الكتاب: الهداية في شرح بداية المبتدي المؤلف: علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين (المتوفى: 593هـ) المحقق: طلال يوسف الناشر: دار احياء التراث العربي - بيروت - لبنان عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الهداية في شرح بداية المبتدي المَرْغِيناني الكتاب: الهداية في شرح بداية المبتدي المؤلف: علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، أبو الحسن برهان الدين (المتوفى: 593هـ) المحقق: طلال يوسف الناشر: دار احياء التراث العربي - بيروت - لبنان عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المجلد الأول مقدمة ... " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " حديث شريف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أعلى معالم العلم وأعلامه وأظهر شعائر الشرع وأحكامه وبعث رسلا وأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين إلى سبل الحق هادين وأخلفهم علماء إلى سنن سنتهم داعين يسلكون فيما لم يؤثر عنهم مسلك الاجتهاد مسترشدين منه في ذلك وهو ولي الإرشاد وخص أوائل المستنبطين بالتوفيق حتى وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق غير أن الحوادث متعاقبة الوقوع والنوازل يضيق عنها نطاق الموضوع واقتناص الشوارد بالاقتباس من الموارد والاعتبار بالأمثال من صنعة الرجال وبالوقوف على المآخذ يعض عليها بالنواجذ. وقد جرى علي الوعد في مبدإ بداية المهتدي أن أشرحها بتوفيق الله تعالى شرحا أرسمه بـ كفاية المنتهى فشرعت فيه والوعد يسوغ بعض المساغ وحين أكاد أتكئ عنه اتكاء الفراغ تبينت فيه نبذا من الإطناب وخشيت أن يهجر لأجله الكتاب فصرفت العنان والعناية إلى شرح آخر موسوم بـ الهداية أجمع فيه بتوفيق الله تعالى بين عيون الرواية ومتون الدراية تاركا للزوائد في كل باب معرضا عن هذا النوع من الإسهاب مع ما أنه يشتمل على أصول ينسحب عليها فصول وأسأل الله تعالى أن يوفقني لإتمامها ويختم لي بالسعادة بعد اختتامنها حتى أن من سمت همته إلى مزيد الوقوف يرغب في الأطول والأكبر ومن أعجله الوقت عنه يقتصر على الأقصر والأصغر وللناس فيما يعشقون مذاهب والفن خير كله ثم سألني بعض إخواني أن أملي عليهم المجموع الثاني فافتتحه مستعينا بالله تعالى في تحرير ما أقاوله متضرعا إليه في التيسير لما أحاوله إنه الميسر لكل عسير وهو على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 كتاب الطهارات باب: الوضوء مدخل ... كتاب الطهارات قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، " ففرض الطهارة غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس " بهذا النص والغسل هو الإسالة والمسح هو الإصابة وحد الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها " والمرفقان والكعبان يدخلان في الغسل " عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى هو يقول الغاية لا تدخل تحت المغيا كالليل في باب الصوم. ولنا أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها إذ لولاها لاستوعبت الوظيفة الكل وفي باب الصوم لمد الحكم إليها إذ الاسم يطلق على الإمساك ساعة والكعب هو العظم الناتئ هو الصحيح ومنه الكاعب. قال: " والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس " لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه والكتاب مجمل فالتحق بيانا به وهو حجة على الشافعي في التقدير بثلاث شعرات وعلى مالك في اشتراط الاستيعاب وفي بعض الروايات قدره بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى بثلاث أصابع من أصابع اليد لأنها أكثر ما هو الأصل في آلة المسح. قال: "وسنن الطهارة: غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء إذا استيقظ المتوضئ من نومه" لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده " ولأن اليد آلة التطهير فتسن البداءة بتنظيفها وهذا الغسل إلى الرسغ لوقوع الكفاية به في التنظيف. قال: " وتسمية الله تعالى في ابتداء الوضوء " لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا وضوء لمن لم يسم الله " والمراد به نفي الفضيلة. والأصح أنها مستحبة وإن سماها في الكتاب سنة ويسمى قبل الاستنجاء وبعده هو الصحيح. قال: " والسواك " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يواظب عليه وعند فقده يعالج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بالأصبع، لأنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك والأصح أنه مستحب. قال: " والمضمضة والاستننشاق " لأنه عليه الصلاة والسلام فعلهما على المواظبة. وكيفيته أن يمضمض ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا ثم يستنشق كذلك هو المحكي عن وضوئه صلى الله عليه وسلم " ومسح الأذنين " وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام: " الأذنان من الرأس " والمراد بيان الحكم دون الخلقة. قال: " وتخليل اللحية " لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمره جبريل عليه السلام بذلك وقيل هو سنة عند أبي يوسف رحمه الله جائز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن السنة إكمال الفرض في محله والداخل ليس بمحل الفرض. قال: " وتخليل الأصابع " لقوله عليه الصلاة والسلام: " خللوا أصابعكم كي لا تتخللها نار جهنم " ولأنه إكمال الفرض في محله. قال: " وتكرار الغسل إلى الثلاث " لأن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به " وتوضأ مرتين مرتين وقال: " هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين " وتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم " والوعيد لعدم رؤيته سنة. قال: " ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة " فالنية في الوضوء سنة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى فرض لأنه عبادة فلا تصح بدون النية كالتيمم ولنا أنه لا يقع قربة إلا بالنية ولكنه يقع مفتاحا للصلاة لوقوعه طهارة باستعمال المطهر بخلاف التيمم لأن التراب غير مطهر إلا في حال إرادة الصلاة أو هو ينبئ عن القصد " ويستوعب رأسه بالمسح " وهو سنة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: السنة التثليث بمياه مختلفة اعتبارا بالمغسول ولنا أن أنسا رضي الله عنه توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرة واحدة وقال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يروى من التثليث محمول عليه بماء واحد وهو مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولأن المفروض هو المسح وبالتكرار يصير غسلا ولا يكون مسنونا فصار كمسح الخف بخلاف الغسل لأنه لا يضره التكرار. قال: " ويرتب الوضوء فيبدأ بما بدأ الله تعالى بذكره وبالميامن " فالترتيب في الوضوء سنة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى فرض لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية والفاء للتعقيب ولنا أن المذكور فيها حرف الواو وهي لمطلق الجمع بإجماع أهل اللغة فتقتضي إعقاب غسل جملة الأعضاء والبداءة بالميامن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فضيلة لقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله تعالى يحب التيامن في كل شيء حتى التنعل والترجل ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فصل في نواقض الوضوء " المعاني الناقضة للوضوء كل ما يخرج من السبيلين " لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما الحدث قال: " ما يخرج من السبيلين " وكلمة ما عامة فتتناول المعتاد وغيره " والدم والقيح إذا خرجا من البدن فتجاوزا إلى موضع يلحقه حكم التطهير والقي ملء الفم " وقال الشافعي رحمه الله: الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قاء فلم يتوضأ ولأن غسل غير موضع الإصابة أمر تعبدي فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " الوضوء من كل دم سائل " وقوله عليه الصلاة والسلام: " من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته مالم يتكلم " ولأن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة وهذا القدر في الأصل معقول والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول غير أن الخروج إنما يتحقق بالسيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير وبملء الفم في القيء لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها فتكون بادية لا خارجة بخلاف السبيلين لأن ذلك الموضع ليس بموضع النجاسة فيستدل بالظهور على الانتقال والخروج وملء الفم أن يكون بحال لا يمكن ضبطه إلا بتكلف لأنه يخرج ظاهرا فاعتبر خارجا وقال زفر رحمه الله تعالى قليل الفيء وكثيره سواء وكذا لا يشترط السيلان عنه اعتبارا بالمخرج المعتاد ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: " القلس حدث " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا " وقول علي رضي الله تعالى عنه حين عد الأحداث جملة أو دسعة تملأ الفم وإذا تعارضت الأخبار يحمل ما رواه الشافعي رحمه الله على القليل وما رواه زفر رحمه الله على الكثير والفرق بين المسلكين قد بيناه ولو قاء متفرقا بحيث لو جمع يملأ الفم فعند أبي يوسف رحمه الله يعتبر اتحاد المجلس وعند محمد رحمه الله يعتبر اتحاد السبب وهو الغثيان ثم مالا يكون حدثا لا يكون نجسا يروى ذلك عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو الصحيح لأنه ليس بنجس حكما حيث لم تنتقض به الطهارة " وهذا إذا قاء مرة أو طعاما أو ماء فإن قاء بلغما فغير ناقض " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: ناقض إذا كان ملء الفم والخلاف في المرتقى من الجوف أما النازل من الرأس فغير ناقض بالاتفاق لأن الرأس ليس بموضع النجاسة لأبي يوسف رحمه الله أنه نجس بالمجاورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ولهما أنه لزج لا تتخلله النجاسة وما يتصل به قليل والقليل في القيء غير ناقض " ولو قاء دما هو علق يعتبر فيه ملء الفم لأنه سودءا محترقة " وإن كان مائعا فكذلك عند محمد رحمه الله اعتبارا بسائر أنواعه وعندهما إن سال بقوة نفسه ينتقض الوضوء وإن كان قليلا لأن المعدة ليست بمحل الدم فيكون من قرحه في الجوف " ولو نزل " من الرأس " إلى ما لأن من الأنف نقض بالإتفاق " لوصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير فيتحقق الخروج " والنوم مضطجعا أو متطئا أو مستندا إلى شيء لو أزيل عنه لسقط " لأن الاضطجاع سبب لاسترخاء المافصل فلا يعرى عن خروج شيء عادة والثابت عادة كالمتيقن به والاتكاء يزيل مسكة اليقظة لزوال المقعد عن الأرض ويبلغ الاسترخاء عايته بهذا النوع من الاستناد غير أن السند يمنعه من السقوط بخلاف النوم حالة القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة وغيرهما في الصحيح لأن بعض الاستمساك باق إذ لو زال لسقط فلم يتم الإسترخاء والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " لا وضوء على من نام قائما أو قاعدا أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا " فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصلة " والغلبة على العقل بالإغماء والجنون " لأنه فوق النوم مضطجعا في الاسترخاء والإغماء حدث في الأحوال كلها وهو القياس في النوم إلا أنا عرفناه بالأثر والإغماء فوقه فلا يقاس عليه " والقهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود " والقياس أنها لا تنقض وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لأنه ليس بخارج نجس ولهذا لم يكن حدثا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وخارج الصلاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة جميعا " وبمثله يترك القياس والأثر ورد في صلاة مطلقة فيقتصر عليها والقهقهة ما يكون مسموعا له ولجيرانه والضحك ما يكون مسموعا له دون جيرانه وهو على ما قيل يفسد الصلاة دون الوضوء " والدابة تخرج من الدبر ناقضة فإن خرجت من رأس الجرح أو سقط اللحم لا تنقض " والمراد بالدابة الدودة وهذا لأن النجس ما عليها وذلك قليل وهو حدث في السبيلين دون غيرهما فأشبه الجشاء والفساء بخلاف الريح الخارجة من قبل المرأة وذكر الرجل لأنها لا تنبعث عن محل النجاسة حتى لو كانت المرأة مفضاة يستحب لها الوضوء لاحتمال خروجها من الدبر " فإن قشرت نقطة فسال منها ماء أو صديد أو غيره إن سال عن رأس الجرح نقض وإن لم يسل لا ينقض " وقال زفر رحمه الله تعالى ينقض في الوجهين. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا ينقض في الوجهين وهي مسألة الخارج من غير السبيلين، وهذه الجملة نجسة لأن الدم ينضج فيصير قيحا ثم يزداد نضجا فيصير صديدا ثم يصير ماء، هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إذا قشرها فخرج بنفسه أما إذا عصرها فخرج بعصره لا ينقض لأنه مخرج وليس بخارج والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فصل في الغسل " وفرض الغسل: المضمضة والاستنشاق وغسل سائر البدن " وعند الشافعي رحمه الله تعالى هما سنتان فيه لقوله عليه الصلاة والسلام: " عشر من الفطرة " أي من السنة وذكر منها " المضمضة والاستنشاق " ولهذا كانا سنتين في الوضوء ولنا قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] وهو أمر بتطهير جميع البدن إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن النص بخلاف الوضوء لأن الواجب فيه غسل الوجه والمواجهة فيهما منعدمة والمواد بما روي حالة الحدث بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: " إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء ". قال: " وسنته أن يبدأ المغتسل فيغسل يديه وفرجه ويزيل نجاسة إن كانت على بدنه ثم يتوضأوضوءه للصلاة إلا رجليه ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثا ثم يتنحى عن ذلك المكان فيغسل رجليه " هكذا حكت ميمونة رضي الله عنها اغتسال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يؤخر غسل رجليه لأنهما في مستنقع الماء المستعمل فلا يفيد الغسل حتى لو كان على لوح لا يؤخر وإنما يبدأ بإزالة النجاسة الحقيقية كيلا تزداد بإصابة الماء " وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل إذا بلغ الماء أصول الشعر " لقوله عليه الصلاة والسلام لأم سلمة رضي الله عنها: " أما يكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك " وليس عليها بل ذوائبها هو الصحيح بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثنائها. قال: " والمعاني الموجبة للغسل إنزال المني على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة " وعند الشافعي رحمه الله تعالى خروج المني كيفما كان يوجب الغسل لقوله عليه الصلاة والسلام: " الماء من الماء " أي الغسل من المني ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب والجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة يقال أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة والحديث محمول على خروج المني عن شهوة ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى انفصاله عن مكانه على وجه الشهوة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ظهوره أيضا اعتبارا للخروج بالمزايلة إذ الغسل يتعلق بهما ولهما أنه مني وجب من وجه فالاحتياط في الإيجاب " والتقاء الختانين من غير إنزال " لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ولأنه سبب الإنزال ونفسه يتغيب عن بصره وقد يخفى عليه لقلته فيقام مقامه وكذا الإيلاج في الدبر لكمال السببية ويجب على المفعول به احتياطا بخلاف البهيمة وما دون الفرج لأن السببية ناقصة. قال: " والحيض " لقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتشديد وكذا النفاس للإجماع. قال: " وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام " نص على السنية وقيل هذه الأربعة مستحبة وسمى محمد رحمه الله تعالى الغسل يوم الجمعة حسنا في الأصل وقال مالك رحمه الله هو واجب لقوله عليه الصلاة والسلام: " من أتى الجمعة فليغتسل " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل " وبهذا يحمل ما رواه على الاستحباب أو على النسخ ثم هذا الغسل للصلاة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى هو الصحيح لزيادة فضيلتها على الوقت واختصاص الطهارة بها وفيه خلاف الحسن والعيدان بمنزلة الجمعة لأن فيهما الاجتماع فيستحب الاغتسال دفعا للتأذي بالرائحة وأما في عرفة والإحرام فسنبينه في المناسك إن شاء الله تعالى قال: " وليس في المذي والودي غسل وفيهما الوضوء " لقوله عليه الصلاة والسلام: " كل فحل يمذي وفيه الوضوء "، والودي الغليظ من البول يتعقب الرقيق منه خروجا فيكون معتبرا به. والمني خاثر أبيض ينكسر منه الذكر والمذي رقيق يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله والتفسير مأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 باب: الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز مدخل ... باب الماء الذي يجوز به الوضوء ومالا يجوز " الطهارة من الأحداث جائزة بماء السماء والأودية والعيون والآبار والبحا ر" لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] وقوله عليه الصلاة والسلام " الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه " وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " ومطلق الاسم ينطلق على هذه المياه قال: " ولا يجوز بما اعتصر من الشجر والثمر " لأنه ليس بماء مطلق والحكم عند فقده منقول إلى التيمم والوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية فلا تتعدى إلى غير المنصوص عليه وأما الماء الذي يقطر من الكرم فيجوز التوضي به لأنه ماء يخرج من غير علاج ذكره في جوامع أبي يوسف رحمه الله وفي الكتاب إشارة إليه حيث شرط الاعتصار. قال: " ولا " يجوز " بماء غلب عليه غيره فأخرجه عن طبع الماء كالأشربة والخل وماء الباقلا والمرق وماء الورد وماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الزردج " لأنه لا يسمى ماء مطلقا والمراد بماء الباقلا وغيره ما تغير بالطبخ فإن تغير بدون الطبخ يجوز التوضي به. قال: " وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه كماء المد والماء الذي اختلط به اللبن أو الزعفران أو الصابون أو الأشنان " قال الشيخ الإمام: أجري في المختصر ماء الزردج مجرى المرق والمروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه بمنزلة ماء الزعفران وهو الصحيح كذا اختاره الناطفي والإمام السرخسي رحمه الله تعالى وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز التوضي بماء الزعفران وأشباهه مما ليس من جنس الأرض لأنه ماء مقيد ألا ترى أنه يقال ماء الزعفران بخلاف أجزاء الأرض لأن الماء لا يخلو عنها عادة ولنا أن اسم الماء باق على الإطلاق ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة وإضافته إلى الزعفران كإضافته إلى البئر والعين ولأن الخلط القليل لا معتبر به لعدم إمكان الإحتراز عنه كما في أجزاء الأرض فيعتبر الغالب والغلبة بالأجزاء لا بتغير اللون هو الصحيح " فإن تغير بالطبخ بعدما خلط به غيره لا يجوز التوضي به " لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء إذ النار غيرته إلا إذا طبخ فيه ما يقصد به المبالغة في النظافة كالأشنان ونحوه لأن الميت قد يغسل بالماء الدي أغلى بالسدر بذلك وردت السنة إلا أنيغلب ذلك على الماء فيصير كالسويق المخلوط لزوال اسم الماء عنه " وكل ماء وقعت فيها لنجاسة لم يجز الوضوء به قليلا كانت النجاسة أو كثيرا " وقال مالك رحمه الله: يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه لما روينا وقال الشافعي رحمه الله يجوز إذا كان الماء قلتين لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " ولنا حديث المستيقظ من منامه، وقوله عليه الصلاة والسلام " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة " من غير فصل والذي رواه مالك رحمه الله تعالى ورد في بئر بضاعة وماؤها كان جاريا في البساتين وما رواه الشافعي رحمه الله ضعفه أبو داود وهو يضعف عن احتمال النجاسة "والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر لأنها لا تستقر مع جريان الماء " والأثر: هو الرائحة أو الطعم أو اللون والجاري: مالا يتكرر استعماله، وقيل ما يذهب بتبنة قال: " والغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر، لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه " إذ أثر التحريك في السراية فوق أثر النجاسة ثم عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يعتبر التحريك بالاغتسال وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وعنه التحريك باليد وعن محمد رحمه الله تعالى بالتوضي ووجه الأول أن الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشد منها إلى التوضي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وبعضهم قدروا بالمساحة عشرا في عشر بذراع الكرباس توسعة للأمر على الناس وعليه الفتوى والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف هو الصحيح وقوله في الكتاب جاز الوضوء من الجانب الآخر إشارة إلى أنه ينجس موضع الوقوع وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا ينجس إلا بظهور أثر النجاسة فيه كالماء الجاري. قال: " وموت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه كالبق والذباب والزنابير والعقرب ونحوها " وقال الشافعي رحمه الله تعالى يفسده لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة بخلاف دود الخل وسوس الثمار لأن فيه ضرورة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام فيه " هذا هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه " ولأن المنجس هو اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت حتى حل المذكى لانعدام الدم فيه ولا دم فيها والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة كالطين. قال: " وموت ما يعيش في الماء فيه لا يفسده كالسمك والضفدع والسرطان " وقال الشافعي رحمه اله يفسده إلا السمك لما مر ولنا أنه مات في معدنه فلا يعطى له حكم النجاسة كبيضة حال محها دما ولأنه لا دم فيها إذ الدموي لا يسكن الماء والدم هو المنجس وفي غير الماء قيل غير السمك يفسده لانعدام المعدن وقيل لا يفسده لعدم الدم وهو الأصح والضفدع البحري والبري فيه سواء وقيل البري مفسد لوجود الدم وعدم المعدن وما يعيش في الماء ما يكون توالده ومثواه في الماء ومائي المعاش دون مائي المولد مفسد. قال: " والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث " خلافا لمالك والشافعي رحمهما الله هما يقولان إن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى كالقطوع وقال زفر رحمه الله وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله إن كان المستعمل متوضئا فهو طهور وإن كان محدثا فهو طاهر غير طهور لأن العضو طاهر حقيقة وباعتباره يكون الماء طاهرا لكنه نجس حكما وباعتباره يكون الماء نجسا فقلنا بانتفاء الطهورية وبقاء الطهارة عملا بالشبهين وقال محمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو طاهر غير طهور لأن ملاقاة الطاهر لا توجب التنجس إلا أنه أقيمت به قربة فتغيرت به صفته كمال الصدقة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى هو نجس، لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم " الحديث، ولأنه ماء أزيلت به النجاسة الحكمية فيعتبر بماء أزيلت به النجاسة الحقيقية ثم في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه نجس نجاسة غليظة اعتبارا بالماء المستعمل في النجاسة الحقيقية وفي رواية أبي يوسف عنه رحمه الله تعالى وهو قوله إنه نجس نجاسة خفيفة لمكان الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قال: " والماء المستعمل: هو ماء أزيل به حدث أو استعمل في البدن على وجه القربة " قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي يوسف رحمه الله وقيل هو قول أبي حنيفة رحمه الله أيضا وقال محمد رحمه الله لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة لأن الاستعمال بانتقال نجاسة الآثام إليه وأنها تزال بالقرب وأبو يوسف رحمه الله يقول إسقاط الفرض مؤثر أيضا فيثبت الفساد بالأمرين ومتى يصير الماء مستعملا الصحيح أنه كما زايل العضو صار مستعملا لأن سقوط حكم الاستعمال قبل الانفصال للضرورة ولا ضرورة بعده والجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الرجل بحاله لعدم الصب وهو شرط عنده لإسقاط الفرض والماء بحاله لعدم الأمرين وعند محمد رحمه الله تعالى كلاهما طاهران الرجل لعدم اشتراط الصب والماء لعدم نية القربة وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كلاهما نجسان الماء لإسقاط الفرض عن البعض بأول الملاقاة والرجل لبقاء الحدث في بقية الأعضاء وقيل عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل وعنه أن الرجل طاهر لأن الماء لا يعطى له حكم الاستعمال قبل الانفصال وهو أوفق الروايات عنه. قال: " وكل إهاب دبغ فقد طهر وجازت الصلاة فيه والوضوء منه إلا جلد الخنزير والآدمي " لقوله عليه الصلاة والسلام " أيما إهاب دبغ فقد طهر " وهو بعمومه حجة على مالك رحمه الله في جلد الميتة ولا يعارض بالنهي الوارد عن الإنتفاع من الميتة بإهاب وهو قوله عليه الصلاة والسلام " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب " لأنه اسم لغير المدبوغ وحجة على الشافعي رحمه الله تعالى في جلد الكلب وليس الكلب بنجس العين ألا يرى أنه ينتفع به حراسة واصطيادا بخلاف الخنزير لأنه نجس العين إذ الهاء في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] منصرف إليه لقربه وحرمة الإنتفاع بأجزاء الآدمي لكرامته فخرجا عما روينا ثم ما يمنع النتن والفساد فهو دباغ وإن كان تشميسا أو تتريبا لأن المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره ثم ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة لأنها تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة وكذلك يطهر لحمه هو الصحيح وإن لم يكن مأكولا. قال: " وشعر الميتة وعظمها طاهر " وقال الشافعي رحمه الله تعالى نجس لأنه من أجزاء الميتة ولنا أنه لا حياة فيهما ولهذا لا يتألم بقطعهما فلا يحلهما الموت إذ الموت زوال الحياة " وشعر الإنسان وعظمه طاهر " وقال الشافعي نجس لأنه لا ينتفع به ولا يجوز بيعه ولنا أن عدم الإنتفاع والبيع لكرامته فلا يدل على نجاسته والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فصل في البئر " وإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها " بإجماع السلف ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس " فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم لم تفسد الماء " استحسانا. والقياس أن تفسده لوقوع النجاسة في الماء القليل وجه الاستحسان أن آبار الفلوات ليست لها رؤوس حاجزة والمواشي تبعر حولها فتلقيها الريح فيها فجعل القليل عفوا للضرورة ولا ضرورة في الكثير وهو ما يستكثره الناظر إليه في المروي عن أبي حنيفة رحمه الله وعليه الاعتماد ولا فرق بين الرطب واليابس والصحيح والمنكسر والروث والخثى والبعر لأن الضرورة تشمل الكل وفي الشاة تبعر في المحلب بعرة أو بعرتين قالوا ترمى البعرة ويشرب اللبن لمكان الضرورة ولا يعفى القليل في الإناء على ما قيل لعدم الضرورة وعن أبي حنيفة رحمه الله له أنه كالبئر في حق البعرة والبعرتين " فإن وقع فيها خرء الحمام أو العصفور لا يفسده " خلافا للشافعي رحمه الله له أنه استحال إلى نتن وفساد فأشبه خرء الدجاج ولنا إجماع المسلمين على اقتناء الحمامات في المساجد مع ورود الأمر بتطهيرها واستحالته لا إلى نتن رائحة فأشبه الحمأة " فإن بالت فيها شاة نزح الماء كله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا ينزح إلا إذا غلب على الماء فيخرج من أن يكون طهورا " وأصله أن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده نجس عندهما له أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر العرنيين بشرب ابوال الإبل وألبانها ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " من غير فصل ولأنه يستحيل إلى نتن وفساد فصار كبول مالا يؤكل لحمه وتأويل ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عرف شفاءهم فيه وحيا ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل شربه للتداوي ولا لغيره لأنه لا يتيقن بالشفاء فيه فلا يعرض عن الحرمة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يحل للتداوي للقصة وعند محمد يحل للتداوي وغيره لطهارته عنده، قال: " وإن ماتت فيها فأرة أو عصفورة أو صعوة أو سودانية أو سام أبرص نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو وصغرها " يعني بعد إخراج الفأرة لحديث أنس رضي الله عنه أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها نزح منها عشرون دلوا والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها والعشرون بطريق الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب. قال: " فإن ماتت فيها حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور نزح منها ما بين أربعين دلوا إلى ستين وفي الجامع الصغير أربعون أو خمسون " وهو الأظهر، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قال في الدجاجة: إذا ماتت في البئر نزح منها أربعون دلوا وهذا لبيان الإيجاب والخمسون بطريق الاستحباب ثم المعتبر في كل بئر دلوها الذي يستقى به منها وقيل دلو يسع فيها صاع ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود. قال: " وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمي نزح جميع ما فيها من الماء " لأن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم " فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر " لانتشار البلة في أجزاء الماء. قال: " وإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء " وطريق معرفته أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ أو ترسل فيها قصبة ويجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها عشر دلاء مثلا ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص فينزح لكل قدر منها عشر دلاء وهذان عن أبي يوسف رحمه الله وعن محمد رحمه الله نزح مائتا دلو إلى ثلثمائة فكأنه بنى قوله على ما شاهد في بلده وعن أبي حنيفة رحمه الله في الجامع الصغير في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر الغلبة بشيء كما هو دأبه وقيل يؤخذ بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء وهذا أشبه بالفقه. قال: " وإن وجدوا في البئر فأرة أو غيرها ولا يدري متى وقعت ولم تنتفخ ولم تتفسخ أعادوا صلاة يوم وليلة إذا كانوا توضئوا منها وغسلوا كل شيء أصابه ماؤها وإن كانت قد إنتفخت أو تفسخت أعادوا صلاة ثلاثة أيام ولياليها وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس عليهم إعادة شيء حتى يتتحققوا متى وقعت " لأن اليقين لا يزول بالشك وصار كن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن للموت سببا ظاهرا وهو الوقوع في الماء فيحال به عليه إلا أن الانتفاخ والتفسخ دليل التقادم فيقدر بالثلاث وعدم الإنتفاخ والتفسخ دليل قرب العهد فقدرناه بيوم وليلة لأن ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها وأما مسألة النجاسة فقد قال المعلى هي على الخلاف فيقدر بالثلاث في البالي وبيوم وليلة في الطري ولو سلم فالثوب بمرأى عينه والبئر عائبة عن بصره فيفترقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فصل في الأسآر وغيرها " وعرق كل شيء معتبر بسؤره " لأنهما يتولدان من لحمه فأخذ أحدهما حكم صاحبه. قال: " وسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر " لأن المختلط به اللعاب وقد تولد من لحم طاهر فيكون طاهرا ويدخل في هذا الجواب الجنب والحائض والكافر " وسؤر الكلب نجس " ويغسل الإناء من ولوغه ثلاثا لقوله عليه الصلاة والسلام " يغسل الإناء من ولوغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الكلب ثلاثا " ولسانه يلاقي الماء دون الإناء فلما تنجس الإناء فالماء أولى وهذا يفيد النجاسة والعدد في الغسل وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اشتراط السبع ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث فما يصيبه سؤره وهو دونه أولى والأمر الوارد بالسبع محمول على ابتداء الإسلام " وسؤر الخنزير نجس " لأنه نجس العين على ما مر " وسؤر سباع البهائم نجس " خلافا للشافعي رحمه الله فيما سوى الكلب والخنزير لأن لحمها نجس ومنه يتولد اللعاب وهو المعتبر في الباب " وسؤر الهرة طاهر مكروه " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه غير مكروه لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ به ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " الهرة سبع " والمراد بيان الحكم دون الخلقة والصورة إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطوف فبقيت الكراهة وما رواه محمول على ما قبل التحريم ثم قيل كراهته لحرمة اللحم وقيل لعدم تحاميها النجاسة وهذا يشير إلى التنزه والأول إلى القرب من التحريم ولو أكلت فأرة ثم شربت على فوره الماء تنجس إلا إذا مكثت ساعة لغسلها فمها بلعابها والاستثناء على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويسقط اعتبار الصب للضرورة " و "سؤر " الدجاجة المخلاة " مكروه لأنها تخالط النجاسة ولو كانت محبوسة بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة " و " كذا سؤر " سباع الطير " لأنها تأكل الميتات فأشبه المخلاة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها إذا كانت محبوسة ويعلم صاحبها أنه لا قذر على منقارها لا يكره واستحسن المشايخ هذه الرواية " و "سؤر " ما يسكن البيوت كالحية والفأرة مكروه " لأن حرمة اللحم أوجبت نجاسة السؤر إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطوف فبقيت الكراهة والتنبيه على العلة في الهرة. قال " وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه " قيل الشك في طهارته لأنه لو كان طاهرا لكان طهورا ما لم يغلب اللعاب على الماء وقيل الشك في طهوريته لأنه لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه وكذا لبنه طاهر وعرقه لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش فكذا سؤره وهو الأصح ويروى نص محمد رحمه الله على طهارته وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته أو اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نجاسته وطهارته وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه نجس ترجيحا للحرمة والنجاسة والبغل من نسل الحمار فيكون بمنزلته " فإن لم يجد غيرهما يتوضأ بهما ويتيمم ويجوز أيهما قدم " وقال زفر رحمه الله: لا يجوز إلا أن يقدم الوضوء لأنه ماء واجب الاستعمال فأشبه الماء المطلق ولنا أن المطهر أحدهما فيفيد الجمع دون الترتيب " وسؤر الفرس طاهر عندهما " لأن لحمه مأكول " وكذا عنده في الصحيح " لأن الكراهة لإظهار شرفه " فإن لم يجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 إلا نبيذ التمر. قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يتوضأبه ولا يتيمم " لحديث ليلة الجن فإن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ به حين لم يجد الماء وقال أبو يوسف رحمه الله يتيمم ولا يتوضأ به وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبه قال الشافعي رحمه الله عملا بآية التيمم لأنها أقوى أو هو منسوخ بها لأنها مدنية وليلة الجن كانت مكية وقال محمد رحمه الله تعالى يتوضأبه ويتيمم لأن في الحديث اضطرابا وفي التاريخ جهالة فوجب الجمع احتياطا قلنا ليلة الجن كانت غير واحدة فلا يصح دعوى النسخ والحديث مشهور عملت به الصحابة رضي الله عنهم وبمثله يزاد على الكتاب وأما الاغتسال به فقد قيل يجوز عنده اعتبارا بالوضوء وقيل لا يجوز لأنه فوقه والنبيذ المختلف فيه أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء وما اشتد منها صار حراما لا يجوز التوضي به وإن غيرته النار فما دام حلوا رقيقا فهو على الخلاف وإن اشتد فعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز التوضي به لأنه يحل شربه عنده وعند محمد رحمه الله لا يتوضأبه لحرمة شربه عنده ولا يجوز التوضي بما سواه من الأبنذة جريا على قضية القياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 باب التيمم " ومن لم يجد ماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر نحو ميل أو أكثر يتيمم بالصعيد " لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] وقوله عليه الصلاة والسلام " التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء " والميل هو المختار في المقدار لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر والماء معدوم حقيقة والمعتبر المسافة دون خوف الفوت لأن التفريط يأتي من قبله " ولو كان يجد الماء إلا أنه مريض يخاف إن استعمل الماء اشتد مرضه يتيمم " لما تلونا، ولأن الضرر في زيادة المرض فوق الضرر في زيادة ثمن الماء وذلك يبيح التيمم فهذا أولى ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك أو بالاستعمال واعتبر الشافعي رحمه الله تعالى خوف التلف وهو مردود بظاهر النص " ولو خاف الجنب إن اغتسل أن يقتله البرد أو يمرضه يتيمم بالصعيد " وهذا إذا كان خارج المصر لما بينا ولو كان في المصر فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى خلافا لهما هما يقولان إن تحقق هذه الحالة نادر في المصر فلا يعتبر وله أن العجز ثابت حقيقة فلا بد من اعتباره. " والتيمم ضربتان: يمسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين " لقوله عليه الصلاة والسلام " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين " وينفض يديه بقدر ما يتناثر التراب كيلا يصير مثلة ولا بد من الإستيعاب في ظاهر الرواية لقيامه مقام الوضوء ولهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح " والحديث والجنابة فيه سواء " وكذا الحيض والنفاس لما روي أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا قوم نسكن هذه الرمال ولا نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال عليه الصلاة والسلام " عليكم بأرضكم ". " ويجوز التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر والجص والنورة والكحل والزرنيخ وقال أبو يوسف لا يجوز إلا بالتراب والرمل " وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا بالتراب المنبت وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] أي ترابا منبتا قاله ابن عباس رضي الله عنه غير أن أبا يوسف زاد عليه الرمل بالحديث الذي رويناه ولهما أن الصعيد اسم لوجه الأرض سمي به لصعوده والطيب يحتمل الطاهر فحمل عليه لأنه أليق بموضع الطهارة أو هو مراد بالإجماع " ثم لا يشترط أن يكون عليه غبار عند أبي حنيفة رحمه الله " لإطلاق ما تلونا " وكذا يجوز بالغبار مع القدرة على الصعيد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " لأنه تراب رقيق. " والنية فرض في التيمم " وقال زفر رحمه الله تعالى: ليست بفرض لأنه خلف عن الوضوء فلا يخالفه في وصفه ولنا أنه ينبئ عن القصد فلا يتحقق دونه أو جعل طهورا في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه على ما مر " ثم إذا نوى الطهارة أو استباحة الصلاة أجزأه ولا يشترط نية التيمم للحدث أو للجنابة " هو الصحيح من المذهب " فإن تيمم نصراني يريد به الإسلام ثم أسلم لم يكن متيمما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله هو متيمم " لأنه نوى قربة مقصودة بخلاف التيمم لدخول المسجد ومس المصحف لأنه ليس بقربة مقصودة ولهما أن التراب ما جعل طهورا إلا في حال إرادة قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة والإسلام قربة مقصودة تصح بدونها بخلاف سجدة التلاوة لأنها قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة " وإن توضأ لا يريد به الإسلام ثم أسلم فهو متوضئ " خلافا للشافعي رحمه الله بناء على اشتراط النية " فإن تيمم مسلم ثم ارتد ثم أسلم فهو على تيممه " وقال زفر رحمه الله: بطل تيممه لأن الكفر ينافيه فيستوي فيه الإبتداء والبقاء كالمحرمية في النكاح ولنا أن الباقي بعد التيمم صفة كونه طاهرا فاعتراض الكفر عليه لا ينافيه كما لو اعترض على الوضوء وإنما لا يصح من الكافر ابتداء لعدم لعدم النية منه. " وينقض التيمم كل شيء ينقض الوضوء " لأنه خلف عنه فأخذ حكمه " وينقضه أيضا رؤية الماء إذا قدر على استعماله " لأن القدرة هي المراد بالوجود الذي هو غاية لطهورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 التراب، وخائف السبع والعدو والعطش عاجز حكما والنائم عند أبي حنيفة رحمه الله قادر تقديرا حتى لو مر النائم المتيمم على الماء بطل تيممه عنده والمراد ماء يكفي للوضوء لأنه لا معتبر بما دونه ابتداء فكذا انتهاء " ولا يتيمم إلا بصعيد طاهر " لأن الطيب أريد به الطاهر في النص ولأنه آلة التطهير فلا بد من طهارته في نفسه كالماء. " ويستحب لعادم الماء وهو يرجوه أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت فإن وجد الماء توضأ وإلا تيمم وصلى " ليقع الأداء بأكمل الطهارتين فصار كالطامع في الجماعة وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى في غير رواية الأصول أن التأخير حتم لأن غالب الرأي كالمتحقق وجه الظاهر أن العجز ثابت حقيقة فلا يزول حكمه إلا بيقين مثله " ويصلى بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل " وعند الشافعي رحمه الله تعالى يتيمم لكل فرض لأنه طهارة ضرورية ولنا أنه طهور حال عدم الماء فيعمل عمله ما بقي شرطه. " ويتيمم الصحيح في المصر إذا حضرت جنازة والولي غيره فخاف إن اشتغل بالطهارة أن تفوته الصلاة " لأنها لا تقضى فيتحقق العجز " وكذا من حضر العبد فخاف إن اشتغل بالطهارة أن يفوته العيد يتيمم " لأنها لا تعاد وقوله والولي غيره إشارة إلى أنه لا يجوز للولي وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو الصحيح لأن للولي حق الإعادة فلا فوات في حقه " وإن أحدث الإمام أو المقتدي في صلاة العيد تيمم وبنى عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا لا يتيمم " لأن اللاحق يصلي بعد فراغ الإمام فلا يخاف الفوت وله أن الخوف باق لأنه يوم زحمة فيعتريه عارض يفسد عليه صلاته والخلاف فيما إذا شرع بالوضوء ولو شرع بالتيمم تيمم وبنى بالاتفاق لأنا لو أوجبنا الوضوء يكون واجدا للماء في صلاته فيفسد " ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لو توضأ فإن أدرك الجمعة صلاها وإلا صلى الظهر أربعا " لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر بخلاف العيد " وكذا إذا خاف فوت الوقت لو توضأ لم يتيمم ويتوضأ ويقضي ما فاته " لأن الفوات إلى خلف وهو القضاء. " والمسافر إذا نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ثم ذكر الماء لم يعدها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى: يعيدها " والخلاف فيما إذا وضعه بنفسه أو وضعه غيره بأمره وذكره في الوقت وبعده سواء له أنه واجد للماء فصار كما إذا كان في رحله ثوب فنسيه ولأن رحل المسافر معدن للماء عادة فيفترض الطلب عليه ولهما أنه لا قدرة بدون العلم وهو المراد بالوجود وماء الرحل معد للشرب لا للاستعمال ومسألة الثوب على الاختلاف ولو كان على الاتفاق ففرض الستر يفوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 لا إلى خلف والطهارة بالماء تفوت إلى خلف وهو التيمم " وليس على المتيمم طلب الماء إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء " لأن الغالب عدم الماء في الفلوات ولا دليل على الوجود فلم يكن واجدا للماء "وإن غلب على ظنه أن هناك ماء لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه " لأنه واجد للماء نظرا إلى الدليل ثم يطلب مقدار الغلوة ولا يبلغ ميلا كيلا ينقطع عن رفقته " وإن كان مع رفيقه ماء طلب منه قبل أن يتيمم " لعدم المنع غالبا فإن منعه منه تيمم لتحق العجز " ولو تيمم قبل الطلب أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى " لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير وقالا لا يجزئه لأن الماء مبذول عادة " ولو أبي أن يعطيه إلا بثمن المثل وعنده ثمنه لا يجزئه التيمم " لتحقق القدرة ولا يلزمه تحمل الغبن الفاحش لأن الضرر مسقط والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 باب: المسح على الخفين ... من الأصابع استحباب اعتبارا بالأصل وهو الغسل " وفرض ذلك مقدار ثلاث أصابع من أصابع اليد " وقال الكرخي رحمه الله تعالى من أصابع الرجل والأول أصح اعتبارا لآلة المسح " ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير يبين منه قدر ثلاث أصابع من أصابع الرجل فإن كان أقل من ذلك جاز " وقال زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يجوز وإن قل لأنه لما وجب غسل البادي وجب غسل الباقي ولنا أن الخفاف لا تخلو عن قليل خرق عادة فيلحقهم الحرج في النزع وتخلو عن الكبير فلا حرج والكبير أن ينكشف قدر ثلاثة أصابع من أصابع الرجل أصغرها هو الصحيح لأن الأصل في القدم هو الأصابع والثلاث أكثرها فيقام مقام الكل واعتبار الأصغر للاحتياط ولا معتبر بدخول الأنامل إذا كان لا ينفرج عند المشي ويعتبر هذا المقدار في كل خف على حدة فيجمع الخرق في خف واحد ولا يجمع في خفين لأن الخرق في أحدهما لا يمنع قطع السفر بالآخر بخلاف النجاسة المتفرقة لأنه حامل للكل وانكشاف العورة نظير النجاسة. " ولا يجوز المسح لمن وجب عليه الغسل " لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها لا عن جنابة ولكن من بول أو غائط أو نوم ولأن الجنابة لا تتكرر عادة فلا حرج في النزع بخلاف الحدث لأنه يتكرر. " وينقض المسح كل شيء ينقض الوضوء " لأنه بعض الوضوء " وينقضه أيضا نزع الخف " لسراية الحدث إلى القدم حيث زال المانع " وكذا نزع أحدهما " لتعذر الجمع بين الغسل والمسح في وظيفة واحدة " وكذا مضي المدة " لما روينا " وإذا تمت المدة نزع خفيه وغسل رجليه وصلى وليس عليه إعادة بقية الوضوء " وكذا إذا نزع قبل المدة لأن عند النزع يسري الحدث السابق إلى القدمين كأنه لم يغسلهما وحكم النزع يثبت بخروج القدم إلى الساق لأنه لا معتبر به في حق المسح وكذا بأكثر القدم هو الصحيح " ومن ابتدأ المسح وهو مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة مسح ثلاثة أيام ولياليها " عملا بإطلاق الحديث ولأنه حكم متعلق بالوقت فيعتبر فيه آخره بخلاف ما إذا استكمل المدة للإقامة ثم سافر لأن الحدث قد سرى إلى القدم والخلف ليس برافع " ولو أقام وهو مسافر إن استكمل مدة الاقامة نزع " لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه " وإن لم يستكمل أتمها " لأن هذه مدة الاقامة وهو مقيم. قال: " ومن لبس الجرموق فوق الخف مسح عليه " خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فإنه يقول البدل لا يكون له بدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام مسح على الجرموقين ولأنه تبع للخف استعمالا وغرضا فصارا كخف ذي طاقين وهو بدل عن الرجل لا عن الخف بخلاف ما إذا لبس الجرموق بعد ما أحدث لأن الحدث حل بالخف فلا يتحول إلى غيره ولو كان الجرموق من كرباس لا يجوز المسح عليه لأنه لا يصلح بدلا عن الرجل إلا أن تنفد البلة إلى الخف " ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين وقالا يجوز إذا كانا ثخينين لا يشفان " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام مسح على جوربيه ولأنه يمكنه المشي فيه إذا كان ثخينا وهو أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء فأشبه الخف وله أنه ليس في معنى الخف لأنه لا يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان منعلا وهو محمل الحديث وعنه أنه رجع إلى قولهما وعليه الفتوى " ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة والبرقع والقفازين " لأنه لا حرج في نزع هذه الأشياء والرخصة لدفع الحرج " ولا يجوز المسح على الجبائر وإن شدها على غير وضوء " لأنه عليه الصلاة والسلام فعله وأمر عليا رضي الله عنه به ولأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف فكان أولى بشرع المسح ويكتفى بالمسح على أكثرها ذكره الحسن رحمه الله تعالى ولا يتوقت لعدم التوقيف بالتوقيت " وإن سقطت الجبيرة عن غير برء لا يبطل المسح " لأن العذر قائم والمسح عليها كالغسل لما تحتها ما دام العذر باقيا وإن سقطت عن برء بطل لزوال العذر وإن كان في الصلاة استقبل لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 باب: الحيض والاستحاضة مدخل ... باب الحيض والاستحاضة " أقل الحيض ثلاثة ايام ولياليها وما نقص من ذلك فهو استحاضة " قوله عليه الصلاة والسلام " أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام ولياليها وأكثره عشرة أيام " وهو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في التقدير بيوم وليلة. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أنه يومان والأكثر من اليوم الثالث إقامة للأكثر مقام الكل قلنا هذا نقص عن تقدير الشرع " وأكثره عشرة أيام ولياليها والزائد استحاضة " لما روينا وهو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في التقدير بخمسة عشر يوما ثم الزائد والناقص استحاضة لأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به " وما تراه المرأة من الحمرة والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض " حتى ترى البياض خالصا " وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الدم " لأنه لو كان من الرحم لتأخر خروج الكدر عن الصافي ولهما ما روي أن عائشة رضي الله عنها جعلت ما سوى البياض الخالص حيضا وهذا لا يعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 إلا سماعا، وفم الرحم منكوس فيخرج الكدر أولا كالجرة إذا ثقب أسفلها. وأما الخضرة فالصحيح أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء تكون حيضا ويحمل على فساد الغداء وإن كانت كبيرة لا ترى غير الخضرة تحمل على فساد المنبت فلا تكون حيضا " والحيض يسقط عن الحائض الصلاة ويحرم عليها الصوم وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة " لقول عائشة رضي الله عنها كانت إحدانا على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا طهرت من حيضها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ولأن في قضاء الصلاة حرجا لتضاعفها ولا حرج في قضاء الصوم " ولا تدخل المسجد " وكذا الجنب لقوله عليه الصلاة والسلام " فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " وهو بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله في إباحة الدخول على وجه العبور والمرور " ولا تطوف بالبيت " لأن الطواف في المسجد " ولا يأتيها زوجها " لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] " وليس للحائض والجنب والنفساء قراءة القرآن " لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن " وهو حجة على مالك رحمه الله في الحائض وهو بإطلاقه يتناول ما دون الآية فيكون حجة على الطحاوي في إباحته " وليس لهم مس المصحف إلا بغلافه ولا أخذ درهم فيه سورة من القرآن إلا بصرته وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يمس القرآن إلا طاهر " ثم الحدث والجنابة حلا اليد فيستويان في حكم المس والجنابة حلت الفم دون الحدث فيفترقان في حكم القراءة وغلافه ما يكون متجافيا عنه دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح ويكره مسه بالكم هو الصحيح لأنه تابع له بخلاف كتب الشريعة لأهلها حيث يرخص في مسها بالكم لأن فيه ضرورة ولا بأس بدفع المصحف إلى الصبيان لأن في المنع تضييع حفظ القرآن وفي الأمر بالتطهير حرجا بهم وهذا هو الصحيح. قال: " وإذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام لم يحل وطؤها حتى تغتسل " لأن الدم يدر تارة وينقطع أخرى فلا بد من الاغتسال ليترجح جانب الانقطاع " ولو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة بقدر أن تقدر على الاغتسال والتحريمة حل وطؤها " لأن الصلاة صارت دينا في ذمتها فطهرت حكما " ولو كان انقطع الدم دون عادتها فوق الثلاث لم يقربها حتى تمضي عادتها وإن إغتسلت " لأن العود في العادة غالب فكان الاحتياط في الاجتناب " وإن انقطع الدم لعشرة أيام حل وطؤها قبل الغسل " لأن الحيض لا مزيد له على العشرة إلا أنه لا يستحب قبل الاغتسال للنهي في القراءة بالتشديد. قال: " والطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض فهو كالدم المتوالي ". قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 رضي الله تعالى عنه: وهذه إحدى الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله ووجهه أن استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع فيعتبر أوله وآخره كالنصاب في باب الزكاة وعن أبي يوسف رحمه الله وهو روايته عن أبي حنيفة رحمه الله وقيل هو آخر أقواله إن الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر يوما لا يفصل وهو كله كالدم المتوالي لأنه طهر فاسد فيكون بمنزلة الدم والأخذ بهذا القول أيسر وتمامه يعرف في كتاب الحيض " وأقل الطهر خمسة عشر يوما " هكذا نقل عن إبراهيم النخعي وأنه لا يعرف إلا توقيفا "ولا غاية لأكثره " لأنه يمتد إلى سنة وسنتين فلا يتقدر بتقدير إلا إذا استمر بها الدم فاحتيج إلى نصب العادة ويعرف ذلك في كتاب الحيض " ودم الاستحاضة كالرعاف الدائم لا يمنع الصوم ولا الصلاة ولا الوطء " لقوله عليه الصلاة والسلام " توضئي وصلي وإن قطر الدم على الحصير " وإذا عرف حكم الصلاة ثبت حكم الصوم والوطء بنتيجة الإجماع " ولو زاد الدم على عشرة أيام ولها عادة معروفة دونها ردت إلى أيام عادتها والذي زاد استحاضة " لقوله عليه الصلاة والسلام " المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها " ولأن الزائد على العادة يجانس ما زاد على العشرة فيلحق به وإن ابتدأت مع البلوغ مستحاضة فحيضها عشرة أيام من كل شهر والباقي استحاضة لأنا عرفناه حيضا فلا يخرج عنه بالشك والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فصل في الاستحاضة " والمستحاضة ومن به سلس البول والرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ يتوضئون لوقت كل صلاة فيصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض والنوافل " وقال الشافعي رحمه الله تتوضأ المستحاضة لكل مكتوبة لقوله عليه الصلاة والسلام " المستحاضة تتوضأ لكل صلاة " ولأن اعتبار طهارتها ضرورة أداء المكتوبة فلا تبقى بعد الفراغ منها. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة " وهو المراد بالأول لأن اللام تستعار للوقت يقال آتيك لصلاة الظهر أي وقتها ولأن الوقت أقيم مقام الأداء تيسيرا فيدار الحكم عليه " وإذا خرج الوقت بطل وضوؤهم واستأنفوا الوضوء لصلاة أخرى " وهذا عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وقال زفر رضي الله عنه استأنفوا إذا دخل الوقت " فإن توضئوا حين تطلع الشمس أجزأهم عن فرض الوقت حتى يذهب وقت الظهر " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله أجزأهم حتى يدخل وقت الظهر. وحاصله: أن طهارة المعذور تنتقض بخروج الوقت أي عنده بالحدث السابق عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وبدخوله عند زفر وبأيهما كان عند أبي يوسف رحمه الله وفائدة الاختلاف لا تظهر إلا فيمن توضأ قبل الزوال كما ذكرنا أو قبل طلوع الشمس لزفر رحمه الله أن اعتبار الطهارة مع المنافي للحاجة إلى الأداء ولا حاجة قبل الوقت فلا تعتبر ولأبي يوسف أن الحاجة مقصورة على الوقت فلا تعتبر قبله ولا بعده ولهما أنه لا بد من تقديم الطهارة على الوقت ليتمكن من الأداء كما دخل الوقت وخروج الوقت دليل زوال الحاجة فظهر اعتبار الحدث عنده والمراد بالوقت وقت المفروضة حتى لو توضأ المعذور لصلاة العيد له أن يصلي الظهر به عندهما وهو الصحيح لأنها بمنزلة صلاة الضحى ولو توضأ مرة للظهر في وقته وأخرى فيه للعصر فعندهما ليس له أن يصلي العصر به لانتقاضه بخروج وقت المفروضة والمستحاضة هي التي لا يمضي عليها وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه وكذا كل من هو في معناها وهو من ذكرناه ومن به استطلاق بطن وانفلات ريح لأن الضرورة بهذا تتحقق وهي تعمم الكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فصل في النفاس " النفاس هو الدم الخارج عقيب الولادة " لأنه مأخوذ من تنفس الرحم بالدم أو من خروج النفس بمعنى الولد " أو بمعنى الدم والدم الذي تراه الحامل ابتداء أو حال ولادتها قبل خروج الولد استحاضة " وإن كان ممتدا وقال الشافعي رحمه الله حيض اعتبارا بالنفاس إذ هما جميعا من الرحم. ولنا أن بالحبل ينسد فم الرحم كذا العادة والنفاس بعد انفتاحه بخروج الولد ولهذا كان نفاسا بعد خروج بعض الولد فيما روي عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه ينفتح فيتنفس به " والسقط الذي استبان بعد خلقه ولد " حتى تصير المرأة به نفساء وتصير الأمة أم ولد به وكذا العدة تنقضي به " وأقل النفاس لا حد له " لأن تقدم الولد علم الخروج من الرحم فأغنى عن امتداد جعل علما عليه كما في الحيض " وأكثره أربعون يوما والزائد عليه استحاضة " لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام وقت للنفساء أربعين يوما وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اعتبار الستين " فإن جاوز الدم الأربعين وقد كانت ولدت قبل ذلك ولها عادة في النفاس ردت إلى أيام عادتها " لما بينا في الحيض " وإن لم تكن لها عادة فابتداء نفاسها أربعون يوما " لأنه أمكن جعله نفاسا " فإن ولدت ولدين في بطن واحد فنفاسها من الولد الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وإن كان بين الولدين اربعون يوما وقال محمد رحمه الله من الولد الأخير " وهو قول زفر رحمه الله، لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 حامل بعد وضع الأول فلا تصير نفساء كما أنها لا تحيض ولهذا تنقضي العدة بالولد الأخير بالاجماع ولهما أن الحامل إنما لا تحيض لانسداد فم الرحم على ما ذكرنا وقد انفتح بخروج الأول وتنفس بالدم فكان نفاسا والعدة تعلقت بوضع حمل مضاف إليها فيتناول الجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 باب: الأنجاس وتطهيرها مدخل ... باب الأنجاس وتطهيرها " تطهير النجاسة واجب من بدن المصلي وثوبه والمكان الذي يصلي عليه " لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقال عليه الصلاة والسلام " حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء، ولا يضرك أثره " وإذا وجب التطهير بما ذكرنا في الثوب وجب في البدن والمكان فإن الإستعمال في حالة الصلاة يشمل الكل " ويجوز تطهيرها بالماء وبكل مائع طاهر يمكن إزالتها به كالخل وماء الورد ونحوه مما إذا عصر إنعصر " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد وزفر والشافعي رحمهم الله لا يجوز إلا بالماء لأنه يتنجس بأول الملاقاة والنجس لا يفيد الطهارة إلا أن هذا القياس ترك في الماء للضرورة ولهما أن المائع قالع والطهورية بعلة القلع والإزالة والنجاسة للمجاورة فإذا إنتهت أجزاء النجاسة يبقى طاهرا وجواب الكتاب لا يفرق بين الثوب والبدن وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وعنه أنه فرق بينهما فلم يجوز في البدن بغير الماء " وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث والعذرة والدم والمني فجفت فدلكه بالأرض جاز " وهذا استحسان " وقال محمد رحمه الله: لا يجوز " وهو القياس " إلا في المني خاصة " لأن المتداخل في الخف لا يزيله الجفاف والدلك بخلاف المني على ما نذكره ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور " ولأن الجلد لصلابته لا تتداخله أجزاء النجاسة إلا قليلا ثم يجتذبه الجرم إذا جف فإذا زال زال ما قام به " وفي الرطب لا يجوز حتى يغسله " لأن المسح بالأرض يكثره ولا يطهره وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا مسحه بالأرض حتى لم يبق أثر النجاسة يطهر لعموم البلوى وإطلاق ما يروى وعليه مشايخنا رحمهم الله " فإن أصابه بول فيبس لم يجز حتى يغسله " وكذا كل ما لا جرم له كالخمر لأن الأجزاء تتشرب فيه ولا جاذب يجذبها وقيل ما يتصل به من الرمل والرماد جرم له " والثوب لا يجزي فيه إلا الغسل وإن يبس " لأن الثوب لتخلخله يتداخله كثير من أجزاء النجاسة فلا يخرجها إلا الغسل "والمني نجس يجب غسله إن كان رطبا فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك" لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها " فاغسليه إن كان رطبا وافركيه إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 يابسا " وقال الشافعي رحمه الله المني طاهر والحجة عليه ما رويناه وقال عليه الصلاة والسلام إنما يغسل الثوب من خمس وذكر منها المني ولو أصاب البدن. قال مشايخنا رحمهم الله: يطهر بالفرك لأن البلوى فيه أشد وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يطهر إلا بالغسل لأن حرارة البدن جاذبة فلا يعود إلى الجرم والبدن لا يمكن فركه " والنجاسة إذا أصابت المرآة أو السيف إكتفى بمسحهما " لأنه لا تتداخله النجاسة وما على ظاهره يزول بالمسح " وإن أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها جازت الصلاة على مكانها " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا تجوز لأنه لم يوجد المزيل " و " لهذا " لا يجوز التيمم به " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " زكاة الأرض يبسها " وإنما لا يجوز التيمم به لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطا بنص الكتاب فلا تتأذى بما ثبت بالحديث " وقدر الدرهم وما دونه من النجس المغلظ كالدم والبول والخمر وخرء الدجاجة وبول الحمار جازت الصلاة معه وإن زاد لم تجز " وقال زفر والشافعي رحمهما الله: قليل النجاسة وكثيرها سواء لأن النص الموجب للتطهير لم يفصل ولنا أن القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفوا وقدرناه بقدر الدرهم أخذا عن موضع الاستنجاء ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة وهو قدر عرض الكف في الصحيح ويروى من حيث الوزن وهو الدرهم الكبير المثقال وهو ما يبلغ وزنه مثقالا وقيل في التوفيق بينهما إن الأولى في الرقيق والثانية في الكثيف وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء مغلظة لأنها ثبتت بدليل مقطوع به " وإن كانت مخففة كبول ما يؤكل لحمه جازت الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب " يروى ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش والربع ملحق بالكل في حق بعض الأحكام وعنه ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر وقيل ربع الموضع الذي اصابه كالذيل والدخريص وعن أبي يوسف رحمه الله شبر في شبر وإنما كان مخففا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لمكان الاختلاف في نجاسته أو لتعارض النصين على اختلاف الأصلين " وإذا أصاب الثوب من الروث أو " من " أخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن النص الوارد في نجاسته وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام رمى بالروثة وقال " هذا رجس أو ركس " لم يعارضه غيره وبهذا يثبت التغليظ عنده والتخفيف بالتعارض " وقالا يجزئه حتى يفحش " لأن للاجتهاد فيه مساغا وبهذا يثبت التخفيف عندهما ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق بها هي مؤثرة في التخفيف بخلاف بول الحمار لأن الأرض تنشفه. قلنا الضرورة في النعال قد أثرت في التخفيف مرة حتى تطهر بالمسح فتكفي مؤنتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولا فرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم. وزفر رحمه الله فرق بينما فوافق أبا حنيفة رحمه الله في غير مأكول اللحم ووافقهما في المأكول وعن محمد رحمه الله أنه لما دخل الري ورأى البلوى أفتى بأن الكثير الفاحش لا يمنع أيضا وقاسوا عليه طين بخارى وعند ذلك رجوعه في الخف يروى " وإن أصابه بول الفرس لم يفسده حتى يفحش عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محد رحمه الله لا يمنع وإن فحش " لأن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده مخفف نجاسته عند أبي يوسف رحمه الله ولحمه مأكول عندهما وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فالتخفيف لتعارض الآثار "وإن أصابه خرء مالا يؤكل لحمه من الطيور أكثر من قدر الدرهم جازت الصلاة فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى لا تجوز" فقد قيل إن الاختلاف في النجاسة وقد قيل في المقدار وهو الأصح هو يقول إن التخفيف للضرورة ولا ضرورة لعدم المخالطة فلا يخفف ولهما أنها تذرق من الهواء والتخامي عنه متعذر فتحققت الضرورة ولو وقع في الإناء قيل يفسده وقيل لا يفسده لتعذر صون الأواني عنه " وإن أصابه من دم السمك أو " من " لعاب البغل أو الحمار أكثر من قدر الدرهم أجزأت الصلاة فيه " أما دم السمك فلأنه ليس بدم على التحقيق فلا يكون نجسا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه اعتبر فيه الكثير الفاحش فاعتبره نجسا وأما لعاب البغل والحمار فلأنه مشكوك فيه فلا يتنجس به الطهر " فإن انتضح عليه البول مثل رءوس الإبر فذلك ليس بشيء " لأنه لا يستطاع الامتناع عنه. قال: " والنجاسة ضربان مرئية وغير مرئية فما كان منها مرئيا فطهارته زوال عينها " لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها " إلا أن يبقى من أثرها ما تشق إزالته " لأن الحرج مدفوع وهذا يشير إلى أنه لا يشترط الغسل بعد زوال العين وإن زال بالغسل مرة واحدة وفيه كلام " وما ليس بمرئي فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر " لأن التكرار لا بد منه للاستخراج ولا يقطع بزواله فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة وإنما قدروا بالثلاث لأن غالب الظن يحصل عنده فأقيم السبب لظاهر مقامه تيسيرا ويتأيد ذلك بحديث المستيقظ من منامه ثم لا بد من العصر في كل مرة في ظاهر الرواية لأنه هو المستخرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فصل في الاستنجاء " الاستنجاء سنة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه " ويجوز فيه الحجر وما قام مقامه يمسحه حتى ينقيه " لأن المقصود هو الإنقاء فيعتبر ما هو المقصود وليس فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 عدد مسنون " وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من الثلاث لقوله عليه الصلاة والسلام: " وليستنج بثلاثة أحجار ". ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من استجمر فليوتر فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج " والإيتار يقع على الواحد وما رواه متروك الظاهر فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع " وغسله بالماء أفضل " لقوله تعالى: {فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] نزلت في أقوام كانوا يتبعون الحجارة الماء ثم هو أدب وقيل هو سنة في زماننا ويستعمل الماء إلى أن يقع في غالب ظنه أنه قد طهر ولا يقدر بالمرات إلا إذا كان موسوسا فيقدر بالثلاث في حقه وقيل بالسبع " ولو جاوزت النجاسة مخرجها لم يجز فيه إلا الماء " وفي بعض النسخ إلا المائع وهذا يقق اختلاف الروايتين في تطهير العضو بغير الماء على ما بينا وهذا لأن المسح غير مزيل إلا أنه اكتفي به في موضع الاستنجاء فلا يتعداه ثم يعتبر المقدار المانع وراء موضع الاستنجاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لسقوط اعتبار ذلك الموضع وعند محمد رحمه الله مع موضع الاستنجاء اعتبارا بسائر المواضع " ولا يستنجى بعظم ولا بروث " لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك ولو فعل يجزيه لحصول المقصود ومعنى النهي في الروث النجاسة وفي العظم كونه زاد الجن، " ولا " يستنجى " بطعام " لأنه إضاعة وإسراف " ولا بيمينه " لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الاستنجاء باليمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كتاب الصلاة باب: المواقيت مدخل ... كتاب الصلاة باب المواقيت " أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني وهو البياض المعترض في الأفق وآخر وقتها ما لم تطلع الشمس " لحديث إمامة جبريل عليه السلام فإنه أم رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها في اليوم الأول حين طلع الفجر وفي اليوم الثاني حين أسفر جدا وكادت الشمس أن تطلع ثم قال في آخر الحديث " ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك " ولا معتبر بالفجر الكاذب وهو البياض الذي يبدو طولا ثم يعقبه الظلام لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، وإنما الفجر المستطير في الأفق " أي المنتشر فيه " وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس " لإمامة جبريل عليه السلام في اليوم الأول حين زالت الشمس " وآخر وقتها عند أبي حنيفة رحمه الله إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى فيء الزوال وقالا إذا صار الظل مثله " وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وفيء الزوال هو الفيء الذي يكون للأشياء وقت الزوال لهما إمامة جبريل عليه السلام في اليوم الأول في هذا الوقت ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم " وأشد الحر في ديارهم في هذا الوقت وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك " وأول وقت العصر إذ خرج وقت الظهر على القولين وآخر وقتها مالم تغرب الشمس " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها " " وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخر وقتها مالم يغب الشفق " وقال الشافعي رحمه الله مقدار ما يصلى فيه ثلاث ركعات لأن جبريل عليه السلام أم في اليومين في وقت واحد. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق " وما رواه كان للتحرز عن الكراهة " ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو الحمرة " وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام " الشفق الحمرة " ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق " وما رواه موقوف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ابن عمر رضي الله عنهما ذكره مالك رحمه الله في الموطأ وفيه اختلاف الصحابة " وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وآخر وقتها مالم يطلع الفجر الثاني " لقوله عليه الصلاة والسلام " وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر " وهو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في تقديره بذهاب ثلث الليل " وأول وقت الوتر بعد العشاء وآخره مالم يطلع الفجر " لقوله عليه الصلاة والسلام في الوتر " فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر " قال رضي الله عنه: هذا عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقته وقت العشاء إلا أنه لا يقدم عليه عند التذكر للترتيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فصل " ويستحب الإسفار بالفجر " لقوله عليه الصلاة والسلام " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " وقال الشافعي رحمه الله يستحب التعجيل في كل صلاة والحجة عليه ما رويناه وما نرويه. قال: " والإبراد بالظهر في الصيف وتقديمه في الشتاء "لما روينا ولرواية أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشتاء بكر بالظهر وإذا كان في الصيف أبرد بها " وتأخير العصر مالم تتغير الشمس في الصيف والشتاء " لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده والمعتبر تغير القرص وهو أن يصير بحال لا تحار فيه الأعين هو الصحيح والتأخير إليه مكروه " و " يستحب " تعجيل المغرب " لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود وقال عليه الصلاة والسلام " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء " قال " وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل " لقوله عليه الصلاة والسلام " لولا أن اشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل " ولأن فيه قطع السمر المنهي عنه بعده وقيل في الصيف تعجل كيلا تتقلل الجماعة والتأخير إلى نصف الليل مباح لأن دليل الكراهة وهو تقليل الجماعة عارضه دليل الندب وهو قطع السمر بواحدة فتثبت الإباحة وإلى النصف الأخير مكروه لما فيه من تقليل الجماعة وقد انقطع السمر قبله " ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل أن يؤخره إلى آخر الليل فإن لم يثق بالانتباه أوتر قبل النوم " لقوله عليه الصلاة والسلام " من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره " " فإذا كان يوم غيم فالمستحب في الفجر والظهر والمغرب تأخيرها وفي العصر والعشاء تعجيلهما " لأن في تأخير العشاء تقليل الجماعة على اعتبار المطر، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تأخير العصر توهم الوقوع في الوقت المكروه ولا توهم في الفجر لأن تلك المدة مديدة وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى التأخير في الكل للاحتياط ألا ترى أنه يجوز الأداء بعد الوقت لا قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة " لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيامها في الظهيرة ولا عند غروبها " لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال ثلاثة أوقات نهانا رسول الله عليه الصلاة والسلام أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند زوالها حتى تزول وحين تضيف للغروب حتى تغرب والمراد بقوله وأن نقبر صلاة الجنازة لأن الدفن غير مكروه والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في تخصيص الفرائض وبمكة في حق النوافل وحجة على أبي يوسف رحمه الله تعالى في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال. قال: " ولا صلاة جنازة " لما روينا " ولا سجدة تلاوة " لأنها في معنى الصلاة إلا عصر يومه عند الغروب لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت لأنه لو تعلق بالكل لوجب الأداء بعده ولو تعلق بالجزء الماضي فالمؤدى في آخر الوقت قاض وإذا كان كذلك فقد أداها كما وجبت بخلاف غيرها من الصلوات لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالنقص. قال رضي الله عنه: والمراد بالنفي المذكور في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة الكراهة حتى لو صلاها فيه أو تلا فيه آية السجدة فسجدها جاز لأنها أديت ناقصة كما وجبت إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة. " ويكره أن يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك " ولا بأس بأن يصلي في هذين الوقتين الفوائت ويسجد للتلاوة ويصلي على الجنازة " لأن الكراهة كانت لحق الفرض ليصير الوقت كالمشغول به لا لمعنى في الوقت فلم تظهر في حق الفرائض وفيما وجب لعينه كسجدة التلاوة وظهرت في حق المنذور لأنه تعلق وجوبه بسبب من جهته وفي حق ركعتي الطواف وفي الذي شرع فيه ثم أفسده لأن الوجوب لغيره وهو ختم الطواف وصيانة المؤدي عن البطلان " ويكره أن يتنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر " لأنه عليه الصلاة والسلام لم يزد عليهما مع حرصه على الصلاة " ولا يتنفل بعد الغروب قبل الفرض " لما فيه من تأخير المغرب " ولا إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 خرج الإمام للخطبة يوم الجمعة إلى أن يفرغ من خطبته " لما فيه من الاشتغال عن استماع الخطبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 باب الأذان " الأذان سنة للصلوات الخمس والجمعة دون ما سواها " للنقل المتواتر " وصفة الأذان معروفة " وهو كما أذن الملك النازل من السماء " ولا ترجيع فيه " وهو أن يرجع فيرفع صوته بالشهادتين بعد ما خفض بهما وقال الشافعي رحمه الله تعالى فيه ذلك لحديث أبي محذورة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره بالترجيع ولنا أنه لا ترجيع في المشاهير وكان ما رواه تعليما فظنه ترجيعا " ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين " لأن بلالا رضي الله عنه قال الصلاة خير من النوم مرتين حين وجد النبي عليه الصلاة والسلام راقدا فقال عليه الصلاة والسلام " ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك " وخص الفجر به لأنه وقت نوم وغفلة " والإقامة مثل الأذان إلا أنه يزيد فيها بعد الفلاح قد قامت الصلاة مرتين " هكذا فعل الملك النازل من السماء وهو المشهور ثم هو حجة على الشافعي رحمه الله تعالى في قوله إنها فرادى فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة مرتين " ويترسل في الأذان ويحدر في الإقامة " لقوله عليه الصلاة والسلام لبلال " إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر " وهذا بيان الاستحباب " ويستقبل بهما القبلة " لأن الملك النازل من السماء أذن مستقبل القبلة ولو ترك الاستقبال جاز لحصول المقصود ويكره لمخالفته السنة " ويحول وجهه للصلاة والفلاح يمنة ويسرة " لأنه خطاب للقوم فيواجههم به " وإن استدار في صومعته فحسن " مراده إذا لم يستطع تحويل الوجه يمينا وشمالا " مع ثبات قدميه " مكانهما كما هو السنة بأن كانت الصومعة متسعة فأما من غير حاجة فلا " والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه " بذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلالا رضي الله عنه ولأنه أبلغ في الإعلام " فإن لم يفعل فحسن " لأنها ليست بسنة أصلية " والتثويب في الفجر: حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة حسن " لأنه وقت نوم وغفلة " وكره في سائر الصلوات " ومعناه العود إلى الإعلام بعد الإعلام وهو على حسب ما تعرفوه وهذا التثويب أحدثه علماء الكوفة بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم لتغير أحوال الناس وخصوا الفجر به لما ذكرنا والمتأخرون استحسنوه في الصلوات كلها لظهور التواني في الأمور الدينية. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا أرى بأسا أن يقول المؤذن للأمير في الصلوات كلها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله واستبعده محمد رحمه الله لأن الناس سواسية في أمر الجماعة. وأبو يوسف رحمه الله خصهم بذلك لزيادة اشتغالهم بأمور المسلمين كيلا تفوتهم الجماعة وعلى هذا القاضي والمفتي " ويجلس بين الأذان والإقامة إلا في المغرب وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يجلس في المغرب أيضا جلسة خفيفة " لأنه لا بد من الفصل إذ الوصل مكروه ولا يقع الفصل بالسكتة لوجودها بين كلمات الأذان فيفصل بالجلسة كما بين الخطبتين ولأبي حنيفة رحمه الله أن التأخير مكروه فيكتفى بأدنى الفصل احترازا عنه والمكان في مسألتنا مختلف وكذا النغمة فيقع الفصل بالسكتة ولا كذلك الخطبة وقال الشافعي رحمه الله يفصل بركعتين اعتبارا بسائر الصلوات والفرق قد ذكرناه " قال يعقوب رأيت أبا حنيفة رحمه الله يؤذن في المغرب ويقيم ولا يجلس بين الأذان والإقامة " وهذا يفيد ما قلناه وأن المستحب كون المؤذن عالما بالسنة لقوله عليه الصلاة والسلام " ويؤذن لكم خياركم " " ويؤذن للفائتة ويقيم " لأنه عليه الصلاة والسلام قضى الفجر غداة ليلة التعريس بأذان وإقامة وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اكتفائه بالإقامة " فإن فاتته صلوات أذن للأولى وأقام " لما روينا " وكان مخيرا في الباقي إن شاء أذن وأقام " ليكون القضاء على حسب الأداء " وإن شاء اقتصر على الإقامة " لأن الأذان للاستحضار وهم حضور. قال رضي الله عنه: وعن محمد رحمه الله أنه يقيم لما بعدها ولا يؤذن قالوا يجوز أن يكون هذا قولهم جميعا " وينبغي أن يؤذن ويقيم على طهر فإن أذن على غير وضوء جاز " لأنه ذكر وليس بصلاة فكان الوضوء فيه استحبابا كما في القراءة " ويكره أن يقيم على غير وضوء " لما فيه من الفصل بين الإقامة والصلاة. ويروى أنه لا تكره الإقامة أيضا لأنها أحد الأذانين ويروى أنه يكره الأذان أيضا لأنه صير داعيا إلى مالا يجيب بنفسه " ويكره أن يؤذن وهو جنب " رواية واحدة ووجه الفرق على إحدى الروايتين أن للأذان شبها بالصلاة فتشترط الطهارة عن أغلظ الحدثين لا دون أخفهما عملا بالشبهين. وفي الجامع الصغير: إذا أذن وأقام على غير وضوء لا يعيد والجنب أحب إلى أن يعيد " ولو لم يعد أجزأه " أما الأول فلخفة الحدث وأما الثاني ففي الإعادة بسبب الجنابة روايتان والأشبه أن يعاد الأذان دون الإقامة لأن تكرار الأذان مشروع دون الإقامة وقوله لو لم يعد أجزأه يعني الصلاة لأنها جائزة بدون الأذان والإقامة. قال " وكذلك المرأة تؤذن " معناه يستحب أن يعاد ليقع على وجه السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 " ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ويعاد في الوقت " لأن الأذان للإعلام وقبل الوقت تجهيل " وقال ابو يوسف " وهو قول الشافعي رحمه الله " يجوز للفجر في النصف الأخير من الليل " لتوارث أهل الحرمين. والحجة على الكل قوله عليه الصلاة والسلام لبلال رضي الله عنه " لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا ومد يده عرضا " " والمسافر يؤذن ويقيم " لقوله عليه الصلاة والسلام لابني أبي مليكة رضي الله عنهما " إذا سافرتما فأذنا وأقيما " " فإن تركهما جميعا يكره " ولو اكتفى بالإقامة جاز لأن الأذان لاستحضار الغائبين والرفقة حاضرون والإقامة لإعلام الإفتتاح وهم إليه محتاجون " فإن صلى في بيته في المصر يصلي بأذان وإقامة " ليكون الأداء على هيئة الجماعة " وإن تركهما جاز " لقول ابن مسعود رضي الله عنه أذان الحي يكفينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 باب شروط الصلاة التي تتقدمها " يجب على المصلي أن يقدم الطهارة من الأحداث والأنجاس على ما قدمناه " قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] " ويستر عورته " لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [لأعراف: 31] أي ما يواري عورتكم عند كل صلاة وقال عليه الصلاة والسلام " لا صلاة لحائض إلا بخمار " أي لبالغة " وعورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة " لقوله عليه الصلاة والسلام " عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته " ويروى " ما دون سرته حتى تجاوز ركبته " وبهذا تبين أن السرة ليست من العورة خلافا لما يقول الشافعي رحمه الله " والركبة من العورة " خلافا له أيضا وكلمة إلى تحملها على كلمة مع عملا بكلمة حتى أو عملا بقوله عليه الصلاة والسلام " الركبة من العورة ". " وبدن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها " لقوله عليه الصلاة والسلام " المرأة عورة مستورة " واستثناء العضوين للابتلاء بإبدائهما. قال رضي الله عنه: وهذا تنصيص على أن القدم عورة ويروى أنها ليست بعورة وهو الأصح " فإن صلت وربع ساقها أو ثلثه مكشوف تعيد الصلاة " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " وإن كان أقل من الربع لا تعيد وقال أبو يوسف رحمه الله لا تعيد إن كان أقل من النصف " لأن الشيء إنما يوصف بالكثرة إذا كان ما يقابله أقل منه إذ هما من أسماء المقابلة " وفي النصف عنه روايتان " فاعتبر الخروج عن حد القلة أو عدم الدخول في ضده ولهما أن الربع يحكي حكاية الكمال كما في مسح الرأس والحلق في الإحرام. ومن رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وجه غيره يخبر عن رؤيته وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة " والشعر والبطن والفخذ كذلك " يعني على هذا الاختلاف لأن كل واحد عضو على حدة والمراد به النازل من الرأس هو الصحيح وإنما وضع غسله في الجنابة لمكان الحرج والعورة الغليظة على هذا الاختلاف والذكر يعتبر بانفراده وكذا الأنثيان وهذا هو الصحيح دون الضم " وما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة وبطنهاه وظهرها عورة وما سوى ذلك من بدنها ليس بعورة " لقول عمر رضي الله عنه ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر ولأنها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادة فاعتبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال دفعا للحرج. قال: " ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة صلى معها ولم يعد " وهذا على وجهين إن كان ربع الثوب أو أكثر منه طاهرا يصلي فيه ولو صلى عريانا لا يجزئه لأن ربع الشيء يقوم مقام كله وإن كان الطاهر أقل من الربع فكذلك عند محمد رحمه الله وهوأحد قولي الشافعي رحمه الله لأن في الصلاة فيه ترك فرض واحد وفي الصلاة عريانا ترك لفروض وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يتخير بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلى فيه وهو الأفضل لأن كل واحد منهما مانع جواز الصلاة حالة الاختيار ويستويان في حق المقدار فيستويان في حكم الصلاة وترك الشيء إلى خلف لا يكون تركا والأفضلية لعدم اختصاص الستر بالصلاة واختصاص الطهارة بها " ومن لم يجد ثوبا صلى عريانا قاعدا يومئ بالركوع والسجود " هكذا فعله أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام " فإن صلى قائما أجزأه " لأن في القعود ستر العورة الغليظة وفي القيام أداء هذه الأركان فيميل إلى أيهما شاء " إلا أن الأول أفضل " لأن الستر وجب لحق الصلاة وحق الناس ولأنه لا خلف له والإيماء خلف عن الأركان. قال: " وينوي الصلاة التي يدخل فيها بنية لا يفصل بينها وبين التحريمة بعمل " والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " الأعمال بالنيات " ولأن ابتداء الصلاة بالقيام وهو متردد بين العادة والعبادة ولا يقع التمييز بالنية والمتقدم على التكبير كالقائم عنده إذا لم يوجد ما يقطعه وهو عمل لا يليق بالصلاة ولا معتبرة بالمتأخرة منها عنه لأن ما مضى لا يقع عبادة لعدم النية وفي الصوم جوزت للضرورة والنية هي الإرادة والشرط أن يعلم بقلبه أي صلاة يصلي أما الذكر باللسان فلا معتبر به ويحسن ذلك لاجتماع عزيمته ثم إن كانت الصلاة نفلا يكفيه مطلق النية وكذا إن كانت سنة في الصحيح وإن كانت فرضا فلا بد من تعيين الفرض كالظهر مثلا لاختلاف الفروض " وإن كان مقتديا بغيره ينوي الصلاة ومتابعته " لأنه يلزمه فساد الصلاة من جهته فلا بد من التزامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قال: " ويستقبل القبلة " لقوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ثم من كان بمكة ففرضه إصابة عينها ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح لأن التكليف بحسب الوسع ومن كان خائفا يصلي إلى أي جهة قدر لتحقق العذر فأشبه حالة الاشتباه " فإن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها اجتهد وصلى " لأن الصحابة رضوان الله عليهم تحروا وصلوا ولم ينكر عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام ولأن العمل بالدليل الظاهر واجب عند انعدام دليل فوقه والاستخبار فوق التحري " فإن علم أنه أخطأ بعد ما صلى لا يعيدها " وقال الشافعي رحمه الله تعالى يعيدها إذا استدبر لتيقنه بالخطأ ونحن نقول ليس في وسعه إلا التوجه إلى جهة التحري والتكليف مقيد بالوسع " وإن علم ذلك في الصلاة استدار إلى القبلة وبنى عليه " لأن أهل قباء لما سمعوا بتحول القبلة استداروا كهيئتهم في الصلاة واستحسنه النبي عليه الصلاة والسلام وكذا إذا تحول رأيه إلى جهة أخرى توجه إليها لوجوب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل من غير نقض المؤدي قبله. قال: " ومن أم قوما في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة وكلهم خلفه ولا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم " لوجود التوجه إلى جهة التحري وهذه المخالفة غير مانعة كما في جوف الكعبة " ومن علم منهم بحال إمامه تفسد صلاته " لأنه اعتقد أن إمامه على الخطأ " وكذا لو كان متقدما على الإمام " لتركه فرض المقام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 باب: صفة الصلاة مدخل ... باب صفة الصلاة " فرائض الصلاة ستة: التحريمة " لقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] والمراد تكبيرة الافتتاح " والقيام " لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] " والقراءة " لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والركوع والسجود لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] " والقعدة في آخر الصلاة مقدار التشهد " لقوله عليه الصلاة والسلام لابن مسعود رضي الله عنه حين علمه التشهد " إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك " علق التمام بالفعل قرأ أو لم يقرأ. قال: " وما سوى ذلك فهو سنة " أطلق اسم السنة وفيها واجبات كقراءة الفاتحة وضم السورة إليها ومراعاة الترتيب فيما شرع مكررا من الأفعال والقعدة الأولى وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة والقنوت في الوتر وتكبيرات العيدين والجهر فيما يجهر فيه والمخافتة فيما يخافت فيه ولهذا تجب عليه سجدتا السهو بتركها هذا هو الصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وتسميتها سنة في الكتاب لما أنه ثبت وجوبها بالسنة. قال: " وإذا شرع في الصلاة كبر " لما تلونا وقال عليه الصلاة والسلام " تحريمها التكبير " وهو شرط عندنا خلافا للشافعي رحمه الله حتى إن من تحرم للفرض كان له أن يؤدي بها التطوع عندنا وهو يقول إنه يشترط لها ما يشترط لسائر الأركان وهذا آية الركنية ولنا أنه عطف الصلاة عليه في قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] ومقتضاه المغايرة ولهذا لا يتكرر كتكرار الأركان ومراعاة الشرائط لما يتصل به من القيام " ويرفع يديه مع التكبير وهو سنة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه وهذا اللفظ يشير إلى اشتراط المقارنة وهو المروي عن أبي يوسف والمحكي عن الطحاوي والأصح أنه يرفع يديه أولا ثم يكبر لأن فعله نفي الكبرياء عن غير الله تعالى والنفي مقدم على الإثبات " ويرفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه " وعند الشافعي رحمه الله يرفع إلى منكبيه وعلى هذا تكبيرة القنوت والأعياد والجنازة له حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كبر رفع يديه إلى منكبيه ولنا رواية وائل بن حجر والبراء وأنس رضي الله عنهم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا كبر رفع يديه حذاء أذنيه ولأن رفع اليد لإعلام الأصم وهو بما قلناه وما رواه يحمل على حالة العذر " والمرأة ترفع يديها حذاء منكبيها " هو الصحيح لأنه أستر لها " فإن قال بدل التكبير الله أجل أو أعظم أو الرحمن أكبر أو لا إله إلا الله أو غيره من أسماء الله تعالى أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إن كان يحسن التكبير لم يجزئه إلا قوله الله أكبر أو الله الأكبر أو الله الكبير "وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا بالأولين وقال مالك رحمه الله تعالى لا يجوز إلا بالأول لأنه هو المنقول والأصل فيه التوقيف والشافعي رحمه الله يقول إدخال الألف واللام فيه أبلغ في الثناء فقام مقامه وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول إن أفعل وفعيلا في صفات الله تعالى سواء بخلاف ما إذا كان لا يحسن لأنه لا يقدر إلا على المعنى ولهما أن التكبير هو التعظيم لغة وهو حاصل " فإن افتتح الصلاة بالفارسية أو قرأ فيها بالفارسية أو ذبح وسمى بالفارسية وهو يحسن العربية أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا لا يجزئه إلا في الذبيحة وإن لم يحسن العربية أجزأه "، أما الكلام في الافتتاح فمحمد مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى في العربية ومع أبي يوسف في الفارسية لأن لغة العرب لها من المزية ما ليس لغيرها. وأماالكلام في القراءة فوجه قولهما إن القرآن اسم لمنظوم عربي كما نطق به النص إلا أن عند العجز يكتفى بالمعنى كالإيماء بخلاف التسمية لأن الذكر يحصل بكل لسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] ولم يكن فيها بهذه اللغة ولهذا يجوز عند العجز إلا أنه يصير مسيئا لمخالفته السنة المتوارثة ويجوز بأي لسان كان سوى الفارسية هو الصحيح لما تلونا. والمعنى: لا يختلف باختلاف اللغات والخلاف في الاعتداد ولا خلاف في أنه لا فساد ويروى رجوعه في أصل المسألة إلى قولهما وعليه الاعتماد والخطبة والتشهد على هذا الاختلاف وفي الأذان يعتبر التعارف " ولو افتتح الصلاة باللهم اغفر لي لا يجوز " لأنه مشوب بحاجته فلم يكن تعظيما خالصا ولو افتتح بقوله اللهم فقد قيل يجزئه لأن معناه يا الله وقيل لا يجزئه لأن معناه ياألله آمنا بخير فكان سؤالا. قال: " ويعتمد بيده اليمنى على اليسرى تحت السرة " لقوله عليه الصلاة والسلام " إن من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة " وهو حجة على مالك رحمه الله تعالى في الإرسال وعلى الشافعي رحمه الله تعالى في الوضع على الصدر لأن الوضع تحت السرة أقرب إلى التعظيم وهو المقصود ثم الاعتماد سنة القيام عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى حتى لا يرسل حالة الثناء والأصل أن كل قيام فيه ذكر مسنون يعتمد فيه ومالا فلا هو الصحيح فيعتمد في حالة القنوت وصلاة الجنازة ويرسل في القومة وبين تكبيرات الأعياد " ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يضم إليه قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] إلى آخره لرواية علي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول ذلك ولهما رواية أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا افتتح الصلاة كبر وقرأ سبحانك الله وبحمدك إلى آخره ولم يزد على هذا وما رواه محمول على التهجد وقوله وجل ثناؤك لم يذكر في المشاهير فلا يأتي به في الفرائض والأولى أن لا يأتي بالتوجه قبل التكبير لتتصل النية به هو الصحيح " ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم " لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] معناه إذا أردت قراءة القرآن والأولى أن يقول أستعيذ بالله ليوافق القرآن ويقرب منه أعوذ بالله ثم التعوذ تبع للقراءة دون الثناء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لما تلونا حتى يأتي به المسبوق دون المقتدي ويؤخر عن تكبيرات العيد خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى. قال: " ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " هكذا نقل في المشاهير " ويسر بهما " لقول ابن مسعود رضي الله عنه أربع يخفيهن الإمام وذكر منها التعوذ والتسمية وآمين وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجهر بالتسمية عند الجهر بالقراءة لما روي أن النبي عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 والسلام جهر في صلاته بالتسمية " قلنا: هو محمول على التعليم لأن أنسا رضي الله عنه أخبر أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يجهر بها ثم عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يأتي بها في أول كل ركعة كالتعوذ وعنه أنه يأتي بها احتياطا وهو قولهما ولا يأتي بها بين السورة والفاتحة إلا عند محمد رحمه الله تعالى فإنه يأتي بها في صلاة المخافتة " ثم يقرأ فاتحة الكتاب وسورة أو ثلاث آيات من أي سورة شاء " فقراءة الفاتحة لا تتعين ركنا عندنا وكذا ضم السورة إليها خلافا للشافعي رحمه الله تعالى في الفاتحة ولمالك رحمه الله تعالى فيهما له قوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها " وللشافعي رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " ولنا قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والزيادة عليه بخبر الواحد لا تجوز لكنه يوجب العمل فقلنا بوجوبهما " وإذا قال الإمام ولا الضالين قال آمين ويقولها المؤتم " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا أمن الإمام فأمنوا " ولا متمسك لمالك رحمه الله تعالى في قوله عليه الصلاة والسلام " إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين " من حيث القسمة لأنه قال في آخره " فإن الإمام يقولها ". قال: " ويخفونها " لما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولأنه دعاء فيكون مبناه على الإخفاء والمد والقصر فيه وجهان والتشديد فيه خطأ فاحش قال: " ثم يكبر ويركع " وفي الجامع الصغير: ويكبر مع الانحطاط لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند كل خفض ورفع " ويحذف التكبير حذفا " لأن المد في أوله خطأ من حيث الدين لكونه استفهاما وفي آخره لحن من حيث اللغة " ويعتمد بيديه على ركبتيه ويفرج بين أصابعه " لقوله عليه الصلاة والسلام لأنس رضي الله عنه " إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك وفرج بين أصابعك " ولا يندب إلى التفريج إلا في هذه الحالة ليكون أمكن من الأخذ ولا إلى الضم إلا في حالة السجود وفيما وراء ذلك يترك على العادة " ويبسط ظهره " لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع بسط ظهره " ولا يرفع رأسه ولا ينكسه " لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع لا يصوب رأسه ولا يقنعه ويقول " سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه " أي أدنى كمال الجمع " ثم يرفع رأسه ويقول سمع الله لمن حمده ويقول المؤتم ربنا لك الحمد ولا يقولها الإمام عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا يقولها في نفسه " لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الذكرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ولأنه حرض غيره فلا ينسى نفسه. لأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد " هذه قسمة وإنها تنافي الشركة ولهذا لا يأتي المؤتم بالتسميع عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى ولأنه يقع تحميده بعد تحميد المقتدي وهو خلاف موضوع الإمامة وما رواه محمول على حالة الانفراد " والمنفرد يجمع بينهما في الأصح " وإن كان يروى الاكتفاء بالتسميع ويروى بالتحميد والإمام بالدلالة عليه آت به معنى. قال: " ثم إذا استوى قائما كبر وسجد " أما التكبير والسجود فلما بينا وأما الاستواء قائما فليس بفرض وكذا الجلسة بين السجدتين والطمأنينة في الركوع والسجود وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف يفترض ذلك كله وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام " قم فصل فإنك لم تصل " قاله لأعرابي حين أخف الصلاة ولهما أن الركوع هو الانحناء والسجود هو الانخفاض لغة فتتعلق الركنية بالأدنى فيهما وكذا في الانتقال إذ هو غير مقصود وفي آخر ما روي تسميته إياه صلاة حيث قال " وما نقصت من هذا شيئا فقد نقصت من صلاتك " ثم القومة والجلسة سنة عندهما وكذا الطمأنينة في تخريج الجرجاني رحمه الله تعالى وفي تخريج الكرخي رحمه الله واجبة حتى تجب سجدتا السهو بتركها ساهيا عنده " ويعتمد بيديه على الأرض " لأن وائل بن حجر رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد وأدعم على راحتيه ورفع عجيزته قال: " ووضع وجهه بين كفيه ويديه حذاء أذنيه " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام فعل كذلك. قال: " وسجد على أنفه وجبهته " لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه " فإن اقتصر على أحدهما جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر " وهو رواية عنه لقوله عليه الصلاة والسلام " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وعد منها الجبهة " ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن السجود يتحقق بوضع بعض الوجه وهو المأمور به إلا أن الخد والذقن خارج بالإجماع والمذكور فيما روي الوجه في المشهور ووضع اليدين والركبتين سنة عندنا لتحقق السجود بدونهما وأما وضع القدمين فقد ذكر القدوري رحمه الله تعالى أنه فريضة في السجود. قال: " فإن سجد على كور عمامته أو فاضل ثوبه جاز " لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسجد على كور عمامته ويروى أنه عليه الصلاة والسلام صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها " ويبدي ضبعيه " لقوله عليه الصلاة والسلام " وأبد ضبعيك " ويروى " وأبد " من الإبداد وهو المد والأول من الإبداء وهو الإظهار " ويجافي بطنه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فخذيه " لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سجد جافى حتى إن بهمة لو أرادت أن تمر بين يديه لمرت وقيل إذا كان في الصف لا يحافي كيلا يؤذي جاره " ويوجه أصابع رجليه نحو القبلة " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا سجد المؤمن سجد كل عضو منه فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع " " ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه " لقوله عليه الصلاة والسلام " وإذا سجد أحدكم فليقل في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه " أي أدنى كمال الجمع. ويستحب أن يزيد على الثلاث في الركوع والسجود بعد أن يختم بالوتر لأنه عليه الصلاة والسلام كان يختم بالوتر وإن كان إماما لا يزيد على وجه يمل القوم حتى لا يؤدي إلى التنفير ثم تسبيحات الركوع والسجود سنة لأن النص تناولهما دون تسبيحاتهما فلا يزاد على النص " والمرأة تنخفض في سجودها وتلزق بطنها بفخذيها " لأن ذلك استر لها. قال: " ثم يرفع رأسه ويكبر " لما روينا " فإذا اطمأن جالسا كبر وسجد " لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأعرابي " ثم ارفع رأسك حتى تستوي جالسا " ولو لم يستو جالسا وكبر وسجد أخرى أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد ذكرناه وتكلموا في مقدار الرفع والأصح أنه إذا كان إلى السجود أقرب لا يجوز لأنه يعد ساجدا وإن كان إلى الجلوس أقرب جاز لأنه يعد جالسا فتتحقق الثانية. قال: " فإذا اطمأن ساجدا كبر " وقد ذكرناه " واستوى قائما على صدور قدميه ولا يقعد ولا يعتمد بيديه على الأرض ". وقال الشافعي رحمه الله: يجلس جلسة خفيفة ثم ينهض معتمدا على الأرض لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل ذلك ولنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه وما رواه محمول على حالة الكبر ولأن هذه قعدة استراحة والصلاة ما وضعت لها " ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في " الركعة " الأولى " لأنه تكرار الأركان " إلا أنه لا يستفتح ولا يتعوذ " لأنهما لم يشرعا إلا مرة واحدة " ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى " خلافا للشافعي رحمه الله في الركوع وفي الرفع منه لقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن تكبيرة الافتتاح وتكبيرة القنوت وتكبيرات العيدين وذكر الأربع في الحج " والذي يرو من الرفع محمول على الابتداء كذا نقل عن ابن الزبير رضي الله عنه " وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية افترش رجله اليسرى فجلس عليها ونصب اليمنى نصبا ووجه أصابعه نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 القبلة " هكذا وصفت عائشة رضي الله عنها قعود رسول الله عليه الصلاة والسلام في الصلاة " ووضع يديه على فخذيه وبسط أصابعه وتشهد " يروى ذلك في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه ولأن فيه توجيه أصابع يديه إلى القبلة " فإن كانت امرأة جلست على أليتها اليسرى وأخرجت رجليها من الجانب الأيمن " لأنه أستر لها. " والتشهد: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي إلى آخره " وهذا تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه قال أخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام بيدي وعلمني التشهد كما كان يعلمني سورة من القرآن وقال " قل التحيات لله إلى آخره " والأخذ بهذا أولى من الأخذ بتشهد ابن عباس رضي الله عنهما وهو قوله التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا إلى آخره لأن فيه الأمر وأقله الاستحباب والألف واللام وهما للاستغراق وزيادة الواو وهي لتجديد الكلام كما في القسم وتأكيد التعليم " ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى " لقول ابن مسعود رضي الله عنه علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وآخرها فإذا كان وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد وإذا كان آخر الصلاة دعا لنفسه بما شاء " ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وحدها " لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب وهذا بيان الأفضل هو الصحيح لأن القراءة فرض في الركعتين على ما يأتيك من بعد إن شاء الله تعالى " وجلس في الأخيرة كما جلس في الأولى " لما روينا من حديث وائل وعائشة رضي الله عنهما ولأنها أشق على البدن فكان أولى من التورك الذي يميل إليه مالك رحمه الله والذي يرويه أنه عليه الصلاة والسلام قعد متوركا ضعفه الطحاوي رحمه الله أو يحمل على حالة الكبر " وتشهد " وهو واجب عندنا " وصلى على النبي عليه الصلاة والسلام " وهو ليس بفريضة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا قلت هذا أو فعلت فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد " والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام خارج الصلاة واجبة إما مرة واحدة كما قاله الكرخي أو كلما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام كما اختاره الطحاوي فكفينا مؤنة الأمر والفرض المروي في التشهد هو التقدير. قال: " ودعاء بماشاء مما يشبه ألفاظ القرآن والأدعية المأثورة " لما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال له النبي عليه الصلاة والسلام " ثم اختر من الدعاء أطيبه وأعجبه إليك " ويبدأ بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ليكون أقرب إلى الإجابة " ولا يدعو بما يشبه كلام الناس " تحرزا عن الفساد ولهذا يأتي بالمأثور المحفوظ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ومالا يستحيل سؤاله من العباد كقوله اللهم زوجني فلأنه يشبه كلامهم وما يستحيل كقوله اللهم اغفر ليس ليس من كلامهم وقوله اللهم ارزقني من قبيل الأول هو الصحيح لاستعمالها فيما بين العباد يقال رزق الأمير الجيش " ثم يسلم عن يمينه فيقول السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره مثل ذلك " لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن وعن يساره حتى يرى بياض خده الأيسر " وينوي بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة وكذلك في الثانية " لأن الأعمال بالنيات ولا ينوي النساء في زماننا ولا من لا شركة له في صلاته هو الصحيح لأن الخطاب حظ الحاضرين " ولا بد للمقتدي من نية إمامه فإن كان الإمام من الجانب الأيمن أو الأيسر نواه فيهم " وإن كان بحذائه نواه في الأولى عند أبي يوسف رحمه الله ترجيحا للجانب الأيمن وعند محمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله نواه فيهما لأنه ذو حظ من الجانبين " والمنفرد ينوي الحفظة لا غير " لأنه ليس معه سواهم " والإمام ينوي بالتسليمتين " هو الصحيح ولا ينوي في الملائكة عددا محصورا لأن الأخبار في عددهم قد اختلفت فأشبه الإيمان بالأنبياء عليهم السلام ثم إصابة لفظة السلام واجبة عندنا وليست بفرض خلافا للشافعي رحمه الله هو يتمسك بقوله عليه الصلاة والسلام " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " ولنا ما رويناه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه والتخبير ينافي الفرضية والوجوب إلا أنا أثبتنا الوجوب بما رواه احتياطا وبمثله لا تثبت الفرضية والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بالوقت في حق المنفرد على وجه التخيير ولم يوجد أحدهما " ومن قرأ في العشاء في الأوليين السورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يعد في الأخريين وإن قرأ الفاتحة ولم يزد عليها قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة وجهر " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يقضي واحدة منهما لأن الواجب إذا فات عن وقته لا يقضى إلا بدليل ولهما وهو الفرق بين الوجهين أن قراءة الفاتحة شرعت على وجه يترتب عليها السورة فلو قضاها في الأخريين تترتب الفاتحة على السورة وهذا خلاف الموضوع بخلاف ما إذا ترك السورة لأنه أمكن قضاؤها على الوجه المشروع ثم ذكر ههنا ما يدل على الوجوب وفي الأصل بلفظة الاستحباب لأنها إن كانت مؤخرة فغير موصولة بالفاتحة فلم يمكن مراعاة موضوعها من كل وجه " ويجهر بهما " هو الصحيح لأن الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شنيع وتغيير النقل وهو الفاتحة أولى ثم المخافتة أن يمسع نفسه والجهر أن يسمع غيره وهذا عند الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله لأن مجرد حركة اللسان لا يسمى قراءة بدون الصوت وقال الكرخي أدنى الجهر أن يسمع نفسه وأدنى المخافتة تصحيح الحروف لأن القراءة فعل اللسان دون الصماخ وفي لفظ الكتاب إشارة إلى هذا وعلى هذا الأصل كل ما يتعلق بالنطق كالطلاق والعتاق والاستثناء وغير ذلك " وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة آية عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ثلاث آيات قصار أو آية طويلة " لأنه لا يسمى قارئا بدونه فأشبه قراءة ما دون الآية وله قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] من غير فصل إلا أن ما دون الآية خارج والآية ليست في معناه " وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء " لما روي أن النبي عليه الصلا والسلام قرأ في صلاة الفجر في سفر بالمعوذتين ولأن السفر أثر في إسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى وهذا إذا كان على عجلة من السير وإن كان في أمنة وقرار يقرأ في الفجر نحو سورة البروج وانشقت لأنه يمكنه مراعاة السنة مع التخفيف " ويقرأ في الحضر في الفجر في الركعتين بأربعين آية أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب ". ويروى من أربعين إلى ستين ومن ستين إلى مائة وبكل ذلك ورد الأثر ووجه التوفيق أنه يقرأ بالراغبين مائة وبالكسالى أربعين وبالأوساط ما بين خمسين إلى ستين وقيل ينظر إلى طول الليالي وقصرها وإلى كثرة الأشغال وقلتها. قال: " وفي الظهر مثل ذلك " لاستوائهما في سعة الوقت وقال في الأصل أو دونه لأنه وقت الاشتغال فينقص عنه تحرزا عن الملال " والعصر والعشاء سواء يقرأ فيهما بأوساط المفصل وفي المغرب دون ذلك يقرأ فيها بقصار المفصل " والأصل فيه كتاب عمر رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل وفي المغرب بقصار المفصل ولأن مبنى المغرب على العجلة والتخفيف أليق بها والعصر والعشاء يستحب فيهما التأخير وقد يقعان بالتطويل في وقت غير مستحب فيوقت فيهما بالأوساط " ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية " إعانة للناس على إدراك الجماعة. قال: " وركعتا الظهر سواء " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله أحب إلي أن يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها ولهما أن الركعتين استويا في استحقاق القراءة فيستويان في المقدار بخلاف الفجر لأنه وقت نوم وغفلة والحديث محمول على الإطالة من حيث الثناء والتعوذ والتسمية ولا معتبر بالزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات لعدم إمكان الاحتراز عنه من غير حرج " وليس في شيء من الصلوات قراءة سورة بعينها " بحيث لا تجوز بغيرها لإطلاق ما تلونا. " ويكره أن يوقت بشيء من القرآن لشيء من الصلوات " لما فيه من هجر الباقي وإبهام التفضيل " ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام " خلافا للشافعي رحمه الله في الفاتحة له أن القراءة ركن من الأركان فيشتركان فيه. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة " وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم وهو ركن مشترك بينهما لكن حظ المقتدي الإنصات والاستماع قال عليه الصلاة والسلام " وإذا قرأالإمام فأنصتوا " ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد رحمه الله ويكره عندهما لما فيه من الوعيد " ويستمع وينصت وإن قرأالإمام آية الترغيب والترهيب " لأن الاستماع والإنصات فرض بالنص والقراءة وسؤال الجنة والتعوذ من النار كل ذلك مخل به " وكذلك في الخطبة وكذلك إن صلى على النبي عليه الصلاة والسلام " لفرضية الاستماع إلا أن يقرأ الخطيب قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] الآية فيصلي السامع في نفسه واختلفوا في النائي عن المنبر، والأحوط هو السكوت إقامة لفرض الإنصات، والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فصل في القراءة قال: " ويجهر بالقراءة في الفجر وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء إن كان إماما ويخفى في الأخريين " هذا هو المأثور المتوارث " وإن كان منفردا فهو مخير إن شاء جهر وأسمع نفسه " لأنه إمام في حق نفسه " وإن شاء خافت " لأنه ليس خلفه من يسمعه والأفضل هو الجهر ليكون الأداء على هيئة الجماعة " ويخفيها الإمام في الظهر والعصر وإن كان بعرفة " لقوله عليه الصلاة والسلام " صلاة النهار عجماء " أي ليست فيها قراءة مسموعة وفي عرفة خلاف مالك رحمه الله والحجة عليه ما رويناه " ويجهر في الجمعة والعيدين " لورود النقل المستفيض بالجهر وفي التطوع بالنهار يخافت وفي الليل يتخير اعتبارا بالفرد في حق المنفرد وهذا لأنه مكمل له فيكون تبعا له " ومن فاتته العشاء فصلاها بعد طلوع الشمس إن أم فبها جهر " كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قضى الفجر غداة ليلة التعريس بجماعة " وإن كان وحده خافت حتما ولا يتخير هو الصحيح " لأن الجهر يختص إما بالجماعة حتما، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 باب الإمامة " الجماعة سنة مؤكدة " لقوله عليه الصلاة والسلام " الجماعة سنة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق " " وأولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وعن أبي يوسف رحمه الله: أقرؤهم لأن القراءة لا بد منها والحاجة إلى العلم إذا نئبت نائبة ونحن نقول القراءة مفتقر إليها لركن واحد والعلم لسائر الأركان " فإن تساووا فأقرؤهم " لقوله عليه الصلاة والسلام " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة وأقرؤهم كان أعلمهم " لأنهم كانوا يتلقونه بأحكامه فقدم في الحديث ولا كذلك في زماننا فقدمنا الأعلم " فإن تساووا فأورعهم " لقوله عليه الصلاة والسلام " من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي " " فإن تساووا فأسنهم " لقوله عليه الصلاة والسلام لابني أبي مليكة " وليؤمكما أكبركما سنا " ولأن في تقديمه تكثير الجماعة " ويكره تقديم العبد " لأنه لا يتفرغ للتعلم " والأعرابي " لأن الغالب فيهم الجهل " والفاسق " لأنه لا يهتم لأمر دينه " والأعمى " لأنه لا يتوقى النجاسة " وولد الزنا " لأنه ليس له أب يثقفه فيغلب عليه الجهل ولأن في تقديم هؤلاء تنفير الجماعة فيكره " وإن تقدموا جاز " لقوله عليه الصلاة والسلام " صلوا خلف كل بر وفاجر " " ولا يطول الإمام بهم الصلاة " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أم قوما فليصل بهم صلاة أضعفهم فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة " " ويكره للنساء أن يصلين وحدهن الجماعة " لأنها لا تخلو عن ارتكاب محرم وهو قيام الإمام وسط الصف فيكره كالعراة " فإن فعلن قامت الإمام وسطهن " لأن عائشة رضي الله عنها فعلت كذلك وحمل فعلها الجماعة على ابتداء الإسلام ولأن في التقدم زيادة الكشف " ومن صلى مع واحد أقامه عن يمينه " لحديث ابن عباس رضي الله عنهما فإنه عليه الصلاة والسلام صلى به وأقامه عن يمينه ولا يتأخر عن الإمام وعن محمد رحمه الله أنه يضع أصابعه عند عقب الإمام والأول هو الظاهر فإن صلى خلفه أو في يساره جاز وهو مسيء لأنه خالف السنة " وإن أم اثنين تقدم عليهما " وعن أبي يوسف رحمه الله يتوسطهما ونقل ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ولنا أنه عليه الصلاة والسلام تقدم على أنس واليتيم حين صلى بهما فهذا للأفضلية والأثر دليل الإباحة " ولا يجوز للرجال أن يقتدوا بامرأة أو صبي ". أما المرأة فلقوله عليه الصلاة والسلام " أخروهن من حيث أخرهن الله " فلا يجوز تقديمها وأما الصبي فلأنه متنفل فلا يجوز اقتداء المفترض به وفي التراويح والسنن المطلقة جوزه مشايخ بلخ رحمهم الله ولم يجوزه مشايخنا رحمهم الله ومنهم من حقق الخلاف في النفل المطلق بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله والمختار أنه لا يجوز في الصلوات كلها لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد بالإجماع ولا يبني القوي على الضعيف بخلاف المظنون لأنه مجتهد فيه فاعتبر العارض عدما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وبخلاف اقتداء الصبي بالصبي لأن الصلاة متحدة " ويصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء " لقوله عليه الصلاة والسلام " ليليني منكم أولو الأحلام والنهى " ولأن المحاذاة مفسدة فيؤخرن " وإن حاذته امرأة وهما مشتركان في صلاة واحدة فسدت صلاته إن نوى الإمام إمامتها " والقياس أن لا تفسد وهو قول الشافعي رحمه الله اعتبارا بصلاتها حيث لا تفسد وجه الاستحسان ما رويناه وأنه من المشاهير وهو المخاطب به دونهها فيكون هو التارك لفرض المقام فتفسد صلاته دون صلاتها كالمأموم إذا تقدم على الإمام " وإن لم ينو إمامتها لم تضره ولا تجوز صلاتها " لأن الاشتراك لا يثبت دونها عندنا خلافا لزفر رحمه الله. ألا ترى أنه يلزمه الترتيب في المقام فيتوقف على التزامه كالاقتداء وإنما يشترط نية الإمامة إذا ائتمت محاذية وإن لم يكن بجنبها رجل ففيه روايتان والفرق على إحداهما أن الفساد في الأول لازم وفي الثاني محتمل. " ومن شرائط المحاذاة أن تكون الصلاة مشتركة وأن تكون مطلقة وأن تكون المرأة من أهل الشهوة وأن لا يكون بينهما حائل " لأنها عرفت مفسدة بالنص بخلاف القياس فيراعى جميع ما ورد به النص " ويكره لهن حضور الجماعات " يعني الشواب منهن لما فيه من خوف الفتنة " ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا يخرجن في الصلوات كلها " لأنه لا فتنة لقلة الرغبة إليها فلا يكره كما في العيد وله أن فرط الشبق حامل فتقع الفتنة غير أن الفساق انتشارهم في الظهر والعصر والجمعة أما في الفجر والعشاء فهم نائمون وفي المغرب بالطعام مشغولون والجبانة متسعة فيمكنها الاعتزال عن الرجال فلا يكره. قال: " ولا يصلي الطاهر خلف من هو في معنى المستحاضة ولا الطاهرة خلف المستحاضة " لأن الصحيح أقوى حالا من المعذور والشيء لا يتضمن ما هو فوقه والإمام ضامن بمعنى أنه تضمن صلاته صلاة المقتدي " ولا " يصلي " القارئ خلف الأمي ولا المكتسي خلف العاري " لقوة حالهما " ويجوز أن يؤم المتيمم المتوضئين " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز لأنه طهارة ضرورية والطهارة بالماء أصلية ولهما أنه طهارة مطلقة ولهذا لا يتقدر بقدر الحاجة " ويؤم الماسح الغاسلين " لأن الخلف مانع سراية الحدث في القدم وما حل بالخف يزيله المسح بخلاف المستحاضة لأن الحدث لم يعتبر شرعا مع قياسه حقيقة " ويصلي القائم خلف القاعد " وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وهو القياس لقوة حال القائم ونحن تركناه بالنص وهو ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى آخر صلاته قاعدا والقوم خلفه قيام " ويصلي المومئ خلف مثله " لاستوائهما في الحال إلا أن يومئ المؤتم قاعدا والإمام مضطجعا لأن القعود معتبر فتثبت به القوة " ولا يصلي الذي يركع ويسجد خلف المومئ " لأن حال المقتدي أقوى، وفيه خلاف زفر رحمه الله تعالى " ولا يصلي المفترض خلف المتنفل " لأن الاقتداء بناء ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام فلا يتحقق البناء على المعدوم. قال: " ولا من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر " لأن الاقتداء شركة وموافقة فلا بد من الاتحاد وعند الشافعي رحمه الله تعالى يصح في جميع ذلك لأن الاقتداء عنده أداء على سبيل الموافقة وعندنا معنى التضمن مراعى " ويصلي المتنفل خلف المفترض " لأن الحاجة في حقه إلى أصل الصلاة وهو موجود في حق الإمام فيتحقق البناء " ومن اقتدى بإمام ثم علم أن إمامه محدث أعاد " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أم قوما ثم ظهر أنه كان محدثا أو جنبا أعاد صلاته وأعادوا " وفيه خلاف الشافعي رحمه الله تعالى بناء على ما تقدم ونحن نعتبر معنى التضمن وذلك في الجواز والفساد " وإذا صلى أمي بقوم يقرءون وبقوم أميين فصلاتهم فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى " وقالا صلاة الإمام ومن لا يقرأ تامة لأنه معذور أم قوما معذورين وغير معذورين فصار كما إذا أم العاري عراة ولابسين وله أن الإمام ترك فرض القراءة مع القدرة عليها فتفسد صلاته وهذا لأنه لو اقتدى بالقارئ تكون قراءته قراءة له بخلاف تلك المسئلة وأمثالها لأن الموجود في حق الإمام لا يكون موجودا في حق المقتدي " ولو كان يصلي الأمي وحده والقارئ وحده جاز " هو الصحيح لأنه لم تظهر منهما رغبة في الجماعة "ف إن قرأ الإمام في الأوليين ثم قدم في الأخريين أميا فسدت صلاتهم " وقال زفر رحمه الله تعالى لا تفسد لتأدي فرض القراءة. ولنا أن كل ركعة صلاة فلا تخلى عن القراءة إما تحقيقا أو تقديرا ولا تقدير في حق الأمي لانعدام الأهلية وكذا على هذا لو قدمه في التشهد والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 باب الحدث في الصلاة " ومن سبقه الحدث في الصلاة انصرف فإن كان إماما استخلف وتوضأ وبنى " والقياس أن يستقبل وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لأن الحدث ينافيها والمشي والانحراف يفسدانها فأشبه الحدث العمد. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وليتوضأ وليبن على صلاته مالم يتكلم " وقال عليه الصلاة والسلام " إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف فليضع يده على فمه وليقدم من لم يسبق بشيء" والبلوى فيما يسبق دون ما يعتمده فلا يلحق به " والاستئناف أفضل " تحرزا عن شبهة الخلاف وقيل إن المنفرد يستقبل والإمام والمقتدي يبني صيانة لفضيلة الجماعة " والمنفرد إن شاء أتم في منزله وإن عاد إلى مكانه " والمقتدي يعود إلى مكانه إلا أن يكون إمامه قد فرغ أولا يكون بينهما حائل " ومن ظن أنه أحدث فخرج من المسجد ثم علم أنه لم يحدث استقبل الصلاة وإن لم يكن خرج من المسجد يصلي ما بقي " والقياس فيهما الاستقبال وهو رواية عن محمد رحمه الله لوجود الانصراف من غير عذر وجه الاستحسان أنه انصرف على قصد الإصلاح ألا ترى أنه لو تحقق ما توهمه بنى على صلاته فألحق قصد الإصلاح بحقيقته مالم يختلف المكان بالخروج وإن كان استخلف فسدت لأنه عمل كثير من غير عذر وهذا بخلاف ما إذا ظن أنه افتتح الصلاة على غير وضوء فانصرف ثم علم أنه على وضوء حيث تفسد وإن لم يخرج لأن الانصراف على سبيل الرفض ألا ترى أنه لو تحقق ما توهمه يستقبله فهذا هو الحرف ومكان الصفوف في الصحراء له حكم المسجد ولو تقدم قدامه فالحد هو السترة وإن لم تكن فمقدار الصفوف خلفه وإن كان منفردا فموضع سجوده من كل جانب " وإن جن أو نام فاحتلم أو أغمي عليه استقبل " لأنه يندر وجود هذه العوارض فلم يكن معنى ما ورد به النص وكذلك إذا قهقه لأنه بمنزلة الكلام وهو قاطع " وإن حصر الإمام عن القراءة فقدم غيره أجزأهم عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجزئهم " لأنه يندر وجوده فأشبه الجنابة في الصلاة وله أن الاستخلاف لعلة العجز وهو هنا ألزم والعجز عن القراءة غير نادر فلا يلحق بالجنابة " ولو قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة لا يجوز الاستخلاف بالإجماع " لعدم الحاجة إلى الاستخلاف " وإن الحدث بعد التشهد توضأوسلم " لأن التسليم واجب فلا بد من التوضي ليأتي به " وإن لحدث في هذه الحالة أو تكلم أو عمل عملا ينافي الصلاة تمت صلاته " لأنه يتعذر البناء لوجود القاطع لكن لا إعادة عليه لأنه لم يبق عليه شيء من الأركان " فإن رأى المتيمم الماء في صلاته بطلت " وقد مر من قبل " وإن رآه بعد ما قعد قدر التشهد أو كان ماسحا فانقضت مدة مسحه او خلع خفيه بعمل يسير أو كان أميا فتعلم سورة أو عريانا فوجد ثوبا أو موميا فقدر على الركوع والسجود أو تذكر فائتة عليه قبل هذه أو أحدث الإمام القارئ فاستخلف أميا أو طلعت الشمس في الفجر أو دخل وقت العصر وهو في الجمعة أو كان ماسحا على الجبيرة فسقطت عن برء أو كان صاحب عذر فانقطع عذره كالمستحاضة ومن بمعناها بطلت صلاته في قول أبي حنيفة رحمه الله وقالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 تمت صلاته " وقيل الأصل فيه أن الخروج عن الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة رحمه الله وليس بفرض عندهما فاعتراض هذه العوارض عنده في هذه الحالة كاعتراضها في خلال الصلاة وعندهما كاعتراضها بعد التسليم لهما ما روينا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وله أنه لا يمكنه أداء صلاة أخرى إلا بالخروج من هذه وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا ومعنى قوله تمت قاربت التمام والاستخلاف ليس بمفسد حتى يجوز في حق القارىء وإنما الفساد ضرورة حكم شرعي وهو عدم صلاحية الإمامة " ومن اقتدى بإمام بعد ما صلى ركعة فأحدث الإمام فقدمة أجزأه " لوجود المشاركة في التحريمة والأولى للإمام أن يقدم مدركا لأنه أقدر على إتمام صلاته وينبغي لهذا المسبوق أن لا يتقدم لعجزه عن التسليم " فلو تقدم يبتدئ من حيث انتهى إليه الإمام " لقيامه مقامه " وإذا إنتهى إلى السلام يقدم مدركا يسلم بهم فلو أنه حين أتم صلاة الإمام قهقه أو أحدث متعمدا أو تكلم أو خرج من المسجد فسدت صلاته وصلاة القوم تامة " لأن المفسد في حقه وجد في خلال الصلاة وفي حقهم بعد تمام أركانها "والإمام الأول إن كان فرغ لا تفسد صلاته وإن لم يفرغ تفسد" وهو الأصح " فإن لم يحدث الإمام الأول وقعد قدر التشهد ثم قهقه أو أحدث متعمدا فسدت صلاة الذي لم يدرك أول صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا تفسد وإن تكلم أو خرج من المسجد لم تفسد في قولهم جميعا " لهما أن صلاة المقتدى بناء على صلاة الإمام جوازا وفسادا ولم تفسد صلاة الإمام فكذا صلاته وصار كالسلام والكلام وله أن القهقهة مفسدة الجزء الذي يلاقيه من صلاة الإمام فيفسد مثله من صلاة المقتدى غير أن الإمام لا يحتاج إلى البناء والمسبوق محتاج إليه والبناء على الفاسد فاسد بخلاف السلام لأنه منه والكلام في معناه وينتقض وضوء الإمام لوجود القهقهة في حرمة الصلاة " ومن أحدث في ركوعه أو سجوده توضأ وبنى ولا يعتد بالتي أحدث فيها " لأن إتمام الركن بالانتقال ومع الحدث لا يتحقق فلا بد من الاعادة ولو كان إمام فقدم غيره دام المقدم على الركوع لأنه يمكنه الإتمام بالاستدامة " ولو تذكر وهو راكع أو ساجد أن عليه سجدة فانحط من ركوعه أو رفع رأسه من سجوده فسجدها يعيد الركوع والسجود " وهذا بيان الأولى لتقع أفعال الصلاة مرتبة بالقدر الممكن وإن لم يعد أجزأه لأن الإنتقال مع الطهارة شرط وقد وجد وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تلزمه إعادة الركوع لأن القومة فرض عنده. قال: " ومن أم رجلا واحدا فأحدث وخرج من المسجد فالمأموم إمام نوى أو لم ينو " لما فيه من صيانة الصلاة وتعيين الأول لقطع المزاحمة ولا مزاحمة ههنا ويتم الأول صلاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 مقتديا بالثاني كما إذا إستخلفه حقيقة " ولو لم يكن خلفه إلا صبي أو إمرأة قيل تفسد صلاته " لاستخلاف من يصلح للإمامة " وقيل لا تفسد " لأنه لم يوجد الاستخلاف قصدا وهو لا يصلح للإمامة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 باب: ما يفسد الصلاة وما يكره فيها مدخل ... باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها " ومن تكلم في صلاته عامدا أو ساهيا بطلت صلاته " خلافا للشافعي رحمه الله في الخطأ والنسيان ومفزعة الحديث المعروف. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن " وما رواه محمول على رفع الإثم بخلاف السلام ساهيا لأنه من الأذكار فيعتبر ذكرا في حالة النسيان وكلاما في حالة التعمد لما فيه من كاف الخطاب " فان أن فيها أو تأوه أو بكى فارتفع بكاؤه فإن كان من ذكر الجنة أو النار لم يقطعها " لأنه يدل على زيادة الخشوع " وإن كان من وجع أو مصيبة قطعها " لأن فيه إظهار الجزع والتأسف فكان من كلام الناس وعن أبي يوسف رحمه الله أن قوله آه لا يفسد في الحالين وأوه يفسد وقيل الأصل عنده أن الكلمة إذا إشتملت على حرفين وهما زائدان أو إحداهما لا تفسد وإن كانتا أصليتين تفسد وحروف الزوائد جمعوها في قولهم اليوم تنساه وهذا لا يقوى لأن كلام الناس في متفاهم العرف يتبع وجود حروف الهجاء وإفهام المعنى ويتحقق ذلك في حروف كلها زوائد " وإن تنحنح بغير عذر " بأن لم يكن مدفوعا إليه " وحصل به الحروف ينبغي أن يفسد عندهما وإن كان بعذر فهو عفو كالعطاس " والجشاء إذا حصل به حروف " ومن عطس فقال له آخر يرحمك الله وهو في الصلاة فسدت صلاته " لأنه يجري في مخاطبات الناس فكان من كلامهم بخلاف ما إذا قال العاطس أو السامع الحمد لله على ما قالوا لأنه لم يتعارف جوابا " وإن إستفتح ففتح عليه في صلاته تفسد " ومعناه أن يفتح المصلي على غير إمامه لأنه تعليم وتعلم فكان من جنس كلام الناس ثم شرط التكرار في الأصل لأنه ليس من أعمال الصلاة فيعفى القليل منه ولم يشترط في الجامع الصغير لأن الكلام بنفسه قاطع وإن قل " وإن فتح على إمامه لم يكن كلاما فاسدا " استحسانا لأنه مضطر إلى إصلاح صلاته فكان هذا من أعمال صلاته معنى " وينوي الفتح على إمامه دون القراءة " هو الصحيح لأنه مرخص فيه وقراءته ممنوع عنها " ولو كان الإمام إنتقل إلى آية أخرى تفسد صلاة الفاتح وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله " لوجود التلقين والتلقن من غير ضرورة وينبغي للمقتدي أن لا يعجل بالفتح وللإمام أن لا يلجئهم إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بل يركع إذا جاء أوانه أو ينتقل إلى آية أخرى " ولو أجاب رجلا في الصلاة بلا إله إلا الله فهذا كلام مفسد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يكون مفسدا " وهذا الخلاف فيما إذا أراد به جوابه له أنه ثناء بصيغته فلا يتغير بعزيمته ولهما أنه أخرج الكلام مخرج الجواب وهو يحتمله فيجعل جوابا كالتشميت والاسترجاع على الخلاف في الصحيح " وإن أراد " به " إعلامه أنه في الصلاة لم تفسد بالاجماع " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا نابت أحدكم نائبة في الصلاة فليسبح ". " ومن صلى ركعة من الظهر ثم افتتح العصر أو التطوع فقد نقض الظهر " لأنه صح شروعه في غيره فيخرج عنه " ولو افتتح الظهر بعد ما صلى منها ركعة فهي هي ويجتزأ بتلك الركعة " لأنه نوى الشروع في عين ما هو فيه فلغت نيته وبقى المنوي على حاله " وإذا قرأ الإمام من المصحف فسدت صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقالا هي تامة " لأنها عبادة انضافت إلى عبادة أخرى " إلا أنه يكره " لأنه تشبه بصنيع أهل الكتاب ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير ولأنه تلقن من المصحف فصار كما إذا تلقن من غيره وعلى هذا لا فرق بين المحمول والموضوع وعلى الأول يفترقان ولو نظر إلى مكتوب وفهمه فالصحيح انه لا تفسد صلاته بالإجماع بخلاف ما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان حيث يحنث بالفهم عند محمد رحمه الله تعالى لأن المقصود هنالك الفهم أما فساد الصلاة فبالعمل الكثير ولم يوجد " وإن مرت إمرأة بين يدي المصلي لم تقطع صلاته " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يقطع الصلاة مرور شيء " " إلا أن المار آثم " لقوله عليه الصلاة والسلام " لو علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الوزر لوقف أربعين " وإنما يأثم إذا مر في موقع سجوده على ما قيل ولا يكون بينهما حائل وتحاذى أعضاء المار أعضاءه لو كان يصلي على الدكان " وينبغي لمن يصلي في الصحراء أن يتخذ أمامه سترة " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا صلى أحدكم في الصحراء فليجعل بين يديه سترة " " ومقدارها ذراع فصاعدا " لقوله عليه الصلاة والسلام " أيعجز أحدكم إذا صلى في الصحراء أن يكون أمامه مثل مؤخرة الرحل " " وقيل ينبغي أن تكون في غلظ الأصبع " لأن ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد فلا يحصل المقصود " ويقرب من السترة " لقوله عليه الصلاة والسلام " من صلى إلى سترة فليدن منها " " ويجعل السترة على حاجبه الأيمن أو على الأيسر به " ورد الأثر ولا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق " وسترة الإمام سترة للقوم " لأنه عليه الصلاة والسلام صلى ببطحاء مكة إلى عنزة ولم يكن للقوم سترة " ويعتبر الغرز دون الالقاء والخط " لأن المقصود لا يحصل به " ويدرأ المار إذا لم يكن بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 يديه سترة أو مر بينه وبين السترة " لقوله عليه الصلاة والسلام " ادرءوا ما استطعتم " " ويدرأ بالاشارة " كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بولد أم سلمة رضي الله عنها " أو يدفع بالتسبيح " لما روينا من قبل " ويكره الجمع بينهما " لأن بأحدهما كفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فصل: ويكره للمصلي إلخ ... فصل " ويكره للمصلي أن يعبث بثوبه أو بجسده " لقوله عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى كره لكم ثلاثا وذكر منها العبث في الصلاة " ولأن العبث خارج الصلاة حرام فما ظنك في الصلاة " ولا يقلب الحصا " لأنه نوع عبث " إلا أن لا يمكنه السجود فيسويه مرة واحدة " لقوله عليه الصلاة والسلام " مرة يا أبا ذر وإلا فذر " ولأن فيه إصلاح صلاته " ولا يفرقع أصابعه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي " " ولا يتخصر " وهو وضع اليد على الخاصرة لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الاختصار في الصلاة ولأن فيه ترك الوضع المسنون " ولا يلتفت " لقوله عليه الصلاة والسلام " لو علم المصلي من يناجي ما التفت " " ولو نظر بمؤخر عينيه يمنة ويسرة من غير أن يلوي عنقه لا يكره " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يلاحظ أصحابه في صلاته بموق عينيه " ولا يقعى ولا يفترش ذراعيه " لقول أبي ذر رضي الله عنه نهاني خليلي عن ثلاث أن أنقر نقر الديك وأن أقعى إقعاء الكلب وأن أفترش افتراش الثعلب والإقعاء أن يضع أليتيه على الأرض وينصب ركبتيه نصبا هو الصحيح " ولا يرد السلام بلسانه " لأنه كلام " ولا بيده " لأنه سلام معنى حتى لو صافح بنية التسليم تفسد صلاته " ولا يتربع إلا من عذر " لأن فيه ترك سنة القعود " ولا يعقص شعره " وهو أن يجمع شعره على هامته ويشده بخيط أو بصمغ ليتلبد فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يصلي الرجل وهو معقوص " ولا يكف ثوبه " لأنه نوع تجبر " ولا يسدل ثوبه " لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن السدل وهو أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه ثم يرسل أطرافه من جوانبه " ولا يأكل ولا يشرب " لأنه ليس من أعمال الصلاة " فإن أكل أو شرب عامدا أو ناسيا فسدت صلاته " لأنه عمل كثير وحالة الصلاة مذكرة ولا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد وسجوده في الطاق ويكره أن يقوم في الطاق " لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق " ويكره أن يكون الإمام وحده على الدكان " لما قلنا " وكذا على القلب في ظاهر الرواية " لأنه ازدراء بالإمام " ولا بأس بأن يصلي إلى ظهر رجل قاعد يتحدث " لأن ابن عمر رضي الله عنهما ربما كان يستتر بنافع في بعض أسفاره " ولا بأس بأن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق " لأنهما لا يعبدان وباعتباره تثبت الكراهة " ولا بأس بأن يصلي على بساط فيه تصاوير " لأن فيه استهانة بالصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 " ولا يسجد على التصاوير " لأنه يشبه عبادة الصورة وأطلق الكراهة في الأصل لأن المصلى معظم " ويكره أن يكون فوق رأسه في السقف أو بين يديه أو بحذائه تصاوير أو صورة معلقة " لحديث جبريل إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة ولو كانت الصورة صغيرة بحيث لا تبدو للناظر لا يكره لأن الصغار جدا لا تعبد " وإذا كان التمثال مقطوع الرأس " أي ممحو الرأس " فليس بتمثال " لأنه لا يعبد بدون الرأس وصار كما إذا صلى إلى شمع أو سراج على ما قالوا " ولو كانت الصورة على وسادة ملقاة أو على بساط مفروش لا يكره " لأنها تداس وتوطأ بخلاف ما إذا كانت الوسادة منصوبة أو كانت على السترة لأنه تعظيم لها وأشدها كراهة أن تكون أمام المصلي ثم من فوق رأسه ثم على يمينه ثم على شماله ثم خلفه " ولو لبس فيه ثوبا فيه تصاوير يكره " لأنه يشبه حامل الصنم والصلاة جائزة في جميع ذلك لاستجماع شرائطها وتعاد على وجه غير مكروه وهذا الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة " ولا يكره تمثال غير ذي الروح " لأنه لا يعبد " ولا بأس بقتل الحية والعقرب في الصلاة " لقوله عليه الصلاة والسلام " اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة " ولأن فيه إزالة الشغل فأشبه درءالمار ويستوي جميع أنواع الحيات هو الصحيح لإطلاق ما روينا " ويكره عد الآي والتسبيحات باليد في الصلاة " وكذلك عد السور لأن ذلك ليس من أعمال الصلاة وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه لا بأس بذلك في الفرائض والنوافل جميعا مراعاة لسنة القراءة والعمل بما جاءت به السنة قلنا يمكنه أن يعد ذلك قبل الشروع فيستغنى عن العد بعده والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فصل " ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء " لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك والاستدبار يكره في رواية لما فيه من ترك التعظيم ولا يكره في رواية لأن المستدبر فرجه غير مواز للقبلة وما ينحط منه ينحط إلى الأرض بخلاف المستقبل لأن فرجه موازلها وما ينحط منه ينحط إليها " وتكره المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي " لأن سطح المسجد له حكم المسجد حتى يصح الاقتداء منه بمن تحته ولا يبطل الاعتكاف بالصعود إليه ولا يحل للجنب الوقوف عليه " ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد " والمراد ما أعد للصلاة في البيت لأنه لم يأخذ حكم المسجد وإن ندبنا إليه " ويكره أن يغلق باب المسجد " لأنه يشبه المنع من الصلاة وقيل لا بأس به إذا خيف على متاع المسجد في غير أوان الصلاة " ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب " وقوله لا بأس يشير إلى أنه لا يؤجر عليه لكنه لا يأثم به وقيل هو قربة وهذا إذا فعل من مال نفسه أما المتولي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى أحكام البناء دون ما يرجع إلى النقش حتى لو فعل يضمن والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 باب صلاة الوتر " الوتر واجب عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا سنة " لظهور آثار السنن فيه حيث لا يكفر جاحده ولا يؤذن له ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر " أمر وهو للوجوب ولهذا وجب القضاء بالإجماع وإنما لا يكفر جاحده لأن وجوبه ثبت بالسنة وهو المعني بما روي عنه أنه سنة وهو يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذانه وإقامته. قال: " الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام " لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يوتر بثلاث وحكى الحسن رحمه الله إجماع المسلمين على الثلاث وهذا أحد أقوال الشافعي رحمه الله تعالى وفي قول يوتر بتسليمتين وهو قول مالك رحمه الله تعالى والحجة عليهما ما رويناه " ويقنت في الثالثة قبل الركوع " وقال الشافعي رحمه الله تعالى بعده لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قنت في آخر الوتر وهو بعد الركوع. ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قنت قبل الركوع وما زاد على نصف الشيء آخره ويقنت في جميع السنة خلافا للشافعي رحمه الله تعالى في غير النصف الأخير من رمضان لقوله عليه الصلاة والسلام للحسن بن علي رضي الله عنهما حين علمه دعاء القنوت " اجعل هذا في وترك من غير فصل " " ويقرأ في كل ركعة " من الوتر " فاتحة الكتاب وسورة " لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] " وإن أراد أن يقنت كبر " لأن الحالة قد اختلفت " ورفع يديه وقنت " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن وذكر منها القنوت " " ولا يقنت في صلاة غيره " خلافا للشافعي رحمه الله تعالى في الفجر لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قنت في صلاة الفجر شهرا ثم تركه " فإن قنت الإمام في صلاة الفجر يسكت من خلفه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يتابعه " لأنه تبع لإمامه والقنوت مجتهد فيه ولهما أنه منسوخ ولا متابعة فيه ثم قيل يقف قائما ليتابعه فيما تجب متابعته وقيل يقعد تحقيقا للمخالفة لأن الساكت شريك الداعي والأول أظهر ودلت المسئلة على جواز الاقتداء بالشفعوية وعلى المتابعة في قراءة القنوت في الوتر وإذا علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المقتدي منه ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره لا يجزئه الاقتداء به والمختار في القنوت الإخفاء لأنه دعاء والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 باب: النوافل مدخل ... باب النوافل " السنة ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وبعدها ركعتان وأربع قبل العصر وإن شاء ركعتين وركعتان بعد المغرب وأربع قبل العشاء وأربع بعدها وإن شاء ركعتين" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة " وفسر على نحو ما ذكر في الكتاب غير أنه لم يذكر الأربع قبل العصر فلهذا سماه في الأصل حسنا وخير لاختلاف الآثار والأفضل هو الأربع ولم يذكر الأربع قبل العشاء فلهذا كان مستحبا لعدم المواظبة وذكر فيه ركعتين بعد العشاء وفي غيره ذكر الأربع فلهذا خير إلا أن الأربع أفضل خصوصا عند أبي حنيفة على ما عرف من مذهبه والأربع قبل الظهر بتسليمة واحدة عندنا كذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه خلاف للشافعي. قال: " ونوافل النهار إن شاء صلى بتسليمة ركعتين وإن شاء أربعا وتكره الزيادة على ذلك وأما نافلة الليل قال أبو حنيفة رحمه الله إن صلى ثمان ركعات بتسليمة جاز وتكره الزيادة على ذلك وقالا لا يزيد بالليل على ركعتين بتسليمة " وفي الجامع الصغير لم يذكر الثماني في صلاة الليل ودليل الكراهة أنه عليه الصلاة والسلام لم يزد على ذلك ولولا الكراهة لزاد تعليما للجواز والأفضل في الليل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله مثنى مثنى وفي النهار أربع أربع وعند الشافعي رحمه الله فيهما مثنى مثنى" وعند أبي حنيفة فيهما أربع أربع للشافعي رحمه الله قوله عليه الصلا والسلام " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ولهما الاعتبار بالتراويح ولأبي حنيفة رحمه الله أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بعد العشاء أربعا أربعا روته عائشة رضي الله عنها وكان عليه الصلاة والسلام يواظب على الأربع في الضحى ولأنه أدوم تحريمة فيكون أكثر مشقة وأزيد فضيلة ولهذا لو نذر أن يصلي أربعا بتسليمة لا يخرج عنه بتسليمتين وعلى القلب يخرج والتراويح تؤدى بجماعة فيراعى فيها جهة التيسير ومعنى ما رواه شفعا لا وترا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فصل في القراءة " القراءة في الفرض واجبة في الركعتين " وقال الشافعي رحمه الله في الركعات كلها لقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بقراءة وكل ركعة صلاة " وقال مالك رحمه الله في ثلاث ركعات إقامة للأكثر مقام الكل تيسيرا. ولنا قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار وإنما أوجبنا في الثانية استدلالا بالأولى لأنهما يتشاكلان من كل وجه فأما الأخريان فيفارقانهما في حق السقوط بالسفر وصفة القراءة وقدرها فلا يلحقان بهما والصلاة فيما روي مذكورة صريحا فتنصرف إلى الكاملة وهي الركعتان عرفا كمن حلف لا يصلى صلاة بخلاف ما إذا حلف لا يصلى " وهو مخير في الأخريين " معناه إن شاء سكت وإن شاء قرأ وإن شاء سبح كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم إلا أن الأفضل أن يقرأ لأنه عليه الصلاة والسلام داوم على ذلك ولهذا لا يجب السهو بتركها في ظاهر الرواية " والقراءة واجبة في جميع ركعات النفل وفي جميع الوتر " أما النفل فلأن كل شفع منه صلاة على حدة والقيام إلى الثالثة كتحريمة مبتدأة ولهذا لا يجب بالتحريمة الأولى إلا ركعتان في المشهور عن أصحابنا رحمهم الله ولهذا قالوا يستفتح في الثالثة أي يقول سبحانك اللهم وأما الوتر فللاحتياط. قال: " ومن شرع في نافلة ثم أفسدها قضاها " وقال الشافعي رحمه الله لا قضاء عليه لأنه متبرع فيه ولا لزوم على المتبرع ولنا أن المؤدي وقع قربة فيلزم الإتمام ضرورة صيانته عن البطلان " وإن صلى أربعا وقرأ في الأوليين وقعد ثم أفسد الأخريين قضى ركعتين " لأن الشفع الأول قد تم والقيام إلى الثالثة بمنزلة تحريمة مبتدأة فيكون ملزما هذا إذا أفسد الأخريين بعد الشروع فيهما ولو أفسد قبل الشروع في الشفع الثاني لا يقضي الأخريين وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضي اعتبارا للشروع بالنذر ولهما أن الشروع يلزم ما شرع فيه ومالا صحة له إلا به وصحة الشفع الأول لا تتعلق بالثاني بخلاف الركعة الثانية وعلى هذا سنة الظهر لأنها نافلة وقيل يقضي أربعا احتياطا لأنها بمنزلة صلاة واحدة " وإن صلى أربعا ولم يقرأفيهن شيئا أعاد ركعتين " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي أربعا وهذه المسئلة على ثمانية أوجه. والأصل فيها أن عند محمد رحمه الله ترك القراءة في الأوليين أو في إحداهما يوجب بطلان التحريمة لأنها تعقد للأفعال وعند أبي يوسف رحمه الله ترك القراءة في الشفع الأول لا يوجب بطلان التحريمة وإنما يوجب فساد الأداء لأن القراءة ركن زائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ألا ترى أن للصلاة وجودا بدونها غير أنه لا صحة للأداء إلا بها وفساد الأداء لا يزيد على تركه فلا يبطل التحريمة وعند أبي حنيفة رحمه الله ترك القراءة في الأوليين يوجب بطلان التحريمة وفي إحداهما لا يوجب لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة وفسادها بترك القراءة في ركعة واحدة مجتهد فيه فقضينا بالفساد في حق وجوب القضاء وحكمنا ببقاء التحريمة في حق لزوم الشفع الثاني احتياطا إذا ثبت هذا نقول إذا لم يقرأ في الكل قضى ركعتين عندهما لأن التحريمة قد بطلت بترك القراءة في الشفع الأول عندهما فلم يصح الشروع في الشفع الثاني وبقيت عند أبي يوسف رحمه الله فصح الشروع في الشفع الثاني ثم إذا فسد الكل بترك القراءة فيه فعليه قضاء الأربع عنده " ولو قرأ في الأوليين لا غير فعليه قضاء الأخريين بالإجماع " لأن التحريمة لم تبطل فصح الشروع في الشفع الثاني ثم فساده بترك القراءة لا يوجب فساد الشفع الأول " ولو قرأ في الأخريين لا غير فعليه قضاء الأوليين بالإجماع " لأن عندهما لم يصح الشروع في الشفع الثاني وعند أبي يوسف رحمه الله إن صح فقد أداها " ولو قرأ في الأوليين وإحدى الأخريين فعليه قضاء الأخريين بالإجماع ولو قرأ في الأخريين وإحدى الأوليين فعليه قضاء الأوليين بالإجماع ولو قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين على قول أبي يوسف رحمه الله عليه قضاء الأربع وكذا عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن التحريمة باقية وعند محمد رحمه الله عليه قضاء الأوليين لأن التحريمة قد ارتفعت عنده وقد أنكر أبو يوسف رحمه الله هذه الرواية عنه وقال رويت لك عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يلزمه قضاء ركعتين ومحمد رحمه الله لم يرجع عن روايته عنه " ولو قرأ في إحدى الأوليين لا غير قضى أربعا عندهما وعند محمد رحمه الله قضى ركعتين ولو قرأ في إحدى الأخريين لا غير قضى أربعا عند أبي يوسف رحمه الله وعندهما ركعتين ". قال: " وتفسير قوله عليه الصلاة والسلام " لا يصلي بعد صلاة مثلها " يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة فيكون بيان فرضية القراءة في ركعات النفل كلها ويصلي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام " لقوله عليه الصلاة والسلام " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " ولأن الصلاة خير موضوع وربما يشق عليه القيام فيجوز له تركه كيلا ينقطع عنه. واختلفوا في كيفية القعود والمختار أن يقعد كما يقعد في حالة التشهد لأنه عهد مشروعا في الصلاة " وإن افتتحها قائما ثم قعد من غير عذر جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " وهذا استحسان وعندهما لا يجزيه وهو قياس لأن الشروع معتبر بالنذر له أنه لم يباشر القيام فيما بقي ولما باشر صحت بدونه بخلاف النذر لأنه التزمه نصا حتى لو لم ينص على القيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 لا يلزمه القيام عند بعض المشايخ رحمهم الله " ومن كان خارج المصر تنفل على دابته إلى أي جهة توجهت يومئ إيماء " لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر يومئ إيماء ولأن النوافل غير مختصة بوقت فلو ألزمناه النزول والاستقبال تنقطع عنه القافلة أو ينقطع هو عن القافلة. أما الفرائض فمختصة بوقت والسنن الرواتب نوافل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينزل لسنة الفجر لأنها آكد من سائرها والتقييد بخارج المصر ينفي اشتراط السفر والجواز في المصر وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز في المصر أيضا ووجه الظاهر أن النص ورد خارج المصر والحاجة إلى الركوب فيه أغلب " فإن افتتح التطوع راكبا ثم يبني وإن صلى ركعة نازلا ثم ركب استقبل " لأن إحرام الراكب انعقد مجوزا للركوع والسجود لقدرته على النزول فإذا أتى بهما صح وإحرام النازل انعقد لوجوب الركوع والسجود فلا يقدر على ترك ما لزمه من غير عذر وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يستقبل إذا نزل أيضا وكذا عن محمد رحمه الله إذا نزل بعد ما صلى ركعة والأصح هو الأول وهو الظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فصل في قيام شهر رمضان " يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات كل ترويحة بتسليمتين ويجلس بين كل ترويحتين مقدار ترويحة ثم يوتر بهم " ذكر لفظ الاستحباب والأصح أنها سنة كذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه واظب عليها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم والنبي عليه الصلاة والسلام بين العذر في تركه المواظبة وهو خشية أن تكتب علينا " والسنة فيها الجماعة " لكن على وجه الكفاية حتى لو امتنع أهل المسجد كلهم عن إقامتها كانوا مسيئين ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة لأن أفراد الصحابة رضي الله عنهم روي عنهم التخلف والمستحب في الجلوس بين الترويحتين مقدار الترويحة وكذا بين الخامسة وبين الوتر لعادة أهل الحرمين واستحسن البعض الاستراحة على خمس تسليمات وليس بصحيح وقوله ثم يوتر بهم يشير إلى أن وقتها بعد العشاء قبل الوتر وبه قال عامة المشايخ رحمهم الله والأصح أن وقتها بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده لأنها نوافل سنت بعد العشاء ولم يذكر قدر القراءة فيها وأكثر المشايخ رحمهم الله على أن السنة فيها الختم مرة فلا يترك لكسل القوم بخلاف ما بعد التشهد من الدعوات حيث يتركها لأنها ليست بسنة " ولا يصلي الوتر بجماعة في غير " شهر " رمضان " وعليه إجماع المسلمين والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 باب إدراك الفريضة " ومن صلى ركعة من الظهر ثم أقيمت يصلي أخرى " صيانة للمؤدي عن البطلان " ثم يدخل مع القوم " إحرازا لفضيلة الجماعة " وإن لم يقيد الأولى بالسجدة يقطع ويشرع مع الإمام هو الصحيح " لأنه بمحل الرفض وهذا القطع للإكمال بخلاف ما إذا كان في النفل لأنه ليس للإكمال ولو كان في السنة قبل الظهر والجمعة فأقيم أو خطب يقطع على رأس الركعتين يروى ذلك عن أبي يوسف رحمه الله وقد قيل يتمها " وإن كان قد صلى ثلاثا من الظهر يتمها " لأن للأكثر حكم الكل فلا يحتمل النقض بخلاف ما إذا كان في الثالثة بعد ولم يقيدها بالسجدة حيث يقطعها لأنه محل الرفض ويتخير إن شاء عاد فقعد وسلم وإن شاء كبر قائما ينوي الدخول في صلاة الإمام " وإذا أتمها يدخل مع القوم والذي يصلي معهم نافلة " لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد " فإن صلى من الفجر ركعة ثم أقيمت يقطع ويدخل معهم " لأنه لو أضاف إليها أخرى تفوته الجماعة وكذا إذا قام إلى الثانية قبل أن يقيدها بالسجدة وبعد الإتمام لا يشرع في صلاة الإمام لكراهة التنفل بعد الفجر وكذا بعد العصر لما قلنا وكذا بعد المغرب في ظاهر الرواية لأن التنفل بالثلاث مكروه وفي جعلها أربعا مخالفة لإمامه " ومن دخل مسجدا قد أذن فيه يكره له أن يخرج حتى يصلي " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يخرج من المسجد بعد النداء إلا منافق " أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجوع. قال: " إلا إذا كان ممن ينتظم به أمر جماعة " لأنه ترك صورة تكميل معنى " وإن كان قد صلى وكانت الظهر أو العشاء فلا بأس بأن يخرج " لأنه أجاب داعي الله مرة " إلا إذا أخذ المؤذن في الإقامة " لأنه يتهم بمخالفة الجماعة عيانا " وإن كانت العصر أو المغرب أو الفجر خرج وإن أخذ المؤذن فيها " لكراهة التنفل بعدها " ومن انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر إن خشي أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد ثم يدخل " لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين " وإن خشي فوتهما دخل مع الإمام " لأن ثواب الجماعة أعظم والوعيد بالترك ألزم بخلاف سنة الظهر حيث يتركها في الحالتين لأنه يمكنه أداؤها في الوقت بعد الفرض هو الصحيح وإنما الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في تقديمها على الركعتين وتأخيرها عنهما ولا كذلك سنة الفجر على ما نبين إن شاء الله تعالى والتقييد بالأداء عند باب المسجد يدل على الكراهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة والأفضل في عامة السنن والنوافل المنزل هو المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام. قال: " وإذا فاتته ركعتا الفجر لا يقضيهما قبل طلوع الشمس " لأنه يبقى نفلا مطلقا وهو مكروه بعد الصبح " ولا بعد ارتفاعها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى أحب إلي أن يقضيهما إلى وقت الزوال " لأنه عليه الصلاة والسلام قضاهما بعد ارتفاع الشمس غداة ليلة التعريس ولهما أن الأصل في السنة أن لا تقضى لاختصاص القضاء بالواجب والحديث ورد في قضائها تبعا للفرض فبقي ما رواه على الأصل وإنما تقضى تبعا له وهو يصلي بالجماعة أو وحده إلى وقت الزوال وفيما بعده اختلاف المشايخ رحمهم الله تعالى وأما سائر السنن سواها فلا تقضى بعد الوقت وحدها واختلف المشايخ رحمهم الله تعالى في قضائها تبعا للفرض " ومن أدرك من الظهر ركعة ولم يدرك الثلاث فإنه لم يصل الظهر بجماعة وقال محمد رحمه الله تعالى قد أدرك فضل الجماعة " لأن من أدرك آخر الشيء فقد أدركه فصار محرزا ثواب الجماعة لكنه لم يصلها بالجماعة حقيقة ولهذا يحنث به في يمينه لا يدرك الجماعة ولا يحنث في يمينه لا يصلي الظهر بالجماعة "ومن أتى مسجدا قد صلى فيه فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له ما دام في الوقت " ومراده إذا كان في الوقت سعة وإن كان فيه ضيق تركه قيل هذا في غير سنة الظهر والفجر لأن لهما زيادة مزية قال عليه الصلاة والسلام في سنة الفجر " صلوها ولو طردتكم الخيل " وقال في الأخرى " من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي " وقيل هذا في الجميع لأنه عليه الصلاة والسلام واظب عليها عند أداء المكتوبات بجماعة ولا سنة دون المواظبة والأولى أن لا يتركها في الأحوال كلها لكونها مكملات الفرائض إلا إذا خاف فوت الوقت " ومن انتهى إلى الإمام في ركوعه فكبر ووقف حتى رفع الإمام رأسه لا يصير مدركا لتلك الركعة خلافا لزفر رحمه الله " هو يقول أدرك الإمام فيما له حكم القيام فصار كما لو أدركه في حقيقة القيام ولنا أن الشرط هو المشاركة في أفعال الصلاة ولم يوجد لا في القيام ولا في الركوع " ولو ركع المقتدي قبل إمامه فأدركه الإمام فيه جاز " وقال زفر رحمه الله: لا يجزئه لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به فكذا ما يبنيه عليه ولنا أن الشرط هو المشاركة في جزء واحد كما في الطرف الأول والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 باب قضاء الفوائت " ومن فاتته صلاة قضاها إذا ذكرها وقدمها على فرض الوقت " والأصل فيه أن الترتيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بين الفوائت وفرض الوقت عندنا مستحق وعند الشافعي رحمه الله مستحب، لأن كل فرض أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره، ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليعد التي صلى مع الإمام " " ولو خاف فوت الوقت يقدم الوقتية ثم يقضيها " لأن الترتيب يسقط بضيق الوقت وكذا بالنسيان وكثرة الفوائت كيلا يؤدي إلى تفويت الوقتية ولو قدم الفائتة جاز لأن النهي عن تقديمها لمعنى في غيرها بخلاف ما إذا كان في الوقت سعة وقدم الوقتية حيث لا يجوز لأنه أداها قبل وقتها الثابت بالحديث " ولو فاتته صلوات رتبها في القضاء كما وجبت في الأصل " لأن النبي عليه الصلاة والسلام شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن مرتبا ثم قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " " إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات " لأن الفوائت قد كثرت " فيسقط الترتيب فيما بين الفوائت " نفسها كما سقط بينها وبين الوقتية وحد الكثرة أن تصير الفوائت ستا لخروج وقت الصلاة السادسة وهو المراد بالمذكور في الجامع الصغير وهو قوله " وإن فاتته أكثر من صلاة يوم وليلة أجزأته التي بدأبها " لأنه إذا زاد على يوم وليلة تصير ستا وعن محمد رحمه الله أنه اعتبر دخول وقت السادسة والأول هو الصحيح لأن الكثرة بالدخول في حد التكرار وذلك في الأول ولو اجتمعت الفوائت القديمة والحديثة قيل تجوز الوقتية مع تذكر الحديثة لكثرة الفوائت وقيل لا تجوز ويجعل الماضي كأن لم يكن زجرا له عن التهاون ولو قضى بعض الفوائت حتى قل ما بقي عاد الترتيب عند البعض وهو الأظهر فإنه روي عن محمد رحمه الله فيمن ترك صلاة يوم وليلة وجعل يقضي من الغد مع كل وقتية فائتة فالفوائت جائزة على كل حال والوقتيات فاسدة إن قدمها لدخول الفوائت في حد القلة وإن أخرها فكذلك إلا العشاء الأخيرة لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها " ومن صلى العصر وهو ذاكر أنه لم يصل الظهر فهي فاسدة إلا إذا كان في آخر الوقت " وهي مسئلة الترتيب " وإذا فسدت الفرضية لا يبطل أصل الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يبطل " لأن التحريمة عقدت للفرض فإذا بطلت الفرضية بطلت التحريمة أصلا ولهما أنها عقدت لأصل الصلاة بوصف الفرضية فلم يكن من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل "ثم العصر يفسد فسادا موقوفا حتى لو صلى ست صلوات ولم يعد الظهر انقلب الكل جائزا عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يفسد فسادا باتا لا جواز له بحال" وقد عرف ذلك في موضعه " ولو صلى الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر فهي فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله " خلافا لهما وهذا بناء على أن الوتر واجب عنده سنة عندهما ولا ترتيب فيما بين الفرائض والسنن وعلى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 إذا صلى العشاء ثم توضأوصلى السنة والوتر ثم تبين أنه صلى العشاء بغير طهارة فعنده يعيد العشاء والسنة دون الوتر لأن الوتر فرض على حدة عنده وعندهما يعيد الوتر أيضا لكونه تبعا للعشاء والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 باب سجود السهو " يسجد للسهو في الزيادة والنقصان سجدتين بعد السلام ثم يتشهد ثم يسلم " وعند الشافعي رحمه الله يسجد قبل السلام لما روي أنه عليه الصلاة والسلام سجد للسهو قبل السلام ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لكل سهو سجدتان بعد السلام " وروي أنه عليه الصلاة والسلام سجد سجدتي السهو بعد السلام فتعارضت روايتا فعله فبقي التمسك بقوله سالما ولأن سجود السهو مما لا يتكرر فيؤخر عن السلام حتى لو سها عن السلام ينجبر به وهذا الخلاف في الأولوية ويأتي بتسليمتين هو الصحيح صرفا للسلام المذكور إلى ما هو المعهود ويأتي بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام والدعاء في قعدة السهو هو الصحيح لأن الدعاء موضعه آخر الصلاة. قال: " ويلزمه السهو إذا زاد في صلاته فعلا من جنسها ليس منها " وهذا يدل على أن سجدة السهو واجبة هو الصحيح لأنها تجب لجبر نقص تمكن في العبادة فتكون واجبة كالدماء في الحج وإذا كان واجبا لا يجب إلا بترك واجب أو تأخيره أو تأخير ركن ساهيا هذا هو الأصل وإنما وجب بالزيادة لأنها لا تعرى عن تأخير ركن أو ترك واجب. قال: " ويلزمه إذا ترك فعلا مسنونا " كأنه أراد به فعلا واجبا إلا أنه أراد بتسميته سنة أن وجوبها ثبت بالسنة. قال: " أو ترك قراءة الفاتحة " لأنها واجبة " أو القنوت أو التشهد أو تكبيرات العيدين " لأنها واجبات فإنه عليه الصلاة والسلام واظب عليها من غير تركها مرة وهي أمارة الوجوب ولأنها تضاف إلى جميع الصلاة فدل على أنها من خصائصها وذلك بالوجوب ثم ذكر التشهد يحتمل القعدة الأولى والثانية والقراءة فيهما وكل ذلك واجب وفيها سجدة السهو هو الصحيح " ولو جهر الإمام فيما يخافت أو خافت فيما يجهر تلزمه سجدتا السهو " لأن الجهر في موضعه والمخافتة في موضعها من الواجبات واختلفت الرواية في المقدار والأصح قدر ما تجوز به الصلاة في الفصلين لأن اليسير من الجهر والإخفاء لا يمكن الاحتراز عنه وعن الكثير ممكن وما يصح به الصلاة كثير غير أن ذلك عنده آية واحدة وعندهما ثلاث آيات وهذا في حق الإمام دون المنفرد لأن الجهر والمخافتة من خصائص الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 قال: " وسهو الإمام يوجب على المؤتم السجود " لتقرر السبب الموجب في حق الأصل ولهذا يلزمه حكم الإقامة بنية الإمام " فإن لم يسجد الإمام لم يسجد المؤتم " لأنه يصير مخالفا لإمامه وما التزم الأداء إلا متابعا " فإن سها المؤتم لم يلزم الإمام ولا المؤتم السجود " لأنه لو سجد وحده كان مخالفا لإمامه ولو تابعه الإمام ينقلب الأصل تبعا " ومن سها عن القعدة الأولى ثم تذكر وهو إلى حالة القعود أقرب عاد وقعد وتشهد " لأن ما يقرب من الشيء يأخذ حكمه ثم قيل يسجد للسهو للتأخير والأصح أنه لا يسجد كما إذا لم يقم " ولو كان إلى القيام أقرب لم يعد " لأنه كالقائم معنى " ويسجد للسهو " لأنه ترك الواجب " وإن سها عن القعدة الأخيرة حتى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة مالم يسجد " لأن فيه إصلاح صلاته وأمكنه ذلك لأن ما دون الركعة بمحل الرفض. قال: " وألغى الخامسة " لأنه رجع إلى شيء محله قبلها فترتفض " وسجد للسهو " لأنه أخر واجبا " وإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه " عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لأنه استحكم شروعه في النافلة قبل إكمال أركان المكتوبة ومن ضرورته خروجه عن الفرض وهذا لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة حقيقة حتى يحنث بها في يمينه لا يصلي " وتحولت صلاته نفلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله " خلافا لمحمد رحمه الله على ما مر " فيضم إليها ركعة سادسة ولو لم يضم لا شيء عليه " لأنه مظنون ثم إنما يبطل فرضه بوضع الجبهة عند أبي يوسف رحمه الله لأنه سجود كامل وعند محمد رحمه الله يرفعه لأن تمام الشيء بآخره وهو الرفع ولم يصح مع الحدث وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا سبقه الحدث في السجود بنى عند محمد خلافا لأبي يوسف رحمه الله " ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم عاد إلى القعدة مالم يسجد للخامسة وسلم " لأن التسليم في حالة القيام غير مشروع وأمكنه الإقامة على وجهه بالقعود لأن ما دون الركعة بمحل الرفض " وإن قيد الخامسة بالسجدة ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى وتم فرضه " لأن الباقي إصابة لفظة السلام وهي واجبة وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان نفلا لأن الركعة الواحدة لا تجزئه لنهيه عليه الصلاة والسلام عن البتيراء ثم لا تنوبان عن سنة الظهر وهو الصحيح لأن المواظبة عليها بتحريمة مبتدأة " ويسجد لسهو استحسانا " لتمكن النقصان في الفرض بالخروج لا على الوجه المسنون وفي النفل بالدخول لا على الوجه المسنون ولو قطعها لم يلزمه القضاء لأنه مظنون ولو اقتدى به إنسان فيهما يصلي ستا عند محمد رحمه الله لأنه المؤدي بهذه التحريمة وعندهما ركعتين لأنه استحكم خروجه عن الفرض ولو أفسده المقتدي فلا قضاء عليه عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 محمد رحمه الله اعتبارا بالإمام وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي ركعتين لأن السقوط بعارض يخص الإمام. قال: " ومن صلى ركعتين تطوعا فسها فيهما وسجد للسهو ثم أراد أن يصلي أخريين لم يبن " لأن السجود يبطل لوقوعه في وسط الصلاة بخلاف المسافر إذا سجد للسهو ثم نوى الإقامة حيث يبني لأنه لو لم يبن يبطل جميع الصلاة ومع هذا لو أدى صح لبقاء التحريمة ويبطل سجود السهو هو الصحيح " ومن سلم وعليه سجدتا السهو فدخل رجل في صلاته بعد التسليم فإن سجد الإمام كان داخلا وإلا فلا " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله هو داخل سجد الإمام أو لم يسجد لأن عنده سلام من عليه السهو لا يخرجه عن الصلاة أصلا لأنها وجبت جبرا للنقصان فلا بد من أن يكون في إحرام الصلاة وعندهما يخرجه على سبيل التوقف لأنه محلل في نفسه وإنما لا يعمل لحاجته إلى أداء السجدة فلا يظهر دونها ولا حاجة على اعتبار عدم العود ويظهر الإختلاف في هذا وفي انتقاض الطهارة بالقهقهة وتغير الفرض بنية الإقامة في هذه الحالة " ومن سلم يريد به قطع الصلاة وعليه سهو فعليه أن يسجد لسهوه " لأن هذا السلام غير قاطع ونيته تغيير المشروع فلغت " ومن شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وذلك أول ما عرض له استأنف " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة " " وإن كان يعرض له كثيرا بنى على أكبر رأيه " لقوله عليه الصلاة والسلام " من شك في صلاته فليتحر الصواب " " وإن لم يكن له رأي بنى على اليقين " لقوله عليه الصلاة والسلام " من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا بنى على الأقل " والاستقبال بالسلام أولى لأنه عرف محللا دون الكلام ومجرد النية يلغو وعند البناء على الأقل يقعد في كل موضع يتوهم آخر صلاته كيلا يصير تاركا فرض القعدة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 باب صلاة المريض " إذا عجز المريض عن القيام صلى قاعدا يركع ويسجد " لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين رضي الله عنه " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماء " ولأن الطاعة بحسب الطاقة. قال: " فإن لم يستطع الركوع والسجود أومأ إيماء " يعني قاعدا لأنه وسع مثله " وجعل سجوده أخفض من ركوعه " لأنه قائم مقامهما فأخذ حكمهما " ولا يرفع إلى وجهه شيئا يسجد عليه " لقوله عليه الصلاة والسلام " إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 برأسك " فإن فعل ذلك وهو يخفض رأسه أجزأه لوجود الإيماء وإن وضع ذلك على جبهته لا يجزئه لانعدامه " فإن لم يستطع القعود استلقى على ظهره وجعل رجليه إلى القبلة وأومأ بالركوع والسجود " لقوله عليه الصلاة والسلام " يصلي المريض قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء فإن لم يستطع فالله تعالى أحق بقبول العذر منه ". قال: " وإن استلقى على جنبه ووجهه إلى القبلة فأومأجاز " لما روينا من قبل إلا أن الأولى هي الأولى عندنا خلافا للشافعي رضي الله عنه لأن إشارة المستلقي تقع إلى هواء الكعبة وإشارة المضطجع على جنبه إلى جانب قدميه وبه تتأدى الصلاة " فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخرت الصلاة عنه ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه ولا بحاجبيه " خلافا لزفر رحمه الله لما روينا من قبل ولأن نصب الأبدال بالرأي ممتنع ولا قياس على الرأس لأنه يتأدى به ركن الصلاة دون العين وأختيها وقوله أخرت عنه إشارة إلى أنه لا تسقط الصلاة عنه وإن كان العجز أكثر من يوم وليلة إذا كان مفيقا هو الصحيح لأنه يفهم مضمون الخطاب بخلاف المغمى عليه. قال: " وإن قدر على القيام ولم يقدر على الركوع والسجود لم يلزمه القيام ويصلي قاعدا يومئ إيماء " لأن ركنية القيام للترسل به إلى السجدة لما فيها من نهاية التعظيم فإذا كان لا يتعقبه السجود لا يكون ركنا فيتخير والأفضل هو الإيماء قاعدا لأنه أشبه بالسجود " وإن صلى الصحيح بعض صلاته قائما ثم حدث به مرض يتمها قاعدا يركع ويسجد أو يومئ إن لم يقدر " أو مستلقيا إن لم يقدر لأنه بنى الأدنى على الأعلى فصار كالاقتداء " ومن صلى قاعدا يركع ويسجد لمرض ثم صح بنى على صلاته قائما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله استقبل " بناء على اختلافهم في الاقتداء وقد تقدم بيانه " وإن صلى بعض صلاته بإيماء ثم قدر على الركوع والسجود استأنف عندهم جميعا " لأنه لا يجوز اقتداء الراكع بالمومئ فكذا البناء " ومن افتتح التطوع قائما ثم أعيا لا بأس بأن يتوكأ على عصا أو حائط أو يقعد " لأن هذا عذر وإن كان الاتكاء بغير عذر يكره لأنه إساءة في الأدب وقيل لا يكره عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه لو قعد عنده بغير عذر يجوز فكذا لا يكره الاتكاء وعندهما يكره لأنه لا يجوز القعود عندهما فيكره الاتكاء " وإن قعد بغير عذر يكره بالإتفاق " وتجوز الصلاة عنده ولا تجوز عندهما وقد مر في باب النوافل " ومن صلى في السفينة قاعدا من غير علة أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله والقيام أفضل وقالا لا يجزئه إلا من عذر " لأن القيام مقدور عليه فلا يترك إلا لعلة وله أن الغالب فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 دوران الرأس وهو كالمتحقق إلا أن القيام أفضل لأنه أبعد عن شبهة الخلاف والخروج أفضل إن أمكنه لأنه أسكن لقلبه والخلاف في غير المربوطة والمربوطة كالشط هو الصحيح " ومن أغمي عليه خمس صلوات أو دونها قضى وإن كان أكثر من ذلك لم يقض " وهذا استحسان والقياس أن لا قضاء عليه إذا استوعب الإغماء وقت صلاة كاملا لتحقق العجز فأشبه الجنون وجه الاستحسان أن المدة إذا طالت كثرت الفوائت فيتحرج في الأداء وإذا قصرت قلت فلا حرج والكثير أن تزيد على يوم وليلة لأنه يدخل في حد التكرار والجنون كالإغماء كذا ذكره أبو سليمان رحمه الله بخلاف النوم لأن امتداده نادر فيلحق بالقاصر ثم الزيادة تعتبر من حيث الأوقات عند محمد رحمه الله لأن التكرار يتحقق به وعندهما من حيث الساعات هو المأثور عن علي وابن عمر رضي الله عنهم والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 باب سجود التلاوة قال: " سجود التلاوة في القرآن أربع عشرة سجدة في آخر الأعراف وفي الرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والأولى في الحج والفرقان والنمل وآلم تنزيل وص وحم السجدة والنجم وإذا السماء انشقت واقرأ " كذا كتب في مصحف عثمان رضي الله عنه وهو المعتمد والسجدة الثانية في الحج للصلاة عندنا وموضع السجدة في حم السجدة عند قوله: {لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] في قول عمر رضي الله عنه وهو المأخوذ للاحتياط " والسجدة واجبة في هذه المواضع على التالي والسامع سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد " لقوله عليه الصلاة والسلام " السجدة على من سمعها وعلى من تلاها " وهي كلمة إيجاب وهو غير مقيد بالقصد. " وإذا تلا الإمام آية السجدة سجدها وسجدها المأموم معه " لالتزامه متابعته " وإذ تلا المأموم لم يسجد الإمام ولا المأموم في الصلاة ولا بعد الفراغ " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يسجدونها إذا فرغوا لأن السبب قد تقرر ولا مانع بخلاف حالة الصلاة لأنه يؤدي إلى خلاف وضع الإمامة أو التلاوة ولهما أن المقتدي محجور عن القراءة لنفاذ تصرف الإمام عليه وتصرف المحجور لا حكم له بخلاف الجنب والحائض لأنهما منهيان عن القراءة إلا أنه لا يجب على الحائض بتلاوتها كما لا يجب بسماعها لانعدام أهلية