إذ كانوا يعتقدون أنه يوحى إليهم، ولعل ذلك ما جعل نفوذ الكاهن يتجاوز قبيلته إلى كثير من القبائل التي تجاورها،   1 السيرة الحلبية: 1/ 4. 2 أغاني "طبعة دار الكتب": 11/ 118. 3 أغاني: 11/ 140. 4 الربرب: القطيع من الظباء. 5 ينثعب: يسيل. 6 أغاني: 9/ 84. 7 الأمالي للقالي: 1/ 126 والسيرة النبوية: 1/ 43، 221. 8 السيرة النبوية: 1/ 15 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ومن ثم كان العرب يقصدون كثيرين منهم من مناطق بعيدة. ومما يلاحظ أنهم كانوا يتكثرون في اليمن وفي بيوت عبادتها الوثنية، وخاصة من يتعمقون في القدم، ولعل في ذلك ما يدل على الصلة القديمة بين وثنية عرب الجنوب، وعرب الشمال. وتلقانا في كتب التاريخ والأدب أسماء كثيرين منهم، وقد يبالغ القُصَّاص، فيرسمون لبعضهم صورًا خيالية؛ فمن ذلك أن شق بن الصعب كان شق إنسان أو شطره فله عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، وأن سطيح بن ربيعة الذئبي لم يكن فيه عظم سوى جمجمته وأن وجهه كان في صدره ولم يكن له عنق1، وربما كان أحدب. ومن كهانهم في أواخر العصر الجاهلي سواد بن قارب الدَّوْسيِّ وقد أدرك الإسلام ودخل فيه2، ومنهم المأمور الحارثي، كاهن بني الحارث بن كعب3، وخُنافر الحميري، وكان يقول: إنه أسلم بمشورة تابعه "شصار". وأكهنهم عُزّى سَلِمة، يقول الجاحظ: "أكهن العرب وأسجعهم سلمة بن أبي حية وهو الذي يقال له عزى سلمة"5. ومن قوله6: "والأرض والسماء، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجد بني العشراء للمجد والسناء7" ونجد بجانب هؤلاء الكهان جماعة من الكاهنات، وربما كن في الأصل من النساء اللائي يهبن أنفسهن للآلهة ومعابدها. ومن أشهرها الشعثاء8 وكاهنة ذي الخلصة9 والكاهنة السعدية10 والزرقاء11 بنت زهير والغيطلة القرشية12 وزبراء كاهنة بني رئام، ويروى أنها أنذرتهم غارة عليهم فقالت: "واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنجم الطارق والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو خَتْلًا، ويحرق أنيابًا عصلًا، وإن صخر الطود لينذر ثكلًا، لا تجدون عنه مَعْلًا"13.   1 عجائب المخلقوات للقزويني: 1/ 171. 2 السيرة النبوية: 1/ 233. 3 الأمالي: 1/ 276، واسمه فيه المأمون، وانظر 3/ 151 والأغاني: 15/ 70. 4 الأمالي: 1/ 133. 5 البيان والتبيين: 1/ 358. 6 نفس المصدر: 1/ 290. 7 الصقعاء: الشمس، بقعاء: ماء أو موضع. نفر: حكم بالغلبة. بنو العشراء: عشيرة من فزارة. السناء: الرفعة. 8 مجمع الأمثال للميداني: 1/ 91. 9 نفس المصدر: 1/ 223. 10 نفس المصدر: 2/ 54. 11 أغاني "دار الكتب": 13/ 81. 12 سيرة ابن هشام: 1/ 221. 13 اللوح هنا: الريح. الوادق: الممطر. يأدو: يختل. يحرق أنيابًا عصلًا: كناية عن الغضب والشر. عصلًا: معوجة. الطود: الجبل. المعل: الملجأ. انظر الأمالي: 1/ 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ونحن لا نطئمن إلى ما يروى في كتاب التاريخ والأدب من أقوال جرت على ألسنة هؤلاء الكهان والكاهنات؛ فإن بعد المسافة بين عصور التدوين والعصر الجاهلي يجعلنا نتهم مثل هذه الأقوال؛ إذ من الصعب أن تروى بنصها وقد مضى عليها نحو قرنين من الزمان. وإنما استشهدنا ببعض منها لندل على أنه ثبت في أذهان من تحدثوا عن الكهان والكاهنات في الجاهلية أنهم كانوا يعتمدون على السجع في كلامهم؛ ولذلك حين أجرو ألسنتهم بالكلام جعلوه مسجوعًا على شاكلة ما رويناه من أقوالهم. ومعنى ذلك أنه وجد في العصر الجاهلي سجع كان يقوله الكهان، وقد اختلط الأمر على بعض قريش في أول نزول الذكر الحكيم؛ فقرنوه بسجع كهنتهم ورد عليهم القرآن الكريم بمثل قوله جل وعز: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقال سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . ومما يدل على أن كهنتهم كانوا يسجعون؛ بل كانوا لا يتكلمون إلا بالسجع، الحديث المروي عن أبي هريرة؛ فقد حدث أنه: "اقتتلت امرأتان من هذيل؛ فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرة: عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها1 ... فقال حمل بن النابغة الهُذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل2، فمثل ذلك يطل3؛ فقال رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع" 4. ويقول الجاحظ: "كان حازى "كاهن" جهينة وشق وسطيح وعزى سلمة وأشباههم يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"5. وإذا صح أن ما يروى في كتب التاريخ والأدب من سجع الكهان تقليد دقيق لما كانوا يأتون به من هذا السجع لاحظنا أنهم لم يكونوا يسجعون فحسب؛   1 عاقلة المرأة: عصبتها الذين يتضامنون معها في دفع الدية. 2 استهل: صاح. 3 يطل: يهدر دمه. 4 صحيح مسلم "طبعة الآستانة" 5/ 110. وانظر موطأ مالك "طبع حجر بالقاهرة" 2/ 192. 5 البيان والتبيين: 1/ 289 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بل كانوا يعمدون أيضًا إلى ألفاظ غامضة مبهمة، حتي يتركوا فسحة لدى السامعين كي يؤول كل منهم ما يسمعه حسب فهمه وظروفه. ومن ثم دخل الرمز في كثير من أقوالهم؛ إذ يومئون إلى ما يريدون إيماء، وقلما صرحوا أو وضَّحوا؛ بل دائمًا يأتون المعاني من بعيد؛ بل قل إنهم كانوا لا يحبون أن يصوروا في وضوح معنى، ويتخذوا له أشباحًا واضحة من اللفظ تدل عليه، لأن ذلك يتعارض مع تنبئهم الذي يقوم على الإبهام والوهم واختيار الألفاظ التي تخدع السامع وجوهًا من الخدع، ومن ثم كان من أهم ما يميز أسجاعهم عدم وضوح الدلالة وأن يكثر فيها الاختلاف والتأويل. وليس هذا كل ما يلاحظ على السجع الذي يضاف إليهم؛ فإنه يلاحظ عليه أيضًا كثرة الأقسام والأيمان بالكواكب والنجوم والرياح والسحب والليل الداجي والصبح المنير والأشجار والبحار وكثير من الطير وفي ذلك ما يدل على اعتقادهم في هذه الأشياء وأن بها قوى وأرواحًا خفية، ومن أجل ذلك يحلفون بها، ليؤكدوا كلامهم وليبلغوا ما يريدون من التأثير في نفوس هؤلاء الوثنيين. وهذا السجع الديني كان يقابله، كما قدمنا، سجع آخر في خطابتهم بل في كلامهم وأمثالهم التي دارت بينهم. ولعل في ذلك كله ما يدل على أن الجاهليين عنوا بنثرهم كما عنوا بشعرهم؛ فقد ذهبوا يحاولون تحقيق قيم صوتية وتصويرية مختلفة فيه، تكفل له جمال الصياغة وروعة الأداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 خاتمة 1- خلاصة حاولت في الصحف السابقة أن أؤرخ للأدب العربي في العصر الجاهلي؛ فتحدثت عن صفة الجزيرة العربية وتاريخها القديم، وكيف أنها كانت مهد الساميين؛ إذ خرجوا منها موجة في إثر موجة، وكانت موجة العرب الجنوبيين الذين تمموا حوض المحيط الهندي آخر موجاتهم، وكانت تفصلهم من عرب الشمال صحراوات واسعة جعلتهم يستقلون عنهم في لغتهم وخصائصها النحوية، كما جعلتهم يستقلون عنهم في حضارتهم؛ ومع ذلك فقد ظلت قائمة بين الجنوبيين والشماليين أو القحطانيين والعدنانيين صلات اقتصادية ودينية وسياسية أتاحت لهم ضروبًا من التداخل والتشابك. واستطاع الشماليون أن ينفذوا في آخر الأمر إلى صورة خطهم العربي المعروف. ومضيت أتحدث عن العصر الجاهلي وحددته بنحو قرن ونصف قبل الإسلام، أما ما قبل ذلك فهو الجاهلية الأولى، وكل ما بأيدينا من شعر قديم إنما يرجع إلى العصر الجاهلي أو الجاهلية الثانية. ونحن نفاجأ في أول هذا العصر باكتمال الخط العربي، كما نفاجأ بهذا الشعر الناضج الذي يضاف إلى الجاهليين. وأخبارهم واضحة تمام الوضوح؛ فقد كانت تقوم في الشمال إمارات الغساسنة والمناذرة وكندة؛ بينما كانت تتجمع قلوب العرب حول مكة؛ فهي بيت كعبتهم وعبادتهم الوثنية، وهي مركز تجارتهم وقوافلهم التي تربط بين حوضي المحيط الهندي والبحر المتوسط، ووراءها قبائلهم البدوية، وكانت تنتظم قسمين كبيرين من عرب الشمال العدنانيين وعرب الجنوب القحطانيين الذين هاجروا من ديارهم إلى ديار الشماليين منذ أزمان بعيدة. وكانت كل قبيلة وحدة قائمة بنفسها، وهي وحدة دعمتها وشائج متينة. من العصبية. وكان لكل قبيلة سيد ومجلس يضم شيوخ عشائرها، وواجبات السيد دائمًا أكبر من حقوقه، ومن ورائه أفراد قبيلته متضامنين أوثق ما يكون التضامن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وخاصة حين يُطْلَب ثأر أو تنشب حرب. وقد تحولوا بجزيرتهم إلى ما يشبه ميدانًا حربيًّا كبيرًا؛ ففي كل مكان عراك وقتال وفي كل مكان دماء تسيل. ولهم حروب مشهورة سجلها علماء اللغة والأدب في العصر العباسي كحرب البسوس وحرب داحس والغبراء. وانتقلتُ من ذلك أبحث في حياتهم وأحوالهم الاجتماعية ولاحظت أن مجتمع القبيلة كان يتألف من ثلاث طبقات، هي أبناؤها ومواليها وعبيدها. وكان أهم شيء يشد من بنيان هذا المجتمع حرصهم على الشرف وما سموه المروءة؛ إذ كان كل منهم يحرص على البذل والشجاعة والوفاء وحماية الجار وإباء الضيم. وتخللت ذلك آفات، أهمها: الخمر والقمار واستباحة النساء، وقد تأخذ هذه الآفات عند بعض الشباب أمثال طرفة شكل فتوة جامحة، ومن المؤكد أنه كان للمرأة الحرة عندهم منزلة كريمة. ولم تكن معيشتهم واحدة؛ فقد كانت الزراعة منتشرة في الجنوب والشرق وواحات الحجاز، وكان أهل مكة يعيشون على التجارة، على حين كان البدو يعيشون على رعي الغنم والأنعام وصيد الحيوان. وكان بينهم سادة يملكون مئات الإبل وصعاليك لا يملكون شيئًا. ومع أنهم كانوا على صلة بالحضارات المجاورة كانوا لا يزالون أقرب إلى طور البداوة، وكان علم الأنساب أهم علومهم، ولم يكن لهم وراءه إلا معارف محدودة تقوم على التجربة الناقصة كبعض معارفهم الطبية والفلكية. وكانت كثرتهم وثنية تتعبد لآلهة وأصنام وأوثان كثيرة، وكانت الكعبة في مكة أكبر معابدهم، وكانوا يحجون إليها في أشهر معلومات؛ على أن نفرًا منهم شكوا في أواخر هذا العصر في دينهم الوثني والتمسوا دين إبراهيم ويسمون المتحنفة والحنفاء وكأنما كانوا إرهاصًا لظهور الإسلام والدعوة المحمدية، وكانت النصرانية في أثناء ذلك تنتشر في القبائل المحاذية للشام والعراق؛ بينما كان كثير من اليهود ينزلون في واحات الحجاز وفي اليمن، وتعربت كثرتهم إلا أن العرب ظلوا يزدرونهم وينفرون من دينهم. ولما تمَّ لي بيان هذه الجوانب أخذت أبحث في اللغة العربية وعناصرها السامية القديمة، ووقفت عند أقدم لهجاتها المشتة في النقوش، وهي الثمودية واللحيانية والصفوية، تلك التي كتبت نقوشها بالخط المُسند الجنوبي، ثم اللهجة النبطية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وكانت نقوشها تكتب بالخط الآرامي، ومنه نشأ تطور الخط العربي في الحجاز. وتختلف هذه اللهجات الأربع اختلافات كثيرة عن لغة الجاهليين، وإن كان من المؤكد أن اللهجة النبطية أقربها جميعًا إليها، وقد أخذت في الدثور منذ القرن الثالث للميلاد؛ بينما أخذت تحل محلها مقدمات الفصحى بحيث لا نصل إلى نهاية القرن الخامس وأوائل السادس الميلادي، حتى تتكامل تكاملًا تامًّا وتعم بين القبائل النجدية وفي الحيرة وبين الغساسنة، وتصبح هي اللغة العامة المتداولة بين الشعراء. وكانت هناك لهجات قبلية كثيرة؛ ولكن الفصحى ظفرت بها جميعًا في المجال الأدبي، بحيث كان الشعراء في كل قبيلة ينظمون بها مرتفعين عن لهجاتهم القبلية أو المحلية، وقد حار المستشرقون طويلًا في معرفة اللهجة التي سادت بين القبائل في الشمال وأصبحت اللهجة الأدبية الشائعة على كل لسان، وأثبتُّ أنها لهجة قريش؛ إذ تآزرت بواعث دينية واقتصادية وسياسية على أن تتم لها هذه السيادة منذ أوائل العصر الجاهلي. وبحثتُ عقب ذلك في رواية الشعر الجاهلي وتدوينه؛ مبينًا كيف تضافرت جهود القبائل العربية ورجالاتها وشعراؤها على حمله جيلًا بعد جيل، حتى تسلَّمه منهم طبقة من الرواة المحترفين في البصرة والكوفة، وكان بينهم الثقة الذي لا يرتفع شك إلى روايته مثل المفضل الضبي والأصمعي والمتهم الذي يجمع العلماء على إبطال روايته مثل حماد وخلف الأحمر. وفي تضاعيف ذلك كان الشعر الجاهلي يدَّون؛ بحيث لا نصل إلى أوائل القرن الثالث للهجرة حتى يتكامل تدوينه. والذي لا شك فيه أنه دخله انتحال كثير، ولم يكن القدماء غائبين عن ذلك؛ فقد نصوا على كل ما شكوا فيه من رواة ومن شعر، حتى يحيطوه بسياج من التوثيق، أو بعبارة أدق حتى يحيطوا الصحيح منه. ومنذ أواسط القرن الماضي يلم المستشرقون بالمشكلة، واندفع منهم مرجليوث في هذا القرن يزعم أن الشعر الجاهلي جميعه منحول على أهله، وهب كثير من المستشرقين يردُّون عليه، وممن ذهب مذهبه في تعميم الحكم على الشعر الجاهلي بالانتحال والوضع طه حسين، وإن لم يتسع بحكمه اتساع مرجليوث. وعلى هَدْي من آراء طه حسين ومرجليوث جميعًا تناول القضية بلاشير في الجزء الأول من كتابه "تاريخ الأدب العربي" وقد ناقشتُ آراءه وآراء غيره من الباحثين، وانتهيت إلى أن هناك شعرًا منتحلًا كثيرًا لا سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 إلى الثقة به. ولكن بجانبه شعر صحيح رواه الثقات وعلى رأسهم المفضل الضبي والأصمعي، وهو الذي نستند عليه في دراسة الأدب الجاهلي، دراسة نُخضعه فيها لبحث داخلي دقيق. ومن أجل ذلك وقفت عند مصادره لأدل على قيمتها ومدى توثقها. ومضيت أبحث في خصائص الشعر الجاهلي؛ فتحدثت عن نشأته وأنها انطمرت في ثنايا الجاهلية الأولى، بحيث لا نجد منذ أوائل العصر الجاهلي أو الجاهلية الثانية شيئًا نستبين منه طفولته، إنما نجد هذه الصورة النموذجية المعروفة للقصيدة الجاهلية، وهي صورة شاعت بين القبائل جميعًا، وكان للقبائل المضرية منها بالذات الحظ الأوفر. ووقفتُ عند موضوعاته، ولاحظت فيها بقايا من الصلة القديمة بين شعرهم والأناشيد الدينية التي كانوا يرتلونها لآلهتهم؛ كما وقفت عند معانيه ولاحظت أنها حسية تغلب عليها السطحية والتقريرية والسرعة السريعة، أما ألفاظه فكاملة الصياغة حافلة بالصقل والتجويد، زاخرة بقيم موسيقية وتصويرية كثيرة. وأفردت بعد ذلك فصولًا لأربعة من الشعراء، يعدهم النقاد السابقين المجلين في العصر الجاهلي، وهم: امرؤ القيس، والنابغة، وزهير، والأعشى. واعتمدت في دراسة الثلاثة الأولين على رواية الأصمعي لدواوينهم، وبدأت بامرئ القيس؛ فتحدثت عن حياته وكيف دخلتها الأسطورة، ثم تحدثت عن ديوانه، وبحثته بحثًا داخليًّا؛ فإذا أكثر ما يضاف إليه تشويه الريبة بشهادة الأصمعي، واستظهرت أن تكون المعلقة وتاليتها في ديوانه صحيحتين في جملتهما ومثلهما القصيدتان الحادية عشرة والسابعة والعشرون لأنهما من رواية أبي عمرو بن العلاء، الثقة الصدوق. ولا يبقى له بعد ذلك إلا مقطوعات قصيرة تعرض فيها لمن أجاروه ومن رفضوا جواره. واستطعتُ من خلال هذه النصوص القليلة أن أوزع شعره على دورتين في حياته، دورة غلب عليه فيها اللهو والعبث، ودورة ثانية غلب عليه فيها الحزن والإحساس بسوء المصير. وأخيرًا صوَّرتُ خصائصه الفنية مبينًا منزلته في الشعر الجاهلي وكيف عُدَّ أياه غير منازع ولا مدافع. وبحثت بعده النابغة الذبياني؛ فتحدثت عن حياته، وكيف أمضاها في بلاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 المناذرة والغساسنة سفيرًا لقومه الذبيانيين، وكيف كان يحتل بين الشعراء مكانة مرموقة في داخل الجزيرة وفي مكة وسوق عكاظ. وبحثت في ديوانه على ضوء رواية الأصمعي، وأنكرت منها خمس قصائد على رأسها قصيدته في المتجردة وشعره من هذه الناحية أوثق من شعر امرئ القيس لأنه أقرب منه عهدًا، ولم تدخل الأسطورة في حياته ولا في شعره. ووقفتُ عند ما اشتهر به من مديح واعتذار؛ مبينًا قدرته على الوصف ورصف الموضوعات وتنسيق المعاني وابتكار الصور والأخيلة، يهديه في ذلك كله ذوق مهذب، هذبته الحضارة التي نعم بها في الحيرة وعند الغساسنة؛ فإذا هو صاحب حس دقيق وشعور رقيق. وكان يعاصره زهير بن أبي سُلمى المزني، وقد نشأ في بني مرة الذبيانيين بحيث عُدَّ فيهم، وتصادف أن كان خاله شاعرًا وأن كان زوج أمه أوس بن حَجر من كبار الشعراء الجاهليين؛ فحَمَل عنهما جميعًا الشعر، وعاش له يتعلمه ويعلمه شعراء من بيته ومن غير بيته؛ بحيث أصبح أستاذًا لمدرسة عرفت به. وقد وقفت عند ديوانه وأسقطت منه ما أسقطه الأصمعي. ولا حظت أن الشعر عنده انتهى إلى صورة مثالية من التنقيح والتحبير في قوالبه وصيغه تحبيرًا لاحظه القدماء إزاء بعض مطولاته، فقالوا: إنه يصنع القصيدة في حول كامل، وإن له سبع حوليات. وهو يضم إلى هذا التحبير عناية بعيدة بالتشبيهات والاستعارات؛ بحيث يُعَدُّ حقًّا شاعر التصوير في العصر الجاهلي وكان يكثر من الحكم ومن الدعوة إلى الخير والسلام؛ فلا نغلو إذا قلنا إن شعره يعد صورة رفيعة للخير والحق والجمال. وانتقلت إلى الأعشى، فتحدثت عن حياته التي كان ينفقها منتقلًا في أنحاء الجزيرة، ثم عرضت لديوانه، واضطررت لبحثه من خلال رواية يكثر فيها الانتحال، وتصادف أن كان راوية شعره مسيحيًّا، فنحله كثيرًا من الأفكار المسيحية، وتداول شعره القصاص والوعاظ المسلمون، فأضافوا إليه أشعارًا كثيرة، لغرض العظة والاعتبار. كما أضاف إليه الرواة غير قصيدة، كقصيدته رقم24 التي تحكي قصة وفاء السموأل. وجَعَلنا هذا كله نشك في كثير من قصائده وأشعاره، وإذا بنا نرفض أكثرها، ولا نبقي له إلا على نحو عشرين قصيدة. وقد لاحظت عليه غلوًّا في المديح وتأثرًا دقيقًا بالحضارة التي عاصرته في الحيرة؛ حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ليقترب شعره من شعر العباسيين لا في معانيه فحسب؛ بل أيضًا في سهولة ألفاظه وخفة أوزانه. ونفس الموضوعين الأساسيين اللذين يدور فيهما شعره ولا يختلفان في شيء عما نقرؤه للعباسيين ونقصد وصفه للخمر وغزله وتدلهه فيه وما قد يلاحظ عنده من المبالغة وكثرة التضمين. وخرجت من هؤلاء الشعراء المبرزين إلى دراسة طوائف من الشعراء اتفقوا في اتجاه من اتجاهات الحياة الجاهلية؛ فدرستُ أولًا الفرسان وما يصورون في أشعارهم من بطولتهم ومثاليتهم الخلقية الرفيعة. ثم درست الصعاليك وما يصورونه في أشعارهم من غاراتهم وما نحسُّه عند نفر منهم من تسام وعون للفقراء والمعوزين. ثم بحثت في شعراء اليهود مبينًا كثرة ما نحل عليهم. ووقفت عند النصارى من الشعراء أمثال عدي بن زيد العبادي، ولاحظت أن شعرًا كثيرًا زيف عليه. ولا نبالغ إذا قلنا: إن أكثر ما يضاف على أمية بن أبي الصلت، إن لم يكن كله، موضوع منتحل، وتدور الأشعار المضافة إليه في موضوعين أساسيين، هما نشأة الكون وما يتصل بها من خلق السموات والأرض، والموت أو الفناء وما يعقبه من العذاب والثواب. ولما فرغت من بحث الشعر الجاهلي وشعرائه انتقلت أبحث في النثر الجاهلي؛ فلاحظت أن الجاهليين لم يعرفوا الرسائل الأدبية المحبرة، ولكنهم عرفوا القصص والأمثال والخطابة وسجع الكهان. ومن الحق أنهم لم يدونوا شيئًا من قصصهم؛ غير أن ما أضافه العباسيون إليهم يصور غير قليل من روحه وطبيعته. وعرضت لأمثالهم وما كان من ازدهار الخطابة بينهم واصطلاحهم فيها على طائفة من السنن والتقاليد. وكان كهانهم يحاولون التأثير البالغ في نفوس سامعيهم بما يسوقون إليهم من أسجاع وألفاظ غريبة وأقسام وأيمان موهمة. وكل ذلك يؤكد أن الجاهليين حاولوا في نثرهم ما حاولوه في شعرهم من روعة الأداء، حتى يستأثروا بقلوب سامعيهم ويخلبوا عقولهم وألبابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 2- تعليق : واضح أن الصورة السابقة للأدب الجاهلي إنما تعني بإبراز خطوطه الأساسية، ومن المحقق أن هناك خطوطًا صغرى لا يبرزها البحث؛ فنحن مثلًا إنما تحدثنا عن الشعراء المجلين، وتركنا كثيرين لم نكد نلم بهم إلا بعض اقتباسات من أشعارهم نثرناها نثرًا في بعض الفصول؛ وإنما تركنا تفصيل الحديث عنهم، إما لأن ما وصلنا من أشعارهم قليل لا يسوِّي صورة أدبية تامة لهم، وإما لأن الانتحال باد في كثير مما يضاف إليهم من أشعار وأخبار. ولنقف قليلًا عند أصحاب المعلقات الذين لم نفردهم بالدرس، وهم: عمرو بن كثلوم، والحارث بن حلزة، وعبيد بن الأبرص، وطرفة، وعنترة، ولبيد، فأما عمرو والحارث؛ فإنهما مقلان، وقد تشكك ابن سلام في شعر عبيد بن الأبرص، ولم يصحح له سوى المعلقة، وقال: إن شعره مضطرب ذاهب1. أما طرفة فيقول ابن سلام: إنه أشعر الناس واحدة2، وهي قوله: لخَوْلةَ أطلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ ... وقفتُ بها أبكي وأبْكي إلى الغَد3 وفيها أبدع في وصف ناقته؛ إذ لم يترك فيها صغيرة ولا كبيرة إلا رسمها، وكأنه يريد أن ينحت لها تمثالًا، لا يغادر ذاكرة الجاهليين. والتصوير والحكمة جميعًا يتداخلان في شعره، وهو من هذه الناحية يشبه النابغة وزهيرًا، على أنهما يتقدمانه ويفضلانه. وأيضًا فإنه مقل والأسطورة تجري في أخباره؛ ولذلك كله لم نفرده بالبحث. وأما عنترة فقد تحدثنا عنه في تضاعيف كلامنا عن الفرسان، ولبيد مع أنه لحق الجاهلية عاش طويلًا في الإسلام، فأولى أن يدرس في المخضرمين. وقل ذلك نفسه فيمن تركناهم من شعراء الجاهلية غير أصحاب المعلقات؛ فقد تركنا أوس بن حجر لأن فنه يندمج في فن تلميذه زهير، ولأن الرواة خلطوا بين   1 ابن سلام: ص116. 2 ابن سلام: ص115. 3 الرواية المشهورة للشطر الثاني في البيت: "تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أشعاره وأشعار ابنه شُرَيْح1 وعبيد2 بن الأبرص. ونرى ابن سلام يسلك معه في طبقته –وهي الثانية- بشر بن أبي خازم الأسدي وهو مقل، وفي شعره مصنوع كثير3، وجميع الطبقة الثالثة عند ابن سلام من المخضرمين، أما الطبقة الرابعة فسلك فيها طرفة وعبيدًا ومرَّ رأينا في أشعارهما. ونراه يضم إليهما عدي بن زيد العبادي، وأسلفنا الحديث عنه بين أصحاب الديانات السماوية، كما يضم علقمة بن عبدة ويذكر له ثلاث قصائد جياد، ويقول: لا شيء له بعدهن يذكر4، وهو يشتهر بإحسانه لوصف الظليم ونعامته5. وممن ذكرهم ابن سلام في الطبقة الخامسة الأسود بن يعفر النهشلي التميمي، ويقول ابن سلام: "له واحدة طويلة رائعة لاحقة بأجود الشعر لو كان شفعها بمثلها قدمناه على مرتبته"6. أما الطبقة السادسة فنظم فيها عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة، وقد عرضنا لهم بالحديث فيما أسلفنا. وجعل الطبقة السابعة لأربعة مقلين هم حصين بن الحمام المري والمتلمس "خال طرفة" والمسيب بن علس "خال الأعشى" وسلامة بن جندل السعدي التميمي. أما الطبقة الثامنة فنظم فيها عمرو بن قميئة "عم طرفة" وعوف بن عطية بن الخرع، وهم مقلان. وجعل في الطبقة التاسعة الحادرة أو الحويدرة، وقصيدته7: بكرتْ سُمَيَّةُ بُكْرَةً فتمتَّعِ ... وغَدَتْ غدوّ مفارقٍ لم يَرْبَعِ من جيد الشعر ومختاره، وليس له وراءها شعر يذكر. أما الطبقة العاشرة فجميعها مخضرمون أو إسلاميون. وأفرد لأصحاب المراثي فصلًا؛ ولكنه لم يسلك بينهم جاهليًّا. وتحدث عقب ذلك عن شعراء القرى العربية، وأهمهم أمية بن أبي الصلت شاعر الطائف، ومر بنا في حديثنا عن أصحاب الديانات كثرة ما وضع عليه من أشعار. وفي قبيلة عبد القيس بالبحرين شعر جيد، وربما كان خير شعرائها المثقب العبدي المعاصر للنعمان بن المنذر، وهو يسلك في المقلين.   1 الحيوان: 6/ 279. 2 ابن سلام: ص76 – 77. 3 الحيوان: 6/ 279. 4 ابن سلام: ص117. 5 الحيوان: 4/ 366. 6 ابن سلام: ص123. 7 المفضليات رقم8: يربع بالمكان: يقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وليس وراء هؤلاء الذين ذكرهم ابن سلام شعراء فيهم غناء، سوى الصعاليك، وقد أفردناهم بالحديث. ومما لا شك فيه أن الأسطورة تغلب على أخبارهم؛ لاندراج كثيرين منهم في القصص الشعبي، ويشبهه في هذا الجانب حاتم الطائي الذي طالما تحدث الرواة عن كرمه. وواضح من ذلك كله أننا لم نتسع في الترجمة لشعراء الجاهلية؛ لقلة ما بأيدينا من شعر وثيق لهم يقفنا على خصائصهم، ومن ثم اكتفينا بالترجمة للطبقة الأولى منهم تلك التي عني الرواة بدواوينها وأجمعوا على تقديمها وأنها لا تبارَى في حسن الدِّيباجة ورَوْنَقِ الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فهرس الموضوعات صفحة مقدمة 5-6 تمهيد 7-15 1- أدب 7 2- تاريخ الأدب 11 3- تقسيمات تاريخ الأدب العربي وعصوره 14 الفصل الأول: الجزيرة العربية وتاريخها القديم 17-37 1- صفة الجزيرة العربية 17 2- الساميون 22 3- العرب الجنوبيون 26 4- العرب الشماليون 30 5- النقوش ونشأة الكتابة العربية 32 الفصل الثاني: العصر الجاهلي 38-66 1- تحديد العصر 38 2- الإمارات العربية في الشمال "الغساسنة- المناذرة- كندة"40 3- مكة وغيرها من مدن الحجاز 49 4- القبائل البدوية 55 5- حروب وأيام مستمرة 62 الفصل الثالث: الحياة الجاهلية 67-103 1- الأحوال الاجتماعية 67 2- المعيشة 76 3- المعارف 81 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 4 الدين 89 5 اليهودية والنصرانية 97 الفصل الرابع: اللغة العربية 104-137 1 عناصر سامية مغرقة في القدم 104 2 لهجات عربية قديمة 111 3 نشوء الفصحى 117 4 لهجات جاهلية 121 5 سيادة اللهجة القرشية 131 الفصل الخامس: رواية الشعر الجاهلي وتدوينه 138-182 1 رواية العرب للشعر الجاهلي 138 2 رواة محترفون 148 3 التدوين 158 4 قضية الانتحال 163 5 أهم مصادر الشعر الجاهلي.. 176 الفصل السادس: خصائص الشعر الجاهلي.. 183-231 1 نشأة الشعر الجاهلي وتفاوته في القبائل 183 2 الشعر الجاهلي شعر غنائي 189 3 الموضوعات 195 4 الخصائص المعنوية 219 5 الخصائص اللفظية 226 الفصل السابع: امرؤ القيس 232- 265 1 قبيلته وأسرته 232 2 حياته 236 3 ديوانه 243 4 شعره 248 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الفصل الثامن: النابغة الزبياني 266-299 1 قبيلته 266 2 حياته 268 3 ديوانه 275 4 شعره 280 الفصل التاسع: زهير بن أبي سلمى 300- 332 1 قبيلته 300 2 حياته 301 3 ديوانه 304 4 شعره 306 الفصل العاشر: الأعشى 333- 365 1 قبيلته 333 2 حياته 335 3 ديوانه 339 4 شعره 348 الفصل الحادي عشر: طوائف من الشعراء 366-397 1 الفرسان 366 2 الصعاليك 375 3 شعراء آخرون 388 الفصل الثاني عشر: النثر الجاهلي 398- 423 1 صور النثر الجاهلي 398 2 الأمثال 404 3 الخطابة 410 4 سجع الكهان 420 خاتمة 424- 432 1 خلاصة 424 2 تعليق 430 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436