الكتاب: جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف المؤلف: عبد العزيز ين صالح بن إبراهيم الطويان الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1419هـ/1999م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف عبد العزيز بن صالح بن إبراهيم الطويان الكتاب: جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف المؤلف: عبد العزيز ين صالح بن إبراهيم الطويان الناشر: مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1419هـ/1999م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول المقدمة ... جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف تأليف: الدكتور/عبد العزيز بن صالح بن إبراهيم الطويان المقدمة: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار4. وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله الكريم رحمة لهذه الأمة ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه الوحي فيه الهدى والبيان، فدعى إلى التوحيد الخالص ليكون الدين كله لله،   1 سورة آل عمران، الآية [102] . 2 سورة النساء، الآية [1] . 3 سورة الأحزاب، الآيتان [70-71] . 4 هذه الخطبة تسمى خطبة الحاجة، وهي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أفردها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني برسالة، جمع الأحاديث الواردة فيها، وسماها: خطبة الحاجة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وليتأله العباد ربهم تعظيماً، ومحبة، وتوكلاً، ورغبة، ورهبة، وخوفاً، ورجاء، فيوحدوه بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. فدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأظهر الله دينه على الرغم من كيد اليهود، ومكر المنافقين، وحقد المشركين. ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ رسالة ربه، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده: لم يترك خيرا إلا دل عليه، ولا شرا إلا حذر منه. والتحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى بعد أن ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 1. وقد حمل الأماجد الأوائل من المدرسة المحمدية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاعل النور والهدى إلى مشارق الأرض ومغاربها يبلغون رسالة ربهم، فأناروا الأرض بعبادة الله، وإبطال عبادة ما سواه. وضربوا أروع الأمثال في التضيحة والفداء. وقد سار هؤلاء الأماجد؛ أعني بهم الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، على هذا الطريق الواضح على بصيرة من أمر دينهم؛ يرفضون الجاهلية عن علم، ويدعون إلى الله على دراية. وقد دخل في هذا الدين من قصده الإفساد، فحالوا صرف المسلمين عن عبادة ربهم ودراسة كتابه العظيم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بشتى الخطط الماكرة، سالكين بذلك أساليب الشبهات والشهوات، ليكيدوا   1 سورة المائدة، الآية [3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 للإسلام، ويمكروا بأهله مكراً، فظهرت الفرق والمذاهب الهدامة. لكن الله مظهر دينه، وحافظ شريعته، ومعز أوليائه؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 2. وهذا مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ولا نبي بعده، لذلك قيّض الله رجالاً فقهوا كتاب ربهم وسنة نبيهم يذوذون عن هذا الدين تحريف الغالين، وتلبيس الجاهلين، وانتحال المبطلين؛ يردون كل بدعة بالحجج القوية، والبراهين الساطعة. وما زال الله سبحانه يظهر من يجدد ما اندرس من هذا الدين، فيعيد لهذه الأمة شبابها وحيويتها، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله غالب على أمره ولو كره المبطلون. لذلك بقي معتقد السلف ظاهر المعالم، واضح السبل، لا غموض فيه ولا دخن. وكل ذلك بسبب حفظ الله جل وعلا لهذا الدين، ثم بجهود علماء السلف في العناية بإبراز هذه العقيدة الصافية، والذبّ عنها. وكان من هؤلاء العلماء الأماجد الذين ذادوا عن هذا الدين تحريف الغالين، وتلبيس الجاهلين، وانتحال المبطلين: الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - الذي يُعدّ بحقّ علماً من أعلام هذه الأمة المحمدية؛ صرف وقته، وقضى عمره، وبذل جهده في خدمة هذا الدين، والنصح لهذه الأمة، وتوجيهها إلى ما فيه الخير لها في العاجلة والآجلة. فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.   1 سورة الحجر، الآية [9] . 2 سورة التوبة، الآية [33] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 سبب اختيار الموضوع: ولما كان نظام الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية يحتم على طلاب الدراسات العليا الذين يتقدمون للحصول على شهادة العالمية "الماجستير" أن يكتبوا بحثاً علمياً في مجال تخصصهم، فقد بحثت عن موضوع في تخصصي أتقدم به لنيل هذه الدرجة، فأشار عليّ الشيخ الفاضل عبد المحسن بن حمد العباد حفظه الله أن أوضح جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في خدمة عقيدة السلف، وقد رأيت منه استحساناً وتشجيعاً؛ إذ الشيخ عبد المحسن حفظه الله من معاصري الشيخ الشنقيطي - رحمه الله -, وممن أخذ عنه، وسبر شخصيته عن قرب. وقد زادني تشجيعا على الكتابة في ذلك: كون هذا الموضوع لم يطرق من قبل؛ فقد كتب عن الشيخ الأمين - رحمه الله - باحثون أفاضل في مجال التفسير، وأصول الفقه، فأحببت أن أضع في هذا العقد واسطته؛ ألا وهي العقيدة التي علمها أشرف العلوم. أضف إلى ذلك رغبتي في الاطلاع عن كثب على علم هذا العلامة الفاضل، والاستفادة مما كتب من تآليف تُعدّ بحق موسوعة علمية ترشد إلى تبحر هذا الإمام في مختلف الفنون، وخاصة العقيدة. والشيخ الأمين - رحمه الله - من مؤسسي الجامعة الإسلامية، وكان له جهود في إبرازها، ورقيها، ولكفاءته النادرة ذاع صيتها، واشتهرت عالمياً في شتى نواحي العلم والمعرفة الإسلامية. فكان من الواجب إبراز جهوده بالدراسة والبحث. منهجي في هذا البحث: وأما عن منهجي في هذا البحث فيتلخص فيما يأتي: أولاً: جمعت الجزئيات المتعلقة بالعقيدة مما قاله الشيخ - رحمه الله -, أو كتبه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يستوي في ذلك المسموع، والمطبوع، والمخطوط. ثانياً: وزّعت المادة العلمية التي جمعتها على أبواب العقيدة، مقسماً تلك الأبواب إلى فصول، والفصول إلى مباحث، والمباحث، إلى مطالب، وهكذا دواليك –حسب مقتضى الحال -. ثالثاً: عند دراسة أي مسألة من مسائل العقيدة التي عرضها الشيخ الأمين - رحمه الله - وقررها، أبدأ هذه المسألة بمدخل عام لها، أتبعه بذكر رأي الشيخ فيها ملخصاً بأسلوبي، ومن ثم أنقل كلام الشيخ الأمين - رحمه الله - المؤيد لما ذكرت. وبعد ذلك أذكر أقوالاً لبعض السلف في هذه المسألة مدللاً بذلك على أن كلام الشيخ - رحمه الله - موافق لمذهبهم، وأن الشيخ - رحمه الله - متبع لهم يسير على منهجهم ويترسم خطاهم. رابعاً: إذا كان للشيخ - رحمه الله - رد على طائفة معينة ابتدعت رأياً في مسألة ما خالفت فيه معتقد السلف، أورد ذلك مصوراً رأي الفرقة التي يرد عليها في هذه المسألة، وناسباً هذا الرأي إلى مظانه في كتب الفرق، ثم أتبع ذلك بذكر كلام الشيخ في تفنيد هذه المسألة. خامساً: عند الترجمة للشيخ الأمين - رحمه الله - اعتمدت في الغالب على ما تلقيته مشافهة من بعض تلاميذه من معلومات تتصل بالشيخ، وشخصيته، وصفاته، وحياته العلمية. سادساً: عزوت الآيات القرآنية الواردة في البحث إلى مواضعها في القرآن الكريم، ذاكراً اسم السورة، ورقم الآية. سابعاً: خرّجت الأحاديث الواردة في البحث من كتب السنة: فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إلى موضعه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الصحيح. وإذا لم يكن في الصحيحين اجتهدت في تخريجه من كتب السنة الأخرى ناقلا قول علماء أهل الشأن فيه؛ من تصحيح أو تحسين أو تضعيف. ثامناً: اجتهدت في الترجمة لأعلام ورد ذكرهم في هذه الرسالة. خطة البحث: وقد سرت في هذا البحث على الخطة التالية: قسمت الموضوع إلى مقدمة، وتمهيد، وبابين، وخاتمة. أما المقدمة: فقد اشتملت على أهم الدوافع التي حملتني على الكتابة في هذا الموضوع، وعلى منهج البحث، والخطة التي سرت عليها. وأما التمهيد: فقد خصصته للتعريف بالشيخ محمد الأمين - رحمه الله - وعقدت له فصلين: الفصل الأول: في الكلام عن حياة الشيخ الشخصية: وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: نسبه، وولادته. المبحث الثاني: نشأته. المبحث الثالث: قدومه المملكة، واستقراره فيها، واستقبال العلماء له. المبحث الرابع: صفاته الخِلْقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 المبحث الخامس: صفاته الخُلُقية. المبحث السادس: أدبه، وذكاؤه، وظُرَفُه، وبعض مواقفه وأقواله. المبحث السابع: وفاته. الفصل الثاني: في الحديث عن حياته العلمية، وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: طلبه للعلم وشيوخه. المبحث الثاني: عقيدته. المبحث الثالث: أعماله، ووظائفه. المبحث الرابع: تلاميذه. المبحث الخامس: مؤلفاته. المبحث السادس: ثناء العلماء عليه. أما الباب الأول: فقد بينت فيه جهود الشيخ الأمين - رحمه الله - في توضيح الإيمان بالله. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في توحيد الربوبية. الفصل الثاني: في توحيد الألوهية، وفيه أربعة مباحث. المبحث الأول: تعريف التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الثاني: براهين التوحيد، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: دلالة الصفات على توحيد الألوهية. المطلب الثاني: البراهين الكونية. المطلب الثالث: بطلان إلهية ما سوى الله. المبحث الثالث: أنواع العبادة. وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: الدعاء. المطلب الثاني: التوكل. المطلب الثالث: الولاء والبراء. المطلب الرابع: الخوف والرجاء. المطلب الخامس: الحكم بما أنزل الله. المبحث الرابع: ما يضاد إخلاص العبادة. وفيه ستة مطالب: المطلب الأول: الشرك بالله. المطلب الثاني: الذبح لغير الله. المطلب الثالث: ادِّعاء علم الغيب. المطلب الرابع: الحلف بغير الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المطلب الخامس: السحر. المطلب السادس: البناء على القبور. الفصل الثالث: توحيد الأسماء والصفات. وفيه مبحثان: المبحث الأول: جهوده في إبراز عقيدة السلف في توحيد الأسماء والصفات. وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات. المطلب الثاني: الأسس التي يقوم عليها معتقد السلف في الصفات. المطلب الثالث: قواعد في الصفات. المطلب الرابع: ذكر جملة من الصفات التي ذكرها الشيخ الأمين. المبحث الثاني: موقف الشيخ الأمين من أهل التأويل. وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: معاني التأويل. المطلب الثاني: بعض شبه أهل التأويل، ورد الشيخ الأمين - رحمه الله - عليها. المطلب الثالث: مقارنةٌ بين مذهب السلف، ومذهب الخلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المطلب الرابع: رجوع بعض أئمة أهل التأويل إلى معتقد السلف. أما الباب الثاني: فبينت فيه جهود الشيخ في توضيح بقية مباحث الإيمان. وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: الإيمان بالملائكة. الفصل الثاني: الإيمان بالكتب. الفصل الثالث: جهوده في توضيح النبوات. وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: الإيمان بالأنبياء. وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: دعوة الرسل واحدةٌ. المطلب الثاني: الرسل لا يعلمون الغيب. المطلب الثالث: عصمة الأنبياء. المطلب الرابع: أولو العزم من الرسل. المطلب الخامس: هل آدم رسول أم نبي؟. المبحث الثاني: حقيقة الخضر. وفيه مطلبان: المطلب الأول: هل الخضر نبي أم وليّ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المطلب الثاني: هل الخضر حي أم ميت؟. المبحث الثالث: الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: عموم رسالته. المطلب الثاني: احترامه. المطلب الثالث: تعظيمه. المطلب الرابع: حياته البرزخية. المبحث الرابع: معجزات بعض الأنبياء. وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: من معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. المطلب الثاني: من معجزات موسى عليه السلام. المطلب الثالث: معجزة صالح عليه السلام. الفصل الرابع: جهود الشيخ الأمين في توضيح اليوم الآخر. وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: بعض أشراط الساعة: وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: نزول عيسى عليه السلام. المطلب الثاني: يأجوج ومأجوج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المطلب الثالث: بعض العلامات الصغرى. المبحث الثاني: القبر: وفيه مطلبان: المطلب الأول: عذاب القبر. المطلب الثاني: سماع الموتى. المبحث الثالث: البعث: وفيه مطلبان: المطلب الأول: براهين البعث. المطلب الثاني: الحشر. المبحث الرابع: الميزان. المبحث الخامس: الصراط. المبحث السادس: الجنة: وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: نعيمها، وبقاؤها. المطلب الثاني: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة. المطلب الثالث:هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلمربه ليلة المعراج؟ المبحث السابع: النار: وفيه مطلبان: المطلب الأول: عذابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 المطلب الثاني: الرد على من قال بفنائها. الفصل الخامس: جهود الشيخ في توضيح الإيمان بالقدر: وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: مراتب القدر. المبحث الثاني: الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. المبحث الثالث: الهداية. المبحث الرابع: أفعال العباد بين الإفراط والتفريط: وفيه ثلاثة مطالب. المطلب الأول: وسطية أهل السنة والجماعة في أفعال العباد. المطلب الثاني: موقف الشيخ الأمين من الجبرية. المطلب الثالث: موقفه من القدرية النفاة. الفصل السادس: حقيقة الإيمان: وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: تعريف الإيمان. المبحث الثاني: الفرق بين الإسلام والإيمان. المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه. المبحث الرابع: مراتب المؤمنين. المبحث الخامس: الكبائر. المبحث السادس: حكم أهل الفترة. الفصل السابع: جهود الشيخ الأمين في توضيح الإمامة. ثم الخاتمة: وقد ذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها. وفي الختام أشكر الله العلي القدير على توفيقه لي لإتمام هذا البحث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وأسأله سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله بقبول حسن. ثم أتقدم بالشكر الجزيل للقائمين على هذه الجامعة المباركة، وفي مقدمتهم فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح العبيد على ماقدموه لأبناء العالم الإسلامي من زاد روحي ومعنوي. كماأتقدم بالشكر إلى شيخي الفاضل فضيلة الدكتور أحمد بن عطية الغامدي على حسن تعامله معي، وصبره علي، وعلى حسن توجيهه وملاحظاته القيمة التي كان لها أكبر الأثر في إظهار هذا البحث بمظهره الذي هو عليه. كما أشكر الشيخين الفاضلين فضيلة شيخنا الشيخ عبد المحسن بن حمد العبّاد، وفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن سعد السحيمي على تفضلهما بقراءة هذه الرسالة وتجشمهما عناء تصويبها، سائلا الله عز وجل أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهما، كما أشكر جميع من أسدى إليّ نصحاً أو مشورة، راجيا من الله أن يجزيهم خير الجزاء. وفي الختام أرجو من الله العلي القدير أن يعمنا بدعوة الشيخ الأمين - رحمه الله - حيث يقول: "ونرجو الله القريب المجيب إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك أن يجعلنا مباركين أينما كنا، وأن يبارك لنا وعلينا، وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة، وأن يعم جميع إخواننا المسلمين الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات في الدنيا والآخرة إنه قريب مجيب"1. هذا وإني لأسأل الله العفو والغفران لما بدر مني من خطأ وزلات وأن يمن عليّ وعلى إخواني المسلمين بتوفيقه إنه جواد كريم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.   1 أضواء البيان 7/31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 التمهيد الفصل الأول: حياة الشيخ الأمين الشخصية المبحث الأول: نسبه، وولادته ... المبحث الأول: نسبه، وولادته نسبه: هو العلامة محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح بن محمد بن سيدي بن أحمد بن المختار. من أولاد الطالب أوبك. وهذا من أولاد أولاد كرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكن الأبر؛ جد القبيلة الكبيرة المشهورة المعروفة بالجكنيين، ويعرفون بتجكانت. ويرحع نسب القبيلة إلى حِمْيَر1. لقبه: آبّا؛ بمد الهمزة، وتشديد الباء من الإباء2. ولادته: ولد رحمه الله (عام1325هـ) ، وكان مسقط رأسه رحمه الله عند ماء يسمى (تَنْبه) ؛ من أعمال مديريةكيفا" من القطر المسمى بشنقيط"؛ وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن. علماً بأن كلمة شنقيط" كانت، ولا تزال تطلق على قرية من أعمال مديرية أطار" في أقصى موريتانيا في الشمال الغربي3.   1 انظر ترجمته بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم في أضواء البيان: 1/19. 2 انظر المصدر نفسه: 1/18. 3 انظر المصدر نفسه: 1/19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المبحث الثاني: نشأته نشأ - أحسن الله مثواه - في جو يغلب عليه طلب العلم، وروح الفروسية، وقد نما وترعرع وشب متأثراً بالوسط القبلي المحيط به؛ وهو وسط تحتضنه البادية، ويغلب عليه التنقل من مكان إلى آخر طلباً للمناخ الأصلح. وإلى هذا يشير أحد مشايخ الجكنيين1 إذ يقول: ونحن ركب من الأشراف مُنتظم أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة بها نبين دين الله تبيانا فهو يصف قومه بأنهم ركب" للدلالة على استمرار تنقلهم، ويرى أدنى فرد من قبيلته أعلى مكاناً من أعاظم رجال عصره، وأنهم مواظبون على مذاكرة العلم، لايمنعهم منه حل وترحال. إنه العلم الذي يثبت في القلوب دين الله، ويوضح لطالبيه أحكام الشريعة2. أما كرم الطبع في هذه القبيلة: "فهو سجية في جميعهم، وأمر يشب فيه الصغير، ويشيب عليه الكبير. وقد ألفوا الضيف لنجعة منازلهم. ومن عاداتهم إذا نزل وفد على بيت فإن أهل هذا المنزل يرسلون لأهل بيت المضيف حتى لو كان معدماً غداً واجداً، ويرحل الوفد وهو في غاية الرضا. وفي ذلك الجو، وفي تلك البيئة نشأ الأمين رحمه الله. يخبر - رحمه الله - عن أحداث فترة طفولته بقوله: "توفي والدي وأنا   1 هو العلامة المختار بن بونا. انظر: ترجمة الشيخ الأمين بقلم تلميذه عطية سالم1/20. 2 علماء ومفكرون عرفتهم/لمحمد المجذوب ص171-172، في ترجمته الشيخ الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 صغير أقرأ في جزء عم، وترك لي ثروة من الحيوان والمال. وكانت سكناي في بيت أخوالي، وأمي ابنة عم أبي. وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم بن أحمد نوح؛ جد الأب المتقدم" 1.   1 انظر ترجمة الشيخ الأمين/بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم في أضواء البيان 1/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المبحث الثالث: قدومه إلى المملكة، واستقراره بها، واستقبال العلماء له كان خروج الشيخ الأمين - رحمه الله - من بلاده لأداء فريضة الحج في السابع من شهر رجب، عام (1367هـ) ، على نية العودة. وكان سفره براً، وقد كتب أثناءه رسالة سماها رحلة الحج"، ضمنها مباحث جليلة1. وبعد وصوله إلى هذه البلاد في أواخر شهر ذي القعدة، من عام (1367هـ) تجددت نية بقائه. ومن عجيب الاتفاق أن ينزل رحمه الله في بعض منازل الحج، بجوار خيمة الأمير خالد السديري دون أن يعرف أحدهما الآخر. وكان الأمير يبحث مع جلسائه بيتاً في الأدب، وهو ذواقة أديب. وامتد الحديث إلى أن سألوا الشيخ لعله يشاركهم، فوجدوا بحراً لا ساحل له. ومن تلك الجلسة وذاك المنزل بدأت العلاقة والمعرفة، وأوصاه الأمير إن هو قدم المدينة أن يلتقي بالشيخين؛ الشيخ عبد الله بن زاحم، والشيخ عبد العزيز بن صالح رحمهما الله، وفي المدينة التقى بهما رحمه الله، وكان صريحاً معهما فيما يسمع عن البلاد، وكانا حكيمين فيما يعرضان عليه ما عليه أهل هذه البلاد من مذهب في الفقه ومنهج في العقيدة. وتوطدت العلاقة بين الطرفين، وتجددت رغبة متبادلة في بقائه لإفادة المسلمين، ورغب رحمه الله في هذا الجوار الكريم، وكان يقول: "ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم2. ويحدثني الدكتور محمد الخضر الناجي عن أول قدوم الشيخ رحمه الله، وسبب بقائه؛ فيقول: "كان هناك وصية من الملك عبد العزيز أنه قدم   1 خرج -رحمه الله- من بلاده في 7/7/1367?، وصل الديار المقدسة في أواخر ذي القعدة من العام المذكور، انظر رحلة الحج للشيخ الأمين ص41، 254. 2 ترجمة الشيخ بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم انظر: أضواء البيان 1/35-37 بتصرف، وانظر عن تاريخ خروجه ووصوله إلى الأماكن المقدسة كتاب رحلة الحج له، ص41، 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أحد من العلماء الكبار يحتفظون به، ويحاولون إبقاءه في البلاد هنا. فجاء أحد الإخوة، اسمه الشيخ أحمد خون، وأخبر به المحكمة الشرعية، واجتمعوا به، وتكلم معهم، وأعجبوا به، وأرسلوا إلى الملك عبد العزيز بأنهم وجدوا طلبته، فأمر أن يقيم هنا". وهذا لايعارض ماكان في موسم الحج مع الأمير خالد السديري؛ فهذا حصل في موسم الحج، وهذا حصل في المدينة. ولا مانع من الجمع بين هاتين الوصيتين؛ لأن الوصية كانت عامة من الملك عبد العزيز - رحمه الله -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المبحث الرابع: صفاته الخِلقية كان - رحمه الله - أسمر اللون، ربعاً معتدلاً، قوي البنية والعضلات، عظيم الهامة، معتدلاً في الضخامة، ليس بالضخم ولابالرقيق. إلا أنه في آخر حياته حين اشتد به المرض رق جسمه كثيراً1. وقال عنه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: "لو مر في جمع من الناس وأنت لاتعرفه، لقلت هذا عالم كبير؛ لما تلمحه فيه من النبوغ والألمعية، ولما عليه من جلالة العلم، ووقار العلماء" 2. وقال ابنه د. محمد المختار: "إن والده كان شجاعاً، قوي البنية. وقد صرع رجلاً مشهوراً بالقوة.   1 نقلاً عن الأستاذ محمد الأمين بن الحسين؛ أحد تلاميذ الشيخ، والمدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية، وذلك في مقابلة أجريتها معه. 2 نقلاً عن كتاب: منهج الشيخ الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام، للسديس ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المبحث الخامس: صفاته الخُلقية كان الشيخ الأمين - رحمه الله - يتمتع بأخلاق ومزايا فاضلة عديدة حدثني عن بعضها تلميذه: "الدكتور محمد الخضر الناجي، فقال: "من أخلاقه الفاضلة أنه لاينتقم لنفسه. ويحب إذا كان له يد في الحصول على مصالح عامة يحاول أن يتساوى فيها إخوانه ولايفرق بين قريب وبعيد فيهم. ومن أخلاقه أيضاً أنه كان يتبسط مع إخوانه في الفكاهة والممازحة التي تدخل عليهم السرور، وله ملح ونوادر كثيرة في هذا المجال من غير أن يؤذي أحداً. وكنا نعتبر مجالسه مع الأخوان أيام أعياد وأعراس؛ كأننا نجلس في بستان ذي فواكه كثيرة، وذي أفنان كثيرة؛ مرة في العلم، ومرة في المرح، ومرة في النكت، ولايمكن أن يتعرض لشخص إلا غضب غضباً شديداً. ومن أخلاقه الفاضلة قضاء حاجة الضعيف، وغض الطرف عن زلة من زل عليه، وعن إساءة من أساء إليه -رحمه الله-"1. كما أنه -رحمه الله - كان معروفاً بفضائل أخرى، حدثني عن بعضها تلميذه الأستاذ محمد الأمين بن الحسين، فقال: "إنه -رحمه الله - معروف بسعة الخاطر، وعدم الغضب؛ فكانت الناس تعجب من عدم غضبه؛ فكل من قال له مالايرضيه يقابله بالحسنة على الرغم من أنه كان من قبيلة ذات شوكة وخطورة ولاتخاف من أحد، وأهله كذلك. لكنه -رحمه الله - من صغره لم يعلم أنه أساء إلى أحد، أو قابل أحداً إلا بشيء حسن. وكان كريماً، ومن كرمه أنه قال لي: "لم يسألني أحد قرضة من مال وأقرضه؛ ذلك لأنه إن كان عندي أعطيته ولم أقرضه، وإن لم يكن عندي طلبه فذلك شأن آخر. وما   1 نقلاً عن الدكتور محمد الخضر الناجي/ الأستاذ في جامعة أم القرى، وهو أحد تلاميذ الشيخ -رحمه الله-، من حديثه عن الشيخ في المقابلة التي أجريتها معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 يسأله أحد من ماله زائد عنه إلا أعطاه إياه، وهذا نعلمه. وكان -رحمه الله - يأخذ من راتبه ويعطي لكل ضعيف من جماعته امرأة أو رجل صدقة سراً وعلانية. وكان -رحمه الله - يحمل لواء جماعته هنا وهناك في إدارة مصالحهم. فكان جمع بين الدنيا والآخرة -رحمه الله-.وكان مهاباً لا يجلس في مجلس -حسب علمي به، وكثرة ملازمتي له - يستطيع أحد أن يناقشه في مسألة سواء جدية أو هزلية. وكان كثير القيام بالليل، كثير المطالعة، كثير قراءة القرآن والتدبر فيه" 1. وأخبرني الأستاذ محمد الأمين بن الحسين عن بعض أخلاق الشيخ الأمين -رحمه الله - أيضاً، فقال: "أمور الرجولة متناهية فيه كلها؛ فصيح اللسان، خطيب، إذا أراد أن يتكلم، لايستطيع أحد الحاضرين الكلام معه لا في مسألة جدية ولا هزلية ولامداعبة ونحو ذلك. وكان حسن المجلس، صاحب دعابة خالية من الغيبة، وخالية من القدح، ومما يغضب الناس. ولم يُغضب أحداً حسب علمي" 2. وقد حدثني ولده الدكتور عبد الله أن والده لم يكن يؤثرهم على تلاميذه وإخوانه؛ ومن أمثلة ذلك: "أن سيارة الشيخ رحمة الله عليه كان يركبها من يسبق إليها، وكنت مرة ذهبت معه رحمة الله عليه في وقت حار إلى المسجد النبوي، ولما جئت معه إلى السيارة بعد الظهر، وجدناها امتلأت. فقال لي: "ياولدي اذهب على رجليك. فأراد أحد الركاب أن ينزل، فقال: "لاتنزل أنت سبقته. فكانت السيارة؛ من سبق إليها يركب، ومن تأخر - ولو ابنه - يمشي على رجليه"3.   1 نقلاً عن الأستاذ محمد الأمين بن الحسين؛ أحد تلاميذ الشيخ، والمدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية. 2 نقلاً عن الأستاذ / محمد الأمين بن الحسين. 3 نقلا عن الدكتور عبد الله بن الشيخ محمد الأمين، ويشغل حالياً منصب عميد كلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وكان -رحمه الله - لايرد الزوار عن بيته، ولا يقول لأحد لا تدخل، ولم يكن على بيته حاجب. ولكن إذا كان يشتغل وجاء الزوار، فإذا رأوه يشتغل إما أن يخرجوا أو يجلسوا، وكانوا إذا جلسوا يتفرغ لهم، ويترك عمله. وكان -رحمه الله - ينصح للمسئولين، وإذا رأى ما لا ينبغي يكتب لهم، ويقول لهم دائماً: "أنتم أكرمكم الله بالحرمين، ومادمتم تتمسكون بهذا الدين فإن الله لن يضيعكم1. زهده في الدنيا: يتحدث الشيخ عطية سالم عن زهد شيخه الشيخ الأمين -رحمه الله - في الدنيا، فيقول: "الواقع أن الدنيا لم تكن تساوي عنده شيئاً، فلم يكن يهتم لها. ومنذ وجوده في المملكة، وصلته بالحكومة حتى فارق الدنيا لم يطلب عطاء، ولامرتباً، ولا ترفيعاً لمرتبه، ولاحصولاً على مكافأة أو علاوة. ولكن ماجاءه من غير سؤال أخذه، وماحصل عليه لم يكن يستبقيه، بل يوزعه في حينه على المعوزين؛ من أرامل ومنقطعين. وكنت أتولى توزيعه وإرساله من الرياض إلى كل من مكة والمدينة. ومات ولم يخلف درهماً ولاديناراً. وكان مستغنياً بعفته وقناعته، بل إن حقه الخاص ليتركه تعففاً عنه؛ كما فعل في مؤلفاته وهي فريدة في نوعها، لم يقبل التكسب بها، وتركها لطلبة العلم. وسمعته يقول: "لقد جئت معي من البلاد بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة وأخشى عليه الضياع. فقلت له: "وما هو؟ قال القناعة. وكان شعاره في ذلك قول الشاعر:   1 نقلاً عن الدكتور عبد الله بن الشيخ محمد الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي وكان اهتمامه بالعلم، والعلم وحده، وكل العلوم عنده آلة ووسيلة، وعلم الكتاب وحده غايته"1. وحدثني ابنه عبد الله حفظه الله عن زهده فقال: "كان -رحمه الله - لايريد الدنيا، ولايهتم بها، ويحرص على الاقتصاد".ويقول: "الذي يفرحنا أن الدنيا لو كانت ميتة لأباح الله منها سد الخلة. وكان يقول: "لم أقترض قط لأحد، ولم أبع، ولم أشتر، وترك لي والدي ثروة فكنت أعيش منها، وكان عندي كنز عظيم أرجو الله أن لا يضيع مني؛ هو القناعة"2. وقد أخبرني أيضاً أنه كان في المدينة، وكان لايوجد عنده أي مال، وقد وعده أحد جيرانه أن يقترض له مالاً. ولما أراد الشيخ - رحمه الله - أن يأتيه وجده يشتغل، وعليه ملابس متبذلة، فرجع عنه وكأنه وجد في نفسه قليلاً أنه في عازة. قال: "ولم أشعر حتى خررت ساجداً في الطريق في الغبار، ورفعت رأسي وعندي فرح ونشوة لايعلمها إلا الله إكراماً لما أعطاني من العلم، فكيف أريد دنيا وربي أكرمني بالعلم، وبفهم كتاب الله. فذهبت إلى البيت وكأن الدنيا كملت لي لاستشعاري نعمة الله عليّ بما أعطاني من فهم القرآن. وقد سد الله لي تلك الحاجة من غير أن أسأل أحداً ونذهب لأحد إكراماً منه وفضلاً"3. وأخبرني ولده عبد الله أيضاً، قال: "كان - رحمه الله - يخاف من الدنيا، ويكلمني بقوله: "احذر من الدنيا؛ فإنها كالماء المالح، والشيطان يكذب عليك ويقول: "اجمع الأموال لتتصدق بها، وتبني بها المدارس، وتعمل بها   1 انظر ترجمة الشيخ بقلم تلميذه الشيخ عطية محمد سالم، المدرس في المسجد النبوي، والقاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة في مقدمة أضواء البيان 1/61 – 62. 2 نقلاً عن الدكتور/ عبد الله بن الشيخ محمد الأمين. 3 نقلاً عن الدكتور/ عبد الله بن الشيخ محمد الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الأربطة. وهو يكذب عليك يريد أن يضيع وقتك، فإذا جمعت المال لا أنت تعطيه للناس، ويشغلك عن عبادة الله، فهذا شيطان يريد أن يصرفك عن ما هو خير لك، وأنا أقدر الناس على أن أكون أغنى الناس، وتركت الدنيا لأني أعلم إذا تلطخ بها العبد لا ينجو منها إلا من عصمه الله. ولم يوجب الله عليك أن تجمع الأموال لكي تتصدق بها على الناس، فاحذر ياولدي من الدنيا واعلم أنها كالماء المالح، وأن أهل الدنيا في شغل وتعب؛ فصاحب الدنيا النهار يشتغل في البضاعة والتجارة، وفي الليل يفكر فيها، ويموت عنها، وقد لا يترحم عليه الورثة، يقولون: "هذا ماله مات عنه. فاحذر يابني من الدنيا"1. وأخبرني الدكتور محمد الخضر الناجي حفظه الله: "أن الشيخ لما كان في القاهرة للعلاج، وكانت السفارة تلبي رغبة الشيخ، فلما انتهى من العلاج، حسب البقية الباقية عنده من المادة التي أرسلتها الحكومة، وقال ليس لنا هذا، أعطوه لمندوب السفارة. وجاء مندوب السفارة وقال له: "سوف لن ينتفع بذلك أحد، وهذا ياشيخ لك، والحكومة أعطته لك، فقال: "أرسلوه لي لغرض العلاج، والعلاج قد انتهى، لن نأخذه". وكان -رحمه الله - زاهداً في الملبس، لايأبه للثياب، ولايبالي بها؛ حدثني الأستاذ محمد الأمين بن الحسين قال: "حضرته يوماً في الرياض، وكان قادماً لإلقاء محاضرة في المعهد العالي للدعوة، وكان عليه ثوب لايناسب في نظري الحضور، فقلت له: "نغير لك هذا الثوب؟ فقال: "يافلان القضية ليست بالثياب، وإنما ما تحت الثياب من العلم. ونحو ذلك". حذره من الغيبة، وتحذيره منها: لم يكن الشيخ الأمين -رحمه الله - يغتاب أحداً، أو يسمح بغيبة أحد في   1 نقلاً عن الدكتور/عبد الله بن الشيخ محمد الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 مجلسه. وكثيراً مايقول لإخوانه: "تكايسوا" أي من الكياسة والتحفظ من خطر الغيبة. ويقول: "إذا كان الإنسان يعلم أن كل مايتكلم به يأتي في صحيفته، فلا يأتي فيها إلا الشيء الطيب"1. وأخبرني ابنه عبد الله أن والده كان يكره الكلام في الناس، أو التكلم في الدنيا، وكان لا يرضى من طلابه، ولا من جلسائه أن يغتابوا أحداً، ويقول لهم: "يا أبنائي وإخواني إن قتل الأولاد وأخذ الأموال يهون، لكن أخذ حسناتي وأنا شايب فهذا لاسكوت عليه، هذا خور وضعف، وأنا رجل مؤمن وهذه البقعة ملكنيها الله فلا يكون لأحد الغيبة فيها، ولا تأكلوا لي أعراض الناس. والله لو أخذتم مالي لتغاضيت عنكم، ولكن تأخذوا لي حسناتي وأنا شايب، هذا لا صبر لي عليه".وقد كنت يوماً أنا وأحد الطلاب، وكان عنده شيخ يصحح عليه تأليفاً له، وكنا في مكة، فقال أحد الجلوس: "ويكره التأليف من مقصر. فضحكت أنا، فغضب، وقال: "يابني ماذا فعلت لك؟ كيف تأكل الغيبة في المسجد الحرام". ورعه عن الفتيا: أخبرني ابنه عبد الله أنه في آخر حياته أصبح لايتكلم إلا في كتاب، أو سنة. ويقول: "كلام الناس لا أضعه في ذمتي. إذا كان عندي على المسألة نص من كتاب أو سنة أقول بها، وإذا لم يكن عندي نص أقول: "الله أعلم؛ لأن الله يقول: "ولاتقف ماليس لك به علم".وفي يوم من الأيام جاءه طلبة من الكويت، وسألوه عن مسائل من الأمور المستحدثة، فقال الشيخ: "أجيبكم من كتاب الله تعالى".فاشرأبت أعناق الحضور لسماع هذه الإجابة من كتاب الله تعالى، فقال: "أقول لكم: الله أعلم، والله تعالى يقول:   1 انظر ترجمة الشيخ بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم في مقدمة أضواء البيان1/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1.والله لا أعلم فيها شيئاً من كتاب ولا سنة. وكلام الناس لا أضعه في ذمتي، اذهبوا إلى غيري". وحدثني الدكتور محمد الخضر الناجي عن هذه المزية العظيمة من مزايا الشيخ - رحمه الله - بقوله: "من أفضل أخلاقه التي تعلمتها منه: هو قوله: "لا أدري" حين يستفتى في بعض الأحيان، والوقف عند مايشتبه من الأمور. ولي معه موقف في هذا الشأن؛ وهو أنني معه ذات يوم، ثقل عليّ الحال لكثرة قوله: "لا أدري، والله أعلم".فاجتمعنا مرة منفردين ليس معنا أحد سوى الله عزّ وجلّ. فقلت له ياشيخي أنتم تقولون دائماً في دروسكم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك هذه الشريعة محجة بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ومقتضى هذا أنها واضحة لا لبس فيها ولا غموض يخفى على أحد. ونحن نسأل من نثق بعلمه ومعرفته، فكثيراً ما يجيبنا: "لا أدري.-وأنا بالذات أعنيه هو -.فقال: "يابنيّ هذا بيّنه حديث: "إنّ الحلال بيّن وإن الحرام بينّ، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام "2.وحديث: "دع مايريبك إلى مالايريبك" 3؛ ومعنى هذا أنه إذا كان الأمر حلالا، وحليته واضحة، فقل: حلال، ولاتبالي. وإذا كان الأمر حراماً ودليله واضح فقل: حرام، ولاتبالي. وإذا كان مشتبهاً ليس دليل حرمته ولاحليته واضحاً، فالطريق الواضح أمامك، والذي هو كالمحجة البيضاء أن تقول: "لاأدري؛ فهذا هو معنى كونه ترك الناس على محجة بيضاء؛ لأنّ هذا   1 سورة الإسراء، الآية [36] . 2 أخرجه البخاري3/4. وأخرجه مسلم3/1219-1220. 3 أخرجه الترمذي في سننه 4/668، وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد في مسنده1/200، ووصف محقق رياض الصالحين إسناده بأنه صحيح انظر رياض الصالحين ص278. وقال الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح 2/845:رواه النسائي، وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الحديث حديثه صلى الله عليه وسلم. فاسترحت لهذا الجواب كثيراً؛ إذ جاء به من غير تكلف، وبوضوح". حبه للرماية: أخبرني ابنه عبد الله عن والده أنه كان يحب الرماية والسباحة، وكان عنده في البيت شوزن، وساكتون، وفي كلّ يوم خميس يذهب إلى الصيد1. وقال لي الدكتور/محمد الخضر الناجي: "ذهبنا مرة إلى العاقول، خارج حدود الحرم. واصطاد الشيخ حمامة في السماء، فرجعت إليها صاحبتها تحوم فوقها، فتعرضها بالبندقية فضربها فأسقط الثنتين". وأخبرني الأستاذ/محمد الأمين بن الحسين قال: "كان الشيخ -رحمه الله - يوماً من الأيام مع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن، وكان صديقاً له، وكانوا في بستان في الرياض. فقال يمزح مع الشيخ: "تقولون إنكم عرب وأهل رماية للأهداف، فهل تستطيع أن ترمي ذلك الطير - وكان يراه من بعيد-.فأخذ البندقية أحد تلاميذ الشيخ، فضربه فلم يصبه. فأخذ الشيخ -رحمه الله - البندقية بعد أن أبعد الطير جداً، فرماه بتلك البندقية واصطاده، فأعجب الحاضرون بذلك. وكان -رحمه الله - يحب الصيد، لا أنه يتعب من ورائه ويسافر لأجله".   1 نقلاً عن الدكتور عبد الله بن الشيخ محمد الأمين – بتصرف في العبارة- والشوزن، والساكتون: اسمان لبعض بنادق الصيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المبحث السادس: أدبه، وذكاؤه وظرفه، ومن مواقفه وأقواله كان الشيخ الأمين -رحمه الله - أديبا ضليعاً، شهد بذلك معاصروه من العلماء، وتلامذته. وهذا ما تراه جليا في كتبه. يقول الشيخ محمد المجذوب: "إنّ الغزارة في محفوظ الشيخ من شعر العرب دليل قاطع على تذوقه إياه. ولابدّ للحافظ المتذوق أن تواتيه الموهبة على صياغته. وكذلك كان شيخنا -طيب الله مثواه-؛ فهو رهيف الحسّ، سريع التأثر بالكلمة البليغة. وقد سبق أن طالعنا بعض محاولاته الأولى، فلمحنا ما وراءها من استعداد للاندفاع، إلا أنّ انشغاله اليومي بالجوانب الأخرى قد أدى به إلى الانصراف عن الشعر الخالص"1. وأخبرني ابنه عبد الله أن والده رحمه الله كان يحبّ الأدب، ويخصص يوماً في الأسبوع في أول زمن دراسته للأدب، ويقول: "نحن نحفظ الأدب لنستشهد به على لغة العرب. وكان أحياناً يأتي بأبيات قد يكون ظاهرها سمجاً، ويبيّن أنّ القصد ما فيها من اللغة. وكان دائماً يكرر ذا البيت2: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد وقد ذكر رحمه الله أبياتاً في آخر حياته تدلّ على قوته في الشعر، ذكر في أولها أنّ الشعر لاينبغي له. يقول رحمه الله:   1 علماء ومفكرون عرفتهم ص190. 2 هذا البيت ينسب للإمام الشافعي- رحمه الله- انظر سير أعلام النبلاء 10/72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 قد صدّ بي حلم الأكابر عن لمى شفة الفتاة الطفلة المغناج ماء الشبيبة زارع في صدرها رمانتي روض كحقّ العاج وكأنها قد أدرجت في برقع ياويلتاه بها شعاع سراج وكأنما شمس الأصيل مذابة تنساب فوق جبينها الوهاج قال لي د/ عبد الله بن الشيخ محمد الأمين: "وهذا نوع من التمثيل لم أره قبل الشيخ رحمه الله؛ وهو أن تجعل الشمس مرهماً يدهن به الوجه، فهذا ابتكار في التشبيه، لم يسبق إليه حسب علمي". وقال د/عبد الله أيضاً: "وكان يقول لي: تأدب إذا مادخلت على أناس وكن منهم بمنزلة الأقلّ فإن رفعوك كان الفضل منهم وإن وضعوك فقل هذا محلي وكان رحمه الله دائماً يتمثل بهذه الأبيات، وخصوصاً إذا كنا ذاهبين للصيد: قال الطريفة ماتبقى دراهمنا يوما ومابنا سرف فيها ولا خرق إنَّا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ظلت إلى طرق الخيرات تستبق لايألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمرّ عليها وهو منطلق حتى يصير إلى نذل يخلده يكاد من صره إياه ينمزق1 وأحياناً: "كان رحمه الله يتمثل ببعض الأبيات التي تتعلق بمكارم الأخلاق، أو بالفضل والتسامح.   1 القائل جؤبة بن النضر. انظر مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي ص487. مؤلفه: أحمد قبش، مطبعة دار العروبة بدمشق 1399هـ. مع بعض الاختلاف اليسير مثل: يوماً في البيت الأول لم ترد وإنما بدل إنا في أول البيت الثاني، وفي أول البيت الثالث قال مايألف الدرهم الصياح بدل لايألف الدرهم المضروب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وأخبرني الأستاذ/محمد الأمين بن الحسين: "إنه رحمه الله كان شاعراً مغلقاً إلى أبعد الحدود، إلا أنه صار في آخر حياته يكره أن يقال له ذلك. وطلبنا منه بعض القصائد التي قالها، فامتنع وغضب، وقال: "أحبّ إليّ أن يقال: طالب علم، من أن يقال: شاعر. هذا مع قدرته على الشعر واللغة العربية".وسمعته يقول: "حينما بدأت في قراءة اللغة العربية فتح الله عليّ في قول الشعر فتحاً عجيباً، ولاسيما في الهجو منه، فنذرت لله عزّ وجلّ أن لا أقول هجوا بأحد كائنا من كان، ولا أمدح أحداً، فكان شعره رحمه الله في الحثّ على العلم، ونحو ذلك". من مواقفه وأقواله: أختار من مواقفه رحمه الله هذه الحادثة التي ذكرها الشيخ محمد المجذوب فقال: في مؤتمر العلماء الذي عقدوه في الرياض للبحث في موضوع الإمامة، وقرروا فيه إلغاء بيعة المرحوم الملك سعود بن عبد العزيز، ومبايعة أخيه فقيد الإسلام والعروبة فيصل بن عبد العزيز إيثاراً للمصلحة العامة التي لم يكن أجدر من فيصل للقيام بأعبائها: "أنابوا عنهم الشيخ الأمين لإبلاغ قرارهم الملك سعود، فقام بالمهمة خير قيام، وكان لكلمته الحكيمة أطيب الوقع في نفسه، عقّب عليها بإعلانه ثقته التامة بنصيحة العلماء وخضوعه لمقرارتهم. ولا حاجة للتنبيه إلى أنّ مثل هذه الثقة التي أحرزها الشيخ في أوساط أولي الأمر وكبار أهل العلم إنما تدل على مميزات شخصية من النوع النادر. بها استحق كل ذلك التقدير من عارفيه"1. ومن أقواله رحمه الله: ماحدثني به ابنه د/عبد الله أنّ والده قال له: "الكرة الأرضية أصغر من أن تكون لرجل وطنا". يقول د/عبد الله: "وماكنت أفهم هذا في البداية، ولكن بعد ذلك   1 علماء ومفكرون عرفتهم. ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فهمت أنّ قصده أنّ المسلم كلّ العالم أهله، فيحاول أن يساعدهم ويقومهم، وينصحهم، وينصر ضعيفهم، ويساعد فقيرهم؛ لأنّ المسلم للمسلم كالبنيان، إنما المؤمنون إخوة، فكان يقول لي: يابني اعلم أن المسلمين في أنحاء البلاد هم إخوانك، والمسلم لايتقوقع ولاينتمي لجهة عن جهة، وإن كان الأقربون أولى بالمعروف". ذكاؤه، وظرفه -رحمه الله -: امتاز الشيخ الأمين رحمه الله بالذكاء الشديد منذ نعومة أظفاره، وهذا ماشهد له به أحد شيوخه؛ كما أخبرني بذلك ابنه عبد الله بقوله: "إنّ الله نفعه بشيخ له في صباه، كان يقول له: "اعلم أنّ فروض الكفاية فرض عين عليك؛ لأنّ الفقهاء يقولون: "إذا كان هناك ذكيّ ذكاء خارقاً، فإنّ فروض الكفاية تبقى فرض عين عليه، فاتق الله في المسلمين، واحفظ عليهم دينهم؛ لأنك مقتدر على أن تحفظ العلوم بسرعة". وكان رحمه الله سريع البديهة، مع ظرف ودعابة ونكتة مستملحة: فمن سرعة بديهته رحمه الله: "ماحدثني به الشيخ محمد الأمين ابن الحسين قال: "سمعت منه أنّ مندوبا من التعليم، وهو إذ ذاك مدرس في الكليات والمعاهد في الرياض جاءه يطلب منه الشهادات العلمية أسوة بغيره من المدرسين. فقال: "عندي شهادة واحدة. ولست أعطيها لأحد. فقال: "ماهي؟ قال: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، فلا أعطيها أحداً. وليس عندي غيرها. فضحك الحاضرون من دعابته". وحضرته يوماً وقد ألقى محاضرة في الجامعة الإسلامية يحثّ فيها طلبة العلم على الصبر وعلى التحمل، وعلى الأخلاق الحميدة، وأن يخلصوا الدعوة لله عز وجلّ في تعليمهم للمسلمين، وأنهم سيُؤْذّوْن في سبيل الله؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء أوذوا في دعوتهم، فقام الشيخ محمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الصواف يعلق على كلام الشيخ رحمه الله قائلاً أنا أعتقد أني أخاف عليكم أن يغالى في محبتكم حتى تعبدوا، أو نحو ذلك، وإنكم سترون كثيراً من الترحيب في العالم الإسلامي فالتفت إليه الشيخ الأمين وقال: "أودّ أن أسأل فضيلة الشيخ محمود الصواف: "هل يستطيع أن يأتي للعراق؟ لأنه من المعلوم أنه محكوم عليه بالإعدام. وهو من طلبة العلم. فضحك الحاضرون، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز قائلاً: "الشيخ سريع البديهة سريع الجواب". وحدثني ابنه د/عبد الله عن بعض القصص التي تدلّ على سرعة بديهة والده رحمه الله فقال: "قال لي الشيخ مرة إنه مسافر. وكانت له ثياب تغسل، ورآه أحد الجلوس وهو يقلب ثيابه، ومن بينها سروال. فظنّ هذا الشخص أنّ الشيخ يريد لبس لباسه أمام الناس، فقال له: "ولسراويل بهذا الجمع، فقال له الشيخ: "أبشر لن ألبس ثيابي بحضرة الناس، ولن نصرف مفاعيل. لأنّ نصّ الألفية: ولسروايل بهذا الجمع شبه اقتضى عموم المنع1 فكان المكلم للشيخ ذكيا، وفهم الشيخ قصده بسرعة"2. وقال أيضاً: "ومن نكته الظريفة: أنه لما تولى فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد نيابة رئاسة الجامعة الإسلامية قال له الشيخ: "يافضيلة الشيخ أنت الآن كمن تزوجت أمه، لايدري هل يعزى أو يهنى؟ فقال له فضيلة الشيخ عبد المحسن حفظه الله: "أنا يُدعى لي فقط. ومن نكته أيضاً: "قال له شخص: يافضيلة الشيخ أحسن أن يأخذ الإنسان من عرض لحيته أو من   1 ألفية ابن مالك ص80. 2 وقد سمع منه هذه القصة أيضاً فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد، وقد أكد له الشيخ الأمين أن هذه القصة حصلت معه أثناء زيارته للسودان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 طولها؟ فقال له: "ذلك مقطوع طوله في عرضه". وذكر لي د/محمد الخضر الناجي بعض ظرفه ودعابته؛ منها: "أنه جاءته امرأة تشتكي من زوجها، وكان عنده أخرى قبلها مشترطة أن لا يكون معها أحد. فجاءت عند الشيخ فقال لها: "ماذا فعل؟ قالت: "رأيته يوصل لها النقود في المنديل. قال هذا طبق نصاً من نصوص مختصر ابن عاشر: وصّل ماعسر بالمنديل ونحوه كالحبل والتكويل والنكتة في هذا: "أنّ المصنف يتحدث عن الغسل، وأنّ ماعسر عن وصول الماء إليه يوصل إليه بوسيلة، منها المنديل أو غيره فضحك الناس كثيراً. وكنا في نزهة برية حول وادي العاقول، وكان الطلاب متحلقين حول الشيخ يستمعون إلى أيّ شيء يصدر منه. فجاء الشيخ مختار بن أحمد مزيد؛ أحد مدرسي الحرم، وهو شيخ فاضل، فقال: "هذه رؤيا رأيتها. فقال: "ماهي؟ قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثياب جميلة، وكان بيني وبين بعض الناس مناقشة وخلاف في مسألة من مسائل العلم، وأشار إليّ وقال: "الحقّ مع هذا، قال: فأمسكت ثيابه أريد أن يسمعه الناس، فنزع مني ثيابه بسرعة، فقال له الشيخ: أمسكته لكي تعمل عليه محضر، فضحكنا كثيراً، ومثل هذا كثير، لايحضرني الآن"اهـ كلام الدكتور الناجي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المبحث السابع: وفاته توفي رحمه الله ضحى يوم الخميس 17/12/1393?.وكانت وفاته بمكة المكرمة، مرجعه من الحجّ ودفن في مقبرة المعلاة، وصلى عليه سماحة رئيس الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي، مع من حضر من المسلمين بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم. وفي ليلة الأحد 20/12 أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبويّ. وصلى عليه صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح - إمام وخطيب المسجد النبوي، ورئيس الدائرة الشرعية بالمدينة ومحاكم منطقة المدينة - بعد صلاة العشاء مباشرة، وصلى عليه من حضر من الحجاج ما لا يحصى عدداً1. وقد حزن عليه الناس حزنًا شديدً، ورثاه عدد كبير من الشعراء بأبيات كثيرة، أذكر مقتطفات منها: فمن ذلك ما رثاه به تلميذه وابن عمه لشيخ أحمد بن أحمد الجكني الشنقيطي في قصيدة طويلة، منها2: أبكي الأمين وليتني من علمه ما عشت فزت بنيل كلّ بيان أبكي الأمين محمدًا وإنني أبكي الأمين لشرعة القرآن   1 انظر ترجمة الشيخ بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم في مقدمة أضواء البيان 1/7. وقد استوفى الباحث الأخ/عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس هذا المبحث عن وفاته، وذكر مراثيه. انظر: منهج الشيخ الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام من أضواء البيان ص 63-71-مضروب بالآلة الكاتبة-. وانظر أيضاً: مراثي الشيخ رحمه الله في الزاد والمعين ص105-110. 2 نقلاً عن منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 من ذا يلومك إن بكيت مفوها سمح الخليفة من بني الإنسان ومن ذلك أيضًا ما رثاه به الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد مزيد الجكني الشنقيطي في قصيدة طويلة، منها1: نعي الأمين نعاة قد نعوا علما بحرًا خضمًا بموج العلم ملتطمًا أبكته أجيال علم حين عدّ له ربع الحجون مصيرًا بعدما ختما من للنوازل مثل الشيخ إن نزلت أو للحوادث إن أدمت بنا كلما ومن ذلك أيضًا ما رثاه الشيخ محمد بن مدين الشنقيطي في قصيدة طويلة، أذكر منها2: الله أكبر مات العلم والورع يا ليت ما قد مضى من ذلك يرتجع يبك الكتاب كتاب الله غيبته كذا المدارس والآداب والجمع حدث بما شئت من حلم ومن كرم وانتشر مآثره فالباب متّسع ورثاه الشيخ محمد الأمين بن مختار الجكني، الملقب بـ (التعدي) ابن عم الشيخ رحمه الله في قصيدة طويلة منها3: هو الموت لا ينفك يفجع معشرًا بكوكبه الدري بين الكواكب فتى لم ير الراؤون شرواه بعده ولا أنجبت شرواه بيض الكواعب ورثاه الشيخ عبد الرحمن المنير؛ الأستاذ بالمعهد العلمي بالمدينة المنورة   1 انظر: المعين والزاد ص 105. 2 نقلاً عن منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام ص 68. 3 نقلاً عن منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام ص 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بقصيدة طويلة، أسرق منها هذه الأبيات1: أتاني من الأنباء ما سد مسمعي فكادت لها روحي يجن جنونها وما كنت أدري ليتني عند حفرة عشية سواها حصاها وطينها من الشيخ أن فاضت على الخد دمعتي أكفكفها صبرًا ويأبى هتونها ترقبته من حجّ مكة سالمًا فشحت به معلاتها وحجونها ورثاه أيضًا الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الله بن آدّ الشنقيطي بقصيدة طويلة، أذكر منها2. أعينيّ جودا بالدموع السواكب لمن ضوءه قد فاق ضوء الكواكب له الفضل في التفسير إن رمت باحثًا وفي الفقه والتوحيد من كلّ جانب ففي النحو أستاذ وفي الشعر حجة وفي الجود بحر يرتجي للنوائد حواه ثرى المعلا فيا حسن ما حوى إمام له في الدين أولى المراتب وقد خلف الشيخ الأمين رحمه الله ولدين عالمين فاضلين؛ أحدهما فضيلة الدكتور محمد المختار رئيس قسم أصول الفقه بالجامعة الإسلامية، والآخر فضيلة الدكتور عبد الله عميد كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية. جعلها الله خير خلف لخير سلف.   1 انظر: المعين والزاد ص 109-110. 2 نقلاً عن منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام ص 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الفصل الثاني: حياة الشيخ الأمين العلمية المبحث الأول: "طلبه للعلم، وشيوخه قال الشيخ عطية سالم يخبر عن الشيخ الأمين -رحمه الله-: حفظ القرآن في بيت أخواله، على خاله عبد الله، وعمره عشر سنوات، قال -رحمه الله-: "ثمّ تعلمت رسم المصحف العثماني المصحف الأم) عن ابن خالي سيدي محمد بن أحمد بن محمد بن المختار، وقرأت عليه التجويد في مقرأ نافع برواية ورش، من طريق أبي يعقوب الأزرق. وقالون؛ من رواية أبي نشيط. وأخذت عنه سنداً بذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذلك وعمري ست عشرة سنة"1. أنواع الدراسة في القرآن: "تعتبر الدراسة في علوم القرآن منهجاً متكاملاً، لا تقتصر على الحفظ والأداء، بل تتناول معرفة رسم المصحف؛ أي نوع كتابته؛ ما كان موصولاً أو مفصولاً، وما رسم فيه المدّ أو كان يمدّ بدون وجود حرف المدّ، وقد يكون حرفاً صغيراً أو نحو ذلك. ثمّ ضبط ما فيه من منشأيه في الرسم أو التلاوة. ومن المشهور عندهم في هذا رجز محمد بن بوجه) المشهور. المعروف بالبحر، تعرض فيه لكلِّ كلمة جاءت في القرآن مرة واحدة، أو مرتين، أو ثلاث مرات إلى سبع وعشرين مرة؛ أي من الكلمات المشتبهة. وأفرد كلّ عدد بفصل؛ فمثلا: "كلمة أعينهم" بالرفع: "جاءت ثلاث مرات، قال فيها: أعينهم بالرفع من غير حضور من بعد كانت وتولت وتدور ومن الثنائي: "كلمة الأشياع" بالعين، قال فيه: أشياع بالعين فهل من مدكر في سبأ من قبل بأنهم ذكر   1 ترجمة الشيخ -رحمه الله- في أضواء البيان 1/21-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقد درس هذا كله في طفولته، وكانت له زيادة نظم على ذلك تذييلا لزيادة الفائدة، كما قال على البيت الأخير مبيناً حركاته وإعرابه: في سورة القمر خاطب وانصبا وجره وغيبه في سبا أي في سورة القمر تكون تلاوتها الخطاب والنصب: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .وفي سورة سبأ تكون تلاوتها بالغيبة والجر: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} .وهذه دراسة لا تكاد توجد إلا ما شاء الله، وهي من المهام العلمية لحفظها رسم القرآن من التغيير والتبديل، وهي من آثار تعهد الله بحفظ هذا القرآن المنزل من عنده سبحانه. ثم قال -رحمه الله-: "وفي أثناء هذه القراءة درست بعض المختصرات في فقه مالك؛ كرجز الشيخ ابن عاشر. وفي أثنائها أيضاً درست دراسة واسعة في الأدب على زوجة خالي أم ولد الخال؛ -أي أن ولد خاله يعلمه العلوم الخاصة بالقرآن، وأمه تعلمه الأدب - قال: "أخذت عنها مبادئ النحو؛ كالأجرومية، وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم، والسيرة النبوية، ونظم الغزوات لأحمد البدوي الشنقيطي؛ وهو يزيد على خمسمائة بيت، وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بحماد، ونظم عمود النسب للمؤلف؛ وهو يعدّ بالآلاف، وشرحه لابن أخته المذكور على خصوص العدنانيين؛ لأنه مات قبل شرح ما يتعلق بالقحطانيين. هذه دراسة في علوم القرآن والآداب والسير والتاريخ، كانت في بيت أخواله؛ على أخواله؛ وأبناء أخواله، وزوجات أخواله؛ أي كان بيت أخواله المدرسة الأولى له. أما بقية الفنون؛ فقال: أولا: الفقه المالكي: "وهو المذهب السائد في البلاد: "درست مختصر خليل. بدأ دراسته فيه على الشيخ محمد بن صالح إلى قسم العبادات، ثمّ درس عليه النصف من ألفية ابن مالك، ثمّ أخذ بقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الفنون على مشايخ متعددين في فنون مختلفة، وكلهم من الجكنيين، ومنهم مشاهير العلماء في البلاد، منهم: 1- الشيخ محمد بن صالح المشهور بابن أحمد الأفرم. 2- والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار. 3- والشيخ العلامة أحمد بن عمر. 4- والفقيه الكبير محمد النعمة بن زيدان. 5- والفقيه الكبير أحمد بن مُودْ. 6- والعلامة المتبحر في الفنون أحمد فال بن آدُه. وغيرهم من المشايخ الجكنيين. وقال -رحمه الله-: "وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كلّ الفنون؛ النحو، والصرف، والأصول، والبلاغة، وبعض التفسير والحديث. أما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة"؛ هذا ما أملاه عليّ -رحمه الله-.وسجلته عنه. علما بأنّ الفنّ الذي درسه على المشايخ، أو مطالعة من الكتب لم يقتصر في تحصيله على دراسته، بل كان دائماً يديم النظر، ويواصل التحصيل، حتى غدا في كلّ منه كأنه متخصص فيه، بل وله في كلّ منه اجتهادات ومباحث مبتكرة1. دراسة الشيخ -رحمه الله-: وقد أوجزها الشيخ عطية سالم فيما يأتي: 1 - في مبدأ دراسته تقدم أنه أتيح له في بادئ دراسته ما لم يتح لغيره؛   1 انظر المصدر السابق نفسه، 1/22-25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 حيث كان بيت أخواله مدرسته الأولى. فلم يرحل في بادئ أمره للطلب، وكان وحيد والديه، فكان في مكان التدلل والعناية. 2 - قال -رحمه الله-: "كنت أميل إلى اللعب أكثر من الدراسة، حتى حفظت الحروف الهجائية، وبدأوا يقرئونني إياها بالحركات؛ با فتحة، با.بي كسرة، بي. بو ضمة، بو وهكذا.فقلت لهم: "أو كلّ الحروف هكذا؟ فقالوا: نعم. فقلت: كفى، إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة، كي يتركونني. فقالوا: اقرأها، فقرأت بثلاثة حروف أو أربعة، وانتقلت إلى آخرها بهذه الطريقة، فعرفوا أني فهمت قاعدتها، واكتفوا مني بذلك، وتركوني. ومن ثم حببت إليّ القراءة". 3 - وقال -رحمه الله-: "ولما حفظت القرآن، وأخذت الرسم العثماني، وتفوقت فيه على الأقران عُنيت بي والدتي وأخوالي أشدّ عناية، وعزموا على توجيهي للدراسة في بقية الفنون، فجزهتني والدتي بجملين؛ أحدهما عليه مركبي وكتبي، والآخر عليه نفقتي وزادي. وصحبني خادم، ومعه عدة بقرات. وقد هيأت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابسي كأحسن ما تكون فرحاً بي وترغيباً لي في طلب العلم. وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل". تقوم الحياة الدراسية على أساس منع الكلفة، وتمام الألفة، سواء بين الطلاب أنفسهم، أوبينهم وبين شيخهم، مع كمال الأدب، ووقار الحشمة. وقد تتخللها الطرق الأدبية، والمحاورات الشعرية، ومن ذلك ما حدثنيه -رحمه الله-، قال: "قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه، ولم يكن يعرفني من قبل، فسأل عني: من أكون، وكان في ملأ من تلامذته، فقلت مرتجلا: هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قدعدلا رمت به همة علياء نحوكم إذ شام برق علوم نوره اشتعلا فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إذ ضاق ذرعا بجهل النحو ثم أبى ألا يميّز شكل العين من فعلاً فقد أتى اليوم صبا مولعاً كلفا بالحمد لله لا أبغي له بدلا يريد دراسة لامية الأفعال. وقد مضى -رحمه الله - في طلب العلم قدما، وقد ألزمه بعض مشايخه بالقرآن؛ أي أن يقرن بين كلّ فنين حرصا على سرعة تحصيله. وتفرساً له في القدرة على ذلك، فانصرف بهمة عاليه في الدرس والتحصيل. وقد خاطبه بعض أقرانه في أمر الزواج، فقال في ذلك، وفي الحثّ على طلب العلم: دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح فقالوا لي تزوج ذات دلّ خلوب اللحظ جائلة الوشاح تبسّم عن نوشرة رقاق يمج الراح بالماء القراح كأن لحاظها رشقات نبل تذيق القلب آلام الجراح ولا عجب إذا كانت لحاظ لبيضاء المحاجر كالرماح فكم قتيلا كميتا ذا ولا حي ضعيفات الجفون بلا سلاح فقلت لهم دعوني إن قلبي من العيّ الصراح اليوم صاحي ولي شغل بأبكار عذارى كأنّ وجوهها ضوء الصباح أراها في المهارق لابسات براقع من معانيها الصحاح أبيت مفكرا فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح أبحت حريمها جبرا عليها وما كان الحريم بمستباح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 إلى آخر ذلك ما ذكره الشيخ عطية سالم1 وقال ابنه عبد الله يحكي عن والده: "كان دائما يحثنا على شعر أحمد بن حنبل الشنقيطي؛ لأنه يحثّ على العلم. ويتمثل بشعره الذي يقول فيه: لا تسؤ بالعلم ظناً يا فتى إنّ سوء الظنّ بالعلم عطب لا يزهدك أخي في العلم أن غمر الجهال أرباب الأدب إن تر العالم نضوا مرملا صفر كفّ لم تساعده سبب وترى الجاهل قد حاز الغنى محرز المأمول عن كلّ أرب قد تجوع الأسد في آجامها والذئاب الغبش تعتام القتب جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذلّ وسغب لا يهاب الشوك قطاف الجنى وإبار النحل مشتار الضرب وكان -رحمه الله - قد ملكت عليه محبته للعلم وفهمه أحاسيسه، فإذا كان يقرأ قد تصل إليه الشمس ولا ينتبه، وقد يضيع عليه الوقت، وقد ينتهي وقت الأكل والشرب، ووقت المواعيد التي عنده، فلا بدّ من أن ينبهه أحد إذا كان مشتغلاً بالعلم؛ لأنه يملك عليه شعوره. وكان -رحمه الله- وهو مريض يدرس المسائل التي لا يستطيع أن يدرسها الجاهل المتعطش للعلم، وكنت أقرأ له أحيانا حتى أخرج من عنده وأنا معي دوار من كثرة ما قرأت عليه. وكان في طلبه الأول يدرس المسائل دراسة جردية؛ فيأخذ مثلاً باب القياس، ويجمع كلّ الكتب والمراجع التي تتعلق بالقياس ويعكف عليه   1 ترجمة الشيخ رحمه الله بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم _ بتصرف _ (انظر أضواء البيان 1/28 _31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 حتى يحفظه، ثمّ ينتقل إلى باب الاجتهاد، ثمّ إلى باب الأمر. وهكذا كان يأخذ المسائل جزئية جزئية، ولكن إذا أخذ الجزئية يجمع لها جميع ما يصل إليه من المراجع، ثمّ يدرس المسائل بحذافيرها. وقال لي مرة: "إنه درس نصا من خليل، في كتاب النكاح"، وهو فصل: "لو ببيع سلطان لفلس"، فقال: "شرحه لي شيخي بعد العصر ولم أفهمه، وكررت قراءة الكتب، ولم أفهم. وجاء الليل فأوقدت ناراً، وجلست أكرر القراءة في المراجع حتى طلع الفجر، ثم صليت الفجر وأنا لم أنم، ثمّ بعد ذلك فهمت المسألة، وكانت النتيجة قليلة، فقلت: لو كنت أتعبت ذهني لأستخرج مسائل من الكتاب والسنة لكنت أتيت للمسلمين بعلم كثير"1. فالشيخ -رحمه الله - إذا وجد مسألة صعب عليه فهمها لا يهدأ له بال حتى يفهمها فهماً جيداً، ويعرف ما وراءها. وكلّ العلوم درسها على شيوخه إلا فنّ المنطق، فإنه جلس عليه ستة شهور لا يخرج من البيت إلا للصلاة، وخرج بألفية جيدة، ومع الأسف فإن أغلبها مفقود. فهذا هو العلم الذي حصله الشيخ بنفسه. وقد أخبرني مشافهة أن كل آية في القرآن درسها على حدة، وذكر لي الشيخ عطية عن والدي أنه قال له: "لا توجد في القرآن آية قال: "فيها الأقدمون شيئا إلا حفظته. وكان الشيخ - رحمه الله - إذا أخذ الكتاب يحاول أن يقرأه، وفي كلّ الكتب التي اقتناها يكتب المسائل التي قرأها في الصفحة الأولى من الكتاب. وكان - رحمه الله - يحفظ ألفية ابن مالك، وألفية العراقي، وألفية مراقي السعود، ويحفظ من الشعر الشيء الكثير.   1 ذكرها أيضا الشيخ عطية سالم في ترجمة الشيخ. انظر أضواء البيان 1/31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وكان يحفظ أكثر أحاديث البخاري ومسلم، وقد قال لنا في آخر حياته: "ادرسوا عليّ الصحيحين، فإني أحبّ أن يدرسا عليّ". وحدثني الدكتور/محمد الخضر الناجي عن الشيخ الأمين - رحمه الله -، فقال: "إنه قال أمامي في إحدى الجلسات أنه درس المصحف من أوله إلى آخره، ولم يترك منه آية إلا وعرف ما قاله العلماء فيها. ولما قال له بعض الإخوان إنّ سليمان الجمل1لم يقل هذا. قال: "أحلف لك بالله أني أعلم بكتاب الله من سليمان الجمل بكذا؛ لأني أخذت المصحف من أوله إلى آخره، ولم تبق آية إلا تتبعت أقوال العلماء فيها، وعرفت ما قالوا. وقال أيضاً أمامي: "إنه لم يبحث عن شيء مثل بحثه في مسألتين، ولم يقف منهما على مقنع، منهما يعني الأحرف السبعة والأقوال فيها تنيف عن أربعين قولا. ثمّ المسألة الثانية في مسائل انفكاك الجهة".   1 هو سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل. من أهل منية عجيل؛ إحدى قرى الغربية بمصر. له حاشية على تفسير الجلالين. مات سنة 1204?. انظر: الأعلام 3/131، ومعجم المؤلفين 4/271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 المبحث الثاني: عقيدته ... الضروري أنه لا يصف الله أعلم بالله من الله، ولا من رسوله صلوات الله وسلامه عليه الذي قال عنه ربه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} 1، {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 2، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} 3، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 4، ومجانبة التشبيه هي أن تعلم أنّ كلّ وصف أثبته الله جلّ وعلا لنفسه، أو أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم: "فهو ثابت له حقيقة على الوجه البالغ من كمال العلوّ والرفعة والشرف ما يقطع علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 6، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 7 8. فالشيخ الأمين - رحمه الله - كان على معتقد السلف قبل مجيئه إلى المملكة، ولم يجد صعوبة، بل كان محلّ تقدير الجميع لشرف معتقده، فصار يدرس العقيدة الصحيحة التي كان عليها - قبل مجيئه -، للناس. وقد سألت الأستاذ/محمد الأمين بن الحسين عن معتقد الشيخ - رحمه الله - قبل محيئه، فقال: "نقلت منه، واستقرأت عنه أنه كان على عقيدة أهل السنة والجماعة، وأكبر دليل على ذلك أنه حين قدم المملكة العربية السعودية، واجتمع بابن عمه محمد بن عبد الله بن آدّ؛ الذي كان قاضياً في المحكمة الشرعية في المهد والقنفذة ووادي الصفراء سأله عن   1 سورة النجم، الآيتان [3-4] . 2 سورة البقرة، الآية [140] . 3 سورة النساء، الآية [87] . 4 سورة النساء، الآية [122] . 5 سورة الشورى، الآية [11] . 6 سورة النحل، الآية [74] . 7 سورة الإخلاص، الآية [4] . 8 وكلامه -رحمه الله- في ذلك طويل. انظر كتابه: الرحلة إلى المسجد الحرام ص72-87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الوهابية، هل هم كما يقال؟ فقال له الشيخ محمد بن عبد الله: "مثلك لا يسأل هذا السؤال"؛ فهؤلاء يرون أنهم حاملون لواء الإسلام، ولاسيما في العقيدة، وأنه هو - يعني الشيخ محمد الأمين - عالم جليل قادر على الردّ والبحث والأخذ والعطاء معهم، فيجب عليه أن يجتمع مع علمائهم، ويطلع بنفسه على ما عندهم. وإنه هو - يعني نفسه - قادر على جمعه بهم. فوافق الشيخ محمد الأمين على ذلك بعد قدومه المدينة من مكة. ثمّ أخبر الشيخ محمد عبد الله القاضي عبد الله بن زاحم - رحمه الله -، فاجتمع مع الشيخ، وسأله القاضي: "ماذا تسمع عنا؟ فقال الشيخ محمد الأمين: بعض الناس يثني عليكم، وبعضهم يقدح. فقال له: وأيهم أكثر؟ فقال: القادحون أكثر. فقال القاضي للشيخ محمد الأمين: ما عندنا كالتالي: نحن لا نتعلق بمخلوق دون الله، وعلى مذهب الإمام أحمد شريطة أن لا يخالف الكتاب والسنة، ونخطئ من يؤول صفات الله عزّ وجلّ. فقال له الشيخ محمد الأمين وأنا مثلكم في هذا؛ فإني لا أؤول الصفات".وألقى محاضرة في الصفات في بيت القاضي أيام مجيئه، فدلّ ذلك بقرينة واضحة أنه على معتقد أهل السنة والجماعة. وقال لي الشيخ محمد الأمين وأنا أكتب معه أضواء البيان في مبحث: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1 بسورة محمد، وأخبرته بما قال لي الشيخ محمد بن عبد الله، فصدقني، وقال هذه المحاضرة هي التي جعلتها في أضواء البيان في سورة الأعراف، وفي سورة محمد جزء منها، فدلّ ذلك على أنّ حصيلته العلمية العقدية في الصفات لم تتغير، وأنه كان من أهل السنة والجماعة، ولو كانت جديدة عليه ما ألقاها في أول جلساته في المدينة مع العلماء.   1 سورة محمد، الآية [24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقد سأله رجل وهو يلقي درساً في بيته عن الصفات، فقال له: "أكنت تقول هذا في بلدك؟ قال: نعم كنت أقول به". ويؤكد الأستاذ محمد الأمين بن الحسين بشدة أنّ عقيدة الشيخ - رحمه الله - هي عقيدة السلف، لم تتغير، ولم يطرأ عليها شيء، ويقول: "هذا الذي أعرف عنه، ومن قال غير ذلك فقد غلط، لأنه لم يلازمه - رحمه الله - مثلي؛ فقد كتبت الجزء الرابع والخامس بغير إملاء، والسادس والسابع بإملاء، لأنه - رحمه الله - ضعف عن الكتابة". وحدثني ابنه عبد الله أنه سأل الشيخ محمد بن عبد الله عن معتقد والده الشيخ الأمين؟ فقال لي: "إني رأيت الشيخ في جدة؛ يعني وقت مجيئه من بلاده. وسألني عن معتقد أهل البلاد هنا، فقلت له: إنهم يثبتون ما أثبت الله لنفسه، وينفون ما نفى الله عن نفسه، ويقفون مع النصوص. فقال هذه عقيدتي التي أدين الله بها". وقد استشكلت الباحثة/سميرة بنت صقر آل محمد في عقيدة الشيخ - رحمه الله-: "هل أخذها عن شيخ، أم أنه اعتمد على نفسه في تحصيلها؟ " ثمّ مالت إلى أنه تلقاها عن بعض مشايخه أيام الطلب، وبالذات الشيخ محمد بن صالح، الشهير بابن أحمد الأفرم1. والذي يظهر لي أنّ الشيخ - رحمه الله - لم يدرس عقيدة السلف على أحد، وإنما تحصل عليها بنفسه. أما في أول طلبه فيبدو أنه درس على معتقد الأشاعرة؛ لأنّ أغلب مايوجد من المشايخ على طريقة الأشاعرة في العقيدة، خاصة بعد أن ألف أحمد المقري إضاءته في العقيدة الأشعرية؛ وهي منظومة كانت تدرس لسهولة حفظها. هذا ما أكده لي بعض تلاميذ الشيخ - رحمه الله -2.   1 انظر: الشنقيطي، ومنهجه في التفسير ص55. 2 منهم الدكتور محمد الخضر الناجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وفي سؤال طرحته على الدكتور/ محمد الخضر الناجي؛ سألته هل اكتسب الشيخ - رحمه الله - العقيدة السلفية بالتعلم؟ فأجاب حفظه الله قائلاً: الشيخ بعد أن تعلم على العلماء في بلده صار له رأيه الحرّ والخاص، ونظرته الثاقبة إلى الوحي خاصة، ولذلك كاد أن يكون موصوفاً ببعض الشذوذ في بعض المسائل وهو هناك قبل مجيئه؛ نظرا لأنه كان يفتي بالوحي، بينما المفتون كانوا يفتون بالفقه فقط. فكأنّ يدا استعمارية خبيثة بثت في المعمورة أنّ الرجوع في الفتيا إلى القرآن والسنة لا يمكن إلا للعلماء المجتهدين الكبار، وعلى من دونهم أن يلتزم بالفقه والمذهب، فصار الوحي لايدرس هناك، لا كرها له ولا عدم اعتبار له، ولكن اتقاء لله، وأنّ الكلام به من قبيل الكلام بالرأي. فصارت هناك هيبة وسياج عظيم حتى تعطلت أدلة الوحي. ولكنّ الشيخ فهم أنّ هذا الرأي غير صحيح فخرج عليه، وقد تكلم في رحلة الحج عن العقيدة كلاماً ممتازاً مرتباً نفهم منه أنه بدأ يستقرّ في فهم العقيدة قبل أن يصل إلى هذه الديار ويستقرّ بها. وسمعته يقول: "إنه في أواخر أيامه في موريتانيا تبين له أنّ الطريقة السلفية صحيحة، واعتنقها وهو في موريتانيا. فهو قد توصل بنفسه إلى العقيدة الصحيحة؛ بسبب فهمه الثاقب وذكائه المفرط، ولا أعلم أنه تأثر بأحد أو قلده". ثم سألت الشيخ محمد الناجي أيضاً: "هل استفاد الشيخ الأمين - رحمه الله - من شيخه محمد بن صالح في العقيدة؟ فأجاب قائلاً معظم العلماء الذين هناك أشعريون، وما أظنّ أنه استفاد منه في العقيدة، وما مرّ بي هذا، ولا أظنك تلقى أحدا يقول ذلك بل استفاد من الشيخ المذكور في الفقه، والشيخ محمد بن صالح، وإن كان ينكر البدع، لكنه ليس سلفياً". ثمّ سألته مستفهما: "إني سمعت أنّ الشيخ - رحمه الله - درس العقيدة السلفية في موريتانيا قبل استقراره بالمملكة؟ فقال: "أنا ماسمعت بهذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 إلا إذا كان في طريقه، أو إبّان قدومه". ويروي لنا د/عبد الله بن الشيخ قصة عن والده في سبب تأثره بمعتقد السلف، فيقول: "قال لي الشيخ - رحمة الله عليه أنه مرة جالت يده على كتاب في البلاد لرجل يسمى بالمبجل، فإذا هو يقول: "كيف يصف الله نفسه بصفة، ويأتي العبد وينفيها عنه، والله يقول: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} ، وكلام قريب من هذا ففهمت أنّ هذا هو الحقّ". ويؤكد الشيخ محمد الأمين بن الحسين هذه القصة وأنه سمعها من الشيخ - رحمه الله -، لكنه لايرتضي قول من قال: "إنه تأثر بهذا الكتاب، وإنما هو رأى كتاباً وافيا في عقيدة أهل السنة والجماعة فاستحسنه، ولا يدلّ ذلك على أنه تأثر به، ويقول: "فهمت منه أنّ الكتاب كتاب جميل في موضوع العقيدة السلفية، ليس إلا". وأخيرا أختم هذا المبحث ببيان أنّ العبرة بالخواتيم، وأنّ الشيخ - رحمه الله - من أولئك الذين أكرمهم الله بالانتصار لمذهب السلف، والدفاع عنه، والدعوة إليه، والاعتناء به تدريساً وتأليفاً. وقد نقد الشيخ الأمين - رحمه الله - منهج المتكلمين، وامتدح مذهب السلف، ورأى أنّ الإنسان العاقل لابدّ أن يصير إلى مذهب السلف في النهاية؛ فقال - رحمه الله - في معرض كلامه على مذهب المتكلمين: "وكلّ مذهب هذا حاله فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف" 1. وقال لي الشيخ محمد الناجي أيضاً أتيت إليه مرة بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-، وقلت له: "ياشيخ ماذا في هذا الكتاب، هل هو كتاب طيب؟ فقال لي: هذا كتاب ليس فيه من أوله إلى آخره إلا آيات وأحاديث، واقرأه إن شئت".   1 أضواء البيان 7/468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقال تلميذه وابن عمه الشيخ أحمد بن أحمد الجكني في قصيدة يرثيه بها، ويمدحه بعقيدته السلفية1: موت الإمام الحبر من جاكاني رزء ألمّ بأمة العدناني ياللمصيبة للبرية إنها فقدت عظيم مناهل العرفان شيخاً أضاء من العقيدة نيراً أرساه فوق دعائم البرهان أعشى سناه كلّ جهم ملحد نبذ الكتاب لمنطق اليونان ما إن رأيت ولا سمعت بمثله حاو لكلّ تراجم القرآن   1 وهي طويلة تقع في ستة وعشرين بيتاً. انظر: منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام من أضواء البيان للشيخ عبد الرحمن السديس ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 المبحث الثالث: أعماله، ووظائفه أولاً: أعماله قبل مجيئه إلى المملكة: كانت أعماله - رحمه الله - كعمل أمثاله من العلماء التدريس والفتيا. ولكنه كان قد اشتهر بالقضاء وبالفراسة فيه. ورغم وجود الحاكم الفرنسي إلا أنّ المواطنين كانوا عظيمي الثقة به فكانوا يأتونه للقضاء بينهم، ويفدون إليه من أماكن بعيدة، أو حيث يكون نازلاً. وكان الحاكم الفرنسي في البلاد يقضي بالقصاص في القتل بعد محاكمة ومرافعة واسعة النطاق، وبعد تمحيص القضية وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عالمين جليلين من علماء البلد ليصادقا عليه. ويطلق على العالمين لجنة الدماء، ولاينفذ حكم الإعدام قصاصاً إلا بعد مصادقتهما عليه. وقد كان الشيخ الأمين - رحمه الله - أحد أعضاء هذه اللجنة، ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره، وعظم تقديره، وصار علماً من أعلامها، وموضع ثقة أهلها وحكامها ومحكوميها1. ثانياً: أعماله بعد قدومه المملكة: يحدثني تلميذه الشيخ/ محمد الأمين بن الحسين عن أعمال الشيخ في المملكة بعد استقراره بها، فيقول: "كان مدرساً في المسجد النبوي، وقد فسر القرآن فيه مرتين. ودرس في مدرسة العلوم الشرعية، ثم انتقل إلى   1 انظر ترجمة الشيخ بقلم تلميذه الشيخ عطية محمد سالم في مقدمة أضواء البيان 1/34-35 بتصرف-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الرياض مدرساً في الكليات والمعاهد، وأخيراً رجع إلى المدينة، ودرس في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، حتى توفي وهو مدرس فيها. وكان يدرس في الحرم النبوي طيلة فترة وجوده في المدينة، لاسيما في شهر رمضان؛ حيث كان يدرس القرآن الكريم. ومرة من المرات أحصيت أربعين مسجلاً للصوت تسجل دروسه". كما كان - رحمه الله - أحد أعضاء هيئة كبار العلماء، وعضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي1.   1 انظر ترجمة الشيخ بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم في مقدمة أضواء البيان 1/49-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المبحث الرابع: تلاميذه بعد أن تبوأ الشيخ الأمين - رحمه الله - هذه المنزلة العالية، وحصلت له هذه الشهرة الواسعة، صار محط أنظار طلبة العلم؛ يرحلون إليه، ويحضرون دروسه، ويسمعون عليه. فتلقى العلم على يديه أفواج لا يحصون من طلاب العلم، ويصعب حصرهم. وهم منتشرون في هذه البلاد، وخارجها. يقول الشيخ عطية سالم: "ولا يغالي من يقول: إنّ كل من تخرج أو يتخرج: فهو إما تلميذ له، أو لتلاميذه، فهم بمثابة أبنائه وأحفاده، وكفى" 1. ومن أبرز هؤلاء التلاميذ: [1] الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز؛ رئيس الجامعة الإسلامية - سابقا - ويشغل حال إعداد هذا البحث منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. وقد درس على الشيخ الأمين المنطق في سلم الأخضري2. [2] الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح إمام وخطيب المسجد النبوي، ورئيس محاكم المدينة المنورة. [3] الشيخ عبد الله بن غديان عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة   1 انظر: ترجمة الشيخ بقلم تلميذه الشيخ عطية سالم في مقدمة أضواء البيان 1/45-46. 2 وكان الشيخ -رحمه الله- يثني على الشيخ عبد العزيز، ويقول: هو علامة زمانه في الفرائض. ويثني على علمه وخلقه. ويقول: جاءني زائراً مرة، وكنت أبحث عن حديث في سنن أبي داود، فقال لي الشيخ عبد العزيز: هذا الحديث في صفحة كذا، في جزء كذا، فوجدته كما قال، وكنت من أيام أبحث عن هذا الحديث. حدثني بذلك د/عبد الله بن الشيخ الأمين. وقال لي محمد أبن الشيخ الأمين: " كان والدي يقول: لا أرى أن في العالم أحد مثل الشيخ عبد العزيز بن باز في التفاني في خدمة الإسلام والمسلمين" ترجمة الشيخ عبد العزيز سترد في ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الدائمة للإفتاء في إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. والمدرس بالمعهد العالي للقضاء في الرياض. [4] الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية سابقاً. ومدرس في المسجد النبوي، وفي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. [5] الشيخ صالح بن محمد اللحيدان عضو هيئة كبار العلماء ونائب رئيس مجلس القضاء الأعلى. [6] الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو في اللجنة الدائمة للإفتاء. [7] الشيخ محمد بن صالح العثيمين عضو هيئة كبار العلماء. [8] الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء. [9] الشيخ إبراهيم آل الشيخ وزير العدل سابقا. [10] الشيخ عبد العزيز بن محمد العبد المنعم الأمين العام لهيئة كبار العلماء. [11] الشيخ عطية محمد سالم المدرس بالمسجد النبوي، والقاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة. [12] الشيخ راشد بن خنين مستشار بالديوان الملكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 [13] الشيخ الدكتور علي بن ناصر الفقيهي أستاذ العقيدة في الجامعة الإسلامية. ورئيس مجلس شئون الدعوة فيها حالياً. [14] د/عبد الله قادري أستاذ الفقه في الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية. [15] د/عبد العزيز بن راجي الصاعدي نائب الرئيس للبحوث والدراسات العليا في الجامعة الإسلامية. [16] د/محمد أمان بن علي الجامي المدرس في المسجد النبوي حالياً وفي الجامعة الإسلامية سابقاً. [17] الشيخ علي بن سليمان المهنا رئيس المحكمة المستعجلة في المدينة المنورة. [18] الشيخ أبوعبد الرحمن بن عقيل البحاثة المعروف. والمستشار الشرعي بوزارة الشئون البلدية والقروية. [19] الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد وكيل وزارة العدل للشئون القضائية. [20] د/عبد العزيز القاري: "أستاذ مشارك في قسم الدراسات العليا في كلية القرآن. وخطيب مسجد قباء. [21] د/عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الجامعة الإسلامية سابقاً، وأستاذ أصول الفقه في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض. [22] الشيخ حمود بن عبد الله بن عقلاء الشعيبي: "أستاذ في كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود فرع القصيم. [23] د/محمد بن حمود الوائلي أستاذ في قسم الدراسات العليا بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 [24] د/ربيع بن هادي مدخلي أستاذ في الدراسات العليا في كلية الحديث في الجامعة الإسلامية. [25] د/سفر بن عبد الرحمن الحوالي رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. [26] الشيخ/المأمون محمد أحمد مدرس متقاعد. وهو من كتّاب أضواء البيان. [27] الشيخ/محمد الأمين بن الحسين مدرس في المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية. ومن أبرز تلاميذه الذين كتبوا عنه أضواء البيان. [28] الدكتور/محمد الخضر الناجي ضيف الله أستاذ مساعد في جامعة أم القرى بمكة، في قسم الكتاب والسنة، وقد لازم الشيخ تسع سنوات، وهو من كتّاب أضواء البيان. [29] الدكتور/محمد مختار بن محمد الأمين ابن الشيخ" رئيس قسم أصول الفقه في الجامعة الإسلامية. [30] الدكتور/عبد الله بن محمد الأمين ابن الشيخ عميد كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية، ومن كتّاب أضواء البيان. [31] الدكتور/محمد عمر حويه أستاذ في كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية، ومن كتّاب أضواء البيان. [32] الدكتور/محمد بن السيد بن الحبيب أستاذ في جامعة أم القرى. [33] الدكتور/بابا بن آد دكتور في جامعة أم القرى، ومن كتّاب أضواء البيان. [34] الشيخ/محمد أحمد بن الشيخ يحيى مدرس متقاعد وهو من كتّاب أضواء البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 [35] الشيخ/محمد المختار أحمد مزيد المدرس بالمسجد النبوي، والجامعة الإسلامية. توفي - رحمه الله - عام 1405. [36] السيد الأمين المامي موظف في رابطة العالم الإسلامي سابقاً. وقد توفي - رحمه الله-. [37] الشيخ أحمد بن أحمد مدرس في المسجد الحرام. ومن كتّاب أضواء البيان. [38] الشيخ إحسان إلهي ظهير - رحمه الله-. وعلى العموم فإن طلاب المعهد العلمي في الرياض - في السنوات الثلاث الأولى من إنشائه 1371?" - من تلاميذه، وكذا طلاب كلية الشريعة في الرياض - منذ إنشائها في عام 1373?" إلى نهاية عام 1380?" - من طلابه. وطلاب كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية منذ إنشاء الجامعة عام 1381?" وحتى وفاته سنة 1393?" من طلابه كذلك. ملاحظة أملى عليّ أسماء بعض هؤلاء التلاميذ فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد والشيخ محمد المختار بن محمد المختار وأملى الباقي الشيخ محمد الأمين بن الحسين بحضور بعض تلاميذ الشيخ - رحمه الله - من ذوي قرابته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 المبحث الخامس: مؤلفاته خلف الشيخ - رحمه الله - آثارا علمية تدلّ على سعة علمه، وطول نفسه في تحرير المسائل وتقريرها. وهي مؤلفات نفيسة ومفيدة وهي على نوعين تآليف كتبها في بلاده، وتآليف كتبها في المملكة. أما التي ألفها في بلاده، فهي: [1] أنساب العرب وهو نظم ألفه قبل البلوغ. ولما بلغ دفنه، قال لأنه لم يكن لله وإنما كان على نية التفوق على الأقران. [2] رجز في فروع مذهب مالك يختصّ بالعقود من البيوع والرهون. [3] ألفية في المنطق. [4] نظم في الفرائض. وكل هذه المؤلفات مخطوطة. أما مؤلفاته في المملكة، فهي: [1] منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز. وموضوعها إبطال إجراء المجاز في القرآن الكريم. [2] دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب. وقد أبان فيه ما يشبه التعارض في بعض الآي. وقد شمل القرآن كله. [3] مذكرة الأصول على روضة الناظر. جمع في شرحها أصول الحنابلة والمالكية والشافعية. وقد كانت مقررة على كليتي الشريعة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية. [4] آداب البحث والمناظرة. وقد أوضح فيه آداب البحث، من إيراد المسائل، وبيان الدليل. [5] أضواء البيان لتفسير القرآن بالقرآن، وهو مدرسة كاملة تتحدث عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 نفسها. وهو سبعة أجزاء كبار، وصل فيه - رحمه الله - إلى نهاية قد سمع".وهو آخر مؤلفاته. [6] رحلة الحج إلى بيت الله الحرام. وكل هذه المؤلفات مطبوعة. المحاضرات، والرسائل: [1] منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات. أوضح فيها تحقيق إثبات صفات الله تعالى. [2] حكمة التشريع. عالج فيها العديد من حكمة التشريع في كثير من أحكامه. [3] المثل العليا. أوضح فيه المثالية في العقيدة والتشريع والأخلاق. [4] المصالح المرسلة. بين فيها ضابط استعمالها بين الإفراط والتفريط. [5] الإسلام دين كامل. ألقاها بحضرة الملك محمد الخامس ملك المغرب عند زيارته للمدينة1.وهذه المحاضرات طبعت كلها مستقلة. وقد جمعها الشيخ سيد الأمين بن المامي الجكني - رحمه الله - في كتاب سماه المعين والزارد في الدعوة والإرشاد" وضمنه بعض الكلمات للشيخ - رحمه الله - والمراثي التي قيلت فيه. [6] حول شبهة الرقيق. ولا تزال مخطوطة عند الشيخ عطية سالم.   1 بتصرف من ترجمة الشيخ -رحمه الله-، بقلم تلميذه عطية سالم في مقدمته على أضواء البيان 1/51-55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 [7] رسالة في حكم الصلاة في الطائرة. كتبها استجابة لبعض علماء موريتانيا، حين زارها في رحلته الدعوية عام 1385?".ولا تزال مخطوطة؛ تقع في ست صفحات، وقد اطلعت عليها عند ابنه د/عبد الله. [8] رسالة في جواب سؤال من أحد أمراء بلاد شنقيط أرسله إلى الشيخ يسأله هل العالم مخلوق ومرزوق من بركة النبي صلى الله عليه وسلم، أو ذلك بأسباب أخرى؟ وقد أجاب الشيخ - رحمه الله - عن ذلك بإحدى عشرة صفحة، وهي لا تزال مخطوطة عند ولده الدكتور عبد الله. [9] رسالة متضمنة لأسئلة مقدمة من الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر، وفيها ثلاث مسائل؛ الأولى مقرّ العقل من الإنسان، والثانية هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب؟ والثالثة هل يجوز للكافر أن يدخل مساجد الله غير المسجد الحرام. وهي تقع في إحدى عشرة صفحة. ولا تزال مخطوطة بحوزة ولده الدكتور عبد الله. [10] رسالة حول منع الطواف في المسعى في الدور الثاني وهذه ذكرها لي الشيخ محمد الأمين بن الحسين. ومن آثاره العلمية - رحمه الله- أشرطة في تفسير القرآن الكريم قالها أثناء تدريسه في المسجد النبوي، وهي محفوظة في تسجيلات الجامعة الإسلامية، تقع في ثمانية وخمسين شريطاً، ولو فرغت لجاءت في مجلدات ضخمة. وهي من السور التالية وسوف أوضحها ذاكرا رقم الشريط أولاً، وما بعده من الأرقام هي أرقام الآيات المفسرة من السور في الشريط المذكور. أولا من سورة الأنعام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الشريط رقم [1] وفسر فيه الآيات: 33-38. الشريط رقم [2] وفسر فيه الآيات: 38-42. الشريط رقم [3] وفسر فيه الآيات: 42-48. الشريط رقم [4] وفسر فيه الآيات: 49-52. الشريط رقم [5] وفسر فيه الآيات: 53-56. الشريط رقم [6] وفسر فيه الآيات: 57-59. الشريط رقم [7] وفسر فيه الآيات: 74-83. الشريط رقم [8] وفسر فيه الآيات: 83-89. الشريط رقم [9] وفسر فيه الآيات: 90-93. الشريط رقم [10] وفسر فيه الآيات: 94-97. الشريط رقم [11] وفسر فيه الآيات: 98-99،103. الشريط رقم [12] وفسر فيه الآيات: 104-108. الشريط رقم [13] وفسر فيه الآيات: 108-111. الشريط رقم [14] وفسر فيه الآيات: 112-116. الشريط رقم [15] وفسر فيه الآيات: 116-120،128. الشريط رقم [16] وفسر فيه الآيات: 128-131. الشريط رقم [17] وفسر فيه الآيات: 131-135. 141-144 . الشريط رقم [18] وفسر فيه الآيات: 144-146. الشريط رقم [19] وفسر فيه الآيات: 146 -150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الشريط رقم [20] وفسر فيه الآيات: 150 -151. الشريط رقم [21] وفسر فيه الآيات: 151 -152. الشريط رقم [22] وفسر فيه الآيات: 155 -158. الشريط رقم [23] وفسر فيه الآيات: 158. ثانياً من سورة الأعراف: الشريط رقم [1] الآيات: 12،56 -57. الشريط رقم [2] الآيات: 57 -59،63 -64. الشريط رقم [3] الآيات: 64 -65. 69 -71 . 73 -74 . الشريط رقم [4] الآيات: 74،80 -81،86 -88. الشريط رقم [5] الآيات: 90 -93،96 -99. الشريط رقم [6] الآيات: 100 -101،103 -105. الشريط رقم [7] الآيات: 101 -106،115 -124. الشريط رقم [8] الآيات: 124 -129،131،138 -149. الشريط رقم [9] الآيات: 141 -144. الشريط رقم [10] الآيات: 148 -155. الشريط رقم [11] الآيات: 104،150،156 -159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الشريط رقم [12] الآيات: 159 -163،168 -169. الشريط رقم [13] الآيات: 164،170 -174. الشريط رقم [14] الآيات: 175 -181. الشريط رقم [15] الآيات: 182 -188. الشريط رقم [16] الآيات: 189 -199. الشريط رقم [17] الآيات: 200 -205. ثالثاً: من سورة الأنفال: الشريط رقم [1] الآيات: 7 -13. الشريط رقم [2] الآيات: 7 -10،12 -13. الآيات: 24 -29. الشريط رقم [3] الآيات: 30 -40. الشريط رقم [4] الآية: 41. الشريط رقم [5] الآيات: 42 -44. الشريط رقم [6] الآيات: 45 -50. الشريط رقم [7] الآيات: 50 -60. الشريط رقم [8] الآيات: 61 -70. الشريط رقم [9] الآيات: 71 -73. رابعاً: من سورة التوبة: الشريط رقم [1] الآيات: 1 -5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الشريط رقم [2] الآيات: 13 -16. الشريط رقم [3] الآيات: 17 -25. الشريط رقم [4] الآيات: 28 -31. الشريط رقم [5] الآيات: 31 -35،37. الشريط رقم [6] الآيات: 38 -40. الشريط رقم [7] الآيات: 40 -44،54. الشريط رقم [8] الآيات: 54 -63. الشريط رقم [9] الآيات: 63 -67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 المبحث السادس: ثناء العلماء عليه حدثني الشيخ محمد الأمين بن الحسين قائلاً: "إني لم أر أحداً من العلماء إلا وهو يثني على الشيخ الأمين - رحمه الله -". قال لي الشيخ محمد بن عبد الله بن آدُ: "سألت الشيخ عبد الله بن زاحم - رحمه الله - بعد مقابلته للشيخ الأمين عند مجيئه من بلاده ومحاورته عن العقيدة: "كيف رأيت صاحبي؟ قال: لانظير له، ولامثيل له؛ فنحن تأتينا وفود العلماء من كلّ جهة؛ لأننا عند الحرمين، ولم أر كقدرة الشيخ محمد الأمين على الإلقاء، ومطاوعة قلبه ولسانه في اتجاه واحد، وحسن تعبيره عند أيّ أحد ممن رأيت من العلماء". وقال الشيخ محمد بن عبد الله بن آدُ: "إني حضرت عند كثير من العلماء في مصر والشام ومكة والمدينة وموريتانيا، فلم أر قطّ أحداً أعلم من الشيخ محمد الأمين لا في التفسير، ولا في اللغة العربية. وأكبر دليل على ذلك: "أنه إذا أراد أن يتكلم في التفسير، وجاءت مسألة في التفسير، أو في الأصول أو التاريخ أو الأدب أو الحديث، وتكلم عليها يظنّ السامعون أنّ ذلك الحديث عن تلك المسألة - لخبرته وقوته في تلك المسألة التي يتكلم فيها - خارجاً عن التفسير، فكان - رحمه الله - يحفظ الأدب والشعر بشكل لا يتصور". وكان الشيخ محمد المختار يترك درسه الذي يدرس فيه أيام تدريس الشيخ محمد الأمين في الحرم في رمضان، ويقول: "أنا لا يمكن أن يفوتني درس الشيخ محمد الأمين لعلمي أنه العالم الوحيد الباقي في هذه الدنيا". وكذلك الشيخ عبد العزيز بن باز كان يجله أعظم الإجلال، وكذا الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 محمد بن إبراهيم؛ المفتي - رحمه الله - كان يثني عليه ثناء العلماء. ويكفي في ذلك ماقاله الشيخ محمد بن إبراهيم للملك عبد العزيز: "إنّ هذا الرجل مفلوت من صحراء مستعمرة، ولو كان للإسلام في بلده دولة لما تركته يخرج؛ لأنه من العلماء الأفذاذ"1. فكان - رحمه الله - محلّ الثناء من جميع العلماء في عصره. وأخبرني د/محمد الخضر الناجي قال: "رأيت شخصاً وقف أثناء تدريس الشيخ في الحرم، وقال: "ما أظنّ مثل هذا موجوداً في العالم اليوم أبداً". وكان يدرس معي في حلقة الشيخ أحد الطلاب الذين ينتمون إلى الطرق، وأهل الطرق يحملون عن الشيخ فكرة ليست طيبة، وبعضهم له موقف ضده. والحقّ ماشهدت به الأعداء فكنا إذا خرجنا من حلقة الشيخ نبحث عن المراجع التي تحمل هذا الكلام الذي نسمعه في الدرس فلا نجد. فقال بعبارة واضحة: "إنّ هذا الشيخ لايوجد مثله الآن في العالم أبداً. الله أعلم هل يصح مقارنته بالأئمة الأربعة الأولين أم لا؟. وهو مع ذلك يحقد عليه، لأنه ضدّ الطريقة". وأنقل هنا كلمة لأحد قضاة موريتانيا أثنى على الشيخ - رحمه الله -،بسبب توضيحه لعقيدة السلف في الصفات، وذلك عندما زار الشيخ - رحمه الله - موريتانيا على رأس بعثة الدعوة في أفريقيا عام 1385?، قال فيها: " ... هذا وقد بعثت الخطبة التي خطب بها رئيس الوفد محمد الأمين بن محمد المختار في زيارته للعاصمة نواكشط روحاً قيمة في نفوس المجتمع الإسلامي عامة، وفي نفوس الموريتانيين خاصة؛ تلك الخطبة التي أزلتم بها الشكوك عن الدين بأوضح حجة، وأوضح براهين، مما لا يوقع شكاً   1 نقلاً عن الشيخ محمد الأمين بن الحسين، في المقابلة التي أجريتها معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بعد اليقين، فلا شك ولاريب أنّ من اعتقدها اعتقاداً جازماً مؤمناً بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لايبقى في قلبه إشكال من عدم مماثلة الخالق بالمخلوق، ولاشك أنّ جميع الصفات من باب واحد؛ لأنّ متعلقها واحد، وهو الذات المقدسة. ولله درّ العالم الأديب بابا ولد الشيخ سيدي يحيى: واحذر التشبيه بالآيات وفي الأحاديث عن الثقات وهي الصفات نصف الرحمن واجب به   االإيمان إما على ظاهره نبقيها ونحذر التأويل والتشبيها ومن تأول فقد تكلفا وغير مابه علم قفا إلى آخر أبياته المشهورة. ولاشك أنّ أهل هذه البلاد تجاوزوا الحدّ وتنطعوا في أمر التأويل، وتكفيرهم لمن لم يقل به. ويفرقون بين صفاته تعالى مجوزين التفويض في بعضها، ويوجبون التأويل في بعضها، وهذا غلط ظاهر، فلا بدّ من وجوب التأويل في جميع الصفات، أو التفويض في جميع الصفات مما لايليق به جلّ وعلا1. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، فالمتأول يكل المتشابه إلى علم الله مع التنزيه عن مشابهة الحوادث، ولكن كلّ صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم يجب الإيمان بها على مراد الله بها مع التنزيه عن مماثلة الحوادث. وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وأخيراً ولاشك أن هذه الزيارة سيتزود منها العالم الإسلامي كثيراً من التعاليم والإرشادات القيمة التي سيكون لها أثرها الفعال في عقيدة المجتمع الإسلامي، والسير سيراً حثيثاً إلى الأمام، والتمسك بشريعة سيد الأنام.   1 التأويل والتفويض في المعنى كلاهما غير صحيح. والحقّ الإثبات مع معرفة المعنى بدون تأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وليست هذه الخطبة هي أول إرشاداتكم وتعليماتكم للمجتمع الإسلامي، فقد نفيتم إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وفسرتم القرآن بالقرآن، بما لم يسبق إليه عالم في غابر الأزمان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"1. وبهذا الثناء العاطر من معاصري الشيخ محمد الأمين رحمه الله تعالى تتضح لنا منزلته الرفيعة التي يتبوّؤها هذا الإمام الجليل، وشخصيته الفذة التي حباه الله بها، فرحمه الله رحمة واسعة وغفر لنا وللمسلمين إنه جواد كريم.   1 نقلاً عن شريط مسجل فيه بعض محاضرات الشيخ في موريتانيا، وأحداث هذه الرحلة مسجلة في ثمانية أشرطة موجودة في تسجيلات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وقد استوفى ترجمة الشيخ -رحمه الله- كلّ من: تلميذه الشيخ عطية محمد سالم في مقدمته على أضواء البيان 1/3-64. والشيخ محمد المجذوب في كتابه: علماء ومفكرون عرفتهم من ص171-191. والأخ الباحث عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، في رسالته الماجستير التي تحمل عنوان: منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام من أضواء البيان ص1-97. والأخت الباحثة سميرة بنت صقر آل محمد، في رسالتها الماجستير التي تحمل عنوان: الشنقيطي ومنهجه في التفسير ص30-117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الباب الأول: جهود الشيخ الأمين -رحمه الله- في توضيح الإيمان بالله تمهيد : الإيمان بالله تعالى هو الركن الأول من أركان الإيمان الستة. لذا فإن معرفته وتحقيقه غاية كلّ مسلم، ومنتهى كلّ طالب للحقّ، لأنّ شرف العلم من شرف المعلوم. فمعرفة الله وعبادته أشرف المطالب، وأعلى المقاصد، وبإخلاص العبادة وصوابها يكون العبد من أولياء الله تعالى ومن أهل دار كرامته، وممن تناله رحمته وهداه. ومن قصر في هذا الجانب العظيم كان ممن عرض نفسه لسخط الله تعالى ومقته، وحرمها من فضله وكرمه. والله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق لم يتركهم هملاً، بل أنزل إليهم الكتب، وأرسل الرسل يبلغونهم أوامر ربهم، ويدلونهم على طريق الرشاد. وقد دلّ الله على نفسه، وعرّف خلقه بأسمائه وصفاته ووحدانيته وإلهيته، وأنه المتفرد بالعبودية كما أنه المتفرد بالربوبية. ودعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جاءت لتقرير هذه العقيدة وترسيخها في قلوب العباد، وأن يعملوا على تطبيقها والتمسك بها. والقرآن الكريم من أوله إلى آخره متضمن لعقيدة التوحيد؛ إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله: فهو التوحيد العلمي الخبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وإما دعوة إلى عبادته وحده لاشريك له، وخلع كلّ مايعبد من دونه: فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره: فهي حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن كرامته لأهل توحيده وطاعته، ومافعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة؛ فهو جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلّ بهم في العقبى من العذاب: فهو خبر عمّن خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه1. والإيمان بالله تعالى لايخرج عن ثلاثة أنواع: الأول: توحيد الربوبية: وهو الإقرار بأن الله هو الرب الخالق المالك المدبر لجميع الأمور. الثاني: توحيد الألوهية: وهو الإقرار بأن الله هو الإله المستحق للعبادة وحده، وكلّ معبود سواه باطلٌ. الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم , ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا تكييف. وقد قرر الشيخ الأمين -رحمه الله- الذي أفرد هذا البحث لبيان جهوده في تقرير عقيدة السلف-هذا التقسيم؛ حيث قال:   1 بتصرف من كلام ابن القيم في مدارج السالكين 3/450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 "دل استقراء القرآن العظيم على أنّ التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توحيده في ربوبيته؛ وهذا النوع جبلت عليه فطر العقلاء. الثاني: توحيده جلّ وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو: تحقيق معنى "لا إله إلا الله"، وهي متركبة من نفي وإثبات. الثالث: توحيده جلّ وعلا في أسمائه وصفاته1. وهذا التقسيم ليس بدعاً من الشيخ -رحمه الله-، بل له في ذلك سلف؛ فقد ذكره قبله بآماد طويلة أئمة أجلاء في كتبهم؛ من أمثال الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن مندة2 -رحمه الله- في كتابه التوحيد؛ فقد ابتدأه -رحمه الله- بوحدانية الله تعالى في ربوبيته مستدلاً بذلك على توحيده تعالى في العبادة، ثم ثنى بتوحيد الألوهية؛ وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ثلّث بتوحيد أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا3. وممّن أورد هذا التقسيم، وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية4، وابن   1 أضواء البيان 3/410، 411. وانظر: المعين والزاد 64، 65. 2 الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده، أبو عبد الله. محدث الإسلام. كان من أوسع العلماء رحلة وأكثرهم حديثاً وشيوخاً، ولد سنة (310،أو 311?) بأصبهان، وتوفي سنة (395?) . (انظر: طبقات الحنابلة 2/167. وسير أعلام النبلاء11/7-10. والبداية والنهاية11/336) . 3 انظر مقدمة تحقيق كتاب التوحيد لابن منده، لفضيلة الدكتور علي ناصر الفقيهي ص33. 4 شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني. ولد -رحمه الله- بحران سنة (661?) ، وتوفي في سجن القلعة بدمشق سنة (728?) . (انظر: تذكرة الحفاظ4/1496. والبداية والنهاية 14/132 وقد أورد هذا التقسيم في العقيدة التدمرية ص4-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قيم الجوزية1، وابن أبي العزّ الحنفي2، والمقريزي3. فتقسيم الشيخ الأمين -رحمه الله- مطابق لدلالة القرآن على التوحيد4 كما فهمه السلف رحمهم الله. وإن كان بعضهم قد جعله قسمين؛ فضم توحيد الربوبية والأسماء والصفات في قسم، وسماه التوحيد العلمي، وجعل توحيد الألوهية قسماً مستقلاً، وسماه التوحيد العملي5.   1 الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية الزرعي الدمشقي. ولد بدمشق سنة (691?) ، وتوفي بها سنة (751?) . وقد لازم شيخ الإسلام ابن تيمية وسجن معه في القلعة. (انظر: البداية والنهاية 14/246. وشذرات الذهب 6/168) . وأورد هذا التقسيم في كتابه مدارج السالكين 1/24-25. 2 صدر الدين محمد بن علاء الدين؛ علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الصالحي. ولد سنة (731?) ، وولي قضاء دمشق ومصر وتوفي -رحمه الله- بدمشق سنة (792?) . (انظر: شذرات الذهب6/326) .وقدأوردهذا التقسيم في شرحه للعقيدة الطحاوية ص88. 3 تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن تميم المقريزي الحنفي. الإمام المؤرخ. نشأ بالقاهرة وتوفي بها سنة 845?. (انظر: الضوء اللامع 2/21) . وأورد هذا التقسيم في كتابه تجريد التوحيد ص4-5. 4 قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد:"هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده، وابن جرير الطبري، وغيرهما، وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وقرره الزبيدي (في تاج العروس) ، وشيخنا الشنقيطي (في أضواء البيان) ، وآخرون، رحم الله الجميع، وهو استقراء تام لنصوص الشرع، وهو مطرد لدى أهل كل فن؛ كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى (اسم وفعل وحرف) . والعرب لم تفُه بهذا، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب. وهكذا في أنواع الاستقراء". (التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير ص30) . وقد أورد الطبري رحمه الله هذا التقسيم في تفسيره (11/60) ، وأورده الزبيدي في تاج العروس (2/528) .وممن قال به: صديق حسن خان في كتابه الدين الخالص (1/56) . 5 انظر: مدارج السالكين 1/25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وهذا التقسيم قد احتوى على المراد، ولايتعارض مع تقسيم من جعله ثلاثة أقسام، أو أربعة1: فهي بمعنى واحد، ولأن الكل قرروا أن توحيد الألوهية هو معنى "لا إله إلا الله"، وقالوا بأن تحقيقه يمنع من دخول النار. وبذلك نستنتج أنّ الشيخ -رحمه الله- لم يرتض تقسيم المتكلمين2: لأنهم يخالفون دلالة القرآن على التوحيد، وغاية مايصلون إليه: توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. وقد ردّ عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية3-رحمه الله-، وبين عدم جدوى هذا التقسيم الذي لايفرق بين مؤمن ومشرك. ومن المناسب هنا أن أذكر ماأخبرنيه الدكتور عبد الله بن الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ والده كان يقول له: "ياولدي اعلم أن التوحيد ينقسم ثلاثة أقسام، وأن هذه القسمة استقرائية والاستقراء: هو تتبع النصوص؛ كما أن النحو علم بالاستقراء بتتبع لغة العرب؛ إما اسم أو فعل أو حرف، فكذلك علمنا أقسام التوحيد من تتبع القرآن؛ فالله تعالى قسم التوحيد ثلاثة أقسام في سورة الفاتحة؛ فقال "الحمدلله" والله هو المعبود بحق، {رَبِّ الْعَالَمِينَ} والرب هو الذي يربي الأشياء، وهذا توحيد الربوبية. ثم قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وهذا توحيد الأسماء والصفات. وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} دل على توحيد الألوهية. وتوحيد الألوهية أن تكون جميع أعمالك خالصة لله؛ من صلاة وصيام وزكاة ونذر وخوف ورجاء وغير ذلك مما لا يجوز صرفه إلا لله. وتوحيد الربوبية: مايكون في   1 انظر مقدمة تحقيق كتاب التوحيد لابن منده 1/33. 2 انظر الملل والنحل للشهرستاني1/42.فقد جعل التوحيد عندهم ثلاثة أقسام: واحد في ذاته لاقسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لانظير له، وواحد في أفعاله لاشريك له. 3 كما في التدمرية ص179-184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الكون فهو صادر عن الله تعالى. وتوحيد الألوهية شكر على توحيد الربوبية؛ لأن الله ربك فتشكره بأن تكون أعمالك خالصة له ولاتشارك غيره بها. أما توحيد الأسماء والصفات فهو مبنيّ على ثلاثة أسس: الأول: تصديق الله فيما قال. والثاني: تنزيه الله عن مشابهة خلقه. الثالث: قطع الطمع عن إدراك الكيفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الفصل الأول: توحيد الربوبية تعريفه: هو الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء، ومالكه وخالقه، ورازقه، وأنه المحيي المميت، النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار1. ولم أجد للشيخ الأمين -رحمه الله- تعريفاً لهذا النوع، وإنما مفاد كلامه أن الإقرار بتوحيد الربوبية أمر فطري؛ فطر الله عليه الخلق وتعرفه النفوس؛ حيث يقول -رحمه الله-: "هذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية2، وقال: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3 4. فالشيخ -رحمه الله- يؤكد أن القلوب مفطورة على هذا النوع من التوحيد، ويدل على ذلك قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَك} 5وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.." 6.   1 انظر تيسير العزيز الحميد ص33. 2 سورة الزخرف، الآية [78] . 3 سورة يونس، الآية [31] . 4 أضواء البيان 3/410. وانظر: المعين والزاد ص64. 5 سورة إبراهيم، الآية [10] . 6 أخرجه البخاري 2/97. ومسلم 4/2047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فالنفوس البشرية فطرت على هذا النوع من التوحيد، لكن لما وردت عليها المؤثرات الخارجية من الشهوات والشبهات خالفت فطرتها السليمة التي جبلها الله عليها. وقد أوضح الشيخ -رحمه الله- أنّ إنكار هذا النوع من التوحيد إنما هو عناد ومكابرة من عارف؛ فقال -رحمه الله-: "أما تجاهل فرعون –لعنه الله- لربوبيته جلّ وعلا في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1فإنه تجاهل عارف؛ لأنه عبدٌ مربوب؛ كما دلّ عليه قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ} الآية2، وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 3 4. وأكد -رحمه الله- أن الإتيان بهذا النوع من التوحيد لايفيد إلا إذا ضم إليه توحيد الألوهية؛ فكفار مكة لم ينفعهم الإقرار بالربوبية، حيث إنهم أشركوا في الألوهية: فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّت} . .إلى قوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 5-: صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الكفار يقرون بأنه جل وعلا هو ربهم الرازق المدبر للأمور، المتصرف في ملكه بما يشاء. وهو صريح في اعترافهم بربوبيته، ومع هذا أشركوا به جل وعلا، والآيات الدالة على أن المشركين مقرون بربوبيته جل وعلا –ولم ينفعهم ذلك لإشراكهم معه غيره في حقوقه جل   1 سورة الشعراء، الآية [23] . 2 سورة الإسراء، الآية [102] . 3 سورة النمل، الآية [14] . 4 أضواء البيان 2/482. وانظر: المصدر نفسه3/410،6/374،والمعين والزاد ص65. 5 سورة يونس، الآية [31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وعلا- كثيرة؛ كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 2، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3إلى غير ذلك من الآيات، ولذا قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. والآيات المذكورة صريحة في أن الاعتراف بربوبيته جل وعلا، لايكفي في الدخول في دين الإسلام إلا بتحقيق معنى "لا إله إلا الله" نفياً وإثباتاً5. ثم يؤكد -رحمه الله- أن الآيات الدالة على توحيد الربوبية إنما هي إلزام للمشركين أن يوحدوه في العبادة، وأن لايصرفوا شيئاً منها لغيره؛ حيث يقول -رحمه الله-: ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته، ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن من اعتراف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده6. ثم استدل -رحمه الله- بآيات كثيرة على إقرار الكفار بربوبية الله سبحانه وتعالى، وتوبيخ الله لهم بعد إقرارهم على شركهم في الألوهية؛ فقال -رحمه الله-: "ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ} إلى قوله {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ، فلما   1 سورة الزخرف، الآية [87] . 2 سورة الزخرف، الآية [9] . 3 سورة المؤمنون، الآيات [84-89] . 4 سورة يوسف، الآية [106] . 5 أضواء البيان 2/481، 482. وانظر: المصدر نفسه 3/74، 75، 410، والمعين والزاد ص65. 6 أضواء البيان 3/411. وانظر: المصدر نفسه 5/813، 6/620. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أقروا بربوبيته وبّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . فلما اعترفوا وبّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . ثم قال: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} . ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} . فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 2. ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ} ، فلما صحّ الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً} 3 4. إلى غير ذلك من الآيات التي استدل بها -رحمه الله- على إقرار الكفار بتوحيد الربوبية، وإلزام الله سبحانه وتعالى لهم أن يوحدوه بالعبادة. ثمّ يؤكّد -رحمه الله- أنّ الاستفهامات التي في آيات الربوبية استفهامات تقرير، وليست إنكار؛ فيقول -رحمه الله-: "إن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير يراد منها أنهم إذا أقروا ررتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار؛ لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة: نحو قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} 5،   1 سورة يونس، الآية [31] . 2 سورة المؤمنون، الآيات [84-88] . 3 سورة الرعد، الآية [16] . 4 أضواء البيان 3/411-412. 5 سورة إبراهيم، الآية [10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} 1. وإن زعم بعض العلماء2 أن هذا استفهام إنكار، لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار؛ لأنهم لاينكرون الربوبية كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه" 3. ولاشك أن القوم لم يعرف عنهم إنكارهم للربوبية، وإنما كان انحرافهم في جانب الألوهية؛ وهو الانحراف الذي بعثت الرسل جميعها لتقويمه. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها هي العبادة، ومن لوازمها توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، فاحتجّ الله عليهم به؛ فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية"4. وقال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- عن توحيد الربوبية: "وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضة طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات؛ كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض} 5 6. فلذلك لم يطل الشيخ -رحمه الله- الكلام على توحيد الربوبية بل نراه7استدل بدلائل توحيد الربوبية؛ والتي هي الآيات الكونية على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة.   1 سورة الأنعام، الآية [164] . 2 انظر: فتح القدير 2/186. وتفسير المنار 8/245. 3 أضواء البيان 3/414. 4 إغاثة اللهفان 2/135. 5 سورة إبراهيم، الآية [10] . 6 شرح العقيدة الطحاوية ص77. 7 كما سيأتي في الفصل الثاني: (في المطلب الثاني من المبحث الثاني) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية الذي هو الغاية من خلق العباد، وترتيب الثواب والعقاب. وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ إذ لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر إلا عند المكابرة، والجحود والإنكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الفصل الثاني: توحيد الألوهية المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية ... المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية هو أعظم أنواع التوحيد، وأشرفها. وهو متضمن لتوحيد الربوبية، فمن حقق توحيد الألوهية فقد أتى بالتوحيد الذي أراد الله من عباده، واستمسك بحبل الله المتين؛ لأنه المقصد الأعظم من بعثة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ومحور دعوتهم جميعاً. وقد حرص الشيخ رحمه الله على مسلك السلف في تعريف هذا النوع من أنواع التوحيد، وإبراز أهميته. ووضح أنه هو معنى "لا إله إلا الله"؛ تلك الكلمة الخالدة التي دعا إليها كلّ نبيّ أمته، وحذرهم من مخالفتها. وعرف الشيخ -رحمه الله- توحيد الألوهية، وحدد ضابطه؛ عرفه بأنه: "توحيده جلّ وعلا في عبادته"، وحدد ضابطه بقوله "وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى "لا إله إلا الله"؛ وهي مركبة من نفي وإثبات؛ فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ماكانت في جميع أنواع العبادات بإخلاص على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام"1. وقد أورد -رحمه الله- الأدلة من القرآن الكريم على تعريفه لهذا النوع من التوحيد؛ فقال: "وأكثر آيات القرآن الكريم من هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد: قوله   1 أضواء البيان 3/410. 2 سورة ص، الآية [5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الآية1، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5. فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: أن ما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة "لا إله إلا الله" لجميع ماجاء في الكتب؛ لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب. والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة"6. وعرف الشيخ -رحمه الله- توحيد الألوهية في موضع آخر بقوله: "إن توحيد الألوهية هو معنى كلمة "لا إله إلا الله"، وهي بلا شك متضمنة لجميع الشرائع، فيدخل في ذلك فعل كلّ واجب وغيره؛ كالمندوب، وترك كلّ محرم وغيره؛ كالمكروه" 7. ويقول عن هذا التوحيد في موضع آخر زيادة في الإيضاح: "إن الركن الأكبر الذي هو توحيد الله بأنواعه، المستلزم إفراده بالعبادة وحده هو منتهى التحرر من الرق والعبودية للمخلوقين؛ ومن جملتهم النفس والهوى   1 سورة محمد، الآية [19] . 2 سورة النحل، الآية [36] . 3 سورة الأنبياء، الآية [25] . 4 سورة الزخرف، الآية [45] . 5 سورة الأنبياء، الآية [108] . 6 أضواء البيان 3/410، 411. 7 معارج الصعود ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والشيطان –كفانا الله وإخواننا المسلمين شر ذلك كله والهوى والشيطان-"1. فالشيخ -رحمه الله- اعتنى بهذا التوحيد، شأنه شأن العلماء المحققين السائرين على منهج السلف الصالح الذين فهموا دعوة الرسل وحقيقة التوحيد، وأنها إفراد الله بكل أنواع العبادة، والكفر بكل ما يعبد من دون الله، والتمييز بين حقوق الله الخاصة به سبحانه، وبين حقوق خلقه. وللتدليل على أن الشيخ -رحمه الله- لم يخرج عن منهاج السلف، بل اقتفى أثرهم في الاعتناء بهذا النوع من أنواع التوحيد أذكر تعريفاً واحداً من تعاريف السلف لهذا التوحيد؛ يقول الإمام ابن تيمية2-رحمه الله-: "فإنّ حقيقة التوحيد: أن نعبد الله وحده، فلا يدعى إلا هو، ولا يُخشى إلا هو، ولا يُتقى إلا هو، ولايتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، لا لأحد من الخلق، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم" 3. ويلاحظ التوافق بين هذا التعريف، وتعريف الشيخ -رحمه الله-، بل السلف كلهم على هذا التعريف. ولم يقتصر اعتناء الشيخ -رحمه الله- بهذا النوع من أنواع التوحيد على مجرد ذكره وتبيين أهميته في كتبه، بل نراه لا يدع مناسبة إلا ويحرص على التدليل على أهميته، وتبيين أنه أصل الدين وأساسه؛ يقول في محاضرة ألقاها في المسجد النبوي متحدثاً عن هذا النوع العظيم من أنواع التوحيد: "توحيده جلّ وعلا في عبادته هو الذي فيه جميع المعارك بين الرسل والأمم،   1 منهج التشريع الإسلامي ص11. 2 تقدمت ترجمته. 3 منهاج السنة النبوية 3/490. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وهو الذي أرسلت لتحقيقه، وحاصله هو معنى "لا إله إلا الله"؛ فهو مبني على أصلين هما النفي والإثبات في "لا إله إلا الله". فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادة كائنة ماكانت. ومعنى الإثبات منها: هو إفراده جلّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادة على الوجه الذي شرع أن يعبد به. وجلّ القرآن في هذا النوع: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3. {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4، {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5. والآيات في هذا كثيرة جداً6. ونراه -رحمه الله- أثناء مروره بـ"أم درمان" متجهاً إلى الديار المقدسة يُسأل عن قصة الغرانيق7، فيوضحها، ويتكلم عن إخلاص العبادة لله تعالى فيقول: "فإخلاص العبادة لله وحده هو دعوة عامة الرسل، وأشدهم فيه احتياطاً خاتمهم صلى الله عليه وسلم , ولذا منع بعض الأمور التي كانت مباحة عندهم احتياطا في توحيد الله في عبادته جلّ وعلا، فالسجود   1 سورة النحل، الآية [36] . 2 سورة الأنبياء، الآية [25] . 3 سورة البقرة، الاية [256] . 4 سورة الزخرف، الآية [45] . 5 سورة الأنبياء، الآية [108] . 6 المعين والزاد ص65. 7 تتلخص قصة الغرانيق فيما يأتي: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة، فلما بلغ:"أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى"ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فلما بلغ السجدة سجد، فسجد معه المسلمون والمشركون. وقد رجح الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- عدم صحتها، وعضّد قوله بأقوال عدد كبير من العلماء الذين أنكروها. (انظر: رحلة الحج ص128-130. وكذا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/207-212-) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 لمخلوق في شريعته السمحة كفر بالله تعالى، مع أنه كان جائزاً في شرع غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى عن يعقوب وأولاده في سجودهم ليوسف: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} 1، ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أنه ما أوحي إليه إلا توحيد الله تعالى في عبادته في قوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وقد تقرر عند الأصوليين والبيانيين أنّ لفظ "إنما" من أدوات الحصر، فدلت الآية على حصر الموحى إليه صلى الله عليه وسلم في أصله الأعظم الذي هو "لا إله إلا الله"؛ لأنها دعوة جميع الرسل، وغيرها من شرائع الإسلام وفروعها التابعة لها. ولهذا صار مكذب رسول واحد مكذبا لجميع الرسل؛ لأن دعوتهم واحدة؛ قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} 3؛ أي بتكذيبهم نوحاً. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} 4؛ أي بتكذيبهم هودا.   1 سورة يوسف، الآية [100] . 2 سورة الأنبياء، الآية [108] . 3 سورة الشعراء، الآية [105] . 4 سورة الشعراء، الآية [123] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} 1؛ أي بتكذيبهم لوطاً. {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} 2؛ أي بتكذيبهم شعيباً. فهذه الآيات تدل على أن مكذب رسول واحد مكذب لجميع الرسل؛ وذلك لاتحاد دعوتهم، وهي مضمون لا إله إلا الله" 3. وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع. والمقصود أن الشيخ -رحمه الله- لم يترك مناسبة تمرّ إلا وأفاض فيها في الكلام عن توحيد الألوهية، وأنه دعوة جميع الأنبياء عليهم السلام، وأنّ الله سبحانه وتعالى ما خلق الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب إلا ليعبد ولايشرك معه شيء. ونراه كذلك -رحمه الله- يسترسل في ذكر الأدلة الصريحة من القرآن الكريم الدالة على شأن العبادة وعظمها؛ فيقول "والآيات الدالة على أن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجل أن يعبد الله وحده كثيرة جداً؛ كقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 5، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 6، وغير ذلك من الآيات" 7. والشيخ -رحمه الله- قد أوضح أن توحيد الألوهية هو معنى "لا إله إلا الله" التي من أجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب.   1 سورة الشعراء، الآية [160] . 2 سورة الشعراء، الآية [176] . 3 رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص134. 4 سورة النحل، الآية [36] . 5 سورة الأنبياء، الآية [25] . 6 سورة الزخرف، الآية [45] . 7 أضواء البيان 3/8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وببيان معنى هذه الكلمة العظيمة تكتمل الفائدة ببيان تعريف توحيد الألوهية. معنى "لا إله إلا الله" " لا إله إلا الله" كلمة التوحيد التي من حققها دخل الجنة، وكان من الآمنين يوم القيامة. وهي أصل الدين، ودعوة جميع الأنبياء والمرسلين؛ من لدن نوح عليه السلام، وحتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كلّ منهم يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً. ولأهمية هذه الكلمة وعظمها قال عنها الإمام ابن القيم1 -رحمه الله-: "كلمة قامت بها الأرض والسموات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار. وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار. فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد. وهي حق الله على جميع العباد؛ فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون. فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟، وماذا أجبتم المرسلين؟. فجواب الأولى بتحقيق "لا إله إلا الله" معرفة وإقراراً وعملاً. وجواب الثانية بتحقيق "أن محمداً رسول الله" معرفة وإقراراً وانقياداً وطاعة" 2. وقد سلك الشيخ -رحمه الله- مسلك السلف في تفسير معنى "لا إله إلا   1 تقدمت ترجمته. 2 زاد المعاد 1/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الله" فقال: "إن معناها: لا معبود بحق إلا الله" 1. وهذا هو التفسير الصحيح الذي ارتضاه السلف الصالح رحمهم الله؛ يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب2رحمهم الله: "ومعنى لا إله إلا الله: أي لامعبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لاشريك له؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلآ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلآ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4، فصح أن معنى الإله: هو المعبود. ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: "قولوا لا إله إلا الله" قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 5. وقال قوم هود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 6، وهو إنما دعاهم إلى "لا إله إلا الله". فهذا هو معنى "لا إله إلا الله"، وهو: عبادة الله، وترك عبادة ما سواه؛ وهو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله" 7. ولم يقتصر الشيخ الأمين -رحمه الله- على التعريف السابق بل زاد معنى "لا إله إلا الله" توضيحاً بذكر ما اشتملت عليه من نفي وإثبات، وببيان أن الدين الإسلامي قائم على هذه الكلمة؛ فقال عند تفسيره لقوله   1 انظر: أضواء البيان 4/508، 6/273. ومعارج الصعود ص143. 2 هو الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. من أئمة الدعوة المجاهدين. ولد في الدرعية سنة (1200هـ) . كان قاضياً على مكة المكرمة في عهد الدولة السعودية الأولى. مات مقتولاً في الدرعية عام (1233هـ) عندما هاجمها إبراهيم باشا. (انظر: علماء نجد خلال ستة قرون 1/293. والأعلام 3/123) . 3 سورة الأنبياء، الآية [25] . 4 سورة النحل، الآية [36] . 5 سورة ص، الآية [5] . 6 سورة الأعراف، الآية [70] . 7 تيسير العزيز الحميد ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1: "إن حصر الوحي في آية الأنبياء هذه في توحيد العبادة حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع؛ لأن شرائع الأنبياء كلهم داخلة في ضمن معنى "لا إله إلا الله"؛ لأن معناها خلع جميع المعبودات غير الله جل وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات؛ فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية" 2. ويقول -رحمه الله- في موضع آخر: "وقد حصر الله جل وعلا الوحي كله في هذه الكلمة؛ حيث قال: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3؛ وذلك أنها تحتوي على مضمون كلّ الكتب السماوية والشرائع الإلهية، وتشملها؛ لأنها مركبة من نفي كل الآلهة –غير الله-، ونفي عبادتها، وإثبات كلّ العبادات لله وحده، ففيها يدخل كلّ تقرب إلى الله تعالى من عقائد وأعمال، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 4. فكل التكليفات والحقوق مندرجة تحت هذه الكلمة، ولهذا قال نبي الله هود: "أعبدوا الله"؛ أي تقربوا إليه وحده بما أمركم بالتقرب به إليه من العبادات على وجه الخضوع والذلّ والمحبة، فلا تكفي المحبة دون الخضوع والذلّ، لأنها قد تكون طبيعية، ولا يكفي مجرد الخضوع والذلّ؛ لأنه قد يكون خاضعاً لمن يبغضه، تحت قهره وسلطانه، وباجتماع ذلك يحصل كمال العبودية لله" 5.   1 سورة الأنبياء، الآية [108] . 2 أضواء البيان 3/8. 3 سورة الأنبياء، الآية [108] . 4 أخرجه مسلم 1/53. 5 معارج الصعود ص136. وانظر المصدر نفسه ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وبهذا يتضح اهتمام الشيخ -رحمه الله- بمعنى "لا إله إلا الله". واقتداؤه في تفسيرها بسلف هذه الأمة، وسلوكه مسلكهم من حيث إيضاح معناها غاية الإيضاح. وبيان أنها قاعدة الدين، ومنتهى غاية المؤمنين. وقد كرر -رحمه الله- نحو هذا الكلام في عدة مواضع من كتابه أضواء البيان1. وفي غيره من كتبه2. وأذكر هنا من أقوال السلف مايعضد فهم الشيخ -رحمه الله- لمعنى "لا إله إلا الله" المشتملة على النفي والإثبات: فمن ذلك: قول شيخ الإسلام ابن تيمية3-رحمه الله- بعد كلامه على إخلاص العبادة لله: "وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإنها تنفي عن قلبه ألوهية ماسوى الحق، وتثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافياً لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب العالمين، ورب الأرض والسماوات. وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله وعلى مفارقة ماسواه؛ فيكون مفرقا –في علمه وقصده، في شهادته وإرادته، في معرفته ومحبته- بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالماً بالله تعالى، ذاكرا له، عارفاً به. وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وإنفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محباً لله، معظماً له، عابداً له، راجياً له، خائفاً منه، محباً فيه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً عليه، ممتنعاً عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك مما هو من خصائص إلهيته   1 انظر: أضواء البيان 1/103، 2/47، 3/205، 267. 2 انظر: تفسير سورة النور –جمع د/عبد الله القادري- ص197. ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/204، 225. 3 تقدمت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 سبحانه وتعالى" 1. ومن أقوال العلماء الذين اشتهر عنهم تمسكهم بمنهج السلف في مسائل العقيدة، واهتمامهم بهذا النوع من التوحيد خاصة؛ أذكر قول الإمام محمد بن عبد الوهاب2-رحمه الله- في معنى "لا إله إلا الله" مؤيداً بذلك كلام الشيخ الأمين -رحمه الله- في هذا المعنى يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "فإن هذه الكلمة "لا إله إلا الله" نفي وإثبات؛ نفي الإلهية عما سوى الله سبحانه وتعالى من المخلوقات، حتى من المرسلين البشر وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم , وحتى من الملائكة وجبريل عليهم وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام، فضلاً عن غيرهم من الأنبياء والصالحين وسائر المخلوقات؛ وإثباتها بجميع أنواعها كلها لله عز وجلّ وحده لا شريك له" 3. والخلاصة: أنّ الشيخ الأمين -رحمه الله- يرى أن معنى "لا إله إلا الله" لا يقتصر على النطق بها، بل يجب تحقيق لوازمها، مع ترك ما يناقضها؛ فالجهل بمعناها جهل بالدين لا ينجي من الخلود في النار، فإنّ "لا إله إلا الله" هي معنى توحيد الألوهية؛ الذي هو دعوة الرسل جميعاً.   1 العبودية ص156. وانظر شرح العقيدة الطحاوية ص111. 2 هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي الوهيبي التميمي، مجدد الدعوة في الجزيرة العربية. ولد في العيينة سنة (1115?) ، وتوفي في الدرعية سنة (1206?) . (انظر: علماء نجد 1/25) . 3 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول –العقيدة: تفسير كلمة التوحيد- ص363، 364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 المبحث الثاني: براهين التوحيد المطلب الأول: دلالة الصفات على توحيد الألوهية ... المبحث الثاني: براهين التوحيد توحيد الألوهية هو غاية دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والحكمة من خلق الخلق، ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب إفراد الله بالعبادة، وأنه وحده المستحق أن يعبد ويعظم. والأدلة على ألوهية الله سبحانه وتعالى واستحقاقه للهبادة هي أيضا دلائل على ربوبيته، وأسمائه وصفاته؛ لأن توحيد الألوهية –كما مرّ- متضمن لتوحيد الربوبية، فمن أتى به فقد جاء بالتوحيد المطلوب المنجي من دخول النار، المقتضي دخول الجنة. وقد اهتم الشيخ الأمين -رحمه الله- بهذه البراهين، فأورد في تفسيره نصوصا كثيرة من القرآن الكريم، وذكر أنها تدل على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة دون سواه، وهذه النصوص منها ما هو في صفاته سبحانه وتعالى الدالة على ألوهيته وعظمته. ومنها ما هو في آياته المنزلة والمخلوقة. وقد ذكرها في مواضع بالإجمال، وفي أخرى بالتفصيل، وسوف أوردها مجملة، ثم أفصل كل دليل على حدة مسترشداً بكلام الشيخ رحمه الله على فهم هذه البراهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المطلب الأول: دلالة الصفات على توحيد الألوهية ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- بعض الصفات الدالة على ألوهية الله سبحانه، واستحقاقه للعبادة؛ فمنها: صفة الملك، وصفة الوحدانية، وصفة الألوهية، وصفة الخلق، وصفة القدرة. فعند تفسير قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 1. قال -رحمه الله-: "وقد أثنى –جلا وعلا- على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور، هي أدلة قاطعة على عظمته واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له: الأول منها: أنه هو الذي له ملك السموات والأرض. والثاني: أنه لم يتخذ ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك هلواً كبيراً. والثالث: أنه لا شريك له في ملكه. والرابع: أنه هو خالق كلّ شيء. والخامس: أنه قدر كل شيء خلقه تقديراً. وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات كثيرة". ثم سرد -رحمه الله- آيات كثيرة تدل على كل نوع من هذه الأمور   1 سورة الفرقان، الآية [2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الخمسة، على طريقته -رحمه الله- في بيان القرآن بالقرآن. فقال: "أما الأول منا: وهو أنه له ملك السموات والأرض فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى في سورة المائدة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الآية1،وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية2. وجميع الآيات التي ذكر فيها جل وعلا أن له الملك، فالملك فيها شامل لملك السموات والأرض وما بينهما، وغير ذلك؛ كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} 3 ... والآيات الدالة على أن له ملك كل شيء كثيرة جداً معلومة"4. والأمر الثاني –وهو كونه لم يتخذ ولداً- استدل له بقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . الأمر الثالث: استدل له بقوله تعالى في سورة سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 5. وقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 6؛ لأن قوله: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يدل على تفرده بالملك والقهر، واستحقاق إخلاص العبادة كما لا يخفى. إلى غير ذلك من الآيات. واستدل للأمر الرابع –وهو كونه خالق كل شيء- بقوله تعالى: {ذَلِكُمُ   1 سورة المائدة، الآية [40] . 2 سورة فاطر، الآية [13] . 3 سورة آل عمران، الآية [26] . 4 أضواء البيان 6/265. 5 سورة سبأ، الآية [22] . 6 سورة غافر، الآية [16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلآ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1، إلى غير ذلك من الآيات. واستدل للأمر الخامس –وهو كونه قدر كل شيء خلقه- بقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 2. وهذا الذي أوردته قليل من كثير مما أورده الشيخ -رحمه الله- في كتاب التفسير من أدلة قرآنية على هذه الأنواع3. فالشيخ الأمين -رحمه الله- يتناول براهين التوحيد بالتوضيح في هذه السورة الكريمة وحدها مؤكدا أن من اتصف بهذه الصفات العظيمة فهو المستحق أن يعبد ولا يشرك معه أحد؛ فالله سبحانه وتعالى هو النافع الضار، المتفرد بكل كمال، الآمر الناهي. قدر جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلقه، ثم كتبه في اللوح المحفوظ4، ثم خلقه وفق ما يريد، فسبحان المتصف بكل كمال وجلال، فهو الإله المعبود بحق وحده. وهذا ما أكده أيضاً الإمام ابن القيم5-رحمه الله- حيث يقول: "وإذا كان وحده هو ربنا وملكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه. ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى، ولا يخاف، ولا يرجى، ولا يحب سواه. ولا يذل لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه وتخافه، وتدعوه، وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك   1 سورة غافر، الآيتان [62-63] . 2 سورة الأعلى، الآيتان [2-3] . 3 راجع أضواء البيان 6/265-267. 4 يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ". أخرجه مسلم في صحيحه كتاب القدر 4/2044. بلفظ:"كتب الله مقادير الخلائق"والترمذي في سننه 4/458 وقال: حديث حسن صحيح غريب. واللفظ له. 5 تقدمت ترجمته.؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 والقيم بأمورك ومتولي شأنك؛ وهو ربك فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق؛ فهو ملك الناس حقاً، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإله الحق؛ إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجؤا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعاً بربوبيته وملكه وإلهيته لهم. فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه إلى ربه ومالكه وإلهه"1. وخلاصة القول: أن من كان متصفاً بتلك الصفات العظيمة جدير بأن يعبد وحده ولا يشرك معه أحد من خلقه؛ وهو ما يؤكده الشيخ الأمين -رحمه الله-، وما يحتويه كلامه السابق؛ فالموجودات كلها واقعة تحت أمر الله ونهيه وقهره. فسبحان من تفرد بالوحدانية والملك والألوهية. وهذه الصفات العظيمة الدالة على توحيد الألوهية: قد أجمل الشيخ -رحمه الله- الكلام عنها في موضع واحد، ثم فصل الكلام عنها في مواضع متعددة من تفسيره. وقد أجملت الكلام عنها فيما سبق اقتداء بصنيع الشيخ رحمه الله، وها أنا أشرع ببيانها على وجه التفصيل اقتداء بصنيع الشيخ -رحمه الله- أيضا. فمنها: أولا: قدرة الله على الخلق: الذي يقدر على خلق الخلق، وإبرازهم من العدم إلى الوجود هو الذي يستحق أن يعبد وحده؛ لأن من لا يقدر على ذلك عاجز، والعاجز لا   1 بدائع الفوائد 2/248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 يصلح أن يكون إلهاً ومعبوداً. وقد فصل الشيخ -رحمه الله- في هذه المسألة في عدة مواضع من تفسيره، أكتفي بذكر موضعين منها: فعند تفسيره لقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1. قال: "أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أنه هو المستحق لأن يعبد وحده؛ لأنه هو الخالق وحده، ولا يستحق من الخلق أن يعبدوا إلا من خلقهم وأبرزهم من العدم إلى الوجود، لأن المقصود من قوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ} إنكار ذلك، وأنه هو الخالق وحده، بدليل قوله بعده: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي وخالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده. ويبين هذا المعنى في آيات كثيرة؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية2، وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3، وقوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 4، وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 5، إلى غير ذلك من الآيات لأن المخلوق محتاج إلى خالقه؛ فهو عبد مربوب مثلك يجب عليه أن يعبد من خلقه وحده، كما يجب عليك ذلك، فأنتما سواء بالنسبة إلى وجوب عبادة الخالق وحده لا شريك له"6.   1 سورة الرعد، الآية [16] . 2 سورة البقرة، الآية [21] . 3 سورة الفرقان، الآية [3] . 4 سورة الأعراف، الآية [191] . 5 سورة لقمان، الآية [11] . 6 أضواء البيان 3/101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وعند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1 قال رحمه الله: "قد ذكرنا قريباً أن قوله: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلآ بِالْحَقِّ} 2 يتضمن البرهان القاطع على صحة معنى "لا إله إلا الله"، وأن العلامة الفارقة بين المعبود بحق وبين غيره هي كونه خالقاً. وأول سورة الأحقاف هذه يزيد ذلك إيضاحاً؛ لأنه ذكر من صفات المعبود بحق أنه خلق السموات والأرض وما بينهما بالحقّ وذكر من المعبودات الأخرى التي عبادتها كفر مخلد في النار أنها لاتخلق شيئاً" 3. ولاشك أن هذا البرهان من أعظم البراهين الدالة على توحيد الألوهية؛ إذ كيف يستحق العبادة من يعجز عن الخلق، بل هو مخلوق مربوب مفتقر إلى ربه وخالقه. فمن يستحق العبادة خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو الله رب العالمين، الإله المعبود وحده سبحانه وتعالى. ثانياً: النافع الضار النافع الضار من أسماء الله المزدوجة المتقابلة المقترنة التي لا يفرد أحدهما عن الآخر4. وهي تدل على كمال الله سبحانه وتعالى، وحكمته البالغة؛ حيث ينفع من أطاعه بفعل الخيرات في الدنيا والإعانة عليها، وتكون سبباً لدخول الجنة. والضارّ لمن عصاه وابتعد عن هداه ومآله إلى النار.   1 سورة الأحقاف، الآية [4] . 2 سورة الأحقاف، الأية [3] . 3 أضواء البيان 7/372. وقد ذكر الشيخ رحمه الله مضمون هذا المعنى في عدة مواضع من تفسيره أضواء البيان. (انظر مثلاً: 2/482، 3/211، 4/30) . 4 بدائع الفوائد 1/167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقد أشار الشيخ -رحمه الله- إلى أن النافع والضار هو الله وحده، فيجب أن يفرد بالعبادة وحده؛ إذ أن عبادة ما سواه باطلة؛ لأنه عاجز عن النفع والضر، والعاجز لايصلح أن يكون إلها. قال -رحمه الله- موضحاً هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلآ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} 1: "بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لايقدر على ردّ الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولاضراً لمن عصاه، وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزاً عن النفع والضر ورد الجواب. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع؛ كقوله في الأعراف في القصة بعينها: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} 2. ولاشك أن من اتخذ من لايكلمه ولايهديه سبيلاً إلها، فإنه من أظلم الظالمين، ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 3 4. وعند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} 5 قال -رحمه الله-: "ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن المعبودات من دونه لا تقدر أن تكشف ضراً أراد الله به أحداً، أو تمسك   1 سورة طه، الآية [89] . 2 سورة الأعراف، الآية [148] . 3 سورة مريم، الآية [42] . 4 أضواء البيان 4/497-498. 5 سورة الزمر، الآية [38] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 رحمة أراد بها أحداً، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 1..2. وبذلك يوضح الشيخ -رحمه الله- أن القادر على النفع والضر هو المستحق للعبادة، ولايقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى؛ فهو الإله المعبود وحده. وما ذكره الشيخ -رحمه الله- لم ينفرد به، ولم يكن أول من قاله، بل هو معنى معروف قاله العلماء قبله، وهو عقيدة السلف الصالح المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن رجب3 -رحمه الله-: "فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ماكتب الله له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده؛ فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولايغني عن عابده شيئاً. فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف، والرجاء، والمحبة، والسؤال، والتضرع، والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأن يتقى سخطه. ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً4.   1 سورة مريم، الآية [42] . 2 أضواء البيان 7/75. وقد أشار الشيخ -رحمه الله- لهذا المعنى في عدة مواضع من تفسير أضواء البيان. (انظر مثلاً: 3/280، 4/572، 7/606) . 3 أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي، ثم الدمشقي. ولد في بغداد سنة (736?) ونشأ وتوفي في دمشق سنة (795?) . (انظر: شذرات الذهب 6/339. والأعلام 3/295) . 4 جامع العلوم والحكم ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وخلاصة القول: أن الشيخ -رحمه الله- استشهد على ألوهية الله، واستحقاقه العبادة بكونه النافع والضار وحده كما صرحت بذلك الأدلة الصريحة الواضحة في كتاب الله تعالى. ثالثاً: الرزاق الرزاق من أسماء الله تعالى الدالة على عظم فضله وكرمه وسخائه؛ فهو الذي يرزق أهل السموات والأرض بأنواع الخيرات والنعم المتتالية. وكما أنه يرزق عباده الدنيا وملذاتها كذلك يرزق الإيمان الموصل إلى الجنة ونعيمها. ولايقدر على ذلك كله إلا الله وحده. فهو المستحق أن يعبد وحده لاشريك له. وقد أوضح الشيخ -رحمه الله- هذا المعنى، وأشار إلى أنه لا يجوز أن تكون العبادة إلا لمن رزق الخلق وأنعم عليهم بالخيرات المتتالية، وهو الله سبحانه وتعالى. أما غيره فلا يستحق أن يعبد؛ لأنه عاجز عن رزق العباد، والعاجز لا يكون إلهاً؛ فقال عند تفسيره قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُون} 1: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات؛ بإنزال المطر، ولا من الأرض؛ بإنبات النبات، وأكد عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون؛ أي لا يملكون أن يرزقوا، والاستطاعة منفية عنهم أصلاً؛ لانهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء. ويفهم من الآية الكريمة: أنه لا يصح أن يعبد إلا من يرزق الخلق؛ لأن أكلهم رزقه وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل. وهذا المعنى المفهوم بينه الله في مواضع أخر". ثم ذكر -رحمه الله- بعض الآيات الدالة على هذا المعنى؛ منها قوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} 2. وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلآ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا   1 سورة النحل، الآية [73] . 2 سورة تبارك، الآية [21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1، وغيرها من الآيات2. وهذا المفهوم الذي قصده الشيخ -رحمه الله- بهذا القول، هو عين ما ارتضاه أئمة التفسير ممن عرفوا بسلامة الاعتقاد. ودقة إيضاح المعاني التي تتضمنها الآيات. أمثال الإمام ابن كثير3 -رحمه الله- الذي قال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} 4. يقول الله تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً؛ أي لا يقدر على إنزال مطر، ولا إنبات زرع ولاشجر. ولا يملكون ذلك لأنفسهم؛ أي ليس لهم ذلك، ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} 5؛ أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 6 أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره" 7. وخلاصة القول: إن الشيخ الأمين -رحمه الله- يستدل بهذه الصفة العظيمة، وثبوت تفرد الباري سبحانه بها على استحقاقه للألوهية وحده لا شريك له؛ إذ ليس من العقل في شيء أن يأكل الإنسان رزق ربه ويتقلب   1 سورة الذرايات، الآيات [56-58] . 2 أضواء البيان 3/322-323. وأشار لهذا المعنى أيضاً في مواضع أخرى من تفسيره أضواء البيان. (انظر مثلاً: 3/327، 7/666) . 3 هو الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، أبو الفداء الدمشقي. ولد سنة (701?) في قرية من قرى الشام، وتوفي في دمشق سنة (774?) . (انظر: شذرات الذهب 6/231-232. والأعلام 1/320) . 4 سورة النحل، الآية [73] . 5 سورة النحل، الآية [74] . 6 سورة النحل، الآية [74] . 7 تفسير القرآن العظيم 2/578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 في نعمه، ويعبد سواه. رابعاً: عالم الغيب من أسماء الله سبحانه وتعالى: العليم، الذي أحاط بكل شيء علماً؛ علم الأمور قبل خلق السموات والأرض، ثم كتبها وقدرها وشاءها، ثم خلقها. وهاهنا يوضح الشيخ -رحمه الله- أنه لاينبغي أن يعبد إلا من اتصف بصفة العلم، وأما من لم يتصف بهذه الصفة العظيمة فهو عبد مقهور محتاج إلى الله تعالى الإله المستحق للعبادة وحده. يقول -رحمه الله- عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1: "ختم الله هذه السورة الكريمة بهذه الخاتمة العظيمة، فكأنه يقول: الذي يأمركم وينهاكم جدير بأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى؛ لأنه متصف بصفات عظيمة تستوجب أن يفرد بالطاعة، وأن لا يعصى له أمر، فإنه يعلم السر وأخفى"2. ثم يقول -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {َإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ} 3: "أي كل الأمور راجعة إليه تعالى. ومن الأمور الراجعة إليه بنوآدم وأعمالهم؛ فيجازي كلا منهم بما يستحق من خير أو شر. وفائدة الترتيب بالفاء في قوله تعالى: {فاعبده} الإشارة إلى نكتة؛ وهو أنه لا ينبغي أن يعبد ويخضع ويذل إلا لمن اتصف بهذه الصفات العظيمة، ومثله   1 سورة هود، الآية [123] . 2 معارج الصعود ص306. 3 سورة هود، الآية [123] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلآ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 1. ويفهم من مفهوم المخالفة أن الجاهل الذي لا يعلم الغيب لا ينبغي أن يخضع له؛ لأنه مربوب محتاج إلى الله تعالى" 2. فالشيخ يؤكد أن المتصرف في هذا الكون هو الله وحده، ولا يعلم الغيب غيره، فهو المعبود بحق دون سواه، وأما غيره من الأنبياء والملائكة والأولياء، فهم عاجزون عن نفع أنفسهم ومعرفة مستقبلهم فضلاً عن نفع غيرهم؛ قال الله تعالى مخبراً عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلا ضَرّاً إِلآ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لآسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ} 3.   1 سورة المزمل، الآية [9] . 2 معارج الصعود ص306-307. 3 سورة الأعراف، الآية [188] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المطلب الثاني: البراهين الكونية ومن براهين التوحيد: الآيات الكونية التي تسلك بالمخاطب سبيل الحس والمشاهدة، وتدل على عين المطلوب؛ فكل مخلوق يدلّ على وحدانية الخالق وأنه هو المعبود وحده. يتحدث الشيخ -رحمه الله- عن معنى الآية الكونية فيقول: "أما الآية الكونية القدرية فهي العلامة التي نصبها الله كوناً وقدراً ليبين بها لخلقه أنه الرب وحده، والمعبود وحده؛ كفلقه الحب من السنبل، والنوى عن النخل، وكإتيانه بالليل بدل النهار، والنهار بدل الليل، وتسخير الشمس والقمر، وخلقه النجوم ليهتدى بها. فهذه آيات كونية قدرية"1. فالآيات الكونية من عجائب صنع الله، وهي تدل على وحدانيته، واستحقاقه العبادة وحده، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتفكر فيها وننظر إليها حتى نوحده في ألوهيته جل وعلا. يقول الشيخ الأمين -رحمه الله- في بيان هذا الجانب: "أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها، وكماله، وجلاله، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا. وأشار لمثل ذلك بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الآية2 ووبخ في سورة الأعراف من لم يمتثل هذا الأمر، وهدده بأنه يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر في أمر الله   1 نقلاً عن الشريط رقم [15] ، بصوت الشيخ رحمه الله: الوجه الأول؛ في تفسير سورة الأنعام. وكذلك وضح هذا المعنى في الشريط رقم [10] : الوجه الثاني؛ تفسير السورة نفسها. 2 سورة فصلت، الآية [53] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 جل وعلا، أن ينظر فيه لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله جل وعلا في قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} 1 2. ويوضح لنا -رحمه الله- في مكان آخر الحكمة من النظر في هذه الآيات الكونية التي أمر الله سبحانه وتعالى بالنظر إليها، وأن مراد الله من النظر في تلك الآيات هو الاستدلال على أنه سبحانه المستحق للعبادة، وأن له الكبرياء والعظمة، وأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق: يقول -رحمه الله- مبيناً هذا الجانب عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} 3: "ذكر جل علا في هذه الآية الكريمة أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته؛ أي الكونية القدرية، ليجعلها علامات لهم على ربوبيته واستحقاقه العبادة وحده فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ماجاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق؛ كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} 4. والآفاق: جمع أفق؛ وهو الناحية. والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه، وعجائب مخلوقاته في نواحي سماواته وأرضه مايتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده" 5. وبذلك يبين الشيخ -رحمه الله- أن النظر وسيلة إلى عبادة الله، وليس غاية يقف عنده المتأمل وقفة حيرة وغفلة، وإنما نظرة تفكر واتعاظ تأخذ بصاحبها   1 سورة الأعراف، الآية [185] . 2 أضواء البيان 2/439. 3 سورة غافر، الآية [13] . 4 سورة فصلت، الآية [53] . 5 أضواء البيان 7/74-75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 إلى الحق، وتخرجه من الظلمة إلى النور. وقد أوضح -رحمه الله- البراهين الكونية الدالة على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة –والتي تضمنها القرآن الكريم- بالإجمال في مواضع، وبالتفصيل في مواضع؛ فذكر ستة أنواع تضمنتها أول سورة الجاثية، عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. فقال -رحمه الله- مبيناً هذا الجانب: "ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة من أول سورة الجاثية ستة براهين من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله، وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده تعالى: الأول منها: خلقه السموات والأرض. الثاني: خلقه الناس. الثالث: خلقه الدواب. الرابع: اختلاف الليل والنهار. الخامس: إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به. السادس: تصريف الرياح. وذكر أن هذه الآيات والبراهين إنما ينتفع بها المؤمنون الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه وآياته، فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم، ولذا قال: {لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، ثم قال: {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2 3. ثم سرد -رحمه الله- بعد ذلك الأدلة من القرآن الكريم، والتي تدل على   1 سورة الجاثية، الآيات [3-5] . 2 سورة الجاثية، الآية [5] . 3 أضواء البيان 7/329-330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 كل نوع من الأنواع الستة السالفة، كما هي طريقته -رحمه الله- في تفسير القرآن بالقرآن؛ فاستدل للنوع الأول بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 1. واستدل للنوع الثاني بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} 2. ومن الآيات التي استدل بها للنوع الثالث؛ خلق الدواب؛ قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. واستدل لاختلاف الليل والنهار بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ} 4. واستدل لإنزال الماء وإحياء الأرض به بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّا ًفَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّا ًوَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} 5. واستدل لتصريف الرياح بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} 6. إلى غير ذلك من الآيات7.   1 سورة الروم، الآية [22] . 2 سورة الروم، الآية [20] . 3 سورة النور، الآية [45] . 4 سورة النور، الآية [44] . 5 سورة عبس، الآيات [24-32] . 6 سورة الروم، الآية [46] . 7 انظر: أضواء البيان 7/329-333. وانظر المصدر نفسه 4/420-421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وفيما يلي أورد تفصيلاً للبراهين السالفة التي مر ذكرها مجملة. وأورد معها براهين أخرى غيرها ذكرها الشيخ الأمين -رحمه الله-، ورتبها حسب أهميتها. فمنها: أولاً: خلق السموات والأرض: خلق السموات والأرض من أعظم الأدلة القاطعة على أن الله هو المستحق أن يعبد وحده؛ فهي دليل حي مشاهد ناطق على وجود الخالق القادر المتفرد بالعبادة. يوضح الشيخ -رحمه الله- هذا البرهان فيقول: "وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً؛ بخلقه للسموات والأرض ومابينهما، في قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} الآية1. وبذلك تعلم أنه ماخلق السموات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبسا بأعظم الحق؛ الذي هو إقامة البرهان القاطع المذكور على توحيده جل وعلا. عُلم من استقراء القرآن أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره فهو المعبود بحق، ومن كان لايقدر على خلق شيء فهو مخلوق محتاج، لا يصح أن يعبد بحال" 2. وقال -رحمه الله- في موضع آخر عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ   1 سورة البقرة، الآيتان [21-22] . 2 أضواء البيان 7/366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1: "ووجه توكيده تعالى قوله: {إن إلهكم} بهذه الأقسام، وبـ"إنّ" واللام: هو أنّ الكفار أنكروا كون الإله واحدا إنكاراً شديداً، وتعجبوا من ذلك تعجباً شديداً؛ كما قال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. ولما قال تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 3 أقام الدليل على ذلك بقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 4. فكونه خالق السموات والأرض الذي جعل فيها المشارق والمغارب برهان قاطع على أنه المعبود وحده. وهذا البرهان القاطع الذي أقامه هنا على أنه هو الإله المعبود وحده أقامه على ذلك أيضاً في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلآ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 5، فقد أقام البرهان على ذلك بقوله بعده متصلاً به: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 6 7. فأدلة القرآن الكريم على ذلك البرهان ساطعة، وقد رأينا كيف أورد الشيخ -رحمه الله- هذا الدليل فأوضح أن خلق السموات والأرض دليل قاطع وبرهان ساطع على أن خالقها قدير عليم، وحكيم خبير، وأنه هو المستحق   1 سورة الصافات، الآيتان [4-5] . 2 سورة ص، الآية [5] . 3 سورة الصافات، الآية [4] . 4 سورة الصافات، الآية [5] . 5 سورة البقرة، الآية [163] . 6 سورة البقرة، الآية [164] . 7 أضواء البيان 6/673. وانظر كذلك المصدر نفسه: 4/440-441، 7/74، 644، 675، 738. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لأن يعبد وحده. وقد أوضح ابن القيم -رحمه الله- هذا الدليل الكوني مستدلاً به على نواحي كثيرة من التوحيد، فقال: "إن الأرض والبحار والهواء، وكل ما تحت السموات، بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر. ولهذا قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها؛ إما إخباراً عن عظمتها وسعتها، وإما إقساماً بها، وإما دعاء للنظر فيها، وإما إرشاداً للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالا منه بربوبيته لها على وحدانيته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالا منه بحسنها واستوائها والتئام أجزائها، وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته"1. فالشيخ -رحمه الله- يستدل بهذه المخلوقات العظيمة على طاعة الله وإفراده بالعبادة وحده، ويرد على الملاحدة المنكرين لوجود السموات بأنهم في غاية الجهالة: يقول -رحمه الله-: "والذين ينكرون وجود السموات في غاية من الجهل والسفه، ولا شك أن هذا الرب العظيم الذي يخلق هذه المخلوقات العظيمة هو الجدير بالطاعة والعبادة وحده، كما أنه الخالق وحده" 2. فهو -رحمه الله- يرد على من طغى في الجهالة والإلحاد، ويؤكد أن وجود السموات من أعظم الأدلة على ألوهية خالقها وموجدها من العدم، وممسكها بقدرته. كيف لا تكون موجودة وهذه الكواكب والنجوم زينة لها دالة على مبدعها، وخالقها، وأنه هو الربّ المعبود وحده سبحانه وتعالى.   1 مفتاح دار السعادة 1/248. 2 معارج الصعود ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ثانياً: خلق الإنسان: إن من أقرب الأدلة على وحدانية الله وألوهيته: خلق الإنسان؛ فهو آية ناطقة على عجائب صنعه ودقة خلقه. وقد دعا الله عباده إلى التفكر في أنفسهم حتى يتحقق عندهم الإيمان بأنه الرب الخالق والإله المعبود وحده؛ قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1. وقد أشار الشيخ -رحمه الله- إلى هذا الدليل العظيم الذي يراه كل إنسان في نفسه؛ إذ إن القادر على هذا الخلق والإيجاد هو المستحق أن يعبد وحده؛ يقول -رحمه الله- عند قوله تعالى: {خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2: "اعلم أولاً أن خلق الإنسان، وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة؛ كما أشار تعالى لذلك بقوله في أول النحل: {خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} 3، وقوله في آخر يس: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} 4؛ فالإنسان بالأمس نطفة، واليوم هو في غاية البيان وشدة الخصام؛ يجادل في ربه، وينكر قدرته على البعث. فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام، مع أن الله خلقه من نطفة، وجعله خصيماً مبيناً، آية من آياته جل وعلا دالة على أنه المعبود وحده، وأن البعث من القبور حق" 5. ويقول -رحمه الله- في موضع آخر عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ   1 سورة الذاريات، الآية [21] . 2 سورة الرحمن، الآيتان [3-4] . 3 سورة النحل، الآية [4] . 4 سورة يس، الآية [77] . 5 أضواء البيان 7/735. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} 1: " ... ثم ذكر الحكمة فقال: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} 2؛ أي لنظهر لكم بذلك عظمتنا زكمال قدرتنا، وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة. وقال في سورة المؤمن: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} 3. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 4. والآيات بمثل هذا كثيرة. وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله: {كَلآ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} 5؛ وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم جل وعلا. فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه. وما أكمل قدرته، وماأظهر براهين توحيده" 6. وقال -رحمه الله- في موضع آخر أيضاً عند تفسيره قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 7: "أي إن كنتم الآن ترون أنفسكم قد ركبتم من جسم بعظام ولحم ودم ومفاصل، فاعلموا أن أصلكم من هذا التراب، فالذي أوجدكم وأوصلكم إلى هذه الحال هو الذي لا يليق بكم أن تعبدوا غيره" 8. وقد أوضح هذا البرهان أيضاً الإمام ابن القيم -رحمه الله- بعد أن ذكر   1 سورة الحج، الآية [5] . 2 سورة الحج، الآية [5] . 3 سورة غافر، الآية [67] . 4 سورة القيامة، الآيات [36-40] . 5 سورة المعارج، الآية [39] . 6 أضواء البيان 5/779. 7 سورة هود، الآية [61] . 8 معارج الصعود ص158. وانظر أضواء البيان 4/102، 5/776. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بعض الآيات التي أسند الله فيها خلق الإنسان لنفسه المقدسة، وذكر فيها الأطوار التي يتدرج فيها الإنسان أثناء خلقه، فقال -رحمه الله-: "وهذا كثير في القرآن؛ يدعو العبد إلى النظر والتفكر في مبدأ خخلقه، ووسطه، وآخره؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقف على بعضه، وهو غافل عنه معرض عن التفكير فيه. ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره؛ قال الله تعالى: {قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} 1 2. فالشيخ الأمين -رحمه الله- يوضح أن خلق الإنسان بهذه الصفة العجيبة دليل باهر على ربوبية الله سبحانه وتعالى وتفرده بالعبادة وحده؛ فالقادر على هذا الخلق العظيم جدير بأن تصرف إليه العبادة وحده جل وعلا. ثالثاً: إنزال الماء: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 3. فالحياة قائمة على عنصرين: الماء والهواء. وقد امتنّ الله على عباده بإنزال الماء إليهم بالقدر الذي فيه صلاحهم ونفعهم، لينتفعوا به. ويعرفوا خالقهم فيشكروه ويحمدوه على هذه النعمة العظيمة. وقد أوضح الشيخ -رحمه الله- هذا المعنى؛ فقال عند تفسيره قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ   1 سورة عبس، الآيات [17-22] . 2 مفتاح دار السعادة 1/237. 3 سورة الأنبياء، الآية [30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} 1: "تضمنت هذه الآية الكريمة امتناناً عظيماً على خلقه بالماء الذي يشربونه، وذلك أيضاً آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته، وشدة حاجة خلقه إليه. والمعنى: أفرأيتم الماء الذي تشربون، الذي لا غنى لكم عنه لحظة، ولو أعدمناه لهلكتم جميعاً في أقرب وقت: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 2، والجواب الذي لا جواب غيره هو: أنت ياربنا منزله من المزن، ونحن لا قدرة لنا على ذلك. فيقال لهم: إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه فلم تكفرون به، وتشربون ماءه، وتأكلون رزقه، وتعبدون غيره، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء، وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكراً لنعمة هذا الماء، كما أشار له هنا بقوله: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} 3 جاء في آيات أخر من كتاب الله؛ كقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 4، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} 5، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} 6، وقوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} 7، إلى غير ذلك من الآيات" 8. ويستمر الشيخ -رحمه الله- في تفسير الآيات السابقة، وأكتفي منها بما   1 سورة الواقعة، الآيات [68-70] . 2 سورة الواقعة، الآية [69] . 3 سورة الواقعة، الآية [70] . 4 سورة الحجر، الآية [22] . 5 سورة النحل، الآية [10] . 6 سورة الفرقان، الآيتان [48-49] . 7 سورة المرسلات، الآية [27] . 8 أضواء البيان 7/792-793. وانظر المصدر نفسه: 5/784-786. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ذكرت؛ إذ أنه قد أبان فيه -رحمه الله- هذا الدليل العظيم على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة. ورغم هذا الامتنان من الله على خلقه، ولطفه بهم؛ حيث أنزل الماء بقدر، وأسكنه الأرض، وهو قادر سبحانه على الذهاب به، رغم هذا نجد من يكفر بتلك النعمة ويجحده، وينسب إنزال المطر لغير الله افتراء وبهتانً عليه. يقول الشيخ -رحمه الله- عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلآ كُفُوراً} 1 مبيناً حال تلك الفئة، وراداً عليها، ومفندا لأقوالها الردئية: "ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفوراً الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته؛ فالمنزل له عندهم: هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء المتبخر: إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته، ثم يجتمع، ثم يتقاطر، وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزال المطر، وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به، واستحقاقه وحد للعبادة، فمثل هؤلاء داخلون في قوله: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلآ كُفُوراً} 2، بعد قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} 3 وقد صرح في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أنه تعالى هو مصرف الماء ومنزله حيث شاء وكيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه   1 سورة الفرقان، الآيات [48-50] . 2 سورة الفرقان، الآية [50] . 3 سورة الفرقان، الآية [50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" 1. هذا لفظ مسلم -رحمه الله- في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا؛ مسنداً ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بطبيعة البخار ... ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً" 2. وهكذا يرد الشيخ -رحمه الله- على هؤلاء الملاحدة الذين جحدوا وجود الرب سبحانه وتعالى، وعطلوه عن ربوبيته وألوهيته، وهم يتقبلون في نعمته، ويأكلون ويشربون من فضله، ويرون هذا البرهان العظيم فلا يؤمنون. ويؤكد -رحمه الله- أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد، المنعم على الناس بفضله وقدرته، فالواجب عليهم أن يعبدوه وحده ولا يشركوا معه غيره، فسبحانه من إله عظيم امتنّ على عباده بجميع الخيرات. وقد أشار الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- إلى هذا الدليل الذي ذكره الشيخ الأمين، وجعله دليلاً على إفراد الله بالعبادة؛ يقول السعدي -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 3: "يذكر الله تعالى في هذه الآية نعمة من أعظم النعم، ليعقلوا عن الله مواعظه وتذكيره،   1 صحيح مسلم 1/83-84. 2 أضواء البيان 5/786. وانظر المصدر نفسه 5/784. 3 سورة النحل، الآية [65] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده"1. وبهذا يتبين أن إنزال الله تعالى للمطر بكمية مقدرة، فيها مصلحة شاملة لكل ما هو حي دليل على ألوهيته وعظمته؛ فإن القدرة على إنزال الماء من أقوى الأدلة على أنه لا معبود سواه. رابعاً: إحياء الأرض: من البراهين الكونية الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده: إحياء الأرض، وإنبات النبات الذي امتن الله به على عباده. وقد أوضح الشيخ -رحمه الله- هذا البرهان بأسلوب السؤال والجواب؛ حيث قال -رحمه الله-: "وإيضاح هذا البرهان باختصار أن قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} 2 أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه؛ كالخبز الذي يأكله، ويعيش به، من خلق الماء الذي كان سبباً لنباته: هل يقدر أحد غير الله أن يخلقه؟ الجواب: لا. ثم هب أن الماء قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض على هذا الوجه الذي يحصل به النفع من غير ضرر، بإنزاله على الأرض رشا صغيراً حتى تروي به الأرض تدريجاً من غير أن يحصل به هدم ولا غرق؛ كما قال تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 3 الجواب: لا. ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً، وأنزل في الأرض على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض ويخرج منها مسمار النبات4 الجواب: لا. ثم لعله: هب أن النبات خرج من الأرض، وانشقت عنه،   1 تيسير الكريم الرحمن 4/216. 2 سورة عبس، الآية [24] . 3 سورة الروم، الآية [48] . 4 أي عِرق النبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أن السنبل خرج من النبات، فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى يدرك ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟ الجواب: لا" 1. وقد أوضح هذا البرهان الإمام ابن القيم -رحمه الله-، وبين تدرج هذا النبات في الإيجاد حتى يكون صالحاً مثمراً دالاً على خالقه وموجده من العدم؛ يقول -رحمه الله-: "إذا تأملت إخراج ذلك النور البهي من نفس ذلك الحطب، ثم النبات الأخضر، ثم إخراج تلك الثمار على اختلاف أنواعها، وأشكالها، ومقاديرها، وألوانها، وصورها، وروائحها، ومنافعها، وما يراد منها. ثم تأمل أين كانت مستودعة في تلك الخشبة وهاتيك العيدان، وجعلت الشجرة لها كالأمّ، فهل كان في قدرة الأب العاجز الضعيف إبراز هذا التصوير العجيب، وهذا التقدير الحكيم، وهذه الأصباغ الفائقة، وهذه الطعوم اللذيذة، والروائح الطيبة، وهذه المناظر العجيبة؟ فسل الجاحد من تولى تقدير ذلك وتصويره وإبرازه، وترتيبه شيئاً فشيئاً، وسوق الغذاء إليه في تلك العروق اللطاف التي يكاد البصر يعجز عن إدراكها، وتلك المجاري الدقاق؟ فمن تولى ذلك كله، ومن الذي أطلع لها الشمس، وسخر لها الرياح، وأنزل عليها المطر، ودفع عنها الآفات ... إلخ" 2. فإيضاح الشيخ الأمين -رحمه الله- لهذا البرهان الدال على أن الخالق متصف بصفات الكمال، متفرد بالخلق والإيجاد والعبادة: يرشد كل ذي عقل ولب إلى صرف جميع أنواع العبادات لله وحده جل وعلا، ويبعده عن عبادة ما سواه بأي نوع من أنواع العبادة، فلا شك أن الخالق اللطيف   1 أضواء البيان 7/332-333. وانظر المصدر نفسه 7/790-791. 2 مفتاح دار السعادة 1/281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الخبير الموجد من العدم هو الإله المعبود بحق وحده جل وعلا. وهذا الإيضاح من الشيخ -رحمه الله- يدل على المكانة العظيمة لهذا الدليل الذي يلقم كل جاحد ومكابر ومشرك الحجة، ويجعل ألوهية الخالق ووحدانيته من الأمور البديهية التي لا يعرض عنها من رزقه الله عقلاً مستقيماً، وفطرة سليمة. خامسا: اختلاف الليل والنهار: الليل والنهار من الآيات العظيمة الدالة على عظمة الخالق وكمال قدرته، وأنه المنعم على عباده بهذه النعم الجزيلة التي توجب عليهم ان يقابلوها بالشكر والثناء والانقياد لهذا الإله العظيم. يقول الشيخ رحمه الله مبيناً هذا الجانب: " والآيات الدالة على إختلاف الليل والنهار- من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله واستحقاقه للعبادة وحده-كثيرة جداً, كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} الآية 1، وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} 2. وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الآية 3: وقوله تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} 4. وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَر} 5الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} 6: والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} 7: أي تدركون بعقولكم أن الذي ينشئ السمع والأبصار   1 سورة فصلت، الآية [37] . 2 سورة يس، الآية [37] . 3 سورة الأعراف، الآية [54] . 4 سورة يس، الآية [40] . 5 سورة النحل، الآية [12] . 6 سورة يونس، الآية [6] . 7 سورة المؤمنون، الآية [80] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والأفئدة، ويذرؤكم في الأرض وإليه تحشرون، وهو الذي يحيي ويميت، ويخالف بين الليل والنهار: أنه الإله الحق المعبود وحد جل وعلا، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علواً كبيراً" 1. واختلاف الليل والنهار من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده، فلو كان الليل سرمداً لتعطلت الحياة، وأصبح الإنسان في خمول وكسل. وكذلك النهار لو جعله الله سبحانه وتعالى مستمراً لكان الناس في تعب وإرهاق. لكنه العليم الخبير جعلهما يلفان الأرض، لا يتأخران عن وقتهما؛ فهما آيتان من آيات الله الباهرة التي يراها العباد في اليوم مرتين تنبئ عن وحدانية الخالق وعظمته، وكمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له. سادساً: اختلاف ألوان المخلوقات: إن ما نراه حولنا في هذا الكون من مخلوقات ذات ألوان مختلفة دليل على حكمة الخالق، وعظمته جل وعلا، وسعة علمه. وتنوع ألوان هذه المخلوقات برهان قاطع، ودليل قوي على كمال الخالق، واستحقاقه للعبادة وحده، ودليل على سفه من ادعى أن هناك خالقاً غير الله يعبد من دون الله، أو مع الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ولا شك أن من صرف شيئاً من خصوصيات الله لغير الله فقد جاء بغاية الكفر والضلال. يقول الشيخ الأمين -رحمه الله- موضحاً هذا الجانب: "إن اختلاف ألوان الآدميين، واختلاف ألوان الجبال، والثمار والدواب، والأنعام؛ كل ذلك   1 أضواء البيان 5/810-811. وانظر المصدر نفسه 5/738-739. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 من آياته الدالة على كمال قدرته، واستحقاقه للعبادة وحده؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} 1. واختلاف الألوان المذكورة من غرائب صنعه تعالى وعجائبه، ومن البراهين القاطعة على أنه هو المؤثر جل وعلا، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال، وقد أوضح تعالى إبطال تأثير الطبيعة غاية الإيضاح، بقوله في سورة الرعد: {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2"3. ويوضح -رحمه الله- هذا الدليل في موضع آخر مؤكداً على أهميته ودلالته على وحدانية الخالق العظيم، وعلى تفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له في عبادته، وأنه هو الخالق لكل شيء، ولا يقع شيء إلا بمشيئته وإرادته، فليس لشيء من مخلوقاته تأثير إلا بأمره وتدبيره؛ فيقول -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} 4: "وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء، وأنه الرب وحده، المستحق أن يعبد وحده. وأوضح هذا في آيات أخر؛ كقوله في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} 5، وقوله: {وَمِنْ   1 سورة فاطر، الآيتان [27-28] . 2 سورة الرعد، الآية [4] . 3 أضواء البيان 6/486. 4 سورة النحل، الآية [13] . 5 سورة فاطر، الآية [27] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 1. ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد، لا شبيه له، ولا نظير له، ولا شريك له، وأنه المعبود وحده. وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا. كما أوضح ذلك في قوله: {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2؛ فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة؛ لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخرج متفاضلة، مختلفة في الألوان، والأشكال، والطعوم، والمقادير، والمنافع. فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد. ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بشيئته جل وعلا: أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألقي فيها الحطب، وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ولا شك أن الحطب أصلب، وأقسى، وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه؛ فأحرقت الحطب بحرها، وكانت على إبراهيم برداً وسلاماً لما قال لها خالقها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، فسبحان من لا يقع شيء كائنا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا فعال لما يريد" 4. فالشيخ -رحمه الله- استدل بهذه الألوان العجيبة والجميلة على حكمة الله وقدرته، وأنه الخالق المبدع؛ صور تلك الأشياء فأحسن خلقها وتصويرها،   1 سورة الروم، الآية [22] . 2 سورة الرعد، الآية [4] . 3 سورة الأنبياء، الآية [69] . 4 أضواء البيان 3/227-228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فلا تتشابه المخلوقات بأشكالها ولا بألوانها، فلا رب سواه، ولا إله غيره، ولا شريك معه من خلقه. ثم يستنتج -رحمه الله- من هذا الدليل أيضاً أن لله المشيئة المطلقة؛ فما شاء كان، ومالم يشأ لم يكن. وأن من أسند شيئاً من أمور الخلق إلى غير الله فقد افترى على الله الكذب، وأتى بغاية الكفر والضلال؛ لأنه جل وعلا المتفرد بالخلق والأمر، والمستحق للعبادة وحده سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 سابعاً: جريان السفن: من آيات الله الباهرة الدالة على عظمته وقدرته وأنه المعبود وحده: جريان السفن على ظهر البحر، وتسخيرها للناس؛ فتعبر بهم المحيطات، وتنقل أثقالهم إلى بلاد بعيدة بيسر وسهولة وأمان، محفوظة –بحفظ الله سبحانه- من الأخطار. وهذه الآية الكونية برهان عظيم على أن الخالق القادر هو الله سبحانه وتعالى، وهو المستحق لأن يعبد وحده، ولا يشرك معه شيء من مخلوقاته. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- هذا البرهان عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ} 1؛ فقال: "أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده: الجواري؛ وهي السفن، واحدتها جارية، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 2؛ يعني سفينة نوح، وسميت جارية: لأنها تجري في البحر ... وماتضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر من آياته تعالى الدالة على كمال قدرته، جاء موضحاً في غير هذا الموضع؛ كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِوَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَوَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَإِلآ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 3، وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} 4، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ   1 سورة الشورى، الآية [32] . 2 سورة الحاقة، الآية [11] . 3 سورة يس، الآيات [41-44] . 4 سورة العنكبوت، الآية [15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 النَّاسَ} إلى قوله: {لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. وقوله تعالى في سورة النحل: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} الآية2. وقوله في فاطر: {َتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الآية3 والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة4. فالشيخ الأمين -رحمه الله- يستدل على استحقاق الله للعبادة بجريان السفن التي تحمل الأثقال –في خضم البحر المتلاطم الأمواج- بيسر وسهولة، مكلوءة بحفظ الله سبحانه وتعالى، ولاريب أن هذه الآية الكونية من آثار رحمة الله، ودلائل قدرته ووحدانيته وألوهيته، وهي واضحة للعيان، ولكل طالب للحق.   1 سورة البقرة، الآية [164] . 2 سورة النحل، الآية [14] . 3 سورة فاطر، الآية [12] . 4 أضواء البيان 7/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المطلب الثالث: أدلة بطلان إلهية ما سوى الله بعد أن ذكر الشيخ الأمين رحمه الله تعالى البراهين العظيمة الدالة على أن المعبود بحق هو الله سبحانه وتعالى المتصف بصفات الجلال والكمال أكد أن هناك براهين قطعية دلت على أن الآلهة المعبودة من دون الله باطلة، وعبادتها لا يرضى بها صاحب العقل السليم؛ إذ إنها متصفة بصفات النقص الدالة على العجز، والتي ينزه المعبود بحق عن الاتصاف بها. يقول -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى؛ {َاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 1: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه متصفة بستة أشياء، وكل واحدة منها برهان قاطع أن عبادتها مع الله لاوجه له بحال، بل هي ظلم متناه، وجهل عظيم، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم، وهذا بعد أن أثنى الله على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها، التي هي براهين قاطعة على أن المتصف بها المعبود وحده. والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله: الأول منها: أنها لا تخلق شيئاً؛ أي لا تقدر على خلق شيء. والثاني: أنها مخلوقة كلها؛ أي خلقها خالق كل شيء.   1 سورة الفرقان، الآية [3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 والثالث: أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً. والرابع والخامس والسادس: أنها لاتملك موتاً، ولاحياة، ولانشوراً؛ أي بعثا بعد الموت. وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى" 1. ثم ذكر -رحمه الله- الآيات الدالة على هذا المعنى. فاستدل للأمر الأول؛ وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئاً، بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية2. وبقوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} 3. وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق ومن لا يخلق، لأن من يخلق هو المعبود، ومن لايخلق لاتصح عبادته: كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية4: أي: وأما من لم يخلقكم فليس برب، ولا بمعبود لكم كما لا يخفى. وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 5، وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 6؛ أي ومن كان كذلك فهو المعبود وحده جل وعلا. وقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 7.   1 أضواء البيان 6/269. 2 سورة الحج، الآية [73] . 3 سورة الكهف، الآية [51] . 4 سورة البقرة، الآية [21] . 5 سورة النحل، الآية [17] . 6 سورة الرعد، الآية [19] . 7 سورة الأعراف، الآية [191] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 واستدل للأمر الثاني؛ وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله مخلوقه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1، وبقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 2. واستدل للأمر الثالث؛ وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً بقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 3 –ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضراً ولا نفعاً-، وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 4. واستدل للأمر الرابع والخامس والسادس؛ وهي كونهم لايملكون موتاً ولاحياة ولانشوراً بقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5؛ فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور في الآية؛ ومنه الحياة المعبر عنها بـ"خلقكم"، والموت المعبر عنه بقوله: "ثم يميتكم"، والنشور المعبر عنها بقوله: "ثم يحييكم". وبين أنهم لا يملكون حياة ولانشورا في قوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه} الآية6.   1 سورة النحل، الآية [20] . 2 سورة الأعراف، الآية [191] . 3 سورة الأعراف، الآيتان [191-192] . 4 سورة الأعراف، الآية [197] . 5 سورة الروم، الآية [40] . 6 سورة يونس، الآية [34] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلآ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} 1، وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} الآية2. إلى آخر ما أورده الشيخ -رحمه الله- من أدلة في هذا الباب3. فالشيخ -رحمه الله- يهتم بإبراز براهين التوحيد، ويعرضها بأسلوبه، وعلى طريقته في تفسير القرآن بالقرآن، مؤكداً دلالتها على أن الله تعالى هو المعبود بحق وحده لا شريك له، وأن عبادة من دونه من أظلم الظلم، ومن الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار –عياذا بالله تعالى-.   1 سورة آل عمران، الآية [145] . 2 سورة المنافقون، الآية [11] . 3 انظر أضواء البيان 6/269-271.وانظر أيضاً: المصدر نفسه4/31، 32، 5/833. وقد أشار الرازي إلى هذه البراهين في تفسيره (التفسير الكبير 24/48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 المبحث الثالث: أنواع العبادة المطلب الأول: الدعاء ... المبحث الثالث: أنواع العبادة تمهيد: العبادة منهج عملي شامل، وفق الأدلة الشرعية الثابتة. عرفها الشيخ الأمين -رحمه الله- بقوله: "العبادة لغة: الذل والخضوع؛ فكل مذلل: معبد. ومنه قيل للرقيق: عبد وقال الشاعر: تباري عتاقاً جاريات وأتبعت وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد1 وفي الاصطلاح: التقرب إلى الله جل وعلا بامتثال ما شرع وأمر به، واجتناب ما نهى عنه، على وجه الخضوع والذل والمحبة" 2. أما عن كمال العبودية، فقد ذكر -رحمه الله- لها شرطين، لا بد من اجتماعهما بها؛ وهما غاية الحب، وغاية الخضوع والذل، يقول -رحمه الله- عند تفسير قوله سبحانه وتعالى حكاية عن هود: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 3: "فكل التكليفات والحقوق مندرجة تحت هذه الكلمة، ولهذا قال نبي الله هود: "اعبدوا الله"؛ أي تقربوا إليه وحده بما أمركم بالتقرب به إليه من العبادات على وجه الخضوع والذلّ والمحبة، فلا تكفي المحبة دون الخضوع والذلّ؛ لأنه قد يكون خاضعاً لمن يبغضه، تحت قهره وسلطانه، وباجتماع ذلك يحصل كمال العبودية لله" 4.   1 من معلقة طرفة بن العبد، (انظر: شرح المعلقات العشر ص43) . 2 معارج الصعود ص40، 41. 3 سورة هود، الآية [50] . 4 معارج الصعود ص136. ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلام حول هذا المعنى في رسالة العبودية (انظر: العبودية ص127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والعبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح، وكلّ واحد من هذه الأقسام تندرج تحته أنواع كثيرة. فهي باب واسع دعا الله عباده إلى ولوجه، والسير فيه لنيل مرضاته؛ قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1. وفي هذا المبحث سأذكر بعض ما تطرق إليه الشيخ -رحمه الله- من أنواع العبادة أثناء تفسيره لكتاب الله العزيز.   1 سورة الأنعام، الآية [153] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المطلب الأول: الدعاء وهو افتقار، وتذلل، وطلب ممن يملك النفع والضر في جلب خير، أو دفع شرّ. وهو من أعظم أنواع العبادة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ–إلى قوله- دَاخِرِين} 1،2. وفيه مسائل: المسألة الأولى: نوعا الدعاء: الدعاء ينقسم إلى نوعين؛ _ دعاء مسألة؛ وهو سؤال بأسمائه الحسنى. _ دعاء عبادة: وهو التعبد لله بمقتضى هذه الأسماء؛ والنوعان متلازمان3. وقد أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى هذين النوعين، وبين أنه لا اختلاف بينهما: لأنّ من دعا الله فقد تحققت منه العبودية. قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 4: "قال   1 سورة غافر، الآية [60] . 2 سنن الترمذي 5/211، وقال:"هذا حديث حسن صحيح". 3 انظر: مجموع الفتاوى 15/10-11. واقتضاء الصراط المستقيم 2/778. وبدائع الفوائد 1/164، 3/2-3. 4 سورة غافر، الآية [60] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بعض العلماء: "ادعوني أستجب لكم" اعبدوني أثيبكم عن عبادتكم. ويدلّ لهذا قوله بعده: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وقال بعض العلماء "أدعوني أستجب لكم": أي اسألوني أعطكم. ولا منافاة بين القولين؛ لأنّ دعاء الله من أنواع عبادته" 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- موضحاً هذا المعنى: "إن المعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، فهو يدعى للنفع والضر دعاء مسألة. ويدعى خوفاً ورجاء دعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، وعلى هذا فقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2 يتناول نوعي الدعاء، وبكلّ منها فسرت الآية؛ قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني، والقولان متلازمان، وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعاً" 3. وهذا ما بينه الشيخ الأمين -رحمه الله- وأوضحه: أن من دعا الله دعاء المسألة فقد اعترف أنه المعبود النافع الضار وحده. المسألة الثانية: إخفاء الدعاء: أوضح الشيخ -رحمه الله- أن إخفاء الدعاء أعظم من الجهر به ورفع الصوت، فقال -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً   1 أضواء البيان 7/96. وانظر أيضاً المصدر نفسه 1/183. 2 سورة البقرة، الآية [186] . 3 الفتاوى 15/10-11. وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/778-779، وبدائع الفوائد 3/2-3، وزاد المعاد 1/335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 خَفِيّاً} 1: "أي دعاه في سر وخفية. وثناؤه جل وعلا عليه بكون دعائه خفياً يدلّ على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره وإعلانه. وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية جاء مصرحاً به في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة} الآية2، وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 3. وإنما كان الإخفاء أفضل من الإظهار لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء" 4. وما ذهب إليه الشيخ الأمين -رحمه الله- من أن إخفاء الدعاء أفضل من الجهر به قال جمع غفير من العلماء5. فالشيخ الأمين -رحمه الله- إنما أراد بقوله: "إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره" أن يؤكد أن ذلك أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء. وإذا كان الدعاء كذلك فهو أحرى بالإجابة. المسألة الثالثة: النهي عن التعدي في الدعاء: يوضح الشيخ -رحمه الله- أنه لا ينبغي أن يطلب من الله ما ليس فيه مصلحة للسائل خوفاً أن يكون مما لا يرضاه الله ولا يحبه، فيقع السائل في المحظور. يقول -رحمه الله- موضحاً هذا المعنى عند قوله تعالى: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا   1 سورة مريم، الآية [3] . 2 سورة الأنعام، الآية [63] . 3 سورة الأعراف، الآية [55] . 4 أضواء البيان 4/203-204. 5 منهم على سبيل المثال: القرطبي في الجامع لآحكام القرآن 7/143، 11/52. وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 15/15-19. وابن القيم في بدائع الفوائد 3/6-9. والألوسي في روح المعاني 16-56. وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1: "أي لا تطلب مني الشيء الذي لا تعلم أن في طلبك إياه مصلحة؛ لأنك إذا سألت شيئاً لا ينبغي وقوعه فقد طلبت من الله أن يفعل ما لا ينبغي. فكأنك هنا قلت: اللهم أنج كافراً من الكفار. فإذا جهلت شيئاً فتوقف حتى تعلم أن المصلحة في طلبه. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن العبد إذا اشتبه عليه الأمر في شيء: هل في سؤاله ربه أن يقضيه مصلحة أو لا؟ فإنه لا يسأل الله ذلك خوفاً من أن يكون مما يسخط الله تعالى ... ويؤخذ من هذا أنه لو علمك إنسان دعاء أعجمياً لا تعرف معناه لا ينبغي أن تدعو به" 2. وما ذكره الشيخ -رحمه الله- هنا من النهي عن التعدي في الدعاء وسؤال الله ما لا ينبغي سؤاله: ذكره غيره من العلماء، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات. وتارة يسأل ما لا يفعله الله؛ مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازمه البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، ويسأله بأن يطلعه على غيبه، أو أن يجعله من المعصومين، أو يهب له ولداً من غير زوجة، ونحو ذلك من سؤاله اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله" 3.   1 سورة هود، الآية [46] . 2 معارج الصعود ص127-128. 3 الفتاوى 15/22. وانظر: بدائع الفوائد 3/13. وفتح القدير للشوكاني 2/502-503. وتفسير المنار12/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 المطلب الثاني: التوكل هو الثقة بالله، والاعتماد عليه، والاستعانة به مع الأخذ بالأسباب. وهو من أعظم أنواع العبادة، ولا يتم إيمان العبد إلا به؛ قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه} 1. وقال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. عرفه الشيخ -رحمه الله- بقوله: "التوكل على الله: الثقة به، وإسناد الأمور وتفويضها إليه مع تعاطي الأسباب؛ لأن الله أمر بها. ولابد مع تعاطيها من الثقة بأنه لا يقع إلا ما أراد الله تعالى" 3. وهو -رحمه الله- حين وضح أن التوكل اعتماد على الله، وثقة به مع تعاطي الأسباب أكد أن التوكل لا يكون إلا على من يستحق العبادة، وهو الله جل وعلا؛ يقول -رحمه الله- عند تفسير سورة الفاتحة: "وإتيانه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبنياً واضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {ُفَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه} 4 الآية، وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} 5، وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ   1 سورة هود، الآية [123] . 2 سورة المائدة، الآية [23] . 3 معارج الصعود ص307. 4 سورة هود، الآية [123] . 5 سورة التوبة، الآية [129] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَكِيلاً} 1 وقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} 2، إلى غير ذلك من الآيات3. ويذكر -رحمه الله- الأدلة على أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب فيقول: "ومن الأدلة على ذلك: قول الله تعالى لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} 4، مع أنه تعالى لو أراد لأسقطه لها بدون هز منها. ومن أوضح الأدلة على ذلك قول يعقوب –الذي وصفه الله بالعلم في قوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} 5: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} 6 محافظة عليهم من العين، ثم قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 7، فقد أخذ بالأسباب والحيطة، وصرح بأن الآعتماد على الله تعالى وحده، فهو متوكل وآخذ بالأسباب. ومما يدل أن السبب لا ينفع إلا بإرادة الله ما قصه الله في سورة الأنبياء وغيرها عن إبراهيم عليه السلام؛ فالنار طبيعتها المستمرة: الإحراق، ولكن عندما لم يرد الله لها أن تؤثر في إبراهيم أحرقت الحطب، وكانت عليه برداً وسلاماً في آن واحد؛ كما قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 8. فالمؤثر في الحقيقة هو رب العالمين، ولو شاء أن تتخلف مقتضيات الأسباب لتخلفت، كما أنه لو شاء أن يجعل ما لم تجر العادة بأن يكون من الأسباب سبباً لجعله كذلك"9.   1 سورة المزمل، الآية [9] . 2 سورة الملك، الآية [29] . 3 أضواء البيان 1/104. 4 سورة مريم، الآية [25] . 5 سورة يوسف، الآية [68] . 6 سورة يوسف، الآية [67] . 7 سورة يوسف، الآية [67] . 8 سورة الأنبياء، الآيتان [68-69] . 9 معارج الصعود ص214. وانظر المصدر نفسه ص113، 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وهذا الذي بينه الشيخ -رحمه الله- من أن التوكل لا يتم إلا بالأسباب مع الاعتقاد أن الأسباب لا تفيد إلا إذا أرادها الله سبحانه وتعالى أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد. ومحو الأسباب أن تكون أسباباً: نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع. فعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله. لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له، وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله؛ كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم" 1. وأما عن ثمرات هذا التوكل، فيذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أن التوكل الصحيح على الله سبب للوقاية من كل مكروه، والحفظ من كل شر؛ يقول -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} 2: "دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه: سبب للحفظ والوقاية من كل سوء ... وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون التوكل على الله سبباً للحفظ والوقاية من السوء جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} 4"5.   1 الفتاوى 8/528-529. وانظر: مدارج السالكين 2/120. وشرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص520. 2 سورة غافر، الآيتان [44-45] . 3 سورة الطلاق، الآية [3] . 4 سورة آل عمران، الآيتان [173-174] . 5 أضواء البيان 7/89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المطلب الثالث: الولاء والبراء الولاء والبراء نوعان من أنواع العبادة، وهما بمعنى الحب والبغض. والولاء الذي هو الحب والنصر يكون لله ولرسوله ولدينه ولعباد الله الصالحين. والبراء الذي هو البغض يكون لكل عدو لله ولرسوله ولعباد الله الصالحين. ولا يتم إيمان العبد إلا بالولاء والبراء؛ قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1. وقد بين الشيخ -رحمه الله- هذا الموضوع أتم بيان، وأوضح أن من تولى الكفار وأحبهم فهو منهم، قد انسلخ من إيمانه، إلا أن يكون ذلك بسبب الخوف من سطوتهم وبطشهم، فله الرخصة في مداراتهم في الظاهر دون الباطن. يقول -رحمه الله- مبيناً هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 2: "ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين فإنه يمون منهم بتوليه إياهم، وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله، والخلود في عذابه، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم، وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا   1 سورة البقرة، الآية [256] . 2 سورة المائدة، الآية [51] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1، ونهى في موضع آخر عن توليهم مبيناً سبب التنفير منه، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور} 2. وبين في موضع آخر أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3: فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكلّ الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً، وإيضاح الكلام: لأن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة التي يتقى بها شرهم. ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة: ومن يأت الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختياراً ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً رغبة فيهم أنه كافر مثلهم" 4. وهذا الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- أورد نحوه الإمام ابن جرير الطبري5 -   1 سورة المائدة، الآيتان [80-81] . 2 سورة الممتحنة، الآية [13] . 3 سورة آل عمران، الآية [28] . 4 أضواء البيان 2/110-111. وانظر تفصيل ذلك أيضاً في: المصدر نفسه 2/431، 484، 7/229، 824. ومعارج الصعود ص144. 5 أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ وتهذيب الآثار. إمام ثقة حافظ. ولد سنة (240?) ، وتوفي في بغداد سنة (310?) . (انظر: البداية والنهاية 11/156، وسير أعلام النبلاء 14/267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 رحمه الله- عند تفسيره لقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ..} 1، فقال: "لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم؛ فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء؛ يعني بذلك: فقد برىء من الله، وبرىء الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، إلا أن تتقوا منهم تقاة، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العدواة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل" 2. والشيخ الأمين -رحمه الله- حين وضح أنه لا موالاة مع الكفار إلا في الظاهر في حال الخوف والتقية أكد -رحمه الله- على الموالاة بين المؤمنين بعضهم مع بعض، لوحدة رابطة "لا إله إلا الله" التي تجمعهم؛ يقول -رحمه الله- موضحاً هذا المعنى: "إن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تدتعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فربطُ الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك" 3. وقال -رحمه الله- أيضاً في موضع آخر: "واعلم أنه لا خلاف بين العلماء ... في منع النداء برابطة غير الإسلام؛ كالقوميات، والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة   1 سورة آل عمران، الآية [28] . 2 تفسير الطبري 3/441. 3 أضواء البيان 3/441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الإسلام وإزالتها بالكلية، فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضاً باتاً، على أن يعتاض عن ذلك بروابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضاً مثلاً. فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفاً من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة" 1. وقال -رحمه الله- أيضاً: "وبالجملة فلا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض، وتربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة "لا إله إلا الله" فلا يجوز النداء البتة برابطة غيرها، ومن والى الكفار بالروابط النسبية محبة لهم، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 2 وقوله تعالى: {إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 3، والعلم عند الله تعالى" 4. وقال -رحمه الله- مبيناً موقف المسلم من قريبه الكافر: " ... وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية، والأوامر العصبية التي لاتمت إلى الإسلام بصلة؛ كما وقع من أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " 5. ولكن تلك القرابات النسبية لايجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع؛ لأنها تشمل المسلم والكافر، ومعلوم أن المسلم عدو الكافر، كما   1 أضواء البيان 3/445. 2 سورة المائدة، الآية [51] . 3 سورة الأنفال، الآية [73] . 4 أضواء البيان 3/448. 5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد 3/1114 رقم 2897. ومسلم في صحيحه (1/106) ، كلاهما من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية1 ... " 2. فالشيخ الأمين -رحمه الله- يؤكد بهذا أن الولاء والبراء قائم على بغض الكفر وأهله ومعاداتهم، وعدم موالاتهم حتى تبقى للمسلم شخصيته المتميزة بإيمانه بربه، واعتزازه بدينه. كما يؤكد -رحمه الله- أن لا رابطة تجمع الناس وتوحد بينهم إلا رابطة "لا إله إلا الله"؛ تلك الرابطة المتينة، والعروة الوثقى التي تؤلف بين الأمم والأفراد والشعوب والقبائل. ويكشف -رحمه الله- أباطيل دعاة القومية العربية؛ تلك الدعوة الجاهلية المجردة عن العقيدة، والتي تساوي بين الإسلام والكفر، وتلغي رابطة الدين، وتحل محلها رابطة الوطن والجنس. فالقومية من الحركات الهدامة المعاصرة التي ابتلي بها المسلمون في هذا الزمن، وقد حذر منها العلماء والمصلحون، وبينوا أنها حركة هدم وتخريب، تحاول اجتثاث الإسلام من جذوره واستئصال شأفته. ومن العلماء الذين كشفوا زيف هذه الدعوة المضللة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز3 حفظه الله؛ حيث بين بطلان هذه الحركة وما انطوت عليه من خدع وتمويه، وتلبيس على السذج الذين يتبعون كل ناعق، فينبذون دينهم الذي ارتضاه الله لهم؛ ذلك الدين العالمي الخالد الذي يوحد بين   1 سورة المجادلة، الآية [22] . 2 أضواء البيان 3/447. وقد أطال الشيخ -رحمه الله- النفس في هذا الموضوع؛ فقد تحدث عنه في الجزء الثالث من تفسيره في صفحة (48-49) ، ومن صفحة (441) ، وحتى صفحة (448) . ومثل هذا الكلام ورد في كتاب معارج الصعود ص223 (جمعه/تلميذه د. عبد الله قادري) . 3 هو العلامة أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز. ولد في الرياض عام (1330هـ) ، وتلقى العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض، يشغل حال إعداد هذا البحث منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. (انظر: علماؤنا ص29. مقدمة مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة 1/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الشعوب والقبائل والأوطان برابطة "لا إله إلا الله". فالأخوة في الإسلام فوق أي اعتبار آخر؛ لأن لها ضابطاً وقيماً عظيمة، وغاية تصل إليها: فضابطها الكتاب والسنة؛ -إذ أن الحبّ لله، والبغض لله، كما هو موضح في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -، وقيمها مجموع الدين الإسلامي، وغاية هذه الرابطة هي الجنة دار الأبرار المتحابين في الله. وقد أوضح الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله -في معرض كشفه عن زيف دعوى القومية العربية- الأخطاء التي تمثلها الدعوة الفاسدة المفسدة، وهي: أولاً: أن القومية تفرق بين المسلمين، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرق بين العرب أنفسهم؛ فهي معول هدم غربي استعماري يراد به تفريقنا وإبعادنا عن ديننا الذي فيه مجدنا الأكبر، وشرفنا الأعظم، وهو مصدر عزتنا، وسيادتنا، وتقدمنا على الأمم. ثانياً: إن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها، والدعوة إلى القومية من أمر الجاهلية؛ لأنها دعوة إلى غير الإسلام، ومناصرة لغير الحقّ. وكم جرّت الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل، وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب. وأيضاً: إن الدعوة إلى القومية دعوة إلى البغي والفخر؛ لأن القومية ليست ديناً سماوياً يمنع أهله من البغي والفخر، وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها، والتعصب لها، والتعدي على من تطاول عليها بشيء، وإن كانت هي الظالمة وغيرها المظلوم. ثالثاً: إنها سلم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم من أبناء غير المسلمين، واتخاذهم بطانة، والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ويقولون: إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي وإن تفرقت أديانهم، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله، ومخالفة لشرع الله، وتعدّ لحدود الله، وموالاة ومعاداة وحبّ وبغض على غير دين الله؟!. ما أعظم ذلك من باطل، وما أسوأه من منهج: القرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين أينما كانوا، وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه. رابعاً: إن الدعوة إلى القومية، والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمه –بلا ريب- إلى رفض حكم القرآن: لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك على زعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القوميين في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك، وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين، والردة السافرة1. وهكذا نرى كلام الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله يهتك أستار هذه الدعوة، ويبين أهدافها وكيدها للإسلام وأهله، ويوضح بجلاء انعدام معتقد الولاء والبراء الشرعي عند معتنقيها. وهذا الكلام يخرج وكلام الشيخ الأمين -رحمه الله- من مشكاة واحدة؛ إذ أن الشيخ الأمين -رحمه الله- وضح, وبيّن, وأبدأ, وأعاد، وأبان أن لا رابطة تجمع أهل الأرض، وتربطهم بأهل السماء إلا رابطة "لا إله إلا الله". وكلا الشيخين؛ أعني الشيخ الأمين -رحمه الله-، والشيخ ابن باز حفظه الله أدركا خطر هذه الدعوة الضالة المضلة، وكشفا مخططاتها وأهدافها،   1 مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 1/289-309 –باختصار وتصرف-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وبينّا أنها دعوة إلى الجاهلية التي أنقذنا الله منها. فحذر الشيخان الأمة منها، ومن شرورها، ومن مغبة السير في ركابها، فأديا بذلك واجب النصح للأمة، فجزاهما الله إرشادهما ونصحهما خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المطلب الرابع: الخوف والرجاء امتدح الله من عباده من يجمع في عبادته له سبحانه بين الخوف والرجاء، بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 1. وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين هاتين العبادتين معلماً بذلك عباده، كي لا يكون المؤمن من القانطين فيما لو اكتفى بالخوف، وترك الرجاء، وكي لا يكون من الآمنيين من مكر الله فيما لو اكتفى بالرجاء وترك الخوف من الله. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} 2، فقال: "بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم، وأنه شديد العقاب، فجمع بين الوعد والوعيد ليعظم رجاء الناس في فضله، ويشتد خوفهم من عقابه وعذابه الشديد؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في جلب النفع ودفع الضرّ. فاجتماع الخوف والطمع أدعى للطاعة. وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} 3، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 4، وقوله جل وعلا:   1 سورة الإسراء الآية [75] 2 سورة الرعد الآية [6] 3 سورة الأنعام الآية [147] 4 سورة الأنعام الآية [165] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} 1، وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} الآية2، إلى غير ذلك من الآيات" 3. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "فاعلم أنهما متلازمان؛ فمن كان يرجو ما عند الله من الخير، فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس"4. وفي الأشرطة أوضح -رحمه الله- موقف الإنسان من الخوف والرجاء حال حياته وعند مماته، فسمعته -رحمه الله- يقول: "وقد أمرنا الله أن نكون في دعائه خائفين من عذابه وعقابه ونكاله، وطامعين في فضله ورحمته ورأفته وجوده وما عنده من الخير؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين: جلب النفع، ودفع الضر. وإذا كان من يعبد الله، أو يدعو الله يستشعر الخوف من الله، والطمع في ثوابه وما عنده من الخير كان الخوف والطمع جناحين يطير بهما إلى الاستقامة ... وينبغي للمسلم إذا دعا الله أو عبد الله أن يكون جامعاً بين الخوف من الله، والطمع فيما عند الله جلّ وعلا، فلا يترك الرجاء لئلا يكون من القانطين {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 5، ولا يترك الخوف فيأمن مكر الله؛ لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. فيكون خائفاً من الله، طامعا راجياً من فضل الله. والعلماء يقولون: ينبغي للإنسان وهو في أيام صحته أن يغلب الخوف دائماً على الرجاء، وأن يكون خوفه أغلب من رجائه، فإذا حضره الموت غلب الرجاء في ذلك ليطغى على الخوف فلا ينبغي للمؤمن أن يموت إلا وهو   1 سورة الحجر، الآيتان [49-50] . 2 سورة غافر، الآية [3] . 3 أضواء البيان 3/79-80. 4 أضواء البيان 4/200. 5 سورة يوسف، الآية [87] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 يحسن الظن بالله جل وعلا؛ بأن ربه رؤوف رحيم، كما جاء بذلك الحديث1 عن النبي صلى الله عليه وسلم "2. وما ذكره الشيخ الأمين -رحمه الله- عن الخوف والرجاء، وحال العبد بينهما أوضحه شارح الطحاوية -رحمه الله- بقوله: "فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً. وكلّ واحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه؛ فالخائف هارب من ربه إلى ربه" 3. ثم بين شارح الطحاوية أيضاً موقف العبد من الخوف والرجاء في حياته فقال: "قيل: إنّ العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه" 4. أنواع الخوف: وفي الأشرطة يوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- الخوف المذموم، والفرق بينه وبين الخوف الطبيعي الذي جبل عليه الإنسان؛ فيقول -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللَّهَ} 5: "في هذه الآية الكريمة، وأمثالها في القرآن الكريم سؤال معروف، وهو أن يقال: لا يوجد أحد إلا وهو يخشى من غير الله، ويخاف من غير الله؛ لأنّ كل المخاوف والمحاذير جُبلت طبائع البشر على الخوف والخشية منها، والذي لم يخف شيئاً من   1 يقصد قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله عز وجلّ". (رواه مسلم في صحيحه 4/2206) . 2 الشريط الأول من سورة التوبة، الوجه الثاني. 3 شرح الطحاوية ص371-372. 4 المصدر نفسه ص372. وانظر: مدارج السالكين 2/51. 5 سورة التوبة، الآية [18] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المخاوف والمحاذير هذا أمر صعب. والعلماء يجيبون عن هذا جوابين: بعضهم يقول: الخشية التي هي شرك بالله والتي يحذر الله منها خشية الأصنام والخوف من المعبودات من دون الله. وهذا النوع دلت عليه آيات كثيرة؛ لأن عبدة الأصنام يخوّفون من يسبّ الأصنام بأنّ الأصنام ستفعل له وتفعل؛ كما قالوا لنبي الله هود: {إِنْ نَقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من دونه مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} الآية1. وكذلك لما خوفوا منها نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقالوا له: ستفعل بك أصنامنا وتفعل، قال لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. وخوف بها نبي الله صلوات الله وسلامه عليه؛ كما نص الله عليه في سورة الزمر في قوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 3، ثم ردّ عليهم، قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 4، وفي قراءة أخرى: {كافي عباده} ، وهذا كثير في القرآن، وهذه الخشية التي خاف صاحبها من عاقبة الأصنام كفر بالله وشرك به. وقال بعض العلماء: هي الخشية الدنيوية من الناس إذا كانت تحمل الإنسان على أن يعصي الله؛ كالذي يخشى من الكفار، ويجبن عن الجهاد في سبيل الله، كما تقدم في قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5. أما مايعرض للإنسان من الخوف من الأشياء والمحاذير بجبلته، فهذا أمر لا مخالفة فيه؛ لأنّ الله لا   1 سورة هود، الآيتان [54-55] . 2 سورة الأنعام، الآية [81] . 3 سورة الزمر، الآية [36] . 4 سورة الزمر، الآية [36] . 5 سورة التوبة، الآية [13] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 يكلف نفساً إلا وسعها كما هو معلوم" 1. وكلام الشيخ الأمين -رحمه الله- عن الخوف وأقسامه يؤيده كلام الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب2 رحمهم الله أجمعين حين قسم الخوف، فذكر أنّ القسم الأول: خوف السرّ؛ وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما شاء من مرض أو فقر أو قتل، ونحو ذلك بقدرته ومشئيته، فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف فهو مشرك، الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا الخوف من الناس، فهذا محرم. الثالث: خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة، وهو الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 3، وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، وإنما يكون محموداً إذا لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله. الرابع: وهو الخوف الطبيعي؛ كالخوف من عدو، وسبع، وهدم، وغرق، ونحو ذلك فهذا لايذم، وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والسلام في قوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 4 ... إلخ5. وهكذا فالشيخ الأمين -رحمه الله- يفرق بين الخوف المذموم المفضي إلى الشرك، والموقع في معصية الله، وبين الخوف الطبيعي الذي جُبل عليه الناس؛ فهذا لا مؤاخذة فيه لأنه خارج عن طاقة الإنسان وإرادته.   1 سمعته بصوت الشيخ -رحمه الله-، في الشريط الثاني من تفسير سورة التوبة: الوجه الأول. 2 تقدمت ترجمته. 3 سورة إبراهيم، الآية [14] . 4 سورة القصص، الآية [21] . 5 تيسير العزيز الحميد ص484-486 –باختصار وتصرف-. وانظر: الجامع لآحكام القرآن للقرطبي 8/58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المطلب الخامس: الحكم بما أنزل الله رسالة الإسلام عامة تشمل جميع شؤون الإنسان في هذه الدنيا. وهي تحقق له الخير العاجل والآجل، وتمنع من لحوق الضرر به فردا كان أو جماعة. والحكم بما أنزل الله هو التطبيق لهذه الرسالة العالمية التي تربط المخلوق بالخالق، وتجعله خاضعاً منقاداً لأمر ربه ومالكه ومعبوده؛ قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. فالحكم بما أنزل الله من الإيمان بالله، ومعنى ألوهية الله ووحدانيته: إفراده بالعبادة، والخضوع له في الحكم، وتنفيذ أوامره ظاهراً وباطناً؛ فلا يتم الإيمان إلا بتحكيم شرع الله؛ قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. يوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- هذا المعنى فيقول: "أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، ثمّ ينقاد لما حكم به ظاهراً وباطناً، ويسلم له تسليماً كلياً من غير ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة، وبيّن في آية أخرى أنّ قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي، والانقياد التام   1 سورة القصص، الآية [70] . 2 سورة النساء، الآية [65] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ظاهراً وباطناً لما حكم به صلى الله عليه وسلم , وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الآية1 ... 2. ويقول -رحمه الله- في موضع آخر: "إن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ماشرعه الله. فكلّ تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لانزاع فيه" 3. ثم يسوق -رحمه الله- الأدلة من القرآن الكريم الدالة على أنّ الحكم لله وحده، فيقول: "وقد دلّ القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله، وأنّ اتباع تشريع غيره كفر به. ومن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ} 4، وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت} الآية5، وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} 6. وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 7، وقوله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} 8، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 9، وقوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ   1 سورة النور، الآية [51] . 2 أضواء البيان 1/396-397. 3 أضواء البيان 7/162. وانظر المصدر نفسه 4/82. 4 سورة يوسف، الآية [40] . 5 سورة يوسف، الآية [67] . 6 سورة الأنعام، الآية [57] . 7 سورة المائدة، الآية [44] . 8 سورة الكهف، الآية [26] . 9 سورة القصص، الآية [88] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1، والآيات بمثل ذلك كثيرة" 2. ثم لما ساق -رحمه الله- الأدلة على أن لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى، ذكر الأدلة على أنّ صرف هذا الحقّ الخالص لله لغيره كفر به جلّ وعلا، فقال: "وأما الآيات الدالة على أنّ اتباع تشريع غير الله المذكور كفر: فهي كثيرة جداً؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} 3، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 4، وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 5، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً6. وقد أطال -رحمه الله- في تقرير هذا المعنى في مواضع كثيرة من تفسيره، وذلك لأهميته، وكثرة من خرج عن منهج الله فحكم بغير ما أنزل الله في هذا العصر. وقد أكد -رحمه الله- أنّ من حكم بغير ما أنزل الله فقد أشرك مع الله غيره، وخرج عن دائرة الإسلام؛ قال -رحمه الله-: "إنّ كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية .... والعجب ممن يحكّم غير تشريع الله، ثم يدعي الإسلام؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 7، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا   1 سورة القصص، الآية [70] . 2 أضواء البيان 7/162-163. 3 سورة النحل، الآية [100] . 4 سورة الأنعام، الآية [121] . 5 سورة يس، الآية [60] . 6 أضواء البيان 7/163. 7 سورة النساء، الآية [60] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1، وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 2 .... "3. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "إن من اتبع تشريع الشيطان مؤثراً له على ماجاءت به الرسل، فهو كافر بالله، عابد للشيطان، متخذ الشيطان رباً، وإن سمى اتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء، لأن الحقائق لاتتغير بإطلاق الألفاظ عليها كما هو معلوم" 4. ويؤكد -رحمه الله- أنّ من ترك حكم الله، واستعاض عنه بحكم القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه، واتبعها فيما أحلت وحرمت، وجوّز التحاكم إليها رغم مخالفتها لحكم الله جل وعلا أنه كافر لا يشك في كفره، فيقول: "إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم" 5. وبهذا تتجلى وقفة الشيخ الحازمة في وجه من غيَّر حكم الله، وحكم بحكم الطواغيت، حيث إنه يقول بكفره، بل وبكفر كلّ من يشك في كفره. وليس موقف الشيخ -رحمه الله- هذا على إطلاقه، بل نراه يبيّن في موضع آخر متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً عن الملة، ومتى يكون   1 سورة المائدة، الآية [44] . 2 سورة الأنعام، الآية [114] . 3 أضواء البيان 3/439-441. 4 أضواء البيان 1/476. 5 المصدر نفسه 4/83-84. وانظر أيضاً: 3/440، 4/82، 7/169-173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 صاحبه مرتكباً ذنباً محرماً لا يخرجه من دائرة الإسلام، فيقول -رحمه الله-: "إنّ الكفر والظلم والفسق كلّ واحد منها ربما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى؛ ومن لم يحكم بما أنزل الله: معارضة للرسل، وإبطالاً لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة. "ومن لم يحكم بما أنزل الله":معتقداً أنه مرتكب حراماً، فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة"1. ورأي الشيخ -رحمه الله- هذا هو رأي الأئمة الأعلام قبله، من أمثال الإمام ابن القيم -رحمه الله- الذي قال: "إنّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين؛ الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم؛ فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً مع اعترافه بأنه مستحقّ للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطىء له حكم المخطئين" 2. وبهذا التفصيل الدقيق من ابن القيم -رحمه الله- في هذه المسألة ندرك مدى توافق عقيدة الشيخ الأمين -رحمه الله- مع عقيدة السلف قبله، وتتضح جهوده -رحمه الله- في تقرير عقيدة السلف والسير على منهجهم واتباع طريقهم. ولم يكتف الشيخ الأمين -رحمه الله- ببيان أنّ الحكم بغير ما أنزل الله يتراوح بين أن يكون خروجاً عن ملة الإسلام، أو وقوعاً في كبيرة من كبائر   1 أضواء البيان 2/104. 2 مدارج السالكين 1/336-337. وانظر للاستزادة: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص363-364 –فإن له كلاماً مشابهاً لكلام ابن القيم-. وتحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- ص5-7. فإنه فصّل في الموضوع، وجعل القسم المخرج من الملة ستة أنواع-. ومجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله 1/84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الذنوب، بل نراه يحذر المسلمين من الوعيد الذي توعد الله به من يتهاون في تنفيذ أوامره، أو يقصر في تحكيم شريعته بأنّ عاقبته وخيمة –عياذاً بالله تعالى-. قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ..} الآية1: "اعلم أن كل مسلم يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات من سورة محمد، وتدبرها، والحذر التامّ مما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأنّ كثيراً ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأنّ عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , وهو هذا القرآن، وما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من السنن، فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزّل الله: سنطيعكم في بعض الأمر؛ فهو داخل في وعيد الآية، وأحرى من ذلك من يقول لهم: سنطيعكم في كل الأمر؛ كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله، فإنّ هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، وأنه محبط أعمالهم، فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا: سنطيعكم في بعض الأمر" 2. والشيخ الأمين -رحمه الله- يفرق بين النظام الإداري الذي ينظم الأمور بدون مخالفة للشرع؛ فهذا لا يمنعه، أما النظام المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فالعمل به كفر بالله العظيم. يقول -رحمه الله-: "اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك، وإيضاح ذلك: أن النظام قسمان: إداري وشرعي" 3.   1 سورة محمد، الآية [25] . 2 أضواء البيان 7/589-590. وانظر المصدر نفسه 7/181. 3 أضواء البيان 4/84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ثم يبين -رحمه الله- النظام الإداري وأدلته، فيقول: "أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع: فهذا لامانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة فمن بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ماكانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ككتابه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر .... فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لايخالف الشرع لابأس به؛ كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لابأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة" 1. ثم يذكر -رحمه الله- النظام الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، ويسوق أمثلة مما يحادد الله ورسوله بها من الأعمال التشريعية، فيقول -رحمه الله-: "وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض؛ كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك. فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق، وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوا كبيرا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} 3، {وَلا   1 أضواء البيان 4/84. 2 سورة الشورى، الآية [21] . 3 سورة يونس، الآية [59] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 1 ... "2. وهكذا نرى الشيخ الأمين -رحمه الله- مثالاً للمؤمن المجاهد المشفق على أمته، فيحذرها مغبة ما يحاك ضدها من دسائس لتكفر بخالقها فيحق عليها العذاب. ويبين لها أن من أطاع مشرعي القوانين التي تحاد شرع الله فقد استحق الوعيد الشديد من الجبار جل وعلا. وأن من اتبع شرع الله، وحكّم الله في كل أمر من أموره صغيراً كان أو كبيراً نال سعادة الدنيا والآخرة. وكذلك تتضح لنا سعة أفق الشيخ -رحمه الله-، ودقة فهمه وكثرة فقهه، إذ يفرق بين النظام الذي هو محادة لله ورسوله فيحذر منه، وبين النظام الذي لا يخالف قواعد الشرع، وينظم مصالح العباد، فلا يمنع منه؛ إذ إنه من أمور الدنيا التي لا يخالف فعلها شرع الله تبارك وتعالى.   1 سورة النحل، الآية [116] . 2 أضواء البيان 4/84-85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المبحث الرابع: ما يضاد إخلاص العبادة المطلب الأول: الشرك بالله تعالى ... المبحث الرابع: ما يضادّ إخلاص العبادة بعد أن ذكرت –فيما مرّ- أنواع العبادة كما وضحها الشيخ الأمين -رحمه الله-، وبيّنها في كتبه، أشرع ها هنا بذكر مايضادّ تلك ألأنواع، وينافي إخلاص العبادة؛ من الشرك الأكبر والأصغر وكبائر الذنوب، بحسب ما تطرق إليه الشيخ -رحمه الله-، ووفق منهجه -رحمه الله-. قال تعالى ممتنّا على المؤمنين بأنه قد بغض إلى قلوبهم مايضادّ إخلاص العبادة؛ من كفر، أو فسوق، أو عصيان بفضله عليهم، ونعمته، ورأفته بهم جلّ وعلا: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 1. ولبيان هذه الأنواع التي تضادّ إخلاص العبادة قسّمت هذا المبحث إلى مطالب:   1 سورة الحجرات، الآية [7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 المطلب الأول: الشرك بالله تعالى كما أنّ أعظم طاعة وعبادة عُبد الله تعالى بها، وتُقرب بها إليه هي التوحيد، كذلك فإنّ أعظم ذنب عصي الله تعالى به على الإطلاق هو الشرك، لذلك فإنّ من مات عليه لايغفر له الله أبداً، ويدخله النار خالداً مخلداً فيها أبداً، ويحبط جميع عمله كبيره وصغيره؛ لأنه صرف أعظم حقّ من حقوق الله تعالى لغير الله تعالى فأحبط الله جميع عمله بسبب التفاته إلى غير خالقه جل وعلا. وقد اهتمّ الشيخ الأمين -رحمه الله- بهذا الجانب، وذكر أن كلّ مسلم يجب عليه أن يعرف ماهي العبادة، وما الذي يحبطها ويفسد العمل؛ فقال -رحمه الله-: "اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة؛ وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات، فيخلص تقربه بذلك إلى الله، ولايصرف شيئاً منه لغير الله كائنا ماكان"1. وقبول العبادة مبني على أمرين: الأول: الإخلاص: وهو تجريد العبادة لله سبحانه وتعالى. وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. الثاني: العمل الصالح: وهو تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو معنى شهادة أنّ محمداً رسول الله. ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً   1 أضواء البيان 7/626. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1. وهذا الموضوع؛ أعني الإشراك بالله تعالى –عياذا بالله من ذلك- من الموضوعات الخطيرة، لذلك اهتم الشيخ الأمين -رحمه الله- ببيانه، وأطال النفس فيه جداً؛ فقد بين -رحمه الله- أن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يرجى له خلاص؛ لأنه أتى بظلم عظيم، فمن مات وهو يشرك بالله شيئاً فهو في نار جهنم خالداً فيها؛ لأنه صرف العبادة إلى غير الخالق الرازق المعبود وحده سبحانه وتعالى فقال -رحمه الله-: "إن من أشرك بالله غيره .... ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك لا خلاص منه بوجه، ولانجاة معه بحال" 2. لذلك أهاب الشيخ -رحمه الله- بكل مسلم أن يفرق بين حقوق الله الخاصة به سبحانه، وبين حقوق خلقه، وأن يعطي كل ذي حق حقه، حتى لايقع في هذا الأمر العظيم. وأوضح -رحمه الله- أن أعظم الحقوق الخاصة بالله تعالى: إخلاص العبادة له وحده جل وعلا، وأخلص مايكون وأصدقه حين تحيط الشدائد والكرب بالإنسان. فمن أخلص لله فقد عرف حقه، واقتدى بنبيه صلى الله عليه وسلم. يقول -رحمه الله-: "اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته، والتي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه؛ كحق النبي صلى الله عليه وسلم ليضع كل شيء في موضعه على ضوء ماجاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم، والسنة الصحيحة. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته: التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب ودهمته   1 سورة الكهف، الآية [110] . 2 أضواء البيان 5/690-691. وانظر المصدر نفسه 1/393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الدواهي، لايجوز إلا لله وحده؛ لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله، وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة لله وحده جل وعلا"1. ثم بين -رحمه الله- الأدلة من القرآن الكريم على أن الإخلاص حق لله؛ لأنه هو الخالق الرازق القادر على كشف الدواهي والشدائد وحده؛ فقال -رحمه الله-: "بين جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه أنّ التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى. ومن أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل؛ أعني قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 .... "3. ثم بيّن -رحمه الله- محل الشاهد في هذه الآيات أنه قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 4 فقال -رحمه الله-: "فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعاه، وكشف السوء، وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته جل وعلا، ولذا قال بعدها: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . فتأمل قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه} ، مع قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء} تعلم أنّ إجابة المضطرين إذا التجؤوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية   1 أضواء البيان 7/618. 2 سورة النمل، الآية [59-64] . 3 أضواء البيان 7/618. 4 سورة النمل، الآية [62] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 بينه وبين خلق السموات والأرض، وإنزال الماء، وإنبات النبات، ونصب الجبال، وإجراء الأنهار؛ لأنه جل وعلا ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد، واتبع جميعه بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية"1. ويوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- في موضع آخر أن كل ما لايقدر عليه إلا الله فهو حق لله سبحانه وتعالى، لا يطلب إلا منه، وإذا طلب من غيره كان صرفا لخصائص الله لغيره؛ لأن الله هو المعبود والمدعو في طلب كل خير، ودفع كل شر في الرخاء والشدة، فقال -رحمه الله-: "واعلم أيضاً رحمك الله أنه لافرق بين ماذكرنا من إجابة المضطر، وكشف السوء عن المكروب، وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله كالحصول على الأولاد والأموال، وسائر أنواع الخير، فإن التجاء العبد إلى ربه في ذلك أيضاً من خصائص ربوبيته جل وعلا؛ كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} 2، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَه} 3، وقال تعالى: {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} الآية4، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} 5، وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} 6، إلى غير ذلك من الآيات. وفي الحديث: " إذا سألت فاسأل الله" 7. وقد   1 أضواء البيان 7/619-620. 2 سورة يونس، الآية [31] . 3 سورة العنكبوت، الآية [17] . 4 سورة الشورى، الآية [49] . 5 سورة النحل، الآية [72] . 6 سورة النساء، الآية [32] . 7 جزء من حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي في سننه 4/667، وقال:"حديث حسن صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أثنى الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية1. فنبينا صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه إذا أصابهم أمر أو كرب التجأوا إلى الله وأخلصوا له الدعاء، فعلينا أن نتبع ولانبتدع" 2. فالشيخ -رحمه الله- بيّن أن الإخلاص لله لابد أن يكون في جميع أنواع العبادة، لا يشرك مع الله أحداً من خلقه، ولو كان ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً؛ لأنه حق الله الذي افترضه على عباده، والعلامة الفارقة بين الإيمان والكفر. ولكن هذا الحق صرف عند بعض الناس –ممن يدّعون الإسلام وزين لهم الشيطان سوء عملهم- إلى غير الله، فالتجأوا إلى ذلك الغير بأنواع العبادات من رغبة ورهبة عند نزول الملمات والكروب فصارت حالهم أعظم من حال المشركين الأوائل الذين كانوا يخلصون في الشدائد، ويشركون في الرخاء. وقد وضح الشيخ الأمين حال هؤلاء فقال: "إن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق، وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة. ويعلم من ذلك أن بعض الجهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان؛ فإنهم إذا دهمتهم الشدائد، وغشيتهم الأهوال والكروب التجأوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله، مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر وإنجاءه من الكروب من حقوقه التي لايشاركه فيها غيره" 3.   1 سورة الأنفال، الآية [9] . 2 أضواء البيان 7/625-626. وانظر المصدر نفسه 4/561. 3 أضواء البيان 3/614. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فالشيخ الأمين -رحمه الله- يميط اللثام عن هؤلاء الذين يفرطون في حقوق الله وخصائصه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ ففاقوا المشركين في شركهم؛ إذ دعوا أوثانهم وتوجهوا إليها في الشدة والرخاء، والسعة والضيق؛ فهم أشد شركا من الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم , وأسوأ حالاً منهم؛ لأن أولئك كانوا يعلمون أن من يجيب الدعاء هو الله، فكانوا يلجؤون إليه وقت الشدائد والكرب، ويتركون أوثانهم. وقد أشار إلى مشركي زماننا، وشدة تألههم لأوثانهم في الرغبة والرهبة الشيخ سليمان بن عبد الله1 -رحمه الله- فقال: "وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا الله كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك؛ فإنهم إذا أصابتهم الشدائد براً وبحراً أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون الله، وأكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه ديدنه وهِجّيراه إن قام، وإن قعد، وإن عثر" 2. وقد أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى نماذج من شرك هؤلاء الذين يدّعون أنهم من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فيغالون فيه، وفي بعض الصالحين زاعمين أنهم يحبونهم ويعظمونهم، وفعلهم في الحقيقة من الأمور التي توجب سخط الله وسخط رسوله صلى الله عليه وسلم , فيقول -رحمه الله-: "إن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله جل وعلا كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومحبة الصالحين. وكله من أعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله؛ لأن صرف   1 تقدمت ترجمته. 2 تيسير العزيز الحميد، ص220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح مستوجب سخط الله، وسخط النبي صلى الله عليه وسلم وسخط كل متبع له بالحق" 1. فالشيخ الأمين -رحمه الله- يؤكد أن من توجه بشيء من حقوق الله إلى غيره فقد أغضب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , وخالف طريقته، وترك الاقتداء به، فهو صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر أمته بأن يجعلوه لله ندا، بل كان يأمر بالإخلاص لله وإفراده بالعبادة وحده سبحانه وتعالى. وكذا الأنبياء قبله، وأصحابه رضوان الله عليهم. يقول -رحمه الله- مبيناً هذا المعنى: "ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه، وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء. والله جل وعلا يقول: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2، بل الذي كان يأمر به صلى الله عليه وسلم هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 3..4.   1 أضواء البيان 7/623-624. 2 سورة آل عمران، الآيتآن [79-80] . 3 سورة آل عمران، الآية [64] . 4 أضواء البيان 7/624. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المطلب الثاني: الذبح لغير الله الذبح عبادة يتقرب بها إلى الله جل وعلا، ولا يجوز أن يتقرب بها لغيره؛ قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1. وقد بين الشيخ الأمين -رحمه الله- أن من ذبح لغير الله كائنا من كان فإنه جعله معبوداً له من دون الله، فقال -رحمه الله-: " ... فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله فقد جعله شريكاً مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح، سواء كان نبياً أو ملكاً، أو بناء أو شجراً أو حجراً، أو غير ذلك، لافرق في ذلك بين صالح وطالح، كما نصّ عليه تعالى بقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} 2، ثم بين أن فاعل ذلك كافر، بقوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3 ... "4. وكذا نرى الشيخ الأمين -رحمه الله- لايرتضي قول من فرق بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم، وبين ما ذبحوه لعيسى، أو واحد من الملائكة؛ حيث جعلوا الأول محرماً، والآخر مكروها، فيرد على هذا التفريق بأن الجميع مما ذبح لغير الله، فيقول -رحمه الله-: "إن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن؛ لأن الذبح على وجه القربة عبادة بالإجماع، وقد قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 5. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية6 ... " 7.   1 سورة الكوثر، الآية [2] . 2 سورة آل عمران، الآية [80] . 3 سورة آل عمران، الآية [80] . 4 دفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/104. 5 سورة الكوثر، الآية [2] . 6 سورة الأنعام، الآية [162] . 7 دفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ويستشهد -رحمه الله- بقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1، فيقول: "وقوله: "لغير الله" يدخل فيه الملك والنبي كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان، وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم، وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك، وبين الصنم والنصب، فلزمهم القول بالمنع. وأما استدلالهم بقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} 2: فلا دليل فيه؛ لأن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ليس بمخصص لقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} ؛ لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 3. وما ذهب إليه الشيخ -رحمه الله- من أنه لافرق في حكم الحرمة بين ما ذبح لعيسى أو للصنم؛ إذ إن كليهما مما قصد به غير الله سبحانه وتعالى، هو ما وضحه الإمام النووي4-رحمه الله-، وبين أن من ذبح للأنبياء، أو للأصنام فهو ممن ذبح لغير الله، فقال: "وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى؛ كمن ذبح للصنم، أو الصليب، أو لموسى، أو لعيسى صلى الله عليهما، أو للكعبة، ونحو ذلك. فكلّ هذا حرام، ولا تحلّ هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلماً، أو نصرانياً، أو يهودياً، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا. فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفراً، فإن كان الذابح مسلماً قبل ذلك صار بالذبح مرتداً"5.   1 سورة المائدة، الآية [3] . 2 سورة المائدة، الآية [3] . 3 دفع إيهام الاضطراب 10/104-105 الملحق بأضواء البيان. 4 هو الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حزام النووي الدمشقي، ولد في (نوا) سنة (631هـ) وتوفي فيها سنة (676هـ) . انظر طبقات الشافعية للسبكي 5/165، والأعلام 8/150. 5 شرح النووي على صحيح مسلم 13/141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فلا حجة لمن فرق بين ما ذبح للصنم، أو ذبح لعيسى عليه السلام فالكل داخل تحت قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1عندما ذكر ما حرمه علينا جلّ وعلا. ومن المسائل التي وضحها الشيخ الأمين -رحمه الله- في هذا الباب عدم جواز الذبح في مكان كان يعبد فيه غير الله، أو كان موضعاً لعيد من أعياد الجاهلية، وقد بين أثابه الله أن هذا الذبح معصية لله تعالى لا يتقرب به إلى الله، وقد استشهد بحديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد"؟ قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم"؟ قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" 2. وقد عقب -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: "وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد، أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله، وأنه لا يجوز بحال. والعلم عند الله تعالى"3. وقد سبقه إلى نحو هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ إذ عقب على هذا الحديث بقوله: "وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم، ومحل أوثانهم معصية لله"4. ثم بين كون ذلك معصية لله من وجوه عديدة، وقد أطال في الكلام على ذلك -رحمه الله-.   1 سورة المائدة، الآية [3] . 2 أخرجه أبوداود في سننه 3/607، وقال عنه الألباني: إسناده صحيح. (انظر: مشكاة المصابيح 2/1024، رقم 3437) . 3 أضواء البيان، 5/681. 4 اقتضاء الصراط المستقيم 1/440. وانظر: تيسير العزيز الحميد ص201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 المطلب الثالث: ادعاء علم الغيب علم الغيب من خصائص الله سبحانه وتعالى، فلا يعلم الغيب إلا هو؛ قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ} 1وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ} 2. والغيب كما ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله-: "يطلق على كل ما غاب من المعلومات"3. وهو يؤكد -رحمه الله- أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وقد يطلع من شاء من رسله على شيء من المغيبات. يقول -رحمه الله-: "أعلم المخلوقات وهم الرسل والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما يشاء؛ كما أشار له بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} 4 وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية5 ... "6. لذلك فقد بين -رحمه الله- أن جميع وسائل ادعاء الاطلاع على الغيب هي من الضلال الذي نهى الله عنه، وليس لنا إلا ما أطلع الله عليه رسوله،   1 سورة النمل، الآية [65] . 2 سورة الأنعام، الآية [59] . 3 معارج الصعود ص100. وقد عرفه صاحب الصحاح (1/196) : بأنه كل من غاب عنك. وانظر: تهذيب اللغة 8/214. 4 سورة آل عمران، الآية [179.] 5 سورة الجنّ، الآيتان [26-27] . 6 أضواء البيان 2/196-197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وأخبرنا به صلى الله عليه وسلم , فيقول -رحمه الله- موضحاً هذا المعنى: "لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لايعلمه إلا الله كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين. وبعض منها مايكون كفراً ولذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" 1. ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة2. والكهانة3، والعرافة4، والطرق5، والزجر6، والنجوم. وكل ذلك يدخل في الكهانة، لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الاطلاع على علم الغيب، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال: "ليسوا بشيء" 7" 8. ويؤكد الشيخ الأمين -رحمه الله- أن ليس للعباد تسلط إلى معرفة الغيب، وأن جميع الطرق التي يدعي أصحابها أنها تنبىء عن الغائب كلها من البهتان. وهذا ما أوضحه الإمام القرطبي9 -رحمه الله- بقوله: "قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب، واستأثر به دون   1 أخرجه مسلم4/1751، إلا أنه قال:"ليلة"بدل"يوما". 2 هي زجر الطير للتفاؤل، والتشاؤم بأسمائها وأصواتها وممرها. (انظر: اللسان 11/167. وتهذيب اللغة 3/231) . 3 الكهانة مثل العرافة –كما سيأتي- (انظر: الصحاح 6/2191. وتهذيب اللغة 6/24. واللسان 17/244-245) . 4 العراف: هو الحازي أو المنجم الذي يدعي علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه. (انظر: الصحاح 4/1402. وتهذيب اللغة 2/347 واللسان 11/142. 5 هو الضرب بالحصى، والخط في التراب، وهو ضرب من التكهن. (انظر: الصحاح 4/1515. وتهذيب اللغة 16/224، واللسان 12/85) . 6 ويكون للطير، وغيرها للتيمن بسنوحها، أو التشاؤم ببروحها، وهو ضرب من التكهن. (انظر: الصحاح 2/668. وتهذيب اللغة 10/602) . 7 أخرجه البخاري 7/82؛ ومسلم 4/1750. 8 أضواء البيان 2/197. 9 هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي من كبار المفسرين. رحل إلى المشرق واستقر بمنية ابن خصيب في صعيد مصر. وتوفي ودفن بها سنة (671?) . وانظر: شذرات الذهب 5/335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على مايشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه" 1. إذاً: فادعاء معرفة الأمور الغائبة ليس بالأمر الهيّن، بل هو زعم بمشاركة الله تعالى الذي لايعلم الغيب أحد سواه في علمه، ولذلك يبين الشيخ الأمين -رحمه الله- أن بعض أهل العلم قد كفر من يدعي معرفة الغيب، ويسوق الأدلة التي استدلوا بها فيقول: "ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب أنه ادعى لنفسه ما أستأثر الله تعالى به دون خلقه، وكذب القرآن الوارد بذلك؛ كقوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ} 2. وقوله هنا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُو} " 3. وماذكره الشيخ -رحمه الله- من أن مدعي الغيب كافر هو القول الحق الذي تنصره الأدلة الصريحة الدالة على أن الغيب لله وحده، وأنه من خصائص ألوهيته وربوبيته جل وعلا. والمتطاول إلى معرفة الغيب هو في الحقيقة مدع لمشاركة الله تعالى في صفة من صفاته الخاصة به. ولا شك في كفر من ادعى هذه المنزلة.   1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/19. 2 سورة النمل، الآية [65] . 3 أضواء البيان 2/199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي1 -رحمه الله- موضحاً هذا الأمر: "إن الله تعالى هو المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك؛ بكهانة أو عرافة أو غيرها، أو صدق من ادعى ذلك فقد جعل لله شريكاً فيما هو من خصائصه، وقد كذب الله ورسوله. وكثير من الكهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرب إلى الوسائط التي تستعين بها على دعوى العلوم الغيبية، فهو شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، ومن جهة التقرب إلى غير الله" 2. وبذلك يتبين كفر من ادعى علم الغيب بأي طريقة من الطرق الشيطانية؛ إذ إنه زعم لنفسه ما اختص الله به دون خلقه، وكذب بالقرآن العظيم، وبآياته الكريمة التي ذكر الله جل وعلا فيها أنه لايعلم الغيب أحد سواه جل وعلا.   1 هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن محمد آل سعدي. ينتهي نسبه إلى بني عمرو من قبيلة تميم. ولد في عنيزة سنة (1307هـ) ، وتوفي بها سنة (1376هـ) . (انظر: علماء نجد 2/422. والأعلام 3/340) . 2 القول السديد في مقاصد التوحيد ص84-85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 المطلب الرابع: الحلف بغير الله حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الحلف بغير الله، وذلك لسد الطرق الموصلة للشرك، وحماية لجناب التوحيد، وحتى يكون الدين كله لله. قال عليه الصلاة والسلام: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "1. وهذا الشرك الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"أشرك"هو الشرك الأصغر، الذي لا يخلد صاحبه في النار، ولكنه على خطر عظيم إن لم يتب منه. وقد أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى أنه لا يجوز الحلف بغير الله، ومن حلف فإن يمينه باطلة، وإنما يكون الحلف صحيحاً إذا كان بالله، أو بأسمائه، أو صفاته. قال -رحمه الله-: "اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته، فلا يجوز القسم بمخلوق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت" 2"3. ثم يرد -رحمه الله- على من جوز الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً أن ذلك مصادمة للأمر النبوي الكريم المانع من الحلف بغير الله، فيقول: "ولا تنعقد يمين بمخلوق كائنا ما كان، كما أنه لا تجوز بإجماع من   1 أخرجه الترمذي 4/110، وقال: هذا حديث حسن. 2 أخرجه البخاري 7/221. 3 أضواء البيان 2/123. وانظر المصدر نفسه 3/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 يعتدّ به من أهل العلم، وبالنص الصحيح الصريح في منع الحلف بغير الله. فقول بعض أهل العلم1 بانعقاد اليمين به صلى الله عليه وسلم لتوقف إسلام المرء على الإيمان به ظاهر البطلان، والله تعالى أعلم" 2. وهذا الذي قرره الشيخ الأمين -رحمه الله- هو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حين ذكر تنازع الناس في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم , ثم قال بعد ذلك: "إن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أن لا يحلف بمخلوق؛ لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ، والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أحد القولين في مذهب أحمد" 3. وإذا كان الشيخ الأمين رحمه الله يبيّن أن ليس للمخلوق أن يحلف بغير الله، فإنه يؤكد في موضع آخر أن للخالق أن يقسم بما شاء من خلقه، فيقول رحمه الله: " والله جلّ وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى"4 وما بينه الشيخ -رحمه الله- من أن للخالق أن يقسم بما شاء من خلقه أشار إليه الشيخ سليمان بن عبد الله5 -رحمه الله- بقوله: "فإن قيل إن الله أقسم بالمخلوقات في القرآن. قيل: ذلك يختص بالله تبارك وتعالى؛ فهو يقسم بما شاء من خلقه لما في ذلك من الدلالة على قدرة الرب ووحدانيته،   1 منهم الإمام أحمد -رحمه الله- في الرواية الأخرى، انظر مجموع الفتاوى 1/335. 2 أضواء البيان 2/123. 3 فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/349. وانظر: تيسير العزيز الحميد ص590. 4 أضواء البيان 3/34. 5 تقدمت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وإلهيته، وعلمه، وحكمته، وغير ذلك من صفات كماله. وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق تعالى. فالله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وقد نهانا عن الحلف بغيره، فيجب على العبد التسليم والإذعان لما جاء من عند الله" 1. وهكذا نرى الشيخ الأمين -رحمه الله- يؤكد أن للخالق جل وعلا أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس للمخلوق أن يقسم بأحد سوى خالقه جل وعلا؛ لدلالة الأدلة الشرعية على ذلك، ولأن حلف المخلوق بغير خالقه قد يجره إلى أمر جد خطير، فقد يخرجه من الملة –عياذا بالله-؛ لأن الحلف بغير الله ذريعة من أقوى الذرائع الموصلة إلى الشرك الأكبر؛ إذ إن الحالف قد يتدرج في تعظيم المحلوف به، حتى يصل به إلى درجة المساواة مع الخالق جل وعلا، ولا يختلف اثنان أنّ هذا شرك أكبر.   1 تيسير العزيز الحميد ص590. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 المطلب الخامس: السحر السحر من الأعمال المحرمة التي تضادّ التوحيد، وهو محادة لله ورسوله. أنواعه كثيرة، ومن أعظمها السحر الذي لا يتم إلا بالإشراك بالله والتقرب إلى الشياطين، حتى يحققوا للساحر مراده من حصول بعض التأثيرات القبيحة فيمن يريد أن يسحره. ومنه ما تحصل بسببه بعض التأثيرات القبيحة: كالتلبيس على العقول، أو القتل، أو التفريق بين المتحابين، أو أعمال أخرى كثيرة ومؤذية. والسحر لا يؤثر إلا بإذن الله وإرادته الكونية؛ قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} "1. لذلك حارب الإسلام السحر، وحرمه على المسلمين لما فيه من ادعاء الاطلاع على المجهول، وذلك مشاركة لله في علمه، وكذلك لما فيه من التوسل إلى الشياطين والتقرب إليهم ليساعدوه في تحقيق مأربه. وقليل السحر وكثيره لا يتم إلا بالتعرض لغضب الله وسخطه، وهو من   1 سورة البقرة، الآية [102] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 السبع الموبقات. وقد بسط الشيخ الأمين –رحمه الله- الكلام عن السحر، وطرقه من جميع جوانبه. وقد أطال النفس فيه جداً؛ فتكلم عن تعريفه، وهل هو حقيقة أو خيال؟ وحكم متعاطيه، وغير ذلك من المباحث. تعريف السحر: عرفه -رحمه الله- لغة بقوله: "يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه، ولطف، ودق، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر"1. أما التعريف الإصطلاحي، فقال فيه: "لا يمكن حده بحدّ جامع مانع؛ لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك يكون جامعاً لها، مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً"2. ولهذا السبب لم يعرف الشيخ الأمين –رحمه الله- السحر تعريفاً اصطلاحيا؛ لأنه يرى أنه يصعب أن يحد بتعريف يكون شاملاً لجميع أنواعه وطرقه. حقيقة السحر: اختلف الناس في السحر: هل هو حقيقة، أم خيال فذكر الشيخ3   1 أضواء البيان 4/444. وانظر أيضاً: المصدر نفسه 4/445. ومعارج الصعود ص51. وهو قول ابن منظور في لسان العرب 4/348. 2 أضواء البيان 4/444. 3 ذكر ذلك في أضواء البيان 4/444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 -رحمه الله- أنّ المعتزلة1وغيرهم2ذهبوا إلى أنه لا حقيقة للسحر3، وأنهم احتجوا بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 4، وبقوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} الآية5. وذهب الجمهور إلى أن منه ما له حقيقة، وليس خيالاً فقط كما توهم البعض. ورجح الشيخ الأمين –رحمه الله- ما ذهب إليه الجمهور، وذكر شيئا من أدلتهم، فقال -رحمه الله-: "والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة، لا مطلق تخييل لا حقيقة له. ومما يدلّ على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 6؛ فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً للتفريق بين الرجل وامرأته. وقد عبر الله عنه بـ"ما" الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله   1 المعتزلة سموا بذلك لاعتزال رئيسهم واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري. وقيل لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر. ولهم أصول خمسة اشتهروا بها: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (انظر: الفرق بين الفرق ص 20، 114. والملل والنحل 1/43. وخطط المقريزي 2/345. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص49) . 2 وممّن قال بهذا القول –كما ذكر الحافظ ابن حجر- أبو جعفر الاستراباذي –من الشافعية-، وأبوبكر الرازي –من الحنفية-، وابن حزم الظاهري (فتح الباري10/233) . 3 قال بذلك الزمخشري المعتزلي في الكشاف 2/103. وقد رد عليه ابن المنيّر في حاشية الكتاب المذكور، وبين خطأ هذا القول وأوضح معتقد أهل السنة والجماعة (وانظر: بدائع الفوائد 2/227) ، ومن المعاصرين أيضا من ينكر حقيقة السحر. 4 سورة طه، الآية [66] . 5 سورة الأعراف، الآية [116] . 6 سورة البقرة، الآية [102] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 1؛ يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن. فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه"2. وهذه الأدلة التي استدل بها الشيخ الأمين –رحمه الله- على حقيقة السحر أدلة صريحة على أنّ للسحر أثرا، ومنه ما هو حقيقة ومحسوس، وليس كله خيالاً. وأما جانب الخيال في السحر: فيجعل الشيخ –رحمه الله- من قصة سحرة فرعون مثالاً على الخيال في السحر، ولا يرضى قول من قال: إنّ سحرهم حقيقة لا خيال، فيقول -رحمه الله-: "فإن قيل: قوله في (طه) : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ} الآية3، وقوله في (الأعراف) {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 4الدالان علىأن سحر فرعون خيال لا حقيقة له، يعارضهما قوله في) الأعراف) : {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} 5؛ لأن وصف سرحهم بالعظيم يدل على أنه غير خيال. فالذي يظهر في الجواب –والله أعلم- أنهم أخذوا كثيرا من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى، وهي كثيرة. فظنّ الناظرون أنّ الأرض ملئت حيات تسعى لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي، وخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وُصف سحرهم بالعظم. وهذا ظاهر لا إشكال فيه"6. فالشيخ -رحمه الله- يوضح أن السحر وصف بالعظم؛ لكثرة ما ألقى   1 سورة الفلق، الآية [4] . 2 أضواء البيان 4/437-438. وانظر: معارج الصعود ص51-52. 3 سورة طه، الآية [66] . 4 سورة الأعراف، الآية [116] . 5 سورة الأعراف، الآية [116] . 6 أضواء البيان 4/438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 السحرة من الحبال والعصي، ولتخييلهم للناس أنها تسعى. فهذا النوع ليس السحر فيه حقيقة، بل هو تخييل. وقد وافق الشيخُ -رحمه الله- في فهم هذه الآية الحافظ ابن حجر حيث إنه جعل سحر سحرة فرعون من الخيال، لا من الحقيقة، فقال عند قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 1:"هذه الآية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل. ولا حجة له بها؛ لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل"2. فما قاله الشيخ الأمين –رحمه الله- من أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون إنما هو تخييل، هو الصواب؛ فلا شك أنه من التخييل الناتج من تأثير السحر على أبصارهم حتى رأت غير الحقيقة؛ كما قال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 3. وحاصل الكلام أن السحر قسمان –كما ذكر ذلك الشيخ الأمين-: حقيقي، وخيالي، وهذا التقسيم تعضده الأدلة النقلية وهو مذهب جمهور المسلمين. قال الإمام القرطبي -رحمه الله- بعد ما ساق أدلة المعتزلة التي استدلوا بها علىأن السحر خيال لا حقيقة؛ مثل قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاس} 4، وقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 5،   1 سورة طه، الآية [66] . 2 فتح الباري 10/235-236. وقد ذكر نحو هذا الكلام الإمام ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث ص123. 3 سورة الأعراف، الآية [116] . 4 سورة الأعراف، الآية [116] . 5 سورة طه، الآية [66] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فقال: "وهذا لا حجة فيه؛ لأننا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل، وورد بها السمع؛ فمن ذلك ما جاء في هذه الآية1من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس، فدلّ على أنّ له حقيقة" 2. وأخيراً أختم كلام العلماء في هذا الجانب بقول أحد أئمة الدعوة البارزين؛ وهو الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- الذي قال: "وقد زعم قوم من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل منه ما هو تخييل، ومنه ما له حقيقة" 3. حكم استعمال السحر، وتعلمه: أوضح الشيخ الأمين –رحمه الله- أن قول جمهور العلماء –منهم أبو حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد، وغيرهم- في الذي يستعمل السحر ويتعلمه أنه يكفر بذلك. وفي رواية عن أحمد ما يقتضي عدم كفره. وفصل الشافعي -رحمه الله- في هذه المسألة، فقال: "إذا تعلم السحر، قلنا له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يوجب الكفر؛ مثل ما في سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر. وإن كان لا يوجب الكفر: فإن اعتقد إباحته فهو كافر، وإلا فلا" 4.   1 يعني قوله تعالى في سورة البقرة، الآية [116] ?فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه?. 2 الجامع لأحكام القرآن 2/32. 3 تيسير العزيز الحميد ص383. 4 انظر: أضواء البيان 4/455. وانظر أيضاً: شرح النووي على صحيح مسلم 14/176. والمغني 12/300. وتيسير العزيز الحميد ص384. وكتاب الدين الخالص 2/322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وقول الشيخ الأمين –رحمه الله- في هذه المسألة شبيه بقول الشافعي وأصحابه، حيث إنه لا يكفر الساحر إلا أن يكون في سحره شرك بالله، فإن كان يتم بدون الإشراك بالله فهو لا يصل إلى الكفر، ولكنه محرم تحريماً شديداً، فيقول -رحمه الله- موضحاً هذا المعنى: "والتحقيق في هذه المسألة هو التفصيل، فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر، فهو كفر بلا نزاع. ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة؛ فإنه كفر بلا نزاع، كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 1وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 2، وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 3، وقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 4 .... وإن كان السحر لا يقتضي الكفر؛ كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها: فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر"5. والشيخ الأمين –رحمه الله- ربط حكم السحر بما يتصل به من أسباب؛ فإن كانت أسبابه كفراً، وكان لا يتم إلا بالتقرب إلى الشياطين والكواكب: فهو من أنواع السحر التي يكفر متعاطيها، وإن كانت أسبابه غير مكفرة؛ بمعنى أن الساحر لا يعظم أحداً سوى الله، ولا يدّعي أنه يعلم الغيب، ولا يصرف شيئاً من العبادة لغير الله: فهذا ليس كفراً وإن اشتمل على التخييل والكذب والخداع والغش، بل هو عمل محرم من كبائر الذنوب.   1 سورة البقرة، الآية [102] . 2 سورة البقرة، الآية [102] . 3 سورة البقرة، الآية [102] . 4 سورة طه، الآية [69] . 5 أضواء البيان 4/456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وللإمام النووي1-رحمه الله- كلام قريب من هذا المعنى؛ فقد قال -رحمه الله- عن حكم السحر: "إنه قد يكون كفراً، وقد لا يكون كفراً، بل معصية كبيرة. فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر، وإلا فلا. وأما تعلمه ونعليمه فحرام؛ فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا. وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر، واستتيب منه، ولا يقتل عندنا، فإن تاب قبلت توبته"2. وهكذا يتبين أن كلام العلماء -رحمهم الله- يتفق مع ما ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله- من عدم كفر الساحر مطلقاً، بل الأمر فيه تفصيل –كما مر معنا-.   1 تقدمت ترجمته ص؟؟. 2 شرح النووي على صحيح مسلم 14/176. وانظر للاستزادة أيضاً: فتح الباري 10/235، وتيسير العزيز الحميد ص 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 حد الساحر: اختلف العلماء رحمهم الله في حد الساحر: هل يقتل بمجرد فعله السحر، أو لا؟. فذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أقوال العلماء في هذه المسألة؟، وذكر أدلتهم، ثم ذكر ما ترجح لديه من هذه الأقوال. وسوف أستعرض أقوال العلماء، وأدلتهم، وما ترجح لدى الشيخ الأمين -رحمه الله- في هذه المسألة: اتفق الأئمة الأربعة على قتل الساحر كفراً إذا تضمن سحره الكفر1. أما إن قتل بسحره إنساناً، ولم يكن سحره متضمناً الكفر: فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله. أما أبو حنيفة -رحمه الله- فقال: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك، أو يقرّ بذلك في حقّ شخص معين. وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصاً2. أما هل يقتل الساحر بمجرد فعله السحر؟ قال مالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد: يقتل3. وقال الشافعي: الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر يقتل، فإذا عمل عملاً دون الكفر لم نر عليه قتلا4. وهو رواية عن أحمد5. أما عن قبول توبة الساحر: فقد منع من قبولها الإمام أبو حنيفة، والإمام   1 انظر: تفسير القرطبي 2/33. وأضواء البيان 4/457. 2 انظر: تفسير القرآن العظيم1/147. وشرح النووي على صحيح مسلم 14/176. 3 انظر: المغني 12/302. وتيسير العزيز الحميد ص391. 4 انظر: فتح الباري 10/247. والمغني 12/302. 5 المغني 12/302 وتيسير العزيز الحميد ص391. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 مالك، والإمام أحمد في رواية. وقال الإمام الشافعي والإمام أحمد في رواية أخرى: تقبل توبته. وأما ساحر أهل الكتاب: فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل ساحر المسلمين. وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل: يعني لقصة لبيد بن الأعصم. وأما الساحرة التي تنتسب إلى الإسلام: فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل، ولكن تحبس. وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل1. ونخلص من ذلك إلى أنه لا خلاف بين العلماء في قتل الساحر إذا اشتمل سحره على الكفر، أو قتل بسحره شخصاً معيناً بإقراره وإنما الخلاف في قتل الساحر الذي يشتمل سحره على عمل دون الكفر –كما مر عند ذكر أقوال العلماء في ذلك-. وقد ترجح لدى الشيخ الأمين -رحمه الله- أن الساحر الذي لا يتمّ سحره إلا بالكفر: يقتل كافراً إن لم يتب؛ لأنه قد ارتد وبدل دينه. لكن إن استتيب فتاب وأناب فالراجح قبول توبته: يقول -رحمه الله-: "إن السحر نوعان .... منه ما هو كفر، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر. فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر: فلا شك في أنه يقتل كفراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 2. وأظهر القولين عندي في استتابته: أنه يستتاب، فإن تاب قبلت توبته" 3. ويعلل -رحمه الله- قبول توبة الساحر، فيقول: "لأن الله لم يأمر   1 انظر: تفسير ابن كثير 1/147. وأضواء البيان 4/456، 457. 2 أخرجه البخاري في الصحيح 8/163. 3 أضواء البيان 4/458. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 نبيه، ولا أمته صلى الله عليه وسلم بالتنقيب عن قلوب الناس، بل بالاكتفاء بالظاهر. وما يخفونه في سرائرهم أمره إلى الله تعالى" 1. وأما ساحر أهل الكتاب: فيؤكد -رحمه الله- أنه يقتل، فيقول: "وأظهر الأقوال عندنا أنه لايكون أشد حرمة من ساحر المسلمين، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين" 2. وأما من استدلّ بقصة لبيد بن الأعصم على عدم قتل ساحر أهل الكتاب: فقد ردّ الشيخ الأمين -رحمه الله-، وبين سبب عدم قتل لبيد بن الأعصم مع أنه سحر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة. فدلّ على أنه لولا ذلك لقتله. وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس محمد يقتل أصحابه، فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام، مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق؛ وهو عبارة عن المنافق –والله أعلم-"3. وأما المرأة الساحرة: فيرجح -رحمه الله- أن حكمها حكم الرجل على التفصيل المتقدم، فيقول: "وأظهر القولين عندي: أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر، وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل؛ لأن لفظة (من) في قوله: "من بدل دينه فاقتلوه " 4 تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى. ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآية5؛ فأدخل الأنثى في لفظة (من) ، وقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنّ} الآية6   1 المصدر نفسه 4/458. 2 أضواء البيان 4/471. 3 المصدر نفسه 4/471. 4 تقدم تخريجه قبل صفحتين. 5 سورة النساء، الآية [124] . 6 سورة الأحزاب، الآية [30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ} 1، إلى غير ذلك من الآيات" 2. وللعلماء أدلة وحجج في قتل الساحر وعدمه. وقد ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه الأدلة وناقشها، ثم رجح ما يظهر له أنه الصواب من الأقوال في ذلك. وهاك تفصيل ذلك: أولاً: الذين قالوا بقتل الساحر مطلقاً: استدلوا بآثار عن الصحابة، وحديث. فمن هذه الآثار: 1- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة: "اقتلوا كل ساحر". قال الراوي: فقتلنا في يوم واحد ثلاث سواحر3. 2- وما رواه مالك من أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت4. 3- ومارواه البخاري في تاريخه الكبير: "كان عند الوليد رجل يلعب. فذبح إنساناً وأبان رأسه، فجاء جندب الأزدي5 فقتله" 6. 4- وبما رواه الترمذي والدارقطني عن جندب قال: قال رسول الله   1 سورة الأحزاب، الآية [31] . 2 أضواء البيان 4/459. 3 أخرجه أبو داود 3/431-432. وقال عنه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: إسناده حسن. (انظر تيسير العزيز الحميد ص391-392) . 4 الموطأ 2/871. 5 هو جندب بن كعب بن عبد الله الأزدي، أبو عبد الله الغامدي. الملقب بـ (جندب الخير) . قال علي بن المديني، وابن حبان: له صحبة. (انظر: الاستيعاب 1/218. والإصابة 1/250) . 6 التاريخ الكبير للبخاري/ القسم الثاني من الجزء الأول ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 صلى الله عليه وسلم: " حد الساحر ضربة بالسيف" 1. قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عن هذه الأدلة: "فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحداً من الصحابة أنكرها على من عمل بها، مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور. وهي حجة من قال بقتله مطلقاً. والآثار المذكورة، والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر؛ لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة والأخذ بالعيون، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل، والواقع بخلاف ذلك. وقول عمر: "اقتلوا كل ساحر" يدل على ذلك لصيغة العموم2"3. فالشيخ -رحمه الله- يرى أن هذه الأدلة قوية ومعتبرة، ولها وزنها في الحكم؛ (أعني الحكم بقتل الساحر مطلقاً) ؛ حيث إنها من عمل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يعلم أن أحداً من الصحابة أنكرها على من عمل بها.   1 سنن الترمذي 4/60، وقال: والصحيح عن جندب موقوف. وسنن الدارقطني 3/114. وقال الشيخ الألباني: ضعيف (كما في سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/641) ، وقال الشيخ الأمين: لا يصح (كما في أضواء البيان 4/459) . 2 قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عن الساحر الذي قتله جندب:"إن سحره من نحو الشعوذة، والأخذ بالعيون، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام" (كما في أضواء البيان 4/462) . ويفهم من كلامه أن سحر التخييل ليس كفراً. ولست أدري كيف يتفق كلامه هنا مع كلامه عن سحرة فرعون – (الذين كان سحرهم تخييلاً) - عندما فسر قوله تعالى: {ولايفلح الساحر حيث أتى} فقال:"وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر" (أضواء البيان 4/442) . وقد فصل -رحمه الله- كما مر معنا فيما مضى- في حكم الساحر؛ إن كان لا يتم سحره إلا بالكفر فهو كافر، وإن كان لا يبلغ الكفر فهو محرم حرمة شديدة. وسحر الشعوذة والتخييل قد لا يتم إلا بطاعة الشيطان، والكفر بالرحمن، فيكفر فاعله بالله العظيم. وعلى هذا المنهج يقال إن سحر الشعوذة والتخييل ليس مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام على إطلاقه، بل الأمر فيه التفصيل السابق. 3 أضواء البيان 4/461. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ثانياً: أدلة من فصّلوا في الحكم على الساحر: ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أدلة الفريق الثاني، وهي كما يلي: 1- استدلوا بما رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة" 1. ووجه الاستشهاد بهذا الحديث: أن السحر الذي لم يكفر صاحبه ليس من الثلاث المذكورة في الحديث. 2- واحتجوا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها2. ولو وجب قتلها لما جاز بيعها. وذكر الشيخ -رحمه الله- أن بعضهم3 أراد أن يوفق بين أدلة الفريقين بحمل أدلة الفريق الأول الدالة على قتل الساحر مطلقاً بأن المراد السحر الذي يشتمل على كفر. أما الذي لا يبلغ سحره الكفر فتحمل عليه أدلة من قال بعدم القتل. لكن الشيخ -رحمه الله- لم يرتض هذا الجمع، ورد على ذلك بقوله: "لا يصح؛ لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة؛ كساحر جندب الذي قتله. وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام كما تقدم إيضاحه؛ فالجمع غير ممكن. وعليه فيجب الترجيح: فبعضهم يرجح عدم القتل؛ بأن دماء المسلمين حرام إلا   1 أخرجه البخاري 8/38. 2 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/137. 3 أمثال ابن المنذر –الذي نقل ذلك القرطبي عنه، ووافقه عليه-. (انظر: الجامع لأحكام القرآن 2/34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 بيقين1. وبعضهم يرجح القتل؛ بأن أدلته خاصة، ولا يتعارض عام وخاص لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله" 2. والشيخ الأمين -رحمه الله- يميل إلى القول بعدم قتل الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر، فيقول: "والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر، ولم يقتل به إنساناً أنه لا يقتل؛ لدلالة النصوص القطعية والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح. وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم , والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي. والعلم عند الله تعالى. مع أن القول بقتله قوي جداً بفعل الصحابة له من غير نكير" 3. وما قاله الشيخ -رحمه الله-: قال به قبله الشافعي، وأحمد –في رواية- وابن المنذر4، والنووي5، والقرطبي6. حل السحر عن المسحور: يقال لحل السحر عن المسحور، وكشفه وعلاجه: النشرة. وقد نقل الشيخ الأمين -رحمه الله- اختلاف العلماء في حكمها، فذكر أن بعضهم قد أجازها، وبعضهم قد منع منها.   1 كما قال القرطبي (انظر: الجامع لآحكان القرآن 2/34) . 2 أضواء البيان 4/462. 3 أضواء البيان 4/462. 4 هو الإمام الحافظ العلامة أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري. صاحب التصانيف الرائعة في اختلاف العلماء ولد بنيسابور سنة (242?) ، وتوفي سنة (318?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 14/490- 492. والأعلام للزركلي 6/184) . وقد نقل قوله، وقول الشافعي وأحمد في ذلك صاحب تيسير العزيز الحميد ص391. 5 كما في شرحه على صحيح مسلم 7/176. 6 كما في الجامع لأحكام القرآن 2/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وممن أجازها: سعيد بن المسيب1 رحمه الله تعالى؛ قال قتادة2: (قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طبّ3، -أو يؤخذ عن أمراته- أيُحلّ عنه، أو ينشر؟ قال: لابأس، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه) 4. ومال إلى هذا المزني5، وقال الشعبي6: لابأس بالنشرة7. وكذا قال أبو جعفر الطبري. وممن كرهها: الحسن البصري8. أما الشيخ -رحمه الله- فيرى أن السحر إن كان يحل بالآيات الشرعية، والأدعية المأثورة: فهذا مباح. وإن كان لا يحل إلا بسحر مثله، أو شيء ممنوع شرعاً: فهذا لايجوز. يقول -رحمه الله-: "إن استخراج السحر إن كان بالقرآن والمعوذتين وآية الكرسي، ونحو ذلك مما تجوز الرقية به: فلا مانع من ذلك. وإن كان   1 ابن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبومحمد. سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة. توفي سنة (94?) . (انظر: سير أعلام النبلاء4/217والبداية والنهاية 9/105) . 2هو قتادة بن دعامة بن عزيزالبصري المحدث المفسر. كان من أوعيةالعلم، وأحدعلماء التابعين توفي سنة (117?) . (انظر: سيرأعلام النبلاء5/269.والبداية والنهاية9/105) . 3 قال أبو عبيد: طُبّ: أي سحر، يقال منه: رجل مطبوب. ونرى أنه إنما قيل له مطبوب لأنه كنى بالطب عن السحر، كما كنوا عن اللديغ فقالوا: سليم. (انظر: تهذيب اللغة 13/302) . 4 أخرجه البخاري 7/29. 5 هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني المصري تلميذ الشافعي. ولد سنة (175?) ، وتوفي سنة (264?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 12/492) . 6 هو الإمام الحافظ عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي. راوية التابعين. توفي سنة (104?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 4/294) . 7 انظر الجامع لأحكام القرآن 2/35. 8 هو الحسن بن أبي الحسن؛ يسار. أبو سعيد مولى زيد بن ثابت. كان سيد أهل زمانه علما وعملاً. توفي سنة (110?) . (انظر سير أعلام النبلاء 4/563. والبداية والنهاية 9/278) . ونقل عنه الكراهة الشيخ الأمين في أضواء البيان 4/465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بسحر، أو بألفاظ عجمية، أو بما لا يفهم معناه، أو بنوع آخر مما لا يجوز: فإنه ممنوع. وهذا واضح، وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى" 1. فالشيخ -رحمه الله- لم يمنع النشرة إن كانت بسبب مباح شرعاً. أما النشرة التي تكون عن طريق الشيطان والسحرة: فهذه التي منعها؛ لأن السحر من السبع الموبقات، فكيف يحل الذهاب إلى الساحر والطلب منه أن يفك السحر، والله سبحانه وتعالى لم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرم عليها. وأختم هذه المسألة بكلام للشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن2 -رحمه الله- في النشرة، يقول فيه: "إن ما كان منه بالسحر فيحرم. وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز. والله أعلم" 3. وهذا الكلام يتوافق مع ما قاله الشيخ الأمين -رحمه الله- في هذه المسألة. قدر تأثير الساحر في المسحور: أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى أن هناك خلافاً بين العلماء في بيان القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور. وقد فصّل الشيخ -رحمه الله- في هذه المسألة، وجعل لها واسطة وطرفين. فالطرف الأول: لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه؛ كالتفريق بين الرجل وامرأته، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر، ونحو ذلك.   1 أضواء البيان 4/460. 2 هو العلامة عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد في الدرعية سنة (1193?) ، وتوفي في الرياض سنة (1285?) . (انظر: علماء نجد 1/56) . 3 فتح المجيد ص243. ويعزى هذا القول إلى الحافظ ابن القيم كما في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. انظر فتح المجيد ص243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 واستدل على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة: أما الكتاب: فأشار إلى قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 1. أما من السنة: فأورد الحديث الثابت في الصحيحين، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء، ولا يأتيهن2. والطرف الثاني: لا خلاف في أن تأثير السحر لايمكن أن يبلغه؛ كإحياء الموتى، وفلق البحر، ونحو ذلك. وأما الواسطة: فهي التي وقع فيها الخلاف بين العلماء. وأمثلتها: هل يجوز أن ينقلب الإنسان بالسحر حماراً. أو الحمار إنسانا؟ وهل يصحّ أن يطير الساحر في الهواء؟ أو يدقق جسمه حتى يتمكن من الدخول من كوة ضيقة؟ أو ينتصب على رأس قصبة؟ أو يجري على خيط مستدق؟ أو يمشي على الماء، ويركب الكلب، ونحو ذلك؟ ثمّ ذكر -رحمه الله- أن بعض الناس جعل من مقدور الساحر أن يفعل هذه الأمور. ومنهم الفخر الرازي3. وبعضهم منع ذلك4.   1 سورة البقرة، الآية [102] . 2 أخرجه البخاري 7/29. 3 هو فخر الدين محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني. ويعرف بابن الخطيب. كان من قائمة الأشاعرة، وذكر ابن كثير أنه رجع إلى معتقد السلف. توفي سنة (606) . (انظر: سير أعلام النبلاء 21/500، والبداية والنهاية 13/60) . 4 انظر: أضواء البيان 4/466- 467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وممن أجازه المازري1، وقال: هو مذهب الأشعرية2؛ لأنه لا فاعل إلا الله تعالى3. وكذلك أجازه القرطبي، ونقل ذلك عن بعض مشايخه، فقال: "قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات، والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلب، وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك، ولا علة لوقوعه، ولا سبباً مولداً، ولا يكون الساحر مستقلاً به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر. كما يخلق الشبع عند الأكل، والري عند شرب الماء" 4. أما موقف الشيخ -رحمه الله- فيختلف عن موقف من أجازه بهذا المعنى الذي تقدم؛ فإنه -رحمه الله- قد أوضح أن هذا النوع من السحر مقتدر   1 هو العلامة محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، من كبار فقهاء المالكية، كان بصيراً بعلم الحديث. توفي سنة (536هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 20/104. وشذرات الذهب 4/114) . 2 هم أتباع أبي الحسن الأشعري، وعلى مذهبه في طوره الثاني، وكان –في طوره الثاني- على معتقد الكلابية، ثم رجع إلى معتقد أهل السنة والجماعة، والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئه في باب الأسماء والأحكام، جبرية في باب القدر، أما في الصفات فليسوا بجهمية بل فيهم نوع من التجهم. (راجع: الفتاوى 6/55. وانظر: الملل والنحل ص94- 103. ومقدمة تحقيق د/عبد الله شاكر لرسالة أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري ص63-68) . 3 انظر شرح النووي على صحيح مسلم 14/175. (وانظر ص263 ففيها نقد للعبارة الأخيرة لأنها خطأ) . 4 الجامع لأحكام القرآن 2/33. إلا أنه لم يذكر تحويل الساحر الإنسان إلى حمار، والحمار إلى إنسان. ونقل عنه الحافظ ابن حجر قوله: (والحقّ أنّ لبعض أصناف السحر تأثيراً في القلوب؛ كالحبّ والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان؛ بالألم والسقم. وإنما المنكور أنّ الجماد ينقلب حيواناً أو عكسه بسحر الساحر، ونحو ذلك) . (انظر: فتح الباري 10/233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 للساحر على سبيل أن الله هو خالق الأسباب ومسبباتها. وما يجري من هذه الأفعال فالسحر سبب له. لكنه -رحمه الله- يميل إلى أن هذه الأمثلة هي من نوع التخييل والشعوذة، ليست من نوع تغيير طبيعة الشيء إلى غيرها. وقد أكد أنّ هذا المعنى هو الأظهر عنده فقال: "أما بالنسبة إلى أنّ الله قادر على أن يفعل جميع ذلك، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة مريم1، فلا مانع من ذلك والله جل وعلا يقول: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} 2. وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع؛ لأن غالب ما يستدلّ عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة والأخذ بالعيون، لا قلب الحقيقة مثلاً إلى حقيقة أخرى. وهذا هو الأظهر عندي، والله تعالى أعلم" 3. وأوضح كلام الشيخ -رحمه الله- ببعض النقاط: أولاً: ما قاله الشيخ الأمين -رحمه الله- من أنّ الله قادر على أن يفعل، وأنه سبحانه يجعل بعض الأسباب لها تأثير في بعض الأشياء. هذا هو معتقد أهل السنة في أفعال الله سبحانه وتعالى. والشيخ -رحمه الله- بهذا الكلام يردّ على من جعل بمقدور الساحر أن يفعل ما مرّ معنا من الأمثلة، على كون الله هو الفاعل، وأن الساحر لا سبب له في ذلك ولا قدرة، وإنما خلقه الله عندما يريد الساحر ذلك، لا كونه جعله سبباً لحصول هذه الأمور. وهذا هو قول من ينكر حكمة الله والأسباب التي جعلها سبباً لحصول بعض   1 ذكر الشيخ ذلك في أضواء البيان 4/250. 2 سورة البقرة، الآية [102] . 3 أضواء البيان 4/467- 468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الأشياء، ولا فعل للعبد عندهم، والله هو الفاعل. وهذا هو قول الأشاعرة كما مرّ معنا، وهو مخالف للنقل والعقل وهو حقيقة قول الجبرية1. وقد بين شيخ الإسلام -رحمه الله- مقدورات الله، وأنها على قسمين، فقال: "منها ما يفعله بواسطة قدرة العبد؛ كأفعال العباد وما يصنعونه. ومنها ما يفعله بدون ذلك؛ كإنزال المطر" 2. وبهذا يتضح مراد الشيخ الأمين -رحمه الله-؛ وهو أنّ الله يعطي الساحر من الأسباب ما به يستطيع أن تحصل له هذه الأمور، والله هو خالق الأسباب ومسبباتها. ثانياً: ما ذكر الشيخ -رحمه الله- من الأمثلة المختلف فيها عن مقدورات الساحر: فهي بمقدور الخلق من الجنّ والإنس فعله، وليست بصعبة عليهم. أما المثال الذي ذكره ضمن الأمثلة؛ وهو أن الساحر بمقدوره أن يقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً: فهذا ليس باستطاعة الخلق فعله؛ لأنه ليس من مقدورهم، إلا على سبيل التخييل والشعوذة؛ لأن السحرة تساعدهم الشياطين، وهذا الأمر ليس باستطاعة الشياطين فعله؛ لأنها لا تستطيع قلب عين إلى آخر، ولا التصرف في الطبائع والحقائق، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممن ليس بنبيّ: لا يخرج عن مقدور الإنس والجنّ. وأعني بالمقدور: ما يمكنهم التوصل إليه بطريق من الطرق .... فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت هو من مقدور الجنّ،   1 فالله هو الخالق –والعبد هو الفاعل فهو المصلي والصائم، والسارق والشارب، فهذه أفعال العبد التي يثاب ويعاقب عليها والله الخالق: والله خلقكم وما تعملون، فالله خالق أفعال العباد، والعباد يفعلون أفعالهم حقيقة. هذا معتقد أهل السنة، وانظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حول هذا الموضوع 3/12-20. 2 النبوات ص417. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وهو من جنس مقدور الإنس" 1. وقال أيضاً: "فإنّ الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه، وقد يركب شيئاً من الجمادات؛ إما قصبة، وإما خابية، وإما مكنسة، وإما غير ذلك فيصعد به الهواء، وذلك أنّ الشياطين تحمله. وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثير من العباد والضلال من عباد الشركس ... وكذلك المشي على الماء: قد يجعل له الجن ما يمشي عليه وهو يظن أنه يمشي على الماء، وقد يخيلون إليه أنه التقى طرفا النهر ليعبر، والنهر لم يتغير في نفسه، ولكن خيلوا إليه ذلك" 2. إذاً: ما يفعله الساحر من هذه الأمور يكون بمساعدة الشيطان له، فتتضافر قدرة الشيطان مع فعل الساحر فيحصل المطلوب. فالشياطين يتلبسون بالسحرة، ويحققون مآربهم إذا أطاعوهم، لكن لا يستطيعون قلب عين إلى أخرى؛ لأنه ليس بمقدور الخلق فعل ذلك، وإنما هو الله وحده. والشيخ الأمين -رحمه الله- يميل إلى أنّ هذه الأمور التي يظهر منها أنّ عين الشيء انقلبت إلى أخرى هي من التخييل والشعوذة، وسحر عين الرائي، وليس من قلب الحقيقة إلى أخرى. ولا شك أن عمل الساحر إما أن يكون بالتأثير على أعين الناس؛ فيرون الشيء على غير حقيقته. وإما أن يكون التأثير في المشاهد بفعل السحر الذي يتم بتعاون الشياطين مع السحرة؛ قال ابن القيم رحمه الله: "إنّ الساحر يفعل هذا وهذا؛ فتارة يتصرف في نفس الرائي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به. وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية   1 النبوات ص391. 2 المصدر نفسه ص394- 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 حتى يتصرف فيها" 1. وكل ذلك –ولله الحمد- ليس فيه قلب للحقائق كما قال الشيخ الأمين -رحمه الله-؛ لأن السحر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لا يتعدى مقدور الخلق، والخلق ليس باستطاعتهم قلب الطبائع.   1 بدائع الفوائد 2/228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 المطلب السادس: البناء على القبور من أعظم الأمور خطرا على عقيدة المسلم: هذه الفتنة التي انتشرت في الكثير من بلاد المسلمين؛ ألا وهي فتنة البناء على القبور، ورفع القباب الفخمة، والمباني الكبيرة عليها، وإنفاق الأموال الطائلة على زخرفتها وتزويقها. فإذا رآها الجاهل عظمها في قلبه، ودخلت عليه المهابة من صاحب القبر. فصار ذلك وسيلة للوقوع في الشرك؛ إذ قد يزين له الشيطان أن يطلب من صاحب القبر الذي اعتقد أنه عظيم من العظماء ززقعت في قلبه مهابته ما لا يقدر عليه إلا الله فيقع في الشرك الذي حذرنا منه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. وسداً لهذه الذريعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة الأبنية على القبور، ولعن من يفعل ذلك؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 1. ولا شك أنّ البناء على القبور محادة لله ورسوله. ورغم أنه كذلك فقد صار في بعض بلدان المسلمين ديناً يتقرب به إلى الله؛ وذلك بسبب جهل الناس، وقلة من ينكر عليهم ذلك. وقد ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أن بعض من يفعل ذلك زعم أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ المساجد على القبور، وذكر -رحمه الله- أن عمدتهم في   1 أخرجه الترمذي 2/136، وقال: حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ذلك قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 1، وما ثبت في الصحيح من أنّ موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه قبوراً للمشركين2. وقد عقب -رحمه الله- على هذا الاستدلال الذي به جوزوا البناء على القبور بوصفه إياه بأنه: "في غاية السقوط، وقائله من أجهل خلق الله" 3. وقد تبنى -رحمه الله- رد الإمام الطبري -رحمه الله- على من استدل بهذه الآية، وهذا الحديث على جواز البناء على القبور بقوله: "وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في هؤلاء القوم مانصه: وقد اختلف في قائلي هذه المقالة4: أهم الرهط المسلمون، أم هم الكفار؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار، فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة؛ إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري. وعلى القول بأنهم مسلمون كما يدلّ له ذكر المسجد؛ لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية أنهم سيفعلون كذا لا يعارض به النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طمس الله بصيرته؛ فقابل قولهم: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 5 بقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " الحديث6. يظهر لك أنّ من اتبع هؤلاء القوم في   1 سورة الكهف، الآية [21] . 2 سياتي تخريجه عند الردّ على استدلالهم به بعد صفحتين. 3 أضواء البيان 3/176. 4 يقصد: الذين قالوا: لنتخذن عليهم مسجداً –كما حكى الله عنهم ذلك-. 5 سورة الكهف، الآية [21] . 6 أخرجه مسلم 1/376، من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 اتخاذهم المسجد على القبور ملعون على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما هو واضح. ومن كان ملعوناً على لسانه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله، كما صحّ عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنّ الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 ... "2. وبذلك يتضح أنّ هذه الآية لا تدل على جواز البناء على القبور كما زعم بعضهم. وقد قال العلامة الألوسي3 -رحمه الله-: "وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة، مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 4. وهذا واضح؛ إذ لو كان شرعاً لمن قبلنا لما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله من الأمم الماضية، فدلّ على أنه من الأمور المحرمة عند جميع الأمم؛ لأنه من وسائل الشرك. وكما هو معروف فإن الأنبياء جميعهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويسدون الذرائع الموصلة إلى عبادة غيره جل وعلا. أما استدلالهم بأنه كان في موضع مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قبور للمشركين؛ فقد نقل الشيخ الأمين -رحمه الله- ردّ الإمام الطبري على هؤلاء فقال -رحمه الله-: "وأما استدلالهم بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مبني في محل مقابر المشركين: فسقوطه ظاهر؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها؛ ففي الصحيحين من   1 سورة الحشر، الآية [7] . 2 نقلاً عن أضواء البيان 3/177؛ فإني لم أعثر عليه في تفسير الطبري. 3 شهاب الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله الحسني الألوسي. ولد في بغداد سنة (1217?) . وتوفي سنة (1270?) . من تصانيفه: روح المعاني، (انظر: الأعلام 7/176-177. والتفسير والمفسرون 1/352) . 4 روح المعاني 15/239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 حديث أنس رضي الله عنه: "فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع. فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة ... " الحديث. هذا لفظ البخاري1، ولفظ مسلم قريب منه بمعناه2. فقبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بنبشها وإزالة ما فيها، فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلاً؛ لإزالته بالكلية. وهو واضح كما ترى" 3. ولذلك لايوجد –ولله الحمد- أدلة يتمسك بها من أجاز البناء على القبور؛ لأنّ مبدأ عبادة الأوثان أصلها من الفتنة بالمقبورين. لذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وحذر أمته من ذلك. وكلّ ذلك من نصحه عليه الصلاة والسلام لأمته، ومن حرصه على حماية جناب التوحيد؛ فالفتنة بالمقبورين من الوسائل الموصلة إلى عبادتها من دون الله جل وعلا، وهذا ما يريده الشيطان من المؤمنين؛ يريد أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وقد بيّن الشيخ الأمين -رحمه الله- حرمة البناء على القبور فقال: "والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها؛ لما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن أبي الهياج الأسدي4 أن علياً رضي الله عنه قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" 5، ولما ثبت   1 أخرجه البخاري في صحيحه 1/111. 2 انظر: صحيح مسلم 1/373. 3 نقلاً عن أضواء البيان 3/177. 4 هو حيان بن حصين الكوفي، روى عن علي، وعمار، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة. (انظر: تهذيب التهذيب 3/67) . 5 أخرجه مسلم في صحيحه 2/666. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 في صحيح مسلم وغيره أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه" 1. فهذا النهي ثابت عنه صلى الله عليه وسلم , وقد قال: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " 2 وقال جل وعلا: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3"4. وهذه النصوص الشرعية التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- أدلة قاطعة على تحريم هذا العمل، حتى تبقى دعوة التوحيد خالصة لله لا يشوبها إشراك؛ لذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فهذا التحذير منه، واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المساجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا. ودليل على الحذر من جنس أعمالهم حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس. ثم من المعلوم ما قد ابتلى به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء. وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة" 5. ولذلك نرى الشيخ الأمين -رحمه الله- يؤكد أن عقيدة هذه الأمة المحمدية هي تحريم البناء على القبور، وقد أيد كلامه بالنصوص الصريحة في النهي عن البناء على القبور، وفي الأمر بهدم ما بني منها وتسويته بالأرض سداً لذريعة الشرك. وحماية لجناب التوحيد.   1 أخرجه مسلم في صحيحه 2/667. 2 أخرجه البخاري في صحيحه 8/142. 3 سورة الحشر، الآية [7] . 4 أضواء البيان 3/177- 178. 5 اقتضاء الصراط المستقيم 1/295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الفصل الثالث: جهود الشيخ الأمين في توضيح توحيد الأسماء والصفات المبحث الأول: جهود الشيخ في إبراز عقيدة السلف في الصفات المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات ... الفصل الثالث: جهود الشيخ الأمين في توضيح توحيد الأسماء والصفات تمهيد: إن توحيد الأسماء والصفات من أصول دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه. وتوحيد الأسماء والصفات أحد أقسام التوحيد الثلاثة الذي لا يتم الإيمان إلا به، والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعرفوه، ويعبدوه. والطريق إلى معرفة الله يكون بمعرفة أسمائه وصفاته، والتعبد بها، وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته به. والله تبارك وتعالى وصف لنا نفسه سبحانه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس لنا طريق لمعرفته إلا الكتاب والسنة؛ لأن الله لا يرى في هذه الدنيا؛ كما قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 1، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت" 2. فهذا النوع من التوحيد من أشرف العلوم، وبمعرفته يتم إيمان العبد. وهو يستلزم أن لا يعبد إلا الله، ولا يتوجه إلا إليه سبحانه؛ فهو إذاً مستلزم لتوحيد الألوهية؛ فإذا أخبرنا الله بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وبأنه الخالق والرازق، والمعطي والمانع فهذا يستلزم أن لا نصرف شيئاً من العبادة إلا إليه، وأن لا نشرك به أحدً جلّ وعلا.   1 سورة الأعراف، الآية [143] . 2 أخرجه مسلم (4/245) ، والترمذي (4/508) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وللإمام ابن القيم -رحمه الله- كلام نفيس حول هذا المعنى يقول فيه -رحمه الله-: "فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها؛ أعني من موجبات العلم بها، والتحقق بمعرفتها وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فعلم العبد بتفرد الربّ تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً. وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كلّ ما لا يرضي الله"1. ثم يذكر بعض الصفات وآثارها، ويختم كلامه بقوله: "فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات"2. ولذلك فأهمية هذا التوحيد في حياة المسلم عظيمة، وآثاره في هذا الكون جليلة. وقد تكفل الله بإظهار دينه، وبحفظه عن التبديل والتحريف حتى يبقى الدين كله لله، وهيأ له العلماء الذين يذوذن عنه تحريف الغالين، وتلبيس الجاهلين، وانتحال المبطلين، فكلما ظهرت بدعة قيض الله لها من كشف زيفها وضررها على الدين؛ لأنه لا رسول ولا نبي بعد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. وبذلك بقي معتقد السلف ظاهراً وواضحاً لا لبس فيه ولا خفاء. وقد اهتم علماء السنة بهذه العقيدة؛ فمنهم من ألف في تسهيلها وتوضيحها المؤلفات العظيمة، ومنهم من ردّ على من خاض فيها بغير علم   1 مفتاح دار السعادة 2/491-492. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ودعا إلى غير هدى. ومن هؤلاء العلماء: الشيخ محمد الأمين -رحمه الله-، الذي نصر عقيدة أهل السنة والجماعة بلسانه وقلمه، وذاد عن حماها كلّ معطل ومحرف ومشبه، وقلّ أن يخلو كتاب من كتبه من اهتمام بعقيدة السلف، ودعوة إليها؛ كما مر معنا عند الكلام على جهوده في إبراز توحيد الألوهية واهتمامه به، وكما سيظهر لنا في هذا الفصل من اهتمامه بتوحيد الأسماء والصفات. ومن أول الأمور الدالة على اهتمام الشيخ الأمين -رحمه الله- بهذا النوع من التوحيد، والتي يلاحظها الباحث عند قراءته في مؤلفاته أنه جعل البحث في الصفات نوعاً من أنواع بيان القرآن بالقرآن؛ فيقول -رحمه الله-: "ومن أنواع البيان المذكور قي هذا الكتاب المبارك، وهو من أهمها: بيان أنّ جميع ما وصف الله به نفسه في هذا القرآن العظيم من الصفات؛ كالاستواء، واليد، والوجه، ونحو ذلك من جميع الصفات: فهو موصوف به حقيقة لا مجازاً، مع تنزيهه جلّ وعلا عن مشابهة صفات الحوادث سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيراً. وذلك البيان العظيم لجميع الصفات في قوله جلّ وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1؛ فنفى عنه مماثلة الحوادث بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأثبت له الصفات على الحقيقة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} " 2. ومن اهتمامه بهذا النوع من أنواع التوحيد: إبرازه وإيضاحه بأسلوب عربي بعيد عن مصطلح أهل الكلام؛ لتكون الفائدة في الانتفاع به أعمّ: يقول -رحمه الله-: "وقد أردنا أن نوضحها هنا باختصار بأسلوب عربي خال   1 سورة الشورى، الآية [11] . 2 أضواء البيان 1/81-82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 من اصطلاح أهل المنطق وأهل البحث والمناظرة، لينفع الله بذلك من أراد هدايته من خلقه"1. لذلك نراه -رحمه الله- يكره التعمق في آيات الصفات مشيراً إلى أن ذلك هو طريق السلف، فيقول -رحمه الله-: "اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات، وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع من البدع التي يكرهها السلف"2. لأن عقيدة السلف واضحة تقوم على نصوص الكتاب والسنة، بعيدة عن شبه المعطلين والمشبهين، وتربط المسلم بسلفه الصالح، وتحجزه عن أن يتكلم في ذات الله وصفاته بغير علم. لذلك نرى الشيخ -رحمه الله- مستاءً من ابتعاد كثير من الناس عن طريق السلف الصالح، وانتهاجهم طريقة أهل المنطق التي توقع صاحبها في تعطيل الله عن صفاته. يقول -رحمه الله-"أما هذا الكلام الذي يدرس في أقطار الدنيا اليوم في المسلمين؛ فإن أغلب الذين يدرسونه إنما يثبتون من الصفات التي يسمونها صفات المعاني سبع صفات فقط، وينكرون سواها من المعاني"3. لذا فقد اعتنى الشيخ -رحمه الله- بإظهار العقيدة الصحيحة، والذبّ عنها؛ فقد أبرز -رحمه الله- الأسس التي يقوم عليها منهج الأسماء والصفات عند السلف، وأنّ الضابط هو الكتاب والسنة؛ فكلّ ما ثبت فيهما من الصفات يوصف به الله على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى. وكذلك فقد أبان -رحمه الله- عن كثير من الصفات بالتفصيل وفق العقيدة الصحيحة، مبينا أدلتها، وسهولة مأخذها وأنها بعيدة عن شوائب التشبيه والتعطيل.   1 آداب البحث والمناظرة 2/127. 2 منهج ودراسات لآيات الصفات ص9. 3 المصدر نفسه ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ثم نراه -رحمه الله- يبيّن خطأ طريقة المتكلمين في الصفات، موضحا شبههم، ورادا عليهم. وقد أثبت رجوع كثير من أئمتهم في أواخر حياتهم مؤيدا ذلك بنقولات من كتبهم. وفي الأخير يعقد مقارنة بين مذهب السلف وبين الخلف مبرزا مذهب السلف، مشيرا إلى أنه هو الأسلم والأحكم والأعلم، وأنه المنجي يوم القيامة، موضحا الأخطاء التي وقع فيها أهل التأويل، وأنّ الاعتقاد فيهم أنهم اجتهدوا فأخطأوا فكان قصدهم حسنا، غير أنّ طريقهم سيئ. هذه أبرز النقاط التي تحدث عنها الشيخ -رحمه الله- عند كلامه على توحيد الأسماء والصفات. وقد قمت بتقسيم هذا الفصل إلى مبحثين: تكلمت في الأول عن جهود الشيخ -رحمه الله- في إبراز عقيدة السلف في الأسماء والصفات، وفي الثاني عن موقفه -رحمه الله- من أهل التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 المبحث الأول: جهود الشيخ في إبراز عقيدة السلف في الصفات المطلب الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات: يقوم هذا التعريف على أساسين، ذكرهما الله في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، وهما: إثبات صفات الكمال كما جاءت بالسمع، ونفي صفات العيوب والنقص. وقد اعتمد الشيخ -رحمه الله- على هذه الآية عند تعريفه لهذا النوع من أنواع التوحيد؛ فقد أثبت الأسماء والصفات لله كما جاءت في الكتاب والسنة، مع نفي صفات النقص والعيوب. قال -رحمه الله- عند تعريفه لأنواع التوحيد: (النوع الثالث) : هو توحيده جلّ وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين، كما بينه جلّ وعلا: (الأول) : هو تنزيهه تعالى عن مشابهة صفات الحوادث. (الثاني) : هو الإيمان بكل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، حقيقة لا مجازا على الوجه اللائق بكماله وجلاله. ومعلوم أنه لا يصف الله أعلم بالله من الله، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله. والله يقول: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 2، ويقول عن رسوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} 3، فقد بيّن تعالى نفي المماثلة عنه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وبين إثبات الصفات له على الحقيقة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فأول الآية يقضي بعدم التمثيل،   1 سورة الشورى، الآية [11] . 2 سورة البقرة، الآية [140] . 3 سورة النجم، الآيتان [3-4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وآخرها يقضي بعدم التعطيل. فيتضح من الآية أنّ الواجب إثبات الصفات حقيقة من غير تمثيل، ونفي المماثلة من غير تعطيل. وبيّن عجز الخلق من الإحاطة به جلّ وعلا، فقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 1 ... "2. ويقول -رحمه الله- في موضع آخر: "إن الحقّ الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه، والإيمان بها من غير تكييف3، ولا تشبيه4، ولا تعطيل5، ولا تمثيل6 ... "7. ويزيد -رحمه الله- هذا المعنى إيضاحا، مبينا الطريقة الصحيحة لفهم الصفات، والضابط الذي نميز به صفات الله سبحانه وتعالى حتى نعتقدها في قلوبنا، ونتعبد بها في جوارحنا، فيقول: "ومن اعتقد أنّ وصف الله يشابه صفات الخلق، فهو مشبه ملحد ضال. ومن أثبت ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جلّ وعلا عن مشابهة الخلق، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال والتنزيه عن مشابهة الخلق سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، والآية التي أوضح الله بها هذا هي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فنفى عن نفسه جلّ وعلا مماثلة الحوادث بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فصرح في   1 سورة طه، الآية [110] . 2 محاضرة (الإسلام دين كامل) ص 9-10. وانظر أضواء البيان 2/321، 3/411. ومنع جواز المجاز- الملحق بأضواء البيان 10/54. 3 التكييف: هو تعيين كيفية الصفة. 4 التشبيه: هو تشبيه الشيء بالشي لمشابهته من بعض الوجه وهو يقتضي التماثل. 5 التعطيل: هو نفي الصفات، أو بعضها عن الله سبحانه وتعالى. 6 التمثيل: هو أن يقال: إنّ صفات الله مثل صفات المخلوقين، كأن يقول: يد الله كأيدينا. فالمماثلة تقتضي المساواة من كلّ وجه، بخلاف المشابهة. وقد أخذت هذه التعريفات الأربعة من التحفة المهدية لابن مهدي ص259. وشرح العقيدة الواسطية، للشيخ صالح الفوزان ص14. 7 منع جواز المجاز ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الاتصاف بصفات الكمال والجلال"1. وقال الشيخ الأمين -رحمه الله- في موضع آخر، عند تفسير قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} 2: "فنحن معاشر المسلمين نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم, ونثبت له ما أثبت لنفسه، منزهين خالق السموات والأرض عن مشابهة الخلق، فلا نميل إلى التعطيل، ولا إلى التمثيل، بل نقرّ بصفات الله ونؤمن بها على سبيل مخالفة صفات الخلق، كما علمنا الله في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3 ... "4. وهذا المسلك الذي سلكه الشيخ الأمين -رحمه الله- في توضيحه لتعريف توحيد الأسماء والصفات، هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "فالأصل في هذا الباب -توحيد الصفات- أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيا وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه. وقد علم أنّ طريقة سلف الأمة وأئمتها: إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن   1 أضواء البيان 2/305. وانظر: المصدر نفسه 3/411. 2 سورة التوبة، الآية [21] . 3 سورة الشورى، الآية [11] . 4 الوجه الثاني، من الشريط رقم [2] ، الخاص بتفسير سورة التوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 نفسه"1. وقال العلامة السفاريني2-رحمه الله- في تعريفه لهذا التوحيد: "توحيد الصفات: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم نفيا وإثباتا، فيثبت له ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه"3. وبهذا يتضح لنا أن الشيخ الأمين –رحمه الله- متبع لمنهج أهل الحق الذي هو وسط بين المعطلة والممثلة.   1 العقيدة التدمرية ص7. 2 هو العلامة محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني. ولد في سفارين عام (1114?) ، وتوفي في نابلس سنة (1188?) ، (انظر: الأعلام6/14. ومعجم المؤلفين 8/262) . 3 لوامع الأنوار البهية 1/129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 المطلب الثاني: معتقد السلف في الصفات يقوم على ثلاثة أسس إنّ من الأمور الأساسية لفهم العقيدة، ذكر المبادئ التي تقوم عليها، والضوابط المميزة لها، فهي المعيار الذي يعرف به قرب الشخص أو بعده في تحقيق العقيدة الصحيحة. وعقيدة السلف في الصفات تقوم على أسس عظيمة حرص الشيخ الأمين –رحمه الله- على إبرازها، والإشارة إلى أهميتها، وأكد أنّ من أحرز تلك الدعائم الثابتة فهم الصفات كما فهمها السلف الصالح. وبيّن أنها الطريق الوحيد التي تأخذ بالعبد بعيدا عن أهل التعطيل والتشبيه. وقد أوضح -رحمه الله- أنّ هذه الأسس قائمة على الكتاب والسنة التي من اعتقدها ورعاها فقد أخذ بعقيدة الصفات طرية كما جاءت من عند الله، وفاز بثواب الدنيا والآخرة. قال -رحمه الله-: "اعلم أن المعتقد الصحيح المنجي عند الله في آيات الصفات هو ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، وهو مقتضي نصوص القرآن العظيم. وهو مبني على ثلاثة أسس كلها صرح الله بها في كتابه عن نفسه وصرح بها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، ولا يصف الله أعلم بالله من الله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1. ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال سبحانه في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ   1 سورة البقرة، الآية [140] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} 1.."2. وهذه الأسس التي أبرزها الشيخ الأمين –رحمه الله- لكلّ من أراد أن يفهم عقيدة السلف في الصفات: ثلاثة: (الأول) : تنزيه الله عن مشابهة الخلق. (الثاني) : الإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة. (الثالث) : قطع الطمع عن إدراك الكيفية. وقد كررها الشيخ الأمين –رحمه الله- مرارا في مؤلفاته ومحاضراته ودروسه، حتى ترسخ في أذهان الناس، قتنعقد في قلوبهم. وهذه الأسس كفيلة لمن أخذ بها أن يكون متمسكا بالعروة الوثقى، فهي طريق سلامة، آمن من سلكها. قال الشيخ –رحمه الله- موضحا أول هذه الأسس: "هو تنزيه خالق السموات والأرض جلّ وعلا عن مشابهة خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. وهذا الأساس الأعظم للعقيدة الصحيحة، صرح الله به في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 4، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 5، وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} 6. ومن وفقه الله لفهم هذا الأساس الأعظم، ونزه خالقه عن مشابهة الخلق تنزيها تاما جازما به قلبه، فإن قلبه يكون طاهرا من أقذار التشبيه، وتكون عقيدته مبنية على أساس صحيح، وهو تنزيه خالق السموات والأرض عن   1 سورة النجم، الآيتان [3-4] . 2 آداب البحث والمناظرة 2/127. 3 سورة الشورى، الآية [11] . 4 سورة الإخلاص، الآية [4] . 5 سورة مريم، الآية [65] . 6 سورة النحل، الآية [74] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 مشابهة خلقه، في ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ونحوها من الآيات. فإذا استحكم هذا الأساس الأعظم في قلب المؤمن كان استحكامه فيه سببا لتوفيقه للأساس الثاني"1. ثمّ بيّن -رحمه الله- الأساس الثاني، فقال: "ونعني بالأساس الثاني المذكور تصديق الله فيما أثنى به على نفسه، وتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أثنى على ربه، والإيمان بتلك الصفات الثابتة في القرآن العظيم والسنة إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه" 2. ثم يزيد -رحمه الله- هذين الأساسين إيضاحا، ويشرع في شرحهما شرحا وافيا فيقول: "فهذان أساسان عظيمان: الأول: تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، والثاني: الإيمان بصفاته الثابتة في الوحي الصحيح إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه، بعيدا كل البعد عن مشابهة الخلق، وكيف يخطر في ذهن المؤمن العاقل مشابهة الخلق لخالقهم، فالصنعة لا تشبه صانعها بحال، وهذان الأساسان أوضحهما الله في محكم كتابه إيضاحا لا يترك في الحق لبسا ولا شبهة، وذلك في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لأن قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه سر أعظم، وتعليم أكبر في أوضح عبارة وأوجزها لا يترك في الحق لبسا. وإيضاح ذلك أنّ السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر صفتان يتصف بهما جميع الحيوانات –ولله المثل الأعلى- فكأنّ الله يقول: يا عبدي لا يخطر في عقلك أن سمعي وبصري يشابهان أسماع المخلوقين وأبصارهم حتى تقول إنّ هذا النص يوهم غير اللائق فتؤوله أو تنفيه، بل أثبت لي سمعي وبصري كما أثنيت بهما على نفسي إثباتاً مبنيا على أساس التنزيه،   1 آداب البحث والمناظرة 2/127-128. 2 المصدر نفسه 2/128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ولاحظ في ذلك قولي قبله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وهذا تعليم قرآني لا يترك في الحق لبسا ولا شبهة، فأول الآية الكريمة الذي هو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تنزيه تام غير تشبيه ولا تمثيل، فيجب علينا أن نعتقد ما دلّ عليه أولها من التنزيه، وما دل عليه آخرها من إثبات الصفات، والإيمان بها على أساس ذلك التنزيه، فلا نتنطع بين يدي خالقنا وننفي عنه صفة الكمال (التي) أثنى بها على نفسه، ولا نشبه خالقنا بخلقه، بل نجمع بين التنزيه أولا والإيمان بالصفات ثانيا حسبما دلت عليه آية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وبعد هذا الشرح المستفيض من الشيخ -رحمه الله- لهذين الأساسين العظيمين يوضح الأساس الثالث فيقول -رحمه الله-: "هو أن تعلم أن العقول البشرية عاجزة عن إدراك كيفية اتصاف الله جلّ وعلا بتلك الصفات؛ لأن قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 2صريح في أن إحاطة علم البشر به جلّ وعلا منفية نفيا باتا قرآنيا"3. ثم بين -رحمه الله- أن من أخلّ بأحد هذه الأسس فقد جانب الصواب، وسار على غير هدى، فيقول –مخبرا عن هذه الأسس-: "من جاء بها كلها فقد وافق الصواب، وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ومن أخلّ بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضلّ" 4.   1 آداب البحث والمناظرة 2/127-128. 2 سورة طه، الآية [110] . 3 آداب البحث والمناظرة 2/128، وانظر هذه الأسس الثلاثة أيضاً في (منهج ودراسات) ص9-10 ومعارج الصعود ص114. وتفسير سورة النور –جمع د/عبد الله قادري- ص138-140. 4 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات، ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أما من تمسك بجميع هذه الأسس العظيمة فقد سار على طريق سلامة محقق. وهو ناج يوم العرض الأكبر؛ لأنه قد استنار بالكتاب والسنة. قال -رحمه الله-: "لو متم يا إخواني وأنتم على هذا المعتقد أترون الله يوم القيامة يقول لكم: لم نزهتموني عن مشابهة الخلق ويلومكم على ذلك؟ لا وكلا، والله لا يلومكم على ذلك. أترون أنه يلومكم على أنكم آمنتم بصفاته وصدقتموه فيما أثنى به على نفسه ويقول لكم: لم أثبتم لي ما أثبت لنفسي، أو أثبت لي رسولي؟ لا والله لا يلومكم على ذلك، ولا تأتيكم عاقبة سيئة من ذلك. وكذلك لا يلومكم الله يوم القيامة ويقول لكم: لم قطعتم الطمع عن إدراك الكيفية ولم تحددوني بكيفية مدركة"1. وبهذا الأسلوب الرائع من الشيخ –رحمه الله- في عرضه العقيدة الصحيحة في الصفات، وبسطه لها بالكلام المقنع، ووضع القارئ أمام الأمر الواقع، وأنه سيقف أمام الله يوم القيامة. فمن أخذ بتلك الأسس فإنه سوف يستمسك بالأسباب المنجية. ولكنّ الخوف كل الخوف علىمن حاد عنها فعطل أو حرف أو شبه، فماذا يكون جوابه عن ذلك يوم الفزع الأكبر. وبهذه الحجة المقنعة من الشيخ -رحمه الله- نستطيع أن ندرك ما كان -رحمه الله- يتمتع به من عقلية فذة، وعلم واسع، وحجة قوية، وفهم لعقيدة السلف، وحرص على العمل بها ونشرها بين الناس. وبعد أن فهمنا هذه الأسس العظيمة كما قررها الشيخ الأمين –رحمه الله- ولبيان سلامة فهم الشيخ، واتباعه لمنهج السلف، وبعده عن سواه من المناهج المبتدعة. أختم الكلام بإيراد بعض أقوال السلف التي تؤيد ما ذكره الشيخ -رحمه الله-. وتدلّ على أنه مقتف آثار السلف الصالح، وعلى نهجهم يسير، وإلى ما ذهبوا إليه يذهب. فقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لله أسماء وصفات لا يسع أحدا   1 المصدر نفسه ص 44-45. وانظر: آداب البحث والمناظرة 1/130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر. وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل: لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1"2. وقال الإمام أبوالحسن الأشعري3-رحمه الله-: "وأجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه، ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه، ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب، وترك التكييف له لازم"4. وقال الإمام ابن خزيمة5-رحمه الله-: "فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز، وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، ونقرّ بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عزّ ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجلّ ربنا   1 سورة الشورى، الآية [11] . 2 فتح الباري 13/418. وانظر طبقات الحنابلة 1/283. 3 هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر، ينتسب إلى أبي موسى الأشعري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنيته أبوالحسن، ولد في البصرة سنة (260هـ) ، وتوفي على القول الراجح سنة (324هـ) في بغداد. وكان له ثلاث أحوال: كان في أولاها معتزليا، وسلك في الثانية مذهب ابن كلاب، ورجع أخيرا إلى معتقد السلف، وألف عدة كتب في نصرة معتقدهم، ككتاب الإبانة ورسالة إلى أهل الثغر، ومقالات الإسلاميين. (انظر: البداية والنهاية 11/199. وشذرات الذهب 2/303. ومقدمة تحقيق د/عبد الله شاكر لرسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري) . 4 رسالة إلى أهل الثغر ص236. 5 هو أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة السلمي النيسابوري الإمام الحافظ الحجة. كان سلفي العقيدة على طريقة أهل الحديث. من مصنفاته: متاب التوحيد، وكتاب الصحيح. توفي سنة (311?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 14/365. والبداية والنهاية 11/160. وشذرات الذهب 2/262) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عن مقالة المعطلين، وعزّ أن يكون عدماً كما قاله المبطلون؛ لأن ما لا صفة له: عدم. تعالى الله عما يقوله الجهميون"1. وقال حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر2-رحمه الله-: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحددون فيه صفة محصورة"3. وقال ابن قدامة المقدسي4-رحمه الله تعالى-: "وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف، كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله"5. وقال القاضي أبويعلى6-رحمه الله-: "واعلم أنه لا يجوز ردّ هذه الأخبار على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة، ولا التشاغل بتأويلها على ما ذهب إليه الأشعرية. والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله تعالى لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن شيخنا وإمامنا أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وغيره من   1 كتاب التوحيد لابن خزيمة 1/26. 2 هو الإمام يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي أبو عمر، من كبار حفاظ الحديث. ولد بقرطبة سنة (368?) وتوفي سنة (463?) له مؤلفات عظيمة منها: التمهيد والاستيعاب. قال الذهبي عنه: ((كان في أصول الديانة على مذهب السلف ولم يدخل في علم الكلام)) (انظر: سير أعلام النبلاء 18/153، وشذرات الذهب 3/314) . 3 التمهيد 7/145. 4 هو الإمام أبومحمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي. ولد سنة (541?) ، وكان عالم أهل الشام في زمانه. قال ابن النجار: ((كان إمام الحنابلة بجامع دمشق)) توفي بدمشق سنة (620?) من مؤلفاته: لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، وذمّ التأويل، والمغني. (انظر: سير أعلام النبلاء 22/165. وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/133. وشذرات الذهب 5/88) . 5 لمعة الاعتقاد ص10. 6 هو القاضي أبو يعلي محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي الفراء. شيخ الحنابلة، وعالم العراق في زمانه. توفي سنة (458?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 18/89. وطبقات الحنابلة 2/193. والبداية والنهاية 12/101) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أئمة أصحاب الحديث أنهم قالوا في هذه الأخبار: أمروها كما جاءت، فحملوها على ظاهرها في أنها صفات لله تعالى لا تشبه سائر الموصوفين"1. وقال الإمام ابن كثير2-رحمه الله-: "وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا بموضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي3، والثوري4، والليث بن سعد5، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه6. وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفيّ عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير"7.   1 إبطال التأويلات لأخبار الصفات 1/44. 2 تقدمت ترجمته؟؟. 3 هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي الدمشقي. كان صاحب سنة واتباع، وله مذهب خاص في الفقه، عمل به فقهاء الشام والأندلس مدة. ولد سنة (88) ، وقيل سنة (93) في بعلبك، ونشأ بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت، وبها توفي سنة (157?) . (انظر: وفيات الأعيان 3/127. وسير أعلام النبلاء 7/107. وشذرات الذهب 1/241) . 4 هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أمير المؤمنين في الحديث. من أئمة المسلمين وأعلام الدين مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد، وهو أحد الأئمة المجتهدين ولد سنة (97) ، وتوفي سنة (161?) على القول الصحيح. (انظر: البداية والنهاية 10/137) . وسير أعلام النبلاء 7/229- 279) . 5 الليث بن سعد بن عبد الرحمن. أبو الحارث. إمام حافظ عالم الديار المصرية. كان فقيهاً كثير العلم، صحيح الحديث، مع الورع والفضل. توفي سنة (175?) ، (انظر: سير أعلام النبلاء 8/136. وشذرات الذهب 1/285) . 6 هو الإمام إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي ثم الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهويه. نزيل نيسابور. ولد سنة (161) ، وتوفي سنة (238?) . قال عنه الإمام أحمد: ((لا أعرف لإسحاق في الدنيا نظيراً)) . (انظر: سير أعلام النبلاء 11/358. والبداية والنهاية 10/331) . 7 تفسير ابن كثير 2/220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وهكذا كانت طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم في جميع الصفات الثابتة لله بالكتاب والسنة: لا يعطلونها، ولا يحرفونها، بل يجرونها على ظاهرها مع عدم التعرض للكيفية، وكانوا يقولون عنها إنها لا تشابه صفات المخلوقين. وهم متفقون على هذا المنهج. وهو الذي سار عليه الشيخ الأمين -رحمه الله تعالى -، وجاهد من أجل إبرازه وتوضيحه وترسيخه في أذهان الناس، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 المطلب الثالث: قواعد في الصفات ذكر العلماء رحمهم الله قواعد وأصولاً يقوم عليها هذا النوع من أنواع التوحيد؛ (أعني توحيد الأسماء والصفات) . وقد حرصوا على استنباطها ووضعها بغية تسهيل فهم هذا العلم ومعرفته وحفظه. ومن هؤلاء العلماء الذين اهتموا بهذا الجانب: الشيخ الأمين –رحمه الله-؛ فقد جعل لإثبات الصفات والردّ على المخالف قواعد ملزمة فيها تقرير للمعتقد الصحيح. أولى هذه القواعد: القول في الصفات جميعها من باب واحد: قال -رحمه الله-: "أولاً: أن يعلم طالب العلم أنّ جميع الصفات من باب واحد؛ إذ لا فرق بينها البتة؛ لأنّ الموصوف بها واحد. وهو جلّ وعلا لا يشبه الخلق في شيء من صفاتهم البتة، فكما أنكم أثبتم له سمعاً وبصراً لائقين بجلاله لا يشبهان شيئاً من أسماع الحوادث وأبصارهم، فكذلك يلزم أن تجروا هذا بعينه في صفة الاستواء، والنزول، والمجيء، إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه. واعلموا أن ربّ السموات والأرض يستحيل عقلاً أن يصف نفسه بما يلزم محذور ويلزمه محال أو يؤدي إلى نقص كل ذلك مستحيل عقلا؛ فإنّ الله لا يصف نفسه إلا بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1"2.   1 سورة الشورى، الآية [11] . 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص37. وانظر: أضواء البيان 2/318. وآداب البحث والمناظرة 2/136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وهذه القاعدة التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- تتضمن إثبات الصفات جميعها، وتردّ على الأشاعرة الذين أثبتوا بعضها، ونفوا البعض الآخر. ففيها من الإلزام والقوة في الرد على المخالف ما يجعله يذعن ويستسلم للحقّ ممن ينشده، لأن من الأمور البديهية عدم التفريق بين المتماثلين إلا بدليل، وقد دل السمع والعقل على أنه لا يجوز التفريق بين الصفات، وإلا كان تحكماً وقولاً على الله بغير علم، وتنكبا للطريق المستقيم. فمن حاول أن يثبت البعض وينفي البعض الآخر فهو واقع في التناقض والاضطراب، وليس أمامه إلا أن يثبت جميع الصفات كما يليق بجلاله، لذلك يقول الشيخ الأمين –رحمه الله-: "فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء، ولا صفة يد ولا أصابع، ولا عجب، ولا ضحك؛ لأنّ هذه الصفات كلها من باب واحد. فما وصف الله به نفسه منها فهو حقً، وهو لائق بكماله وجلاله لا يشبه شيئا من صفات المخلوقين. وما وصف به المخلوقون منها فهو حقّ مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم"1. وقد سبق الشيخ الأمين –رحمه الله- في تقرير هذه القاعدة وإيضاحها شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وردّ بها على من فرق بين الصفات، وهم الأشاعرة. فقال -رحمه الله-: "فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، يجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات. قيل له: لا فرق بين ما نفيته وما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر. فإن قلت: إن إرادته مثل المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به" 1. وخلاصة القول: أن هذه القاعدة العظيمة حجة لمن أثبت جميع الصفات على ما يليق بجلال الله وكماله، ولم يفرق بينها؛ لأن طريقها واحد من حيث الإثبات ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية؛ فالذي قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2هو الذي قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3، والجميع لا نعلم كيفيته، لأنه قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 4. وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 5، وقال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 6. القاعدة الثانية: القول في الصفات كالقول في الذات7: في هذه القاعدة يردّ الشيخ الأمين –رحمه الله- على الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات؛ وهم المعتزلة، فيقول لهم: كما أنكم تثبتون لله ذاتاً حقيقية على مايليق بجلاله من غير تشبيه لذات الخالق بذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة بنفس المنهج ونفس الطريقة، إذ لا يعقل أن توجد ذات مجردة عن الصفات، فكما أنّ لله ذاتاً لا تشابه ذوات المخلوقين، فكذلك لله صفات لا تشابه صفات المخلوقين. وبهذه الطريقة نلزمهم إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وكماله. وفي تقرير هذه القاعدة يقول الشيخ الأمين –رحمه الله-: "الثاني: أن تعلموا أن الصفات والذات من باب واحد؛ فكما أننا نثبت ذات الله جلّ   1 العقيدة التدمرية ص31. 2 سورة الشورى، الآية [11] . 3 سورة المائدة، الآية [64] . 4 سورة الشورى، الآية [11] . 5 سورة مريم، الآية [65] . 6 سورة الإخلاص، الآيتان [3-4] . 7 راجع: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص38. وأضواء البيان 2/318. ومعارج الصعود ص114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وعلا إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية مكيفة محددة، فكذلك نثبت لهذه الذات الكريمة المقدسة صفات إثبات إيمان ووجود لا إثبات كيفية وتحديد" 1. وهذا ما أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة التدمرية فقال: "القول في الصفات كالقول في الذات؛ فإنّ الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل صفات سائر الذوات" 2. وهذا ما قرره أيضاً الخطيب البغدادي3 -رحمه الله- حين قال: "أما الكلام في الصفات: فإن ما روي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها ... والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العلمين عزّ وجلّ إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف" 4. وبهذا يتضح لنا أنّ الشيخ الأمين –رحمه الله- متبع للسلف مقتف لآثارهم، فهو حين يقرر هذه القاعدة يسلك مسلكهم ويتبنى ماقرروه،   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص38. وأضواء البيان 2/318. ومعارج الصعود ص114. 2 العقيدة التدميرية ص43. 3 هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد البغدادي الحافظ المحدث المؤرخ المعروف بالخطيب. أحد الأئمة الأعلام، وصاحب التواليف المنتشرة في بلاد الإسلام. من أشهر مصنفاته تاريخ بغداد. ولد سنة (395?) . وتوفي سنة (463?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 18/270. ووفيات الأعيان 1/92. وشذرات الذهب 3/311) . 4 ذم التأويل لابن قدامة ص15. وكذا ذكر الذهبي كلام الخطيب في تذكرة الحفاظ 3/1142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ويأخذ بهذه القاعدة العظيمة الملزمة لمن فرق بين الأسماء والصفات، أو بين الصفات والذات؛ إذ لا يعقل أن نثبت الأسماء وننفي الصفات، أو نثبت الذات وننفي الصفات، إذا لجميع من باب واحد. ولا ريب أن هذه القاعدة ملزمة للمعطل: إما أن يثبت الصفات كما أثبت الذات من غير معرفة الكيفية، أو ينفي ما أثبته من الأسماء أو الذات فيكون بذلك نافياً لوجود الله، لأنه فرق بين الذات وبن الصفات من حيث الإثبات. القاعدة الثالثة: آيات الصفات ليست من المتشابه: أراد الشيخ الأمين –رحمه الله- بإيراد هذه القاعدة أن يردّ على من قال بأنّ آيات الصفات من المتشابه. وهم المفوضة الذين يجعلون معرفة معاني آيات الصفات مما استأثر الله بعلمه، وبذلك لا يثبتون لها معاني صحيحة1، بل يقولون: إن هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شيء يخالف ظاهرها، ويوجبون تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجيزون الخوض في تفسيرها2. ويقولون أيضاً: إن صفات الله من العقائد التي لا يكتفي فيها بالظن، بل لا بد من اليقين، ولا سبيل إليه. لذلك نتوقف ونكل التعيين إلى العليم الخبير3. فالشيخ الأمين -رحمه الله- يردّ بهذه القاعدة الجليلة على هذا القول، ويؤكد أن آيات الصفات ليست من المتشابه، وإنما كيفية الصفات من المتشابه الذي لا نعلمه، والذي نكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى4. وأما إثبات   1 انظر قانون التأويل لابن العربي ص666. وقال السيوطي في كتابه ((الاتقان)) (2/7) : ((من المتشابه: آيات الصفات)) . 2 أساس التقديس للرازي ص223. 3 مناهل العرفان للزرقاني 2/183-186. 4 انظر: التحفة المهدية ص234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الصفة على ما يليق بجلاله فهذا ليس من المتشابه؛ قال -رحمه الله-: "اعلموا أن آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المتشابه، وهذا من جهة غلط، ومن جهة قد يسوغ؛ كما بينه الإمام مالك بن أنس بقوله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب"1، كذلك يقال في النزول: النزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب. واطرده في جميع الصفات؛ لأن هذه الصفات معروفة عند العرب. إلا أن ما وصف به خالق السموات والأرض أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق جلّ وعلا حق، والمخلوقون لهم ذوات، وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجلّ من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين"2. وما قاله الشيخ الأمين –رحمه الله- حول هذه القاعدة قد قال به كثير من علماء الأمة المعتبرين؛ من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وتلميذه ابن القيم -رحمه الله-، وغيرهما. وهذا يدل على أن الشيخ -رحمه الله- قد سلك منهج سلف هذه الأمة، واقتفى أثرهم، وقال بقولهم، واتبع طريقتهم. وسأذكر بعض أقوال العلماء المؤيدة لما قاله، فمنها قول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: قد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه، وقال: "إنهم تأولوها على غير تأويلها" 3 وبيان معناها. وكذلك الصحابة   1 رواه البيهقي عن مالك، وعن ربيعة الرأي في الأسماء والصفات (ص516) . ووصف الحافظ ابن حجر (في الفتح 13/417) سنده بأنه جيد إلى الإمام مالك. ورواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/398) ، والدارمي في الرد على الجهمية (ص33) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (في الفتاوى 5/365) بعد أن ذكر قول الإمام مالك: (وهذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً. ولكن ليس في إسناده من يعتمد عليه) . 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص38-39. 3 انظر الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص104- تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي، وإن لم يعلموا الكيفية، كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته فمن قال من السلف: إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهو حقّ. وأما من قال: إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله فهو غلط، والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرد على من قال إن الصفات من المتشابه: "من قال إن هذا من المتشابه، وأنه لايُفهم معناه، فنقول: أما الدليل على [بطلان] ذلك: فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه، أو جعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إنّ الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه. وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: "تمر كما جاءت". ونهوا عن تأويلات الجهمية –وردوها وأبطلوها- التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه" 2. وأما ما ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله- من أن جواب الإمام مالك يصح في جميع الصفات: فهذا ماقرره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: "وهذا الجواب من مالك -رحمه الله- في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات؛ مثل النزول، والمجيء واليد، والوجه، وغيرهما، فيقال في مثل النزول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال   1 مختصر الصواعق المرسلة 1/125. 2 رسالة الإكليل في المتشابه والتأويل- أنظر مجموع الفتاوى 13/294-295. وانظر موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول 1/120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عنه بدعة، هكذا يقال في سائر الصفات؛ إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة" 1. وبهذا نرى الشيخ الأمين رحمه الله يقرر هذه القاعدة الجليلة، ويبين أن المتشابه في آيات الصفات ليس كما قرره المتكلمون من أنه في باب المعاني، وإنما معانيها معلومة معروفة من لغة العرب. وإنما المتشابه كما أشار الشيخ رحمه الله يكون في باب الكيفية؛ لأن معاني الصفات من الأمور المعلومة، أما الكيفية: فيجب الجزم بعدم إدراكها. وهو ماسبق تقريره. القاعدة الرابعة: ليس ظاهر الصفات التشبيه حتى تحتاج إلى تأويل: يرد الشيخ الأمين –رحمه الله- بهذه القاعدة على الأشاعرة الذين يردون أكثر نصوص الصفات؛ كما قال صاحب الجوهرة2: وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها3. وكذلك -رحمه الله- يردّ على المعتزلة والجهمية الذين ينفون الصفات خوفاً من التشبيه بصفات المخلوقين كما زعموا4. وقد ذكر -رحمه الله- حجتهم في اعتقادهم أن ظاهر الصفات يدل على المشابهة، فقال -رحمه الله-: "فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من   1 نقض المنطق ص3. 2 هو إبراهيم بن إبراهيم بن حسن بن علي المالكي اللقاني، ألف جوهرة التوحيد، وتوضيح ألفاظ الأجرومية، وقضاء الوطر من نزهة النظر. توفي سنة (1041هـ) ، انظر: (الأعلام 1/28) . 3 شرح الصاوي على جوهرة التوحيد ص130. بل صرح الصاوي أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. (انظر حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3/19) . وقال السنوسي أيضاً: والتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية، فقالوا بالتشبيه والتجسيم والجهة محلا بظاهر قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} ، ونحو ذلك. (انظر شرح أم البراهين ص82- نقلاً عن علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين ص54) . 4 انظر: الصفات الاختيارية لشيخ الإسلام ابن تيمية (جامع الرسائل 1/7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 معنى الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث. وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً؛ لأن اعتقاد ظاهره كفر؛ لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر" 1. ثم بين -رحمه الله- اللوازم التي تلزم هذا القول، فقال: "ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول: أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2 لم يبين حرفاً واحداً من ذلك، مع إجماع من يعتدّ به من العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، سبحانك هذا بهتان عظيم. ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جلّ وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم"3. ثم بين -رحمه الله- القول الحق في ظاهر الصفات أنه كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وأن نصف الله كما وصف نفسه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم, وليس من تشابه بين صفات الله وصفات خلقه؛ فقال -رحمه الله-: "والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فظاهره المتبادر منه   1 أضواء البيان 2/319. 2 سورة النحل، الآية [44] . 3 أضواء البيان 2/319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث. فبمجرد إضافة الصفة إليه جلّ وعلا يتبادر إلى الفهم أنه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل: هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر" 1. ثم يبيّن -رحمه الله- السبب الذي جعل هؤلاء المعطلة يقولون إن الظاهر من معاني الصفات التشبيه؛ فيقول: "والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله لأنه كفر وتشبيه، وإنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جلّ وعلا، وعدم الإيمان بها، مع أنه جلّ وعلا هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهاً أولاً، ومعطلاً ثانياً. فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي، طاهراً من أقذار التشبيه، لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جلّ وعلا بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق، على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2"3. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "إنه يجب على كل مسلم أن يعتقد هذا   1 أضواء البيان 2/320. 2 سورة الشورى، الآية [11] . 3 أضواء البيان 2/320. وانظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الاعتقاد الذي يحل جميع الشبه. ويجيب عن جميع الأسئلة؛ وهو أن الإنسان إذا سمع وصفاً وصف به خالق السموات والأرض نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم, فليملأ صدره من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين. فيكون القلب منزهاً معظماً له جلّ وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه، فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق بصفات الله التي تمدح بها، وأثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم على غرار {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} . والشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى الكاذبة الخائنة" 1. وهذا الكلام الذي أورده الشيخ -رحمه الله- في إيضاح القاعدة المذكورة، وفي إيضاح كيفية الرد بها على المخالفين في نقاش علمي رصين ليس ببدع فيه، بل قد سبقه إليه أساطين من علماء الأمة الذين جاهدوا في سبيل توضيح عقيدة الإسلام الصافية النقية مستندين في كل ما قالوه إلى الكتاب والسنة، لذلك كان لهم قصب السبق في توضيح الاعتقاد الصائب، والردّ على كلّ مخالف زائغ. ففي هذا الجانب يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "من قال إن الظاهر غير مراد، بمعنى أن ظاهر صفات المخلوقين غير مراد، قلنا له: أصبت في هذا المعنى، لكن أخطأت في اللفظ وأوهمت البدعة، وجعلت للجهمية طريقاً إلى غرضهم، وكان يمكنك أن تقول: تمرّ كما جاءت على ظاهرها، مع العلم بأن صفات الله ليست كصفات المخلوقين، وأنه منزه مقدس عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه. ومن قال   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص36-37، 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 إن الظاهر غير مراد بالتفسير؛ وهو مراد الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والأشعرية وغيرهم: فقد أخطأ" 1. وقال الشيخ مرعي المقدسي2 -رحمه الله-: "ومن المعلوم أنه عليه السلام كان يحضر في مجلسه الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي، ثم لا يجد –أي الناظر في نصوص الصفات- شيئاً يعقب تلك النصوص مما يصرفها عن حقائقها لا نصا ولا ظاهراً كما تأولها بعض هؤلاء المتكلمين. ولم ينقل عنه عليه السلام أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين ونحو ذلك، ولا نقل عنه أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها، ولما قال للجارية: "أين الله"؟ فقالت: في السماء، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه، بل أقرها، وقال: "اعتقها فإنها مؤمنة" 3"4. فأين في كل هذا ما ظاهره التشبيه إذا كانت الصفة تابعة للموصوف. فالله يوصف من هذه الصفات بما يليق بجلاله وعظمته، فليست صفته سبحانه مشابهة لصفات خلقه وإن اشتركت معها في اللفظ الوارد؛ لأن صفة المخلوق تابعه لضعفه وافتقاره، وصفه الخالق على ما يليق بكماله وعظمته وجلاله. القاعدة الخامسة: الصفات على الحقيقة لا مجاز فيها: يؤكد الشيخ الأمين –رحمه الله- أن صفات الله تعالى الواردة في الكتاب   1 الرسالة المدنية ص36. –تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان. 2 هو مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن أحمد الكرمي المقدسي. مؤرخ أديب من كبار الفقهاء. ولد في طور كرم في فلسطين، ثم انتقل إلى القاهرة، وتوفي بها سنة (1033?) . (انظر: الأعلام 7/203. ومعجم المؤلفين 12/218) . 3 أخرجه مسلم 1/382. 4 أقاويل الثقات ص85. وانظر: رسالة في الاستواء والفوقية لأبي محمد الجويني –ضمن رسائل المجموعة المنيرية 1/177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 والسنة هي على الحقيقة كما يليق بجلاله، وليس كما يدعي المؤولة أنها مجاز، فيقولون: الاستواء: معناه الاستيلاء، واليد: القدرة، وهكذا، يحرفون الصفات، ويعطلون الله عن صفاته العظيمة. قال الشيخ -رحمه الله-: "إن جميع ما وصف الله به نفسه في هذا القرآن من الصفات؛ كالاستواء، واليد، والوجه، ونحو ذلك من جميع الصفات فهو موصوف به حقيقة لا مجازاً1، مع تنزيهه جلّ وعلا عن مشابهة صفات الحوادث سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيراً. وذلك البيان العظيم لجميع الصفات في قوله جلّ وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2، فنفى عنه مماثلة الحوادث بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وأثبت له الصفات على الحقيقة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ... "3. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه؛ لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدالّ على الصفة؛ كصفة اليد والوجه، إلا أنها صفة كمال منزهة عن مشابهة صفات الخلق. فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له"4. وما أشار إليه الشيخ -رحمه الله- أمر مجمع عليه عند السلف وقاعدة تُجرى على كل الصفات. وسأذكر كلام بعض العلماء الذين سبقوا الشيخ الأمين –رحمه الله- في 1 للشيخ الأمين -رحمه الله- رسالة مفردة في نفي المجاز، سماها ((منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز)) أثبت فيها أن القرآن كله حقائق لا مجاز فيه، وأنّ القول بالمجاز ذريعة لنفي ما أثبته الله لنفسه من صفات الكمال بادعاء أنها مجاز وأنّ المجاز يجوز نفيه، وهذا من أعظم وسائل التعطيل.   (انظر مقدمة هذه الرسالة ص3-4. وهي ملحقة بأضواء البيان، الجزء العاشر) . 2 سورة الشورى، الآية [11] . 3 أضواء البيان 1/82. وانظر: المعين والزاد ص41-45. 4 أضواء البيان 7/463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 تقرير هذه القاعدة. فمنهم: الحافظ ابن عبد البر الذي قال: "وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنه لا يكيفون شيئا من ذلك. ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع، والجهمية1، والمعتزلة2، والخوارج3، فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة" 4. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته"5. فما قرره الشيخ الأمين –رحمه الله- بأن الحق في الصفات إثباتها على الحقيقة اللائقة بجلال الله سبحانه وتعالى، وأنها ليست مجازاً، فلا تؤول   1 الجهمية: أتباع جهم بن صفوان الراسبي مولاهم، أبو محرز السمرقندي، رأس الجهمية. قتله سلم بن أحوز نائب أصبهان سنة ثمان وعشرين ومائة، كان يقول بأن العباد مجبورون على أفعالهم، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الجنة والنار تفنيان، وأن القرآن مخلوق. وكان ينكر صفات الله عز وجل وأسمائه. ويقول: إن الله في الأمكنة كلها. تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيراً. (انظر: الفرق بين الفرق ص211. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص34. وسير أعلام النبلاء 6/26. والبداية والنهاية 9/364. والخطط للمقريزي 2/349) . 2 سبق التعريف بهم ص242. 3 الخوارج: سموا بهذا الاسم لخروجهم على علي رضي الله عنه. وهم فرق كثيرة. قال أبوالحسن الأشعري: أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، إلا النجدات: فإنها لا تقول بذلك. وأجمعوا على أن الله يعذب أصحاب الكبائر عذاباً أليماً، إلا النجدات. (انظر: مقالات الإسلاميين 1/167. والملل والنحل 1/114. والخطط للمقريزي 2/350، 354. والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص17) . 4 التمهيد 7/145. 5 الفتاوى 3/218. وانظر كلامه -رحمه الله- في رده على من قال إن صفات الله مجاز. (كتاب الإيمان ص106 –طبعة المكتب الإسلامي-) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ولا تفوض: هو الذي تعضده نصوص الشرع وأقوال السلف رضوان الله عليهم. وهكذا نرى شدة عناية الشيخ الأمين –رحمه الله- بعقيدة السلف، وتقعيده القواعد لإيضاحها. وكذا شدة اهتمامه بتسهيلها، وشدة حرصه على تفهيمها للناس؛ حيث أرشد طالب العلم إلى الأخذ بهذه الأصول السهلة الميسرة التي تأخذ بيد طالب الحق، وتوصله إلى مبتغاه؛ إلى عقيدة الإثبات مع التنزيه. فلا يغلو في الإثبات حتى يشبه الله بخلقه، ولا يغلو في التنزيه حتى يعطل الله جلّ وعلا عن صفاته، بل يثبتها إثباتاً يليق بجلال الله وعظمته وكماله، منزها لها عن مشابهة صفات الحوادث، متبعاً لقول مولاه جلّ وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.   1 سورة الشورى، الآية [11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المطلب الرابع: ذكر جملة من الصفات التي ذكرها الشيخ الأمين –رحمه الله- فيما يلي أورد كلام الشيخ الأمين –رحمه الله- مفصلا عن بعض الصفات التي كثر الكلام حولها بين السلف ومخالفيهم، وذلك كي أبيّن مدى التطابق بين ما سبق أن نقلته عنه منهج وقواعد قعدها، واستند إليها في الإثبات والردّ على الخصوم، وبين ما سأورده من كلامه التفصيلي حول بعض الصفات. وسنلاحظ عند الكلام عن الصفات تفصيلاً أنّ الشيخ الأمين –رحمه الله- قد اهتمّ بذكر رأيه في الصفات في ضوء الدليل، ووفق المنهج المرسوم. وسنلاحظ أيضاً أنه لا يطيل في الحديث عنها؛ لأنه اكتفى ببيان المنهج، ووضع القواعد العامة التي تشترك فيها سائر الصفات. ومن الصفات التي فصّل الشيخ الأمين –رحمه الله- فيها الكلام: صفة الاستواء، وصفة الكلام، وصفة اليدين، وصفة المعية، وصفة العلم، وصفة العلو، وصفة العظمة، وصفة الكبرياء، وصفة القدرة، وصفة السمع، وصفة البصر، وصفة الحياة، وصفة القيومية، وصفة الوجه، وصفة العين، وصفة القدم، وصفة الغضب، وصفة الرحمة، وصفة المجيء. [1] صفة الاستواء: الاستواء على العرش1 من صفات الله الفعلية الثابتة على ما يليق   1 قال الشيخ الأمين -رحمه الله- في العرش: (والعرش سرير الملك، ويطلق على السقف، والمراد به هنا عرش الرحمن الذي ذكره الله عز وجل في سبعة مواضع من كتابه، واصفا نفسه باستوائه عليه جلّ وعلا) . (معارج الصعود ص49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بجلاله وكماله، فلا يُتطرق إلى تشبيه معناها، بل تثبت من غير كيف، وفق منهج السلف الذين يثبتون الصفات من غير تكييف –كما مرّ آنفا-. وهذه الصفة العظيمة أطال المتكلمون حولها النقاش، وحشدوا لردها كلّ ما استطاعوا من جدل وسفسطه، وكلها تضمحلّ أمام سبع آيات من القرآن الكريم أثنى الله بها على نفسه واصفا لها بالاستواء على العرش، وجعلها من صفات الكمال التي يمتدح بها جلّ وعلا. وقد قرر الشيخ الأمين –رحمه الله- هذه الصفة بأسلوب سهل، وبدون تعقيد مستشهداً على ذلك بالنقل من آيات القرآن الكريم مؤكداً أنّ هذه الصفة من صفات الجلال والكمال، وهي ثابتة لله على ما يليق بجلاله، فقال -رحمه الله-: "اعلموا أنّ هذه الصفة التي هي صفة الاستواء صفة كمال وجلال، تمدح بها ربّ السموات والأرض. والقرينة على أنها صفة كمال وجلال أنّ الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلا مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله" 1. ثمّ استدلّ -رحمه الله- على هذه الصفة العظيمة بكلام الله سبحانه وتعالى، الذي امتدح نفسه بها في سبعة مواضع من القرآن الكريم. والشيخ -رحمه الله- حين يورد هذه الآيات الكريمات يؤكد أنه لا مجال معها لتأويل متأول، أو تحريف محرف، وأنّ الحقّ مع من أثبتها لله كما يليق بجلاله؛ وهم أهل السنة والجماعة. وقد أورد -رحمه الله- هذه الآيات السبع التي ذكر الله فيها استواءه على عرشه حسب ترتيبها في القرآن الكريم، مبتدأ بقوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص28. وانظر: رحلة الحج ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. ثمّ عقب -رحمه الله- على إيراده الآية بقوله: (فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال) 2. ثمّ ذكر -رحمه الله- الموضع الثاني الذي ذكر فيه الاستواء؛ وهو قوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} 3، وعقّب على هذه الآيات الكريمات بقوله: (فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا الكمال والجلال) 4. ثمّ ذكر -رحمه الله- الموضع الثالث من سورة الرعد، وهو قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الأياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 5. ثمّ قال -رحمه الله- بعد ذكر هذه الآيات الكريمات "فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة   1 سورة الأعراف، الآية [54] . 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص28. 3 سورة الأعراف، الآيتان [3-4] . 4 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص29. 5 سورة الرعد، الآيتان [2-4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 على الجلال والكمال" 1. ثمّ ذكر -رحمه الله- الموضع الرابع من سورة طه، من قوله تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَىاللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2، ثمّ قال -رحمه الله-: "فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال" 3. ثمّ ذكر -رحمه الله- الموضع الخامس؛ من سورة الفرقان، وهو قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 4. وقال بعد ذلك: "فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال" 5. ثمّ ذكر -رحمه الله- الموضع السادس، وهو من سورة السجدة، وهو قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ} 6، ثمّ قال بعد أن أورده: "فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الغاية من الجلال والكمال"7.   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص30. 2 سورة طه، الآيات [1-8] . 3 منهج ودراسات ص31. 4 سورة الفرقان، الآيتان [58-59] . 5 منهج ودراسات ص31. 6 سورة السجدة، الآيتان [4-5] . 7 منهج ودراسات ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ثمّ ذكر -رحمه الله- الموضع السابع من المواضع التي ذكرت فيها هذه الصفة العظيمة؛ وهو قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الأوَّلُ وَالأخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} "1 2. وبعد أن أورد الشيخ -رحمه الله- هذه الآيات الكريمات الدالة على ثبوت اتصاف الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة العظيمة، نوه بأنّ بعض المتكلمين تجرأ على هذه الصفة الكريمة التي وصف الله تعالى بها نفسه فحرفها عن موضعها، وانتحل لها من تلقاء نفسه معاني عطلتها عن معناها الحقيقي المتضمن للكمال المطلق، زاعماً أنّ إثباتها على ظاهرها يجعلها صفة نقص لا يجوز اتصاف الربّ بها، لذلك تؤول بمعنى آخر غير المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن. يقول الشيخ الأمين –رحمه الله- مبيّنا حال هؤلاء القوم: "فالشاهد أنّ هذه الصفات التي يظنّ الجاهلون أنها صفة نقص، ويتهجمون على ربّ السموات والأرض بأنه وصف نفسه بصفة نقص، ثمّ يسببون عن هذا أن ينفوها ويؤولوها، مع أنّ الله جلّ وعلا تمدح بها، وجعلها من صفات الجلال والكمال، مقرونة بما يبهر من صفات الجلال والكمال. وهذا يدلّ على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله جلّ وعلا بالتأويل" 3. ولإبعاد الشبهة التي استقرت في عقول المؤولة؛ وهي أنّ صفة الاستواء تشابه صفة المخلوق، لذلك تحرف إلى استولى، أو غيرها أكد -رحمه الله- أنّ   1 سورة الحديد، الآيتان [3-4] . 2 منهج ودراسات ص32. وانظر: أضواء البيان 2/16-18. وآداب البحث والمناظرة 2/132. 3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 السلف لا يقصدون بإثباتهم صفة الاستواء لله أنها تشابه صفة استواء المخلوق، فكما أنّ لله الخالق ذاتاً لا تشابه الذوات، كذلك له صفات لا تشبه الصفات. ولذلك ذكر -رحمه الله- أنّ اتصاف المخلوق بالاستواء هو على ما يليق به، كما أنّ استواء الخالق جلّ وعلا على ما يليق به. وأنّ الصفة وإن اشتركت في المعنى، إلا أنّ كل صفة تتبع موصوفها. فالله تعالى يقول عن استواء الإنسان: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} 1، ويقول سبحانه: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} الآية2، ويقول عن استواء السفينة: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} الآية3. ثم قال -رحمه الله- بعد ما ذكر هذه الآيات الكريمات: "وإنّ للخالق جلّ وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله، وللمخلوق أيضاً استواء مناسب لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين الخالق والمخلوق، على نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4"5. وبذلك يقطع الشيخ -رحمه الله- الطريق على الجاهلين الذين شبهوا الله بخلقه، ثمّ عطلوه عن صفة الكمال التي أثبتها لنفسه فهو -رحمه الله- يؤكد أنّ صفة الاستواء التي اتصف بها الله سبحانه وتعالى ليست كما تصور لكم عقولكم، بل هو استواء لا نعلم كيفيته، كما أننا لا نعرف كيفية الذات، فلله سبحانه من هذه الصفة ما يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه أو   1 سورة الزخرف، الآية [13] . 2 سورة المؤمنون، الآية [28] . 3 سورة هود، الآية [44] . 4 سورة الشورى، الآية [11] . 5 أضواء البيان 2/318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 تكييف. وهذا هو المذهب الحقّ الذي تدلّ عليه نصوص الوحي المثبتة للصفات؛ لأنّ المنهج والطريقة في ذلك واضحة لم يدعنا الله تعالى فيها لعقولنا حين قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1؛ فالصفات ثابتة، وأما الكيفية فمنفية؛ إذ كيف نعرف كيفية صفته سبحانه، ونحن لم نعلم كيفية ذاته تعالى الله عما قاله المبطلون علواً كبيراً. فالشيخ -رحمه الله- ينطلق في كلامه من الكتاب والسنة، ومن مفهوم السلف الصالح؛ الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن الاستواء، فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) 2. وقال الأوزاعي -رحمه الله-: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إنّ الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته جلّ وعلا) 3. وقال الشيخ أبو نصر السجزي4: (وأئمتنا؛ كسفيان الثوري5، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة6، وحماد بن سلمة7، وحماد بن   1 سورة الشورى، الآية [11] . 2 تقدم تخريجه. 3 الأسماء والصفات للبيهقي ص515. 4هو الإمام الحافظ شيخ السنة أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجستاني. توفي سنة (444?) . (انظر: سير أعلام النبلاء17/654.وشذرات الذهب 3/271. 5 تقدمت ترجمته. 6 هو الإمام سفيان بن عيينة بن ميمون، مولى محمد بن مزاحم الهلالي الكوفي، ثم المكي. حافظ العصر، وأحد أئمة الحديث. ولد سنة (107) ، وتوفي سنة (198?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 8/454. وشذرات الذهب 1/354) . 7 هو الإمام حماد بن سلمة بن دينار البصري، من كبار المحدثين، توفي سنة (167?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 7/444. وشذرات الذهب 1/262) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 زيد1، وعبد الله بن المبارك2، والفضيل بن عياض3، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه4؛ متفقون على أنّ الله سبحانه بذاته فوق العرش، وعلمه بكلّ مكان، وأنه ينزل من السماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء" 5. فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة في استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه؛ فهم يؤمنون بها على مراد الله من غير تكييف لمعناها، ولا مشابهة لها بصفة المخلوقين. والشيخ -رحمه الله- متبع لطريقة السلف المستندة إلى نصوص الوحي، فهو من دعاة الاتباع، ومن أشدّ أعداء الابتداع. موقف المتكلمين من صفة الاستواء، وردّ الشيخ الأمين رحمة الله عليهم: وفي معرض إيضاح الشيخ الأمين -رحمه الله- لهذه الصفة بيّن رأي المتكلمين فيها، وذكر أنهم أكثروا من الخوض فيها حتى نفوها بأدلة جدلية كلامية عقيمة استدلوا بها لإبطال الحقّ وإحقاق الباطل حتى تجرأ كثير من الناس ممن يدعي الإسلام على تعطيل هذه الصفة عن ربّ السموات والأرض بهذه الأدلة الواهية التي يعارضون بها كلام الله سبحانه   1 هو الإمام حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري. أحد أئمة الحديث. ولد سنة (98) ، وكان ضريراً. وتوفي سنة (179هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 7/456، 466. والبداية والنهاية 10/180) . 2 هو الإمام عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظلي المروزي. أحد أئمة الحديث. قال عنه ابن معين: ذاك أمير المؤمنين في الحديث. ولد سنة (118هـ) . وتوفي سنة (181هـ) . (انظر سير أعلام النبلاء 8/378. والبداية والنهاية 10/183) . 3 هو الإمام الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الخراساني. أحد أئمة العباد والزهاد. توفي سنة (187هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 8/421. والبداية والنهاية 10/206. وشذرات الذهب 1/316) . 4 تقدمت ترجمته. 5 سير أعلام النبلاء 17/656. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وتعالى1، ولهم تأويلات مختلفة في نفي تلك الصفة عن الله، ولكنّ مؤدى الكل واحد من حيث تعطيل الله جلّ وعلا عن الاتصاف بهذه الصفة العظيمة، وتحريفها عن الاستواء إلى الاستيلاء2. وقد ناقشهم الشيخ الأمين -رحمه الله- مناقشة علمية رصينة أظهر من خلالها كثيراً من التحريفات التي وقعوا فيها، واستوعب مزاعمهم وأدلتهم التي جمعوها، وبيّن أنهم بهذه المزاعم يريدون التوصل إلى نفي الاستواء عن الله سبحانه وتعالى. ومن هذه المزاعم التي ذكروها: قالوا: إنّ قوله: على العرش استوى مجاز؛ فنفوا الاستواء؛ لأنه مجاز، وقالوا: معنى استوى: استولى. وشبهوا استيلاءه باستيلاء بشر بن مروان على العراق. وقالوا أيضاً: إنّ الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق، فجاؤوا بالاستيلاء لأنه هو اللائق به بزعمهم3. ونبّه -رحمه الله- إلى مشابهة المؤولة لليهود الذين بدلوا كلام الله وحرفوه، فغضب الله عليهم ولعنهم، وذكر أنّ المؤولة سلكوا الطريق نفسه الذي سلكه اليهود؛ فقال -رحمه الله- مبينا هذا المعنى: (ولو تدبروا كتاب الله لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء، وتبديل اليد بالقدرة، أو النعمة؛ لأنّ الله جلّ وعلا يقول في محكم كتابه في سورة القرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون} 4، ويقول في الأعراف: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا   1 انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص27، 28. 2 انظر: الإرشاد ص40، 41. وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي ص226، 227. وانظر أيضاً: مختصر الصواعق المرسلة 2/379، 380. 3 انظر: أضواء البيان 7/452. وانظر أيضاً: المصدر نفسه 7/454. وآداب البحث والمناظرة 2/135. ورحلة الحج ص84. 4 سورة البقرة الآية [59] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} 1 فالقول الذي قاله الله لهم، هو قوله: "حطة"؛ وهي فعلة من الحطّ بمعنى الوضع: خبر مبتدأ محذوف؛ أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا؛ أي حطّ وضعها عنا، فهي بمعنى طلب المغفرة. وفي بعض روايات الحديث2 في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نوناً فقط، فقالوا: حنطة؛ وهي القمح. وأهل التأويل قيل لهم على العرش استوى، فزادوا لاما فقالوا استولى. وهذه "اللام" التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} 3، وبقول الله جلّ وعلا في منع تبديل القرآن بغيره: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 4. ولا شك أنّ من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فعليه أن يجتنب التبديل، ويخاف العذاب العظيم الذي خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم لو عصى الله فبدل قرآنا بغيره، المذكور في قوله: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . واليهود لم ينكروا أنّ اللفظ الذي قاله الله لهم هو لفظ حطة، ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة، وأهل هذه المقالة لم ينكروا أنّ كلمة القرآن هي استوى، ولكن حرفوها وقالوا في معناها: استولى. وإنما أبدلوها بها لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن التي توهم غير اللائق، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله، مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم باستيلاء بشر على   1 سورة الأعراف، الآية [162] . 2 انظر: مسلم 4/2312 وفيه: أنهم قالوا: حبة في شَعَرَة بدل حطة. وفي مسند الإمام أحمد (وقولوا حطة. قال بدَلوا فقالوا: ((حنطة في شعرة)) بدل حطة انظر الفتح الرباني 18/73. 3 سورة البقرة، الآية [58] . 4 سورة يونس، الآية [15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 العراق) 1. وبهذه الإلزامات التي ساقها الشيخ الأمين -رحمه الله- برهن على صحة حكمه في المؤولة بأنهم سلكوا مسلك اليهود في تحريف كلام الله تعالى، ومعارضته. فليس كلامه -رحمه الله- مجرد دعوى يلقيها على عواهنها، بل ضمّن ذلك أمثلة من القرآن الكريم ليتضح وجه الشبه بين اليهود والمؤولة. ثمّ يناقش الشيخ -رحمه الله- هؤلاء المؤولة في صميم تأويلهم، فيطرح عليهم عدة أسئلة ينسف من خلالها تأويلهم الباطل؛ إذ هذه الأسئلة لا تحتمل إلا إجابة واحدة لا يستطيع المؤولة أن يقولوا بها. وهذه الأسئلة التي يطرحها الشيخ -رحمه الله- هي من لوازم قولهم الشنيع في تأويل صفة استواء الربّ سبحانه وتعالى؛ فيقول -رحمه الله-: (هل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش واستولى عليه وهل يوجد شيء إلا والله مستولٍ عليه؟ فالله مستولٍ على كل شيء وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استولى على كلّ شيء غير العرش؟ فافهم) 2. وهكذا يُظهر الشيخ -رحمه الله- شناعة هذا القول، وما يلزم عليه من لوازم كفرية إن اعتقدها المؤول، كلّ ذلك بأسلوب مقنع يُظهر فظاعة قول المؤولة الذين قالوا على الله بغير علم.   1 أضواء البيان 7/452- 454. ولله درّ العلامة ابن القيم -رحمه الله- حيث يقول: أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا، وقالوا حنطة لهوان وكذلك الجهمي قيل له استوى فأبى وزاد الحرف للنقصان قال استوى استولى وذا من جهله لغة وعقلا ماهما سيان نون اليهود ولام جهميّ هما في وحي ربّ العرش زائدتان (انظر: المقاصد وتصحيح القواعد لأحمد بن عيسى ص26) . 2 أضواء البيان 7/454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وأخيراً يجهز الشيخ الأمين -رحمه الله- على تأويلهم ناسفاً له من أساسه، فبين لهم أنّ المحذور الذي فروا منه؛ وهو خوفهم من تشبيه استواء الخالق بالمخلوق، قد وقعوا فيه حين أولوا استوى باستولى. فيسألهم مستفسراً منهم هل تقصدون باستيلاء الله على عرشه استيلاء مشابهاً لاستيلاء بشر بن مروان على العراق، أم تريدون استيلاء خاصاً كما يليق بجلال الله وعظمته. وبلا شك فهم سيجيبون بالجواب الأخير؛ إذ هم قد أولوا الاستواء بالاستيلاء فراراً من التشبيه. وبهذه الطريقة ليس أمامهم من منفذ يخرجون منه إلا أن يذعنوا للحقّ، ويقولوا بقول أهل السنة والجماعة دون تلاعب بالألفاظ: إنّ الله مستو على العرش استواء يليق بجلاله سبحانه؛ إذ لفظ "استوى" هو اللفظ الذي أثنى الله به على نفسه، وتعبدنا بتلاوته، فهو أحق بأن يوصف الله تعالى به. وفي ذلك يقول -رحمه الله-: (تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه، وليس بلائق قطعا. إلا أنه يقول: إن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء الخلق، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على العراق، والله يقول: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1، ونحن نقول: أيها المؤول هذا التأويل: نحن نسألك إذا علمت أنه لا بدّ من تنزيه أحد اللفظين؛ أعني لفظ "استوى" الذي أنزل الله به الملك على النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا يتلى، كلّ حرف منه عشر حسنات، ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر. ولفظة "استولى" التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من السلف. فأيّ الكلمتين أحقّ بالتنزيه في رأيك؟ آلأحق بالتنزيه كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله، أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم من غير مستند   1 سورة النحل، الآية [74] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أصلاً؟ ونحن لا يخفي علينا الجواب الصحيح عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه) 1. وهذه الطريقة المقنعة التي سلكها الشيخ -رحمه الله- تستعمل في كلّ تأويل فروا إليه خشية المشابهة؛ فإذا لم يقولوا فيه كما يليق بجلاله لزمتهم مشابهة الخالق بالمخلوق، ووقعوا فيما فروا منه. وحينئذ نقول لهم: نحن نثبت الصفات لله، ونقول: كما يليق بجلاله، وهذه صفات أثنى الله بها على نفسه، وتعبدنا بتلاوتها كما أوضح ذلك كله الشيخ الأمين رحمه الله تعالى. وقد سبق الشيخ الأمينَ إلى سلوك هذه الطريقة شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في رده على المؤولة2. وهذا من الأدلة الجلية على اقتداء الشيخ الأمين -رحمه الله- بسلفه الصالح من العلماء الأجلاء الذين ردوا على من انحرف عن الطريق المستقيم، وجادلوا من عاند منهم، وقارعوا حججهم الواهية الباطلة بحجج في غاية القوة والوضوح والإقناع. ولم يكتف الشيخ الأمين -رحمه الله- بإيراد تلك الحجة الظاهرة الساطعة البيان رادا بها هذا التأويل، بل نجده -رحمه الله- يفرد مبحثا مستقلا لمناقشة المتكلمين في ردهم صفة الاستواء، يقيم فيه عليهم الحجة بمقتضى قواعدهم التي قعدوها لنفي معاني الصفات التي لا توافق أهواءهم؛ فهم يقولون: لو كان الله مستويا على العرش لكان مشابها للخلق، لكنه غير مشابه للخلق، فهو غير مستوٍ على العرش. وبهذه الطريقة القياسية نفوا صفة الاستواء الثابتة في سبعة مواضع من كتاب الله تعالى. يقول -رحمه الله- موضحاً ذلك: (نحبّ أن نذكر كلمة قصيرة لجماعة قرؤوا في المنطق والكلام، وظنوا نفي بعض الصفات من أدلة كلامية؛ كالذي   1 أضواء البيان 7/454- 455. وانظر: منهج ودراسات ص50. 2 راجع العقيدة التدمرية ص45- 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 يقول مثلاً: لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث، لكنه غير مشابه للحوادث، ينتج: فهو غير مستو على العرش. هذه النتيجة الباطلة تضادّ سبع آيات من المحكم المنزل، ولكننا الآن نقول في مثل هذا1 على طريق المناظرة والجدل المعروف عند المتكلمين؛ نقول: هذا قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية، استثنائية؛ استثنى فيه نقيض التالي، فأنتج نقيض المقدم، حسب ما يراه مقيم هذا الدليل. ونحن نقول: إنه تقرر عند عامة النظار أنّ القياس الاستثنائي المركب من شرطيه متصلة لزومية يتوجه عليه القدح من ثلاث جهات: 1- يتوجه عليه القدح من جهة استثنائية. 2- ويتوجه عليه من جهة شرطية إذا كان الربط بين المقدم. 3- ويتوجه عليه من جملة شرطية إذا كان الربط بين المقدم وهذه القضية كاذبة الشرطية. فالربط بين مقدمها وتاليها كاذب كذباً بحتاً، ولذا جاءت نتيجتها مخالفة لسبع آيات. إيضاحه: أن نقول: قولكم لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث. هذا الربط بين لو واللام كاذب كاذب كاذب، بل هو مستو على عرشه كما قال من غير مشابهة للحوادث، كما أنّ سائر صفاته واقعة كما قال من غير مشابهة للخلق. ولا يلزم من استوائه على عرشه كما قال أن يشبه شيئاً من المخلوقين في صفاتهم البتة، بل استواؤه صفة من صفاته، وجميع صفاته منزهة عن مشابهة الخلق، كما أنّ ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق. ويطّرد في الكل) 2.   1 يريد القدح في القياس الاستثنائي الذي أوردوه. 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص41- 42. وانظر: آداب البحث والمناظرة 2/122- 126. ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز –الملحق بأضواء البيان 10/57- 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وهكذا يردّ عليهم الشيخ الأمين –رحمه الله- بمنطقهم، مبيّنا أنّ هذه القاعدة الجدلية، والدليل الجدلي الذي اتخذوه ذريعة لنفي الاستواء: كاذب من أساسه، فلا شك أنّ النتيجة التي رتبوها على هذا الدليل الكاذب ستكون كاذبة أيضاً، وبذلك يتضح أنّ صفة الاستواء ثابتة لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته بأدلة النقل؛ من كتاب وسنة. ولا شك أن العقل السليم الذي لم تدخله الآراء الفاسدة والشبهات لا يعارض الدليل الصحيح، بل يسلم له؛ فالعقل السليم يوافق الدليل الصحيح. بقي أن أنبه إلى أنّ الشيخ الأمين –رحمه الله- رغم معرفته للجدل والمنطق، ومعرفته لقواعده وجزئياته –كما تبيّن لنا من هذا الردّ- إلا أنه لم يجعله أساساً لإثبات الصفات، بل لم يستخدمه في مبحث التوحيد إلا للرد على من يعتقده ويأخذ به، وذلك لإقامة الحجة عليهم، وإبطال حججهم بمنطقهم الذي يفهمونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 (2) صفة الكلام: الكلام من صفات الله الثابتة على ما يليق بجلاله سبحانه. وهو صفة ذاتية باعتبار نوع الكلام، وصفة فعل لتعلقه بمشيئة الله باعتبار أفراد الكلام1. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عزّ وجلّ يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك ربنا وسعديك؟ فينادي بصوت: إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار" 2. فهو سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء. وهو متكلم بصوت يسمع3؛ يُسمعه من شاء من خلقه؛ سمعه موسى عليه السلام من غير واسطة، وسمعه من أذن له من ملائكته ورسله. وهو سبحانه وتعالى يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه. هذا معتقد سلف الأمة في صفة كلام الله سبحانه وتعالى. وهو ما قرره الشيخ الأمين –رحمه الله-، وبينه خير بيان؛ فقد قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 4: "هذه الآية الكريمة من سورة براءة نص صريح في أنّ هذا الذي نقرؤه ونتلوه هو بعينه كلام الله؛ فالصوت صوت القاري، والكلام كلام الباري؛ لأن الله صرح أنّ هذا المشرك المستجير يسمع كلام الله يتلوه عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.   1 انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام 6/219. وانظر أيضاً: الصفات الإلهية للدكتور محمد أمان ص262. 2 أخرجه البخاري في الصحيح 5/241. ومسلم في الصحيح 1/201. 3 انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص180. 4 سورة التوية، الآية [6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 هذا المحفوظ في الصدور، المقروء بالأسنة، المكتوب بالمصاحف هو كلام الله جلّ وعلا بمعانيه وألفاظه. ولا شك أنّ أصل الكلام صفة لله جلّ وعلا ونحن لا نحب إكثار الخوض فيه ولكن نقول: إنّ الكلام صفة الله التي لم يزل متصفاً بها، ولم يتجرد يوما عن كونه متكلماً، وهو في كلّ وقت يتكلم بما شاء كيف شاء على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ فكلامه صفة ليس بمخلوق"1. وهذا النصّ من كلام الشيخ الأمين –رحمه الله- واضح الدلالة على أنّ عقيدته في كلام الله هي عقيدة السلف؛ أنّ الله يتكلم حقيقة متى يشاء، وكيف يشاء، وأننا لا نعلم كيفية كلامه سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم كلام الله غير مخلوق، وفي ذلك ردّ على الجهمية والمعتزلة، وهو ما سوف أوضحه فيما بعد إن شاء الله. ومن الأدلة على أنّ عقيدة الشيخ الأمين –رحمه الله- في صفة الكلام هي عقيدة السلف عينها، أنّ ما قاله أئمة السلف عن صفة الكلام مطابق تمام المطابقة لما ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله-: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إنّ الله لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بصوت كما جاءت به الآثار. والقرآن وغيره من الكتب الإلهية كلام الله تكلم به بمشيئته وقدرته، وليس ببائن عنه مخلوقاً، ولا يقولون إنه صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً، ولا أنّ كلام الله تعالى من   1 الشريط الأول من تفسير سورة التوبة، الوجه الأول، عند تفسير قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} . وانظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الأمين ص 54،189. وأضواء البيان 2/309. ومنهج ودراسات ص16. ورحلة الحج ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 حيث هو: هو حادث بل ما زال متكلماً إذا شاء، وإن كان كلم موسى وناداه بمشيئته وقدرته، فكلامه لا ينفد"1. وقال في موضع آخر مبينا القول الحق في القرآن "فالقرآن الذي نقرؤه هو كلام الله مبلغاً عنه لا مسموعاً منه، وإنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا، الكلام كلام الباري، والصوت صوت القري، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة مع العقل"2. وقال تقيّ الدين عبد المغني المقدسي3: "مذهب أهل الحقّ أنّ الله عزّ وجلّ لم يزل متكلماً بكلام مسموع مفهوم مكتوب"4. وقال ابن أبي العز الحنفي5: "والحقّ أنّ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى؛ فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك ... كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف" 6. وقال العلامة عبد الباقي المواهبي7: "فلم يزل اللهمتكلما كيف يشاء، إذا شاء بلا كيف، يأمر بما شاء ويحكم"8.   1 الفتاوى 12/173. 2 الفتاوى 12/98. وانظر المصدر نفسه 12/244. 3 تقدمت ترجمته. 4 انظر: عقيدة المقدسي ص61. 5 تقدمت ترجمته. 6 شرح العقيدة الطحاوية ص192. 7 هو: عبد الباقي بن عبد الباقي البعلي. ولد سنة (1005?) في بعلبك، وتوفي سنة (1071?) في دمشق. (انظر: الأعلام 3/272) . 8 العين والأثر ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فهذا هو مذهب السلف الحقّ في إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى. وهو ما سار عليه الشيخ الأمين –رحمه الله- في إثبات هذه الصفة وإيضاحها، وتقرير المعتقد الصحيح فيها مستنداً إلى أدلة الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 صفة المتكلمين من صفة الكلام وردّ الشيخ الأمين -رحمه الله- عليهم أكثر المتكلمون من أشاعرة ومعتزلة وجهمية وغيرهم من الخوض في صفة الكلام، حتى قيل إنما سمي علم الكلام بهذا الاسم أخذاً من كثرة ما قيل فيها. ونظراً لما عرف عن القوم من حبّ في الإطالة والسفسطة والأخذ بالجدل العقيم الذي لا يسعفه عقل ولا نقل من أجل تقرير الباطل؛ فقد تشعبت فيها الأقوال، حتى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنها سبعة أقوال، أو تزيد1، وذكر العلامة أبو العز الحنفي شارح الطحاوية تسعة أقوال في صفة الكلام2. ولكن سوف أقتصر على أشهر هذه الأقوال التي انتشرت وذاع صيتها، والتي ذكرها الشيخ الأمين -رحمه الله-، وهما قول المعتزلة والجهمية، وقول الأشاعرة والكلابية3؛ فقد ذكرهما -رحمه الله- وكرّ عليهما بالتفنيد والإبطال بالحجج الدامغة من النقل والعقل. فالقول الأول: قول المعتزلة والجهمية: القائلين أنّ كلام الله عزّ وجلّ مخلوق خلقه الله منفصلا عنه4. والقول الثاني: قول الكلابية والأشاعرة: القائلين أنّ الكلام معنى واحد قديم قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه   1 انظر الفتاوى 12/163. 2 شرح الطحاوية ص180. 3 الكلابية: هم أتباع محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي سلك الأشعري مسلكه في طوره الثاني. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (الكلابية والأشعرية خير من هؤلاء –يقصد النجارية والضرارية- في باب الأسماء والصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في باب القدر، وسائر الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة) . (الفتاوى 3/103. وانظر: مقالات الإسلاميين 1/249، 251، 2/225، 227) . 4 شرح الأصول الخمسة ص528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة1. وسيأتي مزيد إيضاح لكلامه عند الردّ عليهم. الردّ على الجهمية والمعتزلة: سبق أن ذكرت أنّ الجهمية والمعتزلة نفوا صفات الله سبحانه وتعالى، ومن الأولى أن ينفوا صفة الكلام عن الله، ولذلك قالوا عن كلام الله إنه مخلوق. وهذا ماصرح به عبد الجبار المعتزلي2 بقوله: "وأما مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه، وهو مخلوق محدث" 3. وقد بيّن الشيخ الأمين -رحمه الله- خطأ هذا القول وجهالة قائله، واستدل بالأدلة السمعية على بطلان هذا الرأي البعيد عن جادة الصواب والحقّ؛ فقال في تفسير النداء المذكور في قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ} الآية4: "فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق. ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة؛ إذ لا يمكن أن يقول غير الله: {إنه أنا الله العزيز الحكيم} 5، ولا أن يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} 6. ولو فرض أنّ الكلام   1 أصول الدين للبغدادي ص106. والإرشاد ص99. والمواقف ص293. وشرح الصاوي على جوهرة التوحيد ص101، 104. وانظر أيضاً: الفتاوى 12/165. والبرهان ص37. ومختصر الصواعق 2/513. 2 عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الاسترابادي. من كبار أئمة المعتزلة. ولد سنة (359هـ) ، وتوفي سنة (415) . انظر: سير أعلام النبلاء 17/244. ومعجم المؤلفين 5/78. والأعلام 3/273) . 3 شرح الأصول الخمسة ص528. 4 سورة مريم، الآية [52] . 5 سورة النمل، الآية [9] . 6 سورة طه، الآية [14] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 المذكور قاله مخلوق افتراء على الله كقول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} 1. على سبيل فرض المحال، فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حقّ وصواب. فقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} 2، وقوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 صريح في أنّ الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك، كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام" 4. الردّ على الكلابية والأشعرية: ذهب الكلابية والأشعرية إلى أنّ الله متكلم بكلام قائم بذاته أزلا وأبداً، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً. ونفوا أن يكون الله متكلماً بحرف وصوت؛ زاعمين أنّ كلامه سبحانه نفسيّ. أما القرآن الكريم: فقد صرحوا بأنه مخلوق محدث ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله5. وقد بيّن الشيخ الأمين -رحمه الله- موقفهم من هذه الصفة بعبارة سهلة موجزة، فقال: "اعلم أنّ كثيراً من المتكلمين يزعمون أنّ كلام الله معنى قائم بذاته، مجرد عن الألفاظ والحروف. والأمر عندهم هو اقتضاء الفعل بذلك المعنى القائم بالنفس، المجرد عن الصيغة. ولأجل هذا الاعتقاد الفاسد قسموا الأمر إلى قسمين: نفسيّ ولفظيّ. فالأمر النفسي عندهم هو   1 سورة النازعات، الآية [24] . 2 سورة طه، الآية [14] . 3 سورة النمل، الآية [9] . 4 أضواء البيان 4/293- 294. 5 أصول الدين للبغدادي ص106. والإرشاد ص99. والمواقف ص293. والبرهان ص37. وانظر: الفتاوى 2/165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ماذكرنا، والأمر اللفظي هو اللفظ الدالّ عليه كصيغة "افعل""1. ثمّ لما فصلّ -رحمه الله- معتقدهم وموقفهم من كلام الله سبحانه وتعالى، ردّ -رحمه الله- على معتقدهم الفاسد مبيّنا بطلانه بالأدلة القوية المقنعة، مبرزاً القول الحقّ في هذه المسألة؛ فقال -رحمه الله-: "إذا علمت ذلك فاعلم أنّ هذا المذهب باطل، وأنّ الحقّ أنّ كلام الله هو هذا الذي نقرؤه بألفاظه؛ فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري. وقد صرح تعالى بذلك في قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 2، فصرح بأنّ ما يسمع ذلك المشرك المستجير بألفاظه ومعانيه كلامه تعالى. وأقام الحجج على أنّ ما في النفس إن لم يتكلم به لا يسمى كلاما؛ كقوله في قصة زكريا: {قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النَّاس} 3، مع أنه أشار إليهم كما قال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا} 4، فلم يكن ذلك المعنى القائم بنفسه الذي عبر عنه بالإشارة كلاماً. وكذلك قصة مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} الآية5، مع قوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} 6، وفي الحديث: " إنّ الله عفى لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل به" 7. واتفق أهل اللسان على أنّ الكلام: اسم، وفعل، وحرف. وأجمع الفقهاء على أنّ من حلف لا يتكلم لا يحنث بحديث النفس، وإنما يحنث بالكلام" 8.   1 مذكرة أصول الفقه للشيخ الأمين ص188-189. 2 سورة التوبة، الآية [6] . 3 سورة مريم، الآية [10] . 4 سورة مريم، الآية [11] . 5 سورة مريم، الآية [26] . 6 سورة مريم، الآية [29] . 7 أخرجه مسلم في صحيحه 1/116-117، بلفظ مقارب لما ذكره الشيخ -رحمه الله-، وفيه: (تجاوز) بدل (عفى) ، مع تقديم وتأخير في بعض ألفاظه. 8 مذكرة أصول الفقه ص188-189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وهكذا يتبين بنا مدى فهم الشيخ الأمين -رحمه الله- لعقيدة السلف، وتقريره لها؛ بإثبات الكلام لله تبارك وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، والرد على الكلابية والأشعرية الذين قسموا الكلام إلى كلام نفسي وكلام لفظي، جاعلين كلام الرب جل وعلا من القسم الأول. ولا ريب أن هذا التقسيم لم يقل به أحد من العقلاء، وأن الزعم بأن كلام الله نفسي قول على الله بغير علم. ولم يكتف الشيخ الأمين -رحمه الله- بما ذكره آنفاً، بل استطرد في مواضع أخرى مبيناً أن الكلام في لغة العرب هو ما نطق به وتلفظ به، وسمع، لاما كان في النفس؛ إذ ماكان في النفس لا يسمى كلاماً، بل يقيد بما يدل عليه، فيقال: حديث النفس، أو قول النفس؛ يقول -رحمه الله- موضحاً هذا الجانب: "وإذا أطلق الكلام في بعض الأحيان على مافي النفس، فلا بد أن يقيد بما يدل على ذلك؛ كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} 1. فلو لم يقيد بقوله {نْفُسِهِمْ} لانصرف إلى الكلام باللسان" 2. وبهذا يتضح لنا بطلان مذهب الأشاعرة والكلابية لتهافت محتوياته أمام الأدلة الدامغة من الكتاب والسنة، والتي يستند إليها الشيخ -رحمه الله- فيما ذهب إليه من رد أو تقرير. 3- صفة اليدين: صفة اليدين صفة خبرية ذاتية حقيقية ثابتة لله سبحانه وتعالى كما يليق   1 سورة المجادلة، الآية [8] . 2 مذكرة أصول الفقه ص189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 بجلال الله؛ قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 1، وقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 2. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" 3. وقد دلت الآيات والأحاديث النبوية الكثيرة على هذه الصفة العظيمة لربنا سبحانه وتعالى. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه الصفة، وبين أنها صفة كمال لله سبحانه وتعالى وصف بها نفسه، وهي لا تشابه صفات المخلوقين؛ فقال -رحمه الله-: "فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم. هذا هو المتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4. والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 5 أنها صفة كمال وجلال، لائقة بالله جل وعلا، ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وقد بين جل وعلا عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة؛ قال تعالى في تعظيم شأنها: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6. وبين أنها   1 سورة ص، الآية [75] . 2 سورة المائدة، الآية [64] . 3 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2133. 4 سورة المائدة، الآية [38] . 5 سورة ص، الآية [75] . 6 سورة الزمر، الآية [67] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 1؛ فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي من صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى" 2. وهذا الكلام من الشيخ الأمين -رحمه الله- هو معتقد السلف جميعاً في صفة اليدين لله سبحانه وتعالى على الحقيقة كما يليق بجلاله، وأنها لا تشابه يدي المخلوق كما أن ذات الله سبحانه وتعالى لا تشابه ذات المخلوق. قال الإمام ابن خزيمة -رحمه الله-: "نحن نقول: الله جل وعلا له يدان كما أعلمنا الخالق البارئ في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم, ونقول: كلتا يدي ربنا عز وجل يمين" 3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد تواتر في السنة مجئ اليد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم, فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتان له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى، وأن يديه مبسوطتان. ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة الإعطاء"4. وهكذا نرى أن تناول الشيخ -رحمه الله- لهذه الصفة ينطلق من اتباعه   1 سورة ص، الآية [75] . 2 أضواء البيان 7/444- 445. وانظر: رحلة الحج ص79. 3 التوحيد لابن خزيمة 1/193. 4 الرسالة المدنية ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لمنهج الوحي، وسلوكه مسلك السلف، ولذلك جاء تقريره للمذهب الحق المستند إلى الدليل في غاية القوة والبيان. موقف الشيخ الأمين -رحمه الله- ممن تأول هذه الصفة: أوَّل المتكلمون هذه الصفة كدأبهم في تحريف الصفات التي لا تنطبق مع أقسيتهم وعقولهم، فعدوها من المتشابه؛ فأولتها المعتزلة بمعنى القوة أو النعمة1، وقال متأخرو الأشاعرة: هي بمعنى القدرة2. أما متقدمو الأشاعرة فأثبتوها صفة لله تعالى على مايليق بجلاله كما هو معتقد السلف3. وقد رد الشيخ الأمين -رحمه الله- على من تأول هذه الصفة الكريمة، مظهراً زيف دعواهم، ومبيناً أن إثبات هذه الصفة على ما يليق بالله لا يأباه إلا ذوو القلوب المريضة بالتشبيه؛ فقال: "ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة؛ لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السموات والأرض" 4. ثم ذكر -رحمه الله- شبههم التي يتعلقون بها، ورد عليها، وبين اللوازم التي تلزم هذا القول؛ فقال: "فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية   1 شرح الأصول الخمسة ص228. 2 مشكل الحديث ص243. وأصول الدين ص110، والإرشاد ص146. والمواقف. 3 أصول الدين ص111. 4 أضواء البيان 7/445. وانظر: رحلة الحج ص84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 المذكورة وأمثالها لا يليق بالله؛ لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث. ولم تكتف بذلك حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها. إن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وإنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين. وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل؛ فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف. وماذا عليك لو صدقت وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل. وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ وهل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق على أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق"1. وبعد هذا الرد من الشيخ -رحمه الله- على المؤولة، والذي أبان فيه زيف دعاويهم، وأنها لا حظ لها من كلام الله ولا رسوله ولا إجماع المسلمين، ولا يدل عليها عقل ولا سمع: نراه -رحمه الله- يحذّر المؤولة ويخوفهم بالله أن يتجرؤوا على تحريف وصف الله لنفسه، مبيناً لهم أن كيفية صفات الرب جل وعلا لايحيط بها أحد ولا يستطيع مخلوق معرفة كنهها، فهي ثابتة لله جل وعلا كما يليق بجلاله؛ فيقول -رحمه الله-: "فاخش الله يا إنسان، واحذر من التقوّل على الله بغير علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه. واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به، حتى   1 أضواء البيان 7/445-446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك؛ فاليد مثلاً التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا انفيها باتاً وأبدلها لك بوصف لائق بك وهو النعمة أو القدرة مثلاً، "أو الجود" 1. وهكذا نلاحظ القوة التي يمتاز بها الشيخ -رحمه الله- في إيضاح الحق ودمغ الباطل، ففيها من الغيرة على الحق ومحاربة الباطل مايجعلها قارعة على رؤوس المعطلين. إشكال، وتوضيحه: أورد الشيخ الأمين -رحمه الله- قضية قد تشكل على بعض الناس. ومضمونها: أن القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع السلف دل على أن الله متصف بأن له يدين –بالتثنية-. وكذلك أجمعوا على أن الله لايوصف بصفة الأيدي –بالجمع-. مع أن الله وصف نفسه بذلك، فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 2. فلماذا أجمع السلف على تقديم آية {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 3 على آية {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ؟ 4. وقد أجاب الشيخ -رحمه الله- عن هذا السؤال: أنه لا تعارض ولا إشكال بين الآيتين، وأن صيغ الجموع لها معنيان. وقد بين -رحمه الله- هذه المعاني   1 أضواء البيان 7/446. 2 سورة يس، الآية [71] . وانظر: كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا المعنى ((في الرسالة المدنية ص49)) . 3 سورة ص، الآية [75] . 4 انظر: أضواء البيان 7/463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 مدللا عليها بآيات من القرآن الكريم؛ فقال "الجواب: أن لا خلاف بين أهل اللسان العربي، ولا بين المسلمين أن صيغ الجموع تأتي لمعنيين؛ أحدهما: إرادة التعظيم فقط، فلا يدخل في صيغة الجمع تعدد أصلاً؛ لأن صيغة الجمع المراد بها التعظيم إنما يراد بها واحد. الثاني: أن يراد بصيغة الجمع معنى الجمع المعروف. وإذا علمت ذلك فاعلم أن القرآن العظيم يكثر فيه جداً إطلاق الله جل وعلا على نفسه صيغة الجمع؛ يريد بذلك تعظيم نفسه، ولايريد بذلك تعدداً، ولا أن معه غيره سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1؛ فصيغة الجمع في قوله: {إنا} وفي قوله: {نحن} ، وفي قوله: {نزلنا} ، وقوله: {حافظون} لايراد بها أن معه منزلاً للذكر وحافظاً له غيره تعالى، بل هو وحده المنزل له والحافظ له. وكذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 2، وقوله: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 3، وقوله: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 4، ونحو هذا كثير في القرآن جداً، وبه تعلم أن صيغة الجمع في قوله: {إنا} ، وفي قوله: {خلقنا} ، وفي قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 5 إنما يراد بها التعظيم، ولا يراد بها التعدد أصلاً. وإذا كان يراد بها التعظيم لا التعدد علم بذلك أنها لا تصح بها معارضة قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 6؛ لأنها دلت على صفة اليدين، والجمع في   1 سورة الحجر، الآية [9] 2 سورة الواقعة، الآية [58-59] . 3 سورة الواقعة، الآية [69] . 4 سورة الواقعة، الآية [72] . 5 سورة يس، الآية [71] . 6 سورة ص، الآية [75] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 قوله: {أيدينا} لمجرد التعظيم. وما كان كذلك لا يدل على التعدد، فيطلب الدليل من غيره، فإن دل على أن المراد بالتعظيم واحد حكم به. فقوله مثلاً: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 قام فيه البرهان القطعي أنه حافظ واحد. وكذلك قوله: {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 2، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 3، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 4؛ فإنه قد قام في كل ذلك البرهان القطعي على أنه خالق واحد، ومنزل واحد، ومنشئ واحد. وأما قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فقد دل البرهان القطعي على أن الله موصوف بصفة اليدين كما صرح به في قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} كما تقدم إيضاحه قريباً. وقد علمت أن صيغة الجمع في قوله: {لَحَافِظُونَ} ، وقوله: {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ، وقوله: {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} ، وقوله: {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} ، وقوله: {خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 5، لا يراد بشيء منه معنى الجمع، وإنما يراد به التعظيم فقط"6. وهذا الجواب من الشيخ -رحمه الله- مقنع لمن أراد الحق ومعرفة معتقد السلف؛ فهو مقنع لطالب الحق غاية الإقناع بما اشتمل عليه من تقرير علمي رصين. وقد نبه الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى أن قوله تعالى في سورة الذاريات: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} 7أن هذه الآية ليست من آيات الصفات، وأن {أيد} لا يراد منها صفة اليد، وإنما هي بمعنى القوة؛ فقال -   1 سورة الحجر، الآية [9] . 2 سورة الواقعة، الآية [59] . 3 سورة الواقعة، الآية [69] . 4 سورة الواقعة، الآية [72] . 5 سورة يس، الآية [71] . 6 أضواء البيان 7/463- 465. وانظر كلام أبي الحسن في الإبانة (ص104) ، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة التدمرية (ص75) عن هذا الإشكال. 7 سورة الذاريات، الآية [47] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 رحمه الله-: "قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بنيناها بأيد} ليست من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم، لأن قوله: "بأيد" ليس جمع يد، وإنما الأيد: القوة، فوزن قوله هنا: {بأيد} فعل، ووزن الأيدي: أفعل؛ فالهمزة في قوله: "بأيد" في مكان الفاء، والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام. ولو كان قوله تعالى: {بأيد} جمع يد، لكان وزنه أفعلا، فتكون الهمزة زائدة، والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين، والياء المحذوفة –لكونه منقوصاً- هي اللام. والأيد والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد: قوي، ومنه قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 1؛ أي قويناه. فمن ظن أنه جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطاً فاحشاً، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة"2. [4] صفة المعية: تطرق الشيخ الأمين -رحمه الله- لهذه الصفة من عدة جوانب: أحدها: أقسامها. وثانيها: الجمع بينها وبين استواء الله على عرشه. وثالثها: الردّ على الجهمية القائلين إنّ الله معنا بذاته. أولاً: تقسيم المعية: أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ المعية تنقسم إلى قسمين؛ خاصة وعامة؛ فقال -رحمه الله-: "إنّ لله معية خاصة ومعية عامة. فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة، وهذه لخصوص المتقين المحسنين؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية3، وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} الآية4، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ   1 سورة البقرة، الآية [87] . 2 أضواء البيان 7/669 وانظر كلام أبي الحسن الأشعري (في الإبانة ص100- 101) عن هذه المسألة. 3 سورة النحل، الآية [128] . 4 سورة الأنفال، الآية [12] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَأَرَى} 1، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 2. ومعيّة عامة بالإحاطة والعلم؛ لأنه تعالى أعظم وأكبر من كلّ شيء، محيط بكلّ شيء. فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى"3. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "وأما المعية العامة لجميع الخلق: فهي بالإحاطة التامة والعلم ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته جل وعلا" 4. ثانياً: الجمع بين معيته سبحانه، واستوائه على عرشه جل وعلا. لاشك أنّ من كان عالما بأحوال عباده، مطلعا عليهم، ومهيمنا عليهم، يسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبر جميع أمورهم: أنه معهم حقيقة، وإن كان فوق عرشه حقيقة؛ لأنّ المعية لا تستلزم الاجتماع في مكان5. ومعيته لا تشبه معية مخلوق لمخلوق، بل هي معية على ما يليق بجلاله. وقد أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى هذا المعنى؛ فقال: "إنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه، استواء لائقاً بكماله وجلاله، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام، ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علواً كبيراً. فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق؛ ألا ترى –ولله المثل الأعلى- أنّ أحدنا لو جعل في يده حبة خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة مع انه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها. والسموات والأرض ومن فيهما في يده تعالى اصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علواً كبيراً. فهو أقرب إلى الواحد   1 سورة طه، الآية [46] . 2 سورة التوبة، الآية [40] . 3 دفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/176- 177-. 4 المصدر نفسه 3/390. وانظر كلام شيخ الإسلام في الفتاوى 11/249. وكلام الإمام ابن كثير في تفسيره 4/322. 5 من القواعد المثلى للشيخ ابن عثيمين ص59- بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 منا من عنق راحلته1، بل من حبل وريده2، مع أنه مستو على عرشه، لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا"3. ثالثاً: الردّ على الجهمية القائلين إنّ الله معنا بذاته: يرى الجهمية أنّ الله في كلّ مكان، وأنه معنا بذاته4. وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 5، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} 6، إلى غير ذلك من الآيات. وقد ردّ عليهم الشيخ الأمين -رحمه الله- مبيّنا لهم أنّ هذا الفهم لهذه الآية غير صحيح؛ فالله سبحانه هو الذي أحاط بمخلوقاته، ولا تحيط به جل وعلا، فهو أكبر من كلّ شيء؛ فقال -رحمه الله-: "اعلم أنّ ما يزعمه الجهمية من أنّ الله تعالى في كلّ مكان مستدلين بهذه الآية7 على أنه في الأرض: ضلال مبين، وجهل بالله تعالى؛ لأنّ جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحلّ في شيء منها ربّ السموات والأرض الذي هو أعظم من كلّ شيء، وأعلى من كلّ شيء، محيط بكلّ شيء ولا يحيط به   1 يشير -رحمه الله- إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم)) . (أخرجه مسلم في صحيحه 4/2077) . 2 يشير -رحمه الله- إلى قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . (سورة ق، الآية [16] ) . 3 دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/285-. وانظر: أضواء البيان 3/390. ولشيخ الإسلام -رحمه الله-، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- كلام حول هذا المعنى. (انظر: الفتاوى 5/103. ومختصر الصواعق ص419-492) . 4 انظر الرد على الجهمية للإمام الدارمي ص18. 5 سورة الحديد، الآية [4] . 6 سورة الأنعام، الآية [3] . 7 يقصد قوله تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} . (سورة الأنعام، الآية [3] ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 شيء، فالسموات والأرض في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل في يد أحدنا –وله المثل الأعلى-، فلو كانت حبة خردل في يد رجل، فهل يمكن أن يقال: إنه حالّ فيها، أو في كلّ جزء من أجزائها؟ لا، وكلا هي أصغر وأحقر من ذلك. فإذا علمت ذلك: اعلم أنّ ربّ السموات والأرض أكبر من كلّ شيء، وأعظم من كلّ شيء، محيط بكلّ شيء ولا يحيط به شيء، ولا يكون فوقه شيء. {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1 سبحانه وتعالى علواً كبيراً، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 2"3. وبهذا يتضح لنا بطلان هذا القول القبيح الذي هو حلول صرف؛ إذ يلزم منه أنّ الله تعالى حالّ في كلّ مكان، ليس في مكان دون آخر، ويلزم منه أن تكون الأماكن القذرة، وأجواف الخنازير محلاً لله سبحانه وتعالى عما يقول المبطلون علواً كبيراً. [5] صفة العلم: العلم من صفات الله الذاتية، فهي لا تنفك عنه جلّ وعلا. وعلمه سبحانه وتعالى محيط بكلّ شيء أزَلاً وأبداً. وهو أحد مراتب القدر الأربعة؛ فقد علم الله سبحانه وتعالى جميع ما هو كائن، ولم يطلع على غيبه أحداً من خلقه، إلا ما أطلع عليه رسله تأييداً لهم في دعوتهم الناس إلى الإيمان به جل وعلا.   1 سورة سبأ، الآية [3] . 2 سورة طه، الآية [110] . 3 أضواء البيان 2/182-183. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام حول هذا المعنى في الفتاوى (5/230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وقد أوضح الشيخ -رحمه الله- هذه الصفة العظيمة فقال: "علم الغيب صفة مختصة بالله تعالى، وقد نفاها عن كلّ خلقه. وكونه يطلع بعض خلقه على بعض الغيب لا يقتضي أن يوصفوا بما وصف به"1. وقال -رحمه الله- في موضع آخر، عند تفسير قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} 2: "بيّن تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يقصّ على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكلّ ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير. وبيّن هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3، وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 4، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 5"6.   1 معارج الصعود ص103. 2 سورة الأعراف، الآية [7] . 3 سورة المجادلة، الآية [7] . 4 سورة الحديد، الآية [4] . 5 سورة يونس، الآية [61] . 6 أضواء البيان 2/291. وانظر: المصدر نفسه 2/303، 308. ومنهج ودراسات ص15-16. ورحلة الحج ص76. ومعارج الصعود ص45، 47، 67، 100. وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن صفة العلم في الفتاوى 6/340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 [6] صفات العلوّ والعظمة والكبرياء: ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- صفتي العلوّ والعظمة عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 1؛ فقال -رحمه الله-: "وصف نفسه جل وعلا في هذه الآية الكريمة بالعلوّ والعظمة، وهما من الصفات الجامعة كما قدمنا في سورة الأعراف2 .... وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وصفه تعالى نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين لكلّ كمال وجلال، جاء مثله في آيات أخر؛ كقوله تعالى: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 3، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} 4، وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 5، وقوله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} الآية6، إلى غير ذلك من الآيات7. وذكر -رحمه الله- صفة الكبرياء عند تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 8؛ فقال -رحمه الله-: " ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنّ له الكبرياء في السموات والأرض؛ يعني أنه المختص بالعظمة والكمال والجلال والسلطان في السموات والأرض؛ لأنه هو معبود أهل السموات والأرض، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه وتمجيده والخضوع والذلّ له"9.   1 سورة الشورى، الآية [4] . 2 انظر: أضواء البيان 2/313. 3 سورة البقرة، الآية [255] . 4 سورة النساء، الآية [34] . 5 سورة الرعد، الآية [9] . 6 سورة الجاثية، الآية [37] . 7 أضواء البيان 7/150- 151. وانظر المصدر نفسه 2/313- 314. 8 سورة الجاثية، الآية [37] . 9 أضواء البيان 7/361. وانظر: رحلة الحج ص78. ومنهج ودراسات ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ثمّ ذكر -رحمه الله- أنّ ما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في آيات أخر؛ فذكر عدة آيات في القرآن الكريم، ومنها: قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 1؛ فقال -رحمه الله-: "معناه أنّ له الوصف الأكمل الذي هو أعظم الأوصاف وأكملها وأجلها في السموات والأرض. وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يقول: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما أسكنته ناري" 2"3. [7] صفة القدرة: صفة القدرة من الصفات الذايتة. وقد ذكرها الشيخ -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4، قال: "أي قادر. وهذه الصفة التي هي صفة القدرة: هي التي يوجد الله جل وعلا بها الممكنات. وهو تعالى قادر على ما يشاء، وما لم يشأ؛ مثال ذلك: انه تعالى شاء إيمان أبي بكر وهدايته، وقد هداه للإيمان، ولم يشأ إيمان أبي جهل، وهو قادر عليه، ولم تتعلق به مشيئته، فلم يوجده. وكلّ صفات الله عزّ وجلّ من الكمال؛ بحيث لو تصور شيء من المبالغة في الصفة فهي فوق ذلك"5.   1 سورة الروم، الآية [27] . 2 أخرجه مسلم في صحيحه (4/2023) بلفظ مقارب عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العزة إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته)) . وأخرجه أبو داود (في سننه 4/350-351) عن أبي هريرة بنحو اللفظ الذي أورده الشيخ، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عزّ وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) . وكذا أخرجه ابن ماجه (في السنن 2/1397) بلفظ أبي داود إلا أنّ فيه: ((ألقيته في جهنم)) بدل ((قذفته في النار)) . 3 أضواء البيان 7/261. وانظر: المصدر نفسه 5/136. وإبطال التأويلات 1/232. والفتاوى 10/253-254. 4 سورة هود، الآية [4] . 5 معارج الصعود ص44. وانظر: أضواء البيان 2/307. ورحلة الحج ص76. وآداب البحث 2/132. ومنهج ودراسات ص13. وانظر أيضاً: الفتاوى 6/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 [8] صفتا السمع والبصر: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} 1: أي ما أبصره وما أسمعه جل وعلا. وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر ذكره أيضاً في مواضع أخر؛ كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 3، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 4، والآيات بذلك كثيرة جداً"5. [9] صفتا الحياة والقومية: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} 6: "الحيّ: المتصف بالحياة، الذي لا يموت أبداً. والقيوم: صيغة مبالغة؛ لأنه جل وعلا هو القائم بتدبير شئون جميع الخلق، وهو القائم على كلّ نفس بما كسبت. وقيل: القيوم: الدائم الذي لا يزول" 7. وصفة القيومية صفة ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار؛ فالله سبحانه وتعالى قائم بنفسه، ومقيم لغيره جل وعلا. وهذه الصفة تشبه صفة الكلام من   1 سورة الكهف، الآية [26] . 2 سورة الشورى، الآية [11] . 3 سورة المجادلة، الآية [1] . 4 سورة الحج، الآية [75] . 5 أضواء البيان 4/81. وانظر: المصدر نفسه 2/308. ورحلة الحج ص76. وآداب البحث والمناظرة 2/132. ومنهج ودراسات ص14. وانظر أيضاً: كتاب التوحيد لابن خزيمة 1/106. 6 سورة طه، الآية [111] . 7 أضواء البيان 4/518. وانظر كلام الشيخ الأمين -رحمه الله- عن صفة الحياة في: أضواء البيان 2/308. ورحلة الحج ص76. وآداب البحث 2/132. ومنهج ودراسات ص14. وقد تكلم على صفة الحياة من السلف، فقال نحوا من كلام الشيخ الأمين، كلّ من شيخ الإسلام ابن تيمية (في الفتاوى 6/68) ، وابن أبي العز (في شرح الطحاوية ص124) ، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 حيث كونها صفة ذاتية فعلية؛ إذ إنّ صفة الكلام صفة ذاتية باعتبار نوع الكلام، وفعلية باعتبار أفراد الكلام. [10] صفة الوجه: قال -رحمه الله-: "والوجه صفة من صفات الله العلي وصف بها نفسه. فعلينا أن نصدق ربنا، ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التامّ عن مشابهة صفات الخلق" 1. [11] صفة العين: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {بأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 2: "العين صفة لله تعالى لائقة بجلاله، لا يشبه صفة المخلوقين. وإنما جمعت هنا لمناسبة إضافتها إلى الضمير المجموع للتعظيم" 3. [12] صفة القدم: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 4: "وثبت في بعض الأحاديث أنّ النار لا يزال الله يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد. فيضع ربّ العزة قدمه عليها فتقول: قط قط5. وهذه صفة لله تعالى لائقة بجلاله تثبت كغيرها على أساس التنزيه"6.   1 أضواء البيان 7/450. وانظر المصدر نفسه 2/332، 4/199، 6/457. وكلام الشيخ هذا يشبه كلام من سبقه من السلف عن هذه الصفة الكريمة. (انظر مثلاً: التوحيد لابن خزيمة 1/24-25. والفتاوى 6/68. ومختصر الصواعق ص417) . 2 سورة هود، الآية [37] . 3 معارج الصعود ص113. وللسلف رحمهم الله كلام حول هذه الصفة الكريمة يشبه ما أورده الشيخ الأمين -رحمه الله-. (انظر مثلاً: التوحيد لابن خزيمة 1/96-97. والفتاوى 6/68) . 4 سورة هود، الآية [119] . 5 يشير -رحمه الله- إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (6/47) ، ومسلم في صحيحه (4/2186-2187) . 6 معارج الصعود ص304. وممن تكلم من السلف على هذه الصفة بكلام يشبه كلام الشيخ الأمين: القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات لأخبار الصفات (1/195) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (6/68) ، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 [13] صفة الغضب: قال -رحمه الله-: "اعلم أنّ الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته، تظهر آثارها في المغضوب عليهم. نعوذ بالله من غضبه جل وعلا. ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت؛ فنصدق ربنا في كلّ ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك مع تنزيهنا التامّ له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً" 1. فهي إذاً صفة ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته؛ لا يشبه غضبه غضب خلقه، كما أنّ صفاته كلها لا تشبه صفات خلقه؛ إذ الصفات تتبع المتصف بها، كما سبق أن قرر الشيخ الأمين -رحمه الله- ذلك. [14] صفة الرحمة: وفي بيان هذه الصفة يقول -رحمه الله-: "الرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمن، واسمه الرحيم: وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم، وصيغة التفضيل في قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 2؛ لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضاً، ولا شك أنّ رحمة الله تخالف رحمة خلقه؛ كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم وصفاتهم3.   1 أضواء البيان 4/488. وانظر المصدر نفسه 2/316. وللسلف رحمهم الله كلام حول هذه الصفة يطابق ما أورده الشيخ الأمين -رحمه الله-. (انظر مثلاً: التدمرية ص46. وسير أعلام النبلاء 17/656) . 2 سورة المؤمنون، الآية [109] . 3 أضواء البيان 5/834. وانظر المصدر نفسه 1/101، 2/315. ورحلة الحج ص79. ومنهج ودراسات ص26. ومعارج الصعود ص30، 50، 120، 182، 219. وانظر أيضاً الفتاوى 6/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 [15] صفة المجيء: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 1: "ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمرّ كما جاء، ويؤمن بها، ويعتقد أنها حقّ، وأنه لا يشبه شيئاً من صفات المخلوقين. فسبحان من أحاط بكلّ شيء علماً، "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما"2"3. [16] صفة العجب: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} 4: "هذه الآية الكريمة على قراءة حمزة والكسائي فيها إثبات العجب لله تعالى، فهي إذاً من آيات الصفات على هذه القراءة"5. [17] صفة النور: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} 6: وصف الله بأنه نور. ومن أسمائه تعالى: النور. ومما يدلّ على وصفه به قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} 7"8. وقد ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- بعض الصفات بإيجاز، وبيّن أنها ثابتة   1 سورة الفجر، الآية [22] . 2 سورة طه، الآية [110] . 3 أضواء البيان 2/284. 4 سورة الصافات، الآية [12] . 5 أضواء البيان 6/680. ولأبي يعلى كلام قريب من هذا الكلام. (انظر: إبطال التأويلات 1/245) . 6 سورة النور، الآية [35] . 7 سورة الزمر، الآية [69] . 8 تفسير سورة النور ص138. جمعه الدكتور عبد الله قادري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله؛ مثل صفة الإرادة1، وصفة الرضا2، وغيرهما. وقد سرد الشيخ -رحمه الله- بعض الصفات، فقال: فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء، ولا صفة يد ولا أصابع، ولا عجب، ولا ضحك؛ لأنّ هذه الصفات كلها من باب واحد؛ فما وصف الله به نفسه منها: فهو حقّ، وهو لائق بكماله وجلاله، لا يشبه شيئاً من صفات المخلوقين. وما وصف به المخلقو منها: فهو حقّ مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم"3. وبهذا يتضح لنا من الصفات التي ذكرها الشيخ الأمين -رحمه الله- مفصلة، ومن الأخرى التي سردها سرداً أنّ منهجه -رحمه الله- هو منهج السلف؛ لا يتجاوزون الكتاب والسنة؛ فما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أثبتوه لله على ما يليق بجلاله وكماله. وما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم نفوه عن الله جل وعلا. وهم في إثبات الصفات ينزهون الله تبارك وتعالى عن مشابهة المخلوقين تنزيها لا يصل إلى التعطيل، بل يتقيّدون بقوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4. وبما أوردته من كلام الشيخ الأمين -رحمه الله- حول الصفات يتضح لنا أنه -رحمه الله- سلفي العقيدة والمنهج؛ فعلى منهج السلف في الإثبات سار، وبما قالوا به قال رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة.   1 أضواء البيان 2/307. 2 المصدر نفسه 2/316. 3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص43-44. وانظر كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: في مختصر الصواعق المرسلة (1/365) . 4 سورة الشورى، الآية [11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 المبحث الثاني: موقف الشيخ رحمه الله من أهل التأويل المطلب الأول: معاني التأويل التأويل له معان ثلاثة؛ أوضحها الشيخ الأمين رحمه الله وفصّلها، وهي: الأول: بمعنى العاقبة، وما يؤول إليه الحال. والثاني: بمعنى التفسير. والثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. وهذا الأخير من وضع المتأخرين. قال الشيخ -رحمه الله- مبيناً هذه الأقسام بأدلتها: "اعلموا أنّ التأويل يطلق في الاصطلاح مشتركاً بين ثلاثة معان: 1- يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال. وهذا هو معناه في القرآن نحو قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1، {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 2، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْل} 3: أي ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال. 2- ويطلق التأويل بمعنى التفسير، وهذا قول معروف؛ كقول ابن جرير: القول في تأويل قوله تعالى: كذا؛ أي تفسيره. 3- أما في اصطلاح الأصوليين: "فالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره   1 سورة النساء، الآية [59] . 2 سورة يونس، الآية [39] . 3 سورة الأعراف، الآية [53] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 المتبادر منه لدليل" 1. ثمّ بيّن -رحمه الله- أنّ التأويل بمعناه الأخير له ثلاث حالات. وذكر -رحمه الله- تلك الحالات مقرونة بأدلتها، مبينا المقبول منه من غير المقبول؛ فقال -رحمه الله-: وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الأصول ثلاث حالات: أ-إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة. وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه. ومثال هذا النوع: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجار أحقّ بسقبه" 2؛ فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار. وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل للفظ على محتمل مرجوح غير ظاهر متبادر. إلا أنّ حديث جابر الصحيح: "فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" 3 دلّ على أنّ المراد بالجار الذي هو أحقّ بصقبه خصوص الشريك المقاسم. فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه. وهذا التأويل يسمى تأويلاً صحيحاً، وتأويلاً قريباً. ولا مانع منه إذا دلّ عليه النصّ. ب- الثاني: هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلا، وهو في نفس الأمر ليس بدليل. فهذا يسمى تأويلاً بعيداً، ويقال له: فاسد. ومثّل له بعض العلماء بتأويل الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- لفظ   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص32-33. وانظر: أضواء البيان 1/329. وذكر هذه الأنواع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. (انظر العقيدة التدمرية ص91) . 2 أخرجه البخاري 3/47. والسقب، والصقب: القرب. (حاشية البخاري 3/47) . 3 أخرجه البخاري في الصحيح 3/47 بنحوه، وفيه: ((فإذا وقعت)) بدل: ((فإذا ضربت)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 امرأة- في قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" 1؛ قالوا: حمل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد؛ لأنه صرف للفظ عن ظاهره المتبادر منه؛ لأنّ "أي" في قوله: "أيما امرأة" صيغة عموم، وأكدت صيغة العموم بـ "ما" المزيدة للتوكيد. فحمل هذا على صورة نادرة هي المكاتبة حمل للفظ على غير ظاهره لغير دليل جازم يجب الرجوع إليه2. ثمّ بيّن -رحمه الله- التأويل الذي نحن بصدده، والمعنى في هذا المبحث، والذي ينطبق على تأويل أهل الكلام لصفات الله، وعلى تأويل الباطنية الذين يقولون إنّ لكلّ نص ظاهراً وباطناً؛ فيؤولون جميع نصوص الدين بما تشتهي أنفسهم. وقد بيّن الشيخ -رحمه الله- أنّ هذا النوع لا يستحقّ أن يسمى تأويلاً، وإنما هو اعتداء، وتلاعب بنصوص الشرع؛ فقال -رحمه الله-: "وأما حمل اللفظ على غير ظاهره لا لدليل: فهذا لا يسمى تأويلا في الاصطلاح، بل يسمى لعبا؛ لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن هذا تفسير غلاة الروافض قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 3 قالوا: عائشة". "ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان؛ كقولهم: "استوى" بمعنى "استولى"، فهذا لا يدخل في اسم التأويل، لأنه لا دليل عليه البتة، وإنما يسمى في اصطلاح أهل الأصول: لعبا: لأنه تلاعب بكتاب الله جل وعلا من غير دليل ولا   1 أخرجه الترمذي في سننه 3/399، وقال: حديث حسن. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/243: صحيح. 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص33-34. وانظر أضواء البيان 1/359. 3 سورة البقرة، الآية [67] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 مستند. فهذا النوع لا يجوز لأنه تهجم على كلام رب العالمين، والقاعدة المعروفة عند علماء السلف: أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله، ولا سنة رسوله عن ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه" 1. وقد ذكر شارح الطحاوية هذه المعاني الثلاثة، فقال عن المعنى الثالث منها: "والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه، فيه كثير من الأمور الخبرية والطلبية. والتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد"2. والتأويل بالمعنى الثالث طغى على المعنيين الآخرين، وكتب له من الذيوع والانتشار بين الفقهاء والأصوليين والمتكلمين بحيث أصبح هو المتبادر إلى الذهن عند سماع لفظ التأويل، مع أنه لم يكن معروفاً بلغة العرب، ولا عند السلف3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن المعنى الثالث: "وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفاً لما يدّل عليه اللفظ ويبيّنه. وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وظنّ هؤلاء أنّ قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّه} 4 يراد به هذا المعنى، ثمّ صاروا في هذا التأويل على طريقين؛ قوم يقولون: إنه لا يعلمه إلا الله. وقوم يقولون: إنّ الراسخين في العلم يعلمونه. وكلا الطائفتين مخطئة؛   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص33-34.وانظر أضواء البيان 1/330. 2 شرح العقيدة الطحاوية ص235. 3 انظر قسم الدراسة في تحقيق قانون التأويل/ محمد السلماني ص234. وابن تيمية وقضية التأويل ص133. 4 سورة آل عمران، الآية [7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فإنّ هذا التأويل في كثير من المواضع أو أكثرها، وعامتها من باب تحريف الكلم عن مواضعه؛ من جنس تأويلات القرامطة والباطنية. وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشهب"1. وقال ابن قدامة -رحمه الله-: "إنّ الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرنا عنهم. وكذلك أهل كلّ عصر بعدهم، ولم ينقل التأويل إلا عن مبتدع أو منسوب إلى بدعة" 2. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن المتأولة أنهم يزعمون أنّ النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني، ولم يبين لهم تلك المعاني ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحقّ بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف النصوص من مدلولها. ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه ويعرف الحقّ من غير جهته. ثم قال -رحمه الله-: وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك3. وهؤلاء المؤولة منهم المقلّ ومنهم المكثر من التأويل؛ فالمعتزلة تنفي جميع الصفات، والأشاعرة يرون تأويل بعض الصفات، والجميع من الأشاعرة والمعتزلة يرون الإيمان بنصوص المعاد، وينكرون على الباطنية الذين يؤولونها، لكن للباطنية أن تلزمهم بتأويل نصوص المعاد قياساً على تأويلهم لنصوص الصفات، فيصبحوا مؤولة لجميع النصوص كالباطنية سواء   1 نقض المنطق ص58. وانظر: الفتوى الحموية الكبرى ص40. ومختصر الصواعق ص11. وشرح الطحاوية ص232-237 2 ذمّ التأويل ص40. 3 الفتوى الحموية الكبرى ص38. وانظر كلام شيخ الإسلام عن معاني التأويل الثلاثة في التدمرية ص91-92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بسواء. أو يثبتوها مثل أهل السنة الذين يثبتون نصوص الكتاب والسنة كما أراد الله جل وعلا1. وبذلك تقوم الحجة على الباطنية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يؤولون النصوص جميعها، أو بعضها. ولا شك أنّ التأويل بمعناه الأخير معول هدم للدين الإسلامي، وتحريف لكلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم, فلا يستحقّ هذا المعنى أن يسمى تأويلاً، بل هو تحريف وتلاعب بنصوص الوحي، وفيه من الجناية على العقيدة الإسلامية ما يؤدي إلى هدمها ومسخها في أذهان من اتخذ التأويل طريقاً ومنهجاً نعوذ بالله من ذلك.   1 انظر: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول 1/116-117. والفتوى الحموية ص38. والصفات الإلهية ص147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 المطلب الثاني: بعض شبه أهل التأويل، وردّ الشيخ عليها لأهل التأويل شبه قدحت بأذهانهم عطلوا بها صفات الله، فكلما جاءتهم آية وحديث يخالف عقولهم وأفكارهم حرفوه وعطلوه، وقد بنوا معتقدهم على هذه الشبه التي أصلوها من عند أنفسهم زاعمين أنهم ينزهون الله عن صفات النقص ومشابهة الحوادث، وهم في الحقيقة قد شبهوه بالجمادات والمعدومات، وعطلوه عن صفات الكمال التي امتدح بها نفسه سبحانه، وأثنى عليه بها رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الشبه: الشبهة الأولى: قولهم إن ظاهر الصفة غير مراد؛ لأن ظاهرها التشبيه؛ قال صاحب الجوهرة: وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها1 ومعنى هذا أن كل نص في القرآن الكريم والسنة النبوية فيه صفة الله سبحانه وتعالى، ويوهم المشابهة بصفات المخلوقين بزعمهم يصرف عن ظاهره؛ مثل الاستواء: الذي أولوه بالاستيلاء. واليد: التي أولوها بالقدرة. والعين: التي أولوها بالرعاية. والمحبة: بإرادة الإحسان. وهكذا. وقد ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- مضمون دعواهم هذه، فقال -رحمه الله-: "زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله؛ لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه. وعقد ذلك المَقَريّ2 في إضاءته في قوله:   1 شرح الصاوي على جوهرة التوحيد ص128. 2 هو أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن عبد الرحمن المقري المغربي. ولد في تلمسان، ونشأ بها، ودخل مصر عام (1028) . وتوفي فيها عام (1041?) . (انظر مقدمة شرح إضاءة الدجنة المسماة بـ (رائحة الجنة) لعبد الغني النابلسي ص7-8، والأعلام 1/237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 والنص إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعاً واقطع عن الممتنع الأطماعا"1 2. وقد ردّ -رحمه الله- على هذه الدعوى رداً مقنعاً مفحما، حيث قال: "وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها لكل مسلم راجع عقله هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه. ولا بد أن نتساءل هنا فنقول: أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى. وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا، فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله في كتابه مثلاً دالاً على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف، فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟ فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقاً بالخالق منزهاً عن مشابهة صفات المخلوق. وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق" 3. ثم بين -رحمه الله- هذا التفصيل في الفرق بين صفات الله وصفات خلقه بمثال يوضح به أن الظاهر المتبادر من صفات الله هو كما يليق بجلاله، لا يشابه صفة المخلوقين؛ قال -رحمه الله-: "فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي   1 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة، مع شرحها ص148، ط الأولى، عام1377?. 2 أضواء البيان 7/443. 3 أضواء البيان 7/444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1، والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2 إنها صفة كمال وجلال لائقة بالله جل وعلا، ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله" 3. الشبهة الثانية: قولهم أن التأويل إجماع: يرى المتأولة أن التأويل مجمع عليه. وقد تقدم قول المقري في إضاءته: فاصرفه عن ظاهره إجماعاً واقطع عن الممتنع الأطماعا4 وقد كذب الشيخ -رحمه الله- حكاية هذا الإجماع، وبين أنه لا أساس له من الصحة. وعقب على قول المقري بقوله: "إجماع مفقود أصلاً، ولا وجود له البتة؛ لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة؛ فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله، ولا من تابعيهم ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين. وإنما لم يقولوا بذلك؛ لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه. وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى"5. وقد سبق الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى القول بأن التأويل ليس من طريقة السلف كل من شيخ الإسلام ابن تيمية6، والذهبي7، وغيرهما. بل   1 سورة المائدة، الآية [38] . 2 سورة ص، الآية [75] . 3 أضواء البيان 7/445. وانظر المصدر نفسه 2/319، 7/451. ومنهج ودراسات ص35. ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز –الملحق بأضواء البيان 10/55. 4 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة ص148. 5 أضواء البيان 7/451-452. 6 الفتاوى 6/394. 7 سير أعلام النبلاء 10/610. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 نص العلامة عبد الباقي الواهبي على تحريم التأويل في صفات الله، فقال -رحمه الله-: "يحرم تأويل ما يتعلق به تعالى وتفسيره؛ كآية الاستواء، وحديث النزول، وغير ذلك من آيات الصفات، إلا بصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم, أو بعض الصحابة، وهذا مذهب السلف قاطبة"1. ولاشك أنه لم يصدر عن الله ولا عن رسوله ما يوجب التأويل، وإنما ما يوجب الإثبات. الشبهة الثالثة: قولهم أن الصفات مجاز: يرى المؤولة أن الصفات التي يؤلونها ليست على الحقيقة، بل هي من المجاز. والمجاز باب واسع، يمكن من خلاله تعطيل الصفات. وقد رد الشيخ الأمين -رحمه الله- على هذه الشبهة فقال: "إن الله تبارك وتعالى موصوف بتلك الصفات حقيقة لا مجازاً؛ لأنا نعتقد اعتقاداً جازماً لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق، واتصافه تعالى بالكمال والجلال. وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازاً لا ينكره مسلم ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة ونفي المجاز كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها، وأنها كلها مجازات. وجعلوا ذلك طريقاً إلى نفيها؛ لأن المجاز يجوز نفيه، والحقيقة لا يجوز نفيها، فقالوا: مثلاً: اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة، أو الجود؛ فنفوا صفة اليد لأنها مجاز. وقالوا: "على العرش استوى" مجاز؛ فنفوا الاستواء لأنه مجاز"2. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "ومن المعلوم أن هذه الصفات لو كان يقصد بها شيء آخر من المجازات التي يحملها عليها المؤولون لبادر صلى الله عليه وسلم إلى بيانه؛ لأنه لا يجوز في حقه صلوات الله عليه وسلامه   1 العين والأثر ص35-36. 2 أضواء البيان 7/452. وانظر المصدر نفسه 7/463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد" 1. الشبهة الرابعة: الصفة التي لا يشتق منها تؤول: قال -رحمه الله-: "ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المؤولين لها بمعان لم ترد عن الله ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض؛ فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام؛ لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ. وكذلك في بعض الصفات الجامعة؛ كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلاً؛ لأنها يشتق منها العظيم والمتكبر والجليل والملك. وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يشتق منها غيرها؛ كصفة اليد والوجه، ونحو ذلك. ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم لا وجه له البتة بوجه من الوجوه، ولم يرد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها، وتأويله؛ لأنها لا يشتق منها. وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغاً لجحد ما وصف الله به نفسه؟ ولا شك عند كل مسلم راجع عقله أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله فيما أثنى به على نفسه، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه. والسبب الموجب للإيمان إيجاباً حتماً كلياً هو كونه من عند الله، وهذا هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله سواء استأثر الله بعلمه؛ كالمتشابه، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم، كما قال الله عنهم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 2"3.   1 رحلة الحج، للشيخ الأمين -رحمه الله- ص83. 2 سورة آل عمران، الآية [7] . 3 أضواء البيان 7/447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الشبهة الخامسة: الصفة التي ليس لها آثار تؤول: قال الشيخ الأمين -رحمه الله-: "وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلاً، ونحوهما ليست كاليد، والوجه بدعوى أن القدرة والإرادة مثلاً ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها. فهو من أعظم الباطل، ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم" 1. الشبهة السادسة: أن الاستواء والعلو والفوقية تستلزم الجهة: ذكر -رحمه الله- هذه الشبهة، ورد عليها، وفصل في المعنى المراد من الجهة، فقال: "واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة من أن ما في القرآن العظيم من صفة الاستواء والعلو والفوقية يستلزم الجهة، وأن ذلك محال على الله، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني: كله باطل. وسببه سوء الظن بالله وكتابه، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم، واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل. يقال له: ما مرادك بالجهة؟ إن كنت تريد بالجهة مكاناً موجوداً انحصر فيه الله، فهذا ليس بظاهر القرآن، ولم يقله أحد من المسلمين. وإن كنت تريد بالجهة: العدم المحض فالعدم عبارة عن لا شيء؛ فميز أولاً بين الشيء الموجود، وبين لا شيء"2. وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على هذه الشبهة3. بنحو كلام الشيخ الأمين -رحمه الله-. الشبهة السابعة: قول المفوضة: إن قولكم حقيقة لا مجازاً لم يرد عن السلف:   1 أضواء البيان 7/448. 2 أضواء البيان 7/459- 460. 3 انظر: العقيدة التدمرية ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وقد رد الشيخ الأمين -رحمه الله- على هذه الشبهة رداً مقنعاً، فقال: "إنما قلنا حقيقة لا مجازاً لقطعِنا وجزمِنا بأن تلك الصفات التي مدح الله بها نفسه صفات كمال وجلال منزهة عن مشابهة صفات الخلق؛ كتنزيه ذاته عن مشابهة ذواتهم. وجميع العقلاء إذا راجعوا عقولهم تحققوا أن الظاهر المتبادر لكل مسلم هو مخالفة الله لخلقه وتنزيهه عن مشابهتهم في صفاتهم وذواتهم وأفعالهم؛ فالظاهر المتبادر من صفة الاستواء والوجه واليد مثلاً أنها صفات كمال وجلال منزهة عن كل ما يخطر في قلوب الجهلة من مشابهة صفات الخلق. وإذا كان ظاهرها المتبادر منها التنزيه وعدم المشابهة فإثباتها حقيقة لا محذور فيه؛ لأن إثبات الكمال والتنزيه لله لا محذور فيه البتة"1. وقال في موضع آخر: "إن سبب نفوره2 من لفظة الحقيقة ونفي المجاز هو ما ينطوي عليه قلبه من سوء الظن بكلام الله في كتابه، وأن ظاهره المتبادر منه الكفر والتشبيه. ولو هداه الله إلى ما هدى إليه السلف الصالح من اليقين الجازم بأن ما مدح الله به نفسه في كتابه بالغ من الكمال والتنزيه ما يقطع علائق الوساوس وأوهام التشبيه؛ لأنه جل وعلا لا يمكن بحال أن يشبهه شيء من خلقه لما وقع فيما وقع فيه؛ فقد كان في بادئ الأمر يتبادر إلى ذهنه التشبيه لظنه أن ظواهر آيات الصفات تستلزم التشبيه، وكان ثانياً معطلاً بدعواه أن ما مدح الله به نفسه في كتابه من الصفات كالاستواء، واليد لا حقيقة لها. وأي جهل بالله، وأي إلحاد في آياته أعظم من دعوى أن معاني آياته لا حقيقة لها. سبحانك هذا بهتان عظيم. وعلى كل حال فإنا نقطع بأن ما مدح الله به نفسه في كتابه كله كمال وجلال منزه أتم التنزيه عن مشابهة الخلق، وأن حقيقة ذلك الكمال والجلال ثابتة له تعالى حقاً؛ لأن من   1 المعين والزاد ص43. 2 يقصد المفوض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أسمائه تعالى الحق؛ فهو جل وعلا حق، وعبادته وحده حق. وجميع صفاته حق، وكل ما أثنى به على نفسه حق يقين. فمن ادعى على شيء من صفاته التي مدح بها نفسه أنها لا حقيقة لها متهجماً عليها بإدعائه أن ظاهرها المتبادر منها الكفر الذي هو مشابهة صفات الخلق. فالله جل وعلا حسبه، وسيجازيه الجزاء اللائق به"1 .... إلى أن قال -رحمه الله-: "وقد قال الإمام مالك -رحمه الله-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فلو كان الاستواء لا حقيقة له عنده لما صرح بأن الإيمان به واجب، ولقال: إنه يجب تأويله بمعنى آخر، وأنه مجاز ولا حقيقة له" 2. وقال -رحمه الله- أيضاً في معرض الرد عليهم: "إن أصل الحقيقة في اللغة التي نزل بها القرآن (فعلية) بمعنى: فاعل، من قول العرب: حق الشيء، بمعنى ثبت. أو بمعنى مفعول من حققت الشيء –بتخفيف القاف- إذا أثبته. وإذا علمت أن الحقيقة معناها من معنى مادة الثبوت، فثبوت صفات الله دلت عليه نصوص الوحي دلالة قاطعة لا نزاع فيها. فمعنى اتصافه بصفاته حقيقة بدلالة المطابقة: هو كونها ثابتة له حقاً. وهذا هو معنى نصوص الوحي، فلا زيادة فيه البتة على المعنى الذي دل عليه الوحي. وقد ذكرنا آنفاً أن من أسمائه الحق، وذلك مستلزم لأن صفاته كلها حق، وكل ما هو ثابت حقيقة فهو حق، وبهذا تعلم أن نفي الحقيقة عن بعض الصفات مستلزم لنفي ثبوتها، ونفي ثبوت ما أثبته الله لنفسه محادة له جل وعلا من حيث لا يشعر ذلك النافي. وأما نفي المجاز عن صفات الله فقد أوضحناه في رسالة مستقلة، ومن أوضح أدلته أن القائلين بالمجاز منذ نشأ المجاز مجمعون على أن من الفوارق بينه وبين الحقيقة في اصطلاح البيانيين أن كل   1 المعين والزاد ص43-44. 2 المعين والزاد ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 مجاز يجوز نفيه باعتبار الحقيقة ... ومعلوم أن ما مدح الله به نفسه في كتابه لا يجوز نفي شيء منه، وذلك يستلزم منع المجاز فيؤول؛ لأن وجود المجاز يستلزم جواز النفي كما وضحنا"1. وما قاله الشيخ الأمين -رحمه الله- في رده على هذه الشبهة قد قاله غيره من أئمة أهل السنة والجماعة؛ كالإمام ابن عبد البر -رحمه الله- الذي قال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" 2. وفي ختام هذا المبحث نشير على أن الشيخ الأمين -رحمه الله- أورد سؤالين بلسان أهل التأويل، ثم أجاب عليهما، ونسفهما من أساسهما موضحاً أنهما مجرد شبهة تدور في مخيلة المتأولة يلقونها في أسماع من يصغي إليهم ليبدلوا كلام الله ويحرفوا معانيه. وقد أورد الشيخ -رحمه الله- سؤالهم الأول، بقوله: "اعلم أنه إن قال معطل متنطع: نحن لا نعقل كيفية استواء مثلاً منزهة عن مشابهة كيفية استواء الخلق، فبينوا لنا كيفية معقولة منزهة عن مشابهة كيفيات استواء الخلق لنعتقدها؛ لأنا لم تدرك عقولنا كيفية استواء منزهة عن ذلك؟ "3. ثم أجاب الشيخ -رحمه الله- عن هذا السؤال مبيناً أن أشباه هذا السؤال يورده المعاند ليبطل به المعتقد السلفي، وقد سد -رحمه الله- على المعاند كل   1 الزاد والمعين ص45-46. 2 التمهيد 7/145. وهذه المسألة من المسائل التي نوقش فيها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حين حبس. وقد رد عليهم بالرد المقنع. (انظر: الفتاوى 3/188، 199) . وانظر كلام الإمام أبي الحسن الأشعري عن الحقيقة. (في رسالة أهل الثغر ص213، 216) . 3آداب البحث والمناظرة2/130.وانظر منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الطرق التي سلكها للنيل من العقيدة. فأجاب عن هذا السؤال بجوابين، يكفي واحد منهما لدمغ حجتهم، فقال: "الأول: أن يقال: هل عرفت كيفية الذات الكريمة المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فإن قال: لا، قلنا له: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات؛ لأن الصفات تختلف باختلاف موصوفاتها؛ فكل صفة بحسب موصوفها" 1. وفي هذه الإجابة تظهر لنا براعة الشيخ الأمين -رحمه الله-؛ فهو قد بدأ مع السائل وانطلق معه من قاعدة يتفقان عليها، وأوضح له أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فإذا كنت تثبت لله ذاتاً حقيقية لا تشبه ذوات خلقه، وهذا أمر نتفق عليه؛ إذ لا تشبه ذات الله الذوات، ولا نعلم كيفيتها، فمن البديهي إذاً أن صفات الله تختلف عن صفات خلقه، وأن لا نعلم كيفيتها. وحينئذ فليس أمام هذا المعترض إلا أن يرضخ أمام هذا الجواب المقنع، ويسلم. ولم يكتف الشيخ -رحمه الله- بما سبق، بل أورد مثلاً فيه عبرة لمن أراد الله هدايته؛ برهاناً صادقاً مشاهداً في الوجود، وحجة بالغة، فقال: "ألا ترى –ولله المثل الأعلى- أن لفظة رأس مثلاً إذا أضفتها إلى الإنسان فقلت: رأس الإنسان، وأضفتها إلى الوادي أو أضفتها إلى الجبل فقلت: رأس الجبل، وأضفتها إلى المال فقلت: رأس المال: أن لفظة الرأس لفظة واحدة، وأنها اختلفت حقائقها اختلافاً عظيماً بحسب اختلاف إضافاتها. وهذا في اختلاف الإضافات إلى مخلوقات حقيرة، فما بالك بالاختلاف الواقع بين ما أضيف إلى الخالق وما أضيف إلى خلقه؛ فالفرق بين ذلك كالفرق بين ذات الخالق وذوات المخلوقين"2.   1 آداب البحث والمناظرة 2/130. وانظر: منهج ودراسات ص45. وأضواء البيان 2/320، 7/450. 2 آداب البحث والمناظرة 2/131. وأضواء البيان 7/451. وانظر منهج ودراسات ص45-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وبهذا يوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- قاعدة مهمة؛ وهي أن الألفاظ قبل الإضافة والتخصيص هي معان مشتركة، ولكنها بعد الإضافة والتخصيص تخص من أضيفت إليه. وهذا ملحوظ فيما بين المخلوقات، فكيف بين الخالق جل وعلا وبين المخلوق؛ فصفات الله جل وعلا تشترك مع صفات المخلوق في المعنى العام الكلي، وتفترق بعد الإضافة والتخصيص. بل هي تفترق بعد الإضافة والتخصيص بين المخلوقات أنفسها؛ فلفظة اليد مثلاً من المعاني المشتركة، لكن إذا قلت: يد الباب، أو يد الإنسان، أو يد الطائر، أو يد الحيوان؛ ظهرت النتيجة الدالة على التفاوت فيما بين هذه المخلوقات، فكيف بين الخالق جل وعلا وبين خلقه، إنها والله لأعظم مباينة. أما الشق الثاني من الجواب على هذا السؤال؛ فهو خاص بمن أثبت بعض الصفات، وأول البعض الآخر؛ فيلزمه أن يثبت بقية الصفات كما يليق بجلاله سبحانه، مثل ما قال في بعضها؛ إذ الكل لا نعلم كيفيتها، والمشابهة منتفية عن الجميع؛ قال -رحمه الله-: "الوجه الثاني: هو أن تقول: هل عرفتم كيفية منزهة عن مشابهة الخلق في السمع والبصر مثلاً؟ فلا بد أن يقولوا أيضاً: لا، ولكنا نعلم أن سمع الله وبصره منزهان عن مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم. فإن قالوا ذلك، قلنا: ونحن نقول مثل ذلك في الاستواء، وسائر الصفات الثابتة بالوحي الصحيح"1. وبعد هذا البسط الواضح من الشيخ الأمين -رحمه الله- في الإجابة عن هذا السؤال الإجابة المقنعة التي تزيل الشبه، وتمحو التصورات التي يحسبها أصحابها علماً ومهارة يخدعون بها السذج ويبلبلون أفكارهم ومعتقداتهم: أريد أن أقول: إن الشيخ الأمين -رحمه الله- بهذه الإجابة الواضحة دلل على   1 آداب البحث والمناظرة 2/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أنه قد أوتي علماً وافياً وحجة بالغة في مجادلة الخصوم، وأعطى مثلاً واضحاً للداعية في الأسلوب الذي ينبغي أن يحتذى به في إقناع الخصم من غير إثارة البغضاء والجدل. فرحم الله الشيخ الأمين رحمة واسعة. أما السؤال الثاني: فقد أورده -رحمه الله- بقوله: "اعلم إن قال معطل متنطع: إن القرآن العظيم نزل بلغة العرب، والاستواء في لغتهم هو هذا الذي نشاهده في استواء المخلوقين، فإثباته لله يستلزم التشبيه بالخلق بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن"1. وقد رد -رحمه الله- على هذا السؤال، وبين بطلانه من وجهين: الأول: أن المعترض لم يفرق بين الخالق والمخلوق، لكن العرب لم يقعوا في هذا الخطأ؛ فهم يعرفون ما بين الخالق والمخلوق من مباينة، وأن للخالق صفات تليق بعظمته، وهي صفات كمال لا نقص فيها، وللمخلوق صفات مناسبة تليق بما هو عليه من النقص والضعف؛ فقال -رحمه الله- موضحاً هذا المعنى: "الأول: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يعلمون كل العلم من معاني لغتهم أن بين الخالق والمخلوق، والرازق والمرزوق، والمحيي، والمميت والممات، إلى آخره فوارق عظيمة هائلة مستلزمة للاختلاف التام بين صفات الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق. وأن أصل اللغة يقتضي أن تكون صفة كل منهما مناسبة لحاله؛ فعظمة صفة الخالق كعظمة ذاته، وانحطاط صفة المخلوق عنها كانحطاط ذاته عن عظمة ذاته. وما كان يلتبس ذلك على عوام المسلمين في زمنه صلى الله عليه وسلم, فما كان يخطر في عقولهم مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه، بل يعلمون أن صفة الخالق لائقة به، وصفة المخلوق لائقة به، والفرق بينهما كالفرق بين الذات   1 آداب البحث والمناظرة 2/131. وانظر: أضواء البيان 7/449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 والذات"1. أما الشق الثاني من الجواب: فقد عنى به الشيخ -رحمه الله- من أثبت بعض الصفات من غير كيف، وأول الباقي: أنه يلزمه إثبات الجميع لله من غير كيف، أو نفي الجميع؛ لأنها تشابه صفات المخلوقين؛ فقال -رحمه الله-: "الوجه الثاني: أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يعرفون للسمع والبصر مثلاً كيفية إلا هذا المعنى المشاهد في المخلوقين بالحاسة التي هي جارحة، فيلزم قولكم أن يكون إثبات السمع والبصر ونحوهما من الصفات يستلزم التشبيه بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن. فإن قالوا: لا يلزم من كون الوضع العربي يراد فيه بمعنى السمع والبصر ما هو مشاهد في المخلوقات أن يكون سمع الله وبصره مشابهين لأسماع الخلق وأبصارهم، لتنزيه صفاته عن مشابهة صفاتهم. قلنا: وكذلك نقول في الاستواء ونحوه، ولا وجه البتة للفرق بين السمع والبصر وبين الاستواء، والمشاهد من الجميع في المخلوقات لا يليق بالله جل وعلا، والذي اتصف الله به من الجميع منزه عن مشابهة صفات الخلق؛ كتنزيه سائر صفاته وذاته عن مشابهة صفات الخلق وذواتهم"2. ونلاحظ في هذا الجواب قوة الحجة التي عرضها الشيخ الأمين -رحمه الله-، إذ إنه قد استخدم حجة المنازع المثبت لبعض الصفات، فألزمه أن يقول في بعض الصفات كما قال في بعضها الآخر؛ إما إثباتاً، وإما نفياً؛ لأنّ التفريق بينهما قول على الله بغير علم وتحكم بغير دليل، وقد دلت الأدلة السمعية والعقلية على ثبوت الصفات لله من غير كيف.   1 آداب البحث والمناظرة 2/131. وانظر: أضواء البيان 7/449-450. 2 آداب البحث والمناظرة 2/131-132. وانظر الإجابة عن هذين السؤالين أيضاً: في أضواء البيان 2/320، 7/449-451. ومنهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 المطلب الثالث: مقارنة بين مذهب السلف والخلف السلف يثبتون صفات الله على الحقيقة، ويفوضون الكيفية إلى العليم الخبير؛ فلا يحرفون، ولا يعطلون، ولا يشبهون، ولا يفوضون المعنى. وقد غلط المتكلمون في فهم معتقد السلف، ورجحوا عليه مذهب الخلف؛ قال البيجوري1: "طريقة الخلف أعلم وأحكم لما فيها من مزيد الإيضاح، والرد على الخصوم. وهي الأرجح. وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى غير مراد له تعالى"2. فكذب على السلف حيث جعل معتقدهم التفويض المحض، والجهل بكلام الله وعدم العلم والفقه؛ فآمنوا باللفظ وجهلوا المعنى. وجعل الخلف أعلم وأفقه وأحكم طريقة؛ لأنهم صرفوا اللفظ إلى معاني بنوع من التكلف3. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- خطأ هذه المقالة وتهافتها، وجورها؛ حيث اتهمت السلف بالجهل بكلام الله، والتفويض المحض، ورد عليها، وأكد أن طريق السلامة متضمن العلم والحكمة؛ إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة؛ فقال -رحمه الله-: "وصفوا مذهب السلف بأنه أسلم، وهي صيغة تفضيل، من السلامة. وما كان يفوق غيره، ويفضله في السلامة فلا شك أنه أعلم منه وأحكم"4.   1 هو إبراهيم بن محمد بن أحمد البيجوري؛ شيخ الجامع الأزهر في وقته، اشعري العقيدة. له عدة مؤلفات منها: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد. توفي سنة (1277?) . (انظر: الأعلام 1/71. ومعجم المؤلفين 1/84) . 2 تحفة المريد ص91. 3 انظر العقيدة الحموية الكبرى ص14. 4 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص46-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "إن مذهب السلف أسلم وأحكم وأعلم، وقولهم: مذهب السلف أسلم؛ إقرار منهم بذلك؛ لأن لفظ أسلم: صيغة تفضيل من السلامة، وما كان يفضل غيره ويفوقه في السلامة فهو أحكم وأعلم. وبه يظهر أن قولهم: ومذهب الخلف أحكم وأعلم: ليس بصحيح بل الأحكم الأعلم هو الأسلم كما لا يخفى"1. فلا وجه لجعل الخلف أعلم وأحكم من السلف، مع اعترافهم بأن مذهب السلف أسلم؛ فالسلامة إذا وجدت في شيء فلا بد أن يكون أحكم وأعلم؛ إذ من المستحيل أن توجد السلامة في شيء لا تتوفر فيه الحكمة والعلم؛ إذ السلامة من ثمراتهما. والشيخ الأمين -رحمه الله- لا يرضى هذا الفهم الناقص لمعتقد السلف؛ إذ هو تجهيل لهم، وتفضيل لأهل الجدل والسفطسة2 عليهم. وفيه انتقاص للصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم من صالح الأمة؛ إذ هم المعنيون بكلمة (السلف) . ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ردّ على هذه المقولة ردّ به على الأشاعرة. فقال: "وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: "طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم". فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل، وغايتهم عندهم أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط. ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض؛ فإنه وإن لم يكن تكفيراً للسلف. كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج، ولا تفسيقا لهم كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم   1 آداب البحث والمناظرة 2/136. 2 يراد بالسفسطة الخداع والتمويه في الكلام. راجع: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/322-324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 كان تجهيلاً لهم، وتخطئة وتضليلاً، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقاً، فزعماً أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة. ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها القرن الأول. ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- أيضاً في موضع آخر يمدح منهج السلف: "ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول. وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} 2"3. وقد رد العلامة مرعي الكرمي -رحمه الله- على من قال بأن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم وأعلم بقوله: "فمذهب السلف اسلم، ودع ما قيل من أن مذهب الخلف أعلم؛ فإنه من زخرف الأقاويل، وتحسين الأباطيل؛ فإن أولئك قد شاهدوا الرسول والتنزيل، وهم أدرى بما نزل به الأمين جبريل، ومع ذلك فلم يكونوا يخوضون في حقيقة الذات"4. وبعد معرفة حقيقة مذهب السلف الذي اختلط على المتكلمين فلم   1 الفتاوى 4/157-158. 2 سورة البقرة، الآية [176] . 3 درء تعارض العقل والنقل 2/301. 4 أقاويل الثقات ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 يفهموه، بين لنا الشيخ الأمين -رحمه الله- موقف السلف من صفات الله تعالى بياناً يدل على أن معتقد السلف هو الأسلم والأعلم والأحكم، فقال -رحمه الله-: "إن من كان على معتقد السلف الصالح إذا سمع مثلاً قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} امتلأ قلبه من الإجلال والتعظيم والإكبار لصفة ربّ العالمين التي مدح بها نفسه، وأثنى عليه بها، فجزم بأن تلك الصفة التي تمدح بها خالق السموات والأرض بالغة من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينها وبين صفات الخلق؛ لأن الصفة لا يمكن أن تشبه صانعها في ذاته، ولا في شيء من صفاته. وبإجلال تلك الصفة وتعظيمها وحملها على أشرف المعاني اللائقة بكمال من وصف بها نفسه وجلاله يسهل على ذلك المؤمن السلفي أن يؤمن بتلك الصفة ويثبتها لله كما أثبتها الله لنفسه على أساس التنزيه؛ فيكون أولاً: منزها سالماً من أقذار التشبيه، وثانياً: مؤمناً بالصفات مصدقاً بها على أساس التنزيه، فيكون سالماً من أقذار التعطيل. فيجمع بين التنزيه والإيمان بالصفات على نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، فمعتقده طريق سلامة محققة؛ لأنه مبني على ما تضمنته آية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الآية من التنزيه، والإيمان بالصفات، فهو تنزيه من غير تعطيل وإيمان من غير تشبيه ولا تمثيل. وكل هذا طريق سلامة محققة، وعمل بالقرآن، فهذا هو مذهب السلف"2. وقال -رحمه الله- أيضاً: "والسلف الصالح رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك، ولا كان يشكل عليهم. ألا ترى إلى قول الفرزدق، وهو شاعر فقط، وأما من جهة العلم فهو عاميّ:   1 سورة الشورى، الآية [11] . 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص47-48. وانظر آداب البحث والمناظرة 2/133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وكيف أخاف الناس والله قابض على الناس والسبعين في راحة اليد فمن علم مثل هذا من كون السموات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل. فإنه عالم بعظمة الله وجلاله، لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق. ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين"1. وبعد أن ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- طريقة السلف، وبين أنها أعلم وأحكم وأسلم، وشرح لنا موقفهم من صفات الباري سبحانه وتعالى، وذكر أن معتقدهم هو المعتقد الذي لا يخيب معتقده، ولا يضل مسترشده، فهو طريق محقق السلامة. شرع يذكر لنا في المقابل مذهب الخلف، وما يترتب عليه من أخطاء شنيعة، تجعل معتقده يشطط عن الطريق السوي، فيتهجم على صفات الله قائلاً فيها بغير علم ولا هدى؛ فقال -رحمه الله-: "وأما ما يسمونه مذهب الخلف: فالحامل لهم فيه على نفي الصفات وتأويلها هو قصدهم تنزيه الله عن مشابهة الخلق، ولكنهم في محاولتهم لهذا التنزيه وقعوا في ثلاث بلايا ليست واحدة منها إلا وهي أكبر من أختها: الأولى من هذه البلايا الثلاث: أنهم إذا سمعوا قول الله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : زعموا أن ظاهر الاستواء في الآية هو مشابهة استواء المخلوقين؛ فتهجموا على ما وصف الله به نفسه في محكم كتابه، وادعوا عليه أن ظاهره المتبادر منه هو التشبيه بالمخلوقين في استوائهم؛ فكأنهم يقولون لله: هذا الاستواء الذي أثنيت به على نفسك في سبع آيات من كتابك ظاهره قذر نجس لا يليق بك؛ لأنه تشبيه بالمخلوقين، ولا شيء من الكلام أقذر وأنجس من تشبيه الخالق بخلقه، سبحانك هذا بهتان عظيم. وهذه البلية الأولى التي هي تهجم على نصوص الوحي، وادعاء أن ظاهرها تشبيه الخالق بالمخلوق، وناهيك بها بلية. ثم لما تقررت هذه البلية   1 أضواء البيان 2/321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 قي أذهانهم، وتقذرت قلوبهم بأقذار التشبيه، اضطروا بسببها إلى نفي صفة الاستواء فرارا من مشابهة الخلق التي افتروها على نصوص القرآن أنها هي ظاهرها. ونفي الصفة التي أثنى الله بها على نفسه من غير استناد إلى كتاب أو سنة هو البلية الثانية التي وقعوا فيها؛ فحملوا نصوص القرآن أولا على معان غير لائقة بالله، ثم نفوها من أصلها فراراً من المحذور الذي زعموا" 1. ثم ذكر -رحمه الله- الخطأ الثالث الذي وقع فيه المنحرفون عن منهج السلف، فقال: "والبلية الثالثة: أنهم يفسرون الصفة التي نفوها بصفة أخرى من تلقاء أنفسهم، من غير استناد إلى وحي مع أن الصفة التي فسروها بها هي بالغة غاية التشبيه بالمخلوقين؛ فيقولون: "استوى" ظاهره مشابهة استواء المخلوقين فمعنى استوى: استولى، ويستدلون بقول الراجز في إطلاق الاستواء على الاستيلاء: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق ولا يدرون أنهم شبهوا استيلاء الله على عرشه الذي زعموه باستيلاء بشر بن مروان على العراق، فأي تشبيه بصفات المخلوقين أكبر من هذا؟. وهل يجوز لمسلم أن يشبه صفة الله التي هي الاستيلاء المزعوم بصفة بشر التي هي استيلاؤه على العراق؟ وصفة الاستيلاء من أوغل الصفات في التشبيه بصفات المخلوقين؛ لأن فيها التشبيه باستيلاء مالك الحمار على حماره. ومالك الشاة على شاته، ويدخل فيها كل مخلوق قهر مخلوقاً واستولى عليه، وفي هذا من أنواع التشبيه ما لا يحصيه إلا الله"2. وبعد ما ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه الأمور الشنيعة التي وقع فيها   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص48-49. وانظر: آداب البحث والمناظرة 2/133-134. 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص46، 47، 48، 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 من سلك مسلك الخلف، بين أنهم نتيجة تحريفهم وقعوا في شر مما فروا منه؛ فالسلف أثبتوا صفات الله التي امتدح الله بها نفسه، وأثنى بها عليه رسوله صلى الله عليه وسلم كما يليق بجلاله وكماله، وأهل التحريف أثبتوا صفات ما أنزل الله بها من سلطان، وقالوا كما يليق بجلاله، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وقد قال -رحمه الله- في بيان حالهم: "فإن زعم من شبه أولاً، وعطل ثانياً، وشبه ثالثاً أيضاً أن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء المخلوقين. قلنا له: نحن نسألك ونطلب منك الجواب بإنصاف: أيهما أحق بالتنزيه عن مشابهة الخلق: الاستواء الذي مدح الله به نفسه في محكم كتابه، وهو في نفس القرآن الذي يتلى، ولتاليه بكل حرف منه عشر حسنات؛ لأنه كلام الله. أم الأحق بالتنزيه هو الاستيلاء الذي جئتم به من تلقاء أنفسكم من غير استناد إلى وحي؟ ولا شك أن الجواب أن اللفظ الوارد في القرآن أحق بالتنزيه والحمل على أشرف المعاني وأكملها من اللفظ الذي جاء به معطل من كيسه الخالص لا مستند له من الوحي، وبهذه الكلمات القليلة يظهر لكم أن مذهب السلف أسلم وأحكم وأعلم"1. وهكذا ختم الشيخ -رحمه الله- هذه المقارنة التي أظهر فيها معتقد السلف في صفات الله سبحانه وتعالى مبيناً حال أهله عند سماعهم لصفات خالقهم جل وعلا، ومؤكداً أن طريقهم طريق سلامة محققة، بخلاف مذهب الخلف الذين تهجموا على صفات الله ووقعوا في أخطاء شنيعة جعلتهم ممقوتين عند أهل الإيمان. وقد دعا الشيخ الأمين -رحمه الله- لمن التبس عليه الأمر ممن ابتعدوا عن منهج السلف، وكان مقصدهم حسناً أن يغفر الله لهم وأن يتجاوز عن آثامهم؛ لأنهم لم يتعمدوا تشبيه الله وتعطيله عن صفاته، وإن كان مسلكهم فاسداً مخالفاً لمراد الله سبحانه وتعالى، فقال -رحمه الله-: "ونحن   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص49-50. وانظر: آداب البحث والمناظرة 2/133-136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد؛ لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه؛ فقصدهم حسن، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة. وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق؛ فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصداً منهم لتنزيه الله، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم، فهم كما قال الشافعي: رام نفعاً فضرّ من غير قصد ومن البرّ ما يكون عقوقاً1 ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} 2. وخطؤهم المذكور لا شك فيه، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولاً، وجزموا بأن ظاهر صفة الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق، لسلموا مما وقعوا فيه. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم عالم كل العلم بأن الظاهر المتبادر مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق، ولو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق لأنه تشبيه بصفات الخلق، لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك؛ لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ولا سيما في العقائد، ولا سيما فيما ظاهره الكفر والتشبيه فسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المؤولون لا أساس له كما ترى"3. وبذلك يظهر لنا موقف الشيخ الأمين -رحمه الله- ممن مات على هذا المعتقد؛ حسن الظن في نيته، وأنه لم يتعمد التعطيل وإن وقع فيه، ودعاء الله له بالمغفرة والتجاوز عن المآثم والزلات؛ لأن مقصدهم حسن، لكنهم   1 ديوان الإمام الشافعي ص67 –جمع/ محمد الزعبي. 2 سورة الأحزاب، الآية [5] . 3 أضواء البيان 7/448-449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 لم يفلحوا في الوصول إليه. أما موقفه -رحمه الله- من معتنقي هذا المذهب من ألحياء: فهو موقف المحذر لهم من سوء العاقبة والمنقلب، فخوفهم بالله، وأمرهم بخشيته، والإيمان بما امتدح به نفسه، وبين لهم أن كلامهم قول على الله بغير علم، وبهتان عظيم؛ فقال -رحمه الله-: "فاخش الله يا إنسان، واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه. واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكلّ شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك، فيقول؛ هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك، ولا من رسولك، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك، فاليد مثلاً التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة. وأنا أنفيها عنك نفياً باتاً، وأبدلها لك بوصف لائق بك وهو النعمة أو القدرة مثلاً، أو الجود، سبحانك هذا بهتان عظيم. {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1"2. وهكذا نراه -رحمه الله- يرجو لمن مات المغفرة والرحمة، ويخاف على الحي، فيعظه ويأمره أن يتدارك نفسه، ويعظم خالقه، فيصفه بما امتدح به نفسه، وأنله في كتابه، فلا يصف الله أعلم من الله، فهو العليم الخبير.   1 سورة الطلاق، الآيتان [10-11] . 2 أضواء البيان 7/446-447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 المطلب الرابع: رجوع بعض أئمة أهل التأويل عن مذهب الخلف إلى معتقد السلف تفانى أئمة المتكلمين في خدمة مذهب الخلف والدعوة إليه والدفاع عنه، وأفنوا أعمارهم في تقويته وتصويبه، وتضعيف وتجهيل معتقد السلف، ولكن الله غالب على أمره؛ فمن عليهم بالهداية، ورجعوا إلى معتقد السلف الصالح، فأثبتوا الصفات ونفوا الكيفية. وقد اثبتوا رجوعهم بمؤلفات حذروا الناس من خلالها من علم الكلام وأهله، وحثوهم على اعتقاد معتقد السلف لأنه الأسلم والأعلم والأحكم. ولقد كان للشيخ الأمين -رحمه الله- وقفة متأنية عند هذه الظاهرة؛ حيث جعلها من الأمور التي تقام بها الحجة على بقية القوم الذين أصروا على باطلهم. ولم يراجعوا مذهبهم. وقد ذكر -رحمه الله- رجوع هؤلاء الأئمة إلى معتقد السلف، وحذر من أصر منهم على مذهبه السابق من مغبة فعله، مبيناً له أن الطريق الذي انتهجه غير محمود العاقبة؛ إذ فيه من التهجم على آيات الله وصفاته، ومن رمي سلف هذه الأمة بالتشبيه والتجسيم الشيء الكثير. قال -رحمه الله-: "واعلم أن أئمة القائلين بالتأويل رجعوا قبل موتهم عنه؛ لأنه مذهب غير مأمون العاقبة؛ لأن مبناه على ادعاء أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها لا تليق بالله؛ لظهورها وتبادرها في مشابهة صفات الخلق، ثم نفي تلك الصفات الواردة في الآيات والأحاديث لأجل تلك الدعوى الكاذبة المشؤومة، ثم تأويلها بأشياء أخر، دون مستند من كتاب أو سنة أو قول صحابي أو أحد من السلف، وكل مذهب هذه حاله فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف. وقد أشار تعالى في سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الفرقان أن وصف الله بالاستواء صادر عن خبير بالله وصفاته، عالم بما يليق به وبما لا يليق، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 1؛ فتأمل قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، بعد قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} تعلم أن من وصف الرحمن بالاستواء على العرش خبير بالرحمن وبصفاته، لا يخفى عليه اللائق من الصفات وغير اللائق. فالذي نبأنا بأنه استوى على عرشه هو العليم الخبير الذي هو الرحمن، وقد قال تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2. وبذلك تعلم أن من يدعي أنّ الاستواء يستلزم التشبيه، وأنه غير لائق: غير خبير؛ نعم والله هو غير خبير، وسنذكر إن شاء الله أن أئمة المتكلمين المشهورين رجعوا كلهم عن تأويل الصفات" 3. ثم شرع -رحمه الله- في إيراد هؤلاء السعداء بعاقبتهم فرداً فرداً: [1] أبو الحسن الأشعري رحمه الله: أوضح الشيخ الأمين –رحمه الله- أن أبا الحسن الأشعري رجع عن مذهبه إلى معتقد السلف، كما تدلّ على ذلك مؤلفاته الأخيرة، فهو برىء من أشعرية اليوم الذين يدعون أنه حرف بعض صفات الباري جلّ وعلا. قال -رحمه الله-: "فمن ادعى على أبي الحسن الأشعري أنه يؤول صفة من الصفات كالوجه، واليد، والاستواء، ونحو ذلك، فقد افترى عليه افتراء عظيماً. بل الأشعري -رحمه الله- مصرح في كتبه العظيمة التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال؛ كـ (الموجز) ، و (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) 4، و (الإبانة عن أصول الديانة) 5 أن معتقده الذي يدين الله به   1 سورة الفرقان، الآية [59] . 2 سورة فاطر، الآية [14] . 3 أضواء البيان 7/467-468. 4 انظر مقالات الإسلاميين 1/345-350؛ حيث صرح بمعتقده. 5 انظر الإبانة ص17. وكذا انظر: رسالة أهل الثغر؛ فهي على معتقد أهل السلف أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. وإثبات ذلك كله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل. وأن ذلك لا يصح تأويله، ولا القول بالمجاز فيه. وأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو مذهب المعتزلة ومن ضاهاهم، وهو أعلم الناس بأقوال المعتزلة؛ لأنه كان أعظم إمام في مذهبهم قبل أن يهديه الله إلى الحق" 1. ونقل من كتابه الإبانة، ومقالات الإسلاميين ما يثبت صحة رجوعه إلى معتقد السلف، وتركه لمذهب الخلف. يقول الإمام أبو الحسن -رحمه الله- بعد ما ذكر أن مذهبه في الصفات هو مذهب السلف -رحمهم الله-، وأنه يذهب إلى ماذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل. وبسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل –نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين. فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفخم، وعلى جميع أئمة المسلمين" 2.   1 أضواء البيان 7/454. وانظر: فتاوى شيخ الإسلام 4/72. 2 الإبانة عن أصول الديانة للأشعري ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 [2] القاضي أبو بكر الباقلاني1 رحمه الله: قال عنه الشيخ الأمين –رحمه الله-: "أما كبيرهم الذي هو أفضل المتكلمين المنسبين إلى أبي الحسن الأشعري، وهو القاضي محمد بن الطيب، المعروف بأبي بكر الباقلاني، فإنه كان يؤمن بالصفات على مذهب السلف، ويمنع تأويلها منعاً باتا، ويقول فيها مثل ما قدمنا عن الأشعري" 2. ثم نقل الشيخ الأمين –رحمه الله- من أحد كتب الباقلاني، وهو كتاب (التمهيد) 3 ما دلل به على صحة رجوعه إلى معتقد السلف وقد نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية نقولاً من الكتاب المذكور تدل على صحة رجوعه إلى مذهب السلف، منها قوله: "فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} "4. وقال في موضع آخر من كتابه التمهيد: "صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والبقاء، والوجه، والعينان، واليدان، والغضب، والرضا.." 5. [3] إمام الحرمين، أبو المعالي الجويني6: ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- رجوع أبي المعالي الجويني إلى معتقد   1 هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر البصري. أوحد المتكلمين، وكان على طريقة الأشعري. توفي سنة (403هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 17/190. والبداية والنهاية 11/373) . 2 أضواء البيان 7/468-469. 3 المصدر السابق. 4 انظر التمهيد ص260. 5 نقل ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص58. 6 أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني، إمام الحرمين. توفي سنة (478هـ) ، وكان من أئمة الأشاعرة. (انظر: سير أعلام النبلاء 18/468. وشذرات الذهب 3/358) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 السلف، فقال: "واعلم أن إمام الحرمين أبا المعالي الجويني، كان في زمانه من أعظم أئمة القائلين بالتأويل، وقد قرر التأويل وانتصر له في كتابه الإرشاد، ولكنه رجع عن ذلك في رسالته: العقيدة النظامية1" 2. ثم نقل -رحمه الله- مقتطفات من هذه العقيدة موضحاً رجوعه إلى معتقد السلف وتوبته من طريقة الخلف. من ذلك ما ذكره الذهبي من أن الجويني قال لأصحابه في مرض موته: "اشهدوا على أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وأني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور" 3. ونقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه قال في مرض موته: "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنذا أموت على عقيدة أمي.." 4. ويقصد بعقيدة أمه، أو ما تموت عليه عجائز بلده الفطرة الصافية النقية من الشوائب. [4] أبو حامد الغزالي5 رحمه الله: قال عنه الشيخ -رحمه الله-: "وكذلك أبو حامد الغزالي. كان في زمانه من أعظم القائلين بالتأويل، ثم رجع عن ذلك، وبين أن الحق الذي لا شك فيه   1 انظر العقيدة النظامية ص23-25. 2 أضواء البيان 7/472. وانظر: الفتاوى 4/73. وشرح العقيدة الطحاوية ص228. وقد ذكر الذهبي -رحمه الله- أنه تاب ورجع إلى عقيدة السلف، ونقل نصوصاً من العقيدة النظامية مدللاً على قوله (انظر: سير أعلام النبلاء 18/472-473) . 3 انظر مختصر العلو للذهبي ص275. 4 مجموع فتاوى ابن تيمية 4/73. 5 هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي. ولد سنة (450?) ، وتوفي سنة (505?) . وكان من أئمة الأشاعرة والمتصوفة. (انظر: سير أعلام النبلاء 19/322. وشذرات الذهب 4/10-11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 هو مذهب السلف" 1. ونقل -رحمه الله- من كتابه إلجام العوام شواهد مستدلا بها على صحة رجوعه إلى طريقة السلف، وختم ذلك بقوله: "وذكر غير واحد عن الغزالي أنه رجع في آخر حياته إلى تلاوة كتاب الله وحفظ الأحاديث الصحيحة، والاعتراف بأن الحق هو ما في كتاب الله وسنة رسوله. وذكر بعضهم أنه مات وعلى صدره صحيح البخاري -رحمه الله-"2. [5] الفخر الرازي3 رحمه الله: ذكر الشيخ -رحمه الله- توبته، فقال: "واعلم أيضاً أن الفخر الرازي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل، ورجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفاً بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله". ونقل الشيخ الأمين –رحمه الله- من كتاب الرازي (أقسام اللذات) ما يدل على رجوعه وتوبته. فمن ذلك ما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من قوله: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ   1 أضواء البيان 7/473-474. وقد ذكر رجوعه إلى معتقد السلف غير واحد من العلماء. (انظر إضافة إلى مصادر الحاشية السابقة: الفتاوى 4/72. ودرء تعارض العقل والنقل 1/162. والبداية والنهاية لابن كثير 12/173. وشرح الطحاوية 227) . 2 أضواء البيان 7/475. وقد ذكر رجوعه إلى معتقد السلف غير واحد من العلماء. (انظر إضافة إلى مصادر الحاشية السابقة: الفتاوى 4/72-73. ودرء تعارض العقل والنقل 1/160. ومجموعة الرسائل الكبرى 1/97. والبداية والنهاية 13/55. وشرح الطحاوية 227) . 3 فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي الطبرستاني، ويعرف بابن الخطيب. كان من أئمة الأشاعرة، وذكر ابن كثير، وغيره أنه رجع إلى معتقد السلف. توفي سنة (606هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 21/500-501. والبداية والنهاية 13/60) . 4 سورة طه، الآية [5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 3. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 4. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي" 5. [6] الشهرستاني6: قال عنه الشيخ الأمين –رحمه الله-: "وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وقد قال في ذلك: لعمري قد طفت المعاهد وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كفّ حائر على ذقن أو قارعا سنّ نادم7 وأمثال هذا كثير8. وهذا يدلّ على تحيره وتخبطه، واضطرابه في نهاية حياته، وقد فطن إلى ما وقع فيه من تخبط، وتنبه إلى صحة مذهب السلف الموافق للفطرة، فقال كلمته: "فعليكم بدين العجائز فهو من أسنى الجوائز" 9. وما ذلك إلا لأن دين العجائز سالم من شوائب علم الكلام وترهاته.   1 سورة فاطر، الآية [10] . 2 سورة الشورى، الآية [11] . 3 سورة طه، الآية [110] . 4 سورة مريم، الآية [65] . 5 انظر مصادر الحاشية رقم (؟؟) من الصفحة السابقة. 6 هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد، أبو الفتح الشهرستاني. شيخ أهل الكلام. ولد في شهرستان سنة (479) . وتوفي سنة (548هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 20/286. وشذرات الذهب 4/149) . 7 نهاية الإقدام ص3. 8 أضواء البيان 7/475-476. وممن ذكر رجوعه من السلف: ابن تيمية في الفتاوى (4/73) ، وفي درء تعارض العقل والنقل (1/159) . وابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص228) . 9 نهاية الإقدام ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وبعد أن ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- من رجعوا من أئمة أهل التأويل عن مذهبهم إلى معتقد السلف1، وجه نداء إلى المتعصبين من المتأولة يحثهم فيه على الرجوع إلى الحق والتزام معتقد سلف هذه الأمة؛ فقال -رحمه الله-: "فيا أيها المعاصرون المتعصبون لدعوى أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها خبيث لا يليق بالله لاستلزامه التشبيه بصفات الخلق، وأنها يجب نفيها وتأويلها بمعان ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أحد من أصحابه، ولا من التابعين. فمن هو سلفكم في هذه الدعوى الباطلة المخالفة لإجماع السلف؟ إن كنتم تزعمون أن الأشعري يقول مثل قولكم، وأنه سلفكم في ذلك فهو بريء منكم ومن دعواكم. وهو مصرح في كتبه التي صنفها بعد الرجوع عن الاعتزال أن القائلين بالتأويل هم المعتزلة، وهم خصومه وهو خصمهم، كما أوضحنا كلامه في الإبانة والمقالات، وقد بينا أن أساطين القول بالتأويل قد اعترفوا بأن التأويل لا مستند له، وأن الحق هو اتباع مذهب السلف، كما أوضحنا ذلك عن أبي بكر الباقلاني، وأبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، وأبي عبد الله الفخر الرازي، وغيرهم ممن ذكرنا" 2. وفي الختام يوصيهم بتقوى الله، وعدم التعرض لصفاته بالتحريف أو التعطيل، وألا يقولوا على الله بغير علم، فيقول -رحمه الله-: "وفي الختام نوصي أنفسنا وإخواننا المسلمين بتقوى الله تعالى، وعدم التهجم على الله تعالى وعلى كتابه بالدعاوى الباطلة، والتمسك بنور الوحي الصحيح في   1 وممن رجع إلى معتقد السلف، ولم يذكره الشيخ الأمين –رحمه الله- الإمام أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين المتوفي سنة (438هـ) . وقد ألف رسالة سماها: (إثبات الاستواء والفوقية) ينصح فيها إخوانه بالرجوع إلى معتقد السلف، ويثبت فيها رجوعه إلى معتقد السلف. وهي تقع في (12) صفحة. (انظر: مجموعة الرسائل المنيرية 1/174-178. وانظر أيضاً: الأعلام 4/146-147) . 2 أضواء البيان 7/476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 المعتقد وغيره؛ لأن السلامة متحققة في اتباع الوحي. وليست متحققة في شي غيره: ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى * ولكنها الأهواء عمت فأعمتِ1. وبهذا البيان الرائع الذي ختم به الشيخ الأمين –رحمه الله- نصيحته لأهل التأويل، ولم يبق أمام أصحاب العقول السليمة من المتأولة المعاصرين –بعد أن تبرأ كبار أئمتهم وشيوخهم من هذه العقيدة الفاسدة، وحذروا منها، وأعلنوا رجوعهم عنها إلى معتقد السلف- إلا أن يراجعوا مذهبهم، ويرجعوا عنه إلى معتقد السلف؛ إذ لا عذر لأحد منهم بعد أن أعلن أئمتهم المتبوعون رجوعهم إلى المعتقد الحق، وماتوا عليه.   1 آداب البحث والمناظرة 2/136. وانظر أضواء البيان 7/476-477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الباب الثاني: جهوده في توضيح بقية أركان ومباحث الإيمان الفصل الأول: الإيمان بالملائكة والجن الملائكة والجن من المخلوقات المغيبة، التى لا تراها أعين بني آدم؛ فهم من عالم الغيب. والملائكة عباد مكرمون خلقهم الله من نور، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعلم عددهم إلا الله، وكلهم الله سبحانه بوظائف وأعمال مختلفة. قال تعالى في وصفهم: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} 1، وقال: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2، وقال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاّ هُوَ وَمَا هِيَ إلاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" 4. والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان؛ لقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} 5. ويجب الإيمان تفصيلاً بمن ورد ذكرهم في الكتاب والسنة من الملائكة بأسمائهم وأعمالهم؛ فأعظمهم جبريل الموكل بالوحي الذي به حياة القلوب، ينزل به على الأنبياء. وميكائيل الموكل بالقطر والنبات. وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور.   1 سورة فصلت، الآية [38] . 2 سورة التحريم، الآية [6] . 3 سورة المدثر، الآية [31] . 4 أخرجه مسلم 4/2294. 5 سورة البقرة، الآية [285] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فهؤلاء الثلاثة موكلون بما فيه حياة الإنسان. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة.."1. ويجب الإيمان إجمالاً بمن لم يرد تعيينه باسمه المخصوص، ولا تعيين نوعه المخصوص2. وقد أشار الأمين -رحمه الله- إلى بعض وظائف الملائكة؛ فقال: "الملائكة يرسلها الله في شؤون وأمور مختلف، ولذا عبر عنها بالمقسمات، ويدل لهذا قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 3؛ فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم؛ كما وقع لقوم صالح"4. ثم تطرق -رحمه الله- إلى ذكر الملائكة الموكلين بكتابة أقوال بني آدم، فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 5: "والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان. وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه، ومقعد الآخر عن شماله .... وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} : أي ما ينطق بنطق، ولا يتكلم بكلام {إلاّ لَدَيْهِ} : أي: إلا والحال أن عنده رقيباً؛ أي ملكاً مراقباً لأعماله، حافظاً لها، شاهداً عليها، لا يفوته منها شيء. {عَتِيدٌ} : أي حاضر، ليس   1 أخرجه مسلم في صحيحه 1/534. 2 انظر: إغاثة اللهفان 2/127. وشرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد الصالح العثيمين –مخطوط- ق33. والكواشف الجلية ص36. 3 سورة النازعات، الآية [5] . 4 أضواء البيان 7/661. وانظر المصدر نفسه 3/274. وذكر هذا الكلام في الشريط رقم [4] ، من سورة الأنعام، عند تفسير قوله تعالى: {ولا أقول لكم إني ملك} . (سورة الأنعام، الآية [5] ) . 5 سورة ق، الآية [18] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة يكتبون أعماله، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله؛ كقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 1، وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 2وقوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3"4. وقد أوضح -رحمه الله- أن كتابة أعمال العباد لا تتعارض مع إحاطة الله بكل شيء علماً، وإنما ذلك لحكم أرادها الله جل وعلا؛ يقول -رحمه الله-: "إن الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، في وقت كتابة الحفظة أعماله لا حاجة له لكتب الأعمال؛ لأنه عالم بها لا يخفى عليه شيء، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى؛ كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة، كما أوضحه بقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} 5"6. وتعرّض -رحمه الله- للخلاف الحاصل في كتابة الحفظة لأقوال العباد؛ هل تشمل المباح، أو تقتصر على ما فيه ثواب وعقاب فقط؛ فذكر للعلماء قولين، ولم يرجح أحدهما على الآخر؛ فقال: "قال بعضهم7: يكتب عليه   1 سورة الانفطار، الآيتان [10-11] . 2 سورة الزخرف، الآية [80] . 3 سورة الجاثية، الآية [28] . 4 أضواء البيان 7/648-650. 5 سورة الإسراء، الآيتان [13-14] . 6 أضواء البيان 7/648. 7 قاله أبوالجوزاء، ومجاهد. (انظر الجامع لأحكام القرآن 17/9) . وذكره ابن كثير (في التفسير 4/224) ، عن طاوس. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت، وشربت، وذهبت، وجئت، ورأيت. حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وذلك قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} . [تفسير ابن كثير 4/224] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 كل شيء، حتى الأنين في المرض وهذا ظاهر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 1؛ لأن قوله: {مِنْ قَوْلٍ} : نكرة في سياق النفي زيدت قبلها لفظة: {مِنْ} ، فهي نص صريح في العموم. وقال بعض العلماء2: لا يكتب من الأعمال إلا ما فيه ثواب أو عقاب؛ وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب فالذين يقولون لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، والذين يقولون يكتب الجميع: متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب، إلا أن بعضهم يقولون: لا يكتب أصلاً، وبعضهم يقولون: يكتب أولاً، ثم يمحى. وزعم بعضهم أن محو ذلك، وإثبات ما فيه ثواب وعقاب هو معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِت} الآية3. والذين قالوا: لا يكتب ما لا جزاء فيه، قالوا: إن في الآية نعتاً محذوفاً سوغ حذفه العلم به: لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب، وتقدير النعت المحذوف: ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء" 4. الجن: أما الجن: فقد خلقوا من النار، كما قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} 5. وهم أمة مكلفة بالعبادة؛ فمنهم المؤمن، والكافر، والعاصي؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون} 6. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالأنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} 7، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} 8.   1 سورة ق، الآية [18] . 2 قاله عكرمة. [انظر الجامع لأحكام القرآن 17/9] . 3 سورة الرعد، الآية [39] . 4 أضواء البيان 7/651. 5 سورة الحجر، الآية [27] . 6 سورة الذاريات، الآية [56] . 7 سورة الأحقاف، الآية [18] . 8 سورة الرحمن، الآية [46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وهم يأكلون ويشربون ويتناسلون، ولهم ذرية؛ قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} 1. وهم يفنون ويموتون مثل الإنس، قال صلى الله عليه وسلم: "والجن والإنس يموتون "2. وقد اختلف في إبليس؛ هل خلق من جنس الملائكة، أم من الجن؟ فتطرق الشيخ الأمين –رحمه الله- إلى ذكر هذين القولين، مع أدلة كل منهما؛ فقال -رحمه الله-: " وحجة من قال إن أصله ليس من الملائكة أمران؛ أحدهما: عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس، كما قال تعالى عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 3، وقال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 4. الثاني: أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن من غير الملائكة؛ قالوا: وهو نص قرآني في محل النزاع. واحتج من قال إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} 5، قالوا: فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم. وقال بعضهم: والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص، ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال، لا الانقطاع، قالوا: ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} 6؛ لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم؛ كما روى ابن عباس. والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة، ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود: وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر قالوا: ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ   1 سورة الكهف، الآية [50] . 2 أخرجه البخاري 8/167. 3 سورة التحريم، الآية [6] . 4 سورة الأنبياء، الآية [27] . 5 سورة الحجر، الآية [30] . وسورة ص، الآية [73] . 6 سورة الكهف، الآية [50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الْجِنَّةِ نَسَباً} 1، عند من يقول بأن المراد بذلك قولهم: " الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علواً كبيراً"2. ثم ذكر -رحمه الله- من رجح القول الأول، فقال: "وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة: الحسن البصري، ونصره الزمخشري3في تفسيره" 4. ثم ذكر أيضاً من رجح القول الأخير، فقال: "وقال القرطبي في تفسيره سورة البقرة: إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور؛ ابن عباس وابن مسعود، وابن جريج5، وابن المسيب6، وقتادة7، وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبي الحسن8، ورجحه الطبري، وهو ظاهر قوله: {إلاّ إِبْلِيسَ} 9"10. ثم رجح -رحمه الله- أن أصله من الجن فقال: "وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال إنه غير ملك؛ لأن قوله تعالى: {إلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ   1 سورة الصافات، الآية [158] . 2 أضواء البيان 4/120. 3 هو محمود بن عمر الزمخشري، أبو القاسم. ولد سنة [467?] ، وتوفي سنة [538?] . (انظر البداية والنهاية 12/235. وشذرات الذهب 4/119) . 4 أضواء البيان 4/120. 5 هو الحافظ شيخ الحرم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي المكي. أول من دون العلم بمكة. ولد سنة [80?] ، وتوفي سنة [150?] . (انظر: سير أعلام النبلاء 6/325. والبداية والنهاية 10/110) . 6 هو الإمام سعيد بن المسيب بن حزن بن ابي وهب القرشي المخزومي سيد التابعين، وأحد العلماء الأثبات، والفقهاء الكبار، توفي سنة [94?] . (انظر: سير أعلام النبلاء 4/217. والبداية والنهاية 9/105) . 7 هو قتادة بن دعامة بن عزيز السدوسي البصري المحدث المفسر. كان من أوعية العلم، وأحد كبار علماء التابعين. توفي سنة [117?] . (انظر: سير أعلام النبلاء 5/269. والبداية والنهاية 9/325) . 8 لم أعرفه. 9 انظر: الجامع لأحكام القرآن 1/202. 10 أضواء البيان 4/120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فَفَسَق} 1، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي، والعلم عند الله تعالى"2. وما رجحه الشيخ الأمين –رحمه الله- من كون إبليس من الجن هو ما تطمئن النفس إليه؛ لتضافر الأدلة عليه، وقد قال إبليس عن نفسه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 3. وجاء في الحديث: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" 4؛ فهذا صريح في كونه من الجن، وهو ما رجحه أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد قال عن إبليس لعنه الله: "وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود، وبعضهم من الجن لأن له قبيلاً وذرية، ولكونه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور. والتحقيق: أنه كان منهم باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله، ولا باعتبار مثاله"5. هل يدخل المؤمنون من الجن الجنة؟ تطرق -رحمه الله- إلى هذه المسألة، وذكر لأهل العلم قولين فيها، ورد على من منع دخولهم الجنة مرجحاً أن المؤمنين من الجن يدخلونها؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 6: "تمسك جماعة من العلماء؛ منهم الإمام أبوحنيفة -رحمه الله تعالى- بظاهر هذه الآية، فقالوا: إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة. مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة، وهي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 7؛ لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ   1 سورة الكهف، الآية [50] . 2 أضواء البيان 4/121. وانظر المصدر نفسه 2/293. 3 سورة الأعراف، الآية [12] . 4 أخرجه مسلم 4/2294. 5 مجموع فتاوى ابن تيمية 4/346. 6 سورة الأحقاف، الآية [31] . 7 سورة الرحمن، الآية [46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وَلا جَانٌّ} 1؛ لأنه يشير إلى أن في الجنة جناً يطمثون النساء كالإنس"2. ثم قال -رحمه الله-: "إن آية الأحقاف نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نص فيها على دخولهم الجنة؛ لأنه تعالى قال فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} "3. وقال -رحمه الله- أيضاً: وحاصل هذه المسألة: أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين، وهو صريح قوله تعالى: {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 4، وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} 5، وقوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ} 6، إلى غير ذلك من الإيات. وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين. والظاهر دخولهم الجنة كما بينا، والعلم عند الله"7. ولا ريب أن ما قاله الشيخ الأمين –رحمه الله- هو الحق في هذه المسألة لما نقله من النصوص الصريحة في دخول مؤمنهم الجنة. ويؤيده أيضاً قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُو} 8؛ فهو دليل على ثوابهم وعقابهم. وقال تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ   1 سورة الرحمن، الآية [47] . 2 دفع إيهام الاضطراب، الملحق بأضواء البيان 10/263. 3 سورة الرحمن، الآية [56] . 4 سورة هود، الآية [119] . 5 سورة الشعراء، الآيتان [94-95] . 6 سورة الأعراف، الآية [38] . 7 دفع إيهام الاضطراب 10/268. وانظر: أضواء البيان 7/401، 756، 757. 8 سورة الأحقاف، الآية [19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 بَخْساً وَلا رَهَقاً} 1؛ فالله سبحانه وتعالى يثيب على الإيمان، ويعاقب على الكفر. وقد نقل شيخ الإسلام عن أكثر أهل العلم أن مؤمن الجن يدخل الجنة، ورجحه، فقال بعد أن ذكر إجماع العلماء على دخول كافرهم النار، وساق الآيات الدالة على ذلك: وأما مؤمنهم فأكثر العلماء على أنهم يدخلون الجنة، وقال طائفة: بل يصيرون تراباً كالدواب. والأول أصح؛ وهو قول الأوزاعي، وابن أبي ليلى2، وأبي يوسف3، ومحمد4. ونقل ذلك عن مالك والشافعي وأحمد، وهو قول أصحابهم"5.   1 سورة الجن، الآية [13] . 2 هو الإمام أبوعيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي. ولد في خلافة الصديق. قتل بوقعة الجماجم سنة [82?] . (انظر سير أعلام النبلاء 4/262) . 3 هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي. أنبل تلاميذ أبي حنيفة، توفي سنة [182هـ] . (انظر سير أعلام النبلاء 8/535. والبداية والنهاية 10/186) . 4 هو محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، صاحب أبي حنيفة، توفي سنة [189?] . (انظر سير أعلام النبلاء 9/134. والبداية والنهاية 10/210) . 5 النبوات ص397. وانظر الفتاوى 4/233، 11/306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الفصل الثاني: الإيمان بالكتب الإيمان بالكتب ذو شقين: إيمان تفصيلي، وآخر إجمالي. فالتفصيلي: أن نؤمن بكل الكتب المنزلة على المرسلين، والتي سماها الله تعالى في كتابه؛ كالقرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى. والإجمالي: أن نؤمن بأن الله سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه، لا يعرف أسماءها وعددها إلا هو، فيها الهدى والنور والرشاد. ولا يفرق بين الواحد والآخر؛ قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1. هذا مع الإيمان أن القرآن الكريم ناسخ لكل الكتب السابقة، ومهيمن عليها، وأنه خاتمة الكتب المنزلة، وأنه محفوظ من التحريف؛ فهو الكتاب الذي يجب على جميع الإنس والجن العمل به2. وقد أوضح الشيخ الأمين –رحمه الله- هذا الركن العظيم الذي لا يتم الإيمان إلا به؛ حيث قال -رحمه الله-: "قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، لم يبين هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم، ولكنه بين في سورة الأعلى أنه صحف، وأن من جملة ما في تلك الصحف: {بَلْ تُؤْثِرُونَ   1 سورة البقرة، الآية [136] . 2 انظر شرح الطحاوية ص350. ومعارج القبول 2/91-95. 3 سورة البقرة، الآية [136] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1، وذلك في قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 2. قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} 3: لم يبين هنا ما أوتيه موسى وعيسى، ولكنه بينه في مواضع أخرى، فذكر أن ما أوتيه موسى هو التوراة المعبر عنها بالصحف في قوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 4، وذلك كقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب} 5، وهو التوراة بالإجماع. وذكر أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل، كما في قوله: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الأنْجِيلَ} 6، وقوله تعالى: {وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} 7: أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في هذه الآية أن يؤمنوا بما أوتيه جميع النبيين، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، حيث قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} إلى قوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} 8، ولم يذكر هنا هل فعلوا ذلك أو لا؟ ولم يذكر جزاءهم إذا فعلوه، ولكنه بين كل ذلك في غير هذا الموضع؛ فصرح بأنهم امتثلوا الأمر بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 9. وذكر جزاءهم على ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} 10"11.   1 سورة الأعلى، الآيتان [16-17] . 2 سورة الأعلى، الآيتان [18-19] . 3 سورة البقرة، الآية [136] . 4 سورة الأعلى، الآيتان [18-19] . 5 سورة الأنعام، الآية [154] . 6 سورة الحديد، الآية [27] . 7 سورة البقرة، الآية [136] . 8 سورة البقرة، الآية [136] . 9 سورة البقرة، الآية [285] . 10 سورة النساء، الآية [152] . 11 أضواء البيان 1/148-149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أما القرآن الكريم: فيقول -رحمه الله- عنه: "القرآن هو مطر أرض القلوب، إذا نزل مطر القرآن على أرض القلوب أثمرت القلوب ثمراتها الرائعة اليانعة من الإيمان بالله، والتقوى، والخشية والإنابة، والإيثار، وطاعة الله جل وعلا، والخوف منه، والانقياد لأوامره، واجتناب نواهيه .... كما أن مطر السحاب هو مطر الأرض المثمر فيها .... كذلك القلب الطيب إذا نزلت عليه أمطار القرآن؛ زواجره، ونواهيه، ومواعظه، وحلاله، وحرامه أثمر ذلك القرآن في ذلك القلب ثمرات أحسن من ثمرات الأرض الطيبة إذا نزل عليها المطر فأثمر الإيمان بالله ... وامتثال أمر الله واجتناب نواهيه، وكل خصلة حسنة ... كالخشية من الله، والتوبة عند الزلات، والإنابة إليه، والسخاء، والشجاعة، والرضا بقدر الله، والإيثار، وعدم الشح، إلى غير ذلك من الخصال الكريمة الجميلة"1. ثم يصف -رحمه الله- هذا القرآن بقوله: "هو كتاب الله جل وعلا الذي هو آخر كتاب نزل من السماء، وهو أعظم كتاب سماوي على أعظم رسول أرسله الله إلى الأرض؛ فهو آخر الكتب السماوية، دليل على آخر الرسل وخاتمهم صلى الله عليه وسلم؛ جمع الله فيه علوم الكتب السابقة. ولذا كان القرآن مهيمنا على الكتب السابقة ... وإنما سمي هذا القرآن كتاباً؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 2. ومكتوب في صحف عند الملائكة ... {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} 3..وأيضا مكتوب عند المسلمين، كما قال تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} 4"5.   1 الشريط رقم [2] من تفسير سورة الأعراف، عند تفسير قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} . الآية [58] . 2 سورة البروج، الآيتان [21-22] . 3 سورة عبس، الآيتان [13-14] . 4 سورة البينة، الآيتان [2-3] . 5 الشريط رقم [22] من سورة الأنعام، عند تفسير قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} الآية [155] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وقد اشار -رحمه الله- إلى أن القرآن وحي من الله سبحانه وتعالى؛ فقال عند قوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} 1: "أي علم نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن، فتلقته أمته عنه. وهذه الآية الكريمة تتضمن رد الله على الكفار في قولهم: إنه تعلم هذا القرآن من بشر كما تقدم، في قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} 2، وقوله تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} 3؛ أي يرويه محمد عن غيره"4. ثم أوضح -رحمه الله- أن القرآن الكريم مهيمن على الكتب السابقة، فاضح لما حرفه اليهود والنصارى، ولما كتموه من الحق؛ فقال: -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الآية5: "لم يبين هنا شيئاً من ذلك الكثير الذي يبينه لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما كانوا يخفون من الكتاب: يعني التوراة والإنجيل، وبين كثيراً منه في مواضع أخر. فمما كانوا يخفون من أحكام التوراة: رجم الزاني المحصن. بينه القرآن في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 6؛ يعني يدعون إلى التوراة ليحكم بينهم في حد الزاني المحصن بالرجم، وهم معرضون عن ذلك منكرون له. ومن ذلك ما أخفوه من صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم، وإنكارهم أنهم يعرفون أنه هو الرسول، كما بينه تعالى بقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 7. ومن ذلك إنكارهم أن الله حرم   1 سورة الرحمن، الآية [2] . 2 سورة النحل، الآية [103] . 3 سورة المدثر، الآية [24] . 4 أضواء البيان 7/733، وانظر المصدر نفسه 7/702. 5 سورة المائدة، الآية [15] . 6 سورة آل عمران، الآية [23] . 7 سورة البقرة، الآية [89] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 عليهم بعض الطيبات بسبب ظلمهم ومعاصيهم؛ كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} 1، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} 2؛ فإنهم أنكروا هذا، وقالوا: لم يحرم علينا إلا ما كان محرماً على إسرائيل، فكذبهم القرآن في ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إلاّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} 3. ومن ذلك كتم النصارى بشارة عيسى ابن مريم لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد بينها تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 4، إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما أخفوه من كتبهم"5. ثم يطرح -رحمه الله- سؤالاً، ويجيب عليه فيقول -رحمه الله-: "إن قيل: ما الفرق بين التوراة والقرآن؟ فإن كلا منهما كلام الله أنزله على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم. والتوراة حرفت وبدلت كما بيناه آنفاً، والقرآن محفوظ من التحريف والتبديل لو حرف منه أحد حرفاً واحداً فأبدله بغيره، أو زاد فيه حرفاً، أو نقص منه آخر، رد عليه آلاف الأطفال من صغار المسلمين فضلاً عن كبارهم. فالجواب: أن الله استحفظهم التوراة واستودعهم إياها فخانوا الأمانة، ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمداً. والقرآن العظيم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه   1 سورة النساء، الآية [160] . 2 سورة الأنعام، الآية [146] . 3 سورة آل عمران، الآية [93] . 4 سورة الصف، الآية [6] . 5 أضواء البيان 2/57-58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 تضييعه، بل تولى حفظه جلّ وعلا بنفسه الكريمة المقدسة، كما أوضحه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، وقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية2، إلى غير ذلك من الآيات"3. وأختم هذا الفصل بهذه الكلمة الجامعة للشيخ الأمين –رحمه الله- عن القرآن الكريم؛ حيث يقول عند تفسير قوله تعالى: {َهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 4: "فهذا القرآن كله بركات وخيرات؛ لأن الله قال: إنه مبارك، والمبارك كثير البركات؛ لأن فيه خير الدنيا والآخرة، يعتقد الإنسان عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويعتبر بأمثاله وقصصه، فيكون على أكمل حال في الدنيا والآخرة، فهو فيه البركات والخيرات لمن وفقه الله للعمل به جل وعلا، ولذا بينا مراراً أنه أعظم نعمة أنزلها الله على خلقه، ولذا علمهم أن يحمدوه على هذه النعمة والبركات في هذا القرآن العظيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} 5، وبين إيراثه علامة الاصطفاء، وبين أن ذلك فضل كبير من الله، حيث قال في فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} 6؛ فبين أن إيراث هذا الكتاب لا يكون إلا لمن اصطفاه الله. ثم قال في معرض التنويه به: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 7؛ أي إيراثنا الكتاب إياهم غننبيهم هو الفضل من الله الكبير عليهم، كما قال هنا: أنه مبارك. وقوله: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} 8؛ معناه أن القرآن العظيم مصدق للكتب السماوية التي قبله، وتصديقه لها من جهات متعددة، منها: أنه لا يخالفها، وأن   1 سورة الحجر، الآية [9] . 2 سورة فصلت، الآية [42] . 3 أضواء البيان 2/100-101. 4 سورة الأنعام، الآية [92] . 5 سورة الكهف، الآية [1] . 6 سورة فاطر، الآية [32] . 7 سورة فاطر، الآية [32] . 8 سورة الأنعام، الآية [92] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 العلامات التي كانت على النبي وعن كتابه الذي ينزل عليه جاءت كلها مطابقة، وأن ما تدعو إليه الكتب السماوية من التوحيد وطاعة الله ومكارم الأخلاق، كذلك جاء القرآن آمراً به. وعن تصديقه للكتب السماوية أنه يهيمن عليها، ويمنعها من التحريف كلما أرادوا أن يحرفوا منعهم القرآن، كما قال: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} 1"2. وهكذا يرشد الشيخ الأمين –رحمه الله- إلى الإيمان بهذه الكتب العظيمة على وجه الإجمال، ويبين أنها قد حرفت، إلا أن هيمنة القرآن العظيم عليها تدل على مواطن التحريف، لذا وجب الإيمان على وجه التفصيل بالقرآن الكريم الذي تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه المقدسة، فسلم مما لحق بالكتب الأخرى، فهو الكتاب الخاتم المنزل على النبي الخاتم، المحفوظ بحفظ الله له، المهيمن على سائر الكتب السماوية السابقة.   1 سورة المائدة، الآية [48] . 2 من الشريط رقم [9] من سورة الأنعام، عند تفسير قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَك} ، الآية [92] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 المجلد الثاني الباب الثاني: جهوده في توضيح بقية أركان ومباحث الإيمان (تابع) الفصل الثالث: جهود الشيخ الأمين –رحمه الله- في توضيح النبوات المبحث الأول: الإيمان بالأنبياء المطلب الأول: دعوة الأنبياء واحدة ... الفصل الثالث: جهود الشيخ الأمين –رحمه الله- في توضيح النبوات تمهيد: تعريف النبي والرسول لغةً وشرعاً: أولاً: تعريف النبي والرسول لغةً: النبي لغةً مشتق من النبأ؛ وهو الخبر، كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} 1. وقيل: إن النبي مأخوذ من النبوة، والنباوة؛ وهي الارتفاع؛ لارتفاع قدره، ولأنه شرف على سائر الخلق. فأصله غير مهموز. وقيل: النبي: الطريق. والأنبياء طرق الهدى2. أما الرسول لغةً: فهو الذي يتابع أخبار الذي بعثه، أخذاً من قولهم: جاءت الإبل رسلاً، أي متتابعة. والرسول: اسم من أرسلت. وأصل الرِسل: الانبعاث على التؤدة3. ثانيا: تعريف النبي والرسول شرعاً: تعددت الآراء في تعريف النبي والرسول إلى أقوال كثيرة4، وأشهرها: أن الرسول مَنْ أُوحِي إليه بشرع، وأُمِرَ بتبليغه. والنبي من أُوحِي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه5.   1 سورة النبأ، الآيتان [1-2] . 2 انظر: الصحاح للجوهري 1/74. وتهذيب اللغة 15/486. والمفردات للراغب الأصفهاني ص481-482. ولسان العرب 1/162. 3 انظر: تهذيب اللغة 12/391. والمفردات للراغب الأصفهاني ص195. ولسان العرب 11/284. 4 انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/54. وأعلام النبوة للماوردي ص37-38. 5 انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص167. ولوامع الأنوار البهية 1/49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وهذا التفريق لا يسلم من الاعتراض؛ لأن الإنسان الذي دون النبي مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبلاغ الناس أمور دينهم، وعدم كتمان العلم. فكيف بالنبي الذي هو منبأ عن الله سبحانه وتعالى؛ لاشك أن مسؤوليته أعظم، وموقفه أخطر. وقد دلت النصوص على أن الأنبياء مأمورون بالإبلاغ؛ فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 1، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد. "2. لذلك لم يرتض الشيخ الأمين –رحمه الله- هذا التعريف، وبين تعارضه مع النصوص، فقال في معرض الرد عليه موضحاً القول الحق في هذه المسألة: "وآية الحج هذه3تبين أن ما اشتهر على ألسنة أهل العلم من أن النبي هو من أوحي إليه وحي ولم يؤمر بتبليغه، وأن الرسول هو النبي الذي أوحي إليه وأمر بتبليغ ما أوحي إليه: غير صحيح؛ لأن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} 4يدل على أن كلاً منهما مرسل، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير. واستظهر بعضهم أن النبي الذي هو رسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي ثبتت بها نبوته، وأن النبي المرسل الذي هو غير الرسول؛ هو من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله؛ كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة، كما بينه تعالى بقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} 5"6.   1 سورة الحج، الآية [52] . 2 أخرجه البخاري في الصحيح 7/199. ومسلم في الصحيح 1/199 عن ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم. 3 يعني قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} . 4 سورة الحج، الآية [52] . 5 سورة المائدة، الآية [44] . 6 أضواء البيان 5/735. وانظر رحلة الحج ص 136-137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وهذا التعريف الذي أخذ به الشيخ الأمين –رحمه الله- أسلم من غيره من التعريفات؛ لذلك ارتضاه غير واحد من العلماء السابقين؛ منهم البيضاوي1-رحمه الله- الذي قال في الفرق بين النبي والرسول: "الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي يعمه، ومن بعثه لتقرير شرع سابق؛ كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام. لذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، فالنبي أعم من الرسول"2. ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعريف قريب من هذا التعريف؛ يقول فيه -رحمه الله-: "فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول. إلى أن قال: فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} 3 دليل على أن النبي مرسل، ولا يسمى رسولاً عند الإطلاق؛ لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه، بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعالم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء." 4"5.   1 هو ناصر الدين عبد الله بن عمر الشيرازي. ولد في مدينة البيضاء بفارس، وتوفي سنة [685هـ] . (انظر: البداية والنهاية 13/327. وشذرات الذهب 5/392. والأعلام 4/110) . 2 أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 4/57. 3 سورة الحج، الآية [52] . 4 أخرجه أبوداود في سننه 4/57، رقم 3641. وقال الألباني في مشكاة المصابيح (1/74، رقم212) : إسناده حسن. 5 النبوات ص255-256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 المبحث الأول: الإيمان بالأنبياء المطلب الأول: دعوة الأنبياء واحدة جميع الرسل متفقون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، والنهي عن الشرك؛ فالغاية التي بعثوا من أجلها: إفراد الله بالعبادة، والنهي عن جميع الموبقات؛ من الكفر والفسوق والعصيان؛ فالشرائع كلها تدعو إلى هذه الغاية العظيمة، فهذه مهمة جميع الرسل من نوح عليه السلام إلى رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فكل واحد من الأنبياء والرسل، عليهم السلام، يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. وقد اهتم الشيخ الأمين –رحمه الله- بتوضيح هذه المسألة الجليلة التي هي وسيلة لأعظم غاية من أجلها خلق الخلق وأوجدت الكائنات؛ فقال -رحمه الله-: "كل دعوات الرسل هي مضمون "لا إله إلا الله" التي قام عليها أمر السموات والأرض، وخلقت من أجلها الجنة والنار، وبعث رسل الله عليهم الصلاة والسلام. ولهذا كان كل رسول إنما يبدأ قومه بالدعاء إليها، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2"3.   1 سورة المؤمنون، الآية [23] . 2 سورة الأنبياء، الآية [25] . 3 معارج الصعود، ص136. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وأوضح الشيخ –رحمه الله- في موضع آخر أن من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل؛ لأن دعوتهم واحدة، فكلهم يدعو إلى التوحيد الخالص، فقال -رحمه الله-: "إن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، ومن كذب نذيراً واحداً فقد كذب جميع النذر؛ لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة، وهي مضمون "لا إله إلا الله" كما أوضحه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3. وأوضح تعالى أن من كذَّب بعضهم فقد كذّب جميعهم، في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 4، وأشار إلى ذلك في قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 5، وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 6، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} 7. وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل، وذلك في قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} 8، ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحاً   1 سورة النحل، الآية [36] . 2 سورة الأنبياء، الآية [25] . 3 سورة الزخرف، الآية [45] . 4 سورة النساء، الآيتان [150-151] . 5 سورة البقرة، الآية [285] . 6 سورة البقرة، الآية [136] . 7 سورة النساء، الآية [152] . 8 سورة الشعراء، الآية [105] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وحده، حيث أفرد ذلك بقوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} إلى قوله: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} 1. وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} 2، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده، حيث أفرده بقوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} 3. ونحو ذلك في قوله تعالى، في قصة صالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وأصحاب الأيكة، كما هو معلوم، وهو واضح لا خفاء فيه. ويزيده إيضاحاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد." 4؛ يعني أنهم كلهم متفقون في الأصول، وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع"5. وفي موضع آخر أشار الشيخ الأمين –رحمه الله- إلى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو أشد الأنبياء احتياطاً في حماية جناب التوحيد الذي هو أصل دعوة الرسل. فقال -رحمه الله-: "فإخلاص العبادة لله وحده هو دعوة عامة الرسل، وأشدهم فيه احتياطاً خاتمهم صلى الله عليه وسلم ولذا منع بعض الأمور التي كانت مباحة عندهم احتياطاً في توحيد الله في عبادته جلّ وعلا؛ فالسجود لمخلوق في شريعته السمحة كفر بالله تعالى مع أنه كان جائزاً في شرع غيره من الرسل عليهم الصلاة   1 سورة الشعراء، الآيتان [106-117] . 2 سورة الشعراء، الآية [123] . 3 سورة الشعراء، الآية [124] . 4 مروي عن أبي هريرة من طرق متعددة، وبألفاظ متقاربة؛ رواه البخاري في الصحيح 4/142. ومسلم في الصحيح 4/1837. والعَلاَّت جمع علّة وهي الضرة فهم بنو رجل واحد من نسوة شتى. انظر (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/291) . وقال ابن حجر –في معنى الحديث-:"إن أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة". فتح الباري (6/489) . 5 أضواء البيان 7/827-828. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 والسلام. كما قال تعالى عن يعقوب وأولاده في سجودهم ليوسف: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} 1، ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: إنه ما أوحي إليه إلا توحيد الله تعالى في عبادته في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. وقد تقرر عند الأصوليين والبيانيين أن لفظ "إنما" من أدوات الحصر، فدلت الآية على حصر الموحى إليه صلى الله عليه وسلم في أصله الأعظم الذي هو لا إله إلا الله؛ لأنها دعوة جميع الرسل، وغيرها من شرائع الإسلام وفروعها التابعة لها. ولهذا صار مكذب رسول واحد مكذباً لجميع الرسل؛ لأن دعوتهم واحدة" 3. وهكذا يتضح لنا اهتمام الشيخ الأمين –رحمه الله- ببيان هذه المسألة العظيمة؛ حيث أقام الأدلة على أن الرسل بعثوا بالدعوة إلى توحيد العبادة، وأن أصل دينهم واحد، وهومضمون شهادة أن لا إله إلا الله. ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلام في "العقيدة التدمرية" يؤيد ما قاله الشيخ الأمين –رحمه الله-؛ فقد أوضح -رحمه الله- أن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وأن رأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله، وبها بعث الله جميع رسله عليهم الصلاة والسلام4.   1 سورة يوسف، الآية [100] . 2 سورة الأنبياء، الآية [108] . 3 رحلة الحج، ص134. 4 انظر العقيدة التدمرية، ص167، 174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 المطلب الثاني: الرسل لا يعلمون الغيب علم الغيب من خصائص الألوهية، وليس من صفات الأنبياء؛ لأنهم بشرٌ اصطفاهم الله لتبليغ أوامره ونواهيه، ولا يعلمون من المستقبل إلا ما أطلعهم الله عليه، وأذن لهم به. وقد تناول الشيخ الأمين –رحمه الله- هذا الموضوع بذكر الأدلة التي تؤكد عجز الأنبياء عن الإطلاع على أمور كانت تخصهم، وأحوال كانوا عاجزين عن معرفة الحقيقة فيها؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 1: "وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وهو كذلك، لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 2. أخرجه مسلم3"4. ثم ذكر -رحمه الله- أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب، وذلك في قوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا   1 سورة الأنعام، الآية [59] . 2 سورة النمل، الآية [65] . 3 صحيح مسلم 1/159. 4 أضواء البيان 2/195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 يُوحَى إِلَيَّ} 1. ثم ساق -رحمه الله- أمثلة ووقائع حصلت للرسل تدل على أنهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه؛ فذكر أولاً أمثلة ووقائع حصلت لرسولنا صلى الله عليه وسلم تدل على أنه لا يعلم الغيب، ثم أتبعها بوقائع حصلت لعدد من الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، تدل أيضاً على أنهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه؛ فقال -رحمه الله-: "لما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك لم يعلم؛ أهي بريئة أم لا، حتى أخبره الله تعالى بقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُون} 2. وقد ذبح إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجله للملائكة، ولا علم له بأنهم ملائكة حتىأخبروه، وقالوا له: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} 3.. ولما جاؤا لوطاً لم يعلم أيضاً أنهم ملائكة، ولذا {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة، حتى قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ، ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} الآيات4.. ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف. وسليمان عليه السلام، مع أن الله سخر له الشياطين والريح، ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد، وقال له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} الآيات5. ونوح –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم، حتى قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي   1 سورة الأنعام، الآية [50] . 2 سورة النور، الآية [26] . 3 سورة هود، الآية [70] . 4 سورة هود، الآيتان [80-81] . 5 سورة النمل، الآيات [22-28] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقّ} الآية1، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله تعالى بقوله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 2. وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 3. والملائكة عليهم الصلاة والسلام لما قال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 4"5. ثم عقب -رحمه الله- على هذه الأمثلة بقوله: "فقد ظهر أن أعلم المخلوقات –وهم الرسل-، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء؛ كما أشار له بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} 6، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداًإِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول} 7"8. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "وقد أطلع الله جلّ وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم, على أمور كثيرة من المغيبات، حتى إنه قام ذات يوم يخطب في قومه من بعد صلاة الفجر حتى الظهر، ثم صلى الظهر وقام   1 سورة هود، الآية [45] . 2 سورة هود، الآية [46] . 3 سورة هود، الآية [31] . 4 سورة البقرة، الآيتان [31-32] . 5 أضواء البيان 2/195-196. 6 سورة آل عمران، الآية [179] . 7 سورة الجن، الآيتان [26-27] . 8 أضواء البيان 2/196-197. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 يخطب فيهم حتى صلى العصر، ثم قام يخطب حتى صلى المغرب، وذكر أموراً كثيرة هائلة في ذلك اليوم، حفظها من حفظ، ونسيها من نسي1. وقد أخبر الله جلّ وعلا أنه هو المختص بعلم الغيب، حيث نفاه عن كلّ أحد سواه، وأثبته لنفسه، كما قال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 2"3. وقد سئل -رحمه الله-: أيجوز إطلاق علم الغيب على أحد من الرسل الذين أطلعهم الله على بعض المغيبات، كما يطلق على الذي يعلم مسائل الفقه أنه فقيه، أم لايجوز ذلك؟. فأجاب -رحمه الله- على هذا السؤال إجابة مفصلة قال فيها: "إن ذلك لايجوز أبداً؛ لأن علم الغيب صفة مختصة بالله تعالى، وقد نفاها عن كل خلقه. وكونه يطلع بعض خلقه على بعض الغيب لا يقتضي أن يوصفوا بما وصف به، وليس هذا من تعظيم الرسل كما يزعم بعضهم، بل إن تعظيم الرسل في نفي علم الغيب عنهم؛ لأنهم هم الذين أخبرونا أن علم الغيب مختص بالله تعالى، وأنهم لا يعلمون إلا ما علمهم به هو. وفرق بعيد بين ما ذكر من كون من يعلم بعض المسائل الفقهية يطلق عليه أنه فقيه، وبين من أطلعه الله على بعض الغيب؛ فإن الأول علم مسائل الفقه بملكة راسخة فيه يستطيع بها أن يصل إلى علم المسائل باستمرار. أما الثاني فلا طريق له إلى الوصول إلى علم الغيب فيه إلا ما أخبره الله به. وهذا آخر الرسل وأفضلهم؛ نبينا صلى الله عليه وسلم, يقول الله تعالى عنه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ   1 انظر صحيح مسلم 4/2217. 2 سورة النمل، الآية [65] . 3 معارج الصعود، ص102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. والله جلّ وعلا يخاطب خلقه بقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} 2: فهل فطن الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم كل المغيبات لهذه الآيات وأمثالها مما يصعب حصره، ثم هو صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في آخر حياته يقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" 3. وقد سبق أن الله تعالى أطلعه على كثير من المغيبات، ومما أخبر به ووقع ما جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتتركن القلاص4 فلا يسعى عليها "5. ومن أكثر الناس حفظاً ورواية لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من المغيبات: حذيفة وأبو هريرة رضي الله عنهما" 6.   1 سورة الأعراف، الآية [188] . 2 سورة الإسراء، الآية [85] . 3 أخرجه البخاري في صحيحه 8/128. ومسلم في صحيحه 2/879، من حديث عائشة رضي الله عنها. 4 القلوص من النوق: الشابة. وهي من النوق بمنزلة الجارية من النساء. وجمعها قُلُص –بضمتين-، وقلائص. وجمع القبص: قلاص. (مختار الصحاح للرازي، ص548) . 5 أخرجه مسلم في صحيحه 1/136، من حديث أبي هريرة، وقد ذكره الشيخ الأمين -رحمه الله- بالمعنى، وليس فيه: والذي نفسي بيده. 6 معارج الصعود، ص103-104. وانظر: المصدر نفسه، ص112. وأضواء البيان 2/340. ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/302. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 المطلب الثالث: عصمة الأنبياء الله سبحانه وتعالى اصطفى لرسالته وتبليغها أفضل خلقه، وأكملهم خِلقاً وخُلقاً، وعصمهم من الزلات والخطايا، وبرأهم من كل عيب مَشين، حتى يؤدوا أمانة الوحي إلى أممهم. والأنبياء هم قدوة البشر، وطرق الهدى، ومصابيح الدجى، فهم الهداة الذين أمرنا الله بالاقتداء بهم، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} 1، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2. وقد أوضح الشيخ الأمين –رحمه الله- هذه المسألة، وأبان التفصيل فيها مبيناً الإجماع على القول بعصمتهم في التبليغ، وذاكراً الخلاف في عصمتهم من الصغائر، ومؤكداً أن الصغائر إذا صدرت منهم فإنهم سرعان ما يتوبون إلى الله وينيبون إليه، فتكون كأن لم تكن، وينالون بذلك منزلة أعلى من منزلتهم السابقة، فقال -رحمه الله-: "واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ. واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافاً مشهوراً معروفاً في الأصول. ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله   1 سورة الأنبياء، الآية [73] . 2 سورة الأنعام، الآية [90] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 حتى يبلغوا درجة أعلى من درجة من لم يقع منه ذلك، كما قال هنا: {وعصى آدم ربه فغوى} ، ثم أتبع ذلك بقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 1"2. وقال -رحمه الله- في موضع آخر بعد أن ذكر أقوال العلماء في عصمة الأنبياء: "الذي يظهر لنا أن الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم- لم يقع منهم ما يزري بمراتبهم العلية ومناصبهم السامية، ولا يستوجب خطأ منهم ولا نقصاً فيهم صلوات الله وسلامه عليهم. ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب فإنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة والإخلاص وصدق الإنابة إلى الله، حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات، فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئاً من ذلك. ومما يوضح هذا قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 3فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه واجتبائه، أي اصطفائه إياه وهدايته له. ولاشك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قل ارتكاب تلك الزلة. والعلم عند الله تعالى"4. وقول الشيخ الأمين –رحمه الله- مطابق تمام المطابقة لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، الذي قال: "الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه..–إلى أن قال رحمه الله-:   1 سورة طه، الآيتان [121-122] . 2 أضواء البيان 4/522-523. 3 سورة طه، الآيتان [121-122] . 4 أضواء البيان 4/538. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع..والقول الذي عليه جمهور الناس –وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف- إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقاً"1.   1 فتاوى شيخ الإسلام 10/289-293. وانظر المصدر نفسه 4/319-320، 15/147-148. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 المطلب الرابع: أولو العزم من الرسل أشار الشيخ الأمين –رحمه الله- إلى أن أولي العزم من الرسل خمسة، هم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} 1. ولم يرتض -رحمه الله- قول من قال: إنهم جميع الرسل، بل قال عند تفسير قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 2: "اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافاً كثيراً، وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة، وهم الذين قدمنا ذكرهم في الأحزاب، والشورى؛ وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا أربعة، فصار هو صلى الله عليه وسلم خامسهم. واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن لفظة "من" في قوله: {مِنَ الرُّسُلِ} بيانية3يظهر أنه خلاف التحقيق، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية: كقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} الآية4، فأمر الله جل وعلا نبيه في آية القلم هذه بالصبر، ونهاه عن أن يكون مثل يونس؛   1 سورة الأحزاب، الآية [7] . 2 سورة الأحقاف، الآية [35] . 3 انظر: لوامع الأنوار البهية 2/299، فقد ذكر اختلاف العلماء في تحديد أولي العزم من الرسل، ونقل عن ابن زيد قوله: إنهم جميع الرسل. 4 سورة القلم، الآية [48] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 لأنه هو صاحب الحوت. وكقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} 1. فآية القلم، وآية طه المذكورتان، كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل، والعلم عند الله تعالى"2. وما قرره الشيخ الأمين –رحمه الله- هو المشهور عند العلماء. قال السفاريني3-رحمه الله-: "أهل العزم: أي أهل الثبات والجد من الرسل، وهم على المشهور: إبراهيم الخليل، وموسى الكليم، وعيسى الروح، ونوح النجي، فيكونون خمسة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} 4، فإنهم أصحاب الشرائع، وقدم نبينا صلى الله عليه وسلم تعظيماً له، وتكريماً لشأنه. وهؤلاء الذين اجتهدوا في تأسيس الشرائع وتقريرها، وصبروا على تحمل المشاق من قومهم، ومعاداة الطاغين فيها"5.   1 سورة طه، الآية [115] . 2 أضواء البيان 7/408. وانظر المصدر نفسه 4/523، 6/572. 3 تقدمت ترجمته. 4 سورة الأحزاب، الآية [7] . 5 لوامع الأنوار البهية 2/299. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 المطلب الخامس: هل آدم رسول أم نبي؟ وردت في القرآن أدلة تشعر بأن آدم عليه السلام هو أول الرسل، مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً} 1. وقوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} 2، وقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} 3. قال الإمام الطبري4-رحمه الله- في تفسيره: "لأن آدم كان هو النبي صلى الله عليه وسلم أيام حياته بعد أن أهبط إلى الأرض والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنياً –وهو الرسول- صلى الله عليه وسلم بقوله: "فإما يأتينكم مني هدى" خطاباً له ولزوجته: فإما يأتينكم مني هدى، أنبياء ورسل إلا على ما وصفت من التأويل"5. وقال القرطبي6-رحمه الله-: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مرسل هو؟ فقال: "نعم، نبي مكلم" 7، قال ابن عطية8:   1 سورة النحل، الآية [36] . 2 سورة طه، الآية [122] . 3 سورة البقرة، الآية [38] . 4 تقدمت ترجمته. 5 جامع البيان 1/247. 6 تقدمت ترجمته. 7 أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة، ولفظه: أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم، مكلم". (الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان 8/24) . 8 هو العلامة أبومحمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الأندلسي. كان إماماً في الفقه والتفسير واللغة العربية. ولد سنة [480هـ] ، وتوفي سنة [541هـ] . (انظر: سير أعلام النبلاء 19/586. والأعلام 3/282 إلا أنه ذكر أنه ولد سنة [481هـ] ، وتوفي سنة [542هـ] ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه. ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية1؛ أي على الدين الحنيف، أي حتى كفر قوم نوح. وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} الآية2، والله أعلم."3. وهذا جمع حسن، وفق الشيخ -رحمه الله- من خلاله بين أدلة الفريقين، ولم يرجح قول أحدهما على الآخر. وللشيخ حافظ حكمي4-رحمه الله- كلام مماثل للوجه الأخير من كلام الشيخ الأمين –رحمه الله-، قال فيه: "إن نوحاً أول الرسل والنبيين بعد الاختلاف، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 5؛ لأن أمته أول من اختلف وغير وبدل، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} 6، وإلا فآدم قبله كان نبياً رسولاً، وكان الناس أمة واحدة على دينه"7.   1 سورة يونس، الآية [19] . 2 سورة البقرة، الآية [213] . 3 أضواء البيان (1/286) . 4 هو العلامة حافظ بن أحمد بن علي الحكمي. إمام وعالم سلفي. ولد سنة [1342?] بقرية السلام بالقرب من جيزان. كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم. توفي سنة [1377?] . (انظر: الأعلام 2/159. والمستدرك على معجم المؤلفين، ص 183) . 5 سورة النساء، الآية [163] . . 6 سورة غافر، الآية [5] . 7 معارج القبول 2/98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 المطلب الخامس: هل آدم رسول أم نبي؟ ... "وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى"1. وفي المقابل وردت أدلة تثبت أن آدم عليه السلام لم يكن رسولاً، منها: قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض" 3، وقوله صلى الله عليه وسل: " أول نبي أرسل نوح" 4. وقد جمع الشيخ الأمين –رحمه الله- بين هذين القولين؛ فقال -رحمه الله-: "والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين؛ الأول: أن آدم أرسل لزوجه وذريته في الجنة، ونوح أول رسولٍ أُرْسِلَ في الأرض. ويدل لهذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ويقول: "ولكن ائتوا نوحاً؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" الحديث5، فقوله: "إلى أهل الأرض" لو لم يرد به الاحتزاز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشواً، بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا، ويستأنس له بكلام ابن عطية6"7. ثم ذكر -رحمه الله- الوجه الثاني، فقال: "إن آدم أرسل إلى ذريته وهم   1 الجامع لأحكام القرآن 3/172. 2 سورة البقرة، الآية [213] . 3 انظر صحيح مسلم 1/184-185. 4 رواه الديلمي في مسنده، وضعف الألباني إسناده، وقال: "لكن الحديث صحيح؛ فإن له شاهداً قويا عن أبي هريرة مرفوعاً". (انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/280) . 5 أخرجه البخاري في الصحيح 8/172. ومسلم في الصحيح 1/184. 6 انظر الجامع لأحكام القرآن 3/172. 7 أضواء البيان 1/286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 المبحث الثاني: حقيقة الخضر المطلب الأول: هل الخضر نبي أو ولي؟ ... المبحث الثاني: حقيقة الخضر تمهيد: الخضر هو صاحب موسى عليه السلام الذي ورد ذكره في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} 1. وورد ذكره في السنة، في قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا الخضر.." الحديث2. وقد غلت الصوفية في قصة الخضر، وجعلت منها مصدراً للوحي والإلهام والعقائد والتشريع: "فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه ولي وليس بنبي، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها؛ فكما أن الخضر –وهو ولي فقط في زعمهم- كان أعلم من موسى، فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمداً عالم بالشريعة الظاهرة فقط، والولي عالم بالحقيقة   1 سورة الكهف، الآية [65] . 2 أخرجه البخاري في صحيحه 4/126. ومسلم في صحيحه 4/1852. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة. وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق، ويأخذ لهم العهود الصوفية، وأن الحقائق الصوفية تختلف عن الحقيقة المحمدية، ولذلك فلكل ولي شريعته المستقلة، فما يكون معصية في الشريعة؛ كشرب الخمر والزنا واللواط قد يكون حقيقة صوفية وقربة إلى الله حسب العلم الباطني. وكذلك في أمر العقائد ومسائل الإيمان فلكل وليّ كشفه الخاص، وعلمه الخاص اللدني الذي قد يختلف مع الوحي النبوي"1. وقد بين العلماء2 في القديم والحديث حقيقة الخضر، وردوا على هذه المزاعم التي يزعمها الزنادقة، ومن تلاعب بهم الشياطين والهوى. ومن هؤلاء العلماء: الشيخ الأمين -رحمه الله- الذي تحدث عن أهم الأمور التي تكتنف حياة الخضر، من الخلاف في حياته ونبوته؛ حيث ناقش أدلة القائلين بحياته وعدم نبوته مناقشة دقيقة بالحجج الواضحة، والأدلة الصريحة. ورد ما ينسج حوله من قصص خيالية وروايات موضوعة. وكذا رد على من جوز العمل بالإلهام، وعلى من قال: إن الولي يسعه الخروج عن الوحي المحمدي كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى. وقد وصف الشيخ الأمين -رحمه الله- هذا الصنيع بأنه زندقة.   1 الفكر الصوفي ص133. 2 فمن هؤلاء ابن الجوزي الذي ألف فيه كتاباً سمي (عجلة المنتظر في شرح حالة الخضر) ، والحافظ ابن حجر أفرده بكتاب سماه (الزهر النضر في نبأ الخضر) . وذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) ، وابن القيم في (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 المطلب الأول: هل الخضر نبي أو ولي؟ قال الشيخ الأمين -رحمه الله-: "العلماء مختلفون في الخضر: هل هو نبي، أو رسول، أو ولي؟ كما قال الراجز: واختلف في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول وقيل: ملك"1. ثم رجح -رحمه الله- نبوته عليه السلام، ونصر هذا القول، واستدل له وفق طريقته في تفسير القرآن بالقرآن؛ فقال -رحمه الله-: "يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوية، وأن هذا العلم اللدني علم وحي، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء. اعلم أولاً: أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي. فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في الزخرف: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الآية2؛ أي نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين. وقوله تعالى في سورة الدخان: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} الآية3. وقوله تعالى في آخر القصص: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية4.   1 أضواء البيان 4/158. وانظر: شرح النووي على مسلم 15/136. 2 سورة الزخرف، الآيتان [31-32] . 3 سورة الدخان، الآيتان [4-5] . 4 سورة القصص، الآية [86] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} 1، وقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} الآية2، إلى غير ذلك من الآيات"3. ثم تابع -رحمه الله- ذكر أدلته في نصرة هذا القول، فقال: "ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها. والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لايستلزم وجود الأخص كما هو معروف. ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي، قوله تعالى عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} 4؛ أي وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولاسيما قتل الأنفس البرئية في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لايصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى. وقد حصر تعالى طريق الإنذار في الوحي في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} 5، و (إنما) صيغة حصر"6. وقد ساق -رحمه الله- أدلة أخرى في تحقيق نبوة الخضر، أبرزها بقوله:   1 سورة النساء، الآية [113] . 2 سورة يوسف، الآية [68] . 3 أضواء البيان 4/158. 4 سورة الكهف، الآية [82] . 5 سورة الأنبياء، الآية [45] . 6 أضواء البيان 4/158-159. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 "ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 1، وقوله: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} 2، مع قول الخضر له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ... "3 4. وبعد أن أيد -رحمه الله- القول بنبوة الخضر عليه السلام بالأدلة الواضحة، تطرق إلى مسألة خطيرة لها مؤيدوها وتابعوها، ألا وهي مسألة كون الولي يجوز له الخروج عن الطريقة المحمدية بطريقة الإلهام، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليهما السلام –بزعمهم-. وقد ناقش الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه المسألة مناقشة علمية رصينة، مبيناً تهافت هذه المسألة وسقوط أدلتها، وقد وصفها بأنها مؤامرة خطيرة للانخلاع من دين الإسلام، وفتح باب الشر، وتبرير عمل الزنادقة. وقد بدأ الشيخ الأمين -رحمه الله- مناقشته لأصحاب هذا المبدأ الهدام بطرح سؤال على ألسنة أصحاب هذا القول؛ فحواه أن علم الخضر كان عن طريق الإلهام، وأجاب عليه -رحمه الله- بقوله: "فالجواب: أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل ولوجود الدليل على عدم الاستدلال به. وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم وغيره، جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مستدلين بظاهر قوله   1 سورة الكهف، الآية [66] . 2 سورة الكهف، الآية [69] . 3 سورة الكهف، الآية [86] . 4 أضواء البيان 4/162، وممن قال بنبوته: الإمام القرطبي، (انظر: الجامع لأحكام القرآن 11/12-15) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 1، وبخبر: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "2كله باطل لا يعول عليه لعدم اعتضاده بدليل، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان. وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهمات. والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه. أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم؛ لأنهم معصومون بخلاف غيرهم. قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال3: وينبذالإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفاء وبالجملة: فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة، فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 4، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاماً. وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 5، وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا   1 سورة الأنعام، الآية [125] . 2 أخرجه الترمذي 5/298، رقم 3127. وقال الشيخ الألباني: ضعيف. (انظر: الأحاديث الضعيفة 4/299، رقم 1821) . 3 انظر شرح مراقي السعود على أصول الفقه ص288. 4 سورة الإسراء، الآية [15] . 5 سورة النساء، الآية [165] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِك} الآية1. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً ... وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله، ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى –زندقة وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره"2. وهكذا يتضح موقف الشيخ الأمين -رحمه الله- من هذه المسألة الخطيرة؛ حيث حشد الأدلة الكثيرة الدالة على نبوة الخضر عليه السلام، وتعقب ما أثاره المتصوفة من الضلالات والانحرافات بالهدم وبين بالحجة تهافت أدلتهم، وما استغلوه من الحكايات والروايات الضعيفة والموضوعة في إثبات حجتهم المفضية إلى التزندق والخروج من ملة الإسلام. فمشاركة الشيخ الأمين -رحمه الله- لعلماء الأمة مشاركة بارزة، تدل على رسوخ موقفه في الذود عن حياض العقيدة الصافية، وهكذا كان رأي العلماء المخلصين؛ منهم الحافظ ابن حجر3 -رحمه الله- الذي قال: "وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزنادقة4 اعتقاد كون الخضر نبياً؛   1 سورة طه، الآية [134] . 2 أضواء البيان 4/151-160. 3 هو الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المصري. من كبار المحدثين، وصاحب التصانيف الكثيرة المشهورة، منها فتح الباري شرح صحيح البخاري. وتوفي سنة (852?) . (انظر: شذرات الذهب 7/270) . 4 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لفظ الزنادقة لا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما لا يوجد في القرآن. وهو لفظ أعجمي معرب من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام. وقد تكلم به السلف والأئمة في توبة الزنديق ونحو ذلك. والزنديق الذي تكلم الفقهاء في قبول توبته –في الظاهر المراد به عندهم- المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإن كان من ذلك يصلي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن، وسواء كان في باطنه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً أو وثنياً، وسواء كان معطلاً للصانع وللنبوة، أو للنبوة فقط، أو لنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم فقط: فهذا زنديق، وهو منافق. وما في القرآن والسنة من ذكر المنافقين يتناول مثل هذا بإجماع المسلمين". (نقلاً عن لوامع الأنوار البهية 1/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي، إلا أن الولي أفضل من النبي، كما قال قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي "1. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمة تتعلق بمسألتنا هذه، قال فيها -رحمه الله-: "فلفظ الشرع والشريعة إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، فلم يتابعه باطناً وظاهراً فهو كافر. ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطاً من وجهين، أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين، الجن والأنس، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى، وجب عليهم اتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبياً أو ولياً. ولهذا قال الخضر لموسى: "أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه"2، وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا. الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك، فلما بينها له وافقه على ذلك"3.   1 الزهر النضر في نبأ الخضر، لابن حجر ص27. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 10/204: أن البيت المذكور لابن عربي، وفي لطائف الأسرار لابن عربي ص46، ط دار الفكر العربي، 1380?.ونصه: سماء النبوة في برزخ دوين الولي وفوق الرسول وانظر الفتوحات الكلية 2/352 بألفاظ مغايرة. 2 رواه البخاري في الصحيح 4/128. ومسلم في الصحيح 4/1847. 3 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص141-142، وانظر: الفتاوى 2/232-234، 11/425. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: "وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق فهو ملحد زنديق؛ فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته، ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم. ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد. فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق؛ فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان. وهذا الموضوع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة"1. وبهذا يتبين دقة فهم الشيخ الأمين -رحمه الله- لعقيدة السلف –رحمهم الله-؛ إذ من قرأ كلماته، وقرأ كلام السلف -رحمهم الله- أدرك مدى التوافق والتطابق بين منهج الشيخ -رحمه الله- ومنهجهم، وهذا يدل على أنهم يردون مورداً واحداً، ويصدرون عن المورد نفسه.   1 شرح العقيدة الطحاوية ص577. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 المطلب الثاني: هل الخضر حيّ أم ميت؟ تعرض الشيخ الأمين -رحمه الله- لهذه المسألة، وأطال فيها النفس جداً، وأكثر من الكلام فيها1؛ فذكر اختلاف العلماء في وفاته، ثم سرد أدلة من قال بأنه حيّ، وناقش أدلتهم، ورد عليها، ورجح -رحمه الله- وفاته بعدة براهين وحجج قوية؛ فقال -رحمه الله-: "اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر: هل هو حي إلى الآن، أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حيّ، وأنه شرب من عين تسمى عين الحياة. وممن نصر القول بحياته: القرطبي، في تفسيره2، والنووي في شرح مسلم3وغيره، وابن الصلاح4، والنقاش5، وغيرهم. قال ابن عطية: وأطنب النقاش في هذا المعنى؛ يعني حياة الخضر وبقاءه إلى يوم القيامة، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره6"7.   1 كتب عن هذه المسألة ما لايقل عن ست عشرة صفحة من تفسيره. 2 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/29. 3 انظر شرح النووي على مسلم 15/135. 4 هو الحافظ تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي. من أشهر مؤلفاته كتابه في علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح. ولد سنة (577) ، وتوفي سنة (643هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 23/140. والبداية والنهاية 13/179. 5 هو الحافظ محمد بن علي بن عمر بن مهدي الأصبهاني الخليلي أبو سعيد النقاش. محدث حافظ، توفي سنة (414هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 17/307. وشذرات الذهب 3/201) . 6 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/29. 7 أضواء البيان 4/163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 ثم ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أن أقوى ما يستند عليه من قال بحياته، ما ذكره ابن عبد البر في التمهيد عن علي رضي الله عنه، قال: "لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب، هتف هاتف..إلخ"1، فذكر الحديث في تعزية الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم, فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام2. وقد رد الشيخ -رحمه الله- هذا الأثر من وجهين؛ فقال: " الأول: أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح؛ قال ابن كثير في تفسيره: وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن، ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم. وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك. وأشهرها حديث التعزية، وإسناده ضعيف. ا.?3. الثاني: أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح، لا يلزم من ذلك عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً، أن يكون ذلك المعزي هو الخضر، بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن؛ لأن الجن هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} 4. ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بلا دليل. وقولهم: كانوا يرون أنه الخضر- ليس حجة يجب الرجوع إليها؛ لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على إجماع شرعي معصوم، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى"5. ثم رجح -رحمه الله- موت الخضر عليه السلام مؤيداً ذلك بعدة أدلة؛   1 التمهيد لابن عبد البر 2/162. ولم يسنده، ولم يذكر الخضر. 2 انظر أضواء البيان 4/163. 3 تفسير ابن كثير 3/99. وانظر كلام أبي الخطاب بن دحية عن هذا الأثر ص410 من هذا البحث. 4 سورة الأعراف، الآية [27] . 5 أضواء البيان 4/164. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 فقال -رحمه الله-: "الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسالة أن الخضر ليس بحيّ، بل توفي، وذلك لعدة أدلة: الأول: ظاهر عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 1؛ فقوله: {لِبَشَرٍ} نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل البشر، فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله، والخضر بشر من قبله، فلو كان شرب من عين الحياة وصار خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" 2.. أي: لا تقع عبادة لك في الأرض. فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حياً في الأرض؛ لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإن الله يعبد في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض ... الثالث: إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة. فلو كان الخضر حياً في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة"3. ثم ساق الشيخ الأمين -رحمه الله- عدة روايات لهذا الحديث؛ منها ما رواه ابن عمر: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لايبقى ممن هو على ظهرها أحد" 4، ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري: "لا تأتي مائة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم" 5.   1 سورة الأنبياء، الآية [34] . 2 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1384. 3 أضواء البيان 4/164-166. 4 أخرجه مسلم 4/1965. 5 أخرجه مسلم 4/1967. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 ثم ذكر -رحمه الله- المرجح الرابع والأخير الدال على وفاة الخضر عليه السلام وعدم بقائه، فقال: "الرابع: أن الخضر لو كان حياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه؛ لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن. والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 2، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3. ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة آل عمران أنه أخذ على جميع النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 4. وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا صلى الله عليه وسلم, كما قال ابن عباس وغيره فالأمر واضح على أنها عامة، فهو صلى الله عليه وسلم يدخل في عمومها دخولاً أولياً. فلو كان الخضر حياً في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته. ومما يوضح أنه لايدركه نبيّ   1 سورة الأعراف، الآية [158] . 2 سورة الفرقان، الآية [1] . 3 سورة سبأ، الآية [28] . 4 سورة آل عمران، الآيتان [81-82] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 إلا اتبعه ما رواه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة1، والبزار2من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال: " لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني "3ا.?. قال ابن حجر في الفتح: "ورجاله موثقون، إلا أن في مجالد ضعفاً4"5. وقد أورد الشيخ الأمين -رحمه الله- كلاماً للقرطبي في إسقاط ونقض أدلة من قال بوفاة الخضر، ونصر القول بحياته، وذكر وجهة نظره وناقشها مناقشة دقيقة أجاب فيها على إشكالاته، ورد عليه فيها؛ فقال -رحمه الله-: "واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنها تدل على وفاته فزعموا أنه لا يشمله عموم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} 6، ولا عموم حديث: " أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظاهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم "7كما تقدم"8.   1 هو الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن القاضي ابن شيبة؛ إبراهيم بن عثمان العبسي. سيد الحفاظ. صنف المسند والمصنف والتفسير. (انظر: سير أعلام النبلاء 11/122. والبداية والنهاية 10/328) . 2 هو الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري البزار. صاحب المسند الكبير. من كبار الحفاظ. ولد بعد سنة (210) . ومات بالرملة سنة (292?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 13/554. وشذرات الذهب 2/209) . 3 مسند الإمام أحمد 3/387، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه. 4 فتح الباري 13/345. 5 أضواء البيان 4/168-169. 6 سورة الأنبياء، الآية [34] . 7 سبق تخريجه؟؟. 8 أضواء البيان 4/171-172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ثم ذكر -رحمه الله- دعوى القرطبي ومناقشته لأدلة من قال بوفاته بنصها: "قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره، -رحمه الله-: ولا حجة لمن استدل به؛ يعني الحديث المذكور على بطلان قول من يقول: إن الخضر حيّ لعموم قوله: "ما من نفس منفوسة.." 1؛ لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصاً فيه، بل هو قابل للتخصيص، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل، بل هو حي بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حيّ بدليل حديث الجساسة2، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام، وليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقيل: إن أصحاب الكهف أحياء ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا. ا.? منه3"4. ثم أجاب -رحمه الله- عن هذه الإشكالات وتتبعها، ووصفها بالسقوط، فقال: "كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع، فإنه اعترف بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عام في كل نفس منفوسة عموماً مؤكداً؛ لأن زيادة (من) قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصاً صريحاً في العموم لا ظاهراً فيه كما هو مقرر في الأصول ... ولو فرضنا صحة ما قاله القرطبي -رحمه الله تعالى- من أن ظاهر العموم لانص فيه، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام، فإن العلماء يجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سنداً ومتناً. فالدعوى المجردة عن دليل   1 سبق تخريجه؟ قبل ثلاث صفحات. 2 أخرجه مسلم 4/2261. 3 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/29. 4 أضواء البيان 4/172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعاً. وقوله: "إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث" فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناول عيسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم, قال فيه: "لم يبق على ظهر الأرض، ممن هو بها اليوم أحد "1فخصص ذلك بظهر الأرض، فلم يتناول اللفظ من في السماء، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 2، وهذا واضح كما ترى، ودعوى حياة أصحاب الكهف، وفتى موسى ظاهرة السقوط، ولو فرضنا حياتهم، فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم، ولم يثبت شيء يعارضه. وقوله: "إن الخضر ليس مشاهداً للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضاً"، يقال فيه: إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين: الأولى: أن دعوى كون الخضر محجوباً عن أعين الناس كالجن والملائكة دعوى لا دليل عليها، والأصل خلافها؛ لأن الأصل أن بني آدم يري بعضهم بعضاً لاتفاقهم في الصفات النفسية ومشابهتهم فيما بينهم. الثانية: أنا لو فرضنا أنه لايراه بنو آدم، فالله الذي أعلم النبي بالغيب الذي هو: "هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة" عالم بالخضر، وبأنه نفس منفوسة. ولو سلمنا جدلاً أنه فرد نادر لا تراه العيون، وأن مثله لم يقصد بالشمول في العموم؛ فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد الغير مقصود، خلافاً لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق"3.   1 سبق تخريجه. 2 سورة النساء، الآية [157] . 3 أضواء البيان 4/172-173. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 ثم ذكر -رحمه الله- أقوال الأصوليين تأييداً لما ذهب إليه، ثم قال: "وما ذكره القرطبي في خروج الدجال من تلك العمومات –بدليل حديث الجساسة- لا دليل فيه؛ لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس، رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنه حدثه تميم الداري1، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور؛ لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال.."2. ثم ساق -رحمه الله- الحديث بطوله3. وقد عقب على ذلك بقوله: "فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حيّ موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري المذكور، وأنه باق، وهو حيّ حتى يخرج في آخر الزمان. وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه؛ فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدل على إخراجها دليل ... وهو الحق ومذهب الجمهور. وغالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص، ويبقى العام حجة في الباقي"4. ثم ختم الشيخ -رحمه الله- في هذا المبحث بقوله: "وبهذا يتبين أن   1 هو تميم بن أوس بن خارجة بن سود بن جذيمة اللخمي الداري. صحابي قيل: إنه توفي سنة (60هـ) . (انظر: الاستيعاب 1/184. والإصابة 1/183-184) . 2 أضواء البيان 4/175-176. 3 سبق تخريجه؟؟. 4 أضواء البيان 4/176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة، ونفي الخلد عن كل بشر تتناول بظواهرها الخضر ولم يخرج منها نص صالح للتخصيص كما رأيت. والعلم عند الله"1. وبذلك أشبع الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه المسألة بحثاً وتحقيقاً وأماط اللثام عن جوانبها، وأسقط -رحمه الله- ما ذهب إليه القرطبي وغيره من القول بحياة الخضر عليه السلام، وناقشه مناقشة جيدة. ويجدر بنا أن نورد بعض أقوال الأئمة الذين حققوا وفاته عليه السلام، ولم يتقبلوا القصص والروايات التي تشير إلى حياته وبقائه في هذه الدنيا: فمنهم العلامة أبو الخطاب بن دحية2الذي قال: ".. ولاثبت اجتماع الخضر مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى، كما قص الله تعالى من خبرهما. وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل، وإنما يذكر ذلك من يروي الخبر ولا يذكر علته؛ إما لكونه لا يعرفها، وإما لوضوحها عند أهل الحديث. وأما ما جاء عن المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شخصاً لا يعرفه، فيقول له: أنا فلان، فيصدقه. وأما حديث التعزية الذي ذكره أبو عمر: فهو موضوع"3. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الخضر وإلياس، وهل هما معمران؟ فأجاب: "إنهما ليسا في الأحياء، ولا معمران. وقد سأل إبراهيم الحربي4أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان   1 المصدر نفسه 4/177. 2 هو العلامة مجد الدين أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن الجُميَل بن دحية بن خليفة الكلبي. توفي سنة (633هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 22/389. وشذرات الذهب 5/160) . 3 الزهر النضر في نبأ الخضر ص42-43. 4 هو الإمام إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن إسحاق الحربي. كان إماماً في العلم، رأساً في الزهد. ولد سنة (198هـ) ، وتوفي (285هـ) . (انظر: سير أعلام النبلاء 13/356. وشذرات الذهب 2/190) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 يُريان، ويروى عنهما فقال الإمام أحمد: من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا الشيطان وسئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد "1، وقال أبو الفرج ابن الجوزي2: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} 3، وليس هما في الأحياء. والله أعلم"4. وقال الحافظ ابن حجر، -رحمه الله-: "وأقوى الأدلة على عدم بقائه عدم مجيئه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم, وانفراده بالتعمير من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي"5. وبهذا يتضح لنا صحة ما ذهب إليه الشيخ الأمين -رحمه الله-، ويتبين أن قوله هو القول الذي ذهب إليه أهل التحقيق من أهل العلم، وأن قول من قال ببقاء الخضر حياً وخلوده قول متهافت لا دليل عليه. والله أعلم.   1 سبق تخريجه. 2 هو العلامة الواعظ عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد البكري البغدادي، المعروف بابن الجوزي. ولد سنة (510هـ) . وتوفي سنة (597هـ) . (انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 1/399. وشذرات الذهب 4/329) . 3 سورة الأنبياء، الآية [34] . 4 الفتاوى 4/337. 5 الزهر النضر في نبأ الخضر، ص115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 المبحث الثالث: الإيمان بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمطلب الأول: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ... المبحث الثالث: الإيمان بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تمهيد: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإيمان فلا يحصل الإيمان إلا بطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، واحترامه، والاعتقاد بأنه رسول الله إلى الناس كافة، وأنه أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأنه خليل الرحمن، وصاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود والحوض المورود، وأن طاعته من طاعة الله، ومحبته من محبة الله، وأنه مقدم على النفس والأهل والولد؛ قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. يقول الشيخ الأمين -رحمه الله-: "إن جميع حسنات هذه الأمة في صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم, فله مثل أجور جميعهم؛ لأنه صلوات الله عليه وسلامه هو الذي سن لهم السنن الحسنة جميعها في الإسلام، نرجو الله له الدرجة الرفيعة، وأن يصلي ويسلم عليه أتم صلاة وأزكى سلام"3. وقد اهتم -رحمه الله- ببيان هذا الأصل العظيم في مواضع من مؤلفاته فأشار إلى عموم رسالته، ومحبته واحترامه، وأشار إلى حياته البرزخية، وذكر شيئاً من معجزاته العظيمة.   1 سورة الحشر، الآية [7] . 2 سورة آل عمران، الآية [31] . 3 أضواء البيان 3/256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 المطلب الأول: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده؛ لذلك فرسالته عالمية للإنس والجن، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي. وقد أكد الشيخ الأمين -رحمه الله- عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وساق الأدلة على ذلك من الكتاب الكريم؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1: "صرح في هذه الآية الكريمة بأنه صلى الله عليه وسلم منذر لكل من بلغه هذا القرآن العظيم كائناً من كان. ويفهم من الآية أن الإنذار به عام لكل من بلغه، وأن كل من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار وهو كذلك، وأما عموم إنذاره لكل من بلغه فقد دلت عليه آيات أخر أيضاً، كقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 2، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} 3، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 4. وأما دخول من لم يؤمن به النار: فقد صرح به تعالى في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 5. وأما من لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فله حكم أهل الفترة الذين لم يأتهم رسول. والله أعلم"6.   1 سورة الأنعام، الآية [19] . 2 سورة الأعراف، الآية [158] . 3 سورة سبأ، الآية [28] . 4 سورة الفرقان، الآية [1] . 5 سورة هود، الآية [17] . 6 أضواء البيان 2/188. وانظر: المصدر نفسه 2/334، 3/104، 6/261، 337، ومعارج الصعود ص74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 المطلب الثاني: احترام الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن الشيخ الأمين -رحمه الله- أن المسلم مطالب باحترام رسول الله صلى الله عليه وسلم, والتأدب معه في المخاطبة بأن لا يرفع الصوت فوق صوته عليه الصلاة والسلام. وبما أنه صلى الله عليه وسلم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، فقد نبه -رحمه الله- إلى أن حرمته في الممات كحرمته في الحياة؛ فلا ترفع الأصوات عند السلام عليه عند قبره؛ إذ هذا من المنكرات التي ينبغي إزالتها. قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 1: "وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم ويحترموه ويوقروه فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض؛ أي ينادون باسمه يا محمد، يا أحمد، كما ينادي بعضهم بعضاً. وإنما أمروا أن يخاطبوه خطاباً يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض؛ كأن يقولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله، ونحو ذلك"2. ثم أكد -رحمه الله- أن هذا الخلق من علامات كمال التقوى، ومن تمسك به فله الأجر الجزيل من الله؛ فقال: "وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغضّ الصوت عنده، لا يكون إلا من الذين امتحن   1 سورة الحجرات، الآية [2] . 2 أضواء البيان 7/615. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 الله قلوبهم للتقوى؛ أي أخلصها لها، وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1"2. وأنكر -رحمه الله- ما يحصل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من رفع الأصوات وعدم السكينة، مبيناً أن احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخفض الأصوات عند السلام عليه يكون في حياته وبعد مماته؛ فقال -رحمه الله-: "ومعلوم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته، وبه تعلم أن ماجرت به العادة اليوم من اجتماع الناس عند قبره صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط، وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز، ولا يليق، وإقرارهم عليه من المنكر3. وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم, وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً4"5. وأنكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أيضاً على من يضع يده اليمنى على اليسرى حال السلام عليه صلى الله عليه وسلم, فقال -رحمه الله-: "فلا ينبغي للمُسَلِّم عليه صلى الله عليه وسلم أن يضع يده اليمنى على اليسرى كهيئة المصلي؛ لأن هيئة الصلاة داخلة في جملتها، فينبغي أن تكون خالصة   1 سورة الحجرات، الآية [3] . 2 أضواء البيان 7/616. 3 وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم -رحمه الله- بقوله: أو لم يقل من قبلكم للرافعي الأصوات حول القبر بالنكران لا ترفعوا الأصوات حرمة عبده ميتاً كحرمته لدى الحيوان (انظر: توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 2/157) . 4 صحيح البخاري، ك الصلاة 1/93. 5 أضواء البيان 7/617. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 لله، كما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيئتها لله وحده"1. فالشيخ -رحمه الله- يحذر المسلمين من هذه المنكرات التي تحدث عند قبره صلى الله عليه وسلم, ويدعوهم إلى احترامه صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل الرعيل الأول رضوان الله عليهم؛ إذ كانوا من أشد الناس موافقة له عليه السلام، ومن أبعد الناس عن مخالفته أو ابتداع ما ليس من دين الله.   1 المصدر نفسه 7/624. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 المطلب الثالث: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم الشيخ الأمين -رحمه الله- ببيان خطورة الغلو في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وخلع بعض صفات الألوهية أو الربوبية عليه. وقد وصف فاعل ذلك بأنه من أعداء الله ورسوله، ومن الكاذبين في ادعائهم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالمقابل نهى عن الاستخفاف برسول الله والاستهزاء به وترك تعظيمه بما هو أهله. وبين أن ذلك كفر مخرج من الملة؛ إذ كلا الطرفين ذميم. وقد أكد الشيخ -رحمه الله- أن الواجب في حقه احترامه عليه السلام بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ووصفه بما يليق به لكونه بشر اختصه الله تعالى بالرسالة؛ فقال -رحمه الله-: "اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه أو تنقصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به أو الاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله. وقد قال تعالى في الذين استهزءّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم, وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1"2. ثم أشار -رحمه الله- إلى الطرف الآخر؛ وهو الغلو فيه صلوات الله وسلامه عليه، فقال: "واعلم أن كل عاقل إذا رأى رجلاً متديناً في زعمه،   1 سورة التوبة، الآية [65] . 2 أضواء البيان 7/617-618. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 مدعياً حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وهو يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويمدحه بأنه هو الذي خلق السموات والأرض، وأنزل الماء من السماء، وأنبت به الحدائق ذات البهجة. وأنه صلى الله عليه وسلم, هو الذي جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً ... فإن ذلك العاقل لايشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله، المتعدين لحدود الله"1. وقد سئل -رحمه الله-: هل العالم كله مخلوق ومرزوق من بركة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب بأن الحكم التي خلق من أجلها العالم ورزق، كلها إلهية ربانية، لا نبوية. ثم ساق البراهين والأدلة من القرآن الكريم، والتي تنص على أن الله خلق الخلق لعبادته ... إلى أن قال -رحمه الله- في آخر الجواب: "وعلى كل حال فسيدنا وسيد الخلائق كلها محمد صلى الله عليه وسلم أعطاه الله جل وعلا من التشريف والتعظيم والتكريم وعلو الشأن في العالم العلوي والسفلي مما هو ثابت في كتاب الله والسنة الصحيحة ما هو في أشد الغنى عن ادعاء تعظيمه بأمور لا أساس لها، ولا مستند لها البتة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم حرفاً منها. فعلى المسلم أن يتثبت ويتحفظ، وألا يقول على نبينا صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا بعد ثبوت صحته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم روى عنه سبعون من أصحابه، أنه قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" 2. وعلى كل حال، فمن المعلوم الواضح أنه لا ينبغي لأحد أن يقول: إن فرعون، وهامان، وقارون، وعاقر ناقة صالح، وأبا جهل، وأمية بن خلف، ونحوهم من أئمة الكفر خلقوا من بركة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم, وكذلك   1 المصدر نفسه 7/624. (وأن ذلك المدح شرك في الربوبية والألوهية معاً) . 2 أخرجه مسلم في صحيحه 1/10، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 سائر المشركين والكفار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خير كله، ولا ينشأ عنه إلا خير محض، كما لا يخفى"1. ثم أرشد -رحمه الله- إلى الواجب على المسلم من معرفة حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم, ومن المحبة الصادقة والتعظيم المطلوب من العباد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل، وأن نعظم ربنا بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وإخلاص العبادة له، وتعظيم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له، والاقتداء به في كل ما جاء به. وألا نخالفه صلى الله عليه وسلم ولا نعصيه، وألا نفعل شيئاً يشعر بعدم التعظيم والاحترام؛ كرفع الأصوات قرب قبره صلى الله عليه وسلم. وقصدنا النصيحة والشفقة لإخواننا المسلمين ليعملوا بكتاب الله، ويعظموا نبيه صلى الله عليه وسلم التعظيم الموافق لما جاء به صلى الله عليه وسلم, ويتركوا ما يسميه الجهلة محبة وتعظيماً، وهو في الحقيقة احتقار وازدراء وانتهاك لحرمات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} "2 3. وقد أوضح -رحمه الله- أن المحبة الصحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي تبعث على الاقتداء بهديه، والاتباع لسنته، وترك ما يخالف سبيله عليه السلام، فقال -رحمه الله-: "إن علامة المحبة الصادقة لله   1 نقلاً عن رسالة مخطوطة صغيرة الحجم، هي عبارة عن جواب لسؤال ورد عليه من أحد أمراء بلاد شنقيط، يسأله: هل الخلق مخلوق ومرزوق ببركة النبي صلى الله عليه وسلم؟. وقد توسع -رحمه الله- في الإجابة عن هذا السؤال، والمخطوطة تقع في إحدى عشرة صفحة. 2 سورة النساء، الآيتان [123-124] . 3 أضواء البيان 7/625. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم. فالذي يخالف ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محباً له لأطاعه. ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر: لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحبّ لمن يحب مطيع "1. فالشيخ الأمين -رحمه الله- يرشد إخوانه المسلمين إلى عدم الإفراط أو التفريط في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم, فلا يعطى صفات الألوهية، ولا ينقص قدره وحقه من الاحترام والمحبة التي من أبرز علاماتها الاتباع لشرعه وترسم خطاه، والسير على هديه عليه الصلاة والسلام.   1 أضواء البيان 1/340. انظر: ديوان الشافعي ص92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 المطلب الرابع: حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في البرزخ أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- ما يتعلق بحياة نبينا صلى الله عليه وسلم, مبيناً أنه وسائر الأنبياء أحياء عند ربهم حياة برزخية هي أكمل وأعلى من حياة الشهداء الذين قال الله فيهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم مخبراً أنه يموت كما يموت البشر: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 2. فحياته صلى الله عليه وسلم في قبره حياة أكمل من حياة الشهداء، لكنها ليست كحياته على وجه الأرض، فهي حياة برزخية لا تزيل عنه اسم الموت، وهي غير معلومة لنا. قال الشيخ الأمين -رحمه الله-، عند تفسير قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية3: "هذه الآية تدل بظاهرها علىأن الشهداء أحياء غيرأموات، وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء؛ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4. والجواب عن هذا: أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية، فتورث أموالهم، وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين. وهذه الموتة هي التي أخبر الله نبيه أنه يموتها، صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق _   1 سورة آل عمران، الآية [169] . 2 سورة الأنبياء، الآية [34] . 3 سورة البقرة، الآية [154] . 4 سورة الزمر، الآية [30] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 رضي الله عنه _ أنه قال، لما توفي صلى الله عليه وسلم: "بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين؛ أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها. وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات"1، واستدل على ذلك بالقرآن، ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرآن، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبتت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه2؛ فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا؛ أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} 3، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فهم يتنعمون بذلك4وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، وأن الله وَكَّلَ ملائكة يبلغون سلام أمته5؛ فإن تلك الحياة أيضاً لايعقل حقيقتها أهل الدنيا؛ لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم, مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء، فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقتها ولا يعلمها الخلق، كما قال في جنس ذلك: {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} 6"7.   1 انظر صحيح البخاري 4/194. 2 انظر سنن أبي داود 2/534. وقال النووي (في رياض الصالحين ص530-531) : "بإسناد صحيح"، وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/291) : "وإسناده حسن". 3 سورة البقرة، الآية [154] . 4 انظر صحيح مسلم 3/1503. 5 أخرجه الدارمي في سننه 2/409. وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/291) : "وإسناده صحيح. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي". 6 سورة البقرة، الآية [154] . 7 دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/29-30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ثم فند بالأدلة والبراهين القوية ما قد يتوهم من أن حياته صلى الله عليه وسلم في قبره كحياته في الدنيا، فقال -رحمه الله-: "ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه: إنه صلى الله عليه وسلم مات، ولما جاز دفنه ولانصب خليفة غيره، ولا قتل عثمان، ولا اختلف أصحابه، ولاجرى على عائشة ما جرى، وليسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده؛ كالعول، وميراث الجد والإخوة، ونحو ذلك. وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى: {بل أحياء} ، وصرح القرآن بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله: {ولكن لا تشعرون} ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده، وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة: عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضاً، ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم؛ فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات، مع أنه يدرك الرؤيا ويعقل المعاني. والله أعلم"1. ثم استشهد -رحمه الله- بكلام ابن القيم، فقال: "قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب الروح، ما نصه: ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طري مطرى، وقد سأله الصحابة: "كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ " فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء "2. ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب. وقد صح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر، وقال: " هكذا نبعث "3، هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى   1 دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب –الملحق بأضواء البيان 10/30-31. 2 أخرجه ابن ماجه 1/345. وأبو داود 1/635، وليس فيه: (أن تأكل) . وقال النووي في (رياض الصالحين ص530) : بإسناد صحيح. 3 أخرجه الإمام أحمد بعدة اسانيد (في فضائل الصحابة 1/105، 164، 202، 395) بلفظ: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وقال: "هكذا نبعث". ومدار الأسانيد على سعيد بن مسلمة الأموي، وهو ضعيف. (انظر تهذيب التهذيب 4/83-84) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 عليين مع أرواح الأنبياء. وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة1؛ فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره، ويرد سلام من يسلم عليه، وهي في الرفيق الأعلى، ولا تنافي بين الأمرين؛ فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان"2. ثم عقب -رحمه الله- بقوله: "وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا، قال تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} 3. والعلم عند الله"4.   1 انظر صحيح مسلم 1/150، 4/1845. 2 الروح ص64. 3 سورة البقرة، الآية [154] . 4 دفع إيهام الاضطراب 10/31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 المبحث الرابع: معجزات الأنبياء المطلب الأول: من معجزات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ... المبحث الرابع: معجزات الأنبياء تمهيد: المعجزة، كما عرفها الإمام السفاريني -رحمه الله-، هي: "ما خرق العادة من قول أو فعل، إذا وافق دعوى الرسالة وقارنها وطابقها على جهة التحدي ابتداء، بحيث لايقدر أحد عليها ولا على مثلها ولا على ما يقاربها"1. فالله سبحانه وتعالى أيد أنبياءه بالآيات الدالة على صدقهم فيما جاءُوا به من عند ربهم. يقول الشيخ الأمين -رحمه الله-: "وما أرسل الله من رسول إلا مصحوباً بالمعجزات التي تصدقه وتؤيده. وقد بين ذلك الصادق المصدوق بقوله، صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله به إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً "2، وهو صريح أنه ما أرسل الله رسولاً إلا أيده بما يدل على صدقه، كما قال تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} 3، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} 4. والآيات في ذلك كثيرة   1 لوامع الأنوار البهية 2/290. 2 أخرجه البخاري في الصحيح 6/97. ومسلم في الصحيح 1/134. 3 سورة الأعراف، الآية [101] . 4 سورة الحديد، الآية [25] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 جداً"1. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "إن من آياته التي يريها بعض خلقه: معجزات رسله؛ لأن المعجزات آيات؛ أي دلالات وعلامات على صدق الرسل، كما قال تعالى في فرعون: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} 2. وبين في موضع آخر أن من آياته التي يريها خلقه: عقوبته المكذبين رسله؛ كما قال تعالى في قصة إهلاكه قوم لوط: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3وقال في عقوبته فرعون وقومه بالطوفان والجراد والقمل ... إلخ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} 4"5. وسوف أذكر بعض معجزات الأنبياء عليهم السلام، التي تطرق إلى ذكرها الشيخ الأمين -رحمه الله- بادئاً بمعجزات نبينا عليه السلام.   1 معارج الصعود ص141-142. 2 سورة طه، الآية [56] . 3 سورة العنكبوت، الآية [35] . 4 سورة الأعراف، الآية [133] . 5 أضواء البيان 7/75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 المطلب الأول: من معجزات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أولاً: القرآن الكريم: هو معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم الباقية الخالدة الذي لا تنقضي عجائبه قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1. وقد أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى أن الله جل وعلا تحدى العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور مثله، أو بسورة مثله فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2: "صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن لايكون مفترى من دون الله مكذوباً به عليه، وأنه لاشك في أنه من رب العالمين جل وعلا، وأشار إلى أن تصديقه للكتب السماوية المنزلة قبله، وتفصيله للعقائد والحلال والحرام ونحو ذلك، مما لاشك أنه من الله جل وعلا: دليل على أنه غير مفترى، وأنه لاريب في كونه من ربّ العالمين. وبين هذا في مواضع أخر، كقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3، وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} 4، وقوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} 5، والآيات في   1 سورة فصلت، الآية [42] . 2 سورة يونس، الآية [37] . 3 سورة يوسف، الآية [111] . 4 سورة الشعراء، الآية [210-211] . 5 سورة الإسراء، الآية [105] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 مثل ذلك كثيرة. ثم إنه تعالى لما صرح هنا بأن هذا القرآن ما كان أن يفترى على الله وأقام البرهان القاطع على أنه من الله؛ فتحدى جميع الخلق بسورة واحدة مثله. ولاشك أنه لو كان من جنس كلام الخلق لقدر الخلق على الإتيان بمثله، فلما عجزوا عن ذلك كلهم حصل اليقين والعلم الضروري أنه من الله جل وعلا. قال جل وعلا في هذه السورة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1، وتحداهم أيضاً في سورة البقرة بسورة واحدة من مثله، بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الآية2، وتحداهم في هود بعشر سور مثله، بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} الآية3، وتحداهم في الطور به كله بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 4، وصرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 5 كما قدمنا، وبين أنهم لايأتون بمثله أيضاً بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُو} 6"7. وقال -رحمه الله- أيضاً: "وبين جل وعلا هنا أن الإعجاز القرآني دليل قطعي وبرهان يقيني على صدق الوحي وصحة الرسالة: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه} 8"9.   1 سورة يونس، الآية [38] . 2 سورة البقرة، الآية [23] . 3 سورة هود، الآية [13] . 4 سورة الطور، الآية [34] . 5 سورة الإسراء، الآية [88] . 6 سورة البقرة، الآية [24] . 7 أضواء البيان 2/483-484. وانظر المصدر نفسه 2/203. 8 سورة هود، الآية [14] . 9 معارج الصعود، ص66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وقال -رحمه الله-، عند تفسير قوله تعالى: {أْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} 1: "أي في الفصاحة، والبلاغة، وصدق الأخبار، وعدل الأحكام؛ فإن هذه الأمور مع ما يذكر الله من بدائع صنعه من إعجاز القرآن إذ لايتجرأ أحد أن يقول: أنا خلقت السموات والأرض، ونصبت الجبال إلا رمي بالجنون والسفه، بخلاف رب السموات والأرض جل وعلا"2. وقال -رحمه الله- أيضاً، عند تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} 3: "الإشارة إلى ما مضى من قصص نوح من دعوته قومه إلى عبادة الله، وعنادهم له، ومحاورته معهم في شأن أتباعه من المؤمنين، وصنعه السفينة، واستهزائهم به، وما جعل الله له من العلامة على إهلاكهم، وأمره له بحمل المؤمنين ومن كل الحيوانات زوجين في السفينة، وما كان من أمره مع ابنه، وعتاب الله له في ذلك، ورجوعه وتوبته إلى الله، ثم ما تبع ذلك من الخاتمة له ولقومه المؤمنين بالسلامة، والهلاك للكافرين؛ أي تلك القصص التي أخبرناك بها من الأمور التي هي غائبة عن الناس، وفي هذا أعظم معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وإذا به يخبر عن غرائب التاريخ التي مضى عليها آلاف السنين بضبط وإتقان، فليست إلا بوحي من الله جل وعلا"4. فيا له من معجزة خالدة على مر الأيام والدهور، لاتنقضي عجائبه، ولا يمل مع التكرار. ثانياً: الإسراء والمعراج: الإسراء والمعراج من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم, أسرى به الله   1 سورة هود، الآية [13] . 2 معارج الصعود، ص66. 3 سورة هود، الآية [49] . 4 معارج الصعود، ص130. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 سبحانه وتعالى ليلاً من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، ووصل إلى سدرة المنتهى. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 1. وقد اختلف في كيفية الإسراء: هل هو بالروح، أم بالروح والجسد معاً؟ وهل كان ذلك يقظة أم مناماً2؟. وقد أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى هذا الاختلاف، ورجح أنه بجسده وروحه، يقظة لا مناماً. وقد ذكر عدة مرجحات، فقال -رحمه الله-: "ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم, يقظة لامناماً؛ لأنه قال: {بعبده} ، والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، ولأنه قال: {سبحان} ، والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه. ويؤيده قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 3؛ لأن البصر من آلات الذات لا الروح، وقوله هنا: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 4. ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك: قوله جل وعلا: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} 5؛ فإنه رؤيا عين يقظة، لا رؤيا منام، كما صح عن ابن عباس وغيره. ومن الأدلة الواضحة على ذلك: أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة ولا سبباً لتكذيب قريش؛ لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار؛ لأن المنام قد يرى فيه ما لايصح، فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب، فزعم المشركون أن من ادعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا   1 سورة الإسراء، الآية [1] . 2 راجع فتح الباري 7/237. وشرح الطحاوي ص245. 3 سورة النجم، الآية [17] . 4 سورة الإسراء، الآية [1] . 5 سورة الإسراء، الآية [60] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 محالة، فصار فتنة لهم. وكون الشجرة الملعونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم أن الله لما أنزل قوله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} 1، قالوا: ظهر كذبه لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار .... وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه؛ لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف. وعلى كل حال: فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه أن أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه عرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السموات السبع. وقد دلت الأحاديث المذكورة على أن الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه يقظة لا مناماً2، كما دلت على ذلك أيضاً الآيات التي ذكرنا. وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة3، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من الملحدين"4. ثم أجاب -رحمه الله- على حديث شريك، عن أنس رضي الله عنه، والذي فيه أن الإسراء كان مناماً، فقال -رحمه الله-: "وما ثبت في الصحيحين من طريق شريك، عن أنس رضي الله عنه أن الإسراء المذكور وقع مناماً5لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة لإمكان أن يكون رأى الإسراء المذكور نوماً، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فأسرى به يقظة تصديقاً لتلك الرؤيا   1 سورة الصافات، الآية [64] . 2 انظر صحيح البخاري 1/91، 8/77. وصحيح مسلم 1/145 وما بعدها. 3 انظر: عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي ص80. ولمعة الاعتقاد ص24. وكلام الطحاوي في شرح الطحاوية ص245. والشريعة للآجري ص490. وشرح النووي على صحيح مسلم 2/209. 4 أضواء البيان 3/391-393. 5 حديث شريك أخرجه البخاري في صحيحه 8/203. ومسلم في صحيحه 1/148. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 المنامية؛ كما رأى في النوم أنهم دخلوا المسجد الحرام، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فدخلوا المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة لامناماً، تصديقاً لتلك الرؤيا، كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِين} الآية1. ويؤيد ذلك حديث عائشة الصحيح: "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"2، مع أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه في تلك الرواية المذكورة عن أنس، وزاد فيها ونقص، وقدم وأخر. ورواها عن أنس غيره من الحفاظ على الصواب، فلم يذكروا المنام الذي ذكره شريك المذكور3. وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير ابن كثير4 -رحمه الله تعالى-؛ فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعاً حسناً بإتقان"5. ثالثاً: إخباره عن ترك الإبل، وتعطيلها آخر الزمان: ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- حديث أبي هريرة، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال، فلا يقبله أحد "6. ثم قال -رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: "ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولتتركن القلاص فلا   1 سورة الفتح، الآية [27] . 2 أخرجه البخاري في صحيحه 1/3. 3 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 2/209-210. وزاد المعاد لابن القيم 3/42. 4 تفسير القرآن العظيم 3/2-22. 5 أضواء البيان 3/393-394. 6 أخرجه مسلم في صحيحه 1/136. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 يسعى عليها"؛ فإنه قسم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها. وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة. وفي الحديث معجزة عظمى تدل على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم. وإن كانت معجزاته صلوات الله عليه وسلامه أكثر من أن تحصر"1. وكما قال الشيخ الأمين -رحمه الله- فإن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، لكن لما لم يذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- سوى هذه المعجزات، اقتصرت على ما ذكره -رحمه الله-.   1 أضواء البيان 3/219. وقال الشيخ -رحمه الله- قبل ذلك، في ص218 عند قوله تعالى: {ويخلق مالا تعلمون} : "وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية، كالطائرات والقطارات والسيارات". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 المطلب الثاني: من معجزات موسى عليه السلام قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} 1: "قال بعض أهل العلم: هذه الآيات التسع هي: العصا، واليد، والسنون، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات2. وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر؛ كقوله: المطلب الثاني: من معجزات موسى عليه السلام قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} 1: "قال بعض أهل العلم: هذه الآيات التسع هي: العصا، واليد، والسنون، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات2. وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر؛ كقوله: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 3، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية4، وقوله {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} 5، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلات} 6، إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا. وجعل بعضهم الجبل بدل السنين7، وعليه فقد بين ذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} 8، ونحوها من الآيات"9.   1 سورة الإسراء، الآية [101] . 2 ذكره القرطبي عن ابن عباس، والضحاك، إلا أنه قال: "اللسان" بدل "السنون". 3 سورة الشعراء، الآيتان [32-33] . 4 سورة الأعراف، الآية [130] . 5 سورة الشعراء، الآية [63] . 6 سورة الأعراف، الآية [133] . 7 ذكره القرطبي عن مالك. (انظر: الجامع لأحكام القرآن 10/217) . 8 سورة الأعراف، الآية [171] . 9 أضواء البيان 3/632. وانظر معارج الصعود ص235.3، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 المطلب الثالث: من معجزات صالح عليه السلام قال الشيخ الأمين -رحمه الله-، عند تفسير قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} 1: "الكلام يدل على أنهم اقترحوا عليه أن يأتيهم بمعجزة، وبالأخص الناقة؛ فقالوا: أخرج لنا ناقة عظيمة عشراء من الجبل أو الصخرة تدل على صدق دعواك الرسالة. فصلى ركعتين ودعا الله، فاضطربت الصخرة، حتى خرجت منها الناقة العشراء الجوفاء العظيمة، فكانت المواشي تشرد منها فتشرب جميع المياه، ويسقيهم كلهم من لبنها، واليوم الآخر تترك المياه فتستقي مواشيهم؛ كما قال تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} 2، وقال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} 3، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} 4"5. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "فأخرج الله الناقة من تلك الصخرة معجزة لصالح، وفتنة لهم؛ أي ابتلاء واختباراً، وذلك أن تلك الناقة معجزة عاينوها، وأن الله حذرهم على لسان نبيه صالح من أن يمسوها بسوء، وأنهم إن تعرضوا لها بأذى أخذهم الله بعذابه"6.   1 سورة هود، الآية [64] . 2 سورة الشعراء، الآية [155] . 3 سورة القمر، الآية [28] . 4 سورة الإسراء، الآية [59] . 5 معارج الصعود ص162. 6 أضواء البيان 7/721. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وقد ذكر الأمين -رحمه الله- أنها معجزة لكونها خرجت من الصخرة لا لكونها تشرب كل الماء، أو لكثرة لبنها. وذكر -رحمه الله- أيضاً، أن قوماً يزعمون أن فصيل الناقة هو الدابة التي تخرج آخر الزمان، ثم بين عدم صحة ذلك، فقال: "وكل ذلك قصص لا معول عليها، ولا ثبوت لها، والله أعلم بقصة الفصيل؛ لأن القرآن لم يبين ما كان مصيره، ولم يبينه. ولم يثبت خبره بوحي صحيح، وإنما هي روايات يحكيها المؤرخون والمفسرون"1.   1 ذكره -رحمه الله- في الشريط رقم [3] ، من تفسير سورة الأعراف، عند تفسير قوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} (الأعراف، الآية 73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 الفصل الرابع: جهود الشيخ الأمين -رحمه الله- في توضيح عقيدة السلف في اليوم الآخر المبحث الأول: بعض أشراط الساعة المطلب الأول: بعض العلامات الصغرى ... الفصل الرابع: جهود الشيخ الأمين -رحمه الله- في توضيح عقيدة السلف في اليوم الآخر تمهيد: الإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الإيمان الذي لا يتم إيمان العبد إلا به، فمن أنكره فقد كفر؛ قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 1، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 2. وقد عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أركان الإيمان في حديث جبريل المشهور، فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره "3. ومن مقدمات اليوم الآخر ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكون قبل الموت من أشراط الساعة وأماراتها، وما يكون بعد الموت من فتنة القبر ونعيمه وعذابه، والنفخ في الصور، والبعث، والنشور، والحشر، والحوض، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، ورؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة، وغير ذلك من أحوال الآخرة التي أخبرنا الله ورسوله عنها، والتي ينبغي على العبد تصديقها، والعمل بما يجلب مرضاة الله، ويجنب سخطه؛ قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ   1 سورة البقرة، الآية [177] . 2 سورة النساء، الآية [136] . 3 أخرجه مسلم في صحيحه 1/37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} 1. وقال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} 2. وقد اهتم الشيخ الأمين -رحمه الله- بهذا الركن العظيم، فأشار في ثنايا مؤلفاته إلى كثير من أحوال اليوم الآخر، وفصلّ في بعضها، وأجمل في البعض الآخر. ومما فصلّ فيه -رحمه الله- من هذه الأحوال: سماع الموتى، والبعث، والصراط، وأبدية النار، والردّ على من قال بفنائها، وبرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة. وسوف أرتب ما ذكره الشيخ -رحمه الله- عن اليوم الآخر، كما يمرّ بها العبد في رحلته إلى دار القرار. وقد وصف -رحمه الله- رحلة الإنسان من بدء خلقه إلى استقراره في إحدى الدارين في الآخرة، موضحاً سبب تسميتها بالدار الآخرة؛ فقال -رحمه الله-: (وإنما قيل لتلك الدار: الآخرة؛ لأنها هي آخر المنازل، فلا انتقال عنها البتة إلى دار أخرى. والإنسان قبل الوصول إليها ينتقل من محلّ إلى محلّ؛ فأول ابتدائه من التراب، ثمّ انتقل من أصل التراب إلى أصل النطفة، ثمّ إلى العلقة، ثمّ إلى المضغة، ثمّ إلى العظام، ثمّ كسا الله العظام لحماً، وأنشأها خلقاً آخر، وأخرجه للعالم في هذه الدار، ثمّ ينتقل إلى القبر، ثمّ إلى الحشر، ثمّ يتفرقون {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتا} 3، فسالك ذات اليمين إلى الجنة، وسالك ذات الشمال إلى النار، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} 4، فإذا دخل أهل الجنة الجنة،   1 سورة العنكبوت، الآية [36] . 2 سورة الذاريات، الآيتان [5-6] . 3 سورة الزلزلة، الآية [6] . 4 سورة الروم، الآيات [14-16] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وأهل النار النار، فعند ذلك تلقى عصا التسيار، ويذبح الموت، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ويبقى ذلك دائما لا انقطاع له ولا تحول عنه إلى محلّ آخر. فهذا معنى وصفها بالآخرة، كما أوضحه جل وعلا بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 1"2.   1 سورة المؤمنون، الآيات [12-16] . 2 أضواء البيان 263-264. وانظر المصدر نفسه 5/42. ومعارج الصعود ص152. وهذا المعنى موجود بصوت الشيخ -رحمه الله- في الشريط رقم [9] من تفسير سورة الأنعام، عند تفسير قوله تعالى: {والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} [سورة الأنعام، الآية 92] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 المبحث الأول: بعض أشراط الساعة تمهيد: الساعة من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً} 1. ومن الأحاديث الدالة على ذلك حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر: "تسألونني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة "2. وكذا حديث جبريل المشهور حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الساعة؟ فقال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" 3. فكل هذه النصوص تدل على أنّ الساعة لا يعلمها إلا الله وحده. وهذا ما أوضحه الشيخ الأمين -رحمه الله-، فقال عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُو} الآية4: "هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاءت آيات أخر تدلّ على ذلك أيضاً كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ   1 سورة الأعراف، الآية [187] . 2 أخرجه مسلم في الصحيح 4/1966. 3 أخرجه مسلم في الصحيح 1/37. 4 سورة الأعراف، الآية [187] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} 1، وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ} 2. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية3"4. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أخفى الساعة عن الخلق، فقد جعل لها علامات تدلّ على قرب وقوعها، وردت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قسم العلماء هذه العلامات إلى علامات صغرى، وعلامات كبرى، وهي كثيرة جداً. وقد أشار الشيخ -رحمه الله- إلى بعض هذه العلامات:   1 سورة النازعات، الآيات [42-44] . 2 سورة الأنعام، الآية [59] . 3 سورة لقمان، الآية [34] . 4 أضواء البيان 3/339. وانظر المصدر نفسه 6/604. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 المطلب الأول: بعض العلامات الصغرى ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- بعض العلامات الدالة على قرب الساعة بطريقة استنباط من نصوص الوحي، مما يدلّ على سعة علمه وفهمه للنصوص وقوة ملكته. ومن العلامات التي ذكرها الشيخ -رحمه الله-: قيام دولة لليهود في آخر الزمان؛ فقد سئل -رحمه الله-: هل في الكتاب والسنة ما يدلّ على قيام دولة لليهود في آخر الزمان؟ فأجاب -رحمه الله-: "إنه ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدلّ بالعلامة المعروفة عند الأصوليين بدلالة الشارة على وجود دولة لهم في آخر الزمان. أما النصّ الذي دلّ على ذلك بدلالة الإشارة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر، وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله " رواه البخاري بهذا اللفظ1، ومسلم2عن أبي هريرة رضي الله عنه .... فهذا نصّ صحيح من النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لابد من قتال المسلمين واليهود حتى تكون عاقبة النصر والظفر للمؤمنين. والمقاتلة بحسب الوضع اللغوي تقتضي وجود القتال من طائفتين مقتتلتين؛ لأنّ المفاعلة تقتضي الطرفين وضعا، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "تقاتلوا اليهود". على وجود جنس مقاتل من اليهود. وذلك إنما يكون من طائفة   1 صحيح البخاري 3/232. 2 صحيح مسلم 4/2239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 متحدة الكلمة تحت طاعة أمير يقاتل بهم، وذلك هو معنى دلالة الحديث على وجود دولة في آخر الزمان؛ لأنهم لو كانوا دائماً عليهم مضمون قوله تعالى: {وقطعناهم في الأرض أمماً} 1، وكانوا متفرقين غير مجتمعين أبداً تحت أمير على كلمة واحدة: ما صحّ قتالهم مع المسلمين الذي نصّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح"2. من العلامات الصغرى: وفي مقابل ذلك: فالشيخ -رحمه الله- يؤكد أنّ الإسلام سيظهر في آخر الزمان كما أظهره الله في أوله، فقال -رحمه الله-: "الدين فيما مضى ظهر على جميع الأديان، وعلى الدول الكبار المعروفة؛ كالدولة الكسروية، والدولة القيصرية، ولم يبق منهم إلا من يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، أو مسلم. وانتشر في أقطار الدنيا في شرقها وغربها، وظهر على كلّ الأديان، وسيأتي ذلك في آخر الزمان أيضاً، كما جاء في أحاديث صحيحة كثيرة: أنه لايبقى في آخر الزمان أحد إلا كان مسلماً، ولم يكن في المعمورة غير دين الإسلام، هذا معنى قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 3، ولو كره المشركون إظهاره"4. ولعلّ مما يستشهد به في هذه المسألة قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 5، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوى لي الأرض فرأيت   1 سورة الأعراف، الآية [168] . 2 رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ص238-239. 3 سورة التوبة، الآية [33] . 4 الشريط رقم [5] من تفسير سورة التوبة، عند تفسير قوله تعالى: {ِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية [33] . 5 سورة النور، الآية [55] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها.." 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها.." 2. والشيخ -رحمه الله- لم يفصّل في ذلك الانتصار الكبير، متى يتحقق؟ وعلى يد من يكون؟. وقد ذكر ابن جرير الطبري -رحمه الله- عن بعض العلماء أن ذلك عند خروج عيسى حين تصير الملل كلها واحدة3. ويرى بعض المفسرين المعاصرين أن ذلك قبل عيسى، وأن الإسلام ستكون له الغلبة قبل قيام الساعة4. والله أعلم.   1 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2215. 2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/366. 3 جامع البيان 10/116. 4 تفسير المنار 10/392. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 المطلب الثاني: نزول عيسى عليه السلام من أشراط الساعة الكبرى: نزول عيسى عليه السلام من السماء حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الدجال والخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بشريعة الإسلام. ويظهر يأجوج ومأجوج فيدعو عليهم فيموتوا ببركة دعائه1. ثمّ يمكث في الأرض سبع سنين2، فينتشر الأمن في الأرض، وتظهر الأرض بركاتها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها "3. وقد تحدث الشيخ الأمين –رحمه الله-، عن نزول عيسى عليه السلام، وأنه من علامات الساعة؛ فقال -رحمه الله-، عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} 4: "التحقيق أنّ الضمير في قوله: {وإنه} راجع إلى عيسى، لا إلى القرآن، ولا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى قوله: {لعلم للساعة} على القول الحقّ الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة، هو أنّ نزول عيسى في آخر الزمان حيّاً علم للساعة؛ أي علامة   1 انظر: النهاية لابن كثير 1/194. وشرح الطحاوية ص565. 2 راجع صحيح مسلم 4/2258-2259. 3 صحيح البخاري 4/143. 4 سورة الزخرف، الآية [61] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 لقرب مجيئها؛ لأنه من أشراطها الدالة على قربها"1. وقد تطرق الأمين -رحمه الله- عند ذكره لنزول عيسى عليه السلام إلى شبهة يعتقدها من لا تحقيق عندهم بزعمهم أنّ عيسى قد توفي2، مثل اعتقاد ضلال اليهود والنصارى. ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 3، وبقوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} 4. وقد رد -رحمه الله- هذا الفهم، وبين أنه لا دلالة في الآيتين على أن عيسى عليه السلام قد توفي. وقد استعان الشيخ الأمين –رحمه الله-، في ردّ مفهومهم بعلوم اللغة أثناء تفسيره لهاتين الآيتين، وذكر اختلاف أهل الأصول في الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية. وقد أطال -رحمه الله- في تقرير ذلك. وخلاصة كلامه -رحمه الله- أنه جعل لقوله تعالى: {إني متوفيك} أربعة توجيهات للمراد بالوفاة، كلها تنفي مزاعم من قال بوفاته عليه السلام، وقد بين هذه التوجيهات بقوله: "الأول: إنّ قوله تعالى: {متوفيك} لايدلّ على تعيين الوقت، ولايدلّ على كونه قد مضى. وهو متوفيه قطعاً يوماً ما، ولكن لا دليل على أنّ ذلك اليوم قد مضى. وأما عطفه: {ورافعك إليّ} على قوله: {متوفيك} فلا دليل فيه؛ لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أنّ الواو لاتقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك"5.   1 أضواء البيان 7/263. 2 انظر كلام الشيخ محمد عبده في تفسير المنار 3/316-317، والشيخ محمود شلتوت في الفتاوى ص59-82؛ حيث أنكرا رفع عيسى ببدنه، ونزوله في آخر الزمان، وقالا عن الأحاديث: إنها أحاديث آحاد. 3 سورة آل عمران، الآية [55] . . 4 سورة المائدة، الآية [117] . 5 دفع إيهام الاضطراب –الملحق بالأضواء 10/51-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 ثمّ ذكر -رحمه الله- التوجيه الثاني والثالث، فقال: "إنّ معنى "متوفيك" أي مُنيمك. ورافعك إليّ: أي في تلك النومة. وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} 1، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} 2، وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدلّ بالآيتين المذكورتين3. الوجه الثالث: أنّ متوفيك، اسم فاعل توفاه، إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفى فلان دينه، إذا قبضه إليه. فيكون معنى (متوفيك) على هذا: قابضك منهم إليّ حيا. وهذا القول هو اختيار ابن جرير4. وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياماً، ثمّ أحياه، فالظاهر أنه من الإسرائيليات. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها5. ثمّ قال -رحمه الله-: "وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقاً: أن الذين زعموا أنّ عيسى قد مات، قالوا: إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أنّ اليهود قتلوه وصلبوه. فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره تحققنا أنه لم يمت أصلاً. وذلك السبب الذي زعموه منفيّ يقيناً بلا شك؛ لأنّ الله جلّ وعلا قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} 6، وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} 7. وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معاً كما لا يخفى"8.   1 سورة الأنعام، الآية [60] . 2 سورة الزمر، الآية [42] . 3 تفسير ابن كثير 1/366. 4 تفسير الطبري 3/291. 5 دفع إيهام الاضطراب –الملحق بالأضواء- 10/51-52. 6 سورة النساء، الآية [157] . 7 سورة النساء، الآيتان [157-158] . 8 أضواء البيان 7/273. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} : فقد نفى الشيخ الأمين -رحمه الله- دلالتها على موت عيسى عليه السلام من وجهين، فقال -رحمه الله-: "الأول منهما: أنّ عيسى يقول ذلك يوم القيامة، ولاشك أنه يموت قبل يوم القيامة؛ فإخباره يوم القيامة بموته لايدلّ على أنه الآن قد مات كما لا يخفى. والثاني منهما: أنّ ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد، لا توفي الموت. وإيضاح ذلك: أنّ مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم، في قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} الآية1 تدل على ذلك؛ لأنه لو كان توفي موتاً لقال: ما دمت حياً، فلما توفيتني؛ لأنّ الذي يقابل بالموت هو الحياة؛ كما في قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} 2. أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر. وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية. وهذا لا إشكال فيه"3. وفي الختام، يقول -رحمه الله-: "والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح، والسنة المتواترة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كلاهما دالّ على أنّ عيسى حيّ، وأنه سينزل في آخر الزمان، وأنّ نزوله من علامات الساعة، وأنّ معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه، ومن تبعهم هو: إلقاء شبهه على غيره، واعتقادهم الكاذب أنّ ذلك المقتول الذي هو شبه بعيسى هو عيسى"4.   1 سورة المائدة، الآية [117] . 2 سورة مريم، الآية [31] . 3 أضواء البيان 7/271-272. وانظر المصدر نفسه 1/342. 7/263-275. ودفع إيهام الاضطراب –الملحق بالأضواء 10/50-52. 4 أضواء البيان 7/273. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 فالشيخ -رحمه الله- يأبى المسلك الذي يصادم التفسير الصحيح والسنة المتواترة. وما ذهب إليه الشيخ -رحمه الله- هو مذهب أساطين أئمة المفسرين؛ كالطبري1، والقرطبي2، وابن تيمية3، وابن كثير4.   1 انظر تفسير الطبري 3/291. 2 انظر تفسير القرطبي 4/65. 3 انظر فتاوى شيخ الإسلام 4/322-323. 4 انظر تفسير ابن كثير 1/366-367. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 المطلب الثالث: خروج يأجوج ومأجوج خروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى. وقد دلّ على خروجهم الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} 1، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} 2. وأما من السنة فما روته زينب بنت جحش، رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه "، وحلق بأصبعيه، الإبهام والتي تليها. قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟.قال: "نعم إذا كثر الخبث" 3. ومنها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري، رضي الله عنه، قال: اطلع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات "، فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول   1 سورة الأنبياء، الآية [96] . 2 سورة الكهف، الآية [92-94] . 3 صحيح البخاري 4/109. وصحيح مسلم 4/2207. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوف؛ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم"1. وقد سلك الشيخ الأمين -رحمه الله- مسلك السلف في الإيمان بهذه العلامة التي تكون في آخر الزمان دليلاً على قرب قيام الساعة؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} 2: "إنّ هذه الآية الكريمة، وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أنّ السدّ الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج إنما يجعله الله دكاً عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه، وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة؛ لأنه قال هنا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} 3"4. ثمّ تعرض -رحمه الله- إلى زعم المعاصرين أنّ يأجوج ومأجوج هم روسية، وأنّ السدّ فتح منذ زمن طويل5، فردّ هذا القول وفنّده لمصادمته للنصوص الصريحة، وحكى شبهتهم وبين تفاهتها؛ فقال -رحمه الله-:   1 صحيح مسلم 4/2225-2226. 2 سورة الكهف، الآية [98] . 3 سورة الكهف، الآيتان [98-99] . 4 أضواء البيان 4/181. 5 لم أجد من ذكر أنهم روسية، إلا أنّ الشيخ سيد قطب -رحمه الله- يرى (في كتابه ظلال القرآن 4/2294) من باب الترجيح لا من باب اليقين أنّ يأجوج ومأجوج هم التتار الذين دمروا الخلافة العباسية وأفسدوا في الأرض. وللشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- رسالة مطبوعة ضمن كتاب الصين، جمع/الشيخ عبد العزيز المسند ص77، أثبت فيها أنّ يأجوج ومأجوج هم دول الكفر الموجودة الآن من الروس وغيرهم من أمم الكفر، لكنه -رحمه الله- يرى في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن 5/263) أنهم أمة تخرج في آخر الزمان، وأنّ السدّ باق إلى الآن. وقد أثبت د/عبد الرزاق العباد في رسالته "الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في العقيدة" (ص55) أن التفسير آخر مؤلفات الشيخ السعدي، فلعله رجع عن قوله هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 "فإذا قيل: إنما تدلّ الآيات المذكورة في الكهف والأنبياء على مطلق اقتراب يوم القيامة؛ من دكّ السدّ واقترابه من يوم القيامة، لا ينافي كونه قد وقع بالفعل، كما قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الآية1. وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 2، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه –وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها " الحديث3 ..... فقد دلّ القرآن والسنة الصحيحة على أنّ اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به، بل يصح اقترابه مع مهلة، فلا ينافي دكّ السدّ الماضي المزعوم الاقتراب من يوم القيامة، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدكّ السدّ إلى الآن"4. وقد أجاب -رحمه الله- على هذه الشبهة، فقال: "فالجواب ما قدمنا أنّ هذا البيان بهذه الآيات ليس وافياً بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له، ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة لأنها مبينة للقرآن"5. ثمّ ساق -رحمه الله- حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل، المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفيه: "فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أن قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور. ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كلّ حدب ينسلون، فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمرّ آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء. ويحصر نبيّ الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم. فيرغب نبيّ   1 سورة الأنبياء، الآية [1] . 2 سورة القمر، الآية [1] . 3 سبق تخريجه. 4 أضواء البيان 4/182-183. 5 المصدر نفسه 4/183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف1في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. ثمّ يهبط نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت2فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثمّ يرسل الله مطراً لا يكنّ منه بيت مدر3ولا وبر4، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة5، ثمّ يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك." 67. ثم عقب -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: "وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال. فمن يدعي لأنهم روسية، وأن السد قد اندك منذ زمان فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها. ولا شك أن كل خبر ناقض خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم, فهو باطل، لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم. ولم يثبت في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض هذا الحديث   1 النغف عند العرب: ديدان تولد في أجواف الحيوان من الناس وغيرهم. وفي أنوف الإبل والغنم. (انظر تهذيب اللغة 8/146) . 2 البخت: معرب، وهو الإبل الخراسانية، تنتج بين الإبل العربيةوالفالج. (انظر تهذيب اللغة 7/312) . 3 المدر: قطع الطيب اليابس. ومنه سميت القرية المبنية بالطين واللبن: المدرة. (انظر تهذيب اللغة 14/221-222) . 4 الوبر: الوبر صوف الإبل والأرنب وما أشبهها. (انظر تهذيب اللغة 15/264) . 5 الزلف: وجه المرآة. ويقال: البركة تطفح مثل الزلف. وقيل: الصحفة، وقيل: الروضة. (انظر تهذيب اللغة 13/212) . 6 أخرجه مسلم 4/2253-2254. 7 أضواء البيان 4/183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 الذي رأيت صحة سنده، ووضوح دلالته على المقصود"1. ثم ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- شبهة عقلية توصلوا بها إلى نفي وجود يأجوج وراء السد إلى الآن، وهي زعمهم أنه لو كانوا وراء السد الآن لاطلع عليهم الناس، لتطور وسائل المواصلات، لكن لما لم يطلع عليهم أحد فليسوا وراء السد. وبذلك نفوا وجودهم. وقد نقض الشيخ الأمين –رحمه الله- هذه الشبهة العقلية، وردّ عليها، فقال: "فقولكم: لو كانوا موجودين وراء السدّ إلى الآن لاطلع عليهم الناس. غير صحيح؛ لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس. ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة المائدة من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذلك في قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ} الآية2؛ وهم في فراسخ قليلة من الأرض يمشون ليلهم ونهارهم، ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه؛ لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق. وعلى كلّ حال فربك فعّال لما يريد، وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة."3. فالشيخ -رحمه الله-، لا يرضى هذا القول الذي يمسّ العقيدة ويصادمها، والذي ينبني على أدلة باطلة وتوهمات فاسدة، بل يقف -رحمه الله- أمامه فيكشف عواره، ويرده بالحجج القوية والبراهين الناصعة ليحصل الاطمئنان إلى المعتقد الصحيح، وليزهق الباطل وينتصر الحقّ. وما ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله- في يأجوج ومأجوج، ووضحه بأسلوبه القويّ المقنع، وفنّد أقوال أصحاب التأويلات الفاسدة في هذا   1 أضواء البيان 4/185. 2 سورة المائدة، الآية [26] . 3 أضواء البيان 4/186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 الباب، كلّ ذلك من الأدلة علىاقتفائه أثر سلف هذه الأمة رحمهم الله الذين وضحوا هذا المعتقد أيما إيضاح، وردوا على المخالفين لهذه العقيدة المبنية على الكتاب والسنة. فهذا ابن قدامة -رحمه الله- يقول: "ويجب الإيمان بكلّ ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم, وصحّ به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا؛ نعلم أنه حقّ وصدق. وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه؛ مثل حديث الإسراء والمعراج، ... ومن ذلك أشراط الساعة؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صحّ به النقل"1. وقال شارح الطحاوية: "وأحاديث الدجال، وعيسى بن مريم عليه السلام ينزل من السماء ويقتله، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم، يضيق هذا المختصر عن بسطها"2.   1 لمعة الاعتقاد ص 24، 25، 26. 2 شرح الطحاوية ص565. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 المبحث الثاني: القبر المطلب الأول: عذاب القبر ... المبحث الثاني: القبر تمهيد: من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وأنه إما حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة. دلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ القبر أول منازل الآخرة؛ فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشدّ منه " 1. قال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 2، وقال جل وعلا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3، وقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 4. ومن الأحاديث الدالة على عذاب القبر: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم. قال: يأتيه ملكان فيقعدان، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة ". قال نبيّ الله صلى الله عليه   1 رواه الترمذي في سننه 4/553، وقال: "حديث حسن غريب". وحسنه الألباني (انظر: صحيح الجامع 1/347، رقم 1684) . 2 سورة غافر، الآيتان [45-46] . 3 سورة السجدة، الآية [21] . 4 سورة إبراهيم، الآية [27] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وسلم: " فيراهما جميعاً "1. وقد تعرض الشيخ الأمين -رحمه الله- لعدة مسائل في هذا الباب، ولبيان هذه المسائل قسمت هذا المبحث إلى مطالب.   1 أخرجه البخاري في الصحيح 2/102. ومسلم في الصحيح 4/2200-2201، واللفظ له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 المطلب الأول: عذاب القبر ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ عذاب القبر حقّ لا مرية فيه، فقال عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1: "الظاهر أنّ قوله: {عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} هو ما عذبوا به في دار الدنيا من القتل وغيره، كما دلّ على ذلك قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَر} الآية2، وقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} 3، إلى غير ذلك من الآيات. لا مانع من دخول عذاب القبر في ذلك لأنه قد يدخل في ظاهر الآية. وما قيل في معنى الآية غير هذا لا يتجه عندي، والعلم عند الله تعالى"4. هل يعذب الميّت ببكاء أهله عليه؟ تناول الشيخ الأمين -رحمه الله- مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه؛ كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه "5، وفي رواية: " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه "6. وبين -رحمه الله- عدم معارضته، لقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 7؛ إذ قد يظنّ من لا يعلم أن تعذيب الميت ببكاء الحيّ عليه من مؤاخذة العبد بذنب غيره، وليس الأمر كذلك. وقد أجاب عن هذه المسألة بجوابين، فقال -رحمه الله-: "الأول: أن يكون   1 سورة الطور، الآية [47] . 2 سورة السجدة، الآية [21] . 3 سورة التوبة، الآية [14] . 4 أضواء البيان 7/695. وانظر المصدر نفسه 4/548، 551، 7/90. 5 صحيح البخاري 2/80. 6 صحيح البخاري 2/82. 7 سورة الإسراء، الآية [15] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 الميت أوصى بالنوح عليه؛ كما قال طرفة بن العبد في معلقته: إذا متّ فانعيني بما أنا أهله وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه، فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر، وذلك من فعله لا فعل غيره. الثاني: أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه؛ لأنّ إهماله نهيهم تفريط منه ومخالفة لقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا} 1. فتعذيبه إذن بسبب تفريطه وتركه ما أمر به من قوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية. وهذا ظاهر كما ترى" 2. قال عبد الله بن المبارك: "إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئاً من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء. والعذاب عندهم يعني العقاب"3. هذا عن كلام الشيخ الأمين -رحمه الله- عن عذاب القبر، أما نعيم القبر: فلم أجد له -رحمه الله- كلاماً في ذلك؛ إذ من دأبه -رحمه الله- أنه يفسر القرآن بالقرآن، ولم تأت مناسبة يتحدث فيها عن نعيم القبر. ويكفي في إثبات عذاب القبر ونعيمه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي؛ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة "4.   1 سورة التحريم، الآية [6] . 2 أضواء البيان 3/470-471 وللقرطبي كلام حول هذا المعنى. (انظر الجامع لأحكام القرآن 10/151) . 3 انظر أحكام الجنائز للألباني ص29، فقد ذكر قولين في المراد بالتعذيب، الأول: بمعنى التألم والحزن، والثاني: بمعنى العقاب. وهو القول الراجح، وعليه جمهور العلماء. 4 أخرجه البخاري في الصحيح 2/103. ومسلم في الصحيح 4/2199. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 المطلب الثاني: سماع الموتى سماع الموتى من المسائل الخلافية بين العلماء، فمنهم من يرى أنّ الأصل أنّ الموتى لا يسمعون؛ ويستثنون ما ورد فيه النصّ، مثل حديث خفق نعال المشيعين بعد الدفن، وسماع أهل القليب يوم بدر لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم, وخطابه لهم؛ فهو سماع مخصوص ببعض الأحوال. وقال أصحاب هذا القول: إنّ هذه قضايا جزئية لا تُشكّل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور1. ومن العلماء من يرى أنّ الموتى يسمعون كلام من كلمهم، وأنهم يسمعون سلام الأحياء وخطابهم. ويرون أنّ هذا السماع غير مخصوص بوقت معين، ولا بإنسان بعينه2. وقد استدلّ الفريق الأول بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 3، وبقوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} 4. واستدلّ المجيزون بحديث أهل القليب، وحديث قرع النعال، وقالوا: إنه غير مخصوص بأحد، ولا بوقت؛ إذ لا دليل على التخصيص. وأجابوا عن الآيتين: أنّ المراد بالموتى هنا: الأشقياء الذين لا يسمعون   1 انظر مقدمة تحقيق كتاب الآيات البينات ص40-41 للآلوسي تحقيق الشيخ الألباني. 2 انظر: المصدر نفسه ص37. وتفسير القرطبي 13/154 –وهو الراجح عنده- وأهوال القبور لابن رجب ص76-77. وأضواء البيان 6/421-439. 3 سورة فاطر، الآية [22] . 4 سورة النمل، الآية [80] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 الحقّ سماع هدى وقبول1. وقد استطرد الشيخ الأمين -رحمه الله- في بيان هذه المسألة، والخلاف الذي وقع فيها، ورجح سماع الأموات لكلام الأحياء وخطابهم، واستدلّ على ذلك بحديث القليب، وحديث خفق النعال، وقال: إنه غير مخصوص بوقت، ولا بإنسان ومما قاله -رحمه الله-: "اعلم أنّ الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أنّ الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلمهم، وأنّ قول عائشة رضي الله عنها، ومن تبعها: إنهم لا يسمعون، استدلالاً بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} 2، وما جاء بمعناها من الآيات: غلط منها، وممن تبعها. وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبنيّ على مقدمتين: الأولى منهما: أنّ سماع الموتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة ثبوتاً لامطعن فيه، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم, أنّ ذلك خاصّ بإنسان ولابوقت. والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة: لا يجب الرجوع إليه؛ لأنّ غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا تردّ النصوص الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بتأويل بعض الصحابة بعض الآيات"3.   1 انظر: أضواء البيان 6/416-421. 2 سورة النمل، الآية [80] . 3 أضواء البيان 6/421. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وساق الشيخ -رحمه الله- أدلة للمقدمة الأولى: منها حديث أهل القليب، الذي رواه أبو طلحة رضي الله عنه، وفيه: " ... حتى قام على شفة الركى، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "، قال قتادة: أحياهم الله له حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندامة1. وقد عقب الشيخ الأمين -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: (فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول صلى الله عليه وسلم من الموتى بعد ثلاث. وهو نصّ صحيح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم في ذلك تخصيصا. وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه فيما يظهر) 2. وقد ذكر الأمين -رحمه الله- أيضاً حديث القليب من رواية عمر ابن الخطاب3، وابنه عبد الله4، وأنس5، ثمّ ختمه بقوله: (فيها التصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّ الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله صلى الله عليه وسلم. وقد أقسم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يذكر تخصيصا) 6.   1 أخرجه البخاري في الصحيح 5/8-9. 2 أضواء البيان 6/422. 3 انظر صحيح مسلم 4/2202. 4 انظر صحيح البخاري 2/101، 5/9. 5 انظر صحيح مسلم 4/2203. 6 أضواء البيان 6/422. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 واستدلّ الشيخ الأمين أيضاً بما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؛ محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة" الحديث1. وعقب عليه الشيخ -رحمه الله- بقوله: "وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّ الميت في قبره يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا، وهو نصّ صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصاً) 2. وذكر حديث أنس هذا من طريق مسلم3. ومن الأحاديث التي استدلّ بها -رحمه الله- على سماع المقبورين حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" 4. ثمّ ذكر الشيخ -رحمه الله- لهذا الحديث شواهد أخرى، وعقب عليها بقوله: "وخطابه صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله: "السلام عليكم"، وقوله: "إنا إن شاء الله بكم"، ونحو ذلك يدلّ دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه؛ لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم. ولاشك أنّ ذلك ليس من شأن   1 أخرجه البخاري في الصحيح 2/102. بألفاظ متقاربة. 2 أضواء البيان 6/422. 3 انظر صحيح مسلم 4/2200-2201. 4 انظر صحيح مسلم 2/669. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 العقلاء، فمن البعيد جدا صدوره منه صلى الله عليه وسلم "1. وقد ختم الشيخ -رحمه الله- هذا المبحث بقوله: "إنّ الذي يرجحه أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم، سواء قلنا: إنّ الله يردّ عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردوا الجواب، أو قلنا: إنّ الأرواح أيضا تسمع وتردّ بعد فناء الأجسام"2. وهذه المسألة –كما مرّ- خلافية، ولكلّ أدلته. وللشيخ الأمين رحمه الله سلف فيما ذهب إليه فكثير من العلماء قالوا بسماع الموتى، بل لقد قال ابن عبد البر: "إنّ الأكثرين على ذلك"،وهو اختيار ابن جرير الطبري3، والقرطبي4وابن كثير5وابن القيم6وابن رجب7 رحمهم الله. ومن العلماء من خصص السماع بما ورد السمع بسماعه، وهو اختيار الشوكاني8، والألوسي9، والألباني10.   1 أضواء البيان 6/426. 2 أضواء البيان 6/438-439. 3 انظر روح المعاني 21/55. 4 الجامع لأحكام القرآن 13/154. 5 تفسير القرآن العظيم 3/438. 6 الروح ص10، 20، 21. زاد المعاد 3/685. 7 أهوال القبور ص76-81. وابن رجب: هو الحافظ عبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود البغدادي ثم الدمشقي. محدث حافظ فقيه. ولد في بغداد سنة (706) ، وتوفي بدمشق سنة (795هـ) . (انظر: شذرات الذهب 6/339. ومعجم المؤلفين 5/118) . 8 فتح القدير 4/151. والشوكاني: هو العلامة محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليماني الصنعاني. ولد عام (1173هـ) بهجرة شوكان باليمن، ونشأ في صنعاء، وتوفي فيها عام (1250?) وكان عالماً بالتفسير والحديث والفقه. (انظر: الأعلام 6/298) . 9 روح المعاني 21/58. والألوسي: هو شهاب الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي. ولد في بغداد سنة (1217هـ) ، وتوفي سنة (1270هـ) . (انظر: التفسير والمفسرون 1/352. والأعلام 7/176) . 10 مقدمة تحقيق الآيات البينات ص40. والألباني: هو أبو عبد الرحمن محمد بن ناصر الدين بن نوح الألباني. من كبار المحدثين في هذا العصر. ولد في مدينة أشقودرة في ألبانيا سنة (1333هـ) ثم انتقلت عائلته إلى بلاد الشام (انظر: علماؤنا ص40-43) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلام وسط بين القولين: وهو أنّ الميت يسمع سماعا لايفيده؛ فقد قال -رحمه الله-: فإنّ قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} 1 إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه؛ فإنّ هذا مثل ضرب للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع، كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً} 2، فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل لا يجب أن ينفي عنهم جميع السماع المعتاد أنواع السماع كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم"3. وما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله- هو الراجح فهم لا يستفيدون بهذا السماع4. والعجيب أنّ الشيخ الأمين -رحمه الله- نقل كلام شيخ الإسلام هذا ضمن أدلته على سماع الموتى، ثمّ بنى عليه حكما فقهيا، وهو ترجيحه جواز تلقين الميت5 مع أنّ كلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول بأنّ الميت يسمع سماعا لايفيده، وقد سئل شيخ الإسلام -رحمه الله- عن تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه: هل صحّ فيه حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, أو عن صحابته..؟ فأجاب -رحمه الله-: "هذا التلقين المذكور قد نقل عن طائفة   1 سورة النمل، الآية [80] . 2 سورة البقرة، الآية [171] . 3 الفتاوى 4/298. 4 ومما يؤيد ذلك أيضا ما ذهب إليه ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- شارح الطحاوية قال: (ومن قال إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده باعتبار سماعه كلام الله فهذا لم يصح عن أحد في الأئمة المشهورين ولاشك في سماعه ولكن انتفاعه بالسماع لايصح فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة فإنه عمل اختياري وقد انقطع بموته بل ربما يتضرر ويتألم لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه أو لكونه لم يزدد من الخير) شرح الطحاوية ص518. 5 انظر أضواء البيان 6/435-437. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 من الصحابة أنهم أمروا به؛ كأبي أمامة الباهلي، وغيره. وروي فيه حديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. لكنه مما لا يحكم بصحته، ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك..) 1. وعلى كل: فما رجحه الشيخ الأمين -رحمه الله- من جواز تلقين الميت محلّ نظر؛ لأنّ التلقين بعد الموت من الأشياء التي لم يرد فيها دليل من كتاب أو سنة صحيحة. وهذا من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بدليل فالصحيح عدم التلقين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه بعد الدفن " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" ولم يثبت عنه أنه لقن ميتا فعلينا بالاتباع وترك الابتداع.   1 مجموع فتاوى ابن تيمية 24/296. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 المبحث الثالث: البعث المطلب الأول: براهين البعث ... المبحث الثالث: البعث تمهيد: البعث لغة: يقال: بعثه وابتعثه، بمعنى أرسله فانبعث. وقولهم: كنت في بعث فلان: أي في جيشه الذي بُعث معه. والبعوث: الجيوش. وبعثتُ الناقة: أثرتها. وبعثه من منامه: أي أهبّه. وبعث الموتى: نشرهم ليوم البعث1. قال الشيخ الأمين -رحمه الله-: "والبعث: التحريك من سكون؛ فيشمل بعث النائم والميت وغير ذلك"2. والبعث اصطلاحاً: أن يبعث الله تعالى الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية، ويعيد الأرواح إليها3؛ لقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 4. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-، عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 5: (أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما، ويوجدهم بعد العدم) 6. فالإيمان بالبعث أصل سعادة الفرد والمجتمع: فإنّ الإنسان إذا آمن بأنّ الله تعالى سيبعث الخلق بعد موتهم فيحاسبهم، ويجازيهم على أعمالهم؛   1 الصحاح للجوهري 1/273. وانظر المفردات للراغب الأصفهاني ص51. 2 أضواء البيان 4/23. 3 لوامع الأنوار البهية 2/157. 4 سورة يس، الآية [79] . 5 سورة الحج، الآية [7] . 6 تفسير القرآن العظيم 3/408. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 فمن أحسن جوزي بالإحسان، ومن أساء عذب بالنيران، وإذا آمن أنّ الله سيقتصّ من الظالم للمظلوم، حتى من الحيوان؛ فإن دابر الشرّ ينقطع، ويسود الخير في المجتمع، وتعمّ الفضيلة والطمأنينة الكلّ. لذلك أجمعت عليه الشرائع السماوية، وأنذر به الرسل أممهم1، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} 2.   1 انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/266، 9/30-33. 2 سورة الملك، الآيتان [8-9] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 المطلب الأول: براهين البعث ذكر الله سبحانه وتعالى البراهين على هذا الحدث العظيم بأدلة معنوية وحسية ليرسخ هذا المعتقد في القلوب، فيبعث على العمل والاستمساك بالعروة الوثقى. وقد تحدث الشيخ الأمين -رحمه الله- عن هذه البراهين في ثنايا تفسيره، فاستنبطها من الآيات الكريمة الدالة على وقوع البعث لامحالة؛ لأنها قول الخالق العظيم الذي لا أحد أصدق منه قيلا، فهي لا تقبل التوقف أو التردد. ويحسن التنبيه هنا على أنّ بعض براهين البعث قد استشهد به الشيخ الأمين -رحمه الله- على توحيد الألوهية، وقد أشار إلى ذلك عند براهين التوحيد، وذكر أنه أعادها لأهميتها1. ولا شكّ أنّ هذا ليس بتكرار؛ إذ إنه تناول كلّ قضية من جانب يختلف عن الجانب الذي تناول به القضية الأخرى. وقد ذكر -رحمه الله- ستة براهين على البعث، وذكر عند كلّ برهان ما يعضده من الآيات على طريقته -رحمه الله- في تفسير القرآن بالقرآن.   1 انظر أضواء البيان 7/334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 البرهان الأول: خلق الناس استدلّ الشيخ الأمين -رحمه الله- على أنّ من خلق الناس من العدم قادر على إعادتهم بعد فنائهم؛ حيث قال -رحمه الله-: "خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1، لأنّ الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية2، وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 3، وكقوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} 4، وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة} 5، وقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} الآية6، وكقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} 7، وكقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} 8. ولذا ذكر تعالى أنّ من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول؛ كما في قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآية9، وقوله: {وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} 10.   1 سورة البقرة، الآية [21] . 2 سورة الروم، الآية [27] . 3 سورة الأنبياء، الآية [104] . 4 سورة الإسراء، الآية [51] . 5 سورة يس، الآية [79] . 6 سورة ق، الآية [15] . 7 سورة الحج، الآية [5] . 8 سورة الواقعة، الآية [62] . 9 سورة يس، الآية [78] . 10 سورة مريم، الآيتان [66-67] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 ثمّ رتب على ذلك نتيجة الدليل بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} الآية1 ..... إلى غير ذلك من الآيات"2. وقال -رحمه الله- أيضاً: "من خلقهم أولاً من طين، وأصله التراب المبلول، لايشك عاقل في قدرته على خلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا تراباً؛ لأنّ الإعادة لا يعقل أن تكون أصعب من البدء"3.   1 سورة مريم، الآية [68] . 2 أضواء البيان 1/115-116. 3 أضواء البيان 6/679. وانظر المصدر نفسه 3/223-5/26-27، 7/335-336، 784-786. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 البرهان الثاني: خلق المخلوقات التي أكبرها السماوات والأرض بيَّن الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة فهو قادر على بعث الخلق يوم القيامة، فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} 1: "وجواب الاستفتاء المذكور الذي لا جواب له غيره هو أن يقال: من خلقت يا ربنا من الملائكة ومردة الجنّ والسموات والأرض والمشارق والمغارب والكواكب أشدّ خلقاً منا؛ لأنها مخلوقات عظام أكبر وأعظم منا، فيتضح بذلك البرهان القاطع على قدرته جل وعلا على البعث بعد الموت؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أنّ من خلق الأعظم الأكبر كالسموات والأرض وما ذكر معهما قادر على أن يخلق الأصغر الأقل، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس} 2؛ أي: ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على أن يخلق الأصغر، كخلق الإنسان خلقاً جديداً بعد الموت"3. ثمّ سرد -رحمه الله- الآيات الدالة على هذا البرهان، فقال: "وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ} 4، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ   1 سورة الصافات، الآية [11] . 2 سورة غافر، الآية [57] . 3 أضواء البيان 6/678. 4 سورة يس، الآية [81] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} 2، وقال تعالى في النازعات موضحاً الاستفتاء المذكور في آية الصافات هذه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} 3"4.   1 سورة الأحقاف، الآية [33] . 2 سورة الإسراء، الآية [99] . 3 سورة النازعات، الآيات [27-33] . 4 أضواء البيان 6/678. وانظر المصدر نفسه 1/116، 3/223، 7/334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 البرهان الثالث: إحياء الأرض بعد موتها قال الشيخ الأمين -رحمه الله-: "من أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم؛ لأنّ الجميع أحياء بعد موت. فمن الآيات الدالة على ذلك: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وقوله تعالى: {وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 2، وقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 4. فقوله: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} أي نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت. وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} 5 يعني تخرجون من قبوركم أحياء بعد الموت.   1 سورة فصلت، الآية [39] . 2 سورة الحج، الآيات [5-7] . 3 سورة الروم، الآية [50] . 4 سورة الأعراف، الآية [57] . 5 سورة الروم، الآية [19] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 وقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} 1. إلى غير ذلك من الآيات"2. وعلق -رحمه الله- على هذه البراهين بعد ذكرها بقوله: "فهذه البراهين الثلاثة يكثر جداً الاستدلال بها على البعث في كتاب الله"3.   1 سورة ق، الآية [11] . 2 أضواء البيان 7/336. وانظر المصدر نفسه 1/116، 3/223، 6/367، 7/646، 789-791. 3 أضواء البيان 3/224. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 البرهان الرابع: إحياء بعض الأموات في الدنيا؛ دليل على إحياء جميع الخلق يوم القيامة ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- هذا البرهان، وساق له خمسة أدلة من كتاب الله تعالى، أربعة منها فيها ذكر أناس عاشوا بعد الموت؛ فقال -رحمه الله-: "هناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث .... وهو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا كما تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة؛ لأنّ من أحيا نفساً واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 1. وقد ذكر جل وعلا هذا البرهان في سورة البقرة في خمسة مواضع: الأول: قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. الثاني: قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3. الثالث: قوله جل وعلا: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} 4. الرابع: قوله: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5.   1 سورة لقمان، الآية [28] . 2 سورة البقرة، الآية [56] . 3 سورة البقرة، الآية [73] . 4 سورة البقرة، الآية [243] . 5 سورة البقرة، الآية [259] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الخامس: قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1"2.   1 سورة البقرة، الآية [260] . 2 أضواء البيان 3/224. وانظر المصدر نفسه 1/141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 البرهان الخامس: إخراج النار من الشجر الأخضر قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 1. قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عند تفسير هذه الآيات: "والجواب الذي لاجواب غيره، أنت يا ربنا هو الذي أنشأت شجرتها، ونحن لا قدرة لنا بذلك. فيقال: كيف تنكرون البعث وأنتم تعلمون أنّ من أنشأ شجرة النار وأخرجها منها قادر على كلّ شيء. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون خلق النار من أدلة البعث جاء موضحاً في (يس) في قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 2؛ فقوله في آخر (يس) : {توقدون} ؛ هو معنى قوله في الواقعة: {تورون} ، وقوله في آية (يس) : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً} بعد قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} دليل واضح على أنّ خلق النار من أدلة البعث) 3.   1 سورة الواقعة، الآيتان [71-72] . 2 سورة يس، الآيتان [79-80] . 3 أضواء البيان 7/795. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 البرهان السادس: إيلاج الليل بالنهار والنهار بالليل قال الشيخ الأمين -رحمه الله-: "استدلّ على قدرته على الخلق والبعث، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1"2. وهذه البراهين التي استدلّ بها الشيخ الأمين -رحمه الله- على النشأة الثانية أدلة واضحة وصريحة من كتاب الله سبحانه وتعالى. وقد استدلّ بها غيره من العلماء؛ أمثال الإمام ابن القيم -رحمه الله- حيث أورد أكثرها في كتابه إعلام الموقعين3. وكذلك الإمام ابن أبي العزّ الحنفي شارح الطحاوية؛ ذكر خمسة منها4.   1 سورة لقمان، الآيتان [29-30] . 2 أضواء البيان 5/739. 3 إعلام الموقعين 1/140-143. 4 شرح الطحاوية ص460-462. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 المطلب الثاني: الحشر الحشر: هو جمع الناس حفاة، عراة، غرلاً، بهماً، على صعيد واحد للحساب والجزاء يوم القيامة1. وقد دلّ الكتاب والسنة على الحشر؛ فقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} 2. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحشرون حفاة عراة غرلاً"، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: "الأمر أشدّ من أن يهمهم ذاك "3. ولقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- الحشر، وكيفيته، وأنواعه؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} 4: "أي تشقق الأرض عنهم في حال كونهم مسرعين إلى الداعي؛ وهو الملك الذي ينفخ في الصور، ويدعو الناس إلى الحساب والجزاء. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنّ الناس يوم البعث يخرجون من قبورهم مسرعين إلى المحشر قاصدين نحو الداعي، جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} 5.   1 انظر: لمعة الاعتقاد ص26. وأضواء البيان 4/112. 2 سورة الكهف، الآية [47] . 3 صحيح البخاري 7/195. 4 سورة ق، الآية [44] . 5 سورة المعارج، الآية [43] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 1"2. وقال أيضاً -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 3: "أي، والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة؛ أي حفاة عراة غرلاً؛ أي غير مختونين. كلّ واحد منكم فرد لا مال معه، ولا ولد، ولا خدم، ولا حشم"4. وقد أوضح الشيخ -رحمه الله- أنّ الحشر عام لجميع المخلوقات، حيث قال: "إنّ هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات، وهو قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} 5"6. أقسام المحشورين وكيفية حشرهم: (1) - حشر المتقين: قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} 7: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنّ المتقين الذين كانوا يتقونه في دار الدنيا بامتثال أمره واجتناب نهيه يحشرون إليه يوم القيامة في حال كونهم وفداً ... والوفد من يأتي إلى الملك مثلاً في أمر له شأن"8.   1 سورة يس، الآية [51] . 2 أضواء البيان 7/655-656. 3 سورة الكهف، الآية [48] . 4 أضواء البيان 4/114. وانظر المصدر نفسه 4/516. 5 سورة الأنعام، الآية [38] . 6 أضواء البيان 4/112. وانظر المصدر نفسه 6/439. 7 سورة مريم، الآية [85] . 8 أضواء البيان 4/390-391. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 ثمّ بين -رحمه الله- كيفية حشرهم، فقال: "وجمهور المفسرين على أنّ معنى قوله: {وفدا} ؛ أي ركباناً. وبعض العلماء يقول: هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وبعضهم يقول: يحشرون ركباناً على صور من أعمالهم الصالحة في الدنيا في غاية الحسن وطيب الرائحة ... - إلى أن قال: وركوبهم المذكور إنما يكون من المحشر إلى الجنة. أما من القبر، فالظاهر أنهم يحشرون مشاة بدليل حديث ابن عباس الدالّ على أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً. هذا هو الظاهر، وجزم به القرطبي، والعلم عند الله" 1. (2) - حشر الكافرين وشياطينهم: قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} 2: "أقسم جل وعلا بنفسه الكريمة أنه يحشرهم، أي الكافرين المنكرين للبعث، وغيرهم من الناس، ويحشر معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا، وأنه يحضرهم حول جهنم جثياً. وهذان الأمران اللذان ذكرهما في الآية الكريمة أشار إليهما في غير هذا الموضع. أما حشره لهم ولشياطينهم، فقد أشار إليه في قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} 3"4. وقال -رحمه الله- أيضاً: "فقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا   1 أضواء البيان 4/391-392. 2 سورة مريم، الآية [68] . 3 سورة الصافات، الآية [23] . 4 أضواء البيان 4/345. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وَأَزْوَاجَهُمْ} ؛ أي: اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم. وبذلك نعلم أنّ قول من قال: المراد بأزواجهم: نساؤهم اللاتي على دينهم –خلاف الصواب. وقوله: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي: احشروا مع الكفار الشركاء التي كانوا يعبدونها من دون الله ليدخل العابدون والمعبودات جميعاً النار"1.   1 أضواء البيان 6/681-682. وانظر المصدر نفسه 6/439-440. ودفع إيهام الاضطراب الملحق بأضواء البيان- 10/227-228. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 المبحث الرابع: الميزان الميزان لغة: اسم للآلة التي توزن بها الأشياء. والوزن: معرفة قدر الشيء، يقال: وزنته وزناً وزنة، والمتعارف في الوزن عند العامة: ما يقدر بالقسط والقبان1. والميزان شرعا: هو ما ينصبه الله يوم القيامة لوزن أعمال العباد؛ ليجازيهم على أعمالهم. وهو ميزان حسي له كفتان ولسان. وقد دلّ عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" 3. وقال صلى الله عليه وسلم عن ساقي عبد الله بن مسعود: "إنهما لفي الميزان أثقل من جبل أحد"4. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- حقيقة الميزان، وسرد الأدلة على وجوده، وأنه حقّ ثابت. وقد رجح في الأخير أنها موازين عدة لا واحد. قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 5: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يضع الموازين القسط   1 المفردات ص522. 2 سورة الأنبياء، الآية [47] . 3 أخرجه مسلم 4/2072. 4 رواه أحمد في المسند 1/420-421. وقال الألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية (ص474) : "بسند حسن". 5 سورة الأنبياء، الآية [47] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 ليوم القيامة، فتوزن أعمالهم وزناً في غاية العدالة والإنصاف، فلا يظلم الله أحداً شيئاً، وأنّ عمله من الخير أو الشر وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل، فإنّ الله يأتي به؛ لأنه لا يخفى عليه شيء، وكفى به جل وعلا حاسباً لإحاطة علمه بكلّ شيء. وبين في غير هذا الموضع أنّ الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخفّ، ومنها ما يثقل، وأنّ من خفت موازينه هلك، ومن ثقلت موازينه نجا"1. ثمّ سرد -رحمه الله- الآيات الدالة على ذلك من القرآن الكريم كعادته في تفسير القرآن بالقرآن، ورجح -رحمه الله- تعدد الموازين، فقال: "وقوله في هذه الآية: {وَنَضَعُ الْمَوَازِين} جمع ميزان. وظاهر القرآن تعدد الموازين لكلّ شخص؛ لقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} 2، وقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} 3: فظاهر القرآن يدلّ على أنّ للعامل الواحد موازين يوزن بكلّ واحد منها صنف من أعماله4؛ كما قال الشاعر: ملك تقوم الحادثات لعدله فلكلّ حادثة لها ميزان والقاعدة المقررة في الأصول: أنّ ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة5"6. وأثبت -رحمه الله- أنّ العامل يوزن، واستدلّ بحديث أبي هريرة رضي   1 أضواء البيان 4/583-584. 2 سورة الأعراف، الآية [8] . 3 سورة الأعراف، الآية [9] . 4 ذكر ذلك الرازي في تفسيره (14/29) ، وقال: الأظهر إثبات الموازين يوم القيامة، لا ميزان واحد. وقال: فلا يبعد أن تكون لأفعال القلوب ميزان، وللجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان. وذكره القرطبي (انظر الجامع لأحكام القرآن 11/194) ، ولم يرجحه. 5 انظر تفسير القرآن العظيم 3/180. وهو ما رجحه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (انظر فتح الباري 13/547) . 6 أضواء البيان 4/583-584. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة". وقال اقرؤوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 1"2. ثمّ قال -رحمه الله-: "وفيه دلالة على وزن الأشخاص"3. ويحسن بنا أن نختم هذا المبحث بأقوال السلف في حقيقة الميزان، وأنه يجب الإيمان به كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة. قال أبو إسحاق الزجاج4 -رحمه الله-: "أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأنّ أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأنّ الميزان له لسان، وكفتان، ويميل بالأعمال"5. وقال ابن أبي العزّ الحنفي -رحمه الله-: " ... فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أنّ الميزان له كفتان. والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات. فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولانقصان"6.   1 سورة الكهف، الآية [105] . 2 رواه البخاري في الصحيح 5/236. ومسلم في الصحيح 4/2147. 3 أضواء البيان 4/195. 4 هو إبراهيم بن محمد بن سري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج. كان فاضلاً، ديناً، حسن الاعتقاد، عالماً بالنحو واللغة توفي سنة (311?) . (انظر: البداية والنهاية 13/159. ومعجم المؤلفين 1/33) . 5 فتح الباري 13/548. 6 شرح الطحاوية ص475. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 المبحث الخامس: الصراط الصراط لغةً: قال الشيخ الأمين –رحمه الله-: "الصراط في لغة العرب: الطريق الواضح والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط إذ اعوج الموارد مستقيم1. وأما شرعاً: فهو جسر منصوب على متن جهنم، يمرّ عليه الناس إلى الجنة، فمنهم من يمرّ كالطرف، ومنهم كالريح، ومنهم من يمرّ كشدّ الرجل؛ يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمرّ الذي نوره على إبهام قدمه، ومنهم من يخطف فيلقى في النار، فمن يمرّ على الصراط دخل الجنة2. وقد ورد في ذكر الصراط أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: " ... ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها. ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل. ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عزّ وجل، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بقي بعمله، أو الموثق بعمله، ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه "3.   1 أضواء البيان 7/203. وانظر: لسان العرب 7/313. والمفردات للراغب الأصفهاني ص280. 2 انظر شرح الطحاوية ص469-470.وفتاوى شيخ الإسلام 3/146-147. 3 أخرجه البخاري في صحيحه 8/179. وانظر صحيح مسلم 1/163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 والمرور على الصراط هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} 1. وقد اختلف العلماء في المراد بالورود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} إلى أقوال كثيرة، ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- أربعة منها، فقال: "الأول: أن المراد بالورود: الدخول ولكنّ الله يصرف أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول. الثاني: أن المراد بورود النار المذكور: الجواز على الصراط؛ لأنه جسر منصوب على متن جهنم. الثالث: أن الورود المذكور: هو الإشراف عليها والقرب منها. الرابع: أن حظّ المؤمنين من ذلك هو حرّ الحمى في دار الدنيا2. ثمّ استدلّ للقول الأول "أنّ ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كلّ واحد منها: الدخول. فاستدلّ بذلك ابن عباس على أنّ الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول؛ لدلالة الآيات الأخرى على ذلك؛ كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} 3؛ قال: فهذا ورود دخول. وكقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} 4؛ فهو ورود دخول أيضا. وكقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} 5، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ   1 سورة مريم، الآية [71] . 2 أضواء البيان 4/348. وانظر روح المعاني 16/121-122. وقد ذكر هذه الأقوال: القرطبي، وزادها قولاً خامساً: إنّ الورود النظر إليها في القبر: فينجي منها الفائز، ويصلاها من قدر عليه دخولها. (الجامع لأحكام القرآن 11/92) . وذكر ابن رجب الأقوال الأربعة السابقة، إلا أنه ذكر بدل الإشراف عليها والقرب منها الورود خاصّ بالمحضرين حول جهنم. (انظر التخويف من النار ص 200) . 3 سورة هود، الآية [98] . 4 سورة الأنبياء، الآية [99] . 5 سورة مريم، الآية [86] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1. وبهذا استدلّ ابن عباس على نافع ابن الأزرق في2أنّ الورود: الدخول"3. ثمّ قال -رحمه الله-: "واحتج من قال بأنّ الورود: الإشراف والمقاربة، بقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} الآية4، قال: فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه. وكذا قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} الآية5. ونظيره من كلام العرب: قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: فلما وردن الماء زرقاً جمامه وضعن عصيّ الحاضر المتخيم6 قالوا والعرب تقول: وردت القافلة البلد، وإن لم تدخله، ولكن قربت منه. واحتجّ من قال بأنّ الورود في الآية التي نحن بصددها، ليس نفس الدخول، بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُون} 7، قالوا: إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدلّ على عدم دخولهم فيها، فالورود غير الدخول. واحتجّ من قال بأنّ ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين: حرّ الحمى في دار الدنيا بحديث: " الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" 8، وهو حديث   1 سورة الأنبياء، الآيتان [98] . 2 هو نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي البكري الوائلي الحروري. رأس الأزارقة وإليه نسبتهم. كان أمير قومه وفقيههم. من أهل البصرة. قتل في الأهواز يوم دولاب سنة (65هـ) . (انظر: الأعلام 7/351-352) . 3 أضواء البيان 4/349. 4 سورة القصص، الآية [23] . 5 سورة يوسف، الآية [19] . 6 انظر شرح المعلقات العشر ص58. 7 سورة الأنبياء، الآية [101-102] . 8 أخرجه البخاري 4/89-90، ومسلم 4/1731-1732: من حديث ابن عباس، وعائشة، وابن عمر. والبخاري 4/89-90، ومسلم 4/1733: من حديث رافع بن خديج بلفظ: "الحمى من فور جهنم فأبردوها عنكم بالماء ". ومسلم 4/1733: من حديث أسماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر، ورافع بن خديج رضي الله عنهم. رواه البخاري أيضاً مرفوعاً عن ابن عباس1. ثمّ نصر -رحمه الله- القول الأول؛ القائل بأنّ الورود بمعنى الدخول، واستدلّ على ذلك بأربعة أدلة؛ فقال: الأول: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أنّ جميع ما في القرآن من ورود النار؛ معناه دخولها، غير محلّ النزاع، فدلّ ذلك على أنّ محلّ النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. الدليل الثاني: هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك؛ وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} 2، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكوربقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} 3أي نترك الظالمين فيها دليل على أنّ ورودهم لها: دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} ، بل يقول: وندخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى، وكذلك قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} 4. أما الدليل الثالث: فقد استدلّ -رحمه الله- بحديث جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها،   1 أضواء البيان 4/349-350. 2 سورة مريم، الآية [71] . 3 سورة مريم، الآية [72] . 4 أضواء البيان 4/350. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا" 1. ثم قال -رحمه الله-: "إن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخر التي استدل بها ابن عباس"2. أما الدليل الرابع: فقد استدلّ -رحمه الله- بآثار جاءت عن علماء السلف رضي الله عنهم، كلهم يقولون: إنه ورود دخول3. وختم كلامه -رحمه الله- بالردّ على أدلة من منع الدخول؛ فقال -رحمه الله-: "وأجاب من قال بأنّ الورود في الآية: الدخول عن قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 4؛ بأنهم مبعدون عن عذابها والآمها، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حرّ منها ... وأجابوا عن الاستدلال بحديث "الحمى من فيح جهنم" بالقول بموجبه، قالوا: الحديث حقّ صحيح، ولكنه لا دليل فيه لمحلّ النزاع؛ لأنّ السياق صريح في أنّ الكلام في النار في الآخرة، وليس في حرارة منها في الدنيا؛ لأنّ أول الكلام قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} إلى أن قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 5؛ فدل على أنّ كلّ ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى6.   1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/329 باختلاف يسير. وقال الشيخ الأمين عن إسناده: "لا يقل عن درجة الحسن" (انظر أضواء البيان 4/351) . قال الشيخ الألباني: (عن أبي سمية، عنه. وأبوسمية مجهول كما قال الذهبي. وقد صححه هو والحاكم، وفيه نظر ليس هذا موضع بيانه) . (كلمة الإخلاص لابن رجب ص41، بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني) . 2 أضواء البيان 4/352. 3 انظر أضواء البيان 4/352. وتفسير القرآن العظيم 3/132-133. وهذه الآثار عن خالد بن معدان، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وأبي ميسرة، وعبد الله بن المبارك، عن الحسن البصري؛ كلهم يقولون: إنه ورود دخول. 4 سورة الأنبياء، الآية [101] . 5 سورة مريم، الآيات [68-72] . 6 أضواء البيان 4/352. وانظر هذا المبحث في دفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/192-193. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 وتفسير الورود اختلف فيه الصحابة، ومن بعدهم من العلماء1. والشيخ الأمين -رحمه الله- حين يرجح أنّ الورود بمعنى الدخول لم يأت بشيء مبتدع، بل قاله غيره من علماء التفسير؛ أمثال القرطبي2 -رحمه الله-، وغيره. بل قد قال الألوسي: "ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة"3. وبالمقابل رجح بعض العلماء أنّ الورود: هو المرور على الصراط؛ ومن هؤلاء ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-، الذي قال: "اختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 4 ماهو؟ والأظهر الأقوى أنه المرور على الصراط"5. وكذلك الحافظ ابن رجب -رحمه الله- الذي قال: "ومما يستدلّ به على أنّ الورود ليس هو الدخول: ما خرجه مسلم من حديث جابر قال: أخبرتني أم بشر أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها". قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها. فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 6 فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عزّ وجلّ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} 7"8 9.   1 انظر التخويف من النار لابن رجب ص193. وأضواء البيان 4/352. 2 انظر الجامع لأحكام القرآن 11/93. 3 انظر روح المعاني 16/121. 4 سورة مريم، الآية [71] . 5 شرح الطحاوية ص471. 6 سورة مريم، الآية [71] . 7 سورة مريم، الآية [72] . 8 أخرجه مسلم في صحيحه 4/1942. 9 التخويف من النار ص194. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وكذلك الإمام الشوكاني1 -رحمه الله- قال: "وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود وحمله على ظاهره؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2 .... ولا يخفى أنّ القول بأنّ الورود هو المرور على الصراط، أو الورود على جهنم وهي خامدة: فيه جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة، فينبغي حمل هذه الآيات على ذلك"3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما الورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا} 4: فقد فسره النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: رواه مسلم في صحيحه عن جابر: بأنه المرور على الصراط5. والصراط هو الجسر، فلا بد من المرور عليه لكلّ من يدخل الجنة؛ من كان صغيراً في الدنيا، ومن لم يكن"6.   1 تقدمت ترجمته. 2 سورة الأنبياء، الآية [101] . 3 فتح القدير 3/344. 4 سورة مريم، الآية [71] . 5 أخرجه مسلم 4/1942. وقد تقدم قبل صفحة. 6 الفتاوى 4/279. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 المبحث السادس: الجنة المطلب الأول: نعيم الجنة ... المبحث السادس: الجنة الجنة لغة: عرفها الشيخ -رحمه الله- بقوله: والجنة في لغة العرب: البستان. ومنه قول زهير بن أبي سلمى: كأنّ عيني في غربي مقلة من النواضح تسقي جنة سحقا فقوله: جنة سحقا؛ يعني: بستانا طويل النخل. وفي اصطلاح الشرع: هي دار الكرامة التي أعدّ الله لأوليائه يوم القيامة1، وفيها نهر يطرد، وغرفة عالية، وشجرة مثمرة، وزوجة حسناء. بل فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذّ الأعين؛ مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر2؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لاعين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بش ر"3.   1 أضواء البيان 7/161. 2 معارج الصعود ص84. وانظر المصدر نفسه ص262. 3 صحيح مسلم 4/2174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 المطلب الأول: نعيم الجنة أشار الشيخ الأمين -رحمه الله- إلى نعيم الجنة، وصوره وذكر أنّ هذا النعيم باق لايفنى ولاينفذ. وذكر كثيراً من الآيات التي تتحدث عن أوصاف هذا النعيم المقيم؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} 1: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنّ المتقين يدخلون يوم القيامة جنات عدن. والعدن في لغة العرب: الإقامة؛ فمعنى جنات عدن: جنات إقامة في النعيم لايرحلون ولايتحولون. وبين في آيات كثيرة أنهم مقيمون في الجنة على الدوام، كما أشار له هنا بلفظ عدن؛ كقوله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} 2، وقوله: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} الآية3، والمقامة: الإقامة"4. ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله في هذه الآية الكريمة: {تجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} 5؛ بين أنواع الأنهار في قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} إلى قوله: {مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} 6. وقوله هنا: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} 7 وضحه في مواضع أخر؛ كقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 8، وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ   1 سورة النحل، الآية [31] . 2 سورة الكهف، الآية [108] . 3 سورة فاطر، الآية [35] . 4 أضواء البيان 3/265. 5 سورة النحل، الآية [31] . 6 سورة محمد، الآية [15] . 7 سورة النحل، الآية [31] . 8 سورة ق، الآية [35] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1، وقوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} 2، وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} 3، وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} 4، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله في هذه الآية: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} 5؛ يدلّ على أنّ تقوى الله هي السبب الذي به تنال الجنة. وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} 6. وقوله، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 7. وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 8، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} 9، إلى غير ذلك من الآيات"10. وتحدث الشيخ -رحمه الله- عن خلود الجنة وخلود أهلها، وذلك عند تفسير قوله تعالى: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} 11، فقال: "أي خالدين فيه بلا انقطاع. وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة، كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 12؛ أي غير مقطوع، وقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} 13؛ أي ماله انقطاع وانتهاء، وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ   1 سورة الزخرف، الآية [71] . 2 سورة الفرقان، الآية [16] . 3 سورة الزمر، الآية [34] . 4 سورة فصلت، الآيتان [31-32] . 5 سورة النحل، الآية [31] . 6 سورة مريم، الآية [63] . 7 سورة آل عمران، الآية [133] . 8 سورة الحجر، الآية [45] . 9 سورة الطور، الآية [17] . 10 أضواء البيان 3/265-266. 11 سورة الكهف، الآية [3] . 12 سورة هود، الآية [108] . 13 سورة ص، الآية [54] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 بَاقٍ} 1، وقوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 2، إلى غير ذلك من الآيات"3. وتحدث الشيخ -رحمه الله- عن نعيم الجنة وملذاتها، وذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4؛ فقال: "وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أنّ الجنة فيها كلّ مشتهى، وكلّ مستلذ: جاء مبسوطا موضحة أنواعه في آيات كثيرة من كتاب الله، وجاء أيضا إجمالا شاملا لكلّ شيء من النعيم. أما إجمال ذلك: ففي قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. وأما بسط ذلك وتفصيله: فقد بين القرآن أنّ من ذلك النعيم المذكور في الآية: المشارب، المآكل، والمناكح، والفرش، والسرر، والأواني، وأنواع الحلي، والملابس، والخدم، إلى غير ذلك. وسنذكر بعض الآيات الدالة على كلّ شيء من ذلك: أما المآكل: فقد قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} 6، وقال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} 7 وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} 8، وقال تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} الآية9، إلى غير ذلك من الآيات.   1 سورة النحل، الآية [96] . 2 سورة الأعلى، الآية [17] . 3 أضواء البيان 4/10. 4 سورة الزخرف، الآية [71] . 5 سورة السجدة، الآية [17] . 6 سورة الزخرف، الآية [73] . 7 سورة الواقعة، الآية [21] . 8 سورة الواقعة، الآيتان [32-33] . 9 سورة البقرة، الآية [25] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 أما المشارب: فقد قال تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} 1، وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} الآية2، وقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} 3، وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} 4، وقال تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} 5. وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} 6، إلى غير ذلك من الآيات .... وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك: ففي آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} 7. وقوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} 8. وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} 9؛ والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب. وقوله تعالى: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 10، وقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} 11، وقوله   1 سورة الإنسان، الآيتان [5-6] . 2 سورة الإنسان، الآيتان [17-18] . 3 سورة الواقعة، الآيتان [17-19] . 4 سورة الصافات، الآيتان [45-47] . 5 سورة محمد، الآية [15] . 6 سورة الحاقة، الآية [24] . 7 سورة الرحمن، الآية [54] . 8 سورة يس، الآية [56] . 9 سورة الواقعة، الآيتان [15-16] . 10 سورة الحجر، الآية [47] . 11 سورة الغاشية، الآية [13] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} 1، إلى غير ذلك من الآيات. وأما خدمهم: فقد قال تعالى في ذلك: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} الآية2. وقال تعالى في سورة الإنسان، في صفة هؤلاء الغلمان: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} 3. وذكر نعيم الجنة بأبلغ صيغة في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} 4. والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة، وحسنها، وكمالها؛ كالظلال، والعيون، والأنهار، وغير ذلك، كثيرة جداً. ولنكتف منها بما ذكرنا" 5. وهكذا يصف الشيخ الأمين -رحمه الله- الجنة، ونعيمها، وملذاتها بأبلغ وصف، وفق منهجه في بيان القرآن بالقرآن؛ فيوضح ما أعدّ الله لأوليائه في دار كرامته، وما يتفضل به جل وعلا عليهم من الخلود في النعيم المقيم.   1 سورة الرحمن، الآية [76] . 2 سورة الواقعة، الآية [17] . 3 سورة الإنسان، الآية [19] . 4 سورة الإنسان، الآية [20] . 5 أضواء البيان 7/283-284. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 المطلب الثاني: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة أعظم نعيم الجنة وملذاتها رؤية المؤمنين وجه ربهم الكريم الذي ليس كمثله شيء. والمؤمنون يرون ربهم في الجنة من فوقهم رؤية بصرية كما جاءت النصوص من القرآن والسنة النبوية: فمن القرآن: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وقوله: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 2، وقوله جلّ شأنه: {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} 3. ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لاتضامون في رؤيته. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا" 4، وقال، صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم عياناً "5. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه المسألة العظيمة من خلال تفسيره للآيات الدالة على رؤية الرب سبحانه وتعالى؛ فذكر حقيقة الرؤية، وأدلتها، ومعتقد أهل السنة في إثباتها في الآخرة ومنعها في الدنيا، وذكر في المقابل أدلة المعطلة النافين لرؤية الله سبحانه وتعالى، وبين خطأ استدلالهم، وردّ عليهم.   1 سورة القيامة، الآيتان [22-23] . 2 سورة المطففين، الآية [15] . 3 سورة المطففين، الآية [23] . 4 أخرجه البخاري في صحيحه –واللفظ له- 8/179. ومسلم في الصحيح 1/439. 5 أخرجه البخاري في صحيحه 8/179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ومما قاله -رحمه الله-: "وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم -أنه قال في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 1؛ الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم2. وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 3. وقد تواترت الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم. وتحقيق المسألة: أنّ رؤية الله جل وعلا بالأبصار جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة. ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلاً في دار الدنيا: قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 4؛ لأنّ موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى. وأما شرعاً: فهي جائزة وواقعة في الآخرة؛ كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح. وأما في الدنيا: فممنوعة شرعاً كما تدلّ عليه آية "الأعراف"5 هذه، وحديث: " إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " 67.   1 سورة يونس، الآية [26] . 2 قال البيهقي -رحمه الله-: هذا تفسير استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين، ومثله لايقال إلا بالتوقيف (انظر لوامع الأنوار البهية 2/242) . وقد أخرج مسلم عن صهيب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة، الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم عزّ وجلّ. ثمّ تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ". (صحيح مسلم 1/163) . 3 سورة ق، الآية [35] . انظر في تفسير هذه الآية: الرد على الجهمية للدارمي ص62. 4 سورة الأعراف، الآية [143] . 5 قوله تعالى: "قال لن تراني". (الأعراف، 143) . 6 لم أجده بهذا اللفظ. وهو في مسلم 4/2245 وسنن الترمذي (4/508) بلفظ: " إنه لن ير أحد منكم ربه حتى يموت". وقال: "حديث حسن صحيح". 7 أضواء البيان 2/332. وانظر المصدر نفسه 3/262، 401، 4/199، 7/654. ودفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/122، 312. وآداب البحث والمناظرة 2/51، وتفسير سورة النور ص141، 157- جمع د/عبد الله قادري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 أما من منع رؤية الله: فهم المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة1. وقد استدلوا على ماذهبوا إليه بأدلة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} 2، وقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} 3، وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 4، وغيرها من الأدلة. وقد استعرض الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه الأدلة، وبين أنها لاتعارض معتقد السلف في إثبات رؤية الله بالأبصار يوم القيامة، ودفع التوهم الذي التبس على هؤلاء المعطلة؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ} الآية5: هذه الآية الكريمة توهم أنّ الله تعالى لايرى بالأبصار. وقد جاءت آيات أخر تدلّ على أنه يرى بالأبصار؛ كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 6. وكقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 7؛ فالحسنى: الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم. وكذلك قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 8 على أحد القولين. وقوله تعالى في الكفار: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} 9؛ يفهم من دليل خطابه أنّ المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم. والجواب من   1 انظر: شرح الطحاوية ص204. 2 سورة الأنعام، الآية [103] . 3 سورة الأعراف، الآية [143] . 4 سورة البقرة، الآية [55] . 5 سورة الأنعام، الآية [103] . 6 سورة القيامة، الآيتان [22-23] . 7 سورة يونس، الآية [26] . 8 سورة ق، الآية [35] . 9 سورة المطففين، الآية [15] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 ثلاثة أوجه: الأول: أنّ المعنى: "لاتدركه الأبصار": أي في الدنيا، فلا ينافي الرؤية في الآخرة. الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة، وهذا قريب من المعنى الأول. الثالث: وهو الحقّ؛ أنّ المنفيّ في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه. أما مطلق الرؤية فلا تدلّ الآية على نفيه، بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك. وحاصل هذا الجواب: أنّ الإدارك أخصّ من مطلق الرؤية؛ لأنّ الإدراك المراد به الإحاطة، والعرب تقول: رأيت الشيء وما أدركته. فمعنى لاتدركه الأبصار: لاتحيط به، كما أنه تعالى يعلمه الخلق، ولايحيطون به علما. وقد اتفق العقلاء على أنّ نفي الأخصّ لايستلزم نفي الأعمّ؛ فانتفاء الإدراك لايلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، مع أنّ الله تعالى لايدرك كنهه على الحقيقة أحد من الخلق؛ والدليل على هذا الوجه: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعا: "حجابه النور، أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 1. فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا، ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقاً"2. وقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} الآية3: "استدلّ المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل. وقد جاءت آيات تدلّ على أنّ نفي الرؤية المذكور إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة: فإنّ المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم، كما   1 أخرجه مسلم 1/161-162. 2 دفع إيهام الاضطراب –الملحق بأضواء البيان 10/120-121. 3 سورة الأعراف، الآية [143] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 صرح به تعالى في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وقوله في الكفار: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 2؛ فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أنّ المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا"3. وقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 4: "واستدلال المعتزلة بهذه الآية وأمثالها على أن رؤية الله مستحيلة استدلال باطل، ومذهبهم والعياذ بالله من أكبر الضلال وأعظم الباطل. وقول الزمخشري في كلامه على هذه الآية: إنّ الله لايرى: قول باطل، وكلام فاسد. والحقّ الذي لاشك فيه أنّ المؤمنين يرون الله بأبصارهم يوم القيامة؛ كما تواترت به الأحاديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم, ودلت عليه الآيات القرآنية منطوقا ومفهوما"5. وبهذا العرض الشيق من الشيخ -رحمه الله- لأدلة السلف رحمهم الله في إثبات رؤية الباري جل وعلا في الآخرة، وبهذا الردّ القويّ على أدلة المنكرين وشبههم: يتضح للمنصف أنّ الحقّ في جانب السلف الذين تمسكوا بالنصوص فلم يوؤلوها بعقولهم. وأذكر ها هنا أقوالا لبعض السلف رحمهم الله في إثبات رؤية الربّ جل وعلا يوم القيامة، وأنها حقّ لا مرية فيه: قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: (قد دلّ القرآن والسنة المتواترة وإجماع الصحابة وأئمة الإسلام وأهل الحديث؛ عصابة الإسلام ونزل الإيمان   1 سورة القيامة، الآيتان [22-23] . 2 سورة المطففين، الآية [15] . 3 أضواء البيان 2/332. 4 سورة البقرة، الآية [55] . 5 أضواء البيان 6/304-305. وانظر المصدر 2/206. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنّ الله يرى يوم القيامة بالأبصار عيانا كما يرى القمر ليلة البدر صحوا، وكما ترى الشمس في الظهيرة"1. وقال العلامة ابن أبي العزّ الحنفي -رحمه الله-: "وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا. ومن أحاط بها معرفة يقطع بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قالها"2. وبذكر هذين المثالين من قولي هذين الإمامين الجليلين يتضح مذهب السلف رحمهم الله في هذه المسألة؛ من إثبات الرؤية البصرية كما جاءت النصوص من الكتاب والسنة المتواترة، وذلك أعظم ما يعطاه المؤمن في الجنة من النعيم، نسأل الله بمنه وفضله أن يرزقنا ذلك إنه جواد كريم.   1 حادي الأرواح ص211. 2 شرح الطحاوية ص210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 المطلب الثالث: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ الصحابة اختلفوا في هذه المسألة؛ فقال: (اختلف العلماء: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء بعين رأسه أو لا؟ فقال ابن عباس وغيره: رآه بعين رأسه. وقالت عائشة وغيرها: لم يره. وهو خلاف مشهور بين أهل العلم معروف) 1. وقد جمع الشيخ -رحمه الله- بين هذه الأقوال، مرجحا عدم رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى، واعتمد في هذا الجمع والترجيح علي نصّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، فقال -رحمه الله-: "التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين رأسه. وما جاء عن بعض السلف من أنه رآه: فالمراد به الرؤية بالقلب، كما في صحيح مسلم2: أنه رآه بفؤاده مرتين لابعين الرأس3. ومن أوضح الأدلة على ذلك: أنّ أبا ذر رضي الله عنه، وهو هو في صدق اللهجة سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها، فأفتاه بما مقتضاه أنه لم يره"4. ثم ذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: " نور أنّى أراه "5. وذكر رواية أخرى   1 أضواء البيان 3/399. 2 أخرجه مسلم في الصحيح 1/158. 3 أخرجه مسلم في الصحيح 1/158. 4 أضواء البيان 3/399. 5 أضواء البيان 6/288-289. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 لهذا الحديث عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: "رأيت نورا" 1. ثمّ ختم هذه المسألة بقوله: "والتحقيق الذي لاشك فيه هو أنّ معنى الحديث هو ما ذكر من كونه لايتمكن أحد من رؤيته لقوة النور الذي هو حجابه. ومن أصرح الأدلة على ذلك أيضا: حديث أبي موسى المتفق عليه: "حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"2، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "نور أنى أراه "3؛ أي كيف أراه وحجابه نور، ومن صفته أنه لو كشفه لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه"4. وبهذا الجمع بين الروايات ينتفي التعارض، وتتم الموافقة بين الأدلة، ويتضح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير ربه جل وعلا بعيني رأسه، بل كانت الرؤية قلبية. وقد قال بهذا الجمع عدد غفير من أئمة السلف رحمهم الله؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي قال: "وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين"5. وعائشة أنكرت الرؤية؛ فمن الناس من جمع بينهما، فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد. والألفاظ الثابتة عن ابن   1 أخرجه مسلم في الصحيح 1/161. 2 صحيح مسلم 1/161. 3 أخرجه مسلم في الصحيح 1/161-162. 4 أخرجه مسلم في الصحيح 1/161-162. 5 أضواء البيان 3/400. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 عباس هي مطلقة ومقيدة بالفؤاد؛ تارة يقول: رأى محمد ربه، وتارة يقول: رآه محمد. ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده. ولم يقل أحد أنه سمع أحمد يقول رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين. وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا في الكتاب والسنة ما يدلّ على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلّ: كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه" 1،2.   1 أخرجه مسلم 1/158. 2 الفتاوى 6/509-510. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 المبحث السابع: النار المطلب الأول: النار، وعذابها النار دار العذاب، أعدها الله للكافرين والعصاة فيها أشدّ العذاب، وصنوف العقوبات، وخزنتها ملائكة غلاظ شداد. والكفار مخلدون فيها، طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم. قال تعالى يحذر منها عباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداًلِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباًإِلاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَاءً وِفَاقاً} 2. وقال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 3. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنم" قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال: " فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلها مثل حرها "4.   1 سورة التحريم، الآية [6] . 2 سورة النبأ، الآيتان [21-26] . 3 سورة الحجر، الآيتان [43-44] . 4 أخرجه البخاري في الصحيح 4/90. ومسلم في الصحيح 4/2184–واللفظ له-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وقال عليه الصلاة والسلام: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكلّ جبار عنيد، وبكلّ من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين "1. وقد تحدث الشيخ الأمين –رحمه الله- عن صفة النار، عدد أبوابها، وأن لها بصراً ولساناً وإرادة وأنها أشد من نار الدنيا بسبعين ضعفاً. ومما قاله -رحمه الله- في وصف شدتها: (ونار الآخرة لو شددت نار الدنيا إلى منتهاها لكانت نار الآخرة أشدّ منها بسبعين ضعفا. وهي مسودة مظلمة يحطم بعضها بعضا"2. وقال في وصف شرابها عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} 3: "ذكر في هذه الآية الكريمة أنّ الذين كفروا يعذبون يوم القيامة بشرب الحميم، وبالعذاب الأليم، والحميم: الماء الحار. وذكر أوصاف هذا الحميم في آيات أخر: كقوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} 4، وقوله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} 5، وقوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُود} 6، وقوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} الآية7، وقوله: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} 8. وذكر في موضع آخر أنّ الماء الذي يسقون صديد –أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك   1 أخرجه الترمذي في سننه 4/701، وقال: حديث حسن غريب صحيح. وقد صححه الألباني انظر صحيح الجامع 2/1338) . 2 معارج الصعود ص252. 3 سورة يونس، الآية [4] . 4 سورة الرحمن، الآية [44] . 5 سورة محمد، الآية [15] . 6 سورة الحج، الآيتان [19-20] . 7 سورة الكهف، الآية [29] . 8 سورة الواقعة، الآيتان [54-55] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 بفضله ورحمته- وذلك في قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} الآية1. وذكر في موضع آخر أنهم يسقون مع الحميم الغساق؛ كقوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} 2، وقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً إِلاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} 3؛ والغساق: صديد أهل النار –أعاذنا الله والمسلمين منها-، وأصله: غسقت العين: سال دمعها. وقيل: هو لغة البارد المنتن. والحميم الآني: الماء البالغ غاية الحرارة. والمهل: دُرْدِي4الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص ونحو ذلك، والآيات المبينة لأنواع عذاب أهل النار كثيرة جدا5. وأما عدد أبواب جهنم؛ فقد ذكره الشيخ –رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} الآية6فقال: "لم يبين هنا عدد أبوابها، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر في قوله جلّ وعلا: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 7أرجو الله أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ومن جميع أبوابها إنه رحيم كريم"8. ثم ذكر -رحمه الله- أن النار تتكلم وتبصر فقال -رحمه الله-: "اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في قوله   1 سورة إبراهيم، الآيتان [16-17] . 2 سورة ص، الآيتان [57-58] . 3 سورة النبأ، الآيتان [24-25] . 4 دردي الزيت وغيره: ما يبقى في أسفله. وأصله: ما يركد في أسفل كلّ مائع؛ كالأشربة الأدهان. (لسان العرب 3/166) . 5 أضواء البيان 2/477. 6 سورة النحل، الآية [29] . 7 سورة الحجر، الآية [44] . 8 أضواء البيان 3/362. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 هنا: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 1؛ ورؤيتها إياهم من مكان بعيد تدلّ على حدة بصرها كما لا يخفى. كما أنّ النار تتكلم كما صرح الله به في قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 2، والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة؛ كحديث محاجة النار مع الجنة3، وكحديث اشتكائها إلى ربها فأذن لها في نفسين4، ونحو ذلك. ويكفي في ذلك أنّ الله جلّ وعلا صرح في هذه الآية أنها تراهم، وأنّ لها تغيظا على الكفار، وأنها تقول هل من مزيد"5. وقال -رحمه الله- في موضع آخر عند تفسير قوله تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظ} 6: إثبات أنّ للنار حسا وإدراكا وإرادة، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ، وتبصر، وتتكلم، وتطلب المزيد؛ كما قال هنا: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} 7. وقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} 8، وقال: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 9، 10. وقد ردّ الشيخ الأمين –رحمه الله- على من تأول تلك النصوص وصرفها عن حقيقتها؛ فقال -رحمه الله-: (واعلم أنّ ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر، ولا تتكلم، ولا تغتاظ،   1 سورة الفرقان، الآية [12] . 2 سورة ق، الآية [30] . 3 لعله يعني حديث: " احتجت النار والجنة، فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون.."، أخرجه مسلم في صحيحه 4/2186. 4 انظر صحيح البخاري 4/89. 5 أضواء البيان 6/288-289. 6 سورة الملك، الآيتان [7-8] . 7 سورة الملك، الآية [8] . 8 سورة الفرقان، الآية [12] . 9 سورة ق، الآية [30] . 10 تتمة الشيخ عطية سالم لأضواء البيان 8/395. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 وأنّ ذلك كله من قبيل المجاز، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها: كله باطل، ولامعول عليه؛ لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند والحقّ هو ما ذكرنا وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أنّ النصوص من الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما هو معلوم في محله. وقال القرطبي في تفسيره هذه الآية الكريمة: إنّ القول بأنّ النار تراهم هو الأصحّ" 1،2. وقد ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- أنّ أهل النار هم أكثر الخلق؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} 3: "هذه الآية تدلّ على أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين؛ فأهل النار هم الأكثر؛ كما بين ذلك في آيات كثيرة وأحاديث؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 4، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} 5. وقد بينت الأحاديث الصحيحة أنّ نصيب النار تسعة وتسعون وتسعمائة من الألف، وأنّ نصيب الجنة واحد من الألف" 6، 7. ثمّ بين الشيخ الأمين –رحمه الله- أنّ أهل النار يدخلونها جماعة جماعة؛ كما دلّ على ذلك قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} 8"9. ويتضح من وصف الشيخ الأمين –رحمه الله- للنار –أعاذنا الله منها بكرمه- شدة تتبعه للأثر، ودقة فهمه له، وتوضيح الوصف بالأدلة من القرآن الكريم، كما هو دأبه -رحمه الله- في تفسير القرآن بالقرآن.   1 انظر الجامع لأحكام القرآن 13/7.. 2 أضواء البيان 6/289. وانظر المصدر نفسه 7/653. 3 سورة هود، الآية [17] . 4 سورة يوسف، الآية [103] . 5 سورة الصافات، الآية [71] . 6 انظر: صحيح البخاري 7/195-196. وصحيح مسلم 1/201. 7 معارج الصعود ص75. 8 سورة الأعراف، الآية [38] . 9 انظر تتمة الشيخ عطية سالم لأضواء البيان 8/395. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 المطلب الثاني: بقاء النار، والردّ على من قال بفنائها دلّ الكتاب والسنة على أبدية النار، وبقاء مَنْ فيها ممن يستحق البقاء تحت أنواع العذاب. أما الموحدون فلا بدّ من خروجهم منها برحمة أرحم الراحمين. والآيات والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة؛ منها قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} 1، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} 2، وقال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} 3. ومن الأحاديث حديث الشفاعة الطويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " ... ثمّ أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود" 4. وقال صلى الله عليه وسلم: " يدخل الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثمّ يقوم مؤذن بينهم، فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كلّ خالد فيما هو فيه "5. وعن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما أهل النار   1 سورة الأحزاب، الآيتان [64-65] . 2 سورة المائدة، الآية [37] . 3 سورة فاطر، الآية [36] . 4 أخرجه البخاري في صحيحه 5/147. 5 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم –أو قال بخطاياهم- فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة ... " 1. وقد أوضح الشيخ الأمين –رحمه الله- هذه المسألة، ودرسها من جوانب عدة في معرض تفسيره لبعض الآيات المتعلقة بالموضوع؛ فقد أشار في مواضع إلى بقاء أهل النار وعدم موتهم، وذكر الأدلة على ذلك. وأكد في مواضع أخرى عدم خروج الكفار من النار، بل خلودهم الأبدي فيها. وأفاض -رحمه الله- في أماكن متفرقة في تقرير عدم فناء النار، وردّ على من قال بذلك. ومن كلامه يرحمه الله في عدم موت أهل النار، ما قاله عند تفسير قوله تعالى: {َنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 2: "وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية. وقد دلّ القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت، ولا تفنى هي عنهم، ولا يخفف عنهم عذابها، ولا يخرجون منها. أما كونهم لا يموتون فيها: فالذي دلّ عليه قوله هنا: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 3قد دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} 4، وقوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} 5، وقوله تعالى:   1 أخرجه مسلم في صحيحه 1/172. 2 سورة الزخرف، الآية [77] . 3 سورة الزخرف، الآية [77] . 4 سورة طه، الآية [74] . 5 سورة الأعلى، الآيات [11-13] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} الآية1، وقوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} الآية2"3. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "وقال تعالى في عدم موتهم في النار: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} 4، وقال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} 5، وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب} 6. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} 7. وقال تعالى: {ويتجنبها الأشقى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} 8، ولما قالوا: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} 9أجابهم بقوله: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 10، 11. ثم ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- الأدلة على عدم خروج أهل النار: فقال: "وأما كونهم لا يخرجون منها: فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى في البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 12، وقوله تعالى في المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيم} 13، وقوله   1 سورة فاطر، الآية [36] . 2 سورة إبراهيم، الآية [17] . 3 أضواء البيان 7/285-286. 4 سورة فاطر، الآية [36] . 5 سورة إبراهيم، الآية [17] . 6 سورة النساء، الآية [56] . 7 سورة طه، الآية [74] . 8 سورة الأعلى، الآيات [11-13] . 9 سورة الزخرف، الآية [77] . 10 سورة الزخرف، الآية [77] . 11 أضواء البيان 7/93. 12 سورة البقرة، الآية [167] . 13 سورة المائدة، الآية [37] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 تعالى في الحج: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} الآية1، وقوله تعالى في السجدة: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 2. وقوله تعالى في الجاثية: {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} 3إلى غير ذلك من الآيات" 4. أما كلامه -رحمه الله- عن بقاء النار، وعدم فنائها: فقد أطال النفس فيه جدا، وناقش من قال بفنائها بالأدلة السمعية والمنطقية، وتعقب أدلتهم وأسقطها، وأوضح معنى الآيات التي توهم فناء النار، مبينا أن لا دلالة فيها على ذلك. قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 5: "هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا. ونظيرها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} 6، وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} 7. وقد جاءت آيات تدلّ على أنّ عذابهم لا انقطاع له؛ كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا} 8، 9.   1 سورة الحج، الآية [22] . 2 سورة السجدة، الآية [20] . 3 سورة الجاثية، الآية [35] . 4 أضواء البيان 7/286. 5 سورة الأنعام، الآية [128] . 6 سورة هود، الآيتان [106-107] . 7 سورة النبأ، الآية [23] . 8 سورة النساء، الآية [169] . 9 دفع إيهام الاضطراب-الملحق بأضواء البيان 10/122. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 ثم ذكر الشيخ -رحمه الله- الجواب عن هذا الإشكال، دافعا التعارض، ونافيا التوهم، ومبينا أنّ هذه الآيات يمكن أن تحمل على أحد ثلاثة أوجه؛ فقال مبينا هذه الأوجه: أحدهما: أنّ قوله تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 1؛ معناه: إلا ما شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنّ بعض أهل النار يخرجون منها، وهم أهل الكبائر من الموحدين. ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة2، والضحاك3، وأبي سنان4، وخالد بن معدان5، واختاره ابن جرير. وغاية ما في هذا القول: إطلاق "ما"، وإرادة "من"، ونظيره في القرآن: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 6. الثاني: أنّ المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله ابن جرير أيضا. الوجه الثالث: أنّ قوله: {إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 7فيه إجمال، وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدا، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له. والظهور من المرجحات، فالظاهر مقدم على المجمل كما تقرر في الأصول"8.   1 سورة الأنعام، الآية [128] . 2 تقدمت ترجمته. 3 هو الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبومحمد؛ صاحب التفسير تابعي جليل. توفي سنة (102?) . انظر: سير أعلام النبلاء 4/598. والبداية والنهاية 9/231) . 4 هو ضرار بن مرة الكوفي الشيباني. إمام ثقة فاضل. توفي سنة (132?) . (تهذيب التهذيب 4/457) . 5 هو الإمام أبوعبد الله خالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي الحمصي. تابعي جليل، شيخ أهل الشام. توفي سنة (103?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 4/536. والبداية والنهاية 9/239) . 6 سورة النساء، الآية [3] . 7 سورة الأنعام، الآية [128] . 8 دفع إيهام الاضطراب-الملحق بالأضواء 10/123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وفي موضع آخر قال في الجمع بين هذه الآيات: "والجواب الحقّ أنّ أهل النار الكفرة خالدون فيها خلودا لا انقطاع له البتة. "والاستثناء بالمشيئة كما صرح به في أهل النار صرح به كذلك في أهل الجنة، مع أنه لا يقول أحد ممن يقول بانقطاع النار بانقطاع الجنة؛ كما قال تعالى هنا في سورة هود: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 1؛ وهذه المشيئة مجملة، لم نعرف ما أخرجته. والأدلة المنفصلة وضحت أنّ المشيئة اقتضت الخلود الأبدي؛ كما قال تعالى في أهل الجنة: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} 2، وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} 4، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} 5، وقال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} 6، وقال تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} 7، والفعل بعد كلما يتكرر بتكررها: فمن ادعى خبوة للنار نهائية تفنى بها ليس بعده سعير، يردّ عليه بهذه الآية. ولو قيل للعبد: كلما جاء أحد أكرمه لزمه ذلك، ولا حقّ له أن يتعذر بأنه لم يفهم التكرار"8.   1 سورة هود، الآية [108] . 2 سورة ص، الآية [54] . 3 سورة النحل، الآية [96] . 4 سورة الزخرف، الآيتان [74-75] . 5 سورة الفرقان، الآية [65] . 6 سورة البقرة، الآية [162] . 7 سورة الإسراء، الآية [97] . 8 معارج الصعود ص255، هذا ولم يشر الشيخ -رحمه الله- إلى الوجهين السابقين، مما يدلّ على أنّ الوجه الثالث هو الراجح عنده، فاقتصر على ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 أما قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} 1: فليست دالة على فناء النار كما زعم من قال بفنائها، وقد ذكر الشيخ الأمين أنها لا تدلّ على ذلك من عدة أوجه، أظهر هذه الأوجه عنده بينه في قوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} : متعلق بما بعده؛ أي لابثين فيها أحقابا في حال كونهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، فإذا انقضت تلك الأحقاب عذبوا بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق. ويدلّ لهذا تصريحه تعالى بأنهم يعذبون بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق في قوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} 2 3، أما مناقشته -رحمه الله- لمن قال بفناء النار: فقد أورد عليهم -رحمه الله- بالتقسيم والسبر خمس حالات تكون عليها النار، ويكون عليها أهلها، ثمّ أجاب عن أربع حالات منها بما يدلّ على بطلانها مؤيدا إجابته بآيات قرآنية؛ فقال -رحمه الله-: "إنّ المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح، وغيرها راجع إليها: الأولى: أن يقال بفناء النار، وأنّ استراحتهم من العذاب بسبب فنائها. الثانية: أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية. الثالثة: أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية. الرابعة: أن يقال إنهم باقون فيها إلا أنّ العذاب يخفّ عليهم، وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذة فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما. وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه"4. وقد أجاب -رحمه الله- على الحالة الأولى بقوله: "أما فناؤها: فقد نصّ تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} 5.   1 سورة النبأ، الآية [23] . 2 سورة ص، الآيتان [57-58] . 3 دفع إيهام الاضطراب-الملحق بالأضواء 10/307. وانظر معارج الصعود ص256؛ فقد ذكر فيه الشيخ الأمين –رحمه الله- هذا الوجه فقط. 4 دفع إيهام الاضطراب (الملحق بالأضواء 10/124) . 5 سورة الإسراء، الآية [97] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وقد قال تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّك} 1 في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار، وبين عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 2، وبقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} 3، وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 4.وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} 5. فمن يقول إنّ للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير: ردّ عليه بهذه الآية الكريمة. ومعلوم أنّ "كلما" تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها، ونظيرها قوله تعالى: {ُكلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} الآية"6"7. وأما الحالة الثانية فقد بين الشيخ -رحمه الله- بطلانها بقوله: "وأما موتهم: فقد نصّ تعالى على عدمه بقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} 8، وقوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} 9، وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} 10. وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنّ الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملح، فيذبح. وإذا ذبح الموت حمل اليقين بأنه لاموت؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: " ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت "11"12.   1 سورة هود، من الآيتين [107-108] . 2 سورة هود، الآية [108] . 3 سورة ص، الآية [54] . 4 سورة النحل، الآية [96] . 5 سورة الإسراء، الآية [97] . 6 سورة النساء، الآية [56] . 7 دفع إيهام الاضطراب 10/125. 8 سورة فاطر، الآية [36] . 9 سورة طه، الآية [74] . 10 سورة إبراهيم، الآية [17] . 11 صحيح البخاري 4/316. وصحيح مسلم 4/2188. 12 دفع إيهام الاضطراب 10/125. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وعن الحالة الثالثة أجاب -رحمه الله- بقوله: "وأما إخراجهم منها: فنصّ تعالى على عدمه بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 1، وبقوله {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 2، وبقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} 3"4. وأما الحالة الرابعة، فقد أجاب عنها -رحمه الله- بقوله: "وأما تخفيف العذاب عنهم: فنصّ تعالى على عدمه بقوله: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} 5، وقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَاباً} 6، وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون} 7، وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} 8، وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} 9، وقوله تعالى {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} 10، وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} 11. ولا يخفى أنّ قوله: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} 12، وقوله {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} 13: كلاهما فعل في سياق النفي؛ فحرف النفي ينفي المصدر الكامن في الفعل، فهو في معنى: لا تخفيف للعذاب عنهم، ولاتفتير له. والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات، بل يلزمه ذهابهما رأسا، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها   1 سورة البقرة، الآية [167] . 2 سورة السجدة، الآية [20] . 3 سورة المائدة، الآية [37] . 4 دفع إيهام الاضطراب 10/125. 5 سورة فاطر، الآية [36] . 6 سورة النبأ، الآية [30] . 7 سورة الزخرف، الآية [75] . 8 سورة الفرقان، الآية [65] . 9 سورة الفرقان، الآية [77] . 10 سورة آل عمران، الآية [88] . 11 سورة المائدة، الآية [37] . 12 سورة فاطر، الآية [36] . 13 سورة الزخرف، الآية [75] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} 1، وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} 2. وإقامته المنصوص عليها بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} 3 فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} 4"5. ثمّ ختم هذه الردود بقوله: "فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام، تعين القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدا بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح"6. ثمّ أورد الشيخ الأمين –رحمه الله- ما احتج به من قال بفناء النار، فقال: "وما احتج به بعض العلماء7 من أنه لو فرض أنّ الله أخبر بعدم فنائها أنّ   1 سورة الفرقان، الآية [77] . 2 سورة الفرقان، الآية [65] . 3 سورة المائدة، الآية [37] . 4 سورة الإسراء، الآية [97] . 5 دفع إيهام الاضطراب- الملحق بأضواء البيان 10/125-126. 6 المصدر نفسه 10/127. 7 ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- أنّ ممن قال بذلك الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه حادي الأرواح (انظر معارج الصعود ص255) . وقد نبه د/عبد الله قادري: تلميذ الشيخ الأمين على أنّ ابن القيم -رحمه الله- لم يجزم بفناء النار، وإنما ساق أدلة القائلين بذلك موضحا أوجه استدلالهم. ومن عادته -رحمه الله- أنه إذا ذكر اختلاف العلماء بين أدلتهم ووجهها حتى كأنه هو صاحب القول، وإن كان في الواقع لم يجزم به، أو كان على خلافه. ثم ذكر د/عبد الله القادري دليلين على عدم قول ابن القيم بفناء النار: الأول: قوله بعد ذكر الآراء في فناء النار وبقائها: (فإن قيل: فإلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تعالى: {إنّ ربك فعال لما يريد} ، وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ حيث ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء، وقال: ثمّ يفعل الله بعد ذلك ما يشاء بل وإلى هنا انتهت أقدام الخلائق) . الأمر الثاني: أنه -رحمه الله- صرح في كتابه الوابل الصيب أنّ النار كالجنة لا تفنى. وأنّ النار التي تفنى التي يعذب الله فيها عصاة المؤمنين الذين لا يخلدون في النار. وبهذا يعلم أنّ ابن القيم قطع بعدم فناء النار، وأنّ كلامه الذي فيه احتمال؛ في كتاب حادي الأرواح يجب أن يفسر بكلامه الصحيح المبين في كتاب الوابل الصيب. ولا شك أنّ فضيلة شيخنا المفسر لو اطلع على هذا النص من الوابل الصيب لأخذ به في مذهب ابن القيم؛ لأنه صاحب أضواء البيان الذي يفسر القرآن بالقرآن. وكلام الناس يفسر بعضه بعضا. انتهى باختصار من تعليق د/القادري على معارج الصعود ص257. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ذلك لا يمنع فناءها؛ لأنه وعيد، وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح. وأنّ الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده، ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده. وأنّ الشاعر قال: وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي"1. وقد ردّ -رحمه الله- على هذه الشبه بقوله: "فالظاهر عدم صحته لأمرين: الأول: أنه يلزم جواز ألا يدخل النار كافر؛ لأن الخبر بذلك وعيد، وإخلافه على هذا القول لابأس به. الثاني: أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله، حيث قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} 2. وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أنّ الفاء من حروف التعليل؛ كقولهم: سها فسجد؛ أي سجد لعلة سهوه. وسرق فقطعت يده؛ أي لعلة سرقته. فقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} 3؛ أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل. ونظيرها قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلاّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} 4. ومن الأدلة الصريحة في ذلك: تصريحه تعالى بأنّ قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار؛ حيث قال: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِمَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} 5. ويستأنس لذلك بظاهر قوله: {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} –إلى قوله- {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} 6، وقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} 7.   1 دفع إيهام الاضطراب 10/126. وانظر معارج الصعود ص255. 2 سورة ق، الآية [14] . 3 سورة ق، الآية [14] . 4 سورة ص، الآية [14] . 5 سورة ق، الآيتان [28-29] . 6 سورة لقمان، الآية [33] . 7 سورة الطور، الآية [7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 فالظاهر أنّ الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين؛ لأنّ الله بين ذلك بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} 1"2. وفي آخر هذا المبحث أجاب -رحمه الله- عن شبهة للملاحدة؛ وهي قولهم: "لاشك أنّ ربكم في غاية الإنصاف والعدل، ولكن يشكل عليه الجواب على هذا السؤال، وهو: كيف يكون عصيان الكافر في مدة قليلة جدا، وعذابه يستمر إلى ما لانهاية، مع أنّ مقتضى العدل أن يعذب بقدر ما عصى؟ فأين الإنصاف وأين العدل؟!) ،3؛ فقال -رحمه الله-: (والجواب أنّ سبب هذا الاستمرار هو ملازمة الخبث لذلك الكافر دائما، وعدم مفارقته له في أيّ حال من الأحوال؛ فهو منطو عليه لا يزول، وباستمرار السبب الذي هو الخبث استمر المسبب الذي هو العذاب. والدليل على استمرار خبثه: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 4؛ فبديمومة السبب الذي هو الكفر دام المسبب الذي هو العذاب"5. وقال الشيخ الأمين –رحمه الله- في موضع آخر: "ولا غرابة في ذلك؛ لأنّ خبثهم الطبيعي دائم لا يزول، فكان جزاؤهم دائما لا يزول. والدليل على أنّ خبثهم لايزول: قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ} الآية6. فقوله: "خيرا" نكرة في سياق الشرط؛ فهي تعمّ، فلو كان فيهم خير ما في وقت لعلمه الله ... وعذاب الكفار للإهانة والانتقام، لا   1 سورة النساء، الآية [116] . 2 دفع إيهام الاضطراب 10/127. وانظر معارج الصعود ص256. 3 معارج الصعود ص258. 4 سورة الأنعام، الآيتان [27-28] . 5 معارج الصعود ص258. 6 سورة الآنفال، الآية [23] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 للتطهير والتمحيص، كما أشار له تعالى بقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ} 1، وبقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2. والعلم عند الله تعالى"3. والقول بعدم فناء النار –الذي نصره الشيخ الأمين –رحمه الله- ودلل له، وردّ على الشبه التي أوردها المخالفون، وناقشهم مناقشة جادة مبطلا بذلك مذهبهم- هذا القول هو معتقد أهل السنة والجماعة. أما ما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله من القول بفناء النار فلا يصح؛ إذ لا يوجد في مؤلفات شيخ الإسلام -رحمه الله- على كثرتها- ما يدلّ على أنه قال بهذا القول، بل تجده دائما يؤكد على عدم فناء النار؛ من ذلك قوله: "وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أنّ من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية؛ كالجنة والنار والعرش، وغير ذلك ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين؛ كجهم بن صفوان، ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة وأئمتها"4. وأما ابن القيم -رحمه الله-: فقد حقق موقفه د/علي بن علي جابر اليماني؛ حيث قال: "إنّ للعلامة ابن القيم في هذه المسألة ثلاثة مواقف: الأول: الميل5 إلى القول بفناء النار:   1 سورة البقرة، الآية [174] . 2 سورة آل عمران، الآية [178] . 3 دفع إيهام الاضطراب 10/127-128. 4 الفتاوى 18/307. وقد كتب د/علي بن علي جابر اليماني رسالة في الذبّ عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وردّ ما اشتهر على ألسنة بعض الناس من نسبة القول بفناء النار إليهما. وقد أورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية خمسة عشر نصا من كلام ابن تيمية نقلها من كتبه المعتمدة، يؤكد في هذه النصوص كلها على عدم فناء النار. (انظر كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار ص60-69) . 5 كون الإمام ابن القيم -رحمه الله- ينصر هذا الوجه على سبيل المناظرة لا يدل على الميل، بل المشهور عنه، الجزم بعدم فنائها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 كونه نصر ذلك بكثرة الوجوه البالغة خمسة وعشرين وجها بأدلتها المحيرة للعقول كما سبق بيانه عن الحادي، ومختصر الصواعق، وشفاء العليل. الثاني: التوقف؛ كما هو صريح كلامه في هذه المراجع المذكورة. الثالث: القول بأبدية النار تلميحا وتصريحا ... –إلى أن قال-: وهذا هو الأخير من كلام ابن القيم -رحمه الله- كما يبدو لي. والله أعلم"1، ثمّ أيد ذلك بنصوص من كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله-2.   1 انظر كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ص78-82. 2 انظر كلام ابن القيم في عدم فناء النار والقول بأيديتها في كتبه: الوابل الصيب ص34. وزاد المعاد 1/68. وطريق الهجرتين ص254-255. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 الفصل الخامس: جهود الشيخ الأمين في توضيح الإيمان بالقدر المبحث الأول: بيانه لمراتب القدر ... الفصل الخامس: جهود الشيخ الأمين في توضيح الإيمان بالقدر القدر لغة: القضاء والحكم ومبلغ الشيء. والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر1. وشرعا: ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد. وأن عز وجلّ قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها2. والإيمان بالقدر: أحد أركان الإيمان الستة التي لايتمّ الإيمان إلا بها، كما جاءت في حديث جبريل عليه السلام لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فأجابه: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"3. وقد دلّ على وجوب الإيمان بالقدر أدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية: فمن الآيات القرآنية: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 4، وقوله سبحانه: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 5. وقوله جل وعلا: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} 6، وقوله تعالى: {مَا   1 انظر القاموس المحيط 2/591. 2 لوامع الأنوار البهية 1/348. 3 أخرجه مسلم في صحيحه 1/37. 4 سورة القمر، الآية [49] . 5 سورة الأحزاب، الآية [38] . 6 سورة الرعد، الآية [8] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1. ومن الأحاديث النبوية: حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه "2. وحديث عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لايؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر" 3. وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلّ شيء بقدر، حتى العجز والكيس "4. وقد عرض الشيخ الأمين -رحمه الله- عقيدة القدر في ثنايا تفسيره عند كلامه على بعض الآيات المتعلقة بهذا الباب، فذكر بعض مراتب القدر، وتكلم عن أفعال العباد، والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وأقسام الهداية. وتصدى -رحمه الله- لشبه القدرية النفاة، والجبرية، ففندها وأبطل احتجاجهم بها، وأقام الحجة عليهم مستدلا بالآيات القرآنية، والبراهين العقلية. ولبيان ذلك كله قسمت هذا الفصل إلى مباحث:   1 سورة الحديد، الآية [22] . 2 أخرجه الترمذي في سننه 4/451، وقال: "هذا حديث غريب لانعرفه إلا من حديث عبد الله ابن ميمون، وعبد الله بن ميمون منكر الحديث". والحديث صححه الألباني. (انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/566) . 3 أخرجه الترمذي في سننه 4/452. وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/37) : "وسنده صحيح. وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي". 4 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2045. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 المبحث الأول: بيانه لمراتب القدر مراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أربع، ولايتم إيمان العبد بالقدر إلا بإيمانه بهن: المرتبة الأولى: العلم: وهي أن يؤمن الإنسان بأن الله بكلّ شيء عليم؛ يعلم ما كان، وما يكون قبل أن يكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون. المرتبة الثانية: الكتابة: وهي الإيمان بأنّ الله كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. المرتبة الثالثة: المشيئة: وهي الإيمان بأنه ما وجد من موجود إلا بمشيئة الله تعالى، وما عدم من معدوم إلا بمشيئته تعالى. المرتبة الرابعة: الخلق: وهي الإيمان بأنّ الله تعالى خالق كلّ شيء؛ فما من موجود في السموات والأرض إلا الله خالقه، حتى الموت خلقه الله وإن كان هو عدم الحياة1. وقد دلّ القرآن الكريم على هذه المراتب: قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَاب} 2، وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ   1 انظر شفاء العليل للإمام ابن القيم ص29. والقضاء والقدر للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص21-24. 2 سورة الحج، الآية [70] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2. وقد تناول الشيخ الأمين -رحمه الله- بعض هذه المراتب أثناء تفسيره للآيات المتعلقة بالقدر؛ فقد أشار -رحمه الله- إلى مرتبة العلم عند تفسيره لقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَة} 3، فقال: "أنّ معنى "كما بدأكم تعودون"؛ أي كما سبق لكم في علم الله من سعادة أو شقاوة، فإنكم تصيرون إليه، فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن سبق له العلم بأنه شقيّ صار إلى الشقاوة"4. وقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 5: "هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ الله جل وعلا الذي أحاط علمه بكلّ موجود ومعدوم يعلم المعدوم الذي سبق في الأزل أنه لا يكون، لو وجد كيف يكون؛ لأنه يعلم أنّ ردّ الكفار يوم القيامة إلى الدنيا مرة أخرى لا يكون، ويعلم هذا الردّ الذي لا يكون لو وقع كيف يكون) 6. وقال -رحمه الله- عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} 7:   1 سورة التكوير، الآيتان [28-29] . 2 سورة الملك، الآية [2] . 3 سورة الأعراف، الآيتان [29-30] . 4 أضواء البيان 2/297. 5 سورة الأنعام، الآية [28] . 6 أضواء البيان 2/188. 7 سورة البقرة، الآية [143] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 "معنى قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} ؛ أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب، فلا ينافي كونه عالما به قبل وقوعه. وقد أشار تعالى إلى أنه لايستفيد بالاختبار علما جديدا؛ لأنه عالم بما سيكون حيث قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1؛ فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بعد قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} دليل على أنه لايفيده الاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو تعالى عالم بكلّ ما سيعمله خلقه، وعالم بكلّ شيء قبل وقوعه، كما لاخلاف فيه بين المسلمين {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} 2 الآية3. أما مرتبة الكتابة: فقد تحدث عنها الشيخ الأمين -رحمه الله- عند قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 4 فقال: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كل ما أصاب من المصائب في الأرض، كالقحط والجدب والجوائح في الزراعة والثمار، وفي الأنفس من الأمراض والموت كله مكتوب في كتاب قبل خلق الناس وقبل وجود المصائب"5. وقال -رحمه الله- أيضا: "الشقي من كتب عليه الشقاء أزلا عند الله تعالى؛ فإنه جل وعلا قدر مقادير الخلق قبل أن يوجدوا، وصرف مشيئاتهم وأعمالهم إلى ما كتب. ولما سأل بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن العمل أهو خطة مدبرة قد فرغ منها، أم هو أنف؟ قال صلى الله   1 سورة آل عمران، الآية [154] . 2 سورة سبأ، الآية [3] . 3 دفع إيهام الاضطراب 10/28. وانظر أضواء البيان 2/303، 491، 4/80، 6/207، 277، 7/591، 592. ومعارج الصعود ص67. 4 سورة الحديد، الآية [22] . 5 أضواء البيان 7/714. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 عليه وسلم: " لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير". قيل له: ففيم يعمل العاملون؟ قال: "كلّ ميسر لما خلق له" 1"2. وقال -رحمه الله- أيضا: "فهو سبحانه قد كتب على كلّ واحد من الناس ما هو واقع به من شقاء أو سعادة، وخير أو شرّ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة3"4. أما مرتبة المشيئة: فقد تحدث عنها الشيخ الأمين -رحمه الله- عند قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 5، فقال: "وقوله في هذه الآية الكريمة: {تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} يدلّ على أنّ مايعرض للعبد من غفلة ومعصية إنما هو بمشيئة الله تعالى؛ إذ لايقع شيء البتة كائنا ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية جل وعلا {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه..} الآية6، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} 7، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 8، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} 9، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِ..} الآية10، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 11، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنّ كلّ شيء من خير وشرّ لا يقع إلا بمشيئة خالق السموات والأرض"12.   1 صحيح مسلم 4/2040-2041. 2 معارج الصعود ص251. 3 راجع صحيح مسلم 4/2042-2044. 4 معارج الصعود ص302. وانظر أضواء البيان 3/268. 5 سورة الكهف، الآية [28] . 6 سورة الإنسان، الآية [30] . 7 سورة الأنعام، الآية [107] . 8 سورة السجدة، الآية [13] . 9 سورة الأنعام، الآية [35] . 10 سورة البقرة، الآية [7] . 11 سورة الأنعام، الآية [25] . 12 أضواء البيان 4/90. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 وقال الشيخ الأمين -رحمه الله- أيضا عند تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} الآية1: "صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعا. وهو دليل واضح على أنّ كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية. وبين ذلك أيضا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} الآية2، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 3، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} 4، إلى غير ذلك من الآيات"5. أما مرتبة الخلق: فقد تحدث عنها الشيخ الأمين -رحمه الله- عند تفسير قول الله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 6؛ فقال: (أي خلقهم لأن يختلفوا إلى مؤمن وكافر، وبر وفاجر، وشقي وسعيد، ليصرف كلاً إلى ما كتب له في الأزل، ولتظهر فيهم آثار صفات الله تعالى وأسمائه من رحمة ورضا، وثواب للمطيعين، وقهر وجبروت وشدة عذاب للعاصين7. وقال أيضا: "ولذلك خلقهم": أي أراد ذلك منهم قدرا عند وجودهم، فوجدوا كما أراد الله؛ قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 8 9.   1 سورة يونس، الآية [99] . 2 سورة الأنعام، الآية [107] . 3 سورة السجدة، الآية [13] . 4 سورة الأنعام، الآية [35] . 5 أضواء البيان 2/492. وانظر المصدر نفسه 3/221. 6 سورة هود، الآية [119] . 7 معارج الصعود ص302. 8 سورة يس، الآية [82] . 9 معارج الصعود ص203. وانظر دفع إيهام الاضطراب 10/158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 المبحث الثاني: الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية منشأ الضلال في القدر هو من التسوية بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؛ كما فعل الجبرية والقدرية: فالقدرية قالوا: إنّ المعاصي والذنوب ليست محبوبة لله، ولامرضية، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي عن مشيئته وخلقه. والجبرية قالوا: الكون كله بقضاء الله وقدره فيكون محبوبا مرضيا1. وأهل السنة والجماعة أبصروا الحقيقة كلها، فآمنوا بالحقّ الذي عند كلّ واحد من الفريقين، ونفوا الباطل الذي تلبس به كلّ واحد منهما؛ فهم يقولون: إنّ الله وإن كان يريد المعاصي قدرا فهو لايحبها ولايرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها وينهى عنها2. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فقال -رحمه الله-: "وتحقيق النسبة بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية الدينية أنه بالنسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده؛ فالإرادة الكونية أعمّ مطلقا؛ لأنّ كلّ مراد شرعا يتحقق وجوده في الخارج إذا أريد كونا وقدرا؛ كإيمان أبي بكر، وليس يوجد مالم يرد كونا وقدرا ولو أريد شرعا؛ كإيمان أبي لهب. فكلّ مراد شرعي حصل فبالإرادة الكونية، وليس كلّ مراد كوني حصل مرادا في الشرع. وأما بالنسبة إلى تعلق الإرادتين بعبادة   1 انظر شرح الطحاوية ص279. ومدارج السالكين 1/251-252. 2 انظر القضاء والقدر للدكتور عمر الأشقر ص103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 الإنس والجنّ لله تعالى: فالإرادة الشرعية أعم مطلقاً، والإرادة الكونية أخص مطلقا؛ لأن كلّ فرد من أفراد الجنّ والإنس أراد الله منه العبادة شرعا، ولم يردها من كلهم كونا وقدرا؛ فتعمّ الإرادة الشرعية عبادة جميع الثقلين، وتختصّ الإرادة الكونية بعبادة السعداء منهم كما قدمنا من أنّ الدعوة عامة والتوفيق خاصّ؛ كما بينه تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1؛ فصرح بأنه يدعو الكلّ ويهدي من شاء منهم. وليست النسبة بين الإرادة الشرعية والقدرية العموم والخصوص من وجه، بل هي العموم والخصوص المطلق كما بينا، إلا أنّ إحداهما أعمّ مطلقا من الأخرى باعتبار، والثانية أعمّ مطلقا باعتبار آخر كما بينا، والعلم عند الله تعالى"2. وقال الشيخ -رحمه الله- في موضع آخر: "إنّ الإرادة نوعان: كونية قدرية: وهي مشيئة الله وقوع الشيء أو عدم وقوعه. وإرادة شرعية دينية؛ بحيث يطلب المراد باعتبار الشرع؛ بحيث لو أدى الإنسان ما أريد منه شرعا أثيب، وإن لم يؤد ذلك استحق العقاب والنكال والعذاب. والإرادة الشرعية لاتستلزم الإرادة الكونية القدرية؛ لأنّ النفوذ وعدمه يتعلق بالإرادة القدرية ولا يتعلق ذلك بالإرادة الشرعية. فالشيء الذي يراد إرادة شرعية مطلوب شرعا، لكن قد يريده الله كونا، وقد لايريده كونا وقدرا فلا يقع"3. وهذا التفريق بين الإرادة الكونية والشرعية هو معتقد أهل السنة والجماعة كما تقدم القول في ذلك. وممن ذكر هذا الفرق من علماء السلف: شيخ   1 سورة يونس، الآية [25] . 2 دفع إيهام الاضطراب 10/160-161. 3 معارج الصعود ص302. وانظر دفع إيهام الاضطراب 10/129، 133، 159. وأضواء البيان 7/222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث يقول: (الإرادة في كتاب الله على نوعين، أحدهما: الإرادة الكونية: وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.. وأما النوع الثاني: فهو الإرادة الدينية الشرعية: وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاؤهم بالحسن ... فهذه الإرادة لاتستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق به النوع الأول من الإرادة. ولهذا كانت الأقسام أربعة: أحدها: ما تعلقت به الإرادتان؛ وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة؛ فإنّ الله أراده إرادة تديّن وشرع، فأمر به وأحبه ورضيه وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان. الثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط: وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الأمرَ الكفارُ والفجار؛ فتلك كلها إرادة دين، وهو محبها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع. الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط: وهو ماقدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها: كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها؛ إذ هو لا يأمر بالفحشاء، ولايرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت؛ فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والرابع: ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه؛ فهذا مالم يكن من أنواع المباحات والمعاصي"1. وقال الإمام ابن أبي العزّ الحنفي -رحمه الله- مفرقا بين الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية: (إنّ الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه؛ فيشاؤه كونا، ولا يرضاه دينا) 2. وبهذا يتضح مذهب السلف في هذه المسألة التي كانت منشأ الضلال   1 مجموع الفتاوى 8/187-189. وانظر أيضا: المصدر نفسه 8/440. ولوامع الأنوار البهية 1/338. 2 شرح الطحاوية ص277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 والتخبط في باب القدر؛ بسبب عدم تفريق المخالفين بين الإرادتين. وهدى الله أهل السنة والجماعة بسبب تمسكهم بالأصلين العظيمين إلى التمييز بين الإرادتين، فوافقوا بمعتقدهم ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 المبحث الثالث: الهداية الهداية نوعان: هداية دلالة على الحقّ وإرشاد؛ وهي لجميع الخلق، وهي التي يقدر عليها الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 1. وهداية توفيق وتثبيت من الله منة منه وفضلا لعباده المتقين؛ وهي التي لايقدر عليها إلا الله، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2"3. وقد أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- نوعي الهداية، فقال -رحمه الله-: "إنّ الهدى يستعمل في القرآن استعمالين؛ أحدهما عام، والثاني خاص. أما الهدى العام فمعناه إبانة طريق الحقّ وإيضاح المحجة سواء سلكها المبين له أم لا. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} 4؛ أي بينا لهم طريق الحقّ على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، مع أنهم لم يسلكوها، بدليل قوله عز وجل {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 5. ومنه أيضا قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} 6 أي بينا له طريق الخير والشرّ، بدليل {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 7.   1 سورة الرعد، الآية [7] . 2 سورة القصص، الآية [56] . 3 انظر الجامع لأحكام القرآن 1/112-113. 4 سورة فصلت، الآية [17] . 5 سورة فصلت، الآية [17] . 6 سورة الإنسان، الآية [3] . 7 سورة الإنسان، الآية [3] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وأما الهدى الخاصّ: فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 1،2. وقال أيضا: "إنّ الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم هو الهدى العام الذي هو البيان والدلالة والإرشاد. وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم فبين المحجة البيضاء حتى تركها ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك. والهدى المنفي عنه في آية {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 3 هو الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق: لأنّ ذلك بيد الله وحده، وليس بيده صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} الآية4"5. ثمّ وضح الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ التوفيق الخاص هو ملك لله يمنّ به على من يشاء من عباده؛ فقال عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 6. "فملكه تعالى وحده للتوفيق والهداية هو الحجة البالغة على خلقه؛ يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق فهو فضل منا ورحمة. ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة؛ لأنه لم يكن له ذلك دينا علينا ولاواجبا مستحقا يستحقه علينا بل إن أعطينا ذلك ففضل، وإن لم نعطه فعدل"7.   1 سورة الأنعام، الآية [125] . 2 دفع إيهام الاضطراب 10/8. 3 سورة القصص، الآية [56] . 4 سورة المائدة، الآية [41] . 5 أضواء البيان 7/126-127. وانظر المصدر نفسه 3/268، 4/147، 6/456. 6 سورة الأنعام، الآية [149] . 7 أضواء البيان 7/223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 وتقسيم الشيخ الأمين -رحمه الله- للهداية إلى هذين النوعين ليس بدعا، بل قد سبقه إليه أئمة السلف رحمهم الله؛ منهم الإمام ابن القيم -رحمه الله- الذي قال في توضيح نوعي الهداية: (قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها، وهي بيده إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إياها. والهداية معرفة الحقّ والعمل به، فمن لم يجعله تعالى عالما بالحق عاملا به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء؛ فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لايتخلف عنها؛ وهي جعل العبد مريدا للهدى محبا له مؤثرا له عاملا به. فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب ولانبيّ مرسل، وهي التي قال سبحانه فيها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1، مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2؛ فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد، وهي التي هدى بها ثمود فاستحبوا العمى عليها، وهي التي قال تعالى فيها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 3؛ فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم، ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لايضلّ من هداه بها، فذاك عدله فيهم، وهذا حكمته؛ فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم، ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولايليق بهم) 4. وقال -رحمه الله- أيضاً يتكلم عن القسم الثاني من أقسام الهداية، ألا وهو تفضل الله على العبد بتوفيقه رحمة منه وفضلاً جل وعلا: "التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك، فالعبيد مقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال   1 سورة القصص، الآية [56] . 2 سورة الشورى، الآية [52] . 3 سورة التوبة، الآية [115] . 4 شفاء العليل ص53. وانظر: المصدر نفسه ص65. وبدائع الفوائد 2/35. ولوامع الأنوار البهية 1/334. وشرح العقيدة الطحاوية ص500. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 نصيبه من هذا وهذا ... فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته. وهو المحمود على هذا وهذا له أتمّ حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئا هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله"1.   1 مدارج السالكين 1/413. وانظر شرح الطحاوية ص500. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 المبحث الرابع: أفعال العباد بين الإفراط والتفريط المطلب الأول: وسطية أهل السنة والجماعة في أفعال العباد ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ هذه المسألة قد ضلّ فيها القدرية والجبرية، وهدى الله فيها أهل السنة والجماعة إلى القول الحقّ بإذنه؛ فقال -رحمه الله-: "أما القدرية فضلوا بالتفريط؛ حيث زعموا أنّ العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه. وأما الجبرية فضلوا بالإفراط؛ حيث زعموا أنّ العبد لاعمل له أصلا حتى يؤاخذ به. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا؛ فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية –ومن الضروري عند جميع العقلاء أنّ الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية-، وأثبتوا أنّ الله خالق كل شيء؛ فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته. وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أنّ العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب"1. وقد بسط الشيخ الأمين -رحمه الله- عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر، وبين وسطيتهم بين الغالين والمفرطين، وقررها أحسن تقرير؛ فأتى بخلاصة معتقد السلف في القدر؛ فقال -رحمه الله-: "إنّ الله تبارك وتعالى قدر   1 دفع إيهام الاضطراب 10/330. وانظر معارج الصعود ص297-298. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق، وعلم أنّ قوما صائرون إلى الشقاء، وقوما صائرون إلى السعادة؛ فريق في الجنة وفريق في السعير. وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحقّ لبسا، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك. ثمّ إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكلّ واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرتهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في عمله من أعمال الخير المستوجبة للسعادة وأعمال الشر المستوجبة للشقاء. فأتوا كلّ ما أتوا، وفعلوا كلّ ما فعلوا طائعين مختارين غير مجبورين ولامقهورين: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 2"3. وبهذه الخلاصة الجامعة أبرز الشيخ الأمين -رحمه الله- عقيدة أهل السلف في القدر موضحا وسطية أهل السنة والجماعة بين الغالين والجافين. وقد سبقه إلى بيان هذه الوسطية علماء أجلاء من أهل السنة والجماعة؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي قال: "اعلم أنّ العبد فاعل على الحقيقة وله مشيئة ثابتة، وله إرادة جازمة، وقوة صالحة. وقد نطق القرآن بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية؛ كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4، ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: يعملون، يفعلون، يؤمنون، يكفرون، يتفكرون، يحافظون، يتقون. وكما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق،   1 سورة الإنسان، الآية [30] . 2 سورة الأنعام، الآية [149] . 3 أضواء البيان 7/223-224. 4 سورة التكوير، الآية [28] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 فارقنا الجبرية بإثبات أنّ العبد كاسب فاعل صانع عامل، والجبر المعقول الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا على الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار؛ مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح"1. وقال -رحمه الله- أيضا: "الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد؛ بمعنى أنها قائمة به، وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها عليه. وهي من الله بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد وجعلها عملا له وكسبا؛ كما يخلق المسببات بأسبابها؛ فهي من الله مخلوقة له، ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه كما إذا قلنا هذه الثمرة من الشجرة، وهذا الزرع من الأرض؛ بمعنى أنه حدث منها، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها: لم يكن بينهما تناقض"2.   1 مجموع الفتاوى 8/393-394. 2 نقلاً عن لوامع الأنوار البهية 1/313. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 المطلب الثاني: موقف الشيخ الأمين من الجبرية أوضح الشيخ الأمين -رحمه الله- معتقد الجبرية، وبين أنهم وقعوا في التفريط حيث زعموا أنّ العبد لافعل له، بل هو مجبور من قبل الله لا مشيئة له في حركة ولاسكون1. وقد ردّ -رحمه الله- على هذه الفرقة الضالة في مواطن عديدة من تفسيره، وأورد شبههم التي يتعلقون بها، فأسقطها وأقام عليهم الحجة بالآيات القرآنية والبراهين العقلية؛ فقال -رحمه الله- في معرض الردّ عليهم: "وادعاء أنّ العبد مجبور لا إرادة له ضروريّ السقوط عند عامة العقلاء. ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أنّ كلّ عاقل يعلم أنّ بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية كحركة المرتعش فرقا ضروريا لا ينكره عاقل. وأنك لو ضربت من يدعي أنّ الخلق مجبورون وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله وأنا لا دخل لي فيه؛ فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا: إنّ هذا بإرادتك ومشيئتك"2. وهكذا يصور لنا الشيخ الأمين -رحمه الله- تفاهة هذا المعتقد، ويبين أنه لايقوم على أساس صحيح، بل ولا ينظر إلى حقيقة القدر إلا من عين واحدة. وقد تطرق رحمه الله إلى ذكر بعض شبه الجبرية التي أقاموا عليها مذهبهم، فأوردها رحمه الله بصيغة مناظرة بين جبريّ وسنيّ؛ فقال رحمه   1 انظر معارج الصعود ص298. ولعلها (الإفراط وليست التفريط) . 2 أضواء البيان 7/224. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 الله: "لو فرضنا أنّ جبريا ناظر سنيا، فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول: إني لست مستقلا بعمل، وإني لابدّ أن تنفذ فيّ مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي، فأنا مجبور فكيف يعاقبني على أمر لاقدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السنيّ يقول له: كلّ الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك؛ جعل لك سمعا تسمع به، وبصرا تبصر به وعقلا تعقل به. وأرسل لك رسولا، وجعل لك اختيارا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق، وهو ملكه المحض، إن أعطاه ففضل، وإن منعه فعدل؛ كما أشار له تعالى بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 1؛ يعني أنّ ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق؛ فمن أعطيه ففضل، ومن منعه فعدل"2. وهذه الشبهة التي أوردها الشيخ الأمين -رحمه الله- وردّ عليها قد ردّ عليها غير واحد من السلف رحمهم الله بنحو ردّ الشيخ الأمين -رحمه الله-؛ منهم العلامة ابن القيم -رحمه الله- الذي قال يردّ على هذه الشبهة الجبرية: "فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا من هو من أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه. وتأمل قوله تعالى بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 3؛ فأخبر سبحانه أنّ الحجة له عليهم برسله وكتبه وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنه من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول.   1 سورة الأنعام، الآية [149] . 2 دفع إيهام الاضطراب 10/331. 3 سورة الأنعام، الآية [149] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه"1. وأورد الشيخ الأمين -رحمه الله- أيضا للجبرية شبهة أخرى يبنون عليها معتقدهم الفاسد، وردّ عليها، وفندها. وقد ذكرها -رحمه الله- مرارا لأهميتها؛ فقال -رحمه الله- ذاكرا الشبهة ورادا عليها: "فإن قيل: إذا كانوا لايستطيعون السمع، ولايبصرون ولايفقهون؛ لأنّ الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم، والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم: فهم مجبورون. فما وجه تعذيبهم على شيء لايستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره؟ فالجواب: أنّ الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم أنّ تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم؛ كالختم والطبع والغشاوة والأكنة ونحو ذلك إنما جعلها عليهم جزاء وفاقا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم؛ فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك جزاء على كفرهم؛ فمن الآيات الدالة على ذلك: قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم} 2، أي بسب كفرهم، وهو نص قرآني صريح في أنّ كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم. وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 3، وهو دليل أيضا واضح على أنّ سبب إزاغة الله قلوبهم هو زيغهم السابق. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم} 4 وفي قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ... } الآية5، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا   1 شفاء العليل ص17. وانظر رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، للعلامة مرعي الكرمي ص30. 2 سورة النساء، الآية [155] . 3 سورة الصف، الآية [5] . 4 سورة المنافقون، الآية [3] . 5 سورة البقرة، الآية [10] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 1، وقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنّ الطبع على القلوب ومنعها من فهم ماينفع: عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك. وهذا الذي ذكرنا هو وجه ردّ شبهة الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم"3. وقد ردّ على هذه الشبهة أيضا عدد من أئمة السلف؛ منهم العلامة ابن القيم -رحمه الله- الذي قال مبينا سبب الختم والطبع والران على القلوب: "ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم السابق؛ فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده، ويثيب على الهدى بهدى بعده، كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها .... –إلى أن قال:- فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضا وكفرا قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصده عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى؛ وذلك عدل منه فيه، وتكون عقوبته بالختم والطبع والصدّ عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار .... وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا، ولكنّ أسباب هذه الجرائم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم، فإذا وقعت عقوبات لم تكن مقدورة، بل قضاء جار عليهم ماض عدل فيهم"4. وقد أجاب أيضا عن هذه الشبهة الإمام أبي العزّ الحنفي -رحمه الله- الذي قال: "والجواب الصحيح عنه أن يقال: إنّ ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية وإن كانت خلقا لله تعالى، فهي عقوبة له على ذنوب   1 سورة الأنعام، الآية [110] . 2 سورة المطففين، الآية [14] . 3 أضواء البيان 4/144-145. وانظر: المصدر نفسه 6/653، 7/109-110، ودفع إيهام الاضطراب 10/9-10. ومعارج الصعود ص79. 4 شفاء العليل ص86. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 قبلها؛ فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها؛ فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضا"1.   1 شرح الطحاوية ص497. وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على هذه الشبهة بنحو ردود هؤلاء السلف رحمهم الله، (انظر الفتاوى 14/331) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 المطلب الثالث: موقف الشيخ الأمين -رحمه الله- من القدرية النفاة بين الشيخ الأمين -رحمه الله- معتقد القدرية في أفعال العباد موضحا أنهم وقعوا في الإفراط في هذا الباب بإنكارهم القدر وجعلهم العبد مستقلا بكلّ ما يفعل، ليس لمشيئة الله دخل في ذلك1؛ فقال -رحمه الله- في معرض الردّ عليهم: "ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأنّ العبد لايستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته: أنه لا يمكن لأحدٍ أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر. وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى. وإيضاح ذلك: أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محلّ كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقلّ بذلك؟ وتصير علم الله جهلا بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟ والجواب بلا شك هو: أنّ ذلك لا يمكن بحال؛ كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، وقال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 3. ولا إشكال البتة في أنّ الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثمّ يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور   1 انظر معارج الصعود ص297. 2 سورة الإنسان، الآية [30] . 3 سورة الأنعام، الآية [149] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 ولا مجبور، وغير مستقلّ به دون قدرة الله وإرادته؛ كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1"2. وهذا المعتقد الذي قرره الشيخ الأمين -رحمه الله- هو عين ما قرره قبله أئمة السلف رحمهم الله؛ مثل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي قال: "إنّ أئمة أهل السنة يقولون: إنّ الله خالق أفعال العباد، كما أنّ الله خالق كلّ شيء، وأنه تعالى خالق الأشياء بالأسباب، وأنه تعالى خلق للعبد قدرة بها يكون فعله، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة"3. ومنهم العلامة ابن القيم -رحمه الله- الذي قال في معرض حديثه عن عقيدة السلف في القدر: "فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات؛ من الأعيان والأفعال، ومشيئته العامة، وينزهونه أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه، ولا هو واقع تحت مشيئته، ويثبتون القدر السابق، وأنّ العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه، وأنه لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، ولايفعلون إلا من بعد مشيئته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن"4. ثمّ أخذ -رحمه الله- يوضح معتقد أهل السنة في أفعال العباد، فقال: "فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة، وهي مفعولة لله سبحانه، مخلوقة له حقيقة، والذي قام بالرب عزّ وجلّ علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه. والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم، فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة، وهو سبحانه هو المقدر على ذلك القادر عليه الذي شاءه منهم وخلقه لهم، ومشيئتهم وفعلهم بعد   1 سورة الأنعام، الآية [149] . 2 أضواء البيان 7/224-225. 3 نقلا عن لوامع الأنوار البهية 1/213. 4 شفاء العليل ص52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 مشيئته؛ فما يشاؤون إلا أن يشاء الله. وما يفعلون إلا أن يشاء الله"1. وأما عن مذهب القدرية النفاة في هذا الباب: فقد تعرض له الشيخ الأمين -رحمه الله- في مواضع عديدة من تفسيره، فردّ عليه، وبين بطلانه وتفاهته، وأسقط الأدلة التي قام عليها، وبين تهافتها: قال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 2: "ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن الكريم بطلان مذهب القدرية: أنّ العبد مستقلّ بعمله من خير أو شرّ، وإنّ ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد، سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئته، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا"3. وقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ... –إلى قوله- {وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 4: "واعلم أنّ ما ذكره الزمخشري في هذه الآية وأطنب فيه من أنّ الله لايضلّ أحدا: مذهب المعتزلة؛ وهو مذهب باطل، في غاية الوضوح من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, فإياك أن تغترّ به"5. وأورد الشيخ -رحمه الله- عند تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} 6.   1 شفاء العليل ص52. 2 سورة الكهف، الآية [17] . 3 أضواء البيان 4/40. 4 سورة الفرقان، الآيتان [17-18] . 5 أضواء البيان 6/300. 6 سورة الزخرف، الآية [81] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 قول الزمخشري الذي أساء الأدب مع كلام الله، وضرب لهذه الآية مثلا بقوله: "ونظيره أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا، فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله"1. وقد ردّ الشيخ الأمين -رحمه الله- على هذا القول الشنيع وبين فساد معتقده، فقال: "فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب..إلخ. فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله. وهذا المستحيل في زعمه الباطل إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل، وهو زعمه الخبيث أنّ الله إن كان خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فهو شيطان، لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية؛ لأنه جعل قوله: إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} 2؛ في أنّ الشرط فيهما مستحيل. وجعل قوله في الله أنه شيطان –لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا- كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنا أول العابدين". فاللازم لكلامه أن يقول: لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين. وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه وشدة ضلاله وتناقضه: لشناعته ووضوح بطلانه؛ فهي عبارات مزخرفة، وشقشقة لا طائل تحتها، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية، والتناقض الواضح .... ولا يخفى تصريح القرآن بأنّ الله خالق كلّ شيء؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية3، وقال تعالى:   1 أضواء البيان 7/302. 2 سورة الزخرف، الآية [81] . 3 سورة الزمر، الآية [62] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 1، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 3. فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشريّ يقتضي أنّ الله شيطان، سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا، وجزى الزمخشري بما هو أهله"4.   1 سورة الفرقان، الآية [2] . 2 سورة فاطر، الآية [3] . 3 سورة القمر، الآية [49] . 4 أضواء البيان 7/303-304. وانظر المصدر نفسه 3/597، 4/90، 275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 إشكال، وتوضيح في آخر هذا المبحث أورد إشكالا طرحه الشيخ الأمين -رحمه الله- بطريقة سؤال وجواب، ولأهميته أسوقه كما أورده: قال -رحمه الله- عند تفسير قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} 1: "وهنا يرد إشكال يسأل عنه طالب العلم؛ وهو: ما المانع من جعل الناس أمة واحدة؛ إما مهتدين على دين واحد، وإما كفارا كلهم؟ وما الحكمة في جعلهم مختلفين؟. والجواب: أنّ ربّ السموات والأرض غنيّ غنى مطلقا بذاته، خلق الخلق لتظهر فيهم أسرار أسمائه وصفاته، وعلامات ملكه وسلطنته وقهره. ومن صفاته تعالى ما يدلّ على الرحمة والرأفة والشفقة، ومنها ما يدلّ على العزة والقهر والجبروت والغلبة؛ فلو جعل الناس كلهم مهتدين لما ظهر للخلق كمال الإنصاف والعدل، ولما ظهر للناس شدة قهره وجبروته. ولو جعلهم كلهم كفارا لما ظهر للناس آثار رحمته ورأفته وعطفه وجوده وإحسانه. ولهذا هدى الله تعالى قوما وطبعهم على الطيب من الأعمال، وصرف نياتهم إلى ما سبق به الأزل لهم من الخير؛ لتظهر فيهم آثار أسمائه الدالة على الرحمة وغيرها من صفات الإحسان والجود والكرم. وخلق آخرين وطبعهم على الخبث، وصرف نياتهم إلى ما كتب لهم في الأزل وفي سابق علمه من الشقاء؛ لتظهر فيهم آثار قدرته، وشدة بطشه، وكمال عدله وإنصافه"2. ولابن أبي العزّ الحنفي -رحمه الله- كلام قريب من هذا الكلام بين فيه الإمام ابن أبي العز -رحمه الله- بعض الحكم من خلق الخير والشرّ   1 سورة هود، الآية [118] . 2 معارج الصعود ص294-295. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 والمتضادات؛ فقال: "ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية؛ مثل القهار، والمنتقم، والعدل، والضارّ، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذلّ. فإنّ هذه الأسماء والأفعال كمال لابدّ من وجود متعلقها. ولو كان الجنّ والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء. ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وسترة وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده. فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم "1، ومنه ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة؛ فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها ... فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لايصلح لذلك ... "2.   1 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2106. 2 شرح العقيدة الطحاوية ص281-282. وانظر: مدارج السالكين 1/408-409، وشفاء العليل ص202-203، ولوامع الأنوار البهية 1/340. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 الفصل السادس: حقيقة الإيمان المبحث الأول: تعريف الإيمان ... الفصل السادس: حقيقة الإيمان تمهيد: المؤمن يعيش في هذه الدنيا مطمئن البال، مرتاح الضمير؛ لأنه ينعم بنعمة الإيمان التي امتنّ الله بها عليه، وامتنّ بها على من يشاء من عباده. أما الذي لم يهتد إلى وحي الله سبحانه وتعالى: فهو يعيش حالة قلق عميق الأثر في نفسه؛ لأنه جاهل لمعنى وجوده في هذه الدار؛ فهو لا يدري لماذا خلق، ومن أجل ماذا يعيش. فسعادة الإنسان في الدارين مبنية على قوة إيمانه بالله تعالى وقربه منه؛ فمن أطاع الله، واستمسك بالعروة الوثقى، وأعرض عن وساوس الشيطان فقد فاز فوزا عظيما. فبالإيمان ينال العبد الجنة، وبالإيمان ينجو الإنسان من عذاب الله في الدارين. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 1. فالإيمان هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا: وعد الله المؤمنين بالنصر، والتمكين، والولاية، والدفاع عنهم، والهداية، والاستخلاف، وعدم تسليط الكافرين عليهم، والرزق الطيب، والعزة، والحياة الطيبة. وفي الآخرة: تحدث الله تعالى عن حالهم فيها؛ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا   1 سورة العصر، الآيات [1-3] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} 1. وقد أخبر الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه الكريم عن جزاء المؤمنين، وما أعده لهم في الآخرة من الطيبات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.   1 سورة الكهف، الآيتان [107-108] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 المبحث الأول: تعريف الإيمان الإيمان لغة: قال أهل اللغة1: بأنّ معنى الإيمان في اللغة: التصديق. وقد ردّ هذا المعنى اللغوي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبينا فساده من ستة عشر وجها. وحقق أنّ معنى الإيمان في اللغة: الإقرار2. أما الشيخ الأمين –رحمه الله- فالظاهر من كلامه في معنى الإيمان لغة أنه التصديق: يقول -رحمه الله-: "أما الإيمان اللغوي: فهو يشمل كل تصديق، فتصديق الكافر بأن الله، هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعاً. وإذا حققت ذلك علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به. وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 3؛ فهو الإسلام اللغوي؛ لأنّ الإسلام الشرعيّ لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه. والعلم عند الله تعالى"4. فالشيخ –رحمه الله- يرى أن الإيمان لغة التصديق ولا أثر للخلاف الحاصل في المعنى اللغوي إذ العبرة بالمعنى الشرعي الذي تعبدنا الله به.   1 انظر: الصحاح 5/2071. ولسان العرب 13/21. والمفردات ص26. 2 انظر الفتاوى 7/292-293، 529-531. 3 سورة الحجرات، الآية [14] . 4 أضواء البيان 3/75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 الإيمان شرعا: من أصول أهل السنة والجماعة: أنّ الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان. يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية1. وقد بين الشيخ الأمين –رحمه الله- هذا الأصل العظيم بقوله: "إن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد. وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة؛ منها حديث وفد عبدقيس2المشهور، ومنها حديث: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا" الحديث3؛ فسمى فيه قيام رمضان إيمانا، وحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة "4، وفي بعض رواياته: " بضع وستون شعبة؛ أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ". والأحاديث بمثل ذلك كثيرة، ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي5في شعب الإيمان"6. وقال -رحمه الله- أيضا في موضع آخر: "إنّ مسمى الإيمان الشرعي   1 انظر: الشرح والإبانة على أصول الديانة ص176-177. والدرة فيما يجب اعتقاده لابن حزم ص326. وشرح السنة للبغوي 1/28-31. والعقيدة الواسطية ص178. وشرح العقيدة الطحاوية ص383. 2 قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس"؛ ففسر الإيمان بالأعمال. أخرجه البخاري في صحيحه 1/19. ومسلم في صحيحه 1/46. 3 أخرجه البخاري في صحيحه 1/14. 4 أخرجه مسلم في صحيحه 1/63، إلا أنّ فيه: "أفضلها" بدل "أعلاها". 5 هو الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي. الحافظ الكبير. كتب الحديث وحفظه في صباه. ولد سنة (384?) ، وتوفي سنة (458?) . (انظر سير أعلام النبلاء 18/163. وشذرات الذهب 3/304) . 6 أضواء البيان 7/201. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 الصحيح، والإسلام الشرعيّ الصحيح: هو استسلام القلب بالاعتقاد، واللسان بالإقرار، والجوارح بالعمل"1. فالشيخ -رحمه الله- يؤكد أنه لا يحصل الإيمان الشرعي إلا بالقول والاعتقاد والعمل، لا يكفي واحد من هذه الأمور، بل لابدّ من الإتيان بها جميعا. وهذا ما اتفق عليه السلف رضوان الله عليهم: قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، وممن أدركناهم يقولون: إنّ الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"2. وقال الإمام ابن عبد البرّ -رحمه الله- "أجمع أهل الفقه والحديث على أنّ الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية. والإيمان عندهم يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. والطاعات كلها عندهم تسمى إيمانا"3. وهذه الأقوال تشعرنا باتباع الشيخ الأمين –رحمه الله- لمنهج السلف رحمهم الله في تقرير العقيدة؛ فهو متبع لطريقة السلف غيرمبتدع، وبما قالوا به يقول، وإلى ما ذهبوا إليه يذهب. كما أكد الشيخ الأمين –رحمه الله- أنه عند إطلاق مسمى الإيمان تدخل الأعمال فيه، أما إذا قرن الإيمان بالعمل؛ فالمراد به أصل الإيمان الذي في القلب: يقول الشيخ -رحمه الله-: "الإيمان إذا ذكر مفردا: شمل الأعمال. وإذا ذكر معه العمل: انصرف إلى الإيمان الأكبر الذي هو الإيمان القلبي.   1 أضواء البيان 7/636. وانظر المصدر نفسه 6/440، 7/279. 2 الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص196. 3 التمهيد 9/238. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 والقلب هو موضع الإيمان، والجوارح تبع له؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب "1"2. ثمّ ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- أنّ للعمل الصالح ثلاثة شروط لابدّ من توفرها حتى يسمى إيمانا؛ فقال -رحمه الله-: "لا يكون العمل صالحا إلا إذا اجتمعت فيه ثلاثة أمور: الأول: أن يكون مطابقا للشرع؛ لأنه لا يقبل عمل غير مطابق لما شرع الله تعالى: كما قال جلّ وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 3. الثاني: أن يكون العمل مخلصا لله تعالى: بأن قصد به صاحبه وجه الله، ونقاه من شوائب إرادة المخلوقين؛ كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4. الثالث: أن يكون العمل مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأنها للعمل كالأساس للبناء، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 5؛ فقدم الإيمان الذي هو العقيدة الصالحة على العمل"6. وبهذه الشروط الثلاثة التي ذكرها الشيخ الأمين –رحمه الله- يستحقّ أن يسمى العمل إيمانا؛ لأنه تحقق فيه تجريد العبادة لله وحده سبحانه وتعالى، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 أخرجه البخاري في صحيحه 1/19. 2 تفسير سورة النور ص 194. جمع د/عبد الله قادري. 3 سورة الشورى، الآية [21] . 4 سورة البينة، الآية [5] . 5 سورة الكهف، الآية [107] . 6 معارج الصعود ص83. وانظر تفسير سورة النور ص194، جمع د/عبد الله قادري. والمعين والزاد ص67 وأضواء البيان 3/352-353. وقد أشار لهذه الشروط شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العبودية ص170. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 المبحث الثاني: الفرق بين الإسلام والإيمان الإسلام والإيمان كما هو مقرر في قواعد أهل السنة والجماعة: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا1؛ أي إذا اجتمعا باللفظ افترقا بالمعنى؛ فيشمل الإسلام الأعمال الظاهرة. والإيمان الأعمال الباطنة. وإذا افترقا باللفظ اجتمعا بالمعنى؛ فيشمل كلّ واحد منهما الأعمال الظاهرة والباطنة. وقد صرح بهذا المعنى الشيخ الأمين –رحمه الله-، وذكر أمثلة لورود الإيمان متضمنا للإسلام، شاملا للأعمال الظاهرة والباطنة. وبين -رحمه الله- أنّ الإيمان يطلق أحيانا على الأعمال القلبية فقط؛ فيكون مغايرا لمعنى الإسلام: يقول -رحمه الله- في بيان ذلك كله عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} 2: "ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام. وقد دلّ بعض الآيات على اتحادهما؛ كقوله تعالى: {فأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3. ولا منافاة في ذلك؛ فإنّ الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل؛ كما ثبت في   1 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1/148. وجامع العلوم والحكم ص26. 2 سورة الزخرف، الآية [69] . 3 سورة الذاريات، الآية [35-36] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 الصحيح من حديث وفد عبد القيس1. والأحاديث بمثل ذلك كثيرة. ومن أصرحها في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وسبعون –وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح- وستون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" 2؛ فقد سمى صلى الله عليه وسلم "إماطة الأذى عن الطريق" إيمانا. وقد أطال البيهقي -رحمه الله- في شعب الإيمان في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة بتسميتها إيمانا. فالإيمان الشرعي التام، والإسلام الشرعي التام معناهما واحد. وقد يطلق الإيمان إطلاقا آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب؛ كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح3. والقلب مضغة في الجسد إذا صلح الجسد كله؛ فغيره تابع له. وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام. فالإيمان على هذا الإطلاق اعتقاد، والإسلام شامل للعمل. واعلم أنّ مغايرته تعالى بين الإيمان والإسلام في قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 4؛ قال بعض العلماء: المراد بالإيمان هنا: معناه الشرعيّ، والمراد بالإسلام: معناه اللغويّ؛ لأنّ إذعان الجوارح وانقايدها دون إيمان القلب: إسلام لغة لا شرعا. وقال بعض العلماء: المراد بكلّ منهما معناه الشرعي، ولكن نفي الإيمان في قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ} يراد به عند من قال هذا: نفي كمال الإيمان، لا نفي أصله. ولكنّ ظاهر الآية لا يساعد على هذا؛ لأن قوله:   1 سبق تخريجة. 2 سبق تخريجة. 3 سبق تخريجة. 4 سورة الحجرات، الآية [14] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 "ولما يدخل" فعل في سياق النفي، وهو صيغة عموم على التحقيق وإن لم يؤكد بمصدر، ووجهه واضح جدا كما قدمنا مرارا"1. وما ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله- هو قول المحققين من أهل العلم كما نقله الإمام النووي2عن أبي عمرو بن الصلاح -رحمه الله-، وغيره. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان؟ ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة. فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمنا بلا نزاع. وهذا هو الواجب"3.   1 أضواء البيان 7/278-279. والمصدر نفسه 7/636-639. 2 شرح النووي على صحيح مسلم 1/148. 3 الفتاوى 7/259-260. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان قول وعمل؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية1. والخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه فرع عن الخلاف في تحديد معنى الإيمان الشرعي؛ فمن قال من المبتدعة: إنّ الإيمان هو التصديق، ولم يدخل العمل، قال بعدم الزيادة والنقصان. ومن قال بقول أهل السنة والجماعة أنّ الإيمان قول واعتقاد وعمل، قال بأنه يزيد وينقص. وقد أوضح الشيخ الأمين –رحمه الله- هذه المسألة، وبين أنّ الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. واستشهد على ذلك بآيات من القرآن الكريم؛ فقال -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 2: "ويفهم من هذه الآية الكريمة أنّ من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى؛ لأنّ الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان. وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 3، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}   1 انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 5/960. والشريعة للآجري ص117-118؛ فقد نسبوها إلى الإمام مالك، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي. 2 سورة الكهف، الآية [13] . 3 سورة محمد، الآية [17] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 الآية1، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} الآية2، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 3، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} الآية4، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} الآية5، إلى غير ذلك من الآيات. وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أنّ الإيمان يزيد، مفهوم منها أنه ينقص أيضا، كما استدل بها البخاري -رحمه الله- على ذلك. وهي تدلّ دلالة صريحة لاشك فيها. فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى والعلم عند الله تعالى".6 وقال -رحمه الله- في موضع آخر بعدما ذكر الآيات المتقدمة: "وتدل هذه الآيات بدلالة الالتزام على أنه ينقص أيضاً، لأن كل ما يزيد ينقص. وجاء مصرحاً به في أحاديث الشفاعة الصحيحة كقوله: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال حبة من إيمان "7ونحو ذلك"8. وقال -رحمه الله- أيضاً: "والحق الذي لا شك فيه أن الإيمان يزيد وينقص كما عليه أهل السنة والجماعة. وقد دل عليه الوحي من الكتاب والسنة، كما   1 سورة العنكبوت، الآية [69] . 2 سورة الأنفال، الآية [29] . 3 سورة التوبة، الآية [124] . 4 سورة الفتح، الآية [4] . 5 سورة الحديد، الآية [28] . 6 أضواء البيان 4/28-29. 7 أخرجه البخاري في صحيحه (1/16) بألفاظ متقاربة، ومسلم في صحيحه 1/182. وكذا الإمام أحمد في مسنده (3/17) ، والترمذي في السنن (4/711، 714) بألفاظ متقاربة أيضا. 8 أضواء البيان 2/346. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 تقدم" 1. فالشيخ الأمين –رحمه الله- على عقيدة السلف في هذه القضية وغيرها، فهو يقول: إن الإيمان يزيد وينقص. وأما المبتدعة ومن حاد عن الطريق المستقيم فإنهم أنكروا زيادة الإيمان ونقصانه. وقولهم لا مستند له صحيح، ولا تؤيده الأدلة.   1 أضواء البيان 7/604. وانظر المصدر نفسه 4/362، 6/574. ومعارج الصعود ص248. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 المبحث الرابع: مراتب المؤمنين هذه المسألة مترتبة على التي سبقتها؛ وهي زيادة الإيمان ونقصانه. فالذي حقق شعب الإيمان كلها أعلى مرتبة من الذي اقتصر على بعض الشعب. والمؤمنون الكمل عندهم من تفاصيل علوم الإيمان، ومعارفه وأعماله ما لا يقاس بعلوم كثير من المؤمنين وأعمالهم وأخلاقهم؛ ولهذا فالمؤمنون على ثلاث مراتب1. وقد ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- مراتبهم مستشهدا بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُجَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} 2؛ فقال -رحمه الله-: "فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنّ إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أنّ الله اصطفاها في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، وبين أنهم ثلاثة أقسام: الأول: الظالم لنفسه: وهو الذي يطيع الله، ولكنه يعصيه أيضا، فهو   1 انظر التوضيح والبيان لشجرة الإيمان للشيخ السعدي ص36. 2 سورة فاطر، الآيات [32-35] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 الذي قال الله فيه: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 1. والثاني: المقتصد: وهو الذي يطيع الله ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات. والثالث: السابق بالخيرات: وهو الذي يأتي بالواجبات، ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة. وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه والمقتصد والسابق"2. وقال -رحمه الله- في موضع آخر: "وأظهر الأقوال في المقتصد، والسابق، والظالم أنّ المقتصد: هو من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزد على ذلك. وأنّ السابق بالخيرات: هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات خوفا من أن يكون سببا لغيره. وأنّ الظالم هو المذكور في قوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية3. والعلم عند الله تعالى"4. وقال -رحمه الله- في موضع آخر أيضا: "ووعدنا على لسانه صلى الله عليه وسلم وعدا يزيل الطمع من الفرق، وهو ما صحّ عنه أنّ مؤمننا في الجنة وإن زنى وإن سرق، وجعلنا ثلاث طوائف في كتابه المنير؛ قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 5. ووعد جميع الطوائف الثلاث بدخول الجنات   1 سورة التوبة، الآية [102] . 2 أضواء البيان 6/164-165. 3 سورة التوبة، الآية [102] . 4 أضواء البيان 2/116. 5 سورة فاطر، الآية [32] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 والتحلية بالأساور ولبس الحرير؛ قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} 1؛ فأتى في قوله "يدخلونها" بواو الجمع الشاملة للظالم لنفسه، وقدمه لئلا يقنط، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط، وخاطب المسرفين منا خطابا تجعل لذته الأصمّ سميعا، قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 2. فاعجب لأمة يخاطب الله مسرفيها هذا الخطاب في الآيات البينات المحكمات من الكتاب"3. فالشيخ الأمين –رحمه الله- قال بأنّ المؤمنين على ثلاث مراتب، كلّ مرتبة تخالف سابقتها في الفضل؛ فهم متفاوتون حسب اجتهادهم في الأعمال، وطريقة أدائهم لها. وليسوا كما قالت المرجئة على درجة واحدة من الإيمان. وقد قال بهذا التقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ومما قاله: "فقد قسم الله سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل "الإسلام"، و"الإيمان"، و"الإحسان" ... ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر، والتائب من جميع الذنوب؛ فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصداً، أو سابقا. كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات؛ كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} 4.فلابدّ أن   1 سورة فاطر، الآية [33] . 2 سورة الزمر، الآية [53] . 3 رحلة الحج ص39-40. 4 سورة النساء، الآية [31] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا"1. فالناس متفاوتون في درجات إيمانهم، وقربهم من بارئهم بحسب ما أدوا من واجبات وطاعات، واجتنبوا من محرمات. فلا ريب أنّ التفاوت الذي ذكره الشيخ الأمين –رحمه الله- مستدلا عليه بالقرآن الكريم حقيقة واقعة لا مراء فيها. نسأل الله جلّ وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أعلاهم درجة؛ من السابقين بالخيرات الذين هم أمثل الطوائف الثلاث إنه جواد كريم.   1 مجموع الفتاوى 7/485. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 المبحث الخامس: الكبائر دلت النصوص من الكتاب والسنة على أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر. أما الكتاب: فمنها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} 1، وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} 2، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 3. ومن السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر" وفي رواية: "مالم تغش الكبائر "4. وأوضح الشيخ الأمين –رحمه الله- انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، وبين معنى الكبائر، وهل تنحصر بعدد معين، وأكد أنّ اجتناب الكبائر مكفر للصغائر؛ فقال -رحمه الله- عند قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} 5: "وقد صرح تعالى بأنّ المنهيات منها كبائر، ويفهم من ذلك أنّ منها   1 سورة النجم، الآية [32] . 2 سورة النساء، الآية [31] . 3 سورة الشورى، الآية [37] . 4 رواه مسلم في صحيحه 1/209. 5 سورة الكهف، الآية [49] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 صغائر. وبين أنّ اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر؛ وذلك في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 1. ويروى عن الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه قال: "ضجوا من الصغائر قبل الكبائر"2". وهذا التقسيم واضح الدلالة من الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "فقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم على أنّ الذنوب كبائر وصغائر"3. أما عن تعريف الكبيرة: فقد ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- اختلاف العلماء فيه على أقوال متعددة؛ فقال: "واعلم أنّ أهل العلم اختلفوا في حدّ الكبيرة؛ فقال بعضهم4: هي كلّ ذنب استوجب حدا من حدود الله. وقال بعضهم5: هي كلّ ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب. واختار بعض المتأخرين6حدّ الكبيرة بأنها هي كل ذنب دلّ على عدم اكتراث صاحبه بالدين ... وعن ابن عباس أنّ الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع. وعنه أيضا: أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع7"8.   1 سورة النساء، الآية [31] . 2 أضواء البيان 4/118. 3 الجواب الكافي لابن القيم ص134. 4 روى ابن جرير عن الضحاك قوله: "الكبائر كلّ موجب أوجب الله لأهلها النار، وكل عمل يقام به الحدّ فهو في النار". (جامع البيان للطبري 5/42) . 5 مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. (انظر تفسير الطبري 5/41) . 6 قال الغزالي في ضابط الكبيرة: "إنّ كلّ معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف، ولا إحساس بندم، بل يرتكبها متهاونا بها مستجرئا عليها فهي كبيرة". (انظر تنبيه الغافلين ص133) . 7 تفسير ابن جرير الطبري 5/41. وانظر: مدارج السالكين 1/32. 8 أضواء البيان 7/199. وانظر: المصدر نفسه 4/118. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 ثمّ ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- القول الراجح في حدّ الكبيرة؛ فقال: "والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كلّ ذنب اقترن بما يدلّ على أنه أعظم من مطلق المعصية؛ سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، أو كان وجوب الحدّ فيه، أو غير ذلك مما يدلّ على تغليظ التحريم وتوكيده"1. وقد ردّ -رحمه الله- علىمن قال إنّ المعاصي لا تنقسم إلى كبائر وصغائر، بل كلها كبائر، وأكد أنّ الذنوب منها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير؛ كما دلّ عليه التنزيل؛ فقال -رحمه الله-: "مع أنّ بعض أهل العلم2قال: إنّ كل ذنب كبيرة. وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية، وقوله: {إِلاَّ اللَّمَمَ} : يدل على عدم المساواة، وأنّ بعض المعاصي كبائر وبعضها صغائر. والمعروف عند أهل العلم: أنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. والعلم عند الله تعالى"3. ثمّ رجح -رحمه الله- أنّ الكبائر ليس لها حدّ معين، وأنه لا يمكن حصرها؛ فقال -رحمه الله-: "التحقيق أنها لا تنحصر في سبع، وأنّ ما دلّ عليه من الأحاديث على أنها سبع4لا يقتضي انحصارها في ذلك العدد؛ لأنه إنما دلّ على نفي غير السبع بالمفهوم، وهو مفهوم لقب، والحقّ عدم اعتباره. ولو قلنا إنه مفهوم عدد لكان غير معتبر أيضاً؛ لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق. وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع،   1 أضواء البيان 7/199-200. 2 ممن أنكر أن يكون هناك صغائر وكبائر: أبوإسحاق الإسفرايني. وحكى القاضي عياض -رحمه الله- هذا المذهب عن بعض المحققين. (انظر: مدارج السالكين 1/310. وشرح النووي على صحيح مسلم 2/84-85) 3 أضواء البيان 7/200. 4 إشارة إلى حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات". رواه البخاري في صحيحه 3/195. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 والمنطوق مقدم على المفهوم، مع أنّ مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم"1. ثمّ ذكر -رحمه الله- أمثلة للكبيرة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "واعلم أنّ كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين. وقد جاء تعيين بعضها؛ كالسبع الموبقات؛ أي المهلكات لعظمها. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنها: "الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحقّ، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" 2. وقد جاءت روايات كثيرة3عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعيين بعض الكبائر؛ كعقوق الوالدين، واستحلال حرمة بيت الله الحرام، والرجوع إلىالبادية بعد الهجرة، وشرب الخمر، واليمين الغموس، والسرقة، ومنع فضل الماء، ومنع فضل الكلأ، وشهادة الزور. وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود: " إنّ أكبر الكبائر: الإشراك بالله الذي خلق الخلق، ثمّ قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه، ثمّ زناه بحليلة جاره" 4، وفي بعضها أيضا: " إنّ من الكبائر تسبب الرجل في سبّ والديه" 5، وفي بعضها أيضا: أن "سباب المسلم   1 أضواء البيان 7/199. وانظر تحرير هذه المسألة، وبيان اختلاف العلماء في تعريف الكبيرة، وهل تحدد بعدد معين في المصادر التالية: تفسير الطبري 5/41-42. وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/650. وشرح النووي على صحيح مسلم 2/85. وفتح الباري شرح صحيح البخاري 10/412. وشرح العقيدة الطحاوية ص414. وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا 5/46. 2 صحيح البخاري 3/195. 3 انظر تفسير الطبري 5/38. 4 أخرجه البخاري في صحيحه8/207.ومسلم في صحيحه1/90،مع اختلاف يسير. 5 انظر صحيح مسلم 1/92، ولفظ الحديث فيه: "من الكبائر شتم الرجل والديه ... " الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 فسوق وقتاله كفر " 1؛ وذلك يدلّ على أنهما من الكبائر. وفي بعض الروايات: أنّ " من الكبائر الوقوع في عرض المسلم، والسبَّتين بالسبة "2. وفي بعض الروايات أنّ منها جمع الصلاتين من غير عذر "3، وفي بعضها: أنّ منها " اليأس من روح الله، والأمن من مكر الله "4: ويدلّ عليهما قوله تعالى: {رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 5، وقوله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 6. وفي بعضها أنّ منها "سوء الظن بالله"7؛ ويدلّ له قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 8. وفي بعضها انّ منها "الإضرار بالوصية"9.   1 أخرجه مسلم في صحيحه 1/81. 2 أخرجه أبو داود في سننه 5/193. مع اختلاف يسير. 3 أخرج الترمذي في سننه (1/356-357) ، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ". وقد ضعفه الترمذي من أجل حنش؛ أحد رواة الحديث عن عكرمة، وقال: "والعمل على هذا عند أهل العلم أن لايجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة". وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر: "من الكبائر جمع بين الصلاتين، والفرار من الزحف، والنهبة". وقال الحافظ ابن كثير (في التفسير 2/484) : "وهذا إسناد صحيح". 4 روى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله". (تفسير ابن جرير 5/40) . وقال الحافظ ابن كثير (في التفسير 2/484) : "وهو صحيح إليه بلا شك". 5 سورة يوسف، الآية [87] . 6 سورة الأعراف، الآية [99] . 7 أخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه قال: "أكبر الكبائر سوء الظنّ بالله عزّ وجلّ". قال الحافظ ابن كثير (في تفسيره 2/484) : "حديث غريب جدا". 8 سورة الفتح، الآية [6] . 9 "الإضرار في الوصية من الكبائر"؛ قال ابن أبي حاتم: "هو صحيح عن ابن عباس من قوله". (انظر تفسير ابن كثير 2/485) . أما إثم الحيف في الوصية فهو في حديث أبي هريرة المرفوع الذي أخرجه ابن ماجه في سننه (2/902) ، وأبو داود في سننه (3/389) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 وفي بعضها أنّ منها الغلول1؛ ويدلّ له قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2؛ وقدمنا معنى الغلول في سورة الأنفال، وذكرنا حكم الغالّ. وفي بعضها: أنّ من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا؛ ويدلّ له قوله تعالى: {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة. وأسانيد بعضها لاتخلو من نظر، لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم "4. ثمّ ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- أنّ الكبيرة لا تحبط العمل الصالح؛ فقال عند قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ} 5: "في هذه الآية الكريمة دليل على أنّ كبائر الذنوب لاتحبط العمل الصالح؛ لأنّ هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح، وقذفه لعائشة من الكبائر، ولم يبطل هجرته؛ لأنّ الله قال فيه بعد قذفه: {وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ فدلّ ذلك على أنّ هجرته في سبيل الله لم يحبطها قذفه لعائشة رضي الله عنها"6. ثمّ نقل -رحمه الله- قول القرطبي مستشهدا به على صحة ما قاله: قال القرطبي: (في هذه الآية دليل على أنّ القذف وإن كان كبيرا لايحبط الأعمال، لأنّ الله تعالى وصف مسطحا –بعد قوله- بالهجرة والإيمان. وكذلك سائر الكبائر. ولايحبط الأعمال غير الشرك؛ قال تعالى: {لَئِنْ   1 انظر صحيح مسلم 3/1461. 2 سورة آل عمران، الآية [161] . 3 سورة آل عمران، الآية [77] . 4 أضواء البيان 7/197-199. وقد ذكرها بأسانيده الحافظ ابن كثير في تفسيره 2/483-484. 5 سورة النور، الآية [22] . 6 أضواء البيان 6/162-163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} 1"2. ثمّ تعقب الشيخُ الأمين القرطبي بقوله: "وما ذكر من أنّ الآية وصفت مسطحاً بالإيمان لم يظهر من الآية، وإن كان معلوما"3.   1 سورة الزمر، الآية [65] . 2 الجامع لأحكام القرآن 12/138. 3 أضواء البيان 6/163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 أما اجتناب الكبائر: فهو مكفر للصغائر؛ كما ذكر الشيخ الأمين –رحمه الله- عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} 1؛ فقال: "وأظهر الأقوال في قوله: {إِلاَّ اللَّمَمَ} : أنّ المراد باللمم صغائر الذنوب. ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية2؛ فدلت على أنّ اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. ويدلّ لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح، قال: ما رأيت شيئاً باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لامحالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" 3"4. أما حكم صاحب الكبيرة: فلم أجد الشيخ الأمين –رحمه الله- تكلم عليه كلاما صريحا، وإنما أشار في مواضع من تفسيره إلى أنّ أهل الكبائر لايخلدون في النار يوم القيامة؛ من ذلك ماذكره عند تفسير قوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} 5 من أنّ الوعيد للكفار لايتخلف، أما العصاة فلا يمتنع إخلافه6، وذكر -رحمه الله- عذاب الكفار، فقال: "وليس فيه تطهير ولا تمحيص لهم، بخلاف عصاة المسلمين فإنهم وإن عذبوا فسيصيرون إلى الجنة بعد ذلك العذاب. "فليس المقصود بعذابهم مجرد الإهانة، بل ليؤولوا بعده إلى الرحمة ودار   1 سورة النجم، الآية [32] . 2 سورة النساء، الآية [31] . 3 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2046. 4 أضواء البيان 7/196. 5 سورة ق، الآية [14] . 6 انظر أضواء البيان 7/646. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 الكرامة"1. وقال عند قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّه} 2: "ومعناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين"3. وهذه النصوص تؤكد أنّ عقيدة الشيخ الأمين –رحمه الله- في صاحب الكبيرة أنه تحت المشيئة؛ إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له وعفا عنه. وهذا ما أكده لي الشيخ عطية سالم –وهو من تلاميذ الشيخ الأمين الذين لازموه طيلة حياته- فقد سألته عن حكم الشيخ -رحمه الله- على صاحب الكبيرة؟ فقال: إنه كان يتحدث في مجالسه أنّ صاحب الكبيرة تحت المشيئة. وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة؛ فهم لا يكفرون من ترك بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات التي هي دون الشرك والكفر كما يفعله أهل الوعيد، ولا يعطونه الإيمان الكامل كما يفعله أهل الوعد من المرجئة. بل صاحب الكبيرة عندهم مؤمن بإيمانه، فاسق بمعصيته، ناقص الإيمان، لاينفون عنه مطلق الإيمان، ولايثبتون له الإيمان الكامل، وهو باق عندهم في عداد المسلمين له ما لهم وعليه ماعليهم. ومن فعل المعاصي نزل إلى مرتبة الظالم لنفسه –كما مرّ أثناء الكلام على مراتب المؤمنين-.   1 أضواء البيان 7/344. 2 سورة الأنعام، الآية [128] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام1 -رحمه الله-: (إنّ المعاصي والذنوب لا تزيل إيمانا، ولا توجب كفرا. ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم في مواضع من كتابه) 2. وبهذا يتبين لنا أن الشيخ الأمين –رحمه الله- يقول بما قال به السلف، رحمهم الله في حكم العصاة، وأنهم لا يخرجون بمعصيتهم عن حظيرة المؤمنين، بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان، وهم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم بعدله، وإن شاء عفا عنهم بمنه وكرمه سبحانه وتعالى.   1 هو الإمام الحافظ أبو عبيد بن سلام بن عبد الله البغدادي، أحد أئمة اللغة والفقه والحديث. ولد سنة (157) وتوفي بمكه سنة (224?) . (انظر: سير أعلام النبلاء 10/490. والبداية والنهاية 10/304) . 2 كتاب الإيمان لأبي عبيد ص89. تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 ا لمبحث السادس: حكم أهل الفترة بحث الشيخ الأمين -رحمه الله- هذه المسألة عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1؛ فذكر فيها قولين لأهل العلم مع أدلتهم من الكتاب والسنة. ثمّ ناقش هذين القولين، وجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، ورجح -رحمه الله- ما يقتضي الدليل رجحانه. أما القول الأول في هذه المسألة فهو: "أنّ كلّ من مات على الكفر فهو في النار، ولو لم يأته نذير. واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فمن الآيات: قوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 2، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 3. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 4، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5،   1 سورة الإسراء، الآية [15] . 2 سورة النساء، الآية [18] . 3 سورة البقرة، الآية [161] . 4 سورة آل عمران، الآية [91] . 5 سورة النساء، الآية [48] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 1. وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} الآية2، وقوله: {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} 3، إلى غير ذلك من الآيات. وظاهر جميع هذه الآيات العموم؛ لأنها لم تخصص كافرا دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار"4. ومن الأحاديث التي ذكرها الشيخ الأمين -رحمه الله- مدللا بها للقول الأول: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: "في النار". فلما مضى دعاه فقال: "إنّ أبي وأباك في النار" 5. ولمسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي" 6. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين. والقول الثاني: قالت جماعة من أهل العلم: إنّ أهل الفترة معذورون بأنهم لم يأتهم نذير، ولو ماتوا على الكفر. واستدلوا بقوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} 7؛ فصرح في هذه الآية الكريمة بأنه لابدّ أن يقطع   1 سورة الحج، الآية [31] . 2 سورة المائدة، الآية [72] . 3 سورة الأعراف، الآية [50] . 4 أضواء البيان 3/474 5 صحيح مسلم 1/191. 6 صحيح مسلم 2/671. 7 سورة النساء، الآية [165] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 حجة كلّ أحد بإرسال الرسل مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 1، وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2، وقوله جل وعلا: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} 3، وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} الآية4. وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَة} الآية5، وقوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الآية6. وقد عرض الشيخ الأمين -رحمه الله- مناقشة كلّ طرف للآخر، وما يحتج به أحدهما على الآخر، وأطال في إيراد ذلك7. ثمّ ذكر ما ترجح لديه في هذه المسألة فقال: "والذي يظهر رجحانه   1 سورة طه، الآية [134] . 2 سورة القصص، الآية [47] . 3 سورة الأنعام، الآية [131] . 4 سورة المائدة، الآية [19] . 5 سورة الأنعام، الآيات [155-157] . 6 سورة الملك، الآية [9] . 7 انظر أضواء البيان 3/471-484. ودفع إيهام الاضطراب 10/178-186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 بالدليل هو الجمع بين الأدلة؛ لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف. ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة، وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار؛ فمن اقتحمها دخل الجنة؛ وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع عذب بالنار؛ وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأنّ الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل. وبهذا الجمع تتفق الأدلة: فيكون أهل الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضا. ويحمل كلّ واحد من القولين على بعض منهم علم الله مصيرهم وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم فيزول التعارض"1. ثمّ ذكر -رحمه الله- أنه رجح هذا القول لأمرين: الأول: أنّ هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثبوته عنه نص في محل النزاع، فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة، وامتحانهم يوم القيامة، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم، وامتحانهم؛ بأنّ الآخرة دار جزاء لا عمل، وأنّ التكليف بدخول النار تكليف بما لايطاق، وهو لايمكن، ما نصه: والجواب عما قال أنّ أحاديث هذا الباب منها ماهو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء. ومنها ماهو حسن. ومنها ماهو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة   1 دفع إيهام الاضطراب 10/184-185. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها"1. أما المرجح الثاني: فقال -رحمه الله-: "إنّ الجمع بن الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف؛ لأنّ إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان. فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة. والعلم عند الله تعالى"2. ونقل -رحمه الله- عن الحافظ ابن كثير ما يؤيد ما ذهب إليه فقال: "وقال ابن كثير رحمه الله تعالى ... ما نصه: ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات؛ فمن أطاع دخل الجنة. وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو   1 أضواء البيان 3/482. وانظر تفسير ابن كثير 3/31. والشيخ الأمين -رحمه الله- لم يذكر حديثا ينص على حكم أهل الفترة، وإنما اكتفى بكلام ابن كثير السابق. وقد روى الإمام أحمد عن الأسود أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: أربعة يوم القيامة؛ رجل أصم لايسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربّ ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما". (مسند الإمام أحمد 4/24. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 3/418، رقم1434) . 2 أضواء البيان 3/484، وانظر دفع إيهام الاضطراب 10/66-67، 185-186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد1"2. وممن قال بعذر أهل الفترة: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: "لا يهلكهم الله ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولا". وقد رويت آثار متعددة من أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا فإنه يبعث إليه رسول يوم القيامة في عرصات القيامة"3.   1 تفسير القرآن العظيم 3/30. 2 أضواء البيان 3/483. 3 مجموع الفتاوى 17/308. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 الفصل السابع: جهود الشيخ الأمين في توضيح مباحث الإمامة الإمامة لغة: الإمام: كلّ من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم، أو كانوا ضالين. وإمام كلّ شيء قيّمه والمصلح له. والقرآن إمام المسلمين. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة. والخليفة إمام الرعية. وإمام الجند قائدهم1. الإمامة اصطلاحا: عرفها ابن خلدون بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا"2. وقد اهتمّ الشيخ الأمين -رحمه الله- بالإمامة، وتناولها في أربع عشرة صفحة، تحدث فيها عن وجوب نصب الإمام، والأمور التي تنعقد بها الإمامة، وشروطها، ومتى تفسخ، وهل يجوز نصب خليفتين، وهل للإمام أن يعزل نفسه، وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ وقد استطرد -رحمه الله- في تقرير هذه المسائل.   1 لسان العرب 12/24-25. 2 المقدمة لابن خلدون ص191. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 أولا: وجوب نصب الإمام: قال الشيخ الأمين -رحمه الله-: "من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أنّ المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الله في أرضه. ولم يخالف في هذا إلا من لايعتدّ به.. وأكثر العلماء على أنّ وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع؛ كما دلت عليه الآية المتقدمة1 وأشباهها وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولأن الله تعالى قد يزع بالسلطان ما لايزعه بالقرآن؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 2؛ لأنّ قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة"3. وقد أوضح الإمام القرطبي -رحمه الله- ذلك، وذكر الأدلة الشرعية الدالة على وجوب نصب الإمام4. ثانيا: الأمور التي تنعقد بها الإمامة: ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- أنّ الإمامة تنعقد بعدة أمور، فقال: "الأول: ما لو نص صلى الله عليه وسلم على أنّ فلانا هو الإمام فإنها تنعقد له بذلك. وقال بعض العلماء5: إنّ إمامة أبي بكر رضي الله عنه من هذا القبيل؛ لأنّ تقديم النبيّ صلى الله عليه وسلم له في إمامة الصلاة وهي   1 هي قوله تعالى في سورة البقرة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} . 2 سورة الحديد، الآية [25] . 3 أضواء البيان 1/121. 4 انظر الجامع لأحكام القرآن 1/182-183. 5 نسبه الإمام ابن أبي العز الحنفي إلى الحسن البصري، وجماعة من أهل الحديث. (انظر شرح العقيدة الطحاوية ص533) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 أهمّ شيء: فيه إشارة إلى التقديم للإمامة الكبرى، وهو ظاهر. الثاني: اتفاق أهل الحل والعقد على بيعته، وقال بعض العلماء1: إنّ إمامة أبي بكر منه لإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار عليها بعد الخلاف، ولاعبرة بعدم رضى بعضهم؛ كما وقع من سعد بن عبادة رضي الله عنه من عدم قبوله بيعة أبي بكر رضي الله عنه. الثالث: أن يعهد إليه الخليفة الذي قبله؛ كما وقع من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما. ومن هذا القبيل جعل عمر رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راض. الرابع: أن يتغلب على الناس بسيفه، وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتبّ له الأمر، وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شقّ عصا المسلمين وإراقة دمائهم. قال بعض العلماء: ومن هذا القبيل قيام عبد الملك ابن مروان على عبد الله بن الزبير وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف، فاستتبّ الأمر له"2. وقد ذكر هذه الأمور التي تنعقد بها الإمامة الإمام القرطبي3 -رحمه الله-.   1 قال الإمام ابن أبي العز عن إمامة أبي بكر: "وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنه ثبتت بالاختيار". (شرح العقيدة الطحاوية ص533) . 2 أضواء البيان 1/122. 3 انظر الجامع لأحكام القرآن 1/185-186. ونسب -رحمه الله- القول الرابع إلى سهل بن عبد الله التستري، وابن خويز منداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ثالثا: الشروط الواجب توفرها في الإمام: ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- الشروط التي لابدّ من توفرها في الإمام لتصح إمامته، وهي: الأول: أن يكون قرشيا. وذلك مشروط بإقامتهم الدين، وإطاعتهم لله ورسوله، فإن خالفوا أمر الله فغيرهم ممن يطيع الله تعالى وينفذ أوامره أولى منهم. الثاني: كونه ذكرا. ولاخلاف في ذلك بين العلماء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "1. الثالث: كونه حرا. فلا يجوز أن يكون عبدا. ولاخلاف في هذا بين العلماء. أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإنّ طاعته تجب إخمادا للفتنة، وصونا للدماء، مالم يأمر بمعصية. الرابع: أن يكون بالغا. فلا تجوز إمامة الصبيّ إجماعا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة. الخامس: أن يكون عاقلا. فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه. وهذا لا نزاع فيه. السادس: أن يكون عدلا. فلا تجوز إمامة فاسق. واستدلّ عليه بعض العلماء بقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 2 ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام؛ لأنّ العدل لا يكون غير مسلم. السابع: أن يكون ممن يصلح أن يكون من قضاة المسلمين مجتهدا يمكنه   1 صحيح البخاري 8/97. 2 سورة البقرة، الآية [124] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث. الثامن: أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك. ويدلّ لهذين الشرطين الأخيرين؛ أعني العلم، وسلامة الجسم قوله تعالى في طالوت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 1. التاسع: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب، وتدبير الجيوش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، وردع الأمة، والانتقام من الظالم، والأخذ للمظلوم. العاشر: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولافزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأعضاء2. وقد ذكر هذه الشروط أيضا: الإمام القرطبي -رحمه الله-، إلا أنه زاد شرطا هو الإسلام3، مع أنه ذكر الشرط السادس بلفظه، وهو يغني عن زيادة هذا الشرط. وقد توفرت هذه الشروط كلها في الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لذلك صحت خلافتهم، قال الشيخ الأمين -رحمه الله- عند قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 4 مخبرا عن صحة خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم: "هذه الآيات تدلّ على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأنّ الله نصرهم على أعدائهم لأنهم نصروه، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر. وقد مكن لهم، واستخلفهم في الأرض كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ} الآية5. والحق أنّ   1 سورة البقرة، الآية [247] . 2 باختصار من أضواء البيان 1/123-129. 3 انظر الجامع لأحكام القرآن 1/186-187. 4 سورة الحج، الآية [40] . 5 سورة النور، الآية [55] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل. والعلم عند الله"1. وقال عن إمامة الصديق أبي بكر رضي الله عنه عند قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2: "يوخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم؛ أعني الفاتحة بأن نسأله أن يهدينا صراطهم. فدل ذلك على أنّ صراطهم هو الصراط المستقيم؛ وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} . وقد بين الذين أنعم عليهم، فعدّ منهم الصديق. وقد بين صلى الله عليه وسلم أنّ أبا بكر من الصديقين؛ فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم، الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم، فلم يبق لبس في أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم، وأنّ إمامته حقّ"3. وقد ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- بعض المسائل التي تتعلق بالإمامة وأجاب عنها: المسألة الأولى: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة هل يكون ذلك سببا لعزله والقيام عليه، أولا؟ أجاب -رحمه الله- على هذا السؤال بقوله: "قال بعض العلماء4: إذا   1 أضواء البيان 5/704. 2 سورة الفاتحة، الآية [6] . 3 أضواء البيان 1/104-105. 4 وحكى القرطبي هذا القول عن الجمهور فقال: قال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته، ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم. انظر (الجامع لأحكام القرآن 1/187) . لكن كثير من العلماء حكى الإجماع على أن الإمام لاينعزل بالفسق. انظر ص604-605. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 صار فاسقا، أو داعيا إلى بدعة، جاز القيام عليه لخلعه. والتحقيق الذي لاشك فيه أنه لايجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان"1. ثمّ استشهد -رحمه الله- بعدة أحاديث، منها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان "2. وحديث أم سلمة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون. فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم. ولكن من رضي وتابع". قالوا: يارسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا "3. ثمّ قال -رحمه الله-: "والأحاديث في هذا كثيرة. فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه ولو كان مرتكبا لما لا يجوز، إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعيّ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه كفرٌ بواح، أي ظاهرٌ باد، لا لبس فيه. وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة. ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنة.   1 أضواء البيان 1/129. 2 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1470-1471. 3 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1480 بدون لفظة "يارسول الله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لاطاعة لإمام ولا غيره في معصية الله. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره، مالم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" أخرجه الشيخان وأبو داود1. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: "لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف "2. وفي الكتاب العزيز: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} 3"4. وهذا الذي ذكره الشيخ الأمين هو القول الصحيح الذي نختاره ونعتقده وهو معتقد أهل السنة، قال القاضي عياض -رحمه الله- مخبراً عن معتقد أهل السنة في الإمام الفاسق: "جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولايخلع، ولايجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك"5. بل حكى القاضي -رحمه الله- الإجماع على ذلك فقال: "وقيل إن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم"، وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "وأجمع أهل السنة أنه لاينعزل السلطان   1 أخرجه البخاري في صحيحه 8/105-106- واللفظ له-، ومسلم في صحيحه 3/1469، وأبو داود في سننه 3/93-94. 2 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1469. 3 سورة الممتحنة، الآية [12] . 4 أضواء البيان 1/130-131. 5 شرح النووي على صحيح مسلم 12/229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 بالفسق"1. وممن ذكر الإجماع على ذلك ابن بطال2. وابن مجاهد3. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- أنه مذهب أهل الحديث4. وقال ابن حجر -رحمه الله- "وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه وأنه لاينخلع بالفسق) 5. ومما يدل على معتقد أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وحفاظهم على اجتماع كلمة الأمة ودرء الفتنة عنها موقف الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- مع الخلفاء الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق، مع ماحصل عليه من أذى كبير ليحمل على اعتقاد باطل، والأمة كانت تنتظر إشارة منه لنصرته، ومع ذلك يرى عدم المساس بجناب السلطان لما في ذلك من الفتن العظيمة التي لايعلم مداها إلا الله، فما أجدرنا بالاقتداء بهؤلاء الأعلام، سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن. نسأل الله أن يحفظنا راعيا ورعية من مضلات الفتن. المسألة الثانية: هل للإمام أن يعزل نفسه؟ ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- في هذه المسألة قولين لأهل العلم، الأول: أنّ له عزل نفسه. وعزاه للقرطبي. والثاني: ليس له عزل نفسه؛ لأنه تقلد   1 نفس المصدر السابق بالجزء والصفحة. 2 انظر فتح الباري 13/9. 3 انظر مراتب الإجماع لابن حزم 199. 4 الفتاوى 4/444. 5 فتح الباري 13/77 ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلام محرر في منهاج السنة حول هذا الموضوع. انظر 1/115-118، 547-565، 4/524-548، ومما قاله -رحمه الله- (إن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يكره وينكر ما يأتونه من معصية الله ولاتنزع اليد من طاعتهم بل يطاعون في طاعة الله وأن منهم خياراً وشرارا..) منهاج السنة 1/117. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 حقوق المسلمين. وعقب -رحمه الله- على هذين القولين بقوله: "إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك، كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة: فلا نزاع في جواز عزله لنفسه. ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم, الحسن بن علي رضي الله عنهما؛ لعزله نفسه وتسليمه الأمر إلى معاوية بعد أن بايعه أهل العراق؛ حقنا لدماء المسلمين. وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه جده، رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنّ ابني هذا سيد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" 1"2. المسألة الثالثة: هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقلّ دون الآخر؟ ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- ثلاثة أقوال لأهل العلم في ذلك: الأول: جواز ذلك مطلقا. ونسبه للكرامية. الثاني: لا يجوز تعدد الإمام الأعظم. ونسبه للجمهور3. الثالث: التفصيل. فيمنع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة، ويجوز في الأقطار المتنائية؛ كالأندلس وخراسان4. ونقل -رحمه الله- قول القرطبي في هذه المسألة: (لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت، كالأندلس وخراسان جاز ذلك) 5. ونقل أيضا قول ابن كثير: "وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق،   1 أخرجه البخاري في صحيحه 4/216. 2 أضواء البيان 1/123. وانظر الجامع لأحكام القرآن 1/188. 3 قال الإمام النووي: "اتفق العلماء على أنه لايجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد". (شرح النووي على صحيح مسلم 12/233) . 4 انظر أضواء البيان 1/131-132. 5 الجامع لأحكام القرآن 1/188. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب"1. ولم يختر -رحمه الله- قولا من هذه الأقوال الثلاثة، وإنما اكتفى بسردها، ونقل كلام بعض العلماء في ذلك. المسألة الرابعة: هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ ذكر الشيخ الأمين -رحمه الله- قولين لأهل العلم في هذه المسألة: الأول: لا يجب؛ لأنه يحتاج إلى دليل من النقل، وهذا لادليل عليه منه. الثاني: يجب الإشهاد عليه؛ لئلا يدعي مدع أنّ الإمامة عقدت له سرا، فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة2. ولم يختر -رحمه الله- واحدا من هذين القولين أيضا. وهكذا فصل الشيخ الأمين -رحمه الله- القول في الإمامة وما يتعلق بها من مسائل؛ إذ هي من أهمّ المسائل التي يجب العناية بها؛ لما يترتب عليها من وحدة الأمة، وصون حقوقها، ورفع راية الدين، والذود عنه، وإقامة أمره.   1 تفسير القرآن العظيم 1/72. 2 انظر أضواء البيان 1/133-134، وقد حكى القرطبي هذين القولين عن المالكية، (انظر الجامع لأحكام القرآن 1/186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 الخاتمة الحمد لله الرب الكريم، الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وبتوفيقه تقضى الحاجات، فقد تمّ هذا البحث، وتوصلت فيه إلى النتائج التالية: (1) - إنّ عقيدة الشيخ -رحمه الله- هي عقيدة السلف الصالح التي ترتكز على الوحيين، الكتاب والسنة. وقد وافقهم في جميع محتويات العقيدة، ولم يخرج عن منهجهم قيد أنملة، فقد عرف الإيمان بأنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. كما قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات. وأوضح بقية مباحث الإيمان الأخرى؛ كالإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر؛ خيره وشره، وذكر جزئيات هذه المباحث. (2) - أظهر -رحمه الله- هذه العقيدة، ودعا إليها في جميع كتبه، ومحاضراته، ودروسه. وكان لايترك مناسبة إلا وحرص على ذكرها والدعوة إليها. (3) - أبرز -رحمه الله- العقيدة الصافية، واستنبطها من نصوص القرآن الكريم بأسلوبه الرائع وطريقته المعروفة في تفسير القرآن بالقرآن. (4) - أكد -رحمه الله- أنّ الآيات الدالة على توحيد الربوبية في القرآن الكريم إنما هي إلزام للمشركين أن يوحدوا الله في العبادة. (5) - اهتم -رحمه الله- بعقيدة السلف في الأسماء والصفات، وجعلها من أنواع البيان المذكورة في أضواء البيان، ومن أهمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وأنّ جميع ما وصف الله به نفسه في القرآن العظيم فهو موصوف به حقيقة لامجازا. (6) - سلك -رحمه الله- قاعدة الإمام مالك الذهبية في الصفات: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب) ، وطردها في جميع الصفات؛ لأنها كلها في باب واحد. (7) - اهتم -رحمه الله- بذكر رأيه في الصفات في ضوء الدليل، ووفق المنهج المرسوم. فلا يطيل الحديث عنها؛ لأنه قد اكتفى ببيان المنهج، وتوضيح العقائد التي تشترك فيها سائر الصفات. (8) - لم يؤول -رحمه الله- أيّ صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، ولم يرتض التأويل بأي شكل من أشكاله. (9) - أبرز عقيدة السلف بأسلوب عربي مختصر بعيد عن مصطلحات أهل الكلام. وكان -رحمه الله- يكره التعمق في آيات الصفات والخوض فيها، ويقول: هي من البدع التي كرهها السلف. (10) - جعل -رحمه الله- قواعد وضوابط وأسسا في إثبات الصفات لتسهيل فهمها وحفظها. (11) - نقد -رحمه الله- منهج أهل الكلام عن دراية وفهم، وناقشه، واستعرض شبه أهل الكلام، وردّ عليها بحجج في غاية القوة والإقناع مدارها الكتاب والسنة. (12) - كان -رحمه الله- من العلماء العالمين بالجدل والمنطق، وأسلوب البحث والمناظرة. لكنه لايجعله أساساً يثبت به صفات الله ويهدر الأدلة السمعية، بل لم يستخدمه في مبحث التوحيد إلا للرد على دليلهم الجدلي بلغتهم، مبينا أنه من أساسه كاذب بلا شك، وأنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 النتيجة سوف تكون كاذبة. (13) - أكد -رحمه الله- أنّ معتقد السلف هو الأسلم والأحكم والأعلم، وأنه المنجي يوم القيامة. (14) - كان -رحمه الله- ذا حجة مقنعة، وعقلية فذة، وعلم واسع، وفهم لعقيدة السلف على أصولها الصحيحة، وعمل على نشرها بين الناس. (15) - رجح -رحمه الله- أنّ الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر، ولم يقتل به إنسانا، أنه لايقتل. (16) - رجح -رحمه الله- وفاة الخضر عليه السلام، ونبوته، وناقش أدلة القائلين بحياته وعدم نبوته مناقشة دقيقة، مؤيدة بالحجج الواضحة والأدلة الصريحة، وردّ ما يقال حوله من قصص خيالية، وروايات موضوعة. (17) - ردّ -رحمه الله- على من جوز العمل بالإلهام، وأنّ الولي يسعه الخروج عن الوحي المحمدي، وقال عنها: إنها زندقة. (18) - له مشاركات لعلماء الأمة فعالة في التصدي للتيارات الإلحادية، وموقف راسخ في الذود عن حياض العقيدة الصافية. (19) - عند المناقشة مع المخالفين يذكر -رحمه الله- قول المخالف بإنصاف مع حجته، ولاينقص من قدره، بل يرد عليه بحياد وعدم تعصب. (20) - مؤلفات الشيخ -رحمه الله- عظيمة الفوائد، ومنهل عذب، ومعين لاينضب وعلى رأسها أضواء البيان؛ فإنه لقي قبولا واهتماما من العلماء والباحثين. لكن تنقصه الطباعة الجيدة، والتحقيق المتقن لتدارك الأخطاء التي تخلّ بالمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 (21) هناك رسائل مهمة للشيخ -رحمه الله- تدلّ على سعة علمه وهي لاتزال مخطوطة ولو طبعت وأخرجت لعمت الفائدة منها. (22) - محاضرة الشيخ -رحمه الله- المسماة: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: هي اسم على مسمى: أبرز فيها الشيخ -رحمه الله- عقيدة السلف في الصفات مع توضيح المنهج والقواعد والأسس التي يقوم عليها، واشار إلى طريقة المخالفين مبينا وهنها. فلو قررت هذه الرسالة على المعاهد والكليات في بابها، فهي جديرة بالعناية والدراسة. (23) - هناك أشرطة للشيخ -رحمه الله- في تفسير بعض سور القرآن الكريم بصوته، سبق أن أشرت إلى أرقامها والآيات المفسرة. وكذا رحلته إلى أفريقيا للدعوة، فيها محاضرات وكلمات. فلو فرغت وطبعت لكانت أجزاء كثيرة، فيها العلم النافع الغزير، هيأ الله لها من يخرجها وينشرها. -وفي الأخير: أحمد الله الذي وفقني لإتمام هذا البحث، فقد خرجت منه بفوائد جليلة؛ حيث منّ الله عليّ بقراءة بعض كتب السلف في العقيدة والتفسير والتراجم، واطلعت على أكثر مباحث العقيدة، وذلك بفضل الله وتوفيقه فله الحمد والمنة. وفي الختام أسأل الله العليّ القدير العلم النافع، والرزق الطيب، والعمل المتقبل لي ولإخواني المسلمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع -أ- 1- الإبانة: للأشعري. تحقيق/ عبد القادر الأرناؤوط. مكتبة دار البيان الأولى، عام 1401هـ. 2- إبطال التأويلات لأخبار الصفات: لأبي يعلى. تحقيق/ محمد النجدي. ط الأولى، 1410هـ. مكتبة دار الإمام الذهبي، الكويت. 3- الإتقان في علوم القرآن: للسيوطي. ط دار المعرفة. بيروت-لبنان. 4- مكرر _الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان. قدم له وضبطه: كمال يوسف الحوت. ط دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1407هـ 5- أحكام الجنائز: للألباني. ط الرابعة، 1406هـ، المكتب الإسلامي. 6- آداب البحث والمناظرة: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، أشرف على طبعه عطية محمد سالم. طبع بمطابع شركة المدينة للطباعة والنشر، 1388هـ. 7- الإرشاد: للجويني. تحقيق/ محمد يوسف موسى، وعلي عبد المنعم عبد الحميد. مطبعة السعادة، 1396هـ. 8- إرواء الغليل: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ط الأولى 1399هـ، المكتب الإسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 9- أساس التقديس في علم الكلام: للفخر الرازي. طبعة مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، عام 1354هـ. 10- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر. تحقيق/ علي محمد البجاوي. ط مطبعة نهضة مصر بالقاهرة. 11- الإسلام دين كامل. محاضرة ألقاها الشيخ محمد الأمين في المسجد النبوي. ط دار المدني، جدة. 12- الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني، ط مطبعة نهضة مصر بالقاهرة. 13- أصول الدين للبغدادي. ط الثانية، 1400هـ، ط دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان. 14- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. طبع المطابع الأهلية للأوفست. الرياض، 1403هـ. على نفقة سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز. 15- الأعلام: للزركلي. ط الثانية، 1989م. دار العلم للملايين، بيروت. 16- إعلام الموقعين عن رب العالمين: لابن القيم. راجعه وعلق عليه/ طه عبد الرؤوف سعد. دار الجيل للنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، 1973م. 17- أعلام النبوة: للماوردي. تحقيق/ محمد شريف سكر. ط1، 1408هـ، ط دار إحياء العلوم، بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 18- إغاثة اللهفان: لابن القيم. تحقيق/ محمد حامد الفقي. دار المعرفة، ببيروت. 19- أقاويل الثقات: لمرعي المقدسي. تحقيق/ شعيب الأرناؤوط. ط الأولى، 1406هـ. 20- اقتضاء الصراط المستقيم: لابن تيمية. تحقيق د/ ناصر العقل. ط الأولى، 1404?. 21- ألفية ابن مالك. ط الأولى، 1404هـ. مكتبة طيبة، المدينة المنورة. 22- الإمام ابن تيمية وقضية التأويل: محمد سيد الجليند. ط الثانية، 1403هـ، شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع. 23- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: للبيضاوي. طبع بمطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر. 24- أهوال القبور: لابن رجب. ط الثانية، 1407هـ، ط دار الهجرة. القاهرة. 25- الآيات البينات: لِنُعْمَان الألوسي. تحقيق/ الشيخ ناصر الدين الألباني. دار الأرقم. ط الثانية، 1405هـ. 26- الإيمان: لأبي عبيد: القاسم بن سلام. تحقيق/ محمد ناصر الدين الألباني. دار الأرقم. ط الثانية، 1405هـ. 27- الإيمان: لابن تيمية. ط الثالثة، 1401هـ. ط المكتب الإسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 -ب- 28- بدائع الفوائد: لابن القيم. طبعة المطبعة المنيرية. بدون تاريخ. 29- البداية والنهاية: لابن كثير. دقق أصولها مجموعة من العلماء. ط الأولى، 1408هـ. دار الريان للتراث، القاهرة. 30- البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان: للسكسكي الحنبلي. تحقيق د/بسام علي سلامة العموشة. مكتبة المنار، ط الأولى، 1408هـ. -ت- 31- تاج العروس: للزبيدي. تصوير دار مكتبة الحياة، بيروت-لبنان. 32- التاريخ الكبير: للبخاري. دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان. 33- تأويل مختلف الحديث: لابن قتيبة. دار الكتاب العربي. بدون تاريخ. 34- تجريد التوحيد: للمقريزي. طبع بمطابع الجامعة الإسلامية، 1408هـ. وطبعة مكتبة العالمية. 35- التحذير من مختصرات الصابوني: للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد. ط الأولى، 1409هـ، دار الراية، الرياض. 36- تحكيم القوانين: للشيخ محمد بن إبراهيم. ط الثانية، عام 1403هـ. مطابع شركة الصفحات الذهبية المحدودة. 37- تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد: شرح جوهرة التوحيد للبيجوري. طبعة دار الكتب العالمية، بيروت، ط الأولى، 1403هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 38- التحفة المهذبة: لابن مهدي. تصحيح وتعليق عبد الرحمن بن صالح المحمود. ط الثانية. 1405هـ، مكتبة الحرمين. 39- التخويف من النار: لابن رجب. تحقيق/ بشير عيون. مكتبة المؤيد، دمشق، ط الثانية، 1409هـ. 40- التدمرية: لابن تيمية، تحقيق: محمد بن عودة السعوي، ط الأولى، 1405هـ. طبع بشركة العبيكان للطباعة والنشر بالرياض. 41- تذكرة الحفاظ: للذهبي. تصوير دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان. 42- تفسير سورة النور: للشيخ محمد الأمين. جمع د/عبد الله قادري. مكتوب على الآلة الكاتبة. 43- تفسير الطبري= جامع البيان. ط مطبعة دار الفكر. 1405هـ. 44- تفسير القرآن العظيم= تفسير ابن كثير. ط دار الفكر. بدون تاريخ، وط دار المعرفة، 1388هـ. 45- التفسير الكبير: لفخر الدين الرازي. ط دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط الثالثة. 46- تفسير المنار= تفسير القرآن الحكيم: للشيخ محمد رشيد رضا. ط الثانية، دار المعرفة، بيروت. 47- التفسير والمفسرون: د/محمد حسين الذهبي، ط الثانية 1396هـ. دار الكتب الحديثة. 48- التمهيد: للباقلاني. المكتبة الشرقية، بيروت. بتحقيق: ريتشارد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 يوسف مكارثي اليسوعي. 49- التمهيد لابن عبد البر. الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب. 50- تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين: للنحاس، حققه وعلق عليه/ عماد الدين عباس سعيد. ط الأولى، دار الكتب العلمية، 1407هـ. 51- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان: للشيخ عبد الرحمن السعدي، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1406هـ. 52- توضيح المقاصد وتصحيح القواعد: لابن عيسى، شرح نونية ابن القيم. ط الثانية، 1406هـ، المكتب الإسلامي. 53- تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني. تصوير دار صادر. بيروت-لبنان. 54- تهذيب اللغة: للأزهري. تحقيق/ عبد السلام هارون. ط المؤسسة المصرية العامة للتأليف. ط دار القومية العربية للطباعة 1384هـ. 55- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ عبد الرحمن السعدي. تحقيق/محمد زهري النجار. ط الإفتاء، عام 1404هـ. 56- تيسير العزيز الحميد: للشيخ سليمان بن عبد الله. ط الخامسة، 1402هـ، بيروت، المكتب الإسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 -ج- 57- الجامع لأحكام القرآن= تفسير القرطبي. ط الأولى، 1408هـ، دار الكتب العلمية. 58- جامع الرسائل والمسائل: لابن تيمية. ط الأولى، 1403هـ. دار الكتب العلمية. 59- جامع العلوم والحكم: لابن رجب. دار المعرفة للطباعة والنشر. بدون تاريخ. 60- الجواب الكافي: لابن القيم. دار الندوة الجديدة، بيروت لبنان، 1405هـ. -ح- 61- حاشية الصاوي على تفسير الجلالين. ط دار الفكر، بيروت، 1406هـ. -خ- 62- خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه: للشيخ الألباني. ط الرابعة، 1400هـ، المكتب الإسلامي. 63- الخطط: للمقريزي. ط دار صادر، بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 -د- 64- درء تعارض العقل والنقل: لابن تيمية. تحقيق/ محمد رشاد سالم. توزيع مكتبة ابن تيمية. 65- الدرة فيما يجب اعتقاده: لابن حزم الظاهري. تحقيق/ أحمد بن ناصر الحمد، ود/ سعيد عبد الرحمن القزمي. ط الأولى، 1408هـ مطبعة المدني. 66- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: للشيخ محمد الأمين. الملحق بأضواء البيان –المجلد العاشر-. 67- الدين الخالص: لمحمد صديق حسن خان. تحقيق/ محمد زهري النجار. طبع بمطبعة المدني بمصر، 1379هـ. 68- ديوان الإمام الشافعي. جمع محمد الزعبي. مكتبة المعرفة بحمص، ومكتبة دار العلم للطباعة والنشر بجدة، ط الثالثة. -ذ- 69- ذمّ التأويل: لابن قدامة المقدسي. تحقيق: بدر البدر. ط الدار السلفية، الكويت، ط1، 1406هـ. 70- الذيل على طبقات الحنابلة: لابن رجب. دار المعرفة، طبع بمطبعة السنة المحمدية، 1372هـ. -ر- 71- رائحة الجنة في شرح إضاءة الدجنة. ط الأولى. 1377هـ. 72- الرحلة إلى المسجد الحرام: للشيخ محمد الأمين. ط الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 1403هـ، دار الشروق، جدة 73- الرد على الجهمية: للدرامي. تحقيق/ زهير الشاويش. المكتب الإسلامي، ط الرابعة، 1402هـ. 74- الرد على الجهمية والزنادقة: للإمام أحمد. تحقيق/ عبد الرحمن عميرة. دار اللواء، الطبعة الثانية، 1402هـ. 75- رسالة إلى أهل الثغر: للأشعري. تحقيق/ عبد الله الجنيدي، ط الأولى، 1409هـ، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة. 76- رسالة في الاستواء والفوقية: لأبي محمد الجويني. موجودة ضمن رسائل المجموعة المنيرية. 77- رسالة مخطوطة صغيرة: للشيخ محمد الأمين، جواب على سؤال ورد عليه من أحد أمراء شنقيط. يقع في إحدى عشرة صفحة. 78- الرسالة المدنية: لابن تيمية. تحقيق/ الوليد بن عبد الرحمن الفريان. ط الأولى، 1408هـ. مطبعة دار طيبة بالرياض. 79- رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر: لمرعي الكرمي. مكتبة الصحوة، الكويت. تحقيق/ عادل الجطيلي ط الأولى، 1410هـ. 80- الروح: لابن القيم. تحقيق/ محمد اسكندر يلدا، دار الكتب العلمية، ط الأولى، 1402هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 81- رياض الصالحين: للنووي. تحقيق/ عبد العزيز رباح، وأحمد يوسف الدقاق. ط الرابعة، 1401هـ. دار المأمون للتراث. -ز- 82- زاد المعادر: لابن قيم الجوزية. تحقيق/ شعيب وعبد القادر الأرناؤوط. ط الثالثة. 1402هـ مؤسسة الرسالة. 83- الزهر النضر في نبأ الخضر: لابن حجر. علق عليه/ سمير حسين حلبي. ط الأولى، 1408هـ. دار الكتب العلمية. -س- 84- سلسلة الأحاديث الصحيحة: للشيخ الألباني. ط الرابعة 1405هـ. المكتب الإسلامي. 85- سلسلة الأحاديث الضعيفة: للشيخ الألباني. ط الخامسة 1405هـ. المكتب الإسلامي. 86- سنن الدارقطني. تحقيق/ عبد الله هاشم يماني المدني. ط شركة الطباعة الفنية المتحدة. 87- سنن أبي داود. إعداد وتعليق/ عبيد الدعاس. ط الأولى 1388هـ، دار الحديث. 88- سنن ابن ماجه. حقق نصوصه وعلق عليه، محمد فؤاد عبد الباقي. ط دار الفكر، بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 89- سنن الترمذي. تحقيق/ أحمد محمد شاكر. ط الثانية 1389هـ. ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي. القاهرة. 90- السنن الكبرى: للبيهقي. تصوير دار الفكر، بيروت-لبنان. 91- سنن النسائي. تصوير دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان. 92- سير أعلام النبلاء: للذهبي. ط مؤسسة الرسالة، ط الرابعة، 1406هـ. -ش- 93- شذرات الذهب: لابن العماد. منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. 94- الشرح والإبانة على أصول الديانة: للعكبري. تحقيق/رضا نعسان معطي. ط 1404هـ. المكتبة الفيصلية، مكة. 95- شرح أم البراهين: للسنوسي. ط دار الفكر، بيروت-لبنان. 96- شرح الأصول الخمسة: لعبد الجبار المعتزلي. ط الثانية 1408هـ، مكتبة وهبة. 97- شرح السنة: للبغوي. تحقيق/ الأرناؤوط، وزهير الشاويش. ط المكتب الإسلامي، بيروت، 1971م. 98- شرح الصاوي على جوهرة التوحيد. توزيع دار الإخاء، 1980م. 99- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: للالكائي. تحقيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 /د. أحمد سعد حمدان. ط دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض. الطبعة الأولى. 100- شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز الحنفي. حققها جماعة من العلماء، وخرج أحاديثها الألباني. ط المكتب الإسلامي. بيروت، 1399هـ. 101- شرح العقيدة الواسطية: للشيخ صالح الفوزان. ط الرابعة، 1407هـ، مكتبة المعارف. 102- شرح العقيدة الواسطية: للشيخ محمد الصالح العثيمين. مخطوطة. 103- شرح مراقي السعود على أصول الفقه: لمحمد الأمين الجكني الشنقيطي. الناشر: دار الوفاء، 1378هـ. 104- شرح المعلقات العشر: للشيخ أحمد الأمين الشنقيطي. دار الكتاب العربي، 1404هـ. 105- شرح النووي على صحيح مسلم: ط دار إحياء التراث، ط الثانية، 1392هـ. 106- الشريعة: للآجري. تحقيق/ محمد حامد الفقي. ط الأولى، 1403هـ. دار الكتب العلمية. 107- شفاء العليل: لابن قيم الجوزية. تصوير دار المعرفة، بيروت، عن ط عام 1323هـ، بالمطبعة الحسينية. 108- الشنقيطي، ومنهجه في التفسير. إعداد الطالبة سميرة ابنة صقر آل محمد. مكتوب على الآلة الكاتبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 109- الشيخ عبد الرحمن السعدي، وجهوده في العقيدة: د/عبد الرزاق بن الشيخ عبد المحسن العباد. ط الأولى، 1411هـ، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع. -ص- 110- الصحاح: للجوهري. الطبعة الثانية، 1402هـ، على نفقة الشيخ حسن شربتلي. 111- صحيح البخاري. ط المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، 1989م. 112- صحيح الجامع الصغير: للشيخ الألباني. ط المكتب الإسلامي، 1405هـ. 113- صحيح مسلم. حقق نصوصه وعلق عليه/ محمد فؤاد عبد الباقي. ط الثانية، 1389هـ دار الفكر، بيروت. 114- الصفات الاختيارية: لابن تيمية. ضمن جامع الرسائل والمسائل، المجموعة الثانية. تحقيق د/محمد رشاد سالم، مطبعة المدني، ط1، 1405هـ. 115- الصفات الإلهية: للدكتور محمد أمان. ط المجلس العلمي في الجامعة الإسلامية، 1408هـ. 116- الصين: للشيخ عبد العزيز المسند. ط الأولى، 1410هـ. مطابع الفرزدق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 -ض- 117- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: للسخاوي. تصوير بيروت، دار مكتبة الحياة. -ط- 118- طبقات الحنابلة: لابن أبي يعلى. دار المعرفة، ببيروت. مطبعة السنة المحمدية، 1372هـ. 119- طريق الهجرتين: لابن القيم. صححه وراجعه: إبراهيم الأنصاري. طبع على نفقة الشيخ حمد بن فالح آل ثاني. -ع- 120- علماء نجد خلال ستة قرون: للبسام. ط الأولى، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة. 121- علماء ومفكرون عرفتهم: للشيخ محمد المجذوب. ط الثانية. 1403هـ. عالم المعرفة. 122- علماؤنا: إعداد فهد البدراني، وفهد البراك. ط الأولى 1410هـ. طباعة مكتب المهندس. 123- العبودية: لابن تيمية. ط الخامسة، 1399هـ. المكتب الإسلامي. 124- عقيدة الحافظ تقي الدين عبد الغني المقدسي. تحقيق/عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 بن محمد البصيري. ط الأولى، مطابع الفرزدق. 125- العقيدة النظامية: للجويني. تقديم وتحقيق د/أحمد حجازي السقا. الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، ط الأولى. 1398هـ. مطبعة دار الشباب بالعباسية. 126- علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين: للدكتور رضا نعسان معطي. شركة العبيكان للطباعة، ط1، 1402هـ. 127- العين والأثر: للمواهبي. تحقيق/عصام رواس قلعجي. ط الأولى، 1407هـ. دار المأمون للتراث. -ف- 128- فتح الباري: لابن حجر. تحقيق/ محب الدين الخطيب. المكتبة السلفية، ط الثالثة، 1407هـ. 129- فتح القدير: للشوكاني. ط دار الفكر، بيروت 1401هـ. 130- فتح المجيد: للشيخ عبد الرحمن بن حسن. ط1403هـ. توزيع الإدارات العلمية للبحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد. 131- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لابن تيمية تحقيق/ عبد القادر الأرناؤوط. مكتبة دار البيان، دمشق، 1405هـ. 132- الفرق بين الفرق: للبغدادي. تحقيق/ محمد محيي الدين عبد الحميد. الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 133- الفتوى الحموية الكبرى: لابن تيمية. تقديم/ محمد عبد الرزاق حمزة. مطبعة المدني، 1403هـ. 134- فضائل الصحابة: للإمام أحمد. بتحقيق: وصي الله بن محمد عباس. ط مؤسسة الرسالة. نشر مركز البحث العلمي في جامعة أم القرى في مكة المكرمة، ط الأولى، 1403هـ. 135- الفكر الصوفي: للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق. مكتبة ابن تيمية، الكويت، ط الثالثة، 1406هـ. 136- في ظلال القرآن: للشيخ سيد قطب. ط دار الشروق، ط التاسعة، 1400هـ. -ق- 137- قانون التأويل: لابن العربي. تحقيق/ محمد السليماني. ط الأولى، 1406هـ. نشر دار القبلة للثقافة الإسلام، جدة. 138- القاموس المحيط: للفيروز آبادي. طبع مؤسسة الرسالة بيروت، ط الأولى 1406هـ. 139- القضاء والقدر: للشيخ محمد الصالح العثيمين، محاضرة، ط الأولى، 1411هـ. دار الأفق للنشر والتوزيع. 140- القضاء والقدر: د. عمر الأشقر. دار النفائس، الكويت، ط الأولى، 1410هـ. 141- القواعد المثلى: للشيخ محمد الصالح العثيمين. مكتبة المعارف. الرياض. 1405هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 142- القول السديد: للشيخ عبد الرحمن السعدي. ط الجامعة الإسلامية بالمدينة. -ك- 143- كتاب الأسماء والصفات: للبيهقي. دار الكتب العلمية، بيروت. 144- كتاب التوحيد: لابن خزيمة. تحقيق/د. عبد العزيز الشهوان. ط الأولى، 1408هـ، دار الرشيد للنشر والتوزيع. 145- كتاب التوحيد: لابن مندة. تحقيق/ د. علي بن ناصر الفقيهي. ط الأولى. طبع بمطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة. توزيع مركز شؤون الدعوة بالجامعة. 146- الكشاف: للزمخشري. ط دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ. 147- كشف الأستار: بقلم د. علي جابر الحربي. ط الأولى، 1410هـ. دار طيبة بمكة. 148- الكواشف الجلية لشرح العقيدة الواسطية: للشيخ عبد العزيز السلمان. ط الثانية، 1390هـ. مطبعة دار السعادة، القاهرة. -ل- 149- لمعة الاعتقاد: لابن قدامة، خرج أحاديثها/ بدر بن عبد الله البدر. ط الأولى، 1406هـ، دارالسلفية، الكويت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 150- لسان العرب: لابن منظور. مكتبة دار صادر، بيروت بدون تاريخ. 151- لوامع الأنوار البهية: للسفاريني. ط الثانية، 1405هـ المكتب الإسلامي. -م- 152- مجموع فتاوى شيخ الإسلام. طبعة خادم الحرمين الملك فهد. إشراف الرئاسة العامة، شؤون الحرمين الشريفين، 1404هـ. 153- مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز. الطبعة الثانية، 1408هـ. طبع العبيكان للطباعة والنشر، الرياض. 154- المجموعة المنيرية. إدارة الطباعة المنيرية. ط الأولى عام 1343هـ. 155- مختصر الصواعق المرسلة: لابن القيم. تصحيح زكريا علي يوسف. مكتبة المتنبي، القاهرة. مطبعة دار البيان بعابدين. 156- مدارج السالكين: لابن القيم. تحقيق/ محمد حامد الفقي. دار الكتاب العربي، 1392هـ. 157- مذكرة أصول الفقه: للشيخ محمد الأمين. ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، 1391هـ. 158- المستدرك على معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة. مؤسسة الرسالة. الطبعة الثانية. 1408هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 159- مسند الإمام أحمد. وبهامشه المنتخب من كنز العمال. دار صادر، بيروت. 160- مشكاة المصابيح: للتبريزي. تحقيق الألباني، ط الثانية 1405هـ، المكتب الإسلامي. 161- مشكل الحديث: لابن فورك. ط 1400هـ، دارالكتب العلمية، بيروت. 162- المعين والزاد. جمع سيد الأمين بن المامي الجكني. ط الأولى، 1396هـ. 163- معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة. دار إحياء التراث العربي، بيروت. 164- معارج الصعود: للشيخ محمد الأمين. جمع/د. عبد الله قادري. طبع دار المجتمع، ط الأولى، 1408هـ. 165- معارج القبول: للشيخ حافظ حكمي. المطبعة السلفية ومكتبتها. بدون تاريخ. 166- المغني: لابن قدامة. تحقيق/د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، د. عبد الفتاح محمد الحلو. ط الأولى، 1406هـ. 167- مقدمة ابن خلدون. ط الخامسة، 1984م. دار القلم، بيروت. 168- الملل والنحل: للشهرستاني. تحقيق/ محمد سيد كيلاني. ط 1400هـ. دار المعرفة، بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 169- مفتاح دار السعادة: لابن القيم. دار نجد للنشر والتوزيع، 1402هـ. 170- المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني. ط 1381هـ شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر. تحقيق/ محمد سيد كيلاني. 171- مقالات الإسلاميين: للأشعري. تحقيق/ محمد محيي الدين عبد الحميد. ط الثانية، 1389هـ. 172- منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز: للشيخ محمد الأمين. ملحق بالجزء العاشر بأضواء البيان، ط3، 1403هـ، على نفقة سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز. 173- منهاج المسلم: لأبي بكر الجزائري. دار الشروق، ط السابعة، 1407هـ. 174- منهج التشريع وحكمته: للشيخ محمد الأمين. محاضرة طبعت بمطابع الجامعة الإسلامية، ط الأولى. 175- منهج الشيخ الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام من أضواء البيان: إعداد عبد الرحمن السديس. مكتوب على الآلة الكاتبة. 176- منهج ودراسات في آيات الأسماء والصفات: للشيخ محمد الأمين. ط الرابعة، 1404هـ. دار السلفية، الكويت. 177- مناهل العرفان: للزرقاني. دار إحياء الكتب العربية. 1362هـ. 178- موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: لابن تيمية. ط دار الكتب العلمية، بيروت. بهامش منهاج السنة النبوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 179- المواقف في علم الكلام: للإيجي. ط عالم الكتب، بيروت. 180- مواهب الجليل من تفسير البيضاوي: للشيخ محمد كنعان. 181- الموطأ: لمالك بن أنس. ط دارالحديث. تصحيح/ محمد فؤاد عبد الباقي. 182- مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب. –قسم العقيدة- طبع بمطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. -ن- 183- النبوات: لابن تيمية، ط دار الكتب العلمية، بيروت. 1402هـ. 184- نقض المنطق: لابن تيمية. تحقيق/محمد عبد الرزاق حمزة، وسليمان الصنيع. مكتبة السنة المحمدية، 1407هـ. تصحيح/ محمد حامد الفقي. 185- نهاية الإقدام: للشهرستاني. تحقيق: ألفرد جيوم. لندن، 1934م. 186- النهاية في الفتن والملاحم: لابن كثير. تحقيق/ محمد أحمد عبد العزيز، ط دار الحديث، 1401هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 -و- 187- الوابل الصيب في الكلم الطيب: لابن قيم الجوزية. تحقيق/ بشير محمد عيون. الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق. 189- وفيات الأعيان: لابن خلكان. تصوير دار الثقافة بيروت- لبنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712