الصلاة بخلاف الجنب " ولو سمعها رجل خارج الصلاة سجدها " هو الصحيح لأن الحجر ثبت في حقهم فلا يعدوهم " وإن سمعوا وهم في الصلاة سجدة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 رجل ليس معهم في الصلاة لم يسجدوها في الصلاة " لأنها ليست بصلاتية لأن سماعهم هذه السجدة ليس من أفعال الصلاة " وسجدوها بعدها " لتحقق سببها " ولو سجدوها في الصلاة لم يجزهم " لأنه ناقص لمكان النهي فلا يتأدى به الكامل. قال " وأعادوها " لتقرر سببها " ولم يعيدوا الصلاة " لأن مجرد السجدة لا ينافي إحرام الصلاة وفي النوادر أنها تفسد لأنهم زادوا فيها ما ليس منها وقيل هو قول محمد رحمه الله " فإن قرأها الإمام وسمعها رجل ليس معه في الصلاة فدخل معه بعدما سجدها الإمام لم يكن عليه أن يسجدها " لأنه صار مدركا لها بإدراك الركعة " وإن دخل معه قبل أن يسجدها سجدها معه " لأنه لو لم يسمعها سجدها معه فههنا أولى " وإن لم يدخل معه سجدها وحده " لتحقق السبب " وكل سجدة وجبت في الصلاة فلم يسجدها فيها لم تقض خارج الصلاة " لأنها صلاتية ولها مزية الصلاة فلا تتأدى بالناقص. " ومن تلا سجدة فلم يسجدها حتى دخل في صلاة فأعادها وسجد أجزأته السجدة عن التلاوتين " لأن الثانية أقوى لكونها صلاتية فاستتبعت الأولى وفي النوادر يسجد أخرى بعد الفراغ لأن للأولى قوة السبق فاستويا قلنا للثانية قوة اتصال المقصود فترجحت بها " وإن تلاها فسجد ثم دخل في الصلاة فتلاها سجد لها " لأن الثانية هي المستتبعة ولا وجه إلى إلحاقها بالأولى لأنه يؤدي إلى سبق الحكم على السبب " ومن كرر تلاوة سجدة واحدة في مجلس واحدة أجزأته سجدة واحدة فإن قرأها في مجلسه فسجدها ثم ذهب ورجع فقرأها سجدها ثانية وإن لم يكن سجد للأولى فعليه السجدتان " فالأصل أن مبنى السجدة على التداخل دفعا للحرج وهو تداخل في السبب دون الحكم وهذا أليق بالعبادات والثاني بالعقوبات وإمكان التداخل عند اتحاد المجلس لكونه جامعا للمتفرقات فإذا اختلف عاد الحكم إلى الأصل ولا يختلف بمجرد القيام بخلاف المخيرة لأنه دليل الإعراض وهو المبطل هنالك وفي تسدية الثوب يتكرر الوجوب وفي المنتقل من غصن إلى أغصن كذلك في الأصح وكذا في الدياسة للاحتياط " ولو تبدل مجلس السامع دون التالي يتكرر الوجوب على السامع " لأن السبب في حقه السماع " وكذا إذا تبدل مجلس التالي دون السامع " على ما قيل والأصح أنه لا يتكرر الوجوب على السامع لما قلنا " ومن أراد السجود كبر ولم يرفع يديه وسجد ثم كبر ورفع رأسه " اعتبارا بسجدة الصلاة وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه " ولا تشهد عليه ولا سلام " لأن ذلك للتحلل وهو يستدعي سبق التحريمة وهي منعدمة. قال: " ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة " لأنه يشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الإستنكاف عنها " ولا بأس بأن يقرأ آية السجدة ويدع ما سواها " لأنه مبادرة إليها قال محمد رحمه الله أحب إلي أن يقرأ قبلها آية أو آيتين دفعا لوهم التفضيل واستحسنوا إخفاءها شفقة على السامعين والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 باب صلاة المسافر " السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام " لقوله عليه الصلاة والسلام " يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها " عمت الرخصة الجنس ومن ضرورته عموم التقدير وقدر أبو يوسف رحمه الله بيومين وأكثر اليوم الثالث والشافعي بيوم وليلة في قول وكفى بالسنة حجة عليهما " والسير المذكور هو الوسط " وعن أبي حنيفة رحمه الله التقدير بالمراحل وهو قريب من الأول ولا معتبر بالفراسخ هو الصحيح " ولا يعتبر السير في الماء " معناه لا يعتبر به السير في البر فأما المعتبر في البحر فما يليق بحاله كما في الجبل. قال: " وفرض المسافر في الرباعية ركعتان لا يزيد عليهما " وقال الشافعي رحمه الله فرضه الأربع والقصر رخصة اعتبارا بالصوم ولنا أن الشفع الثاني لا يقضى ولا يأثم على تركه وهذا آية النافلة بخلاف الصوم لأنه يقضى " وإن صلى أربعا وقعد في الثانية قدر التشهد أجزأته الأوليان عن الفرض والأخريان له نافلة " اعتبارا بالفجر ويصير مسيئا لتأخير السلام " وإن لم يقعد في الثانية قدرها بطلت " لاختلاط النافلة بها قبل إكمال أركانها " وإذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين " لأن الإقامة تتعلق بدخولها فيتعلق السفر بالخروج عنها وفيه الأثر عن علي رضي الله عنه لو جاوزنا هذا الخص لقصرنا " ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما أو أكثر وإن نوى أقل من ذلك قصر " لأنه لا بد من اعتبار مدة لأن السفر يجامعه اللبث فقدرناها بمدة الطهر لأنهما مدتان موجبتان وهو مأثور عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم والأثر في مثله كالخبر والتقييد بالبلدة والقرية يشير إلى أنه لا تصح نية الإقامة في المفازة وهو الظاهر " ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد ولم ينو مدة الإقامة حتى بقي على ذلك سنين قصر " لأن ابن عمر رضي الله عنه أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك " وإذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها قصروا وكذا إذا حاصروا فيها مدينة أو حصنا " لأن الداخل بين أن يهزم فيقر وبين أن ينهزم فيفر فلم تكن دار إقامة " وكذا إذا حاصروا أهل البغي في دار الإسلام في غير مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أو حاصروهم في البحر " لأن حالهم مبطل عزيمتهم وعند زفر رحمه الله يصح في الوجهين إذا كانت الشوكة لهم للتمكن من القرار ظاهرا وعند أبي يوسف رحمه الله يصح إذا كانوا في بيوت المدر لأنه موضع إقامة " ونية الإقامة من أهل الكلإ وهم أهل الأخبية قيل لا تصح والأصح أنهم مقيمون " يروى ذلك عن أبي يوسف رحمه الله لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى مرعى " وإن اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت أتم أربعا " لأنه يتغبر فرضه إلى أربع للتبعية كما يتغير بنية الإقامة لاتصال المغير بالسبب وهو الوقت " وإن دخل معه في فائتة لم تجزه " لأنه لا يتغير بعد الوقت لانقضاء السبب كما لا يتغير بنية الإقامة فيكون اقتداء المفترض بالمتننفل في حق القعدة أو القراءة " وإن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم وأتم المقيمون صلاتهم " لأن المقتدي التزم الموافقة في الركعتين فينفرد في الباقي كالمسبوق إلا أنه لا يقرأ في الأصح لأنه مقتد تحريمة لا فعلا والفرض صار مؤدى فيتركها احتياطا بخلاف المسبوق لأنه أدرك قراءة نافلة فلم يتأد الفرض فكان الإتيان أولى. قال: " ويستحب للإمام إذا سلم أن يقول أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " لأنه عليه الصلاة والسلام قاله حين صلى بأهل مكة وهو مسافر " وإذا دخل المسافر في مصره أتم الصلاة وإن لم ينو المقام فيه " لأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير عزم جديد " ومن كان له وطن فانتقل عنه واستوطن غيره ثم سافر فدخل وطنه الأول قصر " لأنه لم يبق وطنا له ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة عد نفسه بمكة من المسافرين وهذا لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبطل بمثله دون السفر ووطن الإقامة يبطل بمثله وبالسفر وبالأصلي " وإذا نوى المسافر أن يقيم بمكة ومنى خمسة عشر يوما لم يتم الصلاة " لأن اعتبار النية في موضعين يقتضي اعتبارها في مواضع وهو ممتنع لأن السفر لا يعرى عنه إلا إذا نوى المسافر أن يقيم بالليل في أحدهما فيصير مقيما بدخوله فيه لأن إقامة المرء مضافة إلى مبيته " ومن فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين ومن فاتته في الحضر قضاها في السفر أربعا " لأن القضاء بحسب الأداء والمعتبر في ذلك آخر الوقت لأنه المعتبر في السببية عند عدم الأداء في الوقت " والعاصي والمطيع في سفرهما في الرخصة سواء " وقال الشافعي رحمه الله سفر المعصية لا يفيد الرخصة لأنها تثبت تخفيفا فلا تتعلق بما يوجب التغليظ ولنا إطلاق النصوص ولأن نفس السفر ليس بمعصية وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح بتعلق الرخصة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 باب صلاة الجمعة " لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر ولا تجوز في القرى " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع " والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود وهذا عند أبي يوسف رحمه الله وعنه أنهم إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم والأول اختيار الكرخي وهو الظاهر والثاني اختيار الثلجي والحكم غير مقصور على المصلي بل تجوز في جميع أفنية المصر لأنها بمنزلته في حوائج أهله " وتجوز بمنى إن كان الأمير أمير الحجاز أو كان الخليفة مسافرا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا جمعة بمنى " لأنها من القرى حتى لا يعيد بها ولهما أنها تتمصر في أيام الموسم وعدم التعييد للتخفيف ولا جمعة بعرفات في قولهم جميعا لأنها فضاء وبمنى أبنية والتقييد بالخليفة وأمير الحجاز لأن الولاية لهما أما أمير الموسم فيلي أمور الحج لا غير " ولا يجوز إقامتها إلا للسلطان أو لمن أمره السلطان " لأنها تقام بجمع عظيم وقد تقع المنازعة في التقدم والتقديم وقد تقع في غيره فلا بد منه تتميما لأمره. " ومن شرائطها الوقت فتصح في وقت الظهر ولا تصح بعده " لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة " " ولو خرج الوقت وهو فيها استقبل الظهر ولا يبنيه عليها " لاختلافهما " ومنها الخطبة " لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلاها بدون الخطبة في عمره " وهي قبل الصلاة بعد الزوال " به وردت السنة " ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة " به جرى التوارث " ويخطب قائما على طهارة " لأن القيام فيهما متوارث ثم هي شرط الصلاة فيستحب فيها الطهارة كالأذان " ولو خطب قاعدا أو على غير طهارة جاز " لحصول المقصود إلا أنه يكره لمخالفته التوارث وللفصل بينهما وبين الصلاة " فإن اقتصر على ذكر الله جاز عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة " لأن الخطبة هي الواجبة والتسبيحة أو التحميدة لا تسمى خطبة وقال الشافعي رحمه الله لا تجوز حتى يخطب خطبتين اعتبارا للمتعارف وله قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] من غير فصل وعن عثمان رضي الله عنه أنه قال الحمد لله فأرتج عليه فنزل وصلى. " ومن شرائطها الجماعة " لأن الجمعة مشتقة منها " وأقلهم عند أبي حنيفة رحمه الله ثلاثا سوى الإمام وقالا اثنان سواه " قال رضي الله عنه والأصح أن هذا قول أبي يوسف رحمه الله وحده له أن في المثنى معنى الاجتماع وهي منبئة عنه ولهما أن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 جمع تسمية ومعنى والجماعة شرط على حدة وكذا الإمام فلا يعتبر منهم " وإن نفر الناس قبل أن يركع الإمام ويسجد ولم يبق إلا النساء والصبيان استقبل الظهر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إذا نفروا عنه بعد ما افتتح الصلاة صلى الجمعة فإن نفروا عنه بعد ما ركع ركعة وسجد سجدة بنى على الجمعة " خلافا لزفر رحمه الله هو يقول إنها شرط فلا بد من دوامها كالوقت ولهما أن الجماعة شرط الانعقاد فلا يشترط دوامها كالخطبة ولأبي حنيفة رحمه الله أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامها إليها بخلاف الخطبة فإنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها ولا معتبر ببقاء النسوان وكذا الصبيان لأنه لا تنعقد بهم الجمعة فلا تتم بهم الجماعة " ولا تجب الجمعة على مسافر ولا امرأة ولا مريض ولا عبد ولا أعمى " لأن المسافر يحرج في الحضور وكذا المريض والأعمى والعبد مشغول بخدمة المولى والمرأة بخدمة الزوج فعذروا دفعا للحرج والضرر " فإن حضروا وصلوا مع الناس أجزأهم عن فرض الوقت " لأنهم تحملوه فصاروا كالمسافر إذا صام " ويجوز للمسافر والعبد المريض أن يؤم في الجمعة " وقال زفر رحمه الله لا يجزئه لأنه لا فرض عليه فأشبه الصبي والمرأة ولنا أن هذه رخصة فإذا حضروا يقع فرضا على ما بيناه أما الصبي فمسلوب الأهلية والمرأة لا تصلح لإمامة الرجال وتنعقد بهم الجمعة لأنهم صلحوا للإمامة فيصلحون للاقتداء بطريق الأولى " ومن صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته " وقال زفر رحمه الله لا يجزئه لأن عنده الجمعة هي الفريضة أصالة والظهر كالبدل عنها ولا مصير إلى البدل مع القدرة على الأصل ولنا أن أصل الفرض هو الظهر في حق الكافة هذا هو الظاهر إلا أنه مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة وهذا لأنه متمكن من أداء الظهر بنفسه دون الجمعة لتوقفها على شرائط لا تتم به وحده وعلى التمكن بدور التكليف " فإن بدا له أن يحضرها فتوجه إليها والإمام فيها بطل ظهره عند أبي حنيفة رحمه الله بالسعي وقالا لا يبطل حتى يدخل مع الإمام " لأن السعي دون الظهر فلا ينقضه بعد تمامه والجمعة فوقها فينقضها وصار كما إذا توجه بعد فراغ الإمام وله أن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة فينزل منزلتها في حق ارتفاض الظهر احتياطا بخلاف ما بعد الفراغ منها لأنه ليس بسعي إليها. " ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر وكذا أهل السجن " لما فيه من الإخلال بالجمعة إذ هي جامعة للجماعات والمعذور قد يقتدي به غيره بخلاف أهل السواد لأنه لا جمعة عليهم " ولو صلى قوم أجزأهم " لاستجماع شرائطه " ومن أدرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الإمام يوم الجمعة صلى معه ما أدركه وبنى عليها الجمعة " لقوله عليه الصلاة والسلام " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " " وإن كان أدركه في التشهد أو في سجود السهو بنى عليها الجمعة عندهما وقال محمد رحمه الله إن أدرك معه أكثر الركعة الثانية بنى عليها الجمعة وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر " لأنه جمعة من وجه ظهر من وجه لفوات بعض الشرائط في حقه فيصلي أربعا اعتبارا للظهر ويقعد لا محالة على رأس الركعتين اعتبارا للجمعة ويقرأ في الأخريين لاحتمال النفلية ولهما أنه مدرك للجمعة في هذه الحالة حتى يشترط نية الجمعة وهي ركعتان ولا وجه لما ذكر لأنهما مختلفان فلا يبنى أحدهما على تحريمة الآخر " وإذا خرج الإمام يوم الجمعة ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته " قال رضي الله عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب وإذا نزل قبل أن يكبر لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع ولا استماع هنا بخلاف الصلاة لأنها قد تمتد ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام من غير فصل " ولأن الكلام قد يمتد طبعا فأشبه الصلاة " وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول ترك الناس البيع والشراء وتوجهوا إلى الجمعة " لقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان ولهذا قيل هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع والأصح أن المعتبر هو الأول إذا كان بعد الزوال لحصول الإعلام به والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 باب: صلاة العيدين مدخل ... باب صلاة العيدين قال: " وتجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة الجمعة " وفي الجامع الصغير عيدان اجتمعا في يوم واحد فالأول سنة والثاني فريضة ولا يترك واحد منهما قال وهذا تنصيص على السنة والأول على الوجوب وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وجه الأول مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها ووجه الثاني قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي عقيب سؤاله قال هل علي غيرهن فقال " لا إلا أن تطوع " والأول أصح وتسميته سنة لوجوبه بالسنة " ويستحب في يوم الفطر أن يطعم قبل الخروج إلى المصلى ويغتسل ويستاك ويتطيب " لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم في يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى وكان يغتسل في العيدين ولأنه يوم اجتماع فيسن فيه الغسل والطيب كما في الجمعة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له جبة فنك أو صوف يلبسها في الأعياد " ويؤدي صدقة الفطر " إغناء للفقير ليتفرغ قلبه للصلاة " ويتوجه إلى المصلى ولا يكبر عند أبي حنيفة رحمه الله في طريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المصلى وعندهما يكبر " اعتبارا بالأضحى وله أن الأصل في الثناء الإخفاء والشرع ورد به في الأضحى لأنه يوم تكبير ولا كذلك يوم الفطر " ولا يتنفل في المصلى قبل صلاة العيد " لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك مع حرصه على الصلاة ثم قيل الكراهة في المصلى خاصة وقيل فيه وفي غيره عامة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله " وإذا حلت الصلاة بارتفاع الشمس دخل وقتها إلى الزوال فإذا زالت الشمس خرج وقتها " لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيد والشمس على قيد رمح أو رمحين ولما شهدوا بالهلال بعد الزوال أمر بالخروج إلى المصلى من الغد " ويصلي الإمام بالناس ركعتين يكبر في الأولى للافتتاح وثلاثا بعدها ثم يقرأ الفاتحة وسورة ويكبر تكبيرة يركع بها ثم يبتدئ في الركعة الثانية بالقراءة ثم يكبر ثلاثا بعدها ويكبر رابعة يركع بها " وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه وهو قولنا وقال ابن عباس رضي الله عنه يكبر في الأولى للافتتاح وخمسا بعدها وفي الثانية يكبر خمسا ثم يقرأوفي رواية يكبر أربعا وظهر عمل العامة اليوم بقول ابن عباس رحمه الله لأمر بنيه الخلفاء فأما المذهب فالقول الأول لأن التكبير ورفع الأيدي خلاف المعهود فكان الأخذ بالأقل أولى ثم التكبيرات من أعلام الدين حتى يجهر به فكان الأصل فيه الجمع وفي الركعة الأولى يجب إلحاقها بتكبيرة الافتتاح لقوتها من حيث الفرضية والسبق وفي الثانية لم يوجد إلا تكبيرة الركوع فوجب الضم إليها والشافعي أخذ بقول ابن عباس رضي الله عنه إلا أنه حمل المروي كله على الزوائد فصارت التكبيرات عنده خمس عشرة أو ست عشرة. قال: " ويرفع يديه في تكبيرات العيدين " يريد به ما سوى تكبيرتي الركوع لقوله صلى الله عليه وسلم " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن " وذكر من جملتها تكبيرات الأعياد وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يرفع والحجة عليه ما روينا. قال: " ثم يخطب بعد الصلاة خطبتين " بذلك ورد النقل المستفيض " يعلم الناس فيها صدقة الفطر وأحكامها " لأنها شرعت لأجله " ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام لم يقضها لأن الصلاة بهذه الصفة لم تعرف قربة إلا بشرائط لا تتم بالمنفرد فإن غم الهلال وشهدوا عند الإمام برؤية الهلال بعد الزوال صلى العيد من الغد " لأن هذا تأخير بعذر وقد ورد فيه الحديث " فإن حدث عذر يمنع من الصلاة في اليوم الثاني لم يصلها بعده " لأن الأصل فيها أن لا تقضى كالجمعة إلا أنا تركناه بالحديث وقد ورد بالتأخير إلى اليوم الثاني عند العذر. " ويستحب في يوم الأضحى أن يغتسل ويتطيب " لما ذكرناه " ويؤخر الأكل حتى يفرغ من الصلاة " لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطعم في يوم النحر حتى يرجع فيأكل من أضحيته " ويتوجه إلى المصلى وهو يكبر " لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الطريق " ويصلي ركعتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 نقل " ويخطب بعدها خطبتين " لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل " ويعلم الناس فيها الأضحية وتكبير التشريق " لأنه مشروع الوقت والخطبة ما شرعت إلا لتعليمه " فإن كان عذر يمنع من الصلاة في يوم الأضحى صلاها من الغد وبعد الغد ولا يصليها بعد ذلك " لأن الصلاة مؤقتة بوقت الأضحية فتتقيد بأيامها لكنه مسيء في التأخير من غير عذر لمخالفة المنقول " والتعريف الذي يصنعه الناس ليس بشيء " وهو أن يجتمع الناس يوم عرفة في بعض المواضع تشبيها بالواقفين بعرفة لأن الوقوف عرف عبادة مختصة بمكان مخصوص فلا يكون عبادة دونه كسائر المناسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فصل في تكبيرات التشريق " ويبدأ بتكبير التشريق بعد صلاة الفجر من يوم عرفة ويختم عقيب صلاة العصر من يوم النحر " عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يختم عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق والمسئلة مختلفة بين الصحابة فأخذا بقول علي رضي الله عنه أخذا بالأكثر إذ هو الاحتياط في العبادات وأخذا بقول ابن مسعود أخذا بالأقل لأن الجهر بالتكبير بدعة والتكبير أن يقول مرة واحدة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد هذا هو المأثور عن الخليل صلوات الله عليه " وهو عقيب الصلوات المفروضات على المقيمين في الأمصار في الجماعات المستحبة عند أبي حنيفة رحمه الله وليس على جماعات النساء إذا لم يكن معهن رجل ولا على جماعة المسافرين إذا لم يكن معهم مقيم وقالا هو على كل من صلى المكتوبة " لأنه تبع للمكتوبة وله ما روينا من قبل والتشريق هو التكبير كذا نقل عن الخليل بن أحمد ولأن الجهر بالتكبير خلاف السنة والشرع ورد به عند استجماع هذه الشرائط إلا أنه يجب على النساء إذا اقتدين بالرجال وعلى المسافرين عند اقتدائهم بالمقيم بطريق التبعية. قال يعقوب رحمه الله: صليت بهم المغرب يوم عرفة فسهوت أن أكبر فكبر أبو حنيفة رضي الله عنه دل أن الإمام وإن ترك التكبير لا يتركه المقتدي وهذا لأنه لا يؤدي في حرمة الصلاة فلم يكن الإمام فيه حتما وإنما هو مستحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 باب صلاة الكسوف قال: " إذ اانكسفت الشمس صلى الإمام بالناس ركعتين كهيئة النافلة في كل ركعة ركوع واحد " وقال الشافعي ركوعان له ما روت عائشة رضي الله عنها ولنا رواية ابن عمر رضي الله عنه وألحال أكشف على الرجال لقربهم فكان الترجيح لروايته " ويطول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 القراءة فيهما ويخفى عند أبي حنيفة وقالا يجهر " وعن محمد مثل قول أبي حنيفة. أما التطويل في القراءة فبيان الأفضل ويخفف إن شاء لأن المسنون استيعاب الوقت بالصلاة والدعاء فإذا خفف أحدهما طول الآخر وأما الإخفاء والجهر فلهما رواية عائشة أنه صلى الله عليه وسلم جهر فيها ولأبي حنيفة رواية ابن عباس وسمرة بن جندب رضي الله عنهم والترجيح قد مر من قبل كيف وأنها صلاة النهار وهي عجماء " ويدعو بعدها حتى تنجلي الشمس " لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فارغبوا إلى الله بالدعاء " " والسنة في الأدعية تأخيرها عن الصلاة " ويصلي بهم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة فإن لم يحضر صلى الناس فرادى تحرزا عن الفتنة " وليس في خسوف القمر جماعة " لتعذر الاجتماع في الليل أو لخوف الفتنة وإنما يصلي كل واحد بنفسه لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا رايتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة " " وليس في الكسوف خطبة " لأنه لم ينقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 باب الاستسقاء " قال أبو حنيفة رحمه الله ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة فإن صلى الناس وحدانا جاز وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار " لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى ولم ترو عنه الصلاة " وقالا يصلي الإمام ركعتين " لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كصلاة العيد رواه ابن عباس رضي الله عنه. قلنا فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة وقد ذكر في الأصل قول محمد وحده " ويجهر فيهما بالقراءة " اعتبارا بصلاة العيد " ثم يخطب " لما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب " ثم هي كخطبة العيد عند محمد وعند أبي يوسف خطبة واحدة " ولا خطبة عند أبي حنيفة رحمه الله " لأنها تبع للجماعة ولا جماعة عنده " ويستقبل القبلة بالدعاء " لما روي أنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة وحول رداءه " ويقلب رداءه " لما روينا قال وهذا قول محمد رحمه الله أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يقلب رداءه لأنه دعاء فيعتبر بسائر الأدعية وما رواه كان تفاؤلا " ولا يقلب القوم أرديتهم " لأنه لم ينقل أنه أمرهم بذلك " ولا يحضر أهل الذمة الاستسقاء " لأنه لاستنزال الرحمة وإنما تنزل عليهم اللعنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 باب صلاة الخوف " إذا اشتد الخوف جعل الإمام الناس طائفتين طائفة إلى وجه العدو وطائفة خلفه فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية مضت هذه الطائفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 إلى وجه العدو وجاءت تلك الطائفة فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين وتشهد وسلم ولم يسلموا وذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعة وسجدتين وحدانا بغير قراءة " لأنهم لاحقون " وتشهدوا وسلموا ومضوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الأخرى وصلوا ركعة وسجدتين بقراءة " لأنهم مسبوقون " وتشهدوا وسلموا " والأصل فيه رواية ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الخوف على الصفة التي قلنا وأبو يوسف رحمه الله وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو محجوج عليه بما روينا. قال: " وإن كان الإمام مقيما صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعتين " لما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالطائفتين ركعتين ركعتين " ويصلي بالطائفة الأولى من المغرب ركعتين وبالثانية ركعة واحدة " لأن تنصيف الركعة الواحدة غير ممكن فجعلها في الأولى أولى بحكم السبق " ولا يقاتلون في حال الصلاة فإن فعلوا بطلت صلاتهم " لأنه صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق ولو جاز الأداء مع القتال لما تركها " فإن اشتد الخوف صلوا ركبانا فرادى يومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة " لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] وسقط التوجه للضرورة وعن محمد أنهم يصلون بجماعة وليس بصحيح لانعدام الاتحاد في المكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 باب: الجنائز مدخل ... باب الجنائز " إذ ااحتضر الرجل وجه إلى القبلة على شقه الأيمن " اعتبارا بحال الوضع في القبر لأنه أشرف عليه والمختار في بلادنا الاستلقاء لأنه أيسر لخروج الروح والأول هو السنة " ولقن الشهادتين " لقوله صلى الله عليه وسلم " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله " والمراد الذي قرب من الموت " فإذا مات شد لحياه وغمص عيناه " بذلك جرى التوارث ثم فيه تحسينه فيستحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فصل في الغسل " وإذا أرادوا غسله وضعوه على سرير " لينصب الماء عنه " وجعلوا على عورته خرقة " إقامة لواجب الستر ويكتفى بستر العورة الغليظة هو الصحيح تيسيرا " ونزعوا ثيابه " ليمكنهم التنظيف " ووضئوه من غير مضمضة واستنشاق " لأن الوضوء سنة الاغتسال غير أن إخراج الماء منه متعذر فيتركان " ثم يفيضون الماء عليه " اعتبارا بحال الحياة " ويجمر سريره وترا " لما فيه من تعظيم الميت وإنما يوتر لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله وتر يحب الوتر " " ويغلى الماء بالسدر أو بالحرض " مبالغة في التنظيف " فإن لم يكن فالماء القراح " لحصول أصل المقصود " ويغسل رأسه ولحيته بالخطمي " ليكون أنظف له " ثم يضجع على شقه الأيسر فيغسل بالماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والسدر حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه ثم يضجع على شقه الأيمن فيغسل حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه " لأن السنة هو البداءة بالميامن " ثم يجلسه ويسنده إليه ويمسح بطنه مسحا رفيقا " تحرزا عن تلويث الكفن " فإن خرج منه شيء غسله ولا يعيد غلسه ولا وضوءه " لأن الغسل عرفناه بالنص وقد حصل مرة " ثم ينشفه بثوب " كيلا تبتل أكفانه " ويجعله " أي الميت " في أكفانه ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته والكافور على مسجده " لأن التطيب سنة والمساجد أولى بزيادة الكرامة " ولا يسرح شعر الميت ولا لحيته ولا يقص ظفره ولا شعره " لقول عائشة رضي الله عنها علام تنصون ميتكم ولأن هذه الأشياء للزينة وقد استغنى الميت عنها وفي الحي كان تنظيفا لاجتماع الوسخ تحته وصار كالختان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فصل في التكفين " السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب إزار وقميص ولفافة " لما روي " أنه صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية " ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته فكذا بعد مماته " فإن اقتصروا على ثوبين جاز والثوبان إزار ولفافة " وهذا كفن الكفاية لقول أبي بكر رضي الله عنه اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما ولأنه أدنى لباس الأحياء والإزار من القرن إلى القدم واللفافة كذلك والقميص من أصل العنق إلى القدم " فإذا أرادوا لف الكفن ابتدءوا بجانبه الأيسر فلفوه عليه ثم بالأيمن " كما في حال الحياة وبسطه أن تبسط اللفافة أولا ثم يبسط عليها الإزار ثم يقمص الميت ويضوع على الإزار ثم يعطف الإزار من قبل اليسار ثم من قبل اليمين ثم اللفافة كذلك " وإن خافوا أن ينتشر الكفن عنه عقدوه بخرقة " صيانة عن الكشف " وتكفن المرأة في خمسة أثواب درع وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثدييها " لحديث أم عطية أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى اللواتي غسلن ابنته خمسة أثواب ولأنها تخرج فيها حالة الحياة فكذا بعد الممات ثم هذا بيان كفن السنة " وإن اقتصروا على ثلاثة أثواب جاز " وهي ثوبان وخمار وهو كفن الكفاية " ويكره أقل من ذلك وفي الرجل يكره الاقتصار على ثوب واحد إلا في حالة الضرورة " لأن مصعب بن عمير حين استشهد كفن في ثوب واحد وهذا كفن الضرورة " وتلبس المرأة الدرع أولا ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع ثم الخمار فوق ذلك ثم الإزار تحت اللفافة قال وتجمر الأكفان قبل أن يدرج فيها الميت وترا " لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بإجمار أكفان ابنته وترا والإجمار هو التطييب فإذا فرغوا منه صلوا عليه لأنها فريضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فصل في الصلاة على الميت " وأولى الناس بالصلاة على الميت السلطان إن حضر " لأن في التقدم عليه ازدراء به " فإن لم يحضر فالقاضي " لأنه صاحب ولاية " فإن لم يحضر فيستحب تقديم إمام الحي " لأنه رضيه في حال حياته. قال: " ثم الولي والأولياء على الترتيب المذكور في النكاح فإن صلى غير الولي والسلطان أعاد الولي " يعني إن شاء لما ذكرنا أن الحق للأولياء " وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يصلي بعده " لأن الفرض يتأدى بالأولى والتنفل بها غير مشروع ولهذا رأينا الناس تركوا عن آخرهم الصلاة على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وهو اليوم كما وضع " وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلى على قبره " لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على قبر امرأة من الأنصار " ويصلى عليه قبل أن يفسخ " والمعتبر في معرفة ذلك أكبر الرأي هو الصحيح لاختلاف الحال والزمان والمكان " والصلاة أن يكبر تكبيرة يحمد الله عقيبها ثم يكبر تكبيرة يصلي فيها على النبي عليه الصلاة والسلام ثم يكبر تكبيرة يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين ثم يكبر الرابعة ويسلم " لأنه عليه الصلاة والسلام كبر أربعا في آخر صلاة صلاها فنسخت ما قبلها " ولو كبر الإمام خمسا لم يتابعه المؤتم " خلافا لزفر لأنه منسوخ لما روينا وينتظر تسليمة الإمام في رواية وهو المختار والإتيان بالدعوات استغفار للميت والبداءة بالثناء ثم بالصلاة سنة الدعاء ولا يستغفر للصبي ولكن يقول اللهم اجعله لنا فرطا واجعله لنا أجرا وذخرا واجعله لنا شافعا مشفعا " ولو كبر الإمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر أخرى بعد حضوره " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف يكبر حين يحضر لأن الأولى للافتتاح والمسبوق يأتي به ولهما أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة والمسبوق لا يبتدئ بما فاته إذ هو منسوخ ولو كان حاضرا فلم يكبر مع الإمام لا ينتظر الثانية بالاتفاق لأنه بمنزلة المدرك. قال: " ويقوم الذي يصلي على الرجل والمرأة بحذاء الصدر " لأنه موضع القلب وفيه نور الإيمان فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإيمانه وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها لأن أنسا رضي الله عنه فعل كذلك وقال هو السنة قلنا تأويله أن جنازتها لم تكن منعوشة فحال بينها وبينهم " فإن صلوا على جنازة ركبانا أجزأهم في القياس " لأنها دعاء وفي الاستحسان لا تجزئهم لأنها صلاة من وجه لوجود التحريمة فلا يجوز تركه من غير عذر احتياطا " ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 لأن التقدم حق الولي فيملك إبطاله بتقديم غيره وفي بعض النسخ لا بأس بالأذان أي الإعلام وهو أن يعلم بعضهم بعضا ليقضوا حقه " ولا يصلي على ميت في مسجد جماعة " لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من صلى على جنازة في المسجد فلا أجر له " ولأنه بنى لأداء المكتوبات ولأنه يحتمل تلويث المسجد وفيما إذا كان الميت خارج المسجد اختلاف المشايخ رحمهم الله " ومن استهل بعد الولادة سمى وغسل وصلي عليه " لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا استهل المولود صلي عليه وإن لم يستهل لم يصل عليه " ولأن الاستهلال دلالة الحياة فتحقق في حقه سنة الموتى " وإن لم يستهل أدرج في خرقة " كرامة لبني آدم " ولم يصل عليه " لما روينا. ويغسل في غير الظاهر من الرواية لأنه نفس من وجه وهو المختار " وإذا سبي صبي مع أحد أبويه ومات لم يصل عليه " لأنه تبع لهما " إلا أن يقر بالإسلام وهو يعقل " لأنه صح إسلامه استحسانا " أو يسلم أحد أبويه " لأنه يتبع خير الأبوين دينا "وإن لم يسب معه أحد أبويه صلي عليه " لأنه ظهرت تبعية الدار فحكم بالإسلام كما في اللقيط " وإذا مات الكافر وله ولي مسلم فإنه يغسله ويكفنه ويدفنه " بذلك أمر علي رضي الله عنه في حق أبيه أبي طالب لكن يغسل غسل الثوب النجس ويلف في خرقة وتحفر حفيرة من غير مراعاة سنة التكفين واللحد ولا يوضع فيها بل يلقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فصل في حمل الجنازة " وإذا حملوا الميت على سريره أخذوا بقوائمه الأربع " بذلك وردت السنة وفيه تكثير الجماعة وزيادة الإكرام والصيانة وقال الشافعي السنة أن يحملها رجلان يضعها السابق على أصل عنقه والثاني على أعلى صدره لأن جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه هكذا حملت قلنا كان ذلك لازدحام الملائكة عليه " ويمشون به مسرعين دون الخبب " لأنه صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه قال " ما دون الخبب " " وإذا بلغوا إلى قبره يكره أن يجلسوا قبل أن يوضع عن أعناق الرجال " لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون والقيام أمكن منه. قال: وكيفية الحمل أن تضع مقدم الجنازة على يمينك ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك ثم مؤخرها على يسارك إيثارا للتيامن وهذا في حالة التناوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فصل في الدفن " ويحفر القبر ويلحد " لقوله عليه الصلاة والسلام " اللحد لنا والشق لغيرنا " " ويدخل الميت مما يلي القبلة " خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده يسل سلا لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سل سلا ولنا أن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال منه واضطربت الروايات في إدخال النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 عليه الصلاة والسلام " فإذا وضع في لحده يقول واضعه باسم الله وعلى ملة رسول الله " كذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضع أبا دجانة رضي الله عنه في القبر " ويوجه إلى القبلة " بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " وتحل العقدة " لوقوع الأمن من الانتشار " ويسوى اللبن على اللحد " لأنه عليه الصلاة والسلام جعل على قبره اللبن " ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد ولا يسجى قبر الرجل " لأن مبنى حالهن على الستر ومبنى حال الرجال على الانكشاف " ويكره الآجر والخشب " لأنهما لأحكام البناء والقبر موضع البلى ثم بالآجر أثر الناو فيكره تفاؤلا " ولا بأس بالقصب ". وفي الجامع الصغير: ويستحب اللبن والقصب لأنه صلى الله عليه وسلم جعل على قبره طن من قصب " ثم يهال التراب ويسنم القبر ولا يسطح " أي لا يربع لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تربيع القبور ومن شاهد قبره عليه الصلاة والسلام أخبر أنه مسنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 باب الشهيد " الشهيد من قتله المشركون أو وجد في المعركة وبه أثر أو قتله المسلمون ظلما ولم يجب بقتله دية فيكفن ويصلى عليه ولا يغسل " لأنه في معنى شهداء أحد وقال صلى الله عليه وسلم فيهم " زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم " فكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم فيلحق بهم والمراد بالأثر الجراحة لأنها دلالة القتل وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها والشافعي رحمه الله يخالفنا في الصلاة ويقول السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة ونحن نقول الصلاة على الميت لإظهار كرامته والشهيد أولى بها والطاهر عن الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي والصبي " ومن قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق فبأي شيء قتلوه لم يغسل " لأن شهداء أحد ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح " وإذا استشهد الجنب غسل عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا لا يغسل لأن ما وجب بالجنابة سقط بالموت والثاني لم يجب للشهادة ولأبي حنيفة رحمه الله أن الشهادة عرفت مانعة غير رافعة فلا ترفع الجنابة وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة وعلى هذا الخلاف الحائض والنفساء إذا طهرتا وكذا قبل الانقطاع في الصحيح من الرواية وعلى هذا الخلاف الصبي لهما أن الصبي أحق بهذه الكرامة وله أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة ولا ذنب على الصبي فلم يكن في معناهم " ولا يغسل عن الشهيد دمه ولا ينزع عنه ثيابه " لما روينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 " وينزع عنه الفرو والحشو والقلنسوة والسلاح والخف " لأنها ليست من جنس الكفن " ويزيدون وينقصون ما شاءوا " إتماما للكفن. قال: " ومن ارتث غسل " وهو من صار خلقا في حكم الشهادة لنيل مرافق الحياة لأن ذلك يخف أثر الظلم فلم يكن في معنى شهداء أحد " والارتثاث أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يداوى أو ينقل من المعركة حيا " لأنه نال بعض مرافق الحياة وشهداء أحد ماتوا عطشا والكأس تدار عليهم فلم يقبلوا خوفا من نقصان الشهادة إلا إذا حمل من مصرعه كيلا تطأه الخيول لأنه ما نال شيئا من الراحة ولو آواه فسطاط أو خيمة كان مرتثا لما بينا " ولو بقي حيا حتى مضى وقت صلاة وهو يعقل فهو مرتث " لأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمته وهو من أحكام الأحياء قال وهذا مروي عن أبي يوسف رحمه الله ولو أوصي بشيء من أمور الآخرة كان ارتثاثا عند أبي يوسف رحمه الله لأنه ارتفاق وعند محمد رحمه الله لا يكون لأنه من أحكام الأموات " ومن وجد قتيلا في المصر غسل " لأن الواجب فيه القسامة والدية فخف أثر الظلم " إلا إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما " لأن الواجب فيه القصاص وهو عقوبة والقاتل لا يتخلص عنها ظاهرا إما في الدنيا وإما في العقبى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ما لا يلبث بمنزلة السيف ويعرف في الجنايات إن شاء الله تعالى " ومن قتل في حد أو قصاص غسل وصلى عليه " لأنه باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه وشهداء أحد بذلوا أنفسهم لابتغاء مرضاة الله تعالى فلا يلحق بهم " ومن قتل من البغاة أو قطاع الطريق لم يصل عليه " لأن عليا رضي الله عنه لم يصل على البغاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 باب الصلاة في الكعبة " الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها " خلافا للشافعي رحمه الله فيهما ولمالك في الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة يوم الفتح ولأنها صلاة استجمعت شرائطها لوجود استقبال القبلة لأن استيعابها ليس بشرط " فان صلى الإمام بجماعة فيها فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام جاز " لأنه متوجه إلى القبلة ولا يعتقد إمامه على الخطأ بخلاف مسئلة التحري " ومن جعل منهم ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته " لتقدمه على إمامه " وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام فتحلق الناس حول الكعبة وصلوا بصلاة الإمام فمن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام " لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب " ومن صلى على ظهر الكعبة جازت صلاته " خلافا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 للشافعي رحمه الله لأن الكعبة هي العرصة والهواء إلى عنان السماء عندنا دون البناء لأنه ينقل ألا ترى أنه لو صلى على جبل أبي قبيس جاز ولا بناء بين يديه إلا أنه يكره لما فيه من ترك التعظيم وقد ورد النهي عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كتاب الزكاة التكليف ... كتاب الزكاة " الزكاة واجبة على الحر العاقل البالغ المسلم إذا ملك نصابا ملكا تاما وحال عليه الحول " أما الوجوب فلقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ولقوله صلى الله عليه وسلم " أدوا زكاة أموالكم " وعليه إجماع الأمة. والمراد بالواجب الفرض لأنه لا شبهة فيه واشتراط الحرية لأن كمال الملك بها والعقل والبلوغ لما نذكره والإسلام لأن الزكاة عبادة ولا تتحقق العبادة من الكافر ولا بد من ملك مقدار النصاب لأنه صلى الله عليه وسلم قدر السبب به ولا بد من الحول لأنه لا بد من مدة يتحقق فيها النماء وقدرها الشرع بالحول لقوله صلى الله عليه وسلم " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " ولأنه المتمكن به من الاستنماء لاشتماله على الفصول المختلفة والغالب تفاوت الأسعار فيها فأدير الحكم عليه ثم قيل هي واجبة على الفور لأنه مقتضى مطلق الأمر وقيل على التراخي لأن جميع العمر وقت الأداء ولهذا لا تضمن بهلاك النصاب بعد التفريط " وليس على الصبي والمجنون زكاة " خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول هي غرامة مالية فتعتبر بسائر المؤن كنفقة الزوجات وصار كالعشر والخراج. ولنا أنها عبادة فلا تتأدى إلا بالاختيار تحقيقا لمعنى الابتلاء ولا اختيار لهما لعدم العقل بخلاف الخراج لأنه مؤنة الأرض وكذلك الغالب في العشر معنى المؤنة ومعنى العبادة تابع ولو أفاق في بعض السنة فهو بمنزلة إفاقته في بعض الشهر في الصوم وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر أكثر الحول ولا فرق بين الأصلي والعارض وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا بلغ مجنونا يعتبر الحول من وقت الإفاقة بمنزلة الصبي إذا بلغ " وليس على المكاتب زكاة " لأنه ليس بمالك من كل وجه لوجود المنافي وهو الرق ولهذا لم يكن من أهل أن يعتق عبده " ومن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه " وقال الشافعي رحمه الله تجب لتحقق السبب وهو ملك نصاب تام ولنا أنه مشغول بحاجته الأصلية فاعتبر معدوما كظماء المستحق بالعطش وثياب البذلة والمهنة " وإن كان ماله أكثر من دينه زكى الفاضل إذا بلغ نصابا " لفراغه عن الحاجة والمراد به دين له مطالب من جهة العباد حتى لا يمنع دين النذر والكفارة ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب لأنه ينتقص به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 النصاب، وكذا بعد الاستهلاك خلافا لزفر فيهما ولأبي يوسف رحمه الله في الثاني على ما روى عنه لأن له مطالبا وهو الإمام في السوائم ونائبه في أموال التجارة فإن الملاك نوابه " وليس في دور السكنى وثياب البدن وأثاث المنازل ودواب الركوب وعبيد الخدمة وسلاح الاستعمال زكاة " لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية وليست بنامية أيضا وعلى هذا كتب العلم لأهلها وآلات المحترفين لما قلنا " ومن له على آخر دين فجحده سنين ثم قامت له به بينة لم يزكه لما مضى " معناه صارت له بينة بأن أقر عند الناس وهي مسئلة مال الضمار وفيه خلاف زفر والشافعي رحمهما الله ومن جملته المال المفقود والآبق والضال والمغصوب إذا لم يكن عليه بينة والمال الساقط في البحر والمدفون في المفازة إذا نسي مكانه والذي أخذه السلطان مصادرة ووجوب صدقة الفطر بسبب الآبق والضال والمغصوب على هذا الخلاف لهما أن السبب قد تحقق وفوات اليد غير مخل بالوجوب كمال ابن السبيل ولنا قول علي رضي الله عنه لا زكاة في مال الضمار ولأن السبب هو المال النامي ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف ولا قدرة عليه وابن السبيل يقدر بنائبه والمدفون في البيت نصاب لتيسر الوصول إليه وفي المدفون في أرض أو كرم اختلاف المشايخ ولو كان الدين على مقر مليء أو معسر تجب الزكاة لإمكان الوصول إليه ابتداء أو بواسطة التحصيل وكذا لو كان على جاحد وعليه بينة أو علم به القاضي لما قلنا ولو كان على مقر مفلس فهو نصاب عند أبي حنيفة رحمه الله لأن تفليس القاضي لا يصح عنده وعند محمد لا تجب لتحقق الإفلاس عنده بالتفليس وأبو يوسف مع محمد في تحقق الإفلاس ومع أبي حنيفة رحمه الله في حكم الزكاة رعاية لجانب الفقراء " ومن اشترى جارية للتجارة ونواها للخدمة بطلت عنها الزكاة " لاتصال النية بالعمل وهو ترك التجارة " وإن نواها للتجارة بعد ذلك لم تكن للتجارة حتى يبيعها فيكون في ثمنها زكاة " لأن النية لم تتصل بالعمل إذ هو لم يتجر فلم تعتبر ولهذا يصير المسافر مقيما بمجرد النية ولا يصير المقيم مسافرا إلا بالسفر " وإن اشترى شيئا ونواه للتجارة كان للتجارة لاتصال النية بالعمل بخلاف ما إذا ورث ونوى التجارة " لأنه لا عمل منه ولو ملكه بالهبة أو بالوصية أو النكاح أو الخلع أو الصلح عن القود ونواه للتجارة كان للتجارة عند أبي يوسف رحمه الله لاقترانها بالعمل وعند محمد لا يصير للتجارة لأنها لم تقارن عمل التجارة وقيل الاختلاف على عكسه " ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء أو مقارنة لعزل مقدار الواجب " لأن الزكاة عبادة فكان من شرطها النية والأصل فيها الاقتران إلا أن الدفع يتفرق فاكتفى بوجودها حالة العزل تيسيرا كتقديم النية في الصوم " ومن تصدق بجميع ماله لا ينوي الزكاة سقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فرضها عنه استحسانا " لأن الواجب جزء منه فكان متعينا فيه فلا حاجة إلى التعيين " ولو أدى بعض النصاب سقط زكاة المؤدى عند محمد رحمه الله لأن الواجب شائع في الكل وعند أبي يوسف رحمه الله " لا تسقط لأن البعض غير متعين لكون الباقي محلا للواجب بخلاف الأول والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 باب صدقة السوائم فصل في الإبل قال رضي الله عنه " ليس في أقل من خمس ذود صدقة فإذا بلغت خمسا سائمة وحال عليها الحول ففيها شاة إلى تسع فإذا كانت عشرا ففيها شاتان إلى أربع عشرة فإذا كانت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه إلى تسع عشرة فإذا كانت عشرين ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض " وهي التي طعنت في الثانية " إلى خمس وثلاثين فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون " وهي التي طعنت في الثالثة " إلى خمس وأربعين فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة " وهي التي طعنت في الرابعة " إلى ستين فإذا كانت إحدى وستين ففيها جذعة " وهي التي طعنت في الخامسة " إلى خمس وسبعين فإذا كانت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى مائة وعشرين " بهذا اشتهرت كتب الصدقات من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم " إذا زادت على مائة وعشرين " تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة مع الحقتين وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى مائة وخمس فيكون فيها ثلاث حقاق ثم تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض وفي ست وثلاثين بنت لبون فإذا بلغت مائة وستا وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين ثم تستأنف الفريضة أبدا كما تستأنف في الخمسين التي بعد المائة والخمسين " وهذا عندنا. وقال الشافعي رضي الله عنه إذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون ثم يدار الحساب على الأربعينات والخمسينات فتجب في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كتب " إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون من غير شرط عود ما دونها " ولنا أنه عليه الصلاة والسلام كتب في آخر ذلك في كتاب عمرو بن حزم فما كان أقل من ذلك ففي كل خمس ذود شاة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فنعمل بالزيادة والبخت والعراب سواء في وجوب الزكاة لأن مطلق الاسم يتناولهما والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فصل في البقر " ليس في أقل من ثلاثين من البقر السائمة صدقة فإذا كانت ثلاثين سائمة وحال عليها الحول ففيها تبيع أو تبيعة " وهي التي طعنت في الثانية " وفي أربعين مسن أو مسنة " وهي التي طعنت في الثالثة بهذا أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام معاذا رضي الله عنه " فإذا زادت على أربعين وجب في الزيادة يقدر ذلك إلى ستين " عند أبي حنيفة رحمه الله ففي الواحدة الزائدة ربع عشر مسنة وفي الاثنين نصف عشر مسنة وفي الثلاثة ثلاثة أرباع عشر مسنة وهذه رواية الأصل لأن العفو ثبت نصا بخلاف القياس ولا نص هنا. وروى الحسن عنه أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين ثم فيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن مبنى هذا النصاب على أن يكون بين كل عقدين وقص وفي كل عقد واجب. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه " لا تأخذ من أوقاص البقر شيئا " وفسروه بما بين أربعين إلى ستين قلنا قد قيل إن المراد منها هنا الصغار " ثم في الستين تبيعان أو تبيعتان وفي سبعين مسنة وتبيع وفي ثمانين مسنتان وفي تسعين ثلاثة أتبعة وفي المائة تبيعان ومسنة وعلى هذا يتغير الفرض في كل عشر من تبيع إلى مسنة ومن مسنة إلى تبيع " لقوله عليه الصلاة والسلام " في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسن أو مسنة " " والجواميس والبقر سواء " لأن اسم البقر يتناولهما إذ هو نوع منه إلا أن أوهام الناس لا تسبق إليه في ديارنا لقلته فلذلك لا يحنث به في يمينه لا يأكل لحم بقر والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فصل في الغنم " ليس في أقل من أربعين من الغنم السائمة صدقة فإذا كانت أربعين سائمة وحال عليها الحول ففيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه فإذا بلغت أربعمائة ففيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة شاة " هكذا ورد البيان في كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وفي كتاب أبي بكر رضي الله عنه وعليه انعقد الإجماع " والضأن والمعز سواء " لأن لفظة الغنم شاملة للكل والنص ورد به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ويؤخذ الثنى في زكاتها ولا يؤخذ الجذع من الضأن إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله والثنى منها ما تمت له سنة والجذع ما أتى عليه أكثرها وعن أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما إنه يؤخذ الجذع لقوله عليه الصلاة والسلام " إنما حقنا الجذع والثنى " ولأنه يتأدى به الأضحية فكذا الزكاة وجه الظاهر حديث علي رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا " لا يؤخذ في الزكاة إلا الثنى فصاعدا " ولأن الواجب هو الوسط وهذا من الصغار ولهذا لا يجوز فيها الجذع من المعز وجواز التضحية به عرف نصا والمراد بما روي الجذعة من الابل " ويؤخذ في زكاة الغنم الذكور والإناث " لأن اسم الشاة ينتظمهما وقد قال عليه الصلاة والسلام " في أربعين شاة شاة " والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فصل في الخيل " إذا كانت الخيل سائمة ذكورا وإناثا فصاحبها بالخيار إن شاء أعطى عن كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر رحمه الله وقالا لا زكاة في الخيل لقوله عليه الصلاة والسلام " ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة " وله قوله عليه الصلاة والسلام " في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم " وتأويل ما روياه فرس الغازي وهو المنقول عن زيد بن ثابت رضي الله عنه والتخيير بين الدينار والتقويم مأثور عن عمر رضي الله عنه " وليس في ذكورها منفردة زكاة " لأنها لا تتناسل " وكذا في الإناث المنفردات في رواية " وعنه الوجوب فيها لأنها تتناسل بالفحل المستعار بخلاف الذكور وعنه أنها تجب في الذكور المنفردة أيضا " ولا شيء في البغال والحمير " لقوله عليه الصلاة والسلام " لم ينزل علي فيهما شيء " والمقادير تثبت سماعا " إلا أن تكون للتجارة " لأن الزكاة حينئذ تتعلق بالمالية كسائر أموال التجارة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فصل " وليس في الفصلان والحملان والعجاجيل صدقة " عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكون معها كبار وهذا آخر أقواله وهو قول محمد رحمه الله. وكان يقول أولا يجب فيها ما يجب في المسان وهو قول زفر ومالك رحمهما الله ثم رجع وقال فيها واحدة منها وهو قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله. وجه قوله الأول: أن الاسم المذكور في الخطاب ينتظم الصغار والكبار ووجه الثاني تحقيق النظر من الجانبين كما يجب في المهازيل واحد منها ووجه الأخير أن المقادير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لا يدخلها القياس فإذا امتنع إيجاب ما ورد به الشرع امتنع أصلا وإذا كان فيها واحد من المسان جعل الكل تبعا له في انعقادها نصابا دون تأدية الزكاة ثم عند أبي يوسف رحمه الله لا يجب فيما دون الأربعين من الحملان وفيما دون الثلاثين من العجاجيل شيء ويجب في خمس وعشرين من الفصلان واحد ثم لا يجب شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان يثنى الواجب ثم لا يجب شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان يثلث الواجب ولا يجب فيما دون خمس وعشرين في الرواية وعنه أنه يجب في الخمس خمس فصيل وفي العشر خمسا فصيل على هذا الاعتبار وعنه أنه ينظر إلى قيمة خمس فصيل وسط وإلى قيمة شاة في الخمس فيجب أقلهما وفي العشر إلى قيمة شاتين وإلى قيمة خمسي فصيل على هذا الاعتبار. قال: " ومن وجب عليه سن فلم توجد أخذ المصدق أعلى منها ورد الفضل أو أخذ دونها وأخذ الفضل " وهذا يبتني على أن أخذ القيمة في باب الزكاة جائز عندنا على ما نذكره إن شاء الله تعالى إلا أن في الوجه الأول له أن لا يأخذ ويطالب بعين الواجب أو بقيمته لأنه شراء وفي الوجه الثاني يجبر لأنه لا بيع فيه بل هو إعطاء بالقيمة " ويجوز دفع القيم في الزكاة " عندنا وكذا في الكفارات وصدقة الفطر والعشر والنذر. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز اتباعا للمنصوص كما في الهدايا والضحايا ولنا أن الأمر بالأداء إلى الفقير إيصال الرزق الموعود إليه فيكون إبطالا لقيد الشاة فصار كالجزية بخلاف الهدايا لأن القربة فيها إراقة لدم وهو لا يعقل ووجه القربة في المتنازع فيه سد خلة المحتاج وهو معقول " وليس في العوامل والحوامل والعلوفة صدقة " خلافا لمالك رحمه الله له ظواهر النصوص ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس في الحوامل والعوامل ولا في البقرة المثيرة صدقة " ولأن السبب هو المال النامي ودليله الإسامة أو الإعداد للتجارة ولم يوجد ولأن في العلوفة تتراكم المؤنة فينعدم النماء معنى ثم السائمة هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول حتى لو علفها نصف الحول أو أكثر كانت علوفة لأن القليل تابع للأكثر " ولا يأخذ المصدق خيار المال ولا رذالته ويأخذ الوسط " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تأخذوا من حزرات أموال الناس أي كرائمها وخذوا من حواشي أموالهم " أي أوساطها ولأن فيه نظرا من الجانبين. قال: " ومن كان له نصاب فاستفاد في أثناء الحول من جنسه ضمه إليه وزكاه به " وقال الشافعي رحمه الله لا يضم لأنه أصل في حق الملك فكذا في وظيفته بخلاف الأولاد والأرباح لأنها تابعة في الملك حتى ملكت بملك الأصل ولنا أن المجانسة هي العلة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الأولاد والأرباح لأن عندها يتعسر الميز فيعسر اعتبار الحول لكل مستفاد وما شرط الحول إلا للتيسير. قال: " والزكاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في النصاب دون العفو " وقال محمد وزفر رحمهما الله فيهما حتى لو هلك العفو وبقي النصاب بقي كل الواجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد وزفر يسقط بقدره لمحمد وزفر رحمهما الله أن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال والكل نعمة ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " وفي خمس من الإبل السائمة شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرا " وهكذا قال في كل نصاب ونفى الوجوب عن العفو لأن العفو تبع للنصاب فيصرف الهلاك أولا إلى التبع كالربح في مال المضاربة ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله يصرف الهلاك بعد العفو إلى النصاب الأخير ثم إلى الذي يليه إلى أن ينتهي لأن الأصل هو النصاب الأول وما زاد عليه تابع وعند أبي يوسف رحمه الله يصرف إلى العفو أولا ثم إلى النصاب شائعا " وإذا أخذ الخوارج الخراج وصدقة السوائم لا يثنى عليهم " لأن الإمام لم يحمهم والجناية بالحماية وأفتوا بأن يعيدوها دون الخراج فيما بينهم وبين الله تعالى لأنهم مصارف الخراج لكونهم مقاتلة والزكاة مصرفها الفقراء فلا يصرفونها إليهم وقيل إذا نوى بالدفع التصدق عليهم سقط عنه وكذا ما دفع إلى كل جائر لأنهم بما عليهم من التبعات فقراء والأول أحوط " وليس على الصبي من بني تغلب في سائمته شيء وعلى المرأة منهم ما على الرجل " لأن الصلح قد جرى على ضعف ما يؤخذ من المسلمين ويؤخذ من نساء المسلمين دون صبيانهم " وإن هلك المال بعد وجوب الزكاة سقطت الزكاة ". وقال الشافعي رحمه الله: يضمن إذا هلك بعد التمكن من الأداء لأنه الواجب في الذمة فصار كصدقة الفطر ولأنه منعه بعد الطلب فصار كالاستهلاك ولنا أن الواجب جزء من النصاب تحقيقا للتيسير فيسقط بهلاك محله كدفع العبد الجاني بالجناية يسقط بهلاكه والمستحق فقير يعينه المالك ولم يتحقق منه الطلب وبعد طلب الساعي قيل يضمن وقيل لا يضمن لانعدام التفويت وفي الاستهلاك وجد التعدي وفي هلاك البعض يسقط بقدره اعتبارا له بالكل " وإن قدم الزكاة على الحول وهو مالك للنصاب جاز " لأنه أدى بعد سبب الوجوب فيجوز كما إذا كفر بعد الجرح وفيه خلاف مالك رحمه الله " ويجوز التعجيل لأكثر من سنة " لوجود السبب ويجوز لنصب إذا كان في ملكه نصاب واحد خلافا لزفر رحمه الله لأن النصاب الأول هو الأصل في السببية والزائد عليه تابع له والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 باب زكاة المال فصل في الفضة " ليس فيما دون مائتي درهم صدقة " لقوله عليه الصلاة والسلام " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " والأوقية أربعون درهما " فإذا كانت مائتين وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم " لأنه عليه الصلاة والسلام كتب إلى معاذ رضي الله عنه " أن خذ من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين مثقالا من ذهب نصف مثقال ". قال: " ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما فيكون فيها درهم ثم في كل أربعين درهما درهم " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ما زاد على المائتين فزكاته بحسابه وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه " وما زاد على المائتين فبحسابه " ولأن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال واشتراط النصاب في الابتداء لتحقق الغنى وبعد النصاب في السوائم تحرزا عن التشقيص ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة السلام في حديث معاذ رضي الله عنه " لا تأخذ من الكسور شيئا " وقوله في حديث عمرو بن حزم " وليس فيما دون الأربعين صدقة " ولأن الحرج مدفوع في إيجاب الكسور ذلك لتعذر الوقوف والمعتبر في الدراهم وزن سبعة وهو أن تكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل بذلك جرى التقدير في ديوان عمر رضي الله عنه واستقر الأمر عليه " وإذا كان الغالب على الورق الفضة فهو في حكم الفضة وإذا كان الغالب عليها الغش فهو في حكم العروض يعتبر أن تبلغ قيمته نصابا " لأن الدراهم لا تخلو عن قليل غش لأنها لا تنطبع إلا به وتخلو عن الكثير فجعلنا الغلبة فاصلة وهو أن يزيد على النصف اعتبارا للحقيقة وسنذكره في الصرف إن شاء الله تعالى إلا أن في غالب الغش لا بد من نية التجارة كما في سائر العروض إلا إذا كان تخلص منها فضة تبلغ نصابا لأنه لا يعتبر في عين الفضة القيمة ولا نية التجارة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فصل في الذهب " ليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب صدقة فإذا كانت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال " لما روينا. والمثقال ما يكون كل سبعة منها وزن عشرة دراهم وهو المعروف " ثم في كل أربعة مثاقيل قيراطان " لأن الواجب ربع العشر وذلك فيما قلنا إذ كل مثقال عشرون قيراطا " وليس فيما دون أربعة مثاقيل صدقة " عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما تجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بحساب ذلك وهي مسألة الكسور وكل دينار عشرة دراهم في الشرع فيكون أربعة مثاقيل في هذا كأربعين درهما. قال: " وفي تبر الذهب والفضة وحليهما وأوانيهما الزكاة " وقال الشافعي رحمه الله لا تجب في حلي النساء وخاتم الفضة للرجال لأنه مبتذل في مباح فشابه ثياب البذلة ولنا أن السبب مال نام ودليل النماء موجود وهو الإعداد للتجارة خلقة والدليل هو المعتبر بخلاف الثياب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فصل في العروض " الزكاة واجبة في عروض التجارة كائنة ما كانت إذا بلغت قيمتها نصابا من الورق أو الذهب " لقوله عليه الصلاة والسلام فيها " يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة دراهم " ولأنها معدة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع وتشترط نية التجارة ليثبت الإعداد. ثم قال: " يقومها بما هو أنفع للمساكين " احتياطا لحق الفقراء قال رضي الله عنه وهذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وفي الأصل خيره لأن الثمنين في تقدير قيم الأشياء بهما سواء وتفسير الأنفع أن يقومها بما يبلغ نصابا. وعن أبي يوسف أنه يقومها بما اشترى إن كان الثمن من النقود لأنه أبلغ في معرفة المالية وإن اشتراها بغير النقود قومها بالنقد الغالب. وعن محمد رحمه الله أنه يقومها النقد الغالب على كل حال كما في المغصوب والمستهلك " وإذا كان النصاب كاملا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة " لأنه يشق اعتبار الكمال في أثنائه أما لا بد منه في ابتدائه للانعقاد وتحقق الغنى وفي انتهائه للوجوب ولا كذلك فيما بين ذلك لأنه حالة البقاء بخلاف ما لو هلك الكل حيث يبطل حكم الحول ولا تجب الزكاة لانعدام النصاب في الجملة ولا كذلك في المسألة الأولى لأن بعض النصاب باق فيبقى الانعقاد. قال: " وتضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب " لأن الوجوب في الكل باعتبار التجارة وإن افترقت جهة الإعداد " ويضم الذهب إلى الفضة " للمجانسة من حيث الثمنية ومن هذا الوجه صار سببا ثم يضم بالقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما بالأجزاء وهو رواية عنه حتى إن من كان له مائة درهم وخمسة مثاقيل ذهب تبلغ قيمتها مائة درهم فعليه الزكاة عنده خلافا لهما هما يقولان المعتبر فيهما القدر دون القيمة حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 لا تجب الزكاة في مصوغ وزنه أقل من مائتين وقيمته فوقها وهو يقول إن الضم للمجانسة وهي تتحقق باعتبار القيمة دون الصورة فيضم بها والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 باب فيمن يمر على العاشر " إذا مر على العاشر بمال فقال أصبته منذ أشهر أو علي دين وحلف صدق " والعاشر من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار فمن أنكر منهم تمام الحول أو الفراغ من الدين كان منكرا للوجوب والقول قول المنكر مع اليمين " وكذا إذا قال أديتها إلى عاشر آخر " ومراده إذا كان في تلك السنة عاشر آخر لأنه ادعى وضع الأمانة موضعها بخلاف ما إذا لم يكن عاشر آخر في تلك السنة لأنه ظهر كذبه بيقين " وكذا إذا قال أديتها أنا " يعني إلى الفقراء في المصر لأن الأداء كان مفوضا إليه فيه وولاية الأخذ بالمرور لدخوله تحت الحماية وكذا الجواب في صدقة السوائم في ثلاثة فصول. وفي الفصل الرابع: وهو ما إذا قال أديت بنفسي إلى الفقراء في المصر لا يصدق وإن حلف وقال الشافعي رضي الله عنه يصدق لأنه أوصل الحق إلى المستحق ولنا أن حق الأخذ للسلطان فلا يملك إبطاله بخلاف الأموال الباطنة ثم قيل الزكاة هو الأول والثاني سياسة وقيل هو الثاني والأول ينقلب نفلا وهو الصحيح ثم فيما يصدق في السوائم وأموال التجارة لم يشترط إخراج البراءة في الجامع الصغير وشرطه في الأصل وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه ادعى ولصدق دعواه علامة فيجب إبرازها وجه الأول أن الخط يشبه الخط فلا يعتبر علامة. قال: " وما صدق فيه المسلم صدق فيه الذمي " لأن ما يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلم فتراعى تلك الشرائط تحقيقا للتضعيف " ولا يصدق الحربي إلا في الجواري يقول هن أمهات أولادي أو غلمان معه يقول هم أولادي " لأن الأخذ منه بطريق الحماية وما في يده من المال يحتاج إلى الحماية غير أن إقراره بنسب من في يده منه صحيح فكذا بأمومية الولد لأنها تبتني عليه فانعدمت صفة المالية فيهن والأخذ لا يجب إلا من المال. قال: " ويؤخذ من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر " هكذا أمر عمر رضي الله عنه سعاته " وإن مر حربي بخمسين درهما لم يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا من مثلها " لأن الأخذ منهم بطريق المجازاة بخلاف المسلم والذمي لأن المأخوذ زكاة أو ضعفها فلا بد من النصاب وهذا في الجامع الصغير وفي كتاب الزكاة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لا نأخذ من القليل وإن كانوا يأخذون منا منه لأن القليل لم يزل عفوا ولأنه لا يحتاج إلى الحماية. قال: " وإن مر حربي بمائتي درهم ولا يعلم كم يأخذون منا نأخذ منه العشر " لقول عمر رضي الله عنه فإن أعياكم فالعشر " وإن علم أنهم يأخذون منا ربع عشر أو نصف عشر نأخذ بقدره وإن كانوا يأخذون الكل لا يأخذ الكل " لأنه غدر " وإن كانوا لا يأخذون أصلا لا نأخذ " ليتركوا الأخذ من تجارنا ولأنا أحق بمكارم الأخلاق. قال: " وإن مر الحربي على عاشر فعشره ثم مر مرة أخرى لم يعشره حتى يحول الحول " لأن الأخذ في كل مرة استئصال المال وحق الأخذ لحفظه ولأن حكم الأمان الأول باق وبعد الحول يتجدد الأمان لأنه لا يمكن من الإقامة إلا حولا والأخذ بعده لا يستأصل المال " وإن عشره فرجع إلى دار الحرب ثم خرج من يومه ذلك عشره أيضا " لأنه رجع بأمان جديد وكذا الأخذ بعده لا يفضي إلى الاستئصال " وإن مر ذمي بخمر أو خنزير عشر الخمر دون الخنزير " وقوله عشر الخمر: أي من قيمتها. وقال الشافعي رحمه الله: لا يعشرهما لأنه لا قيمة لهما وقال زفر رحمه الله يعشرهما لاستوائهما في المالية عندهم وقال أبو يوسف رحمه الله يعشرهما إذا مر بهما جملة كأنه جعل الخنزير تبعا للخمر فإن مر بكل واحد على الانفراد عشر الخمر رده الخنزير ووجه الفرق على الظاهر أن القيمة في ذوات القيم لها حكم العين والخنزير منها وفي ذوات الأمثال ليس لها هذا الحكم والخمر منها ولأن حق الأخذ للحماية والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل فكذا يحميها على غيره ولا يحمي خنزير نفسه بل يجب تسبيبه بالإسلام فكذا لا يحميه على غيره " ولو مر صبي أو امرأة من بني تغلب بمال فليس على الصبي شيء وعلى المرأة ما على الرجل " لما ذكرنا في السوائم " ومن مر على عاشر بمائة درهم وأخبره أن له في منزله مائة أخرى قد حال عليها الحول لم يزك التي مر بها " لقلتها وما في بيته لم يدخل تحت حمايته " ولو مر بمائتي درهم بضاعة لم يعشرها " لأنه غير مأذون بأداء زكاته. قال: " وكذا المضاربة " يعني إذا مر المضارب به على العاشر. وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولا يعشرها لقوة حق المضارب حتى لا يملك رب المال نهيه عن التصرف فيه بعد ما صار عروضا فنزل منزلة المالك ثم رجع إلى ما ذكرنا في الكتاب وهو قولهما لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه في أداء الزكاة إلا أن يكون في المال ربح يبلغ نصيبه نصابا فيؤخذ منه لأنه مالك له " ولو مر عبد مأذون له بمائتي درهم وليس عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 دين عشره " وقال أبو يوسف رحمه الله لا أدري أن أبا حنيفة رحمه الله رجع عن هذا أم لا وقياس قوله الثاني في المضاربة وهو قولهما إنه لا يعشره لأن الملك فيما في يده للمولى وله التصرف فصار كالمضارب وقيل في الفرق بينهما أن العبد يتصرف لنفسه حتى لا يرجع بالعهدة على المولى فكان هو المحتاج إلى الحماية والمضارب يتصرف بحكم النيابة حتى يرجع بالعهدة على رب المال فكان رب المال هو المحتاج فلا يكون الرجوع في المضارب رجوعا منه في العبد وإن كان مولاه معه يؤخذ منه لأن الملك له إلا إذا كان على العبد دين يحيط بماله لانعدام الملك أو للشغل. قال: " ومن مر على عاشر الخوارج في أرض قد غلبوا عليها فعشره يثني عليه الصدقة " معناه إذا مر على عاشر أهل العدل لأن التقصير جاء من قبله من حيث أنه مر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 باب في المعادن والركاز قال: " معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر وجد في أرض خراج أو عشر ففيه الخمس " عندنا. وقال الشافعي رحمه الله لا شيء عليه فيه لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد إلا إذا كان المستخرج ذهبا أو فضة فيجب فيه الزكاة ولا يشترط الحول في قول لأنه نماء كله والحول للتنمية ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " وفي الركاز الخمس " وهو من الركز فأطلق على المعدن ولأنها كانت في أيدي الكفرة فحوتها أيدينا غلبة فكانت غنيمة وفي الغنائم الخمس بخلاف الصيد لأنه لم يكن في يد أحد إلا أن للغانمين يدا حكمية لثبوتها على الظاهر وأما الحقيقية فللواجد فاعتبرنا الحكمية في حق الخمس والحقيقية في حق الأربعة الأخماس حتى كانت للواجد "ولو وجد في داره معدنا فليس فيه شيء " عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا فيه الخمس لإطلاق ما روينا وله أنه من أجزاء الأرض مركب فيها ولا مؤنة في سائر الأجزاء فكذا في هذا الجزء لأن الجزء لا يخالف الجملة بخلاف الكنز لأنه غير مركب فيها. قال: " وإن وجده في أرضه فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان " ووجه الفرق على إحداهما وهو رواية الجامع الصغير أن الدار ملكت خالية عن المؤن دون الأرض ولهذا وجب العشر والخراج في الأرض دون الدار فكذا هذه المؤنة " وإن وجد ركازا " أي كنزا " وجب فيه الخمس " عندهم لما روينا واسم الركاز يطلق على الكنز لمعنى الركز وهو الإثبات ثم إن كان على ضرب أهل الإسلام كالمكتوب عليه كلمة الشهادة فهو بمنزلة اللقطة وقد عرف حكمها في موضعه وإن كان على ضرب أهل الجاهلية كالمنقوش عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الصنم ففيه الخمس على كل حال لما بينا ثم إن وجده في أرض مباحة فأربعة أخماسه للواجد لأنه تم الإحراز منه إذ لا علم به للغانمين فيختص هو به وإن وجده في أرض مملوكة فكذا الحكم عند أبي يوسف رحمه الله لأن الاستحقاق بتمام الحيازة وهي منه وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هو للمختط له وهو الذي ملكه الإمام هذه البقعة أول الفتح لأنه سبقت يده إليه وهي يد الخصوص فيملك بها ما في الباطن وإن كانت على الظاهر كمن اصطاد سمكة في بطنها درة ملك الدرة ثم بالبيع لم تخرج عن ملكه لأنه مودع فيها بخلاف المعدة لأنه من أجزائها فينتقل إلى المشتري وإن لم يعرف المختط له يصرف إلى أقصى مالك يعرف في الإسلام على ما قالوا ولو اشتبه الضرب يجعل جاهليا في ظاهر المذهب لأنه الأصل وقيل يجعل إسلاميا في زماننا لتقادم العهد " ومن دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا رده عليهم " تحرزا عن الغدر لأن ما في الدار في يد صاحبها خصوصا " وإن وجده في الصحراء فهو له " لأنه ليس في يد أحد على الخصوص فلا يعد غدرا ولا شيء فيه لأنه بمنزلة متلصص غير مجاهر " وليس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال خمس " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا خمس في الحجر " " وفي الزئبق الخمس " في قول أبي حنيفة رحمه الله آخرا وهو قول محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف " ولا خمس في اللؤلؤ والعنبر " عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله فيهما وفي كل حلية تخرج من البحر خمس لأن عمر رضي الله عنه أخذ الخمس من العنبر ولهما أن قعر البحر لم يرد عليه القهر فلا يكون المأخوذ منه غنيمة وإن كان ذهبا أو فضة والمروي عن عمر رضي الله عنه فيما دسره البحر وبه نقول " متاع وجد ركازا فهو للذي وجده وفيه الخمس " معناه إذا وجد في أرض لا مالك لها لأنه غنيمة بمنزلة الذهب والفضة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 باب زكاة الزروع والثمار " قال أبو حنيفة رحمه الله في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره العشر سواء سقى سيحا أو سقته السماء إلا الحطب والقصب والحشيش وقالا لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية إذا بلغ خمسة أوسق والوسق ستون صاعا بصاع النبي عليه الصلاة والسلام وليس في الخضروات عندهما عشر " فالخلاف في موضعين: في اشتراط النصاب وفي اشتراط البقاء لهما في الأول قوله عليه الصلاة والسلام " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ولأنه صدقة فيشترط فيه النصاب لتحقق الغنى ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " ما أخرجت الأرض ففيه العشر من غير فصل " وتأويل ما روياه زكاة التجارة، لأنهم كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يتبايعون بالأوساق وقيمة الوسق أربعون درهما ولا معتبر بالمالك فيه فكيف بصفته وهو الغني ولهذا لا يشترط الحول لأنه للاستنماء وهو كله نماء ولهما في الثاني قوله عليه الصلاة والسلام " ليس في الخضروات صدقة " والزكاة غير منفية فتعين العشر وله ما روينا ومرويهما محمول على صدقة بأخذها العاشر وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله فيه ولأن الأرض قد تستنمي بما لا يبقى والسبب هي الأرض النامية ولهذا يجب فيها الخراج. اما الحطب والقصب والحشيش فلا تستنبت في الجنان عادة بل تنقى عنها حتى لو اتخذها مقصبة أو مشجرة أو منبتا للحشيش يجب فيها العشر والمراد بالمذكور القصب الفارسي. أما قصب السكر وقصب الذريرة ففيهما العشر لأنه يقصد بهما استغلال الأرض بخلاف السعف والتبن لأن المقصود الحب والتمر دونهما قال: " وما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر على القولين " لأن المؤنة تكثر فيه وتقل فيما يسقى بالسماء أو سيحا وإن سقي سيحا وبدالية فالمعتبر أكثر السنة كما مر في السائمة " وقال أبو يوسف رحمه الله فيما لا يوسق كالزعفران والقطن يجب فيه العشر إذا بلغت قيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يوسق " كالذرة في زماننا لأنه لا يمكن التقدير الشرعي فيه فاعتبرت قيمته كما في عروض التجارة " وقال محمد رحمه الله يجب العشر إذا بلغ الخارج خمسة أعداد من أعلى ما يقدر به نوعه فاعتبر في القطن خمسة أحمال كل حمل ثلثمائة منء وفي الزعفران خمسة أمناء " لأن التقدير بالوسق كان باعتبار أنه أعلى ما يقدر به نوعه " وفي العسل العشر إذا أخذ من أرض العشر " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب لأنه متولد من الحيوان فأشبه الإبريسم ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " في العسل العشر " ولأن النحل يتناول من الأنوار والثمار وفيهما العشر فكذا فيما يتولد منهما بخلاف دود القز لأنه يتناول الأوراق ولا عشر فيها ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يجب فيه العشر قل أو كثر لأنه لا يعتبر النصاب وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر فيه قيمة خمسة أوسق كما هو أصله وعنه أنه لا شيء فيه حتى يبلغ عشر قرب لحديث بني شبابة أنهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك وعنه خمسة أمناء وعن محمد رحمه الله خمسة أفراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا لأنه أقصى ما يقدر به وكذا في قصب السكر وما يوجد في الجبال من العسل والثمار ففيه العشر وعن أبي يوسف أنه لا يجب لانعدام السبب وهو الأرض النامية وجه الظاهر أن المقصود حاصل وهو الخارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قال: " وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة البقر " لأن النبي عليه الصلاة والسلام حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة فلا معنى لرفعها. قال: " تغلبي له أرض عشر فعليه العشر مضاعفا " عرف ذلك بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم وعن محمد رحمه الله أن فيما اشتراه التغلبي من المسلم عشرا واحدا لأن الوظيفة عنده لا تتغير بتغير المالك " فإن اشتراها منه ذمي فهي على حالها عندهم " لجواز التصحيف عليه في الجملة كما إذا مر على العاشر " وكذا إذا اشتراها منه مسلم أو أسلم التغلبي عند أبي حنيفة رحمه الله " سواء كان التضعيف أصليا أو حادثا لأن التضعيف صار وظيفة لها فتنتقل إلى المسلم بما فيها كالخراج " وقال أبو يوسف رحمه الله يعود إلى عشر واحد " لزوال الداعي إلى التضعيف. قال في الكتاب وهو قول محمد فيما صح عنه قال رضي الله عنه اختلفت النسخ في بيان قوله والأصح أنه مع أبي حنيفة في بقاء التضعيف إلا أن قوله لا يتأتى إلا في الأصل لأن التضعيف الحادث لا يتحقق عنده لعدم تغير الوظيفة " ولو كانت الأرض لمسلم باعها من نصراني " يريد به ذميا غير تغلبي " وقبضها فعليه الخراج عند أبي حنيفة رحمه الله " لأنه أليق بحال الكافر " وعند أبي يوسف رحمه الله عليه العشر مضاعفا " ويصرف مصارف الخراج اعتبارا بالتغلبي وهذا أهون من التبديل " وعند محمد رحمه الله هي عشرية على حالها " لأنه صار مؤنة لها فلا يتبدل كالخراج ثم في رواية يصرف مصارف الصدقات وفي رواية يصرف مصارف الخراج " فإن أخذها منه مسلم بالشفعة أو ردت على البائع لفساد البيع فهي عشرية كما كانت " أما الأول فلتحول الصفقة إلى الشفيع كأنه اشتراها من المسلم وأما الثاني فلأنه بالرد والفسخ بحكم الفساد جعل البيع كأن لم يكن ولأن حق المسلم لم ينقطع بهذا الشراء لكونه مستحق الرد. قال: " وإذا كانت لمسلم دار خطة فجعلها بستانا فعليه العشر " معناه إذا سقاه بماء العشر وأما إذا كانت تسقى بماء الخراج ففيها الخراج لأن المؤنة في مثل هذا تدور مع الماء " وليس على المجوسي في داره شيء " لأن عمر رضي الله عنه جعل المساكن عفوا " وإن جعلها بستانا فعليه الخراج " وإن سقاها بماء العشر لتعذر إيجاب العشر إذ فيه معنى القربة فيتعين الخراج وهو عقوبة تليق بحاله وعلى قياس قولهما يجب العشر في الماء العشري إلا أن عند محمد رحمه الله عشر واحد وعند أبي يوسف عشران وقد مر الوجه فيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ثم الماء العشري ماء السماء والآبار والعيون والبحار التي لا تدخل تحت ولاية أحد والماء الخراجي ماء الأنهار التي شقها الأعاجم وماء جيحون وسيحون ودجلة والفرات عشري عند محمد رحمه الله لأنه لا يحميها أحد كالبحار وخراجي عند أبي يوسف رحمه الله لأنه يتخذ عليها القناطر من السفن وهذا يدل عليها " وفي أرض الصبي والمرأة التغلبيين ما في أرض الرجل التغلبي " يعني العشر المضاعف في العشرية والخراج الواحد في الخراجية لأن الصلح قد جرى على تضعيف الصدقة دون المؤنة المحضة ثم على الصبي والمرأة إذا كانا من المسلمين العشر فيضعف ذلك إذا كانا منهم. قال: " وليس في عين القبر والنفط في أرض العشر شيء " لأنه ليس من إنزال الأرض وإنما هو عين فوارة كعين الماء " وعليه في أرض الخراج خراج " وهذا " إذا كان حريمه صالحا للزراعة " لأن الخراج يتعلق بالتمكن من الزراعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 باب من يجوز دفع الصدقة إليه ومن لا يجوز قال رحمه الله: " الأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية فهذه ثمانية أصناف وقد سقط منها المؤلفة قلوبهم لأن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم " وعلى ذلك انعقد الإجماع " والفقير من له أدنى شيء والمسكين من لا شيء له " وهذا مروي عن أبي حنيفة رحمه الله وقد قيل على العكس ولكل وجه ثم هما صنفان أو صنف واحد سنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى. " والعامل يدفع الإمام إليه إن عمل بقدر عمله فيعطيه ما يسعه وأعوانه غير مقدر بالثمن " خلافا للشافعي رحمه الله لأن استحقاقه بطريق الكفاية ولهذا يأخذ وإن كان غنيا إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي تنزيها لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام عن شبهة الوسخ والغني لا يوازيه في استحقاق الكرامة فلم تعتبر الشبهة في حقه. قال: " وفي الرقاب يعان المكاتبون منها في فك رقابهم " وهو المنقول " والغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه " وقال الشافعي: من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين وإطفاء الثائرة بين القبيلتين "وفي سبيل الله منقطع الغزاة عند أبي يوسف رحمه الله " لأنه هو المتفاهم عند الإطلاق " وعند محمد رحمه الله منقطع الحاج " لما روي أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحمل عليه الحاج ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا لأن المصرف هو الفقراء " وابن السبيل من كان له مال في وطنه " وهو في مكان آخر لا شيء له فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 قال: " فهذه جهات الزكاة فللمالك أن يدفع إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد " وقال الشافعي: لا يجوز أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف لأن الإضافة بحرف اللام للاستحقاق ولنا أن الإضافة لبيان أنهم مصارف لا لإثبات الاستحقاق وهذا لما عرف أن الزكاة حق الله تعالى وبعلة الفقر صاروا مصارف فلا يبالي باختلاف جهاته والذي ذهبنا إليه مروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم " ولا يجوز أن يدفع الزكاة إلى ذمي " لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه " خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم ". قال: " ويدفع " إليه " ما سوى ذلك من الصدقة " وقال الشافعي رحمه الله: لا يدفع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله اعتبارا بالزكاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " تصدقوا أهل الأديان كله ا" ولولا حديث معاذ رضي الله عنه لقلنا بالجواز في الزكاة "ولا يبنى بها مسجد ولا يكفن بها ميت " لانعدام التمليك وهو الركن " ولا يقضى بها دين ميت " لأن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه لا سيما من الميت " ولا تشترى بها رقبة تعتق " خلافا لمالك حيث ذهب إليه في تأويل قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] ولنا أن الإعتاق إسقاط الملك وليس بتمليك " ولا تدفع إلى غني " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تحل الصدقة لغني " وهو بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله في غني الغزاة وكذا حديث معاذ رضي الله عنه على ما روينا. قال: " ولا يدفع المزكي زكاته إلى أبيه وجده وإن علا ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل " لأن منافع الأملاك بينهم متصلة فلا يتتحقق التمليك على الكمال " ولا إلى امرأته " للاشتراك في المنافع عادة " ولا تدفع المرأة إلى زوجها " عند أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا. وقالا: تدفع إليه لقوله عليه الصلاة والسلام " لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة " قاله لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد سألته عن التصدق عليه قلنا هو محمول على النافلة. قال: " ولا يدفع إلى مدبره ومكاتبه وأم ولده " لفقدان التمليك إذ كسب المملوك لسيده وله حق في كسب مكاتبه فلم يتم التمليك " ولا إلى عبد قد أعتق بعضه " عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بمنزلة المكاتب عنده وقالا يدفع إليه لأنه حر مديون عندهما " ولا يدفع إلى مملوك غني " لأن الملك واقع لمولاه " ولا إلى ولد غني إذا كان صغيرا " لأنه يعد غنيا بيسار أبيه بخلاف ما إذا كان كبيرا فقيرا لأنه لا يعد غنيا بيسار أبيه وإن كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 نفقته عليه وبخلاف امرأة الغني لأنها إن كانت فقيرة لا تعد غنية بيسار زوجها وبقدر النفقة لا تصير موسرة " ولا تدفع إلى بني هاشم " لقوله عليه الصلاة والسلام " يا بني هاشم إن الله تعالى حرم عليكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس " بخلاف التطوع لأن المال ههنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض أما التطوع فبمنزلة التبرد بالماء. قال: " وهم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم " أما هؤلاء فلأنهم ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف ونسبة القبيلة إليه وأما مواليهم فلما روي أن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أتحل لي الصدقة فقال: " لا أنت مولانا " بخلاف ما إذا أعتق القرشي عبدا نصرانيا حيث تؤخذ منه الجزية ويعتبر حال المعتق لأنه القياس والإلحاق بالمولى بالنص وقد خص الصدقة " قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا دفع الزكاة إلى رجل يظنه فقيرا ثم بان أنه غني أو هاشمي أو كافر أو دفع في ظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه فلا إعادة عليه وقال أبو يوسف رحمه الله عليه الإعادة " لظهور خطئه بيقين وإمكان الوقوف على هذه الأشياء وصار كالأواني والثياب ولهما حديث معن بن يزيد فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيه " يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت " وقد دفع إليه وكيل أبيه صدقته ولأن الوقوف على هذه الأشياء بالاجتهاد دون القطع فيبتنى الأمر فيها على ما يقع عنده كما إذا اشتبهت عليه القبلة وعن أبي حنيفة رحمه الله في غير الغني أنه لا يجزئه والظاهر هو الأول وهذا إذا تحرى فدفع وفي أكبر رأيه أنه مصرف أما إذا شك ولم يتحر أو تحرى فدفع وفي أكبر رأيه أنه ليس بمصرف لا يجزئه إلا إذا علم أنه فقير هو الصحيح " ولو دفع إلى شخص ثم علم أنه عبده أو مكاتبه لا يجزئه " لانعدام التمليك لعدم أهلية الملك وهو الركن على ما مر " ولا يجوز دفع الزكاة إلى من يملك نصابا من أي مال كان " لأن الغني الشرعي مقدر به والشرط أن يكون فاضلا عن الحاجة الأصلية وإنما النماء شرط الوجوب " ويجوز دفعها إلى من يملك أقل من ذلك وإن كان صحيحا مكتسبا " لأنه فقير والفقراء هم المصارف ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب " ويكره أن يدفع إلى واحد مائتي درهم فصاعدا وإن دفع جاز " وقال زفر رحمه الله لا يجوز لأن الغني قارن الأداء فحصل الأداء إلى الغني ولنا أن الغني حكم الأداء فيتعقبه لكنه يكره لقرب الغني منه كمن صلى وبقربه نجاسة قال " وأن يغنى بها إنسانا أحب إلي " معناه الإغناء عن السؤال يومه ذلك لأن الإغناء مطلقا مكروه. قال: " ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد " وإنما يفرق صدقة كل فريق فيهم لما روينا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه وفيه رعاية حق الجوار " إلا أن ينقلها الإنسان إلى قرابته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أو إلى قوم هم أحوج من أهل بلده " لما فيه من الصلة أو زيادة دفع الحاجة ولو نقل إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 باب: صدقة الفطر مدخل ... باب صدقة الفطر قال رحمه الله: " صدقة الفطر واجبة على الحر المسلم إذا كان مالكا لمقدار النصاب فاضلا عن مسكنه وثيابه وأثاثه وفرسه وسلاحه وعبيده " أما وجوبها فلقوله عليه الصلاة والسلام في خطبته " أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير " رواه ثعلبة بن صعير العدوي أو صعير العذري وبمثله يثبت الوجوب لعدم القطع وشرط الحرية ليتحقق التمليك والإسلام ليقع قربة واليسار لقوله عليه الصلاة والسلام " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " وهو حجة على الشافعي رحمه الله في قوله تجب على من يملك زيادة عن قوت يومه لنفسه وعياله وقدر اليسار بالنصاب لتقدير الغني في الشرع به فاضلا عما ذكر من الأشياء لأنها مستحقة بالحاجة الأصلية والمستحق بالحاجة الأصلية كالمعدوم ولا يشترط فيه النمو ويتعلق بهذا النصاب حرمان الصدقة ووجوب الأضحية والفطرة. قال: " يخرج ذلك عن نفسه " لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الذكر والأنثى الحديث " و "يخرج عن " أولاده الصغار " لأن السبب رأس يمونه ويلي عليه لأنها تضاف إليه يقال زكاة الرأس وهي أمارة السببية والإضافة إلى الفطر باعتبار أنه وقته ولهذا تتعدد بتعدد الرأس مع اتحاد اليوم والأصل في الوجوب رأسه وهو يمونه ويلي عليه فيلحق به ما هو في معناه كأولاده الصغار لأنه يمونهم ويلي عليهم " ومماليكه " لقيام الولاية والمؤنة وهذا إذا كانوا للخدمة ولا مال للصغار فإن كان لهم مال يؤدي من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خلاف لمحمد رحمه الله لأن الشرع أجراه مجرى المؤنة فأشبه النفقة " ولا يؤدي عن زوجته " لقصور الولاية والمؤنة فإنه لا يليها في غير حقوق النكاح ولا يمونها في غير الرواتب كالمداواة " ولا عن أولاده الكبار وإن كانوا في عياله " لانعدام الولاية ولو أدى عنهم أو عن زوجته بغير أمرهم أجزأه استحسانا لثبوت الإذن عادة " ولا " يخرج " عن مكاتبه " لعدم الولاية " ولا المكاتب عن نفسه " لفقره وفي المدبر وأم الولد ولاية المولى ثابتة فيخرج عنهما " ولا " يخرج " عن مماليكه للتجارة " خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده وجوبها على العبد ووجوب الزكاة على المولى فلا تنافي وعندنا وجوبها على المولى بسببه كالزكاة فيؤدي إلى الثني " والعبد بين شريكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 لا فطرة على واحد منهما " لقصور الولاية والمؤنة في حق كل واحد منهما " وكذا العبيد بين اثنين عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا على كل واحد منهما ما يخصه من الرءوس دون الأشقاص بناء على أنه لا يرى قسمة الرقيق وهما يريانها وقيل هو بالإجماع لأنه لا يجتمع النصيب قبل القسمة فلم تتم الرقبة لكل واحد منهما " ويؤدي المسلم الفطر عبده الكافر " لإطلاق ما روينا ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أدوا عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني أو مجوسي " الحديث ولأن السبب قد تحقق والمولى من أهله وفيه خلاف الشافعي رحمه الله لأن الوجوب عنده على العبد وهو ليس من أهله ولو كان على العكس فلا وجوب بالاتفاق. قال: " ومن باع عبدا وأحدهما بالخيار ففطرته على من يصير له " معناه أنه إذا مر يوم الفطر والخيار باق وقال زفر رحمه الله على من له الخيار لأن الولاية له وقال الشافعي رحمه الله على من له الملك لأنه من وظائفه كالنفقة ولنا أن الملك موقوف لأنه لو رد يعود إلى قديم ملك البائع ولو أجيز يثبت الملك للمشتري من وقت العقد فيتوقف ما يبتني عليه بخلاف النفقة لأنها للحاجة الناجزة فلا تقبل التوقف وزكاة التجارة على هذا الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فصل في مقدار الواجب ووقته " الفطرة تصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو زبيب أو صاع من تمر أو شعير " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الزبيب بمنزلة الشعير وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله والأول رواية الجامع الصغير وقال الشافعي رضي الله عنه من جميع ذلك صاع لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنا نخرج ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنا ما روينا وهو مذهب جماعة من الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم أجمعين وما رواه محمول على الزيادة تطوعا ولهما في الزبيب أنه والتمر يتقاربان في المقصود وله أنه والبر يتقاربان في المعنى لأنه يؤكل كل واحد منهما بجميع أجزائه بخلاف الشعير والتمر لأن كل واحد منهما يؤكل ويلقى من التمر النواة ومن الشعير النخالة وبهذا ظهر التفاوت بين البر والتمر ومراده من الدقيق والسويق ما يتخذ من البر أما دقيق الشعير فكالشعير والأولى أن يراعى فيهما القدر والقيمة احتياطا وإن نص على الدقيق في بعض الأخبار ولم يبين ذلك في الكتاب اعتبارا للغالب والخبز تعتبر فيه القيمة هو الصحيح ثم يعتبر نصف صاع من بر وزنا فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله. وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 محمد رحمه الله أنه يعتبر كيلا والدقيق أولى من البر والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار الفقيه أبي جعفر رحمه الله لأنه أدفع للحاجة وأعجل به وعن أبي بكر الأعمش رحمه الله تفضيل الحنطة لأنه أبعد من الخلاف إذ في الدقيق والقيمة خلاف الشافعي رحمه الله. قال: " والصاع عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ثمانية أرطال بالعراقي " وقال أبو يوسف رحمه الله خمسة أرطال وثلث رطل وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام " صاعنا أصغر الصيعان " ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال وهكذا كان صاع عمر ضي الله عنه وهو أصغر من الهاشمي وكانوا يستعملون الهاشمي. قال: " ووجوب الفطرة يتعلق بطلوع الفجر من يوم الفطر " وقال الشافعي رحمه الله بغروب الشمس في اليوم الأخير من رمضان حتى إن من أسلم أو ولد ليلة الفطر تجب فطرته عندنا وعنده لا تجب وعلى عكسه من مات فيها من مماليكه أو ولده له أن يختص بالفطر وهذا وقته ولنا أن الإضافة للاختصاص واختصاص الفطر باليوم دون الليل " والمستحب أن يخرج الناس الفطرة يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج قبل أن يخرج للمصلى ولأن الأمر بالإغناء كي لا يتشاغل الفقير بالمسئلة عن الصلاة وذلك بالتقديم " فإن قدموها على يوم الفطر جاز " لأنه أدى بعد تقرر السبب فأشبه التعجيل في الزكاة ولا تفصيل بين مدة ومدة هو الصحيح وقيل يجوز تعجيلها في النصف الأخير من رمضان وقيل في العشر الأخير " وإن أخروها عن يوم الفطر لم تسقط وكان عليهم إخراجها " لأن وجه القربة فيها معقول فلا يتقدر وقت الأداء فيها بخلاف الأضحية والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 كتاب الصوم ضروب الصوم مدخل ... كتاب الصوم قال رحمه الله: " الصوم ضربان واجب ونفل والواجب ضربان منه ما يتعلق بزمان بعينه كصوم رمضان والنذر المعين فيجوز بنية من الليل وإن لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه وبين الزوال " وقال الشافعي رضي الله عنه لا يجزيه. اعلم أن صوم رمضان فريضة لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وعلى فرضيته انعقد الإجماع ولهذا يكفر جاحده والمنذور واجب لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وسبب الأول الشهر ولهذا يضاف إليه ويتكرر بتكرره وكل يوم سبب لوجوب صومه وسبب الثاني النذر والنية من شرطه وسنبينه ونفسره إن شاء الله تعالى وجه قوله في الخلافية قوله عليه الصلاة والسلام " لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل " ولأنه لما فسد الجزء الأول لفقد النية فسد الثاني ضرورة أنه لا يتجزأ بخلاف النفل لأنه متجزئ عنده. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال "ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم " وما رواه محمول على نفي الفضيلة والكمال أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل ولأنه يوم صوم فيتوقف الإمساك في أوله على النية المتأخرة المقترنة بأكثره كالنفل وهذا لأن الصوم ركن واحد ممتد والنية لتعيينه لله تعالى فتترجح بالكثرة جنبة الوجود بخلاف الصلاة والحج لأن لهما أركانا فيشترط قرانها بالعقد على أدائهما وبخلاف القضاء لأنه يتوقف على صوم ذلك اليوم وهو النفل وبخلاف ما بعد الزوال لأنه لم يوجد اقترانها بالأكثر فترجحت جنبة الفوات ثم قال في المختصر ما بينه وبين الزوال وفي الجامع الصغير قبل نصف النهار وهو الأصح لأنه لا بد من وجود النية في أكثر النهار ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى لا إلى وقت الزوال فتشترط النية قبلها لتتحقق في الأكثر ولا فرق بين المسافر والمقيم عندنا خلافا لزفر رحمه الله لأنه لا تفصيل فيما ذكرنا من الدليل وهذا الضرب من الصوم يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وبنية واجب آخر وقال الشافعي رحمه الله في نية النفل عابث وفي مطلقها له قولان لأنه بنية النفل معوض عن الفرض فلا يكون له الفرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ولنا أن الفرض متعين فيه فيصاب بأصل النية كالمتوحد في الدار يصاب باسم جنسه وإذا نوى النفل أو واجبا آخر فقد نوى أصل الصوم وزيادة جهة وقد لغت الجهة فبقي الأصل وهو كاف ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن الرخصة كي لا تلزم المعذور مشقة فإذا تحملها التحق بغير المعذور وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا صام المريض والمسافر بنية واجب آخر يقع عنه لأنه شغل الوقت بالأهم لتحتمه للحال وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العدة وعنه في نية التطوع روايتان والفرق على إحداهما أنه ما صرف الوقت إلى الأهم. قال: " والضرب الثاني ما ثبت في الذمة كقضاء شهر رمضان والنذر المطلق وصوم الكفارة فلا يجوز إلا بنية من الليل " لأنه غير متعين ولا بد من التعيين من الابتداء " والنفل كله يجوز بنية قبل الزوال " خلافا لمالك رحمه الله فإنه يتمسك بإطلاق ما روينا. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان يصبح غير صائم " إني إذا لصائم " ولأن المشروع خارج رمضان هو النفل فيتوقف الإمساك في أول اليوم على صيرورته صوما بالنية على ما ذكرنا ولو نوى بعد الزوال لا يجوز وقال الشافعي رحمه الله يجوز ويصير صائما من حين نوى إذ هو متجزئ عنده لكونه مبنيا على النشاط ولعله ينشط بعد الزوال إلا أن من شرطه الإمساك في أول النهار وعندنا يصير صائما من أول النهار لأنه عبادة قهر النفس وهي إنما تتحقق بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فصل في رؤية الهلال قال: " وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان فإن رأوه صاموا وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا " لقوله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الهلال فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه إلا بدليل ولم يوجد " ولا يصومون يوم الشك إلا تطوعا " لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعا " وهذه المسئلة على وجوه: أحدها: أن ينوي صوم رمضان وهو مكروه لما روينا ولأنه تشبه بأهل الكتاب لأنهم زادوا في مدة صومهم ثم إن ظهر أن اليوم من رمضان يجزئه لأنه شهد الشهر وصامه وإن ظهر أنه من شعبان كان تطوعا وإن أفطر لم يقضه لأنه في معنى المظنون. والثاني: أن ينوي عن واجب آخر وهو مكروه أيضا لما روينا إلا أن هذا دون الأول في الكراهة ثم إن ظهر أنه من رمضان يجزئه لوجود أصل النية وإن ظهر أنه من شعبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فقد قيل يكون تطوعا لأنه منهي عنه فلا يتأدى به الواجب وقيل يجزئه عن الذين نراه وهو الأصح لأن المنهي عنه وهو التقدم على رمضان بصوم رمضان لا يقوم بكل صوم بخلاف يوم العيد لأن المنهي عنه وهو ترك الإجابة يلازم كل صوم والكراهية ههنا لصورة النهي. والثالث: أن ينوي التطوع وهو غير مكروه لما روينا وهو حجة على الشافعي رحمه الله في قوله يكره على سبيل الابتداء والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم " لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين " الحديث التقدم بصوم رمضان لأنه يؤديه قبل أوانه ثم إن وافق صوما كان يصومه فالصوم أفضل بالإجماع وكذا إذا صام ثلاثة أيام من آخر الشهر فصاعدا وإن أفرده فقد قيل الفطر أفضل احترازا عن ظاهر النهي وقد قيل الصوم أفضل اقتداء بعلي وعائشة رضي الله عنهما فإنهما كانا يصومانه والمختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار نفيا للتهمة. والرابع: أن يضجع في أصل النية بأن ينوي أن يصوم غدا إن كان من رمضان ولا يصومه إن كان من شعبان وفي هذا الوجه لا يصير صائما لأنه لم يقطع عزيمته فصار كما إذا نوى أنه إن وجد غدا غذاء يفطر وإن لم يجد يصوم. والخامس: أن يضجع في وصف النية بأن ينوي إن كان غدا من رمضان يصوم عنه وإن كان من شعبان فعن واجب آخر وهذا مكروه لتردده بين أمرين مكروهين ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه لعدم التردد في أصل النية وإن ظهر أنه من شعبان لا يجزيه عن واجب آخر لأن الجهة لم تثبت للتردد فيها وأصل النية لا يكفيه لكنه يكون تطوعا غير مضمون بالقضاء لشروعه فيه مسقطا وإن نوى عن رمضان إن كان غدا منه وعن التطوع إن كان من شعبان يكره لأنه ناو للفرض من وجه ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه عنه لما مر وإن ظهر أنه من شعبان جاز عن نفله لأنه يتأدى بأصل النية ولو أفسده يجب أن لا يقضيه لدخول الإسقاط في عزيمته من وجه. قال: " ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن لم يقبل الإمام شهادته " لقوله عليه الصلاة والسلام " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وقد رأى ظاهرا وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة وقال الشافعي رحمه الله عليه الكفارة إن أفطر بالوقاع لأنه أفطر في رمضان حقيقة لتيقنه به وحكما لوجوب الصوم عليه. ولنا أن القاضي رد شهادته بدليل شرعي وهو تهمة الغلط فأورث شبهة وهذ الكفارة تندرئ بالشبهات ولو أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته اختلف المشايخ فيه ولو أكمل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الرجل ثلاثين يوما لم يفطر إلا مع الإمام لأن الوجوب عليه للاحتياط الاحتياط بعد ذلك من تأخير الإفطار ولو أفطر لا كفارة عليه اعتبارا للحقيقة التي عنده. قال: " وإذا كان بالسماء علة قبل الإمام شهادة الواحد العدل في رؤية الهلال رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا " لأنه أمر ديني فأشبه رواية الأخبار ولهذا لا يختص بلفظة الشهادة وتشترط العدالة لأن قول الفاسق في الديانات غير مقبول وتأويل قول الطحاوي عدلا كان أو غير عدل أن يكون مستورا والعلة غيم أو غبار أو نحوه وفي إطلاق جواب الكتاب يدخل المحدود في القذف بعد ما تاب وهو ظاهر الرواية لأنه خبر ديني وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها لا تقبل لأنها شهادة من وجه وكان الشافعي في أحد قوليه يشترط المثنى والحجة عليه ما ذكرنا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل شهادة الواحد في رؤية هلال رمضان ثم إذا قبل الإمام شهادة الواحد وصاموا ثلاثين يوما لا يفطرون فيما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله للاحتياط ولأن الفطر لا يثبت بشهادة الواحد وعن محمد رحمه الله أنهم يفطرون ويثبت الفطر بناء على ثبوت الرمضانية بشهادة الواحد وإن كان لا يثبت بهذا ابتداء كاستحقاق الإرث بناء على النسب الثابت بشهادة القابلة. قال: " وإذا لم تكن بالسماء علة لم تقبل الشهادة حتى يراه جمع كثير يقع العلم بخبرهم " لأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة يوهم الغلط فيجب التوقف فيه حتى يكون جمعا كثيرا بخلاف ما إذا كان بالسماء علة لأنه قد ينشق الغيم عن موضع القمر فيتفق للبعض النظر ثم قيل في حد الكثير أهل المحلة وعن أبي يوسف رحمه الله خمسون رجلا اعتبارا بالقسامة ولا فرق بين أهل المصر ومن ورد من خارج المصر وذكر الطحاوي أنه تقبل شهادة الواحد إذا جاء من خارج المصر لقلة الموانع وإليه الإشارة في كتاب الاستحسان وكذا إذا كان على مكان مرتفع في المصر. قال: " ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر احتياطا وفي الصوم الاحتياط في الإيجاب. قال: " وإذا كان بالسماء علة لم يقبل في هلال الفطر إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين " لأنه تعلق به نفع العبد وهو الفطر فأشبه سائر حقوقه والأضحى كالفطر في هذا في ظاهر الرواية وهو الأصح خلافا لما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كهلال رمضان لأنه تعلق به نفع العباد وهو التوسع بلحوم الأضاحي " وإن لم يكن بالسماء علة لم يقبل إلا شهادة جماعة يقع العلم بخبرهم " كما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قال: " ووقت الصوم من حين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس " لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] إلى أن قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والخيطان بياض النهار وسواد الليل " والصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهارا مع النية " لأنه في حقيقة اللغة هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع لورود الاستعمال فيه إلا أنه زيد على النية في الشرع لتتميز بها العبادة من العادة واختص بالنهار لما تلونا ولأنه لما تعذر الوصال كان تعيين النهار أولى ليكون على خلاف العادة وعليه مبنى العبادة والطهارة عن الحيض والنفاس شرط لتحقق الأداء في حق النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 باب ما يوجب القضاء والكفارة مدخل ... باب ما يوجب القضاء والكفارة قال: " وإذا أكل الصائم أو شرب أو جامع نهارا ناسيا لم يفطر " والقياس أن يفطر وهو قول مالك رحمه الله لوجود ما يضاد الصوم فصار كالكلام ناسيا في الصلاة ووجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام الذي أكل وشرب ناسيا " تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك " وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية بخلاف الصلاة لأن هيئة الصلاة مذكرة فلا يغلب النسيان ولا مذكر في الصوم فيغلب ولا فرق بين الفرض والنفل لأن النص لم يفصل " ولو كان مخطئا أو مكرها فعليه القضاء " خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يعتبر بالناسي ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب ولأن النسيان من قبل من له الحق والإكراه من قبل غيره فيفترقان كالمقيد والمريض في قضاء الصلاة. قال: " فإن نام فاحتلم لم يفطر " لقوله صلى الله عليه وسلم " ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام " ولأنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بالمباشرة " وكذا إذا نظر إلى امرأة فأمنى " لما بينا فصار كالمتفكر إذا أمنى وكالمستمني بالكف على ما قالوا " ولو ادهن لم يفطر " لعدم المنافي " وكذا إذا احتجم " لهذا ولما روينا " ولو اكتحل لم يفطر " لأنه ليس بين العين والدماغ منفذ والدمع يترشح كالعرق والداخل من المسام لا ينافي كما لو اغتسل بالماء البارد " ولو قبل امرأة لا يفسد صومه " يريد به إذا لم ينزل لعدم المنافي صورة ومعنى بخلاف الرجعة والمصاهرة لأن الحكم هناك أدير على السبب على ما يأتي في موضعه إن شاء الله " ولو أنزل بقبلة أو لمس فعليه القضاء دون الكفارة " لوجود معنى الجماع ووجود المنافي صورة أو معنى يكفي لإيجاب القضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 احتياطا، أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ بالشبهات كالحدود " ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه " أي الجماع أو الإنزال " ويكره إذا لم يأمن " لأن عينه ليس بمفطر وربما يصير فطرا بعاقبته فإن أمن يعتبر عينه وأبيح له وإن لم يأمن تعتبر عاقبته وكره له والشافعي رحمه الله أطلق فيه في الحالين والحجة عليه ما ذكرنا والمباشرة الفاحشة مثل التقبيل في ظاهر الرواية وعن محمد أنه كره المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة " ولو دخل حلقه ذباب هو ذاكر لصومه لم يفطر " وفي القياس يفسد صومه لوصول المفطر إلى جوفه وإن كان لا يتغذى به كالتراب والحصاة ووجه الاستحسان أنه لا يستطاع الاحتراز عنه فأشبه الغبار والدخان. واختلفوا في المطر والثلج والأصح أنه يفسد لإمكان الامتناع عنه إذا آواه خيمة أو سقف " ولو أكل لحما بين أسنانه فإن كان قليلا لم يفطر وإن كان كثيرا يفطر " وقال زفر يفطر في الوجهين لأن الفم له حكم الظاهر حتى لا يفسد صومه بالمضمضة. ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه بخلاف الكثير لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان والفاصل مقدار الحمصة وما دونها قليل " وإن أخرجه وأخذه بيده ثم أكله ينبغي أن يفسد صومه " لما روي عن محمد رحمه الله أن الصائم إذا ابتلع سمسمة بين أسنانه لا يفسد صومه ولو أكلها ابتداء يفسد صومه ولو مضغها لا يفسد لأنها تتلاشى وفي مقدار الحمصة عليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف رحمه الله وعند زفر رحمه الله عليه الكفارة أيضا لأنه طعام متغير ولأبي يوسف رحمه الله أنه يعافه الطبع " فإن ذرعه القيء لم يفطر " لقوله صلى الله عليه وسلم " من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء عامدا فعليه القضاء " ويستوي فيه ملء الفم فما دونه فلو عاد وكان ملء الفم فسد عند أبي يوسف رحمه الله لأنه خارج حتى انتقض به الطهارة وقد دخل وعند محمد رحمه الله لا يفسد لأنه لم توجد صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا معناه لأنه لا يتغذى به عادة وإن أعاده فسد بالإجماع لوجود الإدخال بعد الخروج فتتحقق صورة الفطر وإن كان أقل من ملء الفم فعاد لم يفسد صومه لأنه غير خارج ولا صنع له في الإدخال وإن أعاده فكذلك عند أبي يوسف رحمه الله لعدم الخروج وعند محمد رحمه الله يفسد صومه لوجود الصنع منه في الإدخال " فإن استقاء عمدا ملء فيه فعليه القضاء " لما روينا والقياس متروك به ولا كفارة عليه لعدم الصورة وإن كان أقل من ملء الفم فكذلك عند محمد رحمه الله لإطلاق الحديث وعند أبي يوسف رحمه الله لا يفسد لعدم الخروج حكما ثم إن عاد لم يفسد عنده لعدم سبق الخروج وإن أعاده فعنه أنه لا يفسده لما ذكرنا وعنه أنه يفسد فألحقه بملء الفم لكثرة الصنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال: " ومن ابتلع الحصاة أو الحديد أفطر " لوجود صورة الفطر " ولا كفارة عليه " لعدم المعنى " ومن جامع في أحد السبيلين عامدا فعليه القضاء " استدراكا للمصلحة الفائتة " وللكفارة " لتكامل الجناية ولا يشترط الإنزال في المحلين اعتبارا بالاغتسال وهذا لأن قضاء الشهوة يتحقق دونه وإنما ذلك شبع وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا تجب الكفارة بالجماع في الموضع المكروه اعتبارا بالحد عنده والأصح أنها تجب لأن الجناية متكاملة لقضاء الشهوة " ولو جامع ميتة أو بهيمة فلا كفارة أنزل أو لم ينزل " خلافا للشافعي رحمه الله لأن الجناية تكاملها بقضاء الشهوة في محل مشتهى ولم يوجد ثم عندنا كما تجب الكفارة بالوقاع على الرجل تجب على المرأة وقال الشافعي رحمه الله في قول لا تجب عليها لأنها متعلقة بالجماع وهو فعله وإنما هي محل الفعل وفي قول تجب ويتحمل الرجل عنها اعتبارا بماء الاغتسال. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر " وكلمة " من " تنتظم الذكور أو الإناث ولأن السبب جناية الإفساد لا نفس الوقاع وقد شاركته فيها ولا يتحمل لأنها عبادة أو عقوبة ولا يجري فيها التحمل " ولو أكل أو شرب ما يتغذى به أو ما يداوى به فعليه القضاء والكفارة " وقال الشافعي رحمه الله لا كفارة عليه لأنها شرعت في الوقاع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة فلا يقاس عليه غيره. ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار في رمضان على وجه الكمال وقد تحققت وبإيجاب الإيمان تكفيرا عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه الجناية. ثم قال: " والكفارة مثل كفارة الظهار " لما روينا ولحديث الأعرابي فإنه قال يا رسول الله هلكت وأهلكت فقال ماذا صنعت قال واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمدا فقال صلى الله عليه وسلم " أعتق رقبة " فقال لا أملك إلا رقبتي هذه فقال " صم شهرين متتابعين " فقال وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم فقال " أطعم ستين مسكينا " فقال لا أجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتى بفرق من تمر ويروى بعرق فيه خمسة عشر صاعا وقال " فرقها على المساكين " فقال والله ما بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي فقال " كل أنت وعيالك يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك " وهو حجة على الشافعي في قوله يخير لأن مقتضاه الترتيب وعلى مالك في نفي التتابع للنص عليه " ومن جامع فيما دون الفرج فأنزل فعليه القضاء " لوجود الجماع معنى " ولا كفارة عليه " لانعدامه صورة " وليس في إفساد صوم غير رمضان كفارة " لأن الإفطار في رمضان أبلغ في الجناية فلا يحلق به غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 " ومن احتقن أو استعط أو أقطر في أذنه أفطر " لقوله صلى الله عليه وسلم " الفطر مما دخل " ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف " ولا كفارة عليه " لانعدامه صورة " ولو أقطر في أذنيه الماء أو دخلهما لا يفسد صومه " لانعدام المعنى والصورة بخلاف ما إذا دخله الدهن " ولو داوى جائفة أو آمة بدواء فوصل إلى جوفه أو دماغه أفطر " عند أبي حنيفة رحمه الله والذي يصل هو الرطب وقالا لا يفطر لعدم التيقن بالوصول لانضمام المنفذ مرة واتساعه أخرى كما في اليابس من الدواء وله أن رطوبة الدواء تلاقي رطوبة الجراحة فيزداد ميلا إلى الأسفل فيصل إلى الجوف بخلاف اليابس لأنه ينشف رطوبة الجراحة فينسد فمها " ولو أقطر في إحليله لم يفطر " عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله يفطر وقول محمد رحمه الله مضطرب فيه فكأنه وقع عند أبي يوسف رحمه الله أن بينه وبين الجوف منفذا ولهذا يخرج منه البول ووقع عند أبي حنيفة رحمه الله أن المثانة بينهما حائل والبول يترشح منه وهذا ليس من باب الفقه " ومن ذاق شيئا بفمه لم يفطر " لعدم الفطر صورة ومعنى " ويكره له ذلك " لما فيه من تعريض الصوم على الفساد " ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه بد " لما بينا " ولا بأس إذا لم تجد منه بدا " صيانة للولد ألا ترى أن لها أن تفطر إذا خافت على ولدها " ومضغ العلك لا يفطر الصائم " لأنه لا يصل إلى جوفه وقيل إذا لم يكن ملتئما يفسد لأنه يصل إليه بعض أجزائه وقيل إذا كان أسود يفسد وإن كان ملتئما لأنه يتفتت " إلا أنه يكره للصائم " لما فيه من تعريض الصوم للفساد ولأنه يتهم بالإفطار ولا يكره للمرأة إذا لم تكن صائمة لقيامه مقام السواك في حقهن ويكره للرجال على ما قيل إذا لم يكن من علة وقيل لا يستحب لما فيه من التشبه بالنساء " ولا بأس بالكحل ودهن الشارب " لأنه نوع ارتفاق وهو ليس من محظورات الصوم وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاكتحال يوم عاشوراء وإلى الصوم فيه ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة ويستحسن دهن الشارب إذا لم يكن من قصده الزينة لأنه يعمل عمل الخضاب ولا يفعل لتطويل اللحية إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة " ولا بأس بالسواك الرطب بالغداة والعشي للصائم " لقوله صلى الله عليه وسلم " خير حلال الصائم السواك من غير فصل " وقال الشافعي يكره بالعشي لما فيه من إزالة الأثر المحمود وهو الخلوف فشابه دم الشهيد قلنا هو أثر العبادة والأليق به الإخفاء بخلاف دم الشهيد لأنه أثر الظلم ولا فرق بين الرطب الأخضر وبين المبلول بالماء لما روينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فصل في من كان مريضا في رمضان إلخ ... فصل " ومن كان مريضا في رمضان فخاف إن صام ازداد مرضه أفطر وقضى " وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الشافعي رحمه الله: لا يفطر هو يعتبر خوف الهلاك أو فوات العضو كما يعتبر في التيمم ونحن نقول إن زيادة المرض وامتداده قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه " وإن كان مسافرا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل وإن أفطر جاز " لأن السفر لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه عذرا بخلاف المرض فإنه قد يخف بالصوم فشرط كونه مفضيا إلى الحرج وقال الشافعي رحمه الله الفطر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس من البر الصيام في السفر ". ولنا أن رمضان أفضل الوقتين فكان الأداء فيه أولى وما رواه محمول على حالة الجهد " وإذا مات المريض أو المسافر وهما على حالهما لم يلزمهما القضاء " لأنهما لم يدركا عدة من أيام أخر " ولو صح المريض وأقام المسافر ثم ماتا لزمهما القضاء بقدر الصحة والإقامة " لوجود الإدراك بهذا المقدار وفائدته وجوب الوصية بالإطعام وذكر الطحاوي خلافا فيه بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وبين محمد رحمه الله وليس بصحيح وإنما الخلاف في النذر والفرق لهما أن النذر سبب فيظهر الوجوب في حق الخلف وفي هذه المسئلة السبب إدارك العدة فيتقدر بقدر ما أدرك " وقضاء رمضان إن شاء فرقه وإن شاء تابعه " لإطلاق النص لكن المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب " وإن أخره حتى دخل رمضان آخر صام الثاني " لأنه في وقته " وقضى الأول بعده " لأنه وقت القضاء " ولا فدية عليه " لأن وجوب القضاء على التراخي حتى كان له أن يتطوع " والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما أفطرتا وقضتا " دفعا للحرج " ولا كفارة عليهما " لأنه إفطار بعذر " ولا فدية عليهما " خلافا للشافعي رحمه الله فيما إذا خافت على الولد هو يعتبره بالشيخ الفاني. ولنا أن الفدية بخلاف القياس في الشيخ الفاني والفطر بسبب الولد ليس في معناه لأنه عاجز بعد الوجوب والولد لا وجوب عليه أصلا " والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا كما يطعم في الكفارات " والأصل فيه قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قيل معناه لا يطيقونه ولو قدر على الصوم يبطل حكم الفداء لأن شرط الخلفية استمرار العجز " ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به أطعم عنه وليه لكل مسكينا نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير " لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره فصار كالشيخ الفاني ثم لا بد من الإيصاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله وعلى هذا الزكاة هو يعتبره بديون العباد إذ كل ذلك حق مالي تجري فيه النيابة. ولنا أنه عبادة ولا بد فيه من الاختيار وذلك في الإيصاء دون الوراثة لأنها جبرية، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 هو تبرع ابتداء حتى يعتبر من الثلث والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ وكل صلاة تعتبر بصوم يوم هو الصحيح " ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي " لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يصوم احد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد " " ومن دخل في صلاة التطوع أو في صوم التطوع ثم أفسده قضاه " خلافا للشافعي رحمه الله له أنه تبرع بالمؤدى فلا يلزمه مالم يتبرع به. ولنا أن المؤدي قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي عن الإبطال وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه ثم عندنا لا يباح الإفطار فيه بغير عذر في إحدى الروايتين لما بينا ويباح بعذر والضيافة عذر لقوله صلى الله عليه وسلم " أفطر واقض يوما مكانه " " وإذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر في رمضان أمسكا بقية يومهما " قضاء لحق الوقت بالتشبه " ولو أفطرا فيه لا قضاء عليهما " لأن الصوم غير واجب فيه " وصاما ما بعده " لتحقق السبب والأهلية " ولم يقضيا يومهما ولا ما مضى " لعدم الخطاب وهذا بخلاف الصلاة لأن السبب فيها الجزء المتصل بالأداء فوجدت الأهلية عنده وفي صوم الجزء الأول والأهلية منعدمة عنده وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا زال الكفر أو الصبا قبل الزوال فعليه القضاء لأنه أدرك وقت النية وجه الظاهر أن الصوم لا يتجزأ وجوبا وأهلية الوجوب منعدمة في أوله إلا أن للصبي أن ينوي التطوع في هذه الصورة دون الكافر على ما قالوا لأن الكافر ليس من أهل التطوع أيضا والصبي أهل له " وإذا نوى المسافر الإفطار ثم قدم المصر قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه " لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب ولا صحة الشروع " وإن كان في رمضان فعليه أن يصوم " لزوال المرخص في وقت النية ألا ترى أنه لو كان مقيما في أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحا لجانب الإقامة لهذا أولى إلا أنه إذا أفطر في المسئلتين لا تلزمه الكفارة لقيام شبهة المبيح " ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء " لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية إذ الظاهر وجودها منه " وقضى ما بعده " لانعدام النية " وإن أغمي عليه أول ليلة منه قضاه كله غير يوم تلك الليلة " لما قلنا. وقال مالك رحمه الله لا يقضي ما بعده لأن صوم رمضان عنده يتأدى بنية واحدة بمنزلة الاعتكاف وعندنا لا بد من النية لكل يوم لأنها عبادات متفرقة لأنه يتخلل بين كل يومين ما ليس بزمان لهذه العبادة بخلاف الاعتكاف " ومن أغمي عليه في رمضان كله قضاه " لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجى فيصير عذرا في التأخير لا في الإسقاط " ومن جن في رمضان كله لم يقضه " خلافا لمالك رحمه الله هو يعتبره بالإغماء. ولنا أن المسقط هو الحرج والإغماء لا يستوعب الشهر عادة فلا حرج والجنون يستوعبه فيتحقق الحرج " وإن أفاق المجنون في بعضه مضى ما قضى " خلافا لزفر والشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 رحمهما الله هما يقولان لم يجب عليه الأداء لانعدام الأهلية والقضاء مرتب عليه وصار كالمستوعب. ولنا أن السبب قد وجد وهو الشهر والأهلية بالذمة وفي الوجوب فائدة وهو صيرورة مطلوبا على وجه لا يحرج في أدائه بخلاف المستوعب لأنه يحرج في الأداء فلا فائدة وتماما في الخلافيات ثم لا فرق بين الأصلي والعارض قيل هذا في ظاهر الرواية وعن محمد رحمه الله أنه فرق بينهما لأنه إذا بلغ مجنونا التحق بالصبي فانعدم الخطاب بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن وهذا مختار بعض المتأخرين " ومن لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه قضاؤه " وقال زفر رحمه الله يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم لأن الإمساك مستحق عليه فعلى أي وجه يؤديه يقع عنه كما إذا وهب كل النصاب من الفقير. ولنا أن المستحق الإمساك بجهة العبادة ولا عبادة إلا بالنية وفي نية النصاب وجد نية القربة على ما مر في الزكاة " ومن أصبح غير ناو للصوم فأكل لا كفارة عليه " عند أبي حنيفة رحمه الله وقال زفر رحمه الله عليه الكفارة لأنه يتأدى بغير النية عنده وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا أكل قبل الزوال تجب الكفارة لأنه فوت إمكان التحصيل فصار كغاصب الغاصب ولأبي حنيفة رحمه الله أن الكفارة تعلقت بالإفساد وهذا امتناع إذ لا صوم إلا بالنية " وإذا حاضت المرأة أو نفست أفطرت وقضت " بخلاف الصلاة لأنها تحرج في قضائها وقد مر في الصلاة " وإذا قدم المسافر أو طهرت الحائض في بعض النهار أمسكا بقية يومهما " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب الإمساك وعلى هذا الخلاف كل من صار أهلا للزوم ولم يكن كذلك في أول اليوم هو يقول التشبه خلف فلا يجب إلا على من يتحقق الأصل في حقه كالمفطر متعمدا أو مخطئا. ولنا أنه وجب قضاء لحق الوقت لا خلفا لأنه وقت معظم بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر حيث لا يجب عليهم حال قيام هذه الأعذار لتحقق المانع عن التشبه حسب تحققه عن الصوم. قال: " وإذا تسحر وهو يظن أن الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه " قضاء لحق الوقت بالقدر الممكن أو نفيا للتهمة " وعليه القضاء " لأنه حق مضمون بالمثل كما في المريض والمسافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 " ولا كفارة عليه " لأن الجناية قاصرة لعدم القصد وفيه قال عمر رضي الله عنه ما تجانفنا لإثم قضاء يوم علينا يسير والمراد بالفجر الفجر الثاني وقد بيناه في الصلاة " ثم التسحر مستحب " لقوله عليه الصلاة والسلام " تسحروا فإن في السحور بركة " والمستحب تأخيره لقوله عليه الصلاة والسلام " ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور والسواك " " إلا أنه إذا شك في الفجر " ومعناه تساوي الظنين " الأفضل أن يدع الأكل تحرزا عن المحرم ولا يجب عليه ذلك ولو أكل فصومه تام " لأن الأصل هو الليل وعن أبي حنيفة رحمه الله إذا كان في موضع لا يستبين الفجر أو كانت الليلة مقمرة أو متغيمة أو كان ببصره علة وهو يشك لا يأكل ولو أكل فقد أساء لقوله عليه الصلاة والسلام " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع فعليه قضاؤه عملا بغالب الرأي وفيه الاحتياط وعلى ظاهر الرواية لاقضاء عليه لأن اليقين لا يزال إلا بمثله " ولو ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه " لأنه بنى الأمر على الأصل فلا تتحقق العمدية " ولو شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر " لأن الأصل هو النهار " ولو أكل فعليه القضاء " عملا بالأصل وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب فعليه القضاء رواية واحدة لأن النهار هو الأصل ولو كان شاكا فيه وتبين أنها لم تغرب ينبغي أن تجب الكفارة نظرا إلى ما هو الأصل وهو النهار " ومن أكل في رمضان ناسيا وظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا عليه القضاء دون الكفارة " لأن الاشتباه استند إلى القياس فتحقق الشبهة وإن بلغه الحديث وعلمه فكذلك في ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها تجب وكذا عنهما لأنه لا اشتباه فلا شبهة وجه الأول قيام الشبهة الحكمية بالنظر إلى القياس فلا ينتفي بالعلم كوطء الأب جارية ابنه "ولو احتجم وظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا عليه القضاء والكفارة" لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد لأن الفتوى دليل شرعي في حقه ولو بلغه الحديث فاعتمده فكذلك عند محمد رحمه الله لأن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينزل عن قول المفتي وعن أبي يوسف رحمه الله خلاف ذلك لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث وإن عرف تأويله تجب الكفارة لانتفاء الشبهة وقول الأوزاعي رحمه الله لا يورث الشبهة لمخالفتة القياس " ولو أكل بعد ما اغتاب متعمدا فعليه القضاء والكفارة كيفما كان " لأن الفطر يخالف القياس والحديث مؤول بالإجماع " وإذا جومعت النائمة أو المجنونة وهي صائمة عليها القضاء دون الكفارة " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا قضاء عليهما اعتبارا بالناسي والعذر هنا أبلغ لعدم القصد ولنا أن النسيان يغلب وجوده وهذا نادر ولا تجب الكفارة لانعدام الجناية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فصل فيما يوجبه على نفسه " وإذا قال لله علي صوم يوم النحر أفطر وقضى " فهذا النذر صحيح عندنا خلافة لزفر والشافعي رحمهما الله هما يقولان إنه نذر بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام. ولنا أنه نذر بصوم مشروع والنهي لغيره وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى فيصح نذره لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ثم يقضي اسقاطا للواجب وإن صام فيه يخرج عن العهدة لأنه أداه كما التزمه " وإن نوى يمينا فعليه كفارة يمين " يعني إذا أفطر وهذه المسئلة على وجوه ستة إن لم ينو شيئا أو نوى النذر لا غير أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا لأنه نذر بصيغته كيف وقد قرره بعزيمته وإن نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا لأن اليمين محتمل كلامه وقد عينه ونفى غيره وإن نواهما يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يكون نذرا ولو نوى اليمين فكذلك عندهما وعنده يكون يمينا لأبي يوسف أن النذر فيه حقيقة واليمين مجاز حتى لا يتوقف الأول على النية ويتوقف الثاني فلا ينتظمهما ثم المجاز يتعين بنيته وعند نيتهما تترجح الحقيقة ولهما أنه لا تتنافى بين الجهتين لأنهما يقتضيان الوجوب إلا أن النذر يقتضيه لعينه واليمين لغيره فجمعنا بينهما عملا بالدليلين كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعارضة في الهبة بشرط العوض " ولو قال لله علي صوم هذه السنة أفطر يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق وقضاها " لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام وكذا إذا لم يعين لكنه شرط التتابع لأن المتابعة لا تعرى عنها لكن يقضيها في هذا الفصل موصولة تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان ويأتي في هذا خلاف زفر والشافعي رحمهما الله للنهي عن الصوم فيها وهو قوله عليه الصلاة والسلام " ألا لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال " وقد بينا الوجه فيه والعذرعنه ولو لم يشترط التتابع لم يجزه صوم هذه الأيام لأن الأصل فيما يلتزمه الكمال والمؤدى ناقص لمكان النهي بخلاف ما إذا عينها لأنه التزم بوصف النقصان فيكون الأداء بالوصف الملتزم. قال: " وعليه كفارة يمين إن أراد به يمينا " وقد سبقت وجوهه " ومن أصبح يوم النحر صائما ثم أفطر لا شيء عليه وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في النوادر أن عليه القضاء " لأن الشروع ملزوم كالنذر وصار كالشرع في الصلاة في الوقت المكروه والفرق لأبي حنيفة رحمه الله وهو ظاهر الرواية أن بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما حتى يحنث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 به الحالف على العموم فيصير مرتكبا للنهي فيجب إبطاله فلا تجب صيانته ووجوب القضاء يبنى عليه ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس النذر وهو الموجب ولا بنفس الشروع في الصلاة حتى يتم ركعة ولهذا لا يحنث به الحالف على الصلاة فتجب صيانه المؤدي ويكون مضمونا بالقضاء وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجب القضاء في فضل الصلاة أيضا والأظهر هو الأول والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 باب الاعتكاف قال: " الاعتكاف مستحب " والصحيح أنه سنة مؤكدة لأن النبي عليه الصلاة والسلام واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان والمواظبة دليل السنة " وهو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف " أما اللبث فركنه لأنه ينبئ عنه فكان وجوده به والصوم من شرطه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله والنية شرط في سائر العبادات هو يقول إن الصوم عبادة وهو أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره. ولنا قول عليه الصلاة والسلام " لا إعتكاف إلا بالصوم " والقياس في مقابلة النص المنقول غير مقبول ثم الصوم شرط لصحة الواجب منه رواية واحدة ولصحة التطوع فيما روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لظاهر ما روينا وعلى هذه الرواية لا يكون أقل من يوم وفي رواية الأصل وهو قول محمد رحمه الله أقله ساعة فيكون من غير صوم لأن مبنى النفي على المساهلة ألا ترى أن يقعد في صلاة النفل مع القدرة على القيام ولو شرع فيه ثم قطعه لا يلزمه القضاء في رواية الأصل لأنه غير مقدر فلم يكن القطع إبطالا وفي رواية الحسن يلزمه لأنه مقدر باليوم كالصوم ثم الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة لقول حذيفة رضي الله عنه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس لأنه عبادة إنتظار الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه أما المرأة فتعتكف في مسجد بيتها لأنه هو الموضع لصلاتها فيتحقق انتظارها فيه ولو لم يكن لها في البيت مسجد تجعل موضعا فيه فتعتكف فيه " ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة " أما الحاجة فلحديث عائشة رضي الله عنها كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان ولأنه معلوم وقوعها ولا بد من الخروج في تقضيتها فيصير الخروج لها مستثنى ولا يمكث بعد فراغه من الطهور لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وأما الجمعة فلأنها من أهم حوائجه وهي معلوم وقوعها وقال الشافعي رحمه الله الخروج إليها مفسد لأنه يمكنه الاعتكاف في الجامع ونحن نقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الاعتكاف في كل مسجد مشروع وإذا صح الشروع فالضرورة مطلقة في الخروج ويخرج حين تزول الشمس لأن الخطاب يتوجه بعده وإن كان منزله بعيدا عنه يخرج في وقت يمكنه إدراكها ويصلي قبلها أربعا وفي رواية ستا الأربع سنة والركعتان تحية المسجد وبعدها أربعا أو ستا على حسب الاختلاف في سنة الجمعة وسننها توابع لها فألحقت بها ولو أقام في مسجد الجامع أكثر من ذلك لا يفسد اعتكافه لأنه موضع اعتكاف إلا أنه لا يستحب لأنه إلتزم أداءه في مسجد واحد فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة " ولو خرج من المسجد ساعة بغير عذر فسد اعتكافه " عند أبي حنيفة رحمه الله لوجود المنافى وهو القياس وقالا لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم وهو الاستحسان لأن في القليل ضرورة قال " وأما الأكل والشرب والنوم يكون في معتكفه " لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لمأوى إلا المسجد ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج " ولا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة " لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته إلا أنهم قالوا يكره إحضار السلعة للبيع والشراء لأن المسجد محرز من حقوق العباد وفيه شغله بها ويكره لغير المعتكف البيع والشراء فيه لقوله عليه الصلاة والسلام " جنبوا مساجدكم صبيانكم " إلى أن قال " وبيعكم وشراءكم ". قال: " ولا يتكلم إلا بخير ويكره له الصمت " لأن صوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا لكنه يتجانب ما يكون مأثما " ويحرم على المعتكف الوطء " لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] " و " كذا " اللمس والقبلة " لأنه من دواعيه فيحرم عليه إذ هو محظوره كما في الإحرام بخلاف الصوم لأن الكف ركنه لا محظوره فلم يتعد إلى دواعيه " فإن جامع ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بطل اعتكافه " لأن الليل محل الاعتكاف بخلاف الصوم وحالة العاكفين مذكرة فلا يعذر بالنسيان " ولو جامع فيما دون الفرج فأنزل أو قبل أو لمس فأنزل بطل اعتكافه " لأنه في معنى الجماع حتى يفسد به الصوم ولو لم ينزل لا يفسد إن كان محرما لأنه ليس في معنى الجماع وهو المفسد ولهذا لا يفسد به الصوم. قال: " ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمه اعتكافها بلياليها " لأن ذكر الأيام على سبيل الجمع يتناول ما بازائها من الليالي يقال ما رأيتك منذ أيام والمراد بلياليها وكانت " متتابعة وان لم يشترط التتابع " لأن مبنى الاعتكاف على التتابع لأن الأوقات كلها قابلة له بخلاف الصوم لأن مبناه على التفرق لأن الليالي غير قابلة للصوم فيجب على التفرق حتى ينص على التتابع "وإن نوى الأيام خاصة صحت نيته " لأنه نوى الحقيقة " ومن أوجب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 نفسه اعتكاف يومين يلزمه بليلتيهما قال أبو يوسف رحمه الله لا تدخل الليلة الأولى " لأن المثنى غير الجمع وفي المتوسطة ضرورة الاتصال وجه الظاهر أن في المثنى معنى الجمع فيلحق به احتياطا لأمر العبادة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 كتاب الحج وجوب الحج مدخل ... كتاب الحج " الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزاد والراحلة فاصلا عن المسكن وما لا بد منه وعن نفقة عياله إلى حين عوده وكان الطريق آمنا " وصفه بالوجوب وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيته بالكتاب وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] الآية " ولا يجب في العمر الا مرة واحدة " لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له الحج في كل عام أم مرة واحدة فقال " لا بل مرة واحدة فما زاد فهو تطوع " ولأن سببه البيت وإنه لا يتعدد فلا يتكرر الوجوب ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف رحمه الله وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل عليه وعند محمد والشافعي رحمهما الله على التراخي لأنه وظيفة العمر فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة وجه الأول أنه يختص بوقت خاص والموت في سنة واحدة غير نادر فيتضيق احتياطا ولهذا كان التعجيل أفضل بخلاف وقت الصلاة لأن الموت في مثله نادر وإنما شرط الحرية والبلوغ لقوله عليه الصلاة والسلام " أيما عبد حج عشر حجج ثم أعتق فعليه حجة الإسلام وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام " ولأنه عبادة والعبادات بأسرها موضوعة عن الصبيان والعقل شرط لصحة التكليف وكذا صحة الجوارح لأن العجز دونها لازم والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما وقد مر في كتاب الصلاة وأما المقعد فعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجب لأنه مستطيع بغيره فأشبه المستطيع بالراحلة وعن محمد رحمه الله أنه لا يجب لأنه غير قادر على الأداء بنفسه بخلاف الأعمى لأنه لو هدى يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه ولا بد من القدرة على الزاد والراحلة وهو قدر ما يكترى به شق محمل أو رأس زاملة وقدر النفقة ذاهبا وجائيا لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن السبيل إليه فقال " الزاد والراحلة " وإن أمكنه أن يكترى عقبة فلا شئ عليه لأنهما إذا كانا يتعاقبان لم توجد الراحلة في جميع السفر ويشترط أن يكون فاضلا عن المسكن وعما لا بد منه كالخادم وأثاث البيت وثيابه لأن هذه الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية ويشترط أن يكون فاضلا عن نفقة عياله إلى حين عوده لأن النفقة حق مستحق للمرأة وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره وليس من شرط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة لأنه لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء فأشبه السعي الى الجمعة ولا بد من أمن الطريق لأن الاستطاعة لا تثبت دونه ثم قيل هو شرط الأداء دون الوجوب لأن النبي عليه الصلاة والسلام فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير. قال: " ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم تحج به أو زوج ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام " وقال الشافعي رحمه الله يجوز لها الحج إذا خرجت في رفقة ومعها نساء ثقات لحصول الأمن بالمرافقة. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا تحجن امرأة الا ومعها محرم " ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة وتزداد بانضمام غيرها اليها ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية وإن كان معها غيرها بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم " وإذا وجدت محرما لم يكن للزوج منعها " وقال الشافعي رحمه الله له أن يمنعها لأن في الخروج تفويت حقه. ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض والحج منها حتى لو كان الحج نفلا له أن يمنعها ولو كان المحرم فاسقا قالوا لا يجب عليها لأن المقصود لا يحصل به " ولها أن تخرج مع كل محرم إلا أن يكون مجوسيا " لأنه يعتقد إباحة مناكحتها ولا عبرة بالصبي والمجنون لأنه لا تتأتى منهما الصيانة والصبية التي بلغت حد الشهوة بمنزلة البالغة حتى لا يسافر بها من غير محرم ونفقة المحرم عليها لأنها تتوسل به إلى أداء الحج. واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب أو شرط الأداء على حسب اختلافهم في أمن الطريق " وإذا بلغ الصبي بعدما أحرم أو أعتق العبد فمضيا لم يجزهما عن حجة الاسلام " لأن إحرامهما إنعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض " ولو جدد الصبي الاحرام قبل الوقوف ونوى حجة الاسلام جاز والعبد لو فعل ذلك لم يجز " لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية أما إحرام العبد لازم فلا يمكنه الخروج عنه بالشروع في غيره والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فصل في المواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما ... فصل " والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما خمسة لأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل العراق ذات عرق ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم " هكذا وقت رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه المواقيت لهؤلاء. وفائدة التأقيت المنع عن تأخير الإحرام عنها لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق " ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الأفاقى إذا إنتهى إليها على قصد دخول مكة عليه أن يحرم قصد الحج أو العمرة أو لم يقصد عندنا " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما " ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما " ومن كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته " لأنه يكثر دخوله مكة وفي إيجاب الإحرام في كل مرة حرج بين فصار كأهل مكة حيث يباح لهم الخروج منها ثم دخولها بغير إحرام لحاجتهم بخلاف ما إذا قصد أداء النسك لأنه يتحقق أحيانا فلا حرج " فإن قدم الإحرام على هذه المواقيت جاز " لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله كذا قاله علي وابن مسعود رضي الله عنهما والأفضل التقديم عليها لأن إتمام الحج مفسر به والمشقة فيه أكثر والتعظيم أوفر وعن أبي حنيفة رحمه الله إنما يكون أفضل إذا كان يملك نفسه أن لا يقع في محظور " ومن كان داخل الميقات فوقته الحل معناه الحل " الذي بين المواقيت وبين الحرم لأنه يجوز إحرامه من دويرة أهله وما وراء الميقات إلى الحرم مكان واحد ومن كان بمكة فوقته في الحج الحرم وفي العمرة الحل لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه رضي الله عنهم أن يحرموا بالحج من جوف مكة وأمر أخا عائشة رضي الله عنهما أن يعمرها من التنعيم وهو في الحل ولأن أداء الحج في عرفة وهي في الحل فيكون الاحرام من الحرم ليتحقق نوع سفر وأداء العمرة في الحرم فيكون الإحرام من الحل لهذا إلا أن التنعيم أفضل لورود الأثر به والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 باب الإحرام مدخل ... باب الإحرام " وإذا أراد الإحرام اغتسل أو توضأ والغسل أفضل " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام اغتسل لإحرامه إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض وإن لم يقع فرضها عنها فيقوم الوضوء مقامه كما في الجمعة لكن الغسل أفضل لأن معنى النظافة فيه أتم ولأنه عليه الصلاة والسلام اختاره. قال: " ولبس ثوبين جديدين أو غسيلين إزارا ورداء " لأنه عليه السلام ائتزر وارتدى عند إحرامه ولأنه ممنوع عن لبس المخيط ولا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد وذلك فيما عيناه والجديد أفضل لأنه أقرب إلى الطهارة. قال: " ومس طيبا إن كان له " وعن محمد رحمه الله أنه يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام ووجه المشهور حديث عائشة رضي الله عنها قالت كنت أطيب رسول الله عليه الصلاة والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 لإحرامه قبل أن يحرم والممنوع عنه التطيب بعد الإحرام والباقي كالتابع له لاتصاله به بخلاف الثوب لأنه مباين عنه. قال: " وصلى ركعتين " لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه قال: " وقال اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني " لأن أداءه في أزمنة متفرقة وأماكن متباينة فلا يعرى عن المشقة عادة فيسأل التيسير وفي الصلاة لم يذكر مثل هذا الدعاء لأن مدتها يسيرة وأداءها عادة متيسر. قال: " ثم يلبي عقيب صلاته " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لبى في دبر صلاته وإن لبى بعد ما استوت به راحلته جاز ولكن الأول أفضل لما روينا " وإن كان مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج " لأنه عبادة والأعمال بالنيات " والتلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وقوله: إن الحمد بكسر الألف لا بفتحها ليكون ابتداء لا بناء إذ الفتحة صفة الأولى وهو إجابة لدعاء الخليل صلوات الله عليه على ما هو المعروف في القصة " ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات " لأنه هو المنقول باتفاق الرواة فلا ينقص عنه " ولو زاد فيها جاز " خلافا للشافعي رحمه الله في رواية الربيع رحمه الله عنه هو اعتبره بالأذان واستشهد من حيث إنه ذكر منظوم. ولنا أن أجلاء الصحابة كابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم زادوا على المأثور ولأن المقصود الثناء وإظهار العبودية فلا يمنع من الزيادة عليه. قال: " وإذا لبى فقد أحرم " يعني إذا نوى لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية إلا أنه لم يذكرها لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني أريد الحج " ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية " خلافا للشافعي رحمه الله لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكركما في تحريمة الصلاة ويصير شارعا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية هذا هو المشهور عن أصحابنا رحمهم الله والفرق بينه وبين الصلاة على أصلهما أن باب الحج أوسع من باب الصلاة حتى يقام غير الذكر مقام الذكر كتقليد البدن فكذا غير التلبية وغير العربية. قال: " ويتقى ما نهى الله تعالى عنه من الرفث والفسوق والجدال " والأصل فيه قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فهذا نهي بصيغة النفي والرفث الجماع أو الكلام الفاحش أو ذكر الجماع بحضرة النساء والفسوق: المعاصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وهو في حال الإحرام أشد حرمة والجدال أن يجادل رفيقه وقيل مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره " ولا يقتل صيدا " لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] " ولا يشير إليه ولا يدل عليه " لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه أصاب حمار وحش وهو حلال وأصحابه محرمون فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه "أهل أشرتم هل دللتم هل أعنتم " فقالوا لا فقال " إذا فكلوا " ولأنه إزالة الأمن عن الصيد لأنه آمن بتوحشه وبعده عن الأعين. قال: " ولا يلبس قميصا ولا سراويل ولا عمامة ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء وقال في آخره " ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين " والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند مقعد الشراك دون الناتيء فيما روى هشام عن محمد رحمه الله. قال: " ولا يغطي وجهه ولا رأسه " وقال الشافعي يجوز للرجل تغطية الوجه لقوله عليه السلام " إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها ". ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " قاله في محرم توفى ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة فالرجل بالطريق الأولى وفائدة ما روى الفرق في تغطية الرأس. قال: " ولا يمس طيبا" لقوله عليه الصلاة والسلام " الحاج الشعث التفل " " وكذا لا يدهن " لما روينا " ولا يحلق رأسه ولا شعر بدنه " لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] الآية " ولا يقص من لحيته " لأنه في معنى الحلق ولأن فيه إزالة الشعث وقضاء التفث. قال: " ولا يلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران ولا عصفر " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران ولا ورس ". قال: " إلا أن يكون غسيلا لا ينفض " لأن المنع للطيب لا للون وقال الشافعي رحمه الله لا بأس بلبس المعصفر لأنه لون لا طيب له ولنا أن له رائحة طيبة. قال: " ولا بأس بأن يغتسل ويدخل الحمام " لأن عمر رضي الله عنه اغتسل وهو محرم ولا بأس بأن "يستظل بالبيت والمحمل " وقال مالك رحمه الله يكره أن يستظل بالفسطاط وما أشبه ذلك لأنه يشبه تغطية الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ولنا أن عثمان رضي الله عنه كان يضرب له فسطاط في إحرامه ولأنه لا يمس بدنه فأشبه البيت " ولو دخل تحت أستار الكعبة حتى غطته إن كان لا يصيب رأسه ولا وجهة فلا بأس به " لأنه استظلال " و " لا بأس بأن " يشد في وسطه الهميان " وقال مالك رحمه الله يكره إذا كان فيه نفقة غيره لأنه لا ضرورة. ولنا أنه ليس في معنى لبس المخيط فاستوت فيه الحالتان " ولا يغسل رأسه ولا لحيته بالخطمى " لأنه نوع طيب ولأنه يقتل هوام الرأس. قال: " ويكثر من التلبية عقيب الصلوات وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار " لأن أصحاب رسول الله عليه السلام رضي الله عنهم كانوا يلبون في هذه الأحوال والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في الصلاة فيؤتى بها عند الإنتقال من حال إلى حال " ويرفع صوته بالتلبية " لقوله عليه الصلاة والسلام " أفضل الحج العج والثج " فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدم. قال: " فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد الحرام " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام كما دخل مكة دخل المسجد ولأن المقصود زيارة البيت وهو فيه ولا يضره ليلا دخلها أو نهارا لأنه دخول بلدة فلا يختص بأحدهما " وإذا عاين البيت كبر وهلل " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إذا لقي البيت باسم الله والله أكبر ومحمد رحمه الله لم يعين في الأصل لمشاهد الحج شيئا من الدعوات لأن التوقيت يذهب بالرقة وإن تبرك بالمنقول منها فحسن. قال: " ثم ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر وهلل " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد فابتدأ بالحجر فاستقبله وكبر وهلل. قال: " ويرفع يديه " لقوله عليه السلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن وذكر من جملتها استلام الحجر ". قال: " واستلمه إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل الحجر الأسود ووضع شفتيه عليه وقال لعمر رضي الله عنه " إنك رجل أيد تؤذي الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر ولكن إن وجدت فرجة فاستلمه وإن لا فاستقبله وهلل وكبر " ولأن الإستلام سنة والتحرز عن أذى المسلم واجب. قال: " وإن أمكنه أن يمس الحجر بشيء في يده " كالعرجون وغيره " ثم قبل ذلك فعل " لما روى أنه عليه الصلاة والسلام طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه وإن لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يستطع شيئا من ذلك استقبله وكبر وهلل وحمد الله وصلى على النبي عليه الصلاة والسلام. قال: " ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب وقد اضطبع رداءه قبل ذلك فيطوف بالبيت سبعة أشواط " لما روى أنه عليه الصلاة والسلام استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف سبعة أشواط " والاضطباع أن يجعل رداءه تحت إبطه الأيمن ويلقيه على كتفه الأيسر " وهو سنة وقد نقل ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال: " ويجعل طوافه من وراء الحطيم " وهو اسم لموضع فيه الميزاب سمي به لأنه حطم من البيت أي كسر وسمي حجرا لأنه حجر منه أي منع وهو من البيت لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها " فإن الحطيم من البيت " فلهذا يجعل الطواف من ورائه حتى لو دخل الفرجة التي بينه وبين البيت لا يجوز إلا أنه إذا استقبل الحطيم وحده لا تجزيه الصلاة لأن فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بخبر الواحد احتياطا والاحتياط في الطواف أن يكون وراءه. قال: " ويرمل في الثلاثة الأول من الأشواط " والرمل أن يهز في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين وذلك مع الاضطباع وكان سببه إظهار الجلد للمشركين حين قالوا أضناهم حمى يثرب ثم بقي الحكم بعد زوال السبب في زمن النبي عليه السلام وبعده. قال: " ويمشي في الباقي على هينته " على ذلك اتفق رواة نسك رسول الله عليه السلام " والرمل من الحجر إلى الحجر " وهو المنقول من رمل النبي عليه السلام " فإن زحمه الناس في الرمل قام فإذا وجد مسلكا رمل " لأنه لا بدل له فيقف حتى يقيمه على وجه السنة بخلاف الإستلام لأن الاستقبال بدل له. قال: " ويستلم الحجر كلما مر به إن استطاع " لأن أشواط الطواف كركعات الصلاة فكما يفتتح كل ركعة بالتكبير يفتتح كل شوط باستلام الحجر وإن لم يستطع الإستلام استقبل وكبر وهلل على ما ذكرنا " ويستلم الركن اليماني " وهو حسن في ظاهر الرواية وعن محمد رحمه الله أنه سنة " ولا يستلم غيرهما " فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستلم هذين الركنين ولا يستلم غيرهما " ويختم الطواف بالإستلام " يعني استلام الحجر. قال: " ثم يأتي المقام فيصلي عنده ركعتين أو حيث تيسر من المسجد " وهي واجبة عندنا وقال الشافعي رحمه الله سنة لإنعدام دليل الوجوب ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين " والأمر للوجوب " ثم يعود إلى الحجر فيستلمه " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما صلى ركعتين عاد إلى الحجر، والأصل أن كل طواف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بعده سعي يعود إلى الحجر لأن الطواف لما كان يفتتح بالإستلام فكذا السعي يفتتح به بخلاف ما إذا لم يكن بعده سعي. قال: " وهذا الطواف طواف القدوم " ويسمى طواف التحية " وهو سنة وليس بواجب " وقال مالك رحمه الله إنه واجب لقوله عليه الصلاة والسلام " من أتى البيت فليحيه بالطواف ". ولنا أن الله تعالى أمر بالطواف والأمر المطلق لا يقتضي التكرار وقد تعين طواف الزيارة بالإجماع وفيما رواه سماه تحية وهو دليل الاستحباب " وليس على أهل مكة طواف القدوم " لانعدام القدوم في حقهم. قال: " ثم يخرج إلى الصفا فيصعد عليه ويستقبل البيت ويكبر ويهلل ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع يديه ويدعو الله لحاجته " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل القبلة يدعو الله ولأن الثناء والصلاة يقدمان على الدعاء تقريبا إلى الإجابة كما في غيره مع الدعوات والرفع سنة الدعاء وإنما يصعد بقدر ما يصير البيت بمرأى منه لأن الاستقبال هو المقصود بالصعود ويخرج إلى الصفا من أي باب شاء وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني مخزوم وهو الذي يسمى باب الصفا لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا إلا أنه سنة. قال: " ثم ينحط نحو المروة ويمشي على هينته فإذا بلغ بطن الوادي يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا ثم يمشي على هينته حتى يأتي المروة فيصعد عليها ويفعل كما فعل على الصفا " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل من الصفا وجعل يمشي نحو المروة وسعى في بطن الوادي حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة وطاف بينهما سبعة أشواط. قال: " وهذا شوط واحد فيطوف سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ويسعى في بطن الوادي في كل شوط " لما روينا وإنما يبدأ بالصفا لقوله عليه الصلاة والسلام فيه " ابدءوا بما بدأ الله تعالى به " ثم السعي بين الصفا والمروة واجب وليس بركن وقال الشافعي رحمه الله إنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام " إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا ". ولنا قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ومثله يستعمل للإباحة فينفي الركنية والإيجاب إلا أنا عدلنا عنه في الإيجاب ولأن الركنية لا تثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد ثم معنى ما روى كتب استحبابا كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] الآية. قال: " ثم يقيم بمكة حراما " لأنه محرم بالحج فلا يتحلل قبل الإتيان بأفعاله قال " ويطوف بالبيت كلما بدا له " لأنه يشبه الصلاة قال عليه الصلاة والسلام " الطواف بالبيت صلاة والصلاة خير موضوع " فكذا الطواف إلا أنه لا يسعى عقيب هذه إلا طوفة في هذه المدة لأن السعي لا يجب فيه إلا مرة والتنقل بالسعي غير مشروع ويصلى لكل أسبوع ركعتين وهي ركعتا الطواف على ما بينا. قال: " فإذا كان قبل يوم التروية بيوم خطب الامام خطبة يعلم فيها الناس الخروج إلى منى والصلاة بعرفات والوقوف والافاضة ". والحاصل أن في الحج ثلاث خطب أولها ما ذكرنا والثانية بعرفات يوم عرفة والثالثة بمنى في اليوم الحادي عشر فيفصل بين كل خطبتين بيوم وقال زفر رحمه الله يخطب في ثلاثة أيام متوالية أولها يوم التروية لأنها أيام الموسم ومجتمع الحاج. ولنا أن المقصود منها التعليم ويوم التروية ويوم النحر يوما اشتغال فكان ما ذكرناه أنفع وفي القلوب أنجع " فإذا صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى فيقيم بها حتى يصلي الفجر من يوم عرفة " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الفجر يوم التروية بمكة فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم راح إلى عرفات " ولو بات بمكة ليلة عرفة وصلى بها الفجر ثم غدا إلى عرفات ومر بمنى أجزأه " لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم إقامة نسك ولكنه أساء بتركه الاقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام. قال: " ثم يتوجه إلى عرفات فيقيم بها " لما روينا وهذا بيان الأولوية أما لو دفع قبله جاز لأنه لا يتعلق بهذا المقام حكم قال في الأصل وينزل بها مع الناس لأن الانتباذ تجبر والحال حال تضرع والإجابة في الجمع أرجى وقيل مراده أن لا ينزل على الطريق كيلا يضيق على المارة. قال: " وإذا زالت الشمس يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر فيبتديء بالخطبة فيخطب خطبة يعلم فيها الناس الوقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار والنحر والحلق وطواف الزيارة يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة " هكذا فعله رسول الله عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 والسلام، وقال مالك رحمه الله يخطب بعد الصلاة لأنها خطبة وعظ وتذكير فأشبه خطبة العيد. ولنا ما روينا ولأن المقصود منها تعليم المناسك والجمع منها وفي ظاهر المذهب إذا صعد الإمام المنبر فجلس أذن المؤذنون كما في الجمعة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يؤذن قبل خروج الإمام وعنه أنه يؤذن بعد الخطبة والصحيح ما ذكرنا لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما خرج واستوى على ناقته أذن المؤذنون بين يديه ويقيم المؤذن بعد الفراغ من الخطبة لأنه أوان الشروع في الصلاة فأشبه الجمعة. قال: " ويصلي بهم الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين " وقد ورد النقل المستفيض باتفاق الرواة بالجمع بين الصلاتين وفيما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان وإقامتين ثم بيانه أنه يؤذن للظهر ويقيم للظهر ثم يقيم للعصر لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود فيفرد بالإقامة إعلاما للناس ولا يتطوع بين الصلاتين تحصيلا لمقصود الوقوف ولهذا قدم العصر على وقته فلو أنه فعل فعل مكروها وأعاد الأذان للعصر في ظاهر الرواية خلافا لما روى عن محمد رحمه الله لأن الاشتغال بالتطوع أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول فيعيده للعصر فإن صلى بغير خطبة أجزأه لأن هذه الخطبة ليست بفريضة. قال: " ومن صلى الظهر في رحله وحده صلى العصر في وقته عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يجمع بينهما المنفرد لأن جواز الجمع للحاجة إلى امتداد الوقوف والمنفرد محتاج إليه ولأبي حنيفة رحمه الله أن المحافظة على الوقت فرض بالنصوص فلا يجوز تركه إلا فيما ورد الشرع به وهو الجمع بالجماعة مع الإمام والتقديم لصيانة الجماعة لأنه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد ما تفرقوا في الموقف لا لما ذكراه إذ لا منافاة ثم عند أبي حنيفة رحمه الله الإمام شرط في الصلاتين جميعا وقال زفر رحمه الله في العصر خاصة لأنه هو المغير عن وقته وعلى هذا الخلاف الاحرام بالحج ولأبي حنيفة رحمه الله أن التقديم على خلاف القياس عرفت شرعيته فيما إذا كانت العصر مرتبة على ظهر مؤدى بالجماعة مع الإمام في حالة الإحرام بالحج فيقتصر عليه ثم لا بد من الإحرام بالحج قبل الزوال في رواية تقديما للاحرام على وقت الجمع وفي أخرى يكتفي بالتقديم على الصلاة لأن المقصود هو الصلاة. قال: " ثم يتوجه إلى الموقف فيقف بقرب الجبل والقوم معه عقيب انصرافهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الصلاة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام راح إلى الموقف عقيب الصلاة والجبل يسمى جبل الرحمة والموقف الموقف الأعظم. قال: " وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة " لقوله عليه الصلاة والسلام " عرفات كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن وادي محسر ". قال: " وينبغي للامام أن يقف بعرفة على راحلته " لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف على ناقته " وإن وقف على قدميه جاز " والأول أفضل لما بينا " وينبغي أن يقف مستقبل القبلة " لأن النبي عليه السلام وقف كذلك وقال النبي عليه السلام " خير المواقف ما استقبلت به القبلة " " ويدعو ويعلم الناس المناسك " لما روى أن النبي عليه السلام كان يدعو يوم عرفة مادا يديه كالمستطعم المسكين " ويدعو بما شاء " وإن ورد الآثار ببعض الدعوات وقد أوردنا تفصيلها في كتابنا المترجم بعدة الناسك في عدة من المناسك بتوفيق الله تعالى. قال: " وينبغي للناس أن يقفوا بقرب الإمام " لأنه يدعو ويعلم فيعوا ويسمعوا وينبغي أن يقف وراء الإمام ليكون مستقبل القبلة وهذا بيان الأفضلية لأن عرفات كلها موقف على ما ذكرنا. قال: " ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف بعرفة ويجتهد في الدعاء " أما الإغتسال فهو سنة وليس بواجب ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة والعيدين وعند الإحرام وأما الاجتهاد فلأنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم " ويلبي في موقفه ساعة بعد ساعة " وقال مالك رحمه الله يقطع التلبية كما يقف بعرفة لأن الإجابة باللسان قبل الاشتغال بالأركان ولنا ما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام ما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة ولأن التلبية فيه كالتكبير في الصلاة فيأتي بها إلى آخر جزء من الإحرام. قال: " وإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا المزدلفة " لأن النبي عليه الصلاة والسلام دفع بعد غروب الشمس ولأن فيه إظهار مخالفة المشركين وكان النبي عليه الصلاة والسلام يمشي على راحلته في الطريق على هيئته فإن خاف الزحام فدفع قبل الإمام ولم يجاوز حدود عرفة أجزأه لأنه لم يفض من عرفة والأفضل أن يقف في مقامه كي لا يكون آخذا في الأداء قبل وقتها " فلو مكث قليلا بعد غروب الشمس وإفاضة الإمام لخوف الزحام فلا بأس به " لما روى أن عائشة رضي الله عنها بعد إفاضة الإمام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قال: " وإذا أتى مزدلفة فالمستحب أن يقف بقرب الجبل الذي عليه الميقدة يقال له قزح " لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف عند هذا الجبل وكذا عمر رضي الله عنه ويتحرز في النزول عن الطريق كي لا يضر بالمارة فينزل عن يمينه أو يساره ويستحب أن يقف وراء الإمام لما بينا في الوقوف بعرفة. قال: " ويصلي الإمام بالناس المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة " وقال زفر رحمه الله بأذان وإقامتين اعتبارا بالجمع بعرفة ولنا رواية جابر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة علاما بخلاف العصر بعرفة لأنه مقدم على وقته فأفرد بها لزيادة الإعلام. " ولا يتطوع بينهما " لأنه يخل بالجمع. ولو تطوع أو تشاغل بشيء أعاد الإقامة لوقوع الفصل وكان ينبغي أن يعيد الأذان كما في الجمع الأول بعرفة إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة للعشاء " ولا تشترط الجماعة لهذا الجمع عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن المغرب مؤخرة عن وقتها بخلاف الجمع بعرفة لأن العصر مقدم على وقته. قال: " ومن صلى المغرب في الطريق لم تجزه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر " وقال أبو يوسف رحمه الله يجزيه وقد أساء وعلى هذا الخلاف إذا صلى بعرفات لأبي يوسف رحمه الله أنه أداها في وقتها فلا تجب إعادتها كما بعد طلوع الفجر إلا أن التأخير من السنة فيصير مسيئا بتركه ولهما ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لأسامة رضي الله عنه في طريق المزدلفة " الصلاة أمامك " معناه وقت الصلاة وهذا إشارة إلى أن التأخير واجب وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعا بينهما وإذا طلع الفجر لا يمكنه الجمع فسقطت الإعادة. قال: " وإذا طلع الفجر يصلي الإمام بالناس الفجر بغلس " لرواية ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام صلاها يومئذ بغلس ولأن في التغليس دفع حاجة الوقوف فيجوز كتقديم العصر بعرفة " ثم وقف ووقف معه الناس ودعا " لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في هذا الموضع يدعو حتى روى في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فاستجيب له دعاؤه لأمته حتى الدماء والمظالم ثم هذا الوقوف واجب عندنا وليس بركن حتى لو تركه بغير عذر يلزمه الدم وقال الشافعي رحمه الله إنه ركن لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وبمثله تثبت الركنية. ولنا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قدم ضعفة أهله بالليل ولو كان ركنا لما فعل ذلك والمذكور فيما تلا الذكر وهو ليس بركن بالإجماع وإنما عرفنا الوجوب بقوله عليه الصلاة والسلام " من وقف معنا هذا الموقف وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات فقد تم حجه " علق به تمام الحج وهذا يصلح أمارة للوجوب غير أنه إذا تركه بعذر بأن يكون به ضعف أو علة أو كانت امرأة تخاف الزحام لا شيء عليه لما روينا. قال: " والمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر " لما روينا من قبل قال: " فإذا طلعت الشمس أفاض الإمام والناس معه حتى يأتوا منى " قال العبد الضعيف عصمه الله تعالى هكذا وقع في نسخ المختصر وهذا غلط والصحيح أنه إذا أسفر أفاض الإمام والناس لأن النبي عليه الصلاة والسلام دفع قبل طلوع الشمس. قال: " فيبتديء بجمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي بسبع حصيات مثل حصى الخذف " لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة وقال عليه الصلاة والسلام " عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضا " " ولو رمى بأكبر منه جاز " لحصول الرمي غير أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار كيلا يتأذى به غيره " ولو رماها من فوق العقبة أجزأه " لأن ما حولها موضع النسك والأفضل أن يكون من بطن الوادي لما روينا " ويكبر مع كل حصاة " كذا روى ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم " ولو سبح مكان التكبير أجزأه " لحصول الذكر وهو من آداب الرمي " ولا يقف عندها " لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقف عندها ويقطع التلبية مع أول حصاة لما روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه وروى جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة ثم كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى ويستعين بالمسبحة ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي وبين موضع السقوط خمسة أذرع فصاعدا كذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لأن ما دون ذلك يكون طرحا " ولو طرحها طرحا أجزأه " لأنه رمى إلى قدميه إلا أنه مسيء لمخالفته السنة " ولو وضعها وضعا لم يجزه " لأنه ليس برمي " ولو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه " لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه " ولو وقعت بعيدا منها لا يجزئه " لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص " ولو رمى بسبع حصيات جملة فهذه واحدة " لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال " ويأخذ الحصى من أي موضع شاء إلا من عند الجمرة فإن ذلك يكره " لأن ما عندها من الحصى مردود هكذا جاء في الأثر فيتشاءم به ومع هذا لو فعل أجزأه لوجود فعل الرمي " ويجوز الرمي بكل ما كان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أجزاء الأرض عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله لأن المقصود فعل الرمي وذلك يحصل بالطين كما يحصل بالحجر بخلاف ما إذا رمى بالذهب أو الفضة لأنه يسمى نثرا لا رميا. قال: " ثم يذبح إن أحب ثم يحلق أو يقصر " لما روى عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال " إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق " ولأن الحلق من أسباب التحلل وكذا الذبح حتى يتحلل به المحصر فيقدم الرمي عليهما ثم الحلق من محظورات الإحرام فيقدم عليه الذبح وإنما علق الذبح بالمحبة لأن الدم الذي يأتي به المفرد تطوع والكلام في المفرد " والحلق أفضل " لقوله عليه الصلاة والسلام " رحم الله المحلقين " الحديث ظاهر بالترحم عليهم ولأن الحلق أكمل في قضاء التفث وهو المقصود وفي التقصير بعض التقصير فأشبه الاغتسال مع الوضوء ويكتفي في الحلق بربع الرأس اعتبارا بالمسح وحلق الكل أولى اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام والتقصير أن يأخذ من رءوس شعره مقدار الأنملة " وقد حل له كل شيء إلا النساء " وقال مالك رحمه الله وإلا الطيب أيضا لأنه من دواعي الجماع ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " فيه حل له كل شيء إلا النساء " وهو مقدم على القياس " ولا يحل له الجماع فيما دون الفرج عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله لأنه قضاء الشهوة بالنساء فيؤخر إلى تمام الإحلال " ثم الرمي ليس من أسباب التحلل عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه يتوقت بيوم النحر كالحلق فيكون بمنزلته في التحليل ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير أوانه كالحلق والرمي ليس بجناية في غير أوانه بخلاف الطواف لأن التحلل بالحلق السابق لا به. قال: " ثم يأتي مكة من يومه ذلك أو من الغد أو من بعد الغد فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى " ووقته أيام النحر " لأن الله تعالى عطف الطواف على الذبح قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ثم قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فكان وقتهما واحدا " وأول وقته بعد طلوع الفجر من يوم النحر " لأن ما قبله من الليل وقت الوقوف بعرفة والطواف مرتب عليه وأفضل هذه الأيام أولها كما في التضحية وفي الحديث: " أفضلها أولها " " فإن كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا الطواف ولا سعي عليه وإن كان لم يقدم السعي رمل في هذا الطواف وسعى بعده " لأن السعي لم يشرع إلا مرة والرمل ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي " ويصلي ركعتين بعد هذا الطواف " لأن ختم كل طواف بركعتين فرضا كان الطواف أو نفلا لما بيناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قال: " وقد حل له النساء " ولكن بالحلق السابق إذ هو المحلل لا بالطواف إلا أنه أخر عمله في حق النساء. قال: " وهذا الطواف هو المفروض في الحج " وهو ركن فيه إذ هو المأمور به في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ويسمى طواف الإفاضة وطواف يوم النحر ويكره تأخيره عن هذه الأيام لما بينا أنه موقت بها وإن أخره عنها لزمه دم عند أبي حنيفة رحمه الله وسنبينه في باب الجنايات إن شاء الله تعالى. قال: " ثم يعود إلى منى فيقيم بها " لأن النبي عليه الصلاة والسلام رجع إليها كما روينا ولأنه بقي عليه الرمي وموضعه بمنى " فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث فيبدأ بالتي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عندها ثم يرمي التي تليها مثل ذلك ويقف عندها ثم يرمي جمرة العقبة كذلك ولا يقف عندها " هكذا روى جابر رضي الله عنه فيما نقل من نسك رسول الله عليه الصلاة والسلام مفسرا " ويقف عند الجمرتين في المقام الذي يقف فيه الناس ويحمد الله ويثني عليه ويهلل ويكبر ويصلي على النبي عليه الصلاة والسلام ويدعو بحاجته ويرفع يديه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن " وذكر من حملتها عند الجمرتين والمراد رفع الأيدي بالدعاء وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه في هذه المواقف لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال " اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج " ثم الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت ولهذا لا يقف بعد جمرة العقبة في يوم النحر أيضا. قال: " وإذا كان من الغد رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس كذلك وإن أراد أن يتعجل النفر إلى مكة نفر وإن أراد أن يقيم رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع بعد زوال الشمس " لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] " والأفضل أن يقيم " لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام صبر حتى رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع وله أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع فإذا طلع الفجر لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي وفيه خلاف الشافعي رحمه الله " وإن قدم الرمي في هذا اليوم " يعني اليوم الرابع " قبل الزوال بعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " وهذا استحسان وقالا لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام وإنما التفاوت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 رخصة النفر فإذا لم يترخص التحق بها ومذهبه مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ولأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم في حق الترك فلأن يظهر في جوازه في الأوقات كلها أولى بخلاف اليوم الأول والثاني حيث لا يجوز الرمي فيهما إلا بعد الزوال في المشهور من الرواية لأنه لا يجوز تركه فيهما فبقي على الأصل المروي " فأما يوم النحر فأول وقت الرمي فيه من وقت طلوع الفجر " وقال الشافعي أوله بعد نصف الليل لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام رخص للرماء أن يرموا ليلا. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام "لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين " ويروى " حتى تطلع الشمس " فيثبت أصل الوقت بالأول والأفضلية بالثاني وتأويل ما روى الليلة الثانية والثالثة ولأن ليلة النحر وقت الوقوف والرمي يترتب عليه فيكون وقته بعده ضرورة ثم عند أبي حنيفة يمتد هذا الوقت إلى غروب الشمس لقوله عليه الصلاة والسلام " إن أول نسكنا في هذا اليوم الرمي " جعل اليوم وقتا له وذهابه بغروب الشمس وعن أبي يوسف أنه يمتد إلى وقت الزوال والحجة عليه ما روينا " وإن أخر إلى الليل رماه ولا شيء عليه " لحديث الدعاء " وإن أخر إلى الغد رماه " لأنه وقت جنس الرمي " وعليه دم " عند أبي حنيفة رحمه الله لتأخيره عن وقته كما هو مذهبه. قال: " فإن رماها راكبا أجزأه " لحصول فعل الرمي " وكل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيا وإلا فيرميه راكبا " لأن الأول بعده وقوف ودعاء على ما ذكرنا فيرميه ماشيا ليكون أقرب إلى التضرع وبيان الأفضل مروي عن أبي يوسف رحمه الله " ويكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي " لأن النبي عليه الصلاة والسلام بات بها وعمر رضي الله عنه كان يؤدب على ترك المقام بها " ولو بات في غيرها متعمدا لا يلزمه شيء عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله لأنه وجب ليسهل عليه الرمي في أيامه فلم يكن من أفعال الحج فتركه لا يوجب الجابر. قال: " ويكره أن يقدم الرجل ثقله إلى مكة ويقيم حتى يرمي " لما روى أن عمر رضي الله عنه كان يمنع منه ويؤدب عليه ولأنه يوجب شغل قلبه " وإذا نفر إلى مكة نزل بالمحصب " وهو الأبطح وهو اسم موضع قد نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نزوله قصدا هو الأصح حتى يكون النزول به سنة على ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه " إنا نازلون غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم " يشير إلى عهدهم على هجران بني هاشم فعرفنا أنه نزل به إراءة للمشركين لطيف صنع الله تعالى به فصار سنة كالرمل في الطواف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قال: " ثم دخل مكة وطاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها وهذا طواف الصدر " ويسمى طواف الوداع وطواف آخر عهده بالبيت لأنه يودع البيت ويصدر به " وهو واجب عندنا " خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام " من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف " ورخص للنساء الحيض تركه " إلا على أهل مكة " لأنهم لا يصدرون ولا يودعون ولا رمل فيه لما بينا أنه شرع مرة واحدة ويصلي ركعتي الطواف بعده لما قدمنا " ثم يأتي زمزم ويشرب من مائها " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام استقى دلوا بنفسه فشرب منه ثم أفرغ باقي الدلو في البئر " ويستحب أن يأتي الباب ويقبل العتبة ثم ياتي الملتزم " وهو ما بين الحجر إلى الباب " فيضع صدره ووجهه عليه ويتشبث بالأستار ساعة ثم يعود إلى أهله " هكذا روى أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل بالملتزم ذلك قالوا وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهه إلى البيت متباكيا متحسرا على فراق البيت حتى يخرج من المسجد فهذا بيان تمام الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فصل " وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات ووقف بها " على ما بينا " سقط عنه طواف القدوم " لأنه شرع في ابتداء الحج على وجه يترتب عليه سائر الأفعال فلا يكون الإتيان به على غير ذلك الوجه سنة " ولا شيء عليه بتركه " لأنه سنة وبترك السنة لا يجب الجابر " ومن أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من يومها إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج " فأول وقت الوقوف بعد الزوال عندنا لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف بعد الزوال وهذا بيان أول الوقت وقال عليه الصلاة والسلام " من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج " وهذا بيان آخر الوقت ومالك رحمه الله إن كان يقول إن أول وقته بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس فهو محجوج عليه بما روينا " ثم إذا وقف بعد الزوال وأفاض من ساعته أجزأه " عندنا لأنه عليه الصلاة والسلام ذكره بكلمة أو فإنه قال " الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه " وهي كلمة التخيير وقال مالك رحمه الله لا يجزئه إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل ولكن الحجة عليه ما رويناه " ومن اجتاز بعرفات نائما أو مغمى عليه أو لا يعلم أنها عرفات جاز عن الوقوف " لأن ما هو الركن قد وجب وهو الوقوف ولا يمتنع ذلك بالإغماء والنوم كركن الصوم بخلاف الصلاة لأنها لا تبقى مع الإغماء والجهل يخل بالنية وهي ليست بشرط لكل ركن " ومن أغمي عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 " لا يجوز، ولو أمر إنسانا بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه أو نام فأحرم المأمور عنه صح " بالإجماع حتى إذا أفاق أو استيقظ وأتى بأفعال الحج جاز لهما أنه لم يحرم بنفسه ولا أذن لغيره به وهذا لأنه لم يصرح بالإذن والدلالة تقف على العلم وجواز الإذن به لا يعرفه كثير من الفقهاء فكيف يعرفه العوام بخلاف ما إذا أمر غيره بذلك صريحا وله أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بكل واحد منهم فيما يعجز عن مباشرته بنفسه والإحرام هو المقصود بهذا السفر فكان الإذن به ثابتا دلالة والعلم ثابت نظرا إلى الدليل والحكم يدار عليه. قال: " والمرأة في جميع ذلك كالرجل " لأنها مخاطبة كالرجل " غير أنها لا تكشف رأسها " لأنه عورة " وتكشف وجهها " لقوله عليه الصلاة والسلام " إحرام المرأة في وجهها " " ولو سدلت شيئا على وجهها وجافته عنه جاز " هكذا روى عن عائشة رضي الله عنها ولأنه بمنزلة الاستظلال بالمحمل " ولا ترفع صوتها بالتلبية " لما فيه من الفتنة " ولا ترمل ولا تسعى بين الميلين " لأنه مخل بستر العورة " ولا تحلق ولكن تقصر " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى النساء عن الحلق وأمرهن بالتقصير ولأن حلق الشعر في حقها مثله كحلق اللحية في حق الرجل وتلبس من المخيط ما بدا لها لأن في لبس غير المخيط كشف العورة قالوا ولا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال إلا أن تجد الموضع خاليا. قال: " ومن قلد بدنة تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد أو شيئا من الأشياء وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم " لقوله عليه الصلاة والسلام " من قلد بدنة فقد أحرم " ولأن سوق الهدى في معنى التلبية في إظهار الإجابة لأنه لا يفعله إلا من يريد الحج أو العمرة وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام. وصفة التقليد أن يربط على عنق بدنته قطعة نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجرة " فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما " لما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت أفتل قلائد هدى رسول الله عليه الصلاة والسلام فبعث بها وأقام في أهله حلالا " فإن توجه بعد ذلك لم يصر محرما حتى يلحقها " لأن عند التوجه إذا لم يكن بين يديه هدى يسوقه لم يوجد منه إلا مجرد النية وبمجرد النية لا يصير محرما " فإذا أدركها وساقها أو أدركها فقد اقترنت نيته بعمل هو من خصائص الإحرام فيصير محرما " كما لو ساقها في الابتداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قال: " إلا في بدنة المتعة فإنه محرم حين توجه " معناه إذا نوى الإحرام وهذا استحسان وجه القياس فيه ماذكرنا ووجه الاستحسان أن هذا الهدى مشروع على الابتداء نسكا من مناسك الحج وضعا لأنه مختص بمكة ويجب شكرا للجمع بين أداء النسكين وغيره قد يجب بالجناية وإن لم يصل إلى مكة فلهذا اكتفى فيه بالتوجه وفي غيره توقف على حقيقة الفعل " فإن جلل بدنة أو اشعرها أو قلد شاة لم يكن محرما " لأن التجليل لدفع الحر والبرد والذباب فلم يكن من خصائص الحج والإشعار مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يكون من النسك في شيء وعندهما إن كان حسنا فقد يفعل للمعالجة بخلاف التقليد لأنه يختص بالهدى وتقليد الشاة غير معتاد وليس بسنة أيضا. قال: " والبدن من الإبل والبقر " وقال الشافعي رحمه الله من الإبل خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الجمعة فالمتعجل منهم كالمهدي بدنة والذين يليه كالمهدي بقرة فصل بينهما. ولنا أن البدنة تنبئ عن البدانة وهي الضخامة وقد اشتركا في هذا المعنى ولهذا يجزئ كل واحد منهما عن سبعة والصحيح من الرواية في الحديث كالمهدي جزورا والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 باب القران " القران أفضل من التمتع والإفراد " وقال الشافعي رحمه الله الإفراد أفضل وقال مالك رحمه الله التمتع أفضل من القران لأن له ذكرا في القرآن ولا ذكر للقران فيه وللشافعي رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " القران رخصة " ولأن في الإفراد زيادة التلبية والسفر والحلق. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا " ولأن فيه جمعا بين العبادتين فأشبه الصوم مع الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل والتلبية غير محصورة والسفر غير مقصود والحلق خروج عن العبادة فلا يترجح بما ذكر والمقصود بما روي نفي قول أهل الجاهلية إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وللقران ذكر في القرآن لأن المراد من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] أن يحرم بهما من دويرة أهله على ما روينا من قبل ثم فيه تعجيل الإحرام واستدامة إحرامهما من الميقات إلى إن يفرغ منهما ولا كذلك التمتع فكان القران أولى منه وقيل الاختلاف بيننا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وبين الشافعي بناء على أن القارن عندنا يطوف طوافين ويسعى سعيين وعنده طوافا واحدا وسعيا واحدا. قال: " وصفة القران أن يهل بالعمرة والحج معا من الميقات ويقول عقيب الصلاة اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني " لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة من قولك قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما وكذا إذا أدخل حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها قائم ومتى عزم على أدائهما يسأل التيسير فيهما وقدم العمرة على الحج فيه ولذلك يقول لبيك بعمرة وحجة معا لأنه يبدأ بأفعال العمرة فكذلك يبدأ بذكرها وإن أخر ذلك في الدعاء والتلبية لا بأس به لأن الواو للجمع ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة " فإذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها ويسعى بعدها بين الصفا والمروة وهذه أفعال العمرة ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد ويقدم أفعال العمرة " لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 96] والقران في معنى المتعة ولا يحلق بين العمرة والحج لأن ذلك جناية على إحرام الحج وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل المفرد ثم هذا مذهبنا وقال الشافعي رحمه الله يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا لقوله عليه الصلاة والسلام " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " ولأن مبنى القران على التداخل حتى اكتفي فيه بتلبية واحدة وسفر واحد وحلق واحد فكذلك في الأركان. ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى سعيين قال له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة وذلك إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال ولأنه لا تداخل في العبادات المقصودة والسفر للتوسل والتلبية للتحريم والحلق للتحلل فليست هذه الأشياء بمقاصد بخلاف الأركان ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان وبتحريمة واحدة يؤديان ومعنى ما رواه " دخل وقت العمرة في وقت الحج ". قال: " فإن طاف طوافين لعمرته وحجته وسعى سعيين يجزيه " لأنه أتى بما هو المستحق عليه وقد أساء بتأخير سعي العمرة وتقديم طواف التحية عليه ولا يلزمه شيء أما عندهما فظاهر لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما وعنده طواف التحية سنة وتركه لا يوجب الدم فتقديمه أولى والسعي بتأخيره بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم فكذا بالاشتغال بالطواف " وإذا رمى الجمرة يوم النحر ذبح شاة أو بقرة أو بدنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أو سبع بدنة فهذا دم القران " لأنه في معنى المتعة والهدي منصوص عليه فيهما والهدي من الإبل والبقر والغنم على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى وأراد بالبدنة ههنا البعير وإن كان اسم البدنة يقع عليه وعلى البقرة على ما ذكرنا وكما يجوز سبع البعير يجوز سبع البقرة " فإذا لم يكن له ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله " لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] فالنص وإن ورد في التمتع فالقران مثله لأنه مرتفق بأداء التسكين والمراد بالحج والله أعلم وقته لأن نفسه لا يصلح ظرفا إلا أن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة لأن الصوم يدل على الهدي فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل " وإن صامها بمكة بعد فراغه من الحج جاز " ومعناه بعد مضي أيام التشريق لأن الصوم فيها منهي عنه وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنه معلق بالرجوع إلا أن ينوي المقام فحينئذ يجزيه لتعذر الرجوع. ولنا أن معناه رجعتم عن الحج أي فرغتم إذ الفراغ سبب الرجوع إلى أهله فكان الأداء بعد السبب فيجوز " فإن فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم " وقال الشافعي رحمه الله يصوم بعد هذه الأيام لأنه صوم موقت فيقضي كصوم رمضان وقال مالك رحمه الله يصوم فيها لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] وهذا وقته. ولنا: النهي المشهور عن الصوم في هذه الأيام فيتقيد به النص أو يدخله النقص فلا يتأدى به ما وجب كاملا " ولا يؤدى بعدها " لأن الصوم بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة فلو لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي " فإن لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات فقد صار رافضا لعمرته بالوقوف " لأنه تعذر عليه أداؤها لأنه يصير باتيا أفعال العمرة على أفعال الحج وذلك خلاف المشروع ولا يصير رافضا بمجرد التوجه هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أيضا والفرق له بينه وبين مصلى الظهر يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هنالك بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا. قال: " وسقط عنه دم القران " لأنه لما ارتفضت العمرة لم يرتفق بأداء التسكين " وعليه دم لرفض عمرته " بعد الشروع فيها " وعليه قضاؤها " لصحة الشروع فيها فأشبه المحصر والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 باب التمتع " التمتع أفضل من الإفراد عندنا " وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الإفراد أفضل لأن المتمتع سفره واقع لعمرته والمفرد سفره واقع لحجته وجه ظاهر الرواية أن في التمتع جمعا بين العبادتين فأشبه القران ثم فيه زيادة نسك وهي إراقة الدم وسفره واقع لحجته وإن تخللت العمرة لأنها تبع للحج كتخلل السنة بين الجمعة والسعي إليها " والمتمتع على وجهين متمتع يسوق الهدي ومتمتع لا يسوق الهدي " ومعنى التمتع الترفق بأداء التسكين في سفر واحد من غير أن يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا ويدخله اختلافات نبينها إن شاء الله تعالى " وصفته أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج فيحرم بالعمرة ويدخل مكة فيطوف لها ويسعى ويحلق أو يقصر وقد حل من عمرته " وهذا هو تفسير العمرة وكذلك إذا اراد أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا هكذا فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء وقال مالك رحمه الله لا حلق عليه إنما العمرة الطواف والسعي وحجتنا عليه ما روينا وقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} [الفتح: 27] الآية نزلت في عمرة القضاء ولأنها لما كان لها تحرم بالتلبية كان لها تحلل بالحلق كالحج " ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف " وقال مالك رحمه الله كما وقع بصره على البيت لأن العمرة زيارة البيت وتتم به. ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر ولأن المقصود هو الطواف فيقطعها عند افتتاحه ولهذا يقطعها الحاج عند افتتاح الرمي قال: " ويقيم بمكة حلالا " لأنه حل من العمرة. قال: " فإذا كان يوم التروية أحرم بالحج من المسجد " والشرط أن يحرم من الحرم أما المسجد فليس بلازم وهذا لأنه في معنى المكي وميقات المكي في الحج الحرم على ما بينا " وفعل ما يفعله الحاج المفرد " لأنه مؤد للحج إلا أنه يرمل في طواف الزيارة ويسعى بعده لأن هذا أول طواف له في الحج بخلاف المفرد لأنه قد سعى مرة ولو كان هذا المتمتع بعد ما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة ولا يسعى بعده لأنه قد أتى بذلك مرة " وعليه دم التمتع " للنص الذي تلوناه " فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " على الوجه الذي بيناه في القران " فإن صام ثلاثة أيام من شوال ثم اعتمر لم يجزه عن الثلاثة " لأن سبب وجوب هذا الصوم التمتع لأنه بدل عن الهدي وهو في هذه الحالة غير متمتع فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه " وإن صامها " بمكة " بعد ما أحرم بالعمرة قبل أن يطوف جاز عندنا " خلافا للشافعي رحمه الله له قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ولنا أنه أداء بعد انعقاد سببه والمراد بالحج المذكور في النص وقته على ما بينا " والأفضل تأخيرها إلى آخر وقتها وهو يوم عرفة " لما بينا في القران " وإن أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم وساق هديه " وهذا أفضل لأن النبي عليه الصلاة والسلام ساق الهدايا مع نفسه ولأن فيه استعدادا ومسارعة " فإن كانت بدنة قلدها بمزادة أو نعل " لحديث عائشة رضي الله عنها على ما رويناه والتقليد أولى من التجليل لن له ذكرا في الكتاب ولأنه للإعلام والتجليل للزينة ويلبي ثم يقلد لأنه يصير محرما بتقليد الهدي والتوجه معه على ما سبق والأولى أن يعقد الإحرام بالتلبية ويسوق الهدي وهو أفضل من أن يقودها لأنه عليه الصلاة والسلام أحرم بذي الحليفة وهداياه تساق بين يديه ولأنه أبلغ في التشهير إلا إذا كانت لا تنقاد فحينئذ يقودها. قال: " وأشعر البدنة عند أبي يوسف ومحمد " رحمهما الله " ولا يشعر عند أبي حنيفة " رحمه الله " ويكره " والإشعار هو الإدماء بالجرح لغة " وصفته أن يشق سنامها " بأن يطعن في أسفل السنام " من الجانب الأيمن أو الأيسر " قالوا: والأشبه هو الأيسر لأن النبي عليه الصلاة والسلام طعن في جانب اليسار مقصودا وفي جانب الأيمن اتفاقا ويلطخ سنامها بالدم إعلاما وهذا الصنع مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما حسن وعند الشافعي رحمه الله سنة لأنه مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ولهما أن المقصود من التقليد أن لا يهاج إذا ورد ماء أو كلأ أو يرد إذا ضل وأنه في الإشعار أتم لأنه ألزم فمن هذا الوجه يكون سنة إلا أنه عارضته جهة كونه مثلة فقلنا بحسنه ولأبي حنيفة رحمه الله أنه مثلة وأنه منهي عنه ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم وإشعار النبي عليه الصلاة والسلام كان لصيانة الهدي لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به وقيل إن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السراية وقيل إنما كره إيثاره على التقليد. قال: " فإذا دخل مكة طاف وسعى " وهذا للعمرة على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي " إلا أنه لا يتحلل حتى يحرم بالحج يوم التروية " لقوله عليه الصلاة والسلام " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها " وهذا ينفي التحلل عند سوق الهدي " ويحرم بالحج يوم التروية " كما يحرم أهل مكة على ما بينا " وإن قدم الإحرام قبله جاز وما عجل المتمتع من الإحرام بالحج فهو أفضل " لما فيه من المسارعة وزيادة المشقة وهذه الأفضلية في حق من ساق الهدي وفي حق من لم يسق " وعليه دم " وهو دم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 التمتع على ما بينا " وإذا حلق يوم النحر فقد حل من الإحرامين " لأن الحلق محلل في الحج كالسلام في الصلاة فيتحلل به عنهما. قال: " وليس لأهل مكة تمتع ولا قران وإنما لهم الإفراد خاصة " خلافا للشافعي رحمه الله والحجة عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ولأن شرعهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين وهذا في حق الأفاقي " ومن كان داخل المواقيت فهو بمنزلة المكي حتى لا يكون له متعة ولا قران " بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث يصح لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فصار بمنزلة الأفاقي " وإذا عاد المتمتع إلى بلده بعد فراغه من العمرة ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه " لأنه ألم بأهله فيما بين النسكين إلماما صحيحا وبذلك يبطل التمتع كذا روي عن عدة من التابعين " وإذا ساق الهدي فإلمامه لا يكون صحيحا ولا يبطل تمتعه " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يبطل لأنه أداهما بسفرتين ولهما أن العود مستحق عليه ما دام على نية التمتع لأن السوق يمنعه من التحلل فلم يصح إلمامه بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وأحرم بعمرة وساق الهدي حيث لم يكن متمتعا لأن العود هناك غير مستحق عليه فصح إلمامه بأهله " ومن أحرم بعمرة قبل أشهر الحج فطاف لها أقل من أربعة أشواط ثم دخلت أشهر الحج فتممها وأحرم بالحج كان متمتعا " لأن الإحرام عندنا شرط فيصح تقديمه على أشهر الحج وإنما يعتبر أداء الأفعال فيها وقد وجد الأكثر وللأكثر حكم الكل " وإن طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعدا ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا " لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج وهذا لأنه صار بحال لا يفسد نسكه بالجماع فصار كما إذا تحلل منها قبل اشهر الحج ومالك رحمه الله يعتبر الإتمام في أشهر الحج والحجة عليه ما ذكرنا ولأن الترفق بأداء الأفعال والمتمتع المترفق بأداء النسكين في سفرة واحدة في أشهر الحج. قال: " واشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " كذا روي عن العبادلة الثلاثة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] شهران وبعض الثالث لا كله " فإن قدم الإحرام بالحج عليها جاز إحرامه وانعقد حجا " خلافا للشافعي رحمه الله فإن عنده يصير محرما بالعمرة لأنه ركن عنده وهو شرط عندنا فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت ولأن الإحرام تحريم أشياء وإيجاب أشياء وذلك يصح في كل زمان فصار كالتقديم على المكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قال: " وإذا قدم الكوفي بعمرة في اشهر الحج وفرغ منها وحلق أو قصر ثم اتخذ مكة أو البصرة دارا وحج من عامه ذلك فهو متمتع " أما الأول فلأنه ترفق بنسكين في سفر واحد في أشهر الحج وأما الثاني فقيل هو بالاتفاق وقيل هو قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يكون متمتعا لأن المتمتع من تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية ونسكاه هذان ميقاتيان وله أن السفرة الأولى قائمة مالم يعد إلى وطنه وقد اجتمع له نسكان فيها فوجب دم التمتع " فإن قدم بعمرة فأفسدها وفرغ منها وقصر ثم اتخذ البصرة دارا ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا هو متمتع " لأنه إنشاء سفر وقد ترفق فيه بنسكين وله أنه باق على سفره مالم يرجع إلى وطنه " فإن كان رجع إلى أهله ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه يكون متمتعا في قولهم جميعا " لأن هذا إنشاء سفر لانتهاء السفر الأول وقد اجتمع له نسكان صحيحان فيه " ولو بقي بمكة ولم يخرج إلى البصرة حتى اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لا يكون متمتعا بالاتفاق " لأن عمرته مكية والسفر الأول انتهى بالعمرة الفاسدة ولا تمتع لأهل مكة " ومن اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فأيهما أفسد مضى فيه " لأنه لا يمكنه الخروج عن عهدة الإحرام إلا بالأفعال " وسقط دم المتعة " لأنه لم يترفق بأداء نسكين صحيحين في سفرة واحدة " وإذا تمتعت المرأة فضحت بشاة لم يجزها عن دم المتعة " لأنها أتت بغير الواجب وكذا الجواب في الرجل " وإذا حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت وصنعت كما يصنعه الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر " لحديث عائشة رضي الله عنها حين حاضت بسرف ولأن الطواف في المسجد والوقوف في المفازة وهذا الاغتسال للإحرام لا للصلاة فيكون مفيدا " فإن حاضت بعد الوقوف وطواف الزيارة انصرفت من مكة ولا شيء عليها لطواف الصدر لأنه عليه الصلاة والسلام رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر " ومن اتخذ مكة دارا فليس عليه طواف الصدر " لأنه على من يصدر إلا إذا اتخذها دارا بعد ما حل النفر الأول فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله ويرويه البعض عن محمد رحمه الله لأنه وجب عليه بدخول وقته فلا يسقط بنية الإقامة بعد ذلك والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 باب الجنايات مدخل ... باب الجنايات " وإذا تطيب المحرم فعليه الكفارة فإن طيب عضوا كاملا فما زاد فعليه دم " وذلك مثل الرأس والساق والفخذ وما اشبه ذلك لأن الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق وذلك في العضو الكامل فيترتب عليه كمال الموجب " وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة " لقصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الجناية. وقال محمد رحمه الله يجب بقدره من الدم اعتبارا للجزء بالكل وفي المنتقى أنه إذا طيب ربع العضو فعليه دم اعتبارا بالحلق ونحن نذكر الفرق بينهما من بعد إن شاء الله تعالى ثم واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع إلا في موضعين نذكرهما في باب الهدي إن شاء الله تعالى " وكل صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع من بر إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة " هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله. قال: " فإن خضب رأسه بحناء فعليه دم " لأنه طيب قال عليه الصلاة والسلام " الحناء طيب " وإن صار ملبدا فعليه دمان دم للتطيب ودم للتغطية " ولو خضب رأسه بالوسمة لا شيء عليه " لأنها ليست بطيب وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا خضب رأسه بالوسمة لأجل المعالجة من الصداع فعليه الجزاء باعتبار أنه يغلف رأسه وهذا هو الصحيح ثم ذكر محمد في الأصل رأسه ولحيته واقصتر على ذكر الرأس في الجامع الصغير دل أن كل واحد منهما مضمون " فإن ادهن بزيت فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليه الصدقة " وقال الشافعي رحمه الله إذا استعمله في الشعر فعليه دم لإزالة الشعث وإن استعمله في غيره فلا شيء عليه لانعدامه ولهما أنه من الأطعمة إلا أن فيه ارتفاقا بمعنى قتل الهوام وإزالة الشعث فكانت جناية قاصرة ولأبي حنيفة رحمه الله أنه أصل الطيب ولا يخلو عن نوع طيب ويقتل الهوام ويلين الشعر ويزيل التفث والشعث فتتكامل الجناية بهذه الجملة فتوجب الدم وكونه مطعوما لا ينافيه كالزعفران وما أشبههما يجب باستعماله الدم بالاتفاق لأنه طيب وهذا إذا استعمله على وجه التطيب " ولو داوى به جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه " لأنه ليس بطيب في نفسه إنما هو أصل الطيب أو هو طيب من وجه فيشترط استعماله على وجه التطيب بخلاف ما إذا تداوى بالمسك وما أشبهه " وإن لبس ثوبا مخيطا أو غطى رأسه يوما كاملا فعليه دم وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة " وعن أبي يوسف رحمه الله انه إذا لبس أكثر من نصف يوم فعليه دم وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أولا وقال الشافعي رحمه الله يجب الدم بنفس اللبس لأن الارتفاق يتكامل بالاشتمال على بدنه ولنا أن معنى الترفق مقصود من اللبس فلا بد من اعتبار المدة ليحصل على الكمال ويجب الدم فقدر باليوم لأنه يلبس فيه ثم ينزع عادة وتتقاصر فيما دونه الجناية فتجب الصدقة غير أن أبا يوسف رحمه الله أقام الأكثر مقام الكل " ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به أو ائتزر بالسراويل فلا بأس به " لأنه لم يلبسه لبس المخيط " وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في الكمين " خلافا لزفر رحمه الله لأنه ما لبسه لبس القباء ولهذا يتكلف في حفظه والتقدير في تعطية الرأس من حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الوقت ما بيناه ولا خلاف أنه إذا غطى جميع رأسه يوما كاملا يجب عليه الدم لأنه ممنوع عنه ولو غطى بعض رأسه فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه اعتبر الربع اعتبارا بالحلق والعورة وهذا لأن ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر أكثر الرأس اعتبارا للحقيقة " وإذا حلق ربع رأسه أو ربع لحيته فصاعدا فعليه دم فإن كان أقل من الربع فعليه صدقة " وقال مالك رحمه الله لا يجب إلا بحلق الكل وقال الشافعي رحمه الله يجب بحلق القليل اعتبارا بنبات الحرم. ولنا أن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل لأنه معتاد فتتكامل به الجناية وتتقاصر فيما دونه بخلاف تطيب ربع العضو لأنه غير مقصود وكذا حلق بعض اللحية معتاد بالعراق وأرض العرب " وإن حلق الرقبة كلها فعليه دم " لأنه عضو مقصود بالحلق " وإن حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم " لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لدفع الأذى ونيل الراحة فأشبه العانة ذكر في الإبطين الحلق ههنا وفي الأصل النتف وهو السنة " وقال أبو يوسف ومحمد " رحمهما الله " إذا حلق عضوا فعليه دم وإن كان أقل فطعام " أراد به الصدر والساق وما أشبه ذلك لأنه مقصود بطريق التنور فتتكامل بحلق كله وتتقاصر عند حلق بعضه " وإن أخذ من شاربه فعليه طعام حكومة عدل " ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية فيجب عليه الطعام بحسب ذلك حتى لو كان مثلا مثل ربع الربع تلزمه قيمة ربع الشاة ولفظة الأخذ من الشارب تدل على أنه هو السنة فيه دون الحلق والسنة أن يقص حتى يوازي الإطار. قال: " وإن حلق موضع المحاجم فعليه دم عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا عليه صدقة " لأنه إنما يحلق لأجل الحجامة وهي ليست من المحظورات فكذا ما يكون وسيلة إليها إلا أن فيه إزالة شيء من التفث فتجب الصدقة ولأبي حنيفة رحمه الله أن حلقه مقصود لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به وقد وجد إزالة التفث عن عضو كامل فيجب الدم " وإن حلق رأس محرم بأمره أو بغير أمره فعلى الحالق الصدقة وعلى المحلوق دم " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب إن كان بغير أمره بأن كان نائما لأن من أصله أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ منه وعندنا بسبب النوم والإكراه ينتفي المأثم دون الحكم وقد تقرر سببه وهو ما نال من الراحة والزينة فيلزمه الدم حتما بخلاف المضطر حيث يتخير لأن الآفة هناك سماوية وههنا من العباد ثم لا يرجع المحلوق رأسه على الحالق لأن الدم إنما لزمه بما نال من الراحة فصار كالمغرور في حق العقر وكذا إذا كان الحالق حلالا لا يختلف الجواب في حق المحلوق رأسه وأما الحالق تلزمه الصدقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 في مسئلتنا في الوجهين وقال الشافعي رحمه الله لا شيء عليه وعلى هذا الخلاف إذا حلق المحرم رأس حلال له أن معنى الارتفاق لا يتحقق بحلق شعر غيره وهو الموجب. ولنا أن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من محظورات الإحرام لاستحقاقه الأمان بمنزلة نبات الحرم فلا يفترق الحال بين شعره وشعر غيره إلا أن كمال الجناية في شعره " فإن أخذ من شارب حلال أو قلم أظافيره أطعم ما شاء " والوجه فيه ما بينا ولا يعرى عن نوع ارتفاق لأنه يتأذى بتفث غيره وإن كان أقل من التأذي بتفث نفسه فيلزمه الطعام " وإن قص أظافير يديه ورجليه فعليه دم " لأنه من المحظورات لما فيه من قضاء التفث وإزالة ما ينمو من البدن فإذا قلمها كلها فهو ارتفاق كامل فيلزمه الدم " ولا يزاد على دم إن حصل في مجلس واحد " لأن الجناية من نوع واحد فإن كان في مجالس فكذلك عند محمد رحمه الله لأن مبناها على التداخل فأشبه كفارة الفطر إلا إذا تخللت الكفارة لارتفاع الأولى بالتكفير وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تجب أربعة دماء إن قلم في كل مجلس يدا أو رجلا لأن الغالب فيه معنى العبادة فيتقيد التداخل باتحاد المجلس كما في آي السجدة " وإن قص يدا أو رجلا فعليه دم " إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق " وإن قص أقل من خمسة أظافير فعليه صدقة " معناه تجب بكل ظفر صدقة وقال زفر رحمه الله يجب الدم بقص ثلاثة منها وهو قول أبي حنيفة الأول لأن في أظافير اليد الواحدة دما والثلاث أكثرها وجه المذكور في الكتاب أن أظافير كف واحد أقل ما يجب الدم بقلمه وقد أقمناها مقام الكل فلا يقام أكثرها مقام كلها لأنه يؤدي إلى مالا يتناهي " وإن قص خمسة أظافير متفرقة من يديه ورجليه فعليه صدقة عند أبي حنيفة وأبي يوسف " رحمهما الله " وقال محمد " رحمه الله " عليه دم " اعتبارا بما لو قصها من كف واحد وبما إذا حلق ربع الرأس من مواضع متفرقة ولهما أن كمال الجناية بنيل الراحة والزينة وبالقلم على هذا الوجه يتأذى ويشينه ذلك بخلاف الحلق لأنه معتاد على ما مر وإذا تقاصرت الجناية تجب فيها الصدقة فيجب بقلم كل ظفر طعام مسكين وكذلك لو قلم أكثر من خمسة متفرقا إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص عنه ما شاء. قال: " وإن انكسر ظفر المحرم وتعلق فأخذه فلا شيء عليه " لأنه لا ينمو بعد الانكسار فأشبه اليابس من شجر الحرم " وإن تطيب أو لبس مخيطا أو حلق من عذر فهو مخير إن شاء ذبح شاة وإن شاء تصدق على ستة مساكين بثلاثة أصوع من الطعام وإن شاء صام ثلاثة أيام " لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وكلمة أو للتخيير وقد فسرها رسول الله عليه الصلاة والسلام بما ذكرنا والآية نزلت في المعذور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ثم الصوم يجزئه في أي موضع شاء لأنه عبادة في كل مكان وكذلك الصدقة عندنا لما بينا. وأما النسك فيختص بالحرم بالاتفاق لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان وهذا الدم لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان " ولو اختار الطعام أجزأه فيه التعذية والتعشية عند أبي يوسف " رحمه الله اعتبارا بكفارة اليمين وعند محمد رحمه الله لا يجزئه لأن الصدقة تنبئ عن التمليك وهو المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فصل فإن نظر إلى فرج امرأته بشهوة إلخ ... فصل " فإن نظر إلى فرج امرأته بشهوة فأمنى لا شيء عليه " لأن المحرم هو الجماع ولم يوجد فصار كما لو تفكر فأمنى " وإن قبل أو لمس بشهوة فعليه دم " وفي الجامع الصغير يقول إذا مس بشهوة فأمى ولا فرق بين ما إذا أنزل أو لم ينزل ذكره في الأصل وكذا الجواب في الجماع فيما دون الفرج وعن الشافعي رحمه الله أنه إنما يفسد إحرامه في جميع ذلك إذا أنزل واعتبره بالصوم. ولنا أن فساد الحج يتعلق بالجماع ولهذا لا يفسد بسائر المحظورات وهذا ليس بجماع مقصود فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع إلا أن فيه معنى الاستمتاع والارتفاق بالمرأة وذلك محظور الإحرام فيلزمه الدم بخلاف الصوم لأن المحرم فيه قضاء الشهوة ولا يحصل بدون الإنزال فيما دون الفرج " وإن جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد حجه وعليه شاة ويمضي في الحج كما يمضي من لم يفسده وعليه القضاء " والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال " يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل " وهكذا نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الشافعي رحمه الله تجب بدنة اعتبارا بما لو جامع بعد الوقوف والحجة عليه إطلاق ما روينا ولأن القضاء لما وجب ولا يجب إلا لاستدراك المصلحة خف معنى الجناية فيكتفي بالشاة بخلاف ما بعد الوقوف لأنه لا قضاء ثم سوى بين السبيلين وعن أبي حنيفة رحمه الله أن في غير القبل منهما لا يفسد لتقاصر معنى الوطء فكان عنه روايتان " وليس عليه أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسداه عندنا " خلافا لمالك رحمه الله إذا خرجا من بيتهما ولزفر رحمه الله إذا أحرما وللشافعي إذا انتهيا إلى المكان الذي جامعها فيه لهم أنهم يتذاكران ذلك فيقعان في المواقعة فيفترقان. ولنا أن الجامع بينهما وهو النكاح قائم فلا معنى للافتراق قبل الإحرام لإباحة الوقاع ولا بعده لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة الشديدة بسبب لذة يسيرة فيزدادان ندما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وتحرزا فلا معنى للافتراق " ومن جامع بعد الوقوف بعرفة لم يفسد حجه وعليه بدنة " خلافا للشافعي فيما إذا جامع قبل الرمي لقوله عليه الصلاة والسلام " من وقف بعرفة فقد تم حجه " وإنما تجب البدنة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أو لأنه على أنواع الارتفاق فيتغلظ موجبه " وإن جامع بعد الحلق فعليه شاة " لبقاء إحرامه في حق النساء دون لبس المخيط وما أشبه فخفت الجناية فاكتفى بالشاة. "ومن جامع في العمرة قبل أن يطوف أربعة أشواط فسدت عمرته فيمضي فيها ويقضيها وعليه شاة وإذا جامع بعد ما طاف أربعة أشواط أو أكثر فعليه شاة ولا تفسد عمرته " وقال الشافعي تفسد في الوجهين وعليه بدنة اعتبارا بالحج إذ هي فرض عنده كالحج ولنا أنها سنة فكانت أحط رتبة منه فتجب الشاة ف فيها والبدنة في الحج إظهارا للتفاوت. " ومن جامع ناسيا كان كمن جامع متعمدا " وقال الشافعي رحمه الله جماع الناسي غير مفسد للحج وكذا الخلاف في جماع النائمة والمكرهة هو يقول الحظر ينعدم بهذه العوارض فلم يقع الفعل جناية ولنا أن الفساد باعتبار معنى الارتفاق في الإحرام ارتفاقا مخصوصا وهذا لا ينعدم بهذه العوارض والحج ليس في معنى الصوم لأن حالات الإحرام مذكرة بمنزلة حالات الصلاة بخلاف الصوم والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فصل " ومن طاف طواف القدوم محدثا فعليه صدقة " وقال الشافعي رحمه الله لا يعتد به لقوله عليه الصلاة والسلام " الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق " فتكون الطهارة من شرطه ولنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] من غير قيد الطهارة فلم تكن فرضا ثم قيل هي سنة والأصح أنها واجبة لأنه يجب بتركها الجابر ولأن الخبر يوجب العمل فيثبت به الوجوب فإذا شرع في هذا الطواف وهو سنة يصير واجبا بالشروع ويدخله نقص بترك الطهارة فيجبر بالصدقة إظهارا لدنو رتبته عن الواجب بإيجاب الله وهو طواف الزيارة وكذا الحكم في كل طواف هو تطوع " ولو طاف طواف الزيارة محدثا فعليه شاة " لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول فيجبر بالدم " وإن كان جنبا فعليه بدنة " كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ولأن الجنابة أغلظ من الحدث فيجب جبر نقصانها بالبدنة إظهارا للتفاوت وكذا إذا طاف أكثره جنبا أو محدثا لأن أكثر الشيء له حكم كله " والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه " وفي بعض النسخ: وعليه أن يعيد. والأصح أنه يؤمر بالإعادة في الحدث استحبابا، وفي الجنابة إيجابا لفحش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 النقصان بسبب الجنابة وقصوره بسبب الحدث ثم إذا أعاده وقد طافه محدثا لا ذبح عليه وإن أعاده بعد أيام النحر لأن بعد الإعادة لا يبقى إلا شبهة النقصان وإن أعاده وقد طافه جنبا في أيام النحر فلا شيء عليه لأنه أعاده في وقته وإن أعاده بعد أيام النحر لزمه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله بالتأخير على ما عرف من مذهبه ولو رجع إلى أهله وقد طافه جنبا عليه أن يعود لأن النقص كثير فيؤمر بالعود استدراكا له ويعود بإحرام جديد وإن لم يعد وبعث بدنة أجزأه لما بينا أنه جابر له إلا أن الأفضل هو العود ولو رجع إلى أهله وقد طافه محدثا إن عاد وطاف جاز وإن بعث بالشاة فهو أفضل لأنه خف معنى النقصان وفيه نفع للفقراء ولو لم يطف طواف الزيارة أصلا حتى رجع إلى أهله فعليه أن يعود بذلك الإحرام لانعدام التحلل منه وهو محرم عن النساء أبدا حتى يطوف " ومن طاف طواف الصدر محدثا فعليه صدقة " لأنه دون طواف الزيارة وإن كان واجبا فلا بد من إظهار التفاوت وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجب شاة إلا أن الأول أصح " ولو طاف جنبا فعليه شاة " لأنه نقص كثير ثم هو دون طواف الزيارة فيكتفى بالشاة. " ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها فعليه شاة " لأن النقصان بترك الأقل يسير فأشبه النقصان بسبب الحدث فتلزمه شاة فلو رجع إلى أهله أجزأه أن لا يعود ويبعث بشاة لما بينا. " ومن ترك أربعة أشواط بقي محرما أبدا حتى يطوفها " لأن المتروك أكثر فصار كأنه لم يطف أصلا. " ومن ترك طواف الصدر أو أربعة أشواط منه فعليه شاة " لأنه ترك لواجب الأكثر منه وما دام بمكة يؤمر بالإعادة إقامة للواجب في وقته. " ومن ترك ثلاثة أشواط من طواف الصدر فعليه الصدقة ومن طاف طواف الواجب في جوف الحجر فإن كان بمكة أعاده " لأن الطواف وراء الحطيم واجب على ما قدمناه والطواف في جوف الحجر أن يدور حول الكعبة ويدخل الفرجتين اللتين بينها وبين الحطيم فإذا فعل ذلك فقد أدخل نقصا في طوافه فما دام بمكة أعاده كله ليكون مؤديا للطواف على الوجه المشروع " وإن أعاد على الحجر " خاصة " أجزأه " لأنه تلافي ما هو المتروك وهو أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة ويخرج من الجانب الآخر هكذا يفعله سبع مرات " فإن رجع إلى أهله ولم يعده فعليه دم " لأنه تمكن نقصان في طوافه بترك ما هو قريب من الربع ولا تجزيه الصدقة " ومن طاف طواف الزيارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 على غير وضوء وطواف الصدر في آخر أيام التشريق طاهرا فعليه دم فإن كان طاف طواف الزيارة جنبا فعليه دمان عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا: عليه دم واحد " لأن في الوجه الأول لم ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه واجب وإعادة طواف الزيارة بسبب الحدث غير واجب وإنما هو مستحب فلا ينقل إليه وفي الوجه الثاني ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه مستحق الإعادة فيصير تاركا لطواف الصدر مؤخرا لطواف الزيارة عن أيام النحر فيجب الدم بترك الصدر بالاتفاق وبتأخير الآخر على الخلاف إلا أنه يؤمر بإعادة طواف الصدر ما دام بمكة ولا يؤمر بعد الرجوع على ما بينا. " ومن طاف لعمرته وسعى على غير وضوء وحل فما دام بمكة يعيدهما ولا شيء عليه " أما إعادة الطواف فلتمكن النقص فيه بسبب الحدث وأما السعي فلأنه تبع للطواف وإذا أعادهما لا شيء عليه لارتفاع النقصان " وإن رجع إلى أهله قبل أن يعيد فعليه دم " لترك الطهارة فيه ولا يؤمر بالعود لوقوع التحلل بأداء الركن إذ النقصان يسير وليس عليه في السعي شيء لأنه أتى به على أثر طواف معتد به وكذا إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي في الصحيح. " ومن ترك السعي بين الصفا والمروة فعليه دم وحجه تام " لأن السعي من الواجبات عندنا فيلزم بتركه الدم دون الفساد. " ومن أفاض قبل الإمام من عرفات فعليه دم " وقال الشافعي رحمه الله: لا شيء عليه لأن الركن أصل الوقوف فلا يلزمه بترك الإطالة شيء ولنا أن الاستدامة إلى غروب الشمس واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام " فادفعوا بعد غروب الشمس " فيجب بتركه الدم بخلاف ما إذا وقف ليلا لأن استدامة الوقوف على من وقف نهارا لا ليلا فإن عاد إلى عرفة بعد غروب الشمس لا يسقط عنه الدم في ظاهر الرواية لأن المتروك لا يصير مستدركا واختلفوا فيما إذا عاد قبل الغروب. " ومن ترك الوقوف بالمزدلفة فعليه دم " لأنه من الواجبات " ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها فعليه دم " لتحقق ترك الواجب " ويكفيه دم واحد " لأن الجنس متحد كما في الحلق والترك إنما يتحقق بغروب الشمس من آخر أيام الرمي لأنه لم يعرف قربة إلا فيها وما دامت الأيام باقية فالإعادة ممكنة فيرميها على التأليف ثم بتأخيرها يجب الدم عند أبي حنيفة خلافا لهما " وإن ترك رمي يوم واحد فعليه دم " لأنه نسك تام. " ومن ترك رمي إحدى الجمار الثلاث فعليه الصدقة " لأن الكل في هذا اليوم نسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 واحد، فكان المتروك أقل إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف فحينئذ يلزمه الدم لوجود ترك الأكثر " وإن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فعليه دم " لأنه كل وظيفة هذا اليوم رميا وكذا إذا ترك الأكثر منها " وإن ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا تصدق لكل حصاة نصف صاع إلا أن يبلغ دما فينقص ما شاء " لأن المتروك هو الأقل فتكفيه الصدقة. " ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دم عند أبي حنيفة وكذا إذا أخر طواف الزيارة " حتى مضت أيام التشريق " فعليه دم عنده وقالا لا شيء عليه في الوجهين " وكذا الخلاف في تأخير الرمي وفي تقديم نسك على نسك كالحلق قبل الرمي ونحر القارن قبل الرمي والحلق قبل الذبح لهما أن ما فات مستدرك بالقضاء ولا يجب مع القضاء شيء آخر وله حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من قدم نسكا على نسك فعليه دم ولأن التأخير عن المكان يوجب الدم فيما هو موقت بالمكان كالإحرام فكذا التأخير عن الزمان فيما هو موقت بالزمان " وإن حلق في أيام النحر في غير الحرم فعليه دم ومن اعتمر فخرج من الحرم وقصر فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد " رحمهما الله تعالى " وقال أبو يوسف " رحمه الله " لا شيء عليه ". قال رضي الله عنه: ذكر في الجامع الصغير قول أبي يوسف في المعتمر ولم يذكره في الحاج قيل هو بالاتفاق لأن السنة جرت في الحج بالحلق بمنى وهو من الحرم والأصح أنه على الخلاف هو يقول الحلق غير مختص بالحرم لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أحصروا بالحديبية وحلقوا في غير الحرم ولهما أن الحلق لما جعل محللا صار كالسلام في آخر الصلاة فإنه من واجباتها وإن كان محللا فإذا صار نسكا اختص بالحرم كالذبح وبعض الحديبية من الحرم فلعلهم حلقوا فيه فالحاصل أن الحلق يتوقت بالزمان والمكان عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف لا يتوقت بهما وعند محمد يتوقت بالمكان دون الزمان وعند زفر يتوقت بالزمان دون المكان وهذا الخلاف في التوقيت في حق التضمين بالدم وأما في حق التحلل فلا يتوقت بالاتفاق " والتقصير والحلق في العمرة غير موقت بالزمان بالإجماع " لأن أصل العمرة لا يتوقت به بخلاف المكان لأنه موقت به. قال: " فإن لم يقصر حتى رجع وقصر فلا شيء عليه في قولهم جميعا " معناه إذا خرج المعتمر ثم عاد لأنه أتى به في مكانه فلا يلزمه ضمانه " فإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان " عند أبي حنيفة رحمه الله دم بالحلق في غير أوانه لأن أوانه بعد الذبح ودم بتأخير الذبح عن الحلق وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول ولا يجب بسبب التأخير شيء على ما قلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فصل جزاء الصيد ... فصل اعلم أن صيد البر محرم على المحرم وصيد البحر حلال لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] إلى آخر الآية وصيد البر ما يكون توالده ومثواه في البر وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في الماء والصيد هو الممتنع المتوحش في أصل الخلقة واستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس الفواسق وهي الكلب العقور والذئب والحدأة والغراب والحية والعقرب فإنها مبتدئات بالأذى والمراد به الغراب الذي يأكل الجيف هو المروي عن أبي يوسف رحمه الله. قال: " وإذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله فعليه الجزاء" أما القتل فلقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] الآية نص على إيجاب الجزاء وأما الدلالة ففيها خلاف الشافعي رحمه الله هو يقول الجزاء تعلق بالقتل والدلالة ليست بقتل فأشبه دلالة الحلال حلالا. ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة رضي الله عنه وقال عطاء رحمه الله أجمع الناس على أن على الدال الجزاء ولأن الدلالة من محظورات الإحرام ولأنه تفويت الأمن على الصيد إذ هو آمن بتوحشه وتواريه فصار كالإتلاف ولأن المحرم بإحرامه التزم الامتناع عن التعرض فيضمن بترك ما التزمه كالمودع بخلاف الحلال لأنه لا التزام من جهته على أن فيه الجزاء على ما روي عن أبي يوسف وزفر رحمهما الله والدلالة الموجبة للجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد وأن يصدقه في الدلالة حتى لو كذبه وصدق غيره لا ضمان على المكذب " ولو كان الدال حلالا في الحرم لم يكن عليه شيء " لما قلنا " وسواء في ذلك العامد والناسي " لأنه ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف فأشبه غرامات الأموال " والمبتدئ والعائد سواء " لأن الموجب لا يختلف " والجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقوم الصيد في المكان الذي قتل فيه أو في أقرب المواضع منه إذا كان في برية فيقومه ذوا عدل ثم هو مخبر في الفداء إن شاء ابتاع بها هديا وذبحه إن بلغت هديا وإن شاء اشترى بها طعاما وتصدق على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير وإن شاء صام " على ما نذكر. وقال محمد والشافعي يجب في الصيد النظير فيما له نظير ففي الظبي شاة وفي الضبع شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة وفي النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ومثله من النعم ما يشبه المقتول صورة لأن القيمة لا تكون نعما والصحابة رضي الله عنهم أوجبوا النظير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 من حيث الخلقة والمنظر في النعامة والظبي وحمار الوحش والأرنب على ما بينا وقال عليه الصلاة والسلام "الضبع صيد وفيه الشاة " وما ليس له نظير عند محمد تجب فيه القيمة مثل العصفور والحمام وأشباههما وإذا وجبت القيمة كان قوله كقولهما والشافعي رحمه الله تعالى يوجب في الحمامة شاة ويثبت المشابهة بينهما من حيث أن كل واحد منهما يعب ويهدر ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى ولا يمكن الحمل عليه فحمل على المثل معنى لكونه معهودا في الشرع كما في حقوق العباد أو لكونه مرادا بالإجماع أو لما فيه من التعميم وفي ضده التخصيص والمراد بالنص والله أعلم. فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي واسم النعم يطلق على الوحشي والأهلي كذا قاله أبو عبيدة والأصمعي رحمهما الله والمراد بما روي التدقير به دون إيجاب المعين ثم الخيار إلى القاتل في أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد والشافعي رحمهما الله الخيار إلى الحكمين في ذلك فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما ذكرنا وإن حكما بالطعام أو بالصيام فعلى ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف لهما أن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه كما في كفارة اليمين ولمحمد والشافعي قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً [المائدة: 95] الآية ذكر الهدي منصوبا لأنه تفسير لقوله: {يَحْكُمُ بِهِ} أو مفعول لحكم الحكم ثم ذكر الطعام والصيام بكلمة أو فيكون الخيار إليهما قلنا الكفارة عطفت على الجزاء لا على الهدي بدليل أنه مرفوع وكذا قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95] مرفوع فلم يكن فيها دلالة اختيار الحكمين وإنما يرجع إليهما في تقويم المتلف ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه " ويقومان في المكان الذي أصابه " لاختلاف القيم باختلاف الأماكن فإن كان الموضع برا لا يباع فيه الصيد يعتبر أقرب المواضع إليه مما يباع فيه ويشترى قالوا والواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد عن الغلط كما في حقوق العباد وقيل يعتبر المثنى ههنا بالنص " والهدي لا يذبح إلا بمكة " لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] " ويجوز الإطعام في غيرها " خلافا للشافعي رحمه الله هو يعتبره بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم ونحن نقول الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة قربة معقولة في كل زمان ومكان. " والصوم يجوز في غير مكة " لأنه قربة في كل مكان " فإن ذبح الهدي بالكوفة أجزأه عن الطعام " معناه إذا تصدق باللحم وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه " وإذا وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزيه في الأضحية " لأن مطلق اسم الهدي منصرف إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال محمد والشافعي يجزي صغار الغنم فيها لأن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا عناقا وجفرة وعند ابي حنيفة وأبي يوسف يجوز الصغار على وجه الإطعام يعني إذا تصدق وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم التلف بالطعام عندنا لأنه هو المضمون المعتبر قيمته. " وإذا اشترى بالقيمة طعاما تصدق على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ولا يجوز أن يطعم المسكين أقل من نصف صاع " لأن الطعام المذكور ينصرف إلى المعهود في الشرع " وإن اختار الصيام يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن كل نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير يوما " لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في باب الفدية " فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير إن شاء تصدق به وإن شاء صام عنه يوما كاملا " لأن الصوم أقل من يوم غير مشروع وكذلك إن كان الواجب دون طعام مسكين يطعم قدر الواجب أو يصوم يوما كاملا لما قلنا. " ولو جرح صيد أو نتف شعره أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه " اعتبارا للبعض بالكل كما في حقوق العباد " ولو نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فخرج من حيز الامتناع فعليه قيمته كاملة " لأنه فوت عليه الأمن بتفويت آلة الامتناع فيغرم جزاءه. " ومن كسر بيض نعامة فعليه قيمته " وهذا مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه اصل الصيد وله عرضية أن يصير صيدا فنزل منزلة الصيد احتياطا مالم يفسد " فإن خرج من البيض فرخ ميت فعليه قيمته حيا " وهذا استحسان والقياس أن لا يغرم سوى البيضة لأن حياة الفرخ غير معلومة وجه الاستحسان أن البيض معد ليخرج منه الفرخ الحي والكسر قبل أوانه سبب لموته فيحال به عليه احتياطا وعلى هذا إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا وماتت فعليه قيمتهما. " وليس في قتل الغراب والحدأة والذئب والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور جزاء " لقوله عليه الصلاة والسلام " خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم الحدأة والحية والعقرب والفأرة والكلب العقور " وقال عليه الصلاة والسلام " يقتل المحرم الفأرة والغراب والحدأة والعقرب والحية والكلب العقور " وقد ذكر الذئب في بعض الروايات وقيل المراد بالكلب العقور الذئب أو يقال إن الذئب في معناه والمراد بالغراب الذي يأكل الجيف ويخلط لأنه يبتدئ بالأذى أما العقعق فغير مستثنى لأنه لا يسمى غرابا ولا يبتدئ بالأذى وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الكلب العقور وغير العقور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والمستأنس، والمتوحش منهما سواء لأن المعتبر في ذلك الجنس وكذا الفأرة الأهلية والوحشية سواء والضب واليربوع ليسا من الخمس المستثناة لأنهما لا يبتدئان بالأذى " وليس في قتل البعوض والنمل والبراغيث والقراد شيء " لأنها ليست بصيود وليست بمتولدة من البدن ثم هي مؤذية بطباعها والمراد بالنمل السود أو الصفر التي تؤذي ومالا يؤذي لا يحل قتلها ولكن لا يجب الجزاء للعلة الأولى. " ومن قتل قملة تصدق بما شاء " مثل كف من إطعام لأنها متولدة من التفث الذي على البدن " وفي الجامع الصغير أطعم شيئا " وهذا يدل على أنه يجزيه أن يطعم مسكينا شيئا يسيرا على سبيل الإباحة وإن لم يكن مشبعا. " ومن قتل جرادة تصدق بما شاء " لأن الجراد من صيد البر فإن الصيد ما لا يمكن أخذه إلا بحيلة ويقصده الآخذ " وتمرة خير من جرادة " لقول عمر رضي الله عنه تمرة خير من جرادة " ولا شيء عليه في ذبح السلحفاة " لأنه من الهوام والحشرات فأشبه الخنافس والوزغات ويمكن أخذه من غير حيلة وكذا لا يقصد بالأخذ فلم يكن صيدا. " ومن حلب صيد الحرم فعليه قيمته " لأن اللبن من أجزاء الصيد فأشبه كله. " ومن قتل مالا يؤكل لحمه من الصيد كالسباع ونحوها فعليه الجزاء " إلا ما استثناه الشرع وهو ما عددناه وقال الشافعي رحمه الله لا يجب الجزاء لأنها جبلت على الإيذاء تدخلت في الفواسق المستثناة وكذا اسم الكلب يتناول السباع بأسرها لغة. ولنا أن السبع صيد لتوحشه وكونه مقصودا بالأخذ إما لجلده أو ليصطاد به أو لدفع أذاه والقياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد واسم الكلب لا يقع على السبع عرفا والعرف أملك " ولا يجاوز بقيمته شاة " وقال زفر رحمه الله: تجب قيمته بالغة ما بلغت اعتبارا بمأكول اللحم. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " الضبع صيد وفيه الشاة " ولأن اعتبار قيمته لمكان الانتفاع بجلده لا لأنه محارب مؤذ ومن هذا الوجه لا يزداد على قيمة الشاة ظاهرا. " وإذا صال السبع على المحرم فقتله لا شيء عليه " وقال زفر رحمه الله يجب الجزاء اعتبارا بالجمل الصائل. ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعا وأهدى كبشا وقال إنا ابتدأناه ولأن المحرم ممنوع عن التعرض لا عن دفع الأذى ولهذا كان مأذونا في دفع المتوهم من الأذى كما في الفواسق فلأن يكون مأذونا في دفع المتحقق منه أولى ومع وجود الإذن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الشارع لا يجب الجزاء حقا له بخلاف الجمل الصائل لأنه لا إذن من صاحب الحق وهو العبد " وإن اضطر المحرم إلى قتل صيد فقتله فعليه الجزاء " لأن الإذن مقيد بالكفارة بالنص على ما تلوناه من قبل. " ولا بأس للمحرم أن يذبح الشاة والبقرة والبعير والدجاجة والبط الأهلي " لأن هذه الأشياء ليست بصيود لعدم التوحش والمراد بالبط الذي يكون في المساكن والحياض لأنه ألوف بأصل الخلقة. " ولو ذبح حماما مسرولا فعليه الجزاء " خلافا لمالك رحمه الله له أنه ألوف مستأنس ولا يمتنع بجناحيه لبطء نهوضه ونحن نقول الحمام متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه وإن كان بطيء النهوض والاستئناس عارض فلم يعتبر " وكذا إذا قتل ظبيا مستأنسا " لأنه صيد في الأصل فلا يبطله الاستئناس كالبعير إذا ند لا يأخذ حكم الصيد في الحرمة على المحرم. " وإذا ذبح المحرم صيدا فذبيحته ميتة لا يحل أكلها " وقال الشافعي رحمه الله يحل ما ذبحه المحرم لغيره لأنه عامل له فانتقل فعله إليه. ولنا أن الذكاة فعل مشروع وهذا فعل حرام فلا يكون ذكاة كذبيحة المجوسي وهذا لأن المشروع هو الذي قام مقام الميز بين الدم واللحم تيسيرا فينعدم بانعدامه " فإن أكل المحرم الذابح من ذلك شيئا فعليه قيمة ما أكل عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا ليس عليه جزاء ما أكل وإن أكل منه محرم آخر فلا شيء عليه في قولهم جميعا " لهما أن هذه ميتة فلا يلزمه بأكلها إلا الاستغفار وصار كما إذا أكله محرم غيره ولأبي حنيفة أن حرمته باعتبار كونه ميتة كما ذكرنا وباعتبار أنه محظور إحرامه لأن إحرامه هو الذي أخرج الصيد عن المحلية والذابح عن الأهلية في حق الذكاة فصارت حرمة التناول بهذه الوسائط مضافة إلى إحرامه بخلاف محرم آخر لأن تناوله ليس من محظورات إحرامه. " ولا بأس بأن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال وذبحه إذا لم يدل المحرم عليه ولا أمره بصيده " خلافا لمالك رحمه الله فيما إذا اصطاده لأجل المحرم له قوله عليه الصلاة والسلام " لا بأس بأكل المحرم لحم صيد مالم يصده أو يصاد له " ولنا ما روي أن الصحابة رضي الله عنهم تذاكروا لحم الصيد في حق المحرم فقال عليه الصلاة والسلام " لا بأس به " واللام فيما روي لام تمليك فيحمل على أن يهدى إليه الصيد دون اللحم أو معناه أن يصاد بأمره ثم شرط عدم الدلالة وهذا تنصيص على أن الدلالة محرمة قالوا فيه روايتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ووجه الحرمة حديث أبي قتادة رضي الله عنه وقد ذكرناه " وفي صيد الحرم إذا ذبحه الحلال قيمته يتصدق بها على الفقراء " لأن الصيد استحق الأمن بسبب الحرم قال عليه الصلاة والسلام في حديث فيه طول " ولا ينفر صيدها " " ولا يجزئه الصوم " لأنها غرامة وليست بكفارة فأشبه ضمان الأموال وهذا لأنه يجب بتفويت وصف في المحل وهو الأمن والواجب على المحرم بطريق الكفارة جزاء على فعله لأن الحرمة باعتبار معنى فيه وهو إحرامه والصوم يصلح جزاء الأفعال لا ضمان المحال وقال زفر رحمه الله يجزئه الصوم اعتبارا بما وجب على المحرم والفرق قد ذكرناه وهل يجزئه الهدي ففيه روايتان. " ومن دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله فيه إذا كان في يده " خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول حق الشرع لا يظهر في مملوك العبد لحاجة العبد. ولنا أنه لما حصل في الحرم وجب ترك التعرض لحرمة الحرم إذ صار هو من صيد الحرم فاستحق الأمن لما روينا " فإن باعه رد البيع فيه إن كان قائما " لأن البيع لم يجز لما فيه من التعرض للصيد وذلك حرام " وإن كان فائتا فعليه الجزاء " لأنه تعرض للصيد بتفويت الأمن الذي استحقه " وكذلك بيع المحرم الصيد من محرم أو حلال " لما قلنا. " ومن أحرم وفي بيته أو في قفص معه صيد فليس عليه أن يرسله " وقال الشافعي رحمه الله يجب عليه أن يرسله لأنه متعرض للصيد بإمساكه في ملكه فصار كما إذا كان في يده. ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرمون وفي بيوتهم صيود ودواجن ولم ينقل عنهم إرسالها وبذلك جرت العادة الفاشية وهي من إحدى الحجج ولأن الواجب ترك التعرض وهو ليس بمتعرض من جهته لأنه محفوظ بالبيت والقفص لا به غير أنه في ملكه ولو أرسله في مفازة فهو على ملكه فلا معتبر ببقاء الملك وقيل إذا كان القفص في يده لزمه إرساله لكن على وجه لا يضيع. قال: " فإن أصاب حلال صيدا ثم أحرمه فأرسله من يده غيره يضمن عند أبي حنيفة " رحمه الله " وقالا لا يضمن " لأن المرسل آمر بالمعروف ناه عن المنكر وما على المحسنين من سبيل وله أنه ملك الصيد بالأخذ ملكا محترما فلا يبطل احترامه بإحرامه وقد أتلفه المرسل فيضمنه بخلاف ما إذا أخذه في حالة الإحرام لأنه لم يملكه والواجب عليه ترك التعرض ويمكنه ذلك بأن يجليه في بيته فإذا قطع يده عنه كان متعديا ونظيره الاختلاف في كسر المعازف " وإن أصاب محرم صيدا فأرسله من يده غيره لا ضمان عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بالاتفاق " لأنه لم يملكه بالأخذ فإن الصيد لم يبق محلا للتملك في حق المحرم لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] فصار كما إذااشترى الخمر "فإن قتله محرم آخر في يده فعلى كل واحد منهما جزاؤه " لأن الآخذ متعرض للصيد الآمن والقاتل مقرر لذلك والتقرير كالابتداء في حق التضمين كشهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا " ويرجع الآخذ على القاتل " وقال زفر رحمه الله لا يرجع لأن الآخذ مؤاخذ بصنعه فلا يرجع على غيره ولنا أن الآخذ إنما يصير سببا للضمان عند اتصال الهلاك به فهو بالقتل جعل فعل الآخذ علة فيكون في معنى مباشرة علة العلة فيحال بالضمان عليه. " فإن قطع حشيش الحرم أو شجرة ليست بمملوكة وهو مما لا ينبته الناس فعليه قيمته إلا فيما جف منه " لأن حرمتهما ثبتت بسبب الحرم قال عليه الصلاة والسلام " لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها " ولا يكون للصوم في هذه القيمة مدخل لأن حرمة تناولها بسبب الحرم لا بسبب الإحرام فكان من ضمان المحال على ما بينا ويتصدق بقيمته على الفقراء وإذا أداها ملكه كما في حقوق العباد ويكره بيعه بعد القطع لأنه ملكه بسبب محظور شرعا فلو أطلق له في بيعه لتطرق الناس إلى مثله إلا أنه يجوز البيع مع الكراهة بخلاف الصيد والفرق ما نذكره والذي ينبته الناس عادة عرفناه غير مستحق للأمن بالإجماع ولأن المحرم المنسوب إلى الحرم والنسبة إليه على الكمال عند عدم النسبة إلى غيره بالإنبات ومالا ينبت عادة إذا أنبته إنسان التحق بما ينبت عادة ولو نبت بنفسه في ملك رجل فعلى قاطعه قيمتان قيمة لحرمة الحرم حقا للشرع وقيمة أخرى ضمانا لمالكه كالصيد المملوك في الحرم وما جف من شجر الحرم لا ضمان فيه لأنه ليس بنام " ولا يرعى حشيش الحرم ولا يقطع إلا الإذخر " وقال أبو يوسف رحمه الله لا بأس بالرعي لأن فيه ضرورة فإن منع الدواب عنه متعذر ولنا ما روينا والقطع بالمسافر كالقطع بالمناجل وحمل الحشيش من الحل ممكن فلا ضرورة بخلاف الإذخر لأنه استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز قطعه ورعيه وبخلاف الكمأة لأنها ليست من جملة النبات " وكل شيء فعله القارن مما ذكرنا أن فيه على المفرد دما فعليه دمان دم لحجته ودم لعمرته " وقال الشافعي رحمه الله دم واحد بناء على أنه محرم بإحرام واحد عنده وعندنا بإحرامين وقد مر من قبل. قال: "إ لا أن يتجاوز الميقات غير محرم بالعمرة أو الحج فيلزمه دم واحد " خلافا لزفر رحمه الله لما أن المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد وبتأخير واجب واحد لا يجب إلا جزاء واحد. " وإذا اشترك محرمان في قتل صيد فعلى كل واحد منهما جزاء كامل " لأن كل واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 منهما بالشركة يصير جانيا جناية تفوق الدلالة فيتعدد الجزاء بتعدد الجناية. " وإذا اشترك حلالات في قتل صيد الحرم فعليهما جزاء واحد " لأن الضمان يدل عن المحل لا جزاء عن الجناية فيتحد باتحاد المحل كرجلين قتلا رجلا خطأ تجب عليهما دية واحدة وعلى كل واحد منهما كفارة. " وإذا باع المحرم الصيد أو اتباعه فالبيع باطل " لأن بيعه حيا تعرض للصيد الآمن وبيعه بعد ما قتله بيع ميتة. " ومن أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا فماتت هي وأولادها فعليه جزاؤهن " لأن الصيد بعد الإخراج من الحرم بقي مستحقا للأمن شرعا ولهذا وجب رده إلى مأمنه وهذه صفة شرعية فتسرى إلى الولد " فإن أدى جزاءها ثم ولدت ليس عليه جزاء الولد " لأن بعد أداء الجزاء لم تبق آمنة لأن وصول الخلف كوصول الأصل والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 باب مجاوزة الوقت بغير إحرام " وإذا أتى الكوفي بستان بني عامر فأحرم بعمرة فإن رجع إلى ذات عرق ولبى بطل عنه دم الوقت وإن رجع إليه ولم يلب حتى دخل مكة وطاف لعمرته فعليه دم " وهذا عند أبي حنيفة وقالا إن رجع إليه محرما فليس عليه شيء لبى أو لم يلب وقال زفر رحمه الله تعالى لا يسقط لبى أو لم يلب لأن جنايته لم ترتفع بالعود وصار كما إذا أفاض من عرفات ثم عاد إليه بعد الغروب. ولنا أنه تدارك المتروك في أوانه وذلك قبل الشروع في الأفعال فيسقط الدم بخلاف الإفاضة لأنه لم يتدارك المتروك على ما مر غير أن التدارك عندهما بعوده محرما لأنه أظهر حق الميقات كما إذا مر به محرما ساكتا وعنده رحمه الله بعوده محرما ملبيا لأن العزيمة في الإحرام من دويرة أهله فإذا ترخص بالتأخير إلى الميقات وجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية فكان التلافي بعوده ملبيا وعلى هذا الخلاف إذا أحرم بحجة بعد المجاوزة مكان العمرة في جميع ما ذكرناه ولو عاد بعد ما ابتدأ بالطواف واستلم الحجر لا يسقط عنه الدم بالاتفاق ولو عاد إليه قبل الإحرام يسقط بالاتفاق " وهذا " الذي ذكرنا " إذا كان يريد الحج أو العمرة فإن دخل البستان لحاجة فله أن يدخل مكة بغير إحرام ووقته البستان وهو وصاحب المنزل سواء " لأن البستان غير واجب التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصده وإذا دخله التحق بأهله وللبستاني أن يدخل مكة بغير إحرام للحاجة فكذلك له والمراد بقوله ووقته البستان جميع الحل الذي بينه وبين الحرم وقد مر من قبل فكذا وقت الداخل الملحق به " فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أحرما من الحل ووقفا بعرفة لم يكن عليهما شيء " يريد به البستاني والداخل فيه لأنهما أحرما من ميقاتهما. " ومن دخل مكة بغير إحرام ثم خرج من عامه ذلك إلى الوقت وأحرم بحجة عليه أجزأه " ذلك " من دخوله مكة بغير إحرام " وقال زفر رحمه الله لا يجزيه وهو القياس اعتبارا بما لزمه بسبب النذر وصار كما إذا تحولت السنة. ولنا أنه تلافي المتروك في وقته لأن الواجب عليه تعظيم هذه البقعة بالإحرام كما إذا أتاه محرما بحجة الإسلام في الابتداء بخلاف ما إذا تحولت السنة لأنه صار دينا في ذمته فلا يتأدى إلا بإحرام مقصود كما في الاعتكاف المنذور فإنه يتأدى بصوم رمضان من هذه السنة دون العام الثاني. " ومن جاوز الوقت فأحرم بعمرة وأفسدها مضى فيها وقضاها " لأن الإحرام يقع لازما فصار كما إذا أفسد الحج " وليس عليه دم لترك الوقت " وعلى قياس قول زفر رحمه الله لا يسقط عنه وهو نظير الاختلاف في فائت الحج إذا جاوز الوقت بغير إحرام وفيمن جاوز الوقت بغير إحرام وأحرم بالحج ثم أفسد حجته هو يعتبر المجاوزة هذه بغيرها من المحظورات. ولنا أنه يصير قاضيا حق الميقات بالإحرام منه في القضاء وهو يحكي الفائت ولا ينعدم به غيره من المحظورات فوضح الفرق " وإذا خرج المكي يريد الحج فأحرم ولم يعد إلى الحرم ووقف بعرفة فعليه شاة " لأن وقته الحرم وقد جاوزه بغير إحرام فإن عاد إلى الحرم ولبى أو لم يلب فهو على الاختلاف الذي ذكرناه في الأفاقي. " والمتمتع إذا فرغ من عمرته ثم خرج من الحرم فأحرم ووقف بعرفة فعليه دم " لأنه لما دخل مكة وأتى بأفعال العمرة صار بمنزلة المكي وإحرام المكي من الحرم لما ذكرنا فيلزمه الدم بتأخيره عنه " فإن رجع إلى الحرم فأهل فيه قبل أن يقف بعرفة فلا شيء عليه " وهو على الخلاف الذي تقدم في الأفاقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 باب إضافة الإحرام إلى الإحرام " قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا أحرم المكي بعمرة وطاف لها شوطا ثم أحرم بالحج فإنه يرفض الحج وعليه لرفضه دم وعليه حجة وعمرة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله رفض العمرة أحب إلينا وقضاؤها وعليه دم " لأنه لا بد من رفض أحدهما لأن الجمع بينهما في حق المكي غير مشروع والعمرة أولى بالرفض لأنها أدنى حالا وأقل أعمالا وأيسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قضاء لكونها غير مؤقتة وكذا إذا أحرم بالعمرة ثم بالحج ولم يأت بشيء من أفعال العمرة لما قلنا. فإن طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج بلا خلاف لأن للأكثر حكم الكل فتعذر رفضها كما إذا فرغ منها ولا كذلك إذا طاف للعمرة أقل من ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وله أن إحرام العمرة قد تأكد بأداء شيء من أعمالها وإحرام الحج لم يتأكد ورفض غير المتأكد أيسر ولأن في رفض العمرة والحالة هذه إبطال العمل وفي رفض الحج امتناع عنه وعليه دم بالرفض أيهما رفضه لأنه تحلل قبل أوانه لتعذر المضي فيه فكان في معنى المحصر إلا أن في رفض العمرة قضاءها لا غير وفي رفض الحج قضاؤه وعمرة لأنه في معنى فائت الحج " وإن مضى عليهما أجزأه " لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما غير أنه منهي عنهما والنهي لا يمنع تحقق الفعل على ما عرف من أصلنا " وعليه دم لجمعه بينهما " لأنه تمكن النقصان في عمله لارتكابه المنهي عنه وهذا في حق المكي دم جبر وفي حق الأفاقي دم شكر. " ومن أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى فإن حلق في الأولى لزمته الأخرى ولا شيء عليه وإن لم يحلق في الأولى لزمته الأخرى وعليه دم قصر أو لم يقصر عند ابي حنيفة " رحمه الله " وقالا إن لم يقصر فلا شيء عليه " لأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة فإذا حلق فهو وإن كان نسكا في الإحرام الأول فهو جناية على الثاني لأنه في غير أوانه فلزمه الدم بالإجماع وإن لم يحلق حتى حج في العام القابل فقد أخر الحلق عن وقته في الإحرام الأول وذلك يوجب الدم عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يلزمه شيء على ما ذكرنا فلهذا سوى بين التقصير وعدمه عنده وشرط التقصير عندهما. " ومن فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى فعليه دم لإحرامه قبل الوقت " لأنه جمع بين إحرامي العمرة وهذا مكروه فيلزمه الدم وهو دم جبر وكفارة. " ومن أهل بالحج ثم أحرم بعمرة لزماه " لأن الجمع بينهما مشروع في حق الأفاقي والمسئلة فيه فيصير بذلك قارنا لكنه أخطأ السنة فيصير مسيئا " فلو وقف بعرفات ولم يأت بأفعال العمرة فهو رافض لعمرته " لأنه تعذر عليه أداؤها إذ هي مبنية على الحج غير مشروعة " فإن توجه إليها لم يكن رافضا حتى يقف " وقد ذكرناه من قبل " فإن طاف للحج ثم أحرم بعمرة فمضى عليهما لزماه وعليه دم لجمعه بينهما " لأن الجمع بينهما مشروع على ما مر فصح الإحرام بهما والمراد بهذا الطواف طواف التحية وأنه سنة وليس بركن حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 لا يلزمه بتركه شيء وإذا لم يأت بما هو ركن يمكنه أن يأتي بأفعال العمرة ثم بأفعال الحج فلهذا لو مضى عليهما جاز وعليه دم لجمعه بينهما وهو دم كفارة وجبر هو الصحيح لأنه بان أفعال العمرة على أفعال الحج من وجه " ويستحب أن يرفض عمرته " لأن إحرام الحج قد تأكد بشيء من أعماله بخلاف ما إذا لم يطف للحج " وإذا رفض عمرته بقضيها " لصحة الشروع فيها " وعليه دم " لرفضها. " ومن أهل بعمرة في يوم النحر أو في ايام التشريق لزمته " لما قلنا " ويرفضها " أي يلزمه الرفض لأنه قد أدى ركن الحج فيصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه وقد كرهت العمرة في هذه الأيام أيضا على ما نذكر فلهذا يلزمه رفضها فإن رفضها فعليه دم لرفضها " وعمرة مكانها " لما بينا " فإن مضى عليها أجزأه " لأن الكراهة لمعنى في غيرها وهو كونه مشغولا في هذه الأيام بأداء بقية أعمال الحج فيجب تخليص الوقت له تعظيما " وعليه دم لجمعه بينهما " إما في الإحرام أو في الأعمال الباقية قالوا وهذا دم كفارة أيضا وقيل إذا حلق للحج ثم أحرم لا يرفضها على ظاهر ما ذكر في الأصل وقيل يرفضها احترازا عن النهي قال الفقيه أبو جعفر ومشايخنا رحمهم الله تعالى على هذا " فإن فاته الحج ثم أحرم بعمرة أو بحجة فإنه يرفضها " لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة من غير أن ينقلب إحرامه إحرام العمرة على ما يأتيك في باب الفوات إن شاء الله فيصير جامعا بين العمرتين من حيث الأفعال فعليه أن يرفضها كما لو أحرم بعمرتين وإن أحرم بحجة يصير جامعا بين الحجتين إحراما فعليه أن يرفضها كما لو أحرم بحجتين وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها ودم لرفضها بالتحلل قبل أوانه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 باب الإحصار " وإذا أحصر المحرم بعدو أو أصابه مرض فمنعه من المضي جاز له التحلل " وقال الشافعي رحمه الله لا يكون الإحصار إلا بالعدو لأن التحلل بالهدي شرع في حق المحصر لتحصيل النجاة وبالإحلال ينجو من العدو لا من المرض. ولنا أن آية الإحصار وردت في الإحصار بالمرض بإجماع أهل اللغة فإنهم قالوا الإحصار بالمرض والحصر بالعدو والتحلل قبل أوانه لدفع الحرج الآتي من قبل امتداد الإحرام والحرج في الاصطبار عليه مع المرض أعظم. " وإذا جاز له التحلل يقال له ابعث شاة تذبح في الحرم وواعد من تبعثه بيوم بعينه يذبح فيه ثم تحلل " وإنما يبعث إلى الحرم لأن دم الإحصار قربة، والإراقة لم تعرف قربة إلا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 زمان أو مكان على ما مر فلا يقع قربة دونه فلا يقع به التحلل وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فإن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم وقال الشافعي رحمه الله لا يتوقت به لأنه شرع رخصة والتوقيت يبطل التخفيف قلنا المراعى أصل التخفيف لا نهايته وتجوز الشاة لأن المنصوص عليه الهدي والشاة أدناه وتجزيه البقرة والبدنة أو سبعهما كما في الضحايا وليس المراد بما ذكرنا بعث الشاة بعينها لأن ذلك قد يتعذر بل له أن يبعث بالقيمة حتى تشترى الشاة هنالك وتذبح عنه وقوله ثم تحلل إشارة إلى أنه ليس عليه الحلق أو التقصير وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف عليه ذلك ولو لم يفعل لا شيء عليه لأنه عليه الصلاة والسلام حلق عام الحديبية وكان محصرا بها وأمر أصحابه رضي الله عنهم بذلك ولهما أن الحلق إنما عرف قربة مرتبا على أفعال الحج فلا يكون نسكا قبلها وفعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه ليعرف استحكام عزيمتهم على الانصراف. قال: " وإن كان قارنا بعث بدمين " لاحتياجه إلى التحلل من إحرامين " فإن بعث بهدي واحد ليتحلل عن الحج ويبقى في إحرام العمرة لم يتحلل عن واحد منهما " لأن التحلل منهما شرع في حالة واحدة. " ولا يجوز ذبح دم الإحصار إلا في الحرم ويجوز ذبحه قبل يوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء " اعتبارا بهدي المتعة والقران وربما يعتبر أنه بالحلق إذ كل واحد منهما محلل ولأبي حنيفة رحمه الله أنه دم كفارة حتى لا يجوز الأكل منه فيختص بالمكان دون الزمان كسائر دماء الكفارات بخلاف دم المتعة والقران لأنه دم نسك وبخلاف الحلق لأنه في أوانه لأن معظم أفعال الحج وهو الوقوف ينتهي به. قال: " والمحصر بالحج إذا تحلل فعليه حجة وعمرة " هكذا روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ولأن الحجة يجب قضاؤها لصحة الشروع فيها والعمرة لما أنه في معنى فائت الحج " وعلى المحصر بالعمرة القضاء " والإحصار عنها يتحقق عندنا وقال مالك رحمه الله لا يتحقق لأنها لا تتوقت. ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم أحصروا بالحديبية وكانوا عمارا ولأن شرع التحلل لدفع الحرج وهذا موجود في إحرام العمرة وإذا تحقق الإحصار فعليه القضاء إذا تحلل كما في الحج " وعلى القارن حجة وعمرتان " أما الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وإحداهما فلما بينا وأما الثانية فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها " فإن بعث القارن هديا وواعدهم أن يذبحوه في يوم بعينه ثم زال الإحصار فإن كان لا يدرك الحج والهدي لا يلزمه أن يتوجه بل يصبر حتى يتحلل بنحر الهدي " لفوات المقصود من التوجه وهو أداء الأفعال وإن توجه ليتحلل بأفعال العمرة له ذلك لأنه فائت الحج " وإن كان يدرك الحج والهدي لزمه التوجه " لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف " وإذا أدرك هدية صنع به ما شاء " لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود استغنى عنه " وإن كان يدرك الهدي دون الحج يتحلل " لعجزه عن الأصل " وإن كان يدرك الحج دون الهدي جاز له التحلل " استحسانا وهذا التقسيم لا يستقيم على قولهما في المحصر بالحج لأن دم الإحصار عندهما يتوقت بيوم النحر فمن يدرك الحج يدرك الهدي وإنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله وفي المحصر بالعمرة يستقيم بالاتفاق لعدم توقت الدم بيوم النحر. وجه القياس وهو قول زفر رحمه الله أنه قدر على الأصل وهو الحج قبل حصول المقصود بالبدل وهو الهدي. وجه الاستحسان أنا لو ألزمناه التوجه لضاع ماله لأن المبعوث على يديه الهدي يذبحه ولا يحصل مقصوده وحرمة المال كحرمة النفس وله الخيار إن شاء صبر في ذلك المكان أو في غيره ليذبح عنه فيتحلل وإن شاء توجه ليؤدي النسك الذي التزمه بالإحرام وهو أفضل لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد. " ومن وقف بعرفة ثم أحصر لا يكون محصرا" لوقوع الأمن عن الفوات " ومن أحصر بمكة وهو ممنوع عن الطواف والوقوف فهو محصر " لأنه تعذر عليه الإتمام فصار كما إذا أحصر في الحل "وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر " أما على الطواف فلأن فائت الحج يتحلل به والدم بدل عنه في التحلل وأما على الوقوف فلما بينا وقد قيل في هذه المسئلة خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والصحيح ما أعلمتك من التفصيل والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 باب الفوات " ومن أحرم بالحج وفاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج " لما ذكرنا أن وقت الوقوف يمتد إليه " وعليه أن يطوف ويسعى ويتحلل ويقضي الحج من قابل ولا دم عليه " لقوله عليه الصلاة والسلام " من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليتحلل بعمرة " وعليه الحج من قابل والعمرة ليست إلا الطواف والسعي ولأن الإحرام بعدما انعقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 صحيحا لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين كما في الإحرام المبهم وههنا عجز عن الحج فتتعين عليه العمرة ولا دم عليه لأن التحلل وقع بأفعال العمرة فكانت في حق فائت الحج بمنزلة الدم في حق المحصر فلا يجمع بينهما. " والعمرة لا تفوت وهي جائزة في جميع السنة إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها وهي يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق " لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينة له وعن أبي يوسف رحمه الله أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله والأظهر من المذهب ما ذكرناه ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرما بها فيها لأن الكراهة لغيرها وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له فيصح الشروع. " والعمرة سنة " وقال الشافعي رحمه الله فريضة لقوله عليه الصلاة والسلام " العمرة فريضة كفريضة الحج " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " الحج فريضة والعمرة تطوع " ولأنها غير موقتة بوقت وتتأدى بنية غيرها كما في فائت الحج وهذا أمارة النفلية وتأويل ما رواه أنها مقدرة بأعمال الحج إذ لا تثبت الفرضية مع التعارض في الآثار. قال: " وهي الطواف والسعي " وقد ذكرناه في باب التمتع والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 باب الحج عن الغير الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله تعالى وشهد له بالبلاغ جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته والعبادات أنواع مالية محضة كالزكاة وبدنية محضة كالصلاة ومركبة منهما كالحج والنيابة تجري في النوع الأول في حالتي الاختيار والضرورة لحصول المقصود بفعل النائب ولا تجري في النوع الثاني بحال لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل به وتجري في النوع الثالث عند العجز للمعنى الثاني وهو المشقة بتنقيص المال ولا تجري عند القدرة لعدم إتعاب النفس والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت لأن الحج فرض العمر وفي الحج النفل تجوز الإنابة حالة القدرة لأن باب النفل أوسع ثم ظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه وبذلك تشهد الأخبار الواردة في الباب كحديث الخثعمية فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيه " حجي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أبيك واعتمري " وعن محمد رحمه الله أن الحج يقع عن الحاج وللآمر ثواب النفقة لأنه عبادة بدنية وعند العجز أقيم الإنفاق مقامه كالفدية في باب الصوم. قال: " ومن أمره رجلان بأن يحج عن كل واحد منها حجة فأهل بحجة عنهما فهي عن الحاج ويضمن النفقة " لأن الحج يقع عن الأمر حتى لا يخرج الحاج عن حجة الإسلام وكل واحد منهما أمره أن يخلص الحج له من غير اشتراك ولا يمكن إيقاعه عن أحدهما لعدم الأولوية فيقع عن المأمور ولا يمكنه أن يجعله عن أحدهما بعد ذلك بخلاف ما إذا حج عن أبويه فإن له أن يجعله عن أيهما شاء لأنه متبرع بجعل ثواب عمله لأحدهما أو لهما فيبقى على خياره بعد وقوعه سببا لثوابه وهنا يفعل بحكم الآمر وقد خالف أمرهما فيقع عنه " ويضمن النفقة إن أنفق من مالهما " لأنه صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه. " وإن أبهم الإحرام بأن نوى عن أحدهما غير عين فإن مضى على ذلك صار مخالفا " لعدم الأولوية وإن عين أحدهما قبل المضي فكذلك عند أبي يوسف رحمه الله وهو القياس لأنه مأمور بالتعيين والإبهام يخالفه فيقع عن نفسه بخلاف ما إذا لم يعين حجة أو عمرة حيث كان له أن يعين ما شاء لأن الملتزم هناك كمجهول وههنا المجهول من له الحق وجه الاستحسان أن الإحرام شرع وسيلة إلى الأفعال لا مقصودا بنفسه والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين فاكتفي به شرطا بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام لأن المؤدي لا يحتمل التعيين فصار مخالفا. قال: " فإن أمره غيره أن يقرن عنه فالدم على من أحرم " لأنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع بين النسكين والمأمور هو المختص بهذه النعمة لأن حقيقة الفعل منه وهذه المسئلة تشهد بصحة المروي عن محمد رحمه الله أن الحج يقع عن المأمور " وكذلك إن أمره واحد بأن يحج عنه والآخر بأن يعتمر عنه وأذنا له بالقران فالدم عليه " لما قلنا. " ودم الإحصار على الآمر " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد " وقال أبو يوسف على الحاج " لأنه وجب للتحلل دفعا لضرر امتداد الإحرام وهذا الضرر راجع إليه فيكون الدم عليه ولهما أن الآمر هو الذي أدخله في هذه العهدة فعليه خلاصه " فإن كان يحج عن ميت فأحصر فالدم في مال الميت " عندهما خلافا لأبي يوسف رحمه الله ثم قيل هو من ثلث مال الميت لأنه صلة كالزكاة وغيرها وقيل من جميع المال لأنه وجب حقا للمأمور فصار دينا. " ودم الجماع على الحج " لأنه دم جناية وهو الجاني عن اختيار " ويضمن النفقة " معناه إذا جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه لأن الصحيح هو المأمور به، بخلاف ما إذا فاته الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 حيث لا يضمن النفقة لأنه ما فاته باختياره أما إذا جامع بعد الوقوف لا يفسد حجه ولا يضمن النفقة لحصول مقصود الآمر وعليه الدم في ماله لما بينا وكذلك سائر دماء الكفارات على الحج لما قلنا. " ومن أوصى بأن يحج عنه فأحجوا عنه رجلا فلما بلغ الكوفة مات أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف يحج عن الميت من منزله بثلث ما بقي " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا يحج عنه من حيث مات الأول " فالكلام ههنا في اعتبار الثلث وفي مكان الحج أما الأول فالمذكور قول أبي حنيفة رحمه الله أما عند محمد يحج عنه بما بقي من المال المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية اعتبارا بتعيين الموصي إذ تعيين الوصي كتعيينه وعند أبي يوسف رحمه الله يحج عنه بما بقي من الثلث الأول لأنه هو المحل لنفاذ الوصية لأبي حنيفة أن قسمة الوصي وعزله المال لا يصح إلا بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي لأنه لا خصم له ليقبض ولم يوجد التسليم إلى ذلك الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل فيحج بثلث ما بقي وأما الثاني فوجه قول أبي حنيفة رحمه الله وهو القياس أن القدر الموجود من السفر قد بطل في حق أحكام الدنيا قال عليه الصلاة والسلام " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث وتنفيذ الوصية من أحكام الدنيا فبقيت الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج وجه قولهما وهو الإستحسان أن سفره لم يبطل لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية وقال عليه الصلاة والسلام " من مات في طريق الحج كتب له حجة مبرورة في كل سنة " وإذا لم يبطل سفره اعتبرت الوصية من ذلك المكان وأصل الاختلاف في الذي يحج بنفسه وينبني على ذلك المأمور بالحج. قال: " ومن أهل بحجة عن أبويه يجزئه أن يجعله عن أحدهما " لأن من حج عن غيره بغير إذنه فإنما يجعل ثواب حجه له وذلك بعد أداء الحج فلغت نيته قبل أدائه وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء بخلاف المأمور على ما فرقنا من قبل والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 باب الهدي " الهدي أدناه شاة " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الهدي فقال " أدناه شاة " قال: " وهو من ثلاثة أنواع الإبل والبقر والغنم " لأنه عليه الصلاة والسلام لما جعل الشاة أدنى فلا بد أن يكون له أعلى وهو البقر والجزور ولأن الهدي ما يهدى إلى الحرم ليتقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 به فيه والأصناف الثلاثة سواء في هذا المعنى " ولا يجوز في الهدايا إلا ما جاز في الضحايا " لأنه قربة تعلقت بإراقة الدم كالأضحية فيتخصصان بمحل واحد " والشاة جائزة في كل شيء إلا في موضعين من طاف طواف الزيارة جنبا ومن جامع بعد الوقوف بعرفة فإنه لا يجوز فيهما إلا البدنة " وقد بينا المعنى فيما سبق. " ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران " لأنه دم نسك فيجوز الأكل منها بمنزلة الأضحية وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أكل من لحم هديه وحسا من المرقة " ويستحب له أن يأكل منها " لما روينا وكذلك يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا. " ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا " لأنها دماء كفارات وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أحصر بالحديبية وبعث الهدايا على يدي ناجية الأسلمي قال له " لا تأكل أنت ورفقتك منها شيئا " " ولا يجوز ذبح هدي التطوع والمتعة والقران إلا في يوم النحر " قال العبد الضعيف " وفي الأصل يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر وذبحه يوم النحر أفضل وهذا هو الصحيح " لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا وذلك يتحقق بتبليغها إلى الحرم " فإذا وجد ذلك جاز ذبحها في غيره يوم النحر وفي أيام النحر أفضل " لأن معنى القربة في إراقة الدم فيها أظهر أما دم المتعة والقران فلقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 28، 29] وقضاء التفث يختص بيوم النحر ولأنه دم نسك فيختص بيوم النحر كالأضحية. " ويجوز ذبح بقية الهدايا في أي وقت شاء " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا في يوم النحر اعتبارا بدم المتعة والقران فإن كل واحد دم جبر عنده. ولنا أن هذه دماء كفارات فلا تختص بيوم النحر لأنها لما وجبت لجبر النقصان كان التعجيل بها أولى لارتفاع النقصان به من غير تأخير بخلاف دم المتعة والقران لأنه دم نسك قال " ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم " لقوله تعالى في جزاء الصيد: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فصار أصلا في كل دم هو كفارة ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ومكانه الحرم قال عليه الصلاة والسلام " منى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر " " ويجوز أن يتصدق بها على مساكين الحرم وغيرهم " خلافا للشافعي رحمه الله لأن الصدقة قربة معقولة والصدقة على كل فقير قربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال: " ولا يجب التعريف بالهدايا " لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان ليتقرب بإراقة دمه فيه لا عن التعريف فلا يجب " فإن عرف بهدي المتعة فحسن " لأنه يتوقت بيوم النحر فعسى أن لا يجد من يمسكه فيحتاج إلى أن يعرف به ولأنه دم نسك فيكون مبناه على التشهير بخلاف دماء الكفارات لأنه يجوز ذبحها قبل يوم النحر على ما ذكرنا وسببها الجناية فيليق بها الستر. قال: " والأفضل في البدن النحر وفي البقر والغنم الذبح " لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] قيف في تأويله الجزور وقال الله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] والذبح ما أعد للذبح وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام نحر الإبل وذبح البقر والغنم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما أو أضجعها وأي ذلك فعل فهو حسن والأفضل أن ينحرها قياما لما روي أنه عليه الصلاة والسلام " نحر الهدايا قياما " وأصحابه رضي الله عنهم كانوا ينحرونها قياما معقولة اليد اليسرى " ولا يذبح البقر والغنم قياما " لأن في حالة الاضطجاع المذبح أبين فيكون الذبح أيسر والذبح هو السنة فيهما. قال: " والأولى أن يتولى ذبحها بنفسه إذا كان يحسن ذلك " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه ولأنه قربة والتولي في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع إلا أن الإنسان قد لا يهتدي لذلك ولا يحسنه فجوزنا توليته غيره. قال: " ويتصدق بجلالها وخطامها ولا يعطي أجرة الجزار منها " لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه "تصدق بجلالها وبخطمها ولا تعطي أجرة الجزار منها". " ومن ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها وإن استغنى عن ذلك لم يركبها " لأنه جعلها خالصة لله تعالى فلا ينبغي أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه إلى أن يبلغ محله إلا أن يحتاج إلى ركوبها لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة فقال "اركبها ويلك" وتأويله أنه كان عاجزا محتاجا ولو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص من ذلك " وإن كان لها لبن لم يحلبها " لأن اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه " وينضح ضرعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن " ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح فإن كان بعيدا منه يحلبها ويتصدق بلبنها كيلا يضر ذلك بها وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثله أو بقيمته لأنه مضمون عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 " ومن ساق هديا فعطب فإن كان تطوعا فليس عليه غيره " لأن القربة تعلقت بهذا المحل وقد فات " وإن كان عن واجب فعليه أن يقيم غيره مقامه " لأن الواجب باق في ذمته " وإن أصابه عيب كبير يقيم غيره مقامه " لأن المعيب بمثله لا يتأدى به الواجب فلا بد من غيره "وصنع بالمعيب ما شاء" لأنه التحق بسائر أملاكه " وإذا عطبت البدنة في الطريق فإن كان تطوعا نحرها وصبغ نعلها بدمها وضرب بها صفحة سنامها ولا يأكل هو ولا غيره من الأغنياء منها " بذلك أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام ناجية الأسلمي رضي الله عنها والمراد بالنعل قلادتها وفائدة ذلك ان يعلم الناس أنه هدي فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء وهذا لأن الإذن بتناوله معلق بشرط بلوغه محله فينبغي أن لا يحل قبل ذلك أصلا إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من أن يتركه جزرا للسباع وفيه نوع تقرب والتقرب هو المقصود " فإن كانت واجبة أقام غيرها مقامها وصنع بها ما شاء " لأنه لم يبق صالحا لما عينه وهو ملكه كسائر أملاكه " ويقلد هدي التطوع والمتعة والقران " لأنه دم نسك وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق به " ولا يقلد دم الإحصار ولا دم الجنايات " لأن سببها الجناية والستر أليق بها ودم الاحصار جابر فيلحق بجنسها ثم ذكر الهدي ومراده البدنة لأنه لا يقلد الشاة عادة ولا يسن تقليده عندنا لعدم فائدة التقليد على ما تقدم والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 مسائل منثورة " أهل عرفة إذا وقفوا في يوم وشهد قوم أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم " والقياس أن لا يجزيهم اعتبارا بما إذا وقفوا يوم التروية وهذا لأنه عبادة تختص بزمان ومكان فلا يقع عبادة دونهما وجه الاستحسان أن هذه شهادة قامت على النفي وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم لأن المقصود منها نفي حجهم والحج لا يدخل تحت الحكم فلا تقبل ولأن فيه بلوى عاما لتعذر الإحتراز عنه والتدارك غير ممكن وفي الأمر بالاعادة حرج بين فوجب أن يكتفي به عند الاشتباه بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه في يوم عرفة ولأن جواز المؤخر له نظير ولا كذلك جواز المقدم قالوا ينبغي للحاكم أن لا يسمع هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا لأنه ليس فيها إلا إيقاع الفتنة وكذا إذا شهدوا عشية عرفة برؤية الهلال ولا يمكنه الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة. قال: " ومن رمى في اليوم الثاني الجمرة الوسطى والثالثة ولم يرم الأولى فان رمى الأولى ثم الباقيتين فحسن " لأنه راعى الترتيب المسنون " ولو رمى الأولى وحدها أجزأه " لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 تدارك المتروك في وقته وإنما ترك الترتيب وقال الشافعي رحمه الله لا يجزيه ما لم يعد الكل لأنه شرع مرتبا فصار كما إذا سعى قبل الطواف أو بدأ بالمروة قبل الصفا. ولنا أن كل جمرة قربة مقصودة بنفسه فلا يتعلق الجواز بتقديم البعض على البعض بخلاف السعي لأنه تابع للطواف لأنه دونه والمروة عرفت منتهى السعي بالنص فلا تتعلق بها البداءة. قال: " ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة " وفي الأصل خيره بين الركوب والمشي وهذا إشارة إلى الوجوب وهو الأصل لأنه التزم القربة بصفة الكمال فتلزمه بتلك الصفة كما إذا نذر الصوم متتابعا وأفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة فيمشي إلى أن يطوفه ثم قيل يبتدئ المشي من حين يحرم وقيل من بيته لأن الظاهر أنه هو المراد ولو ركب أراق دما لأنه أدخل نقصا فيه قالوا إنما يركب إذا بعدت المسافة وشق عليه المشي وإذا قربت والرجل ممن يعتاد المشي ولا يشق عليه ينبغي أن لا يركب " ومن باع جارية محرمة قد أذن لها مولاها في ذلك فللمشتري أن يحللها ويجامعها " وقال زفر: ليس له ذلك لأن هذا عقد سبق ملكه فلا يتمكن من فسخه كما إذا اشترى جارية منكوحة ولنا أن المشتري قائم مقام البائع وقد كان للبائع أن يحللها فكذا المشتري إلا أنه يكره ذلك للبائع لما فيه من خلف الوعد وهذا المعنى لم يوجد في حق المشتري بخلاف النكاح لأنه ما كان للبائع أن يفسخه إذا باشرت بإذنه فكذا لا يكون ذلك للمشتري وإذا كان له أن يحللها لا يتمكن من ردها بالعيب عندنا وعند زفر يتمكن لأنه ممنوع من غشيانها " و " ذكر " في بعض النسخ أو يجامعها " والأول: يدل على أنه يحللها بغير الجماع بقص شعر أو بقلم ظفر ثم يجامع والثاني: يدل على أنه يحللها بالمجامعة لأنه لا يخلو عن تقديم مس يقع به التحلل والأولى أن يحللها بغير المجامعة تعظيما لأمر الحج والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 كتاب النكاح العقد مدخل ... كتاب النكاح قال: " النكاح ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظين يعبر بهما عن الماضي " لأن الصيغة وإن كانت للإخبار وضعا فقد جعلت للإنشاء شرعا دفعا للحاجة " وينعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي وبالآخر عن المستقبل مثل أن يقول زوجني فيقول زوجتك " لأن هذا توكيل بالنكاح والواحد يتولى طرفي النكاح على ما نبينه إن شاء الله تعالى " وينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والتمليك والصدقة " وقال الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج لأن التمليك ليس حقيقة فيه ولا مجازا عنه لأن الترويج للتلفيق والنكاح للضم ولا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوكة أصلا. ولنا أن التمليك سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ملك الرقبة وهو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز " وينعقد بلفظ البيع " هو الصحيح لوجود طريق المجاز " ولا ينعقد بلفظ الإجارة " في الصحيح لأنه ليس بسبب لملك المتعة " و " لا بلفظ " الإباحة والإحلال والإعارة " لما قلنا " و " لا بلفظ " الوصية " لأنها توجب الملك مضافا إلى ما بعد الموت. قال: " ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور شاهدين حرين عاقلين بالغين مسلمين رجلين أو رجل وامرأتين عدولا كانوا أو غير عدول أو محدودين في القذف " قال رضي الله عنه اعلم أن الشهادة شرط في باب النكاح لقوله عليه الصلاة والسلام " لا نكاح إلا بشهود " وهو حجة على مالك رحمه الله في اشتراط الإعلان دون الشهادة ولا بد من اعتبار الحرية فيها لأن العبد لا شهادة له لعدم الولاية ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ لأنه لا ولاية بدونهما ولا بد من اعتبار الإسلام في أنكحة المسلمين لأنه لا شهادة للكافر على المسلم ولا يشترط وصف الذكورة حتى ينعقد بحضور رجل وامرأتين وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وستعرف في الشهادات إن شاء الله تعالى ولا تشترط العدالة حتى ينعقد بحضرة الفاسقين عندنا خلافا للشافعي رحمه الله له أن الشهادة من باب الكرامة والفاسق من أهل الإهانة. ولنا أنه من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة وهذا لأنه لما لم يحرم الولاية على نفسه لإسلامه لا يحرم على غيره لأنه من جنسه ولأنه صلح مقلدا فيصلح مقلدا، وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 شاهد والمحدود في القذف من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة تحملا وإنما الفائت ثمرة الأداء بالنهي لجريمته فلا يبالي بفواته كما في شهادة العميان وابني العاقدين. قال: " وإن تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد وزفر رحمهما الله لا يجوز " لأن السماع في النكاح شهادة ولا شهادة للكافر على المسلم فكأنهما لم يسمعا كلام المسلم ولهما أن الشهادة شرطت في النكاح على اعتبار إثبات الملك لوروده على محل ذي خطر لا على اعتبار وجوب المهر إذ لا شهادة تشترط في لزوم المال وهما شاهدان عليها بخلاف ما إذا لم يسمعا كلام الزوج لأن العقد ينعقد بكلاميهما والشهادة شرطت على العقد. قال: " ومن أمر رجلا بأن يزوج ابنته الصغيرة فزوجها والأب حاضر بشهادة رجل واحد سواهما جاز النكاح " لأن الأب يجعل مباشرا للعقد لاتحاد المجلس فيكون الوكيل سفيرا أو معبرا فيبقى المزوج شاهدا " وإن كان الأب غائبا لم يجز " لأن المجلس مختلف فلا يمكن أن يجعل الأب مباشرا وعلى هذا إذا زوج الأب ابنته البالغة بمحضر شاهد واحد إن كانت حاضرة جاز وإن كانت غائبة لم يجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فصل في بيان المحرمات قال: " لا يحل للرجل أن يتزوج بأمه ولا بجداته من قبل الرجال والنساء " لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] والجدات أمهات إذ الأم هي الأصل لغة أو ثبتت حرمتهن بالإجماع. قال: " ولا ببنته " لما تلونا " ولا ببنت ولده وإن سفلت " للإجماع " ولا بأخته ولا ببنات أخته ولا ببنات أخيه ولا بعمته ولا بخالته " لأن حرمتهن منصوص عليها في هذه الآية وتدخل فيها العمات المتفرقات والخالات المتفرقات وبنات الإخوة المتفرقين لأن جهة الاسم عامة. قال: " ولا بأم امرأته التي دخل بها أو لم يدخل " لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] من غير قيد الدخول " ولا ببنت امرأته التي دخل بها " لثبوت قيد الدخول بالنص " سواء كانت في حجره أو في حجر غيره " لأن ذكر الحجر خرج مخرج العادة لا مخرج الشرط ولهذا اكتفي في موضع الإحلال بنفي الدخول. قال: " ولا بامرأة أبيه وأجداده " لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] " ولا بامرأة ابنه وبني أولاده " لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] وذكر الأصلاب لإسقاط اعتبار التبني لا لإحلال حليلة الابن من الرضاعة " ولا بأمه من الرضاعة ولا بأخته من الرضاعة " لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] لقوله عليه الصلاة والسلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ". " ولا يجمع بين أختين نكاحا ولا يملك يمين وطأ " لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ولقوله عليه الصلاة والسلام " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين " " فإن تزوج أخت أمة له قد وطئها صح النكاح " لصدوره من أهله مضافا إلى محله " و " إذا جاز " لا يطأ الأمة وإن كان لم يطأ المنكوحة " لأن المنكوحة موطوءة حكما ولا يطأ المنكوحة للجمع إلا إذا حرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع وطأ ويطأ المنكوحة إن لم يكن وطئ المملوكة لعدم الجمع وطأ إذ المرقوقة ليست موطوءة حكما " فإن تزوج أختين في عقدتين ولا يدري أيتهما أولى فرق بينه وبينهما " لأن نكاح إحداهما باطل بيقين ولا وجه إلى التعيين لعدم الأولوية ولا إلى التنفيذ مع التجهيل لعدم الفائدة أو للضرر فتعين التفريق " ولهما نصف المهر " لأنه وجب للأولى منهما وانعدمت الأولوية للجهل بالأولية فيصرف إليهما وقيل لا بد من دعوى كل واحدة منهما أنها الأولى أو الاصطلاح لجهالة المستحقة " ولا يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها ولا على ابنة أختها " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها أو ابنة أختها " وهذا مشهور تجوز الزيادة على الكتاب بمثله. " ولا يجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى " لأن الجمع بينهما يفضي إلى القطيعة والقرابة المحرمة للنكاح محرمة للقطع ولو كانت المحرمية بينهما بسبب الرضاع يحرم لما روينا من قبل " ولا بأس بأن يجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل " لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع وقال زفر رحمه الله لا يجوز لأن ابنة الزوج لو قدرتها ذكرا لا يجوز له التزوج بامرأة أبيه قلنا امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له التزوج بهذه والشرط أن يصور ذلك من كل جانب. قال: " ومن زنا بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها " وقال الشافعي رحمه الله الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بالمحظور. ولنا أن الوطء سبب الجزئية بواسطة الولد حتى يضاف إلى كل واحد منهما كملا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فتصير أصولها وفروعها كأصوله وفروعه وكذلك على العكس والاستمتاع بالجزء حرام إلا في موضع الضرورة وهي الموطوءة والوطء محرم من حيث إنه سبب الولد لا من حيث إنه زنا. " ومن مسته امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وبنتها " وقال الشافعي رحمه الله لا تحرم وعلى هذا الخلاف مسه امرأة بشهوة ونظره إلى فرجها ونظرها إلى ذكره عن شهوة له أن المس والنظر ليسا في معنى الدخول ولهذا لا يتعلق بهما فساد الصوم والإحرام ووجوب الاغتسال فلا يلحقان به. ولنا أن المس والنظر سبب داع إلى الوطء فيقام مقامه في موضع الاحتياط ثم إن المس بشهوة أن تنتشر الآلة أو تزداد انتشارا هو الصحيح والمعتبر النظر إلى الفرج الداخل ولا يتحقق ذلك إلا عند اتكائها ولو مس فأنزل فقد قيل إنه يوجب الحرمة والصحيح أنه لا يوجبها لأنه بالإنزال تبين أنه غير مفض إلى الوطء وعلى هذا إتيان المرأة في الدبر. " وإذا طلق امرأته طلاقا بائنا أو رجعيا لم يجز له أن يتزوج بأختها حتى تنقضي عدتها " وقال الشافعي رحمه الله إن كانت العدة عن طلاق بائن أو ثلاث يجوز لانقطاع النكاح بالكلية إعمالا للقاطع ولهذا لو وطئها مع العلم بالحرمة يجب الحد. ولنا أن نكاح الأولى قائم لبقاء أحكامه كالنفقة والمنع والفراش والقاطع تأخر عمله ولهذا بقي القيد والحد لا يجب على إشارة كتاب الطلاق وعلى عبارة كتاب الحدود يجب لأن الملك قد زال في حق الحل فيتحقق الزنا ولم يرتفع في حق ما ذكرنا فيصير جامعا " ولا يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها " لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا ثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة. " ويجوز تزويج الكتابيات " لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] أي العفائف ولا فرق بين الكتابية الحرة والأمة على ما تبين من بعد إن شاء الله " ولا يجوز تزويج المجوسيات " لقوله عليه الصلاة والسلام " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ". قال: " ولا الوثنيات " لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] " ويجوز تزويج الصابئيات إن كانوا يؤمنون بدين نبي ويقرون بكتاب " لأنهم من أهل الكتاب "وإ ن كانوا يعبدون الكواكب ولا كتاب لهم لم تجز مناكحتهم " لأنهم مشركون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 والخلاف المنقول فيه محمول على اشتباه مذهبهم فكل أجاب على ما وقع عنده وعلى هذا حل ذبيحتهم. قال: " ويجوز للمحرم والمحرمة أن يتزوجا في حالة الإحرام " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز وتزويج الولي المحرم وليته على هذا الخلاف له قوله عليه الصلاة والسلام " لا ينكح المحرم ولا ينكح " ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج بميمونة وهو محرم وما رواه محمول على الوطء. " ويجوز تزويج الأمة مسلمة كانت أو كتابية " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز للحر أن يتزوج بأمة كتابية لأن جواز نكاح الإماء ضروري عنده لما فيه من تعريض الجزء على الرق وقد اندفعت الضرورة بالمسلمة ولهذا جعل طول الحرة مانعا منه وعندنا الجواز مطلق لإطلاق المقتضى وفيه امتناع عن تحصيل الجزء الحر لا إرقاقه وله أن لا يحصل الأصل فيكون له أن لا يحصل الوصف " ولا يتزوج أمة على حرة " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تنكح الأمة على الحرة " وهو بإطلاقه حجة على الشافعي رحمه الله في تجويزه ذلك للعبد وعلى مالك رحمه الله في تجويزه ذلك برضا الحرة ولأن للرق أثرا في تنصيف النعمة على ما نقرره في كتاب الطلاق إن شاء الله فيثبت به حل المحلية في حالة الانفراد دون حالة الانضمام. " ويجوز تزويج الحرة عليها " لقوله عليه الصلاة والسلام " وتنكح الحرة على الأمة " ولأنها من المحللات في جميع الحالات إذ لا منصف في حقها " فإن تزوج أمة على حرة في عدة من طلاق بائن أو ثلاث لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله ويجوز عندهما " لأن هذا ليس بتزوج عليها وهو المحرم ولهذا لو حلف لا يتزوج عليها لم يحنث بهذا ولأبي حنيفة رحمه الله أن نكاح الحرة باق من وجه لبقاء بعض الأحكام فيبقى المنع احتياطا بخلاف اليمين لأن المقصود أن لا يدخل غيرهما في قسمها " وللحر أن يتزوج أربعا من الحرائر والإماء وليس له أن يتزوج أكثر من ذلك " لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] والتنصيص على العدد يمنع الزيادة عليه وقال الشافعي رحمه الله لا يتزوج إلا أمة واحدة لأنه ضروري عنده والحجة عليه ما تلونا إذ الأمة المنكوحة ينتظمها اسم النساء كما في الظهار " ولا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين " وقال مالك يجوز لأنه في حق النكاح بمنزلة الحر عنده حتى ملكه بغير إذن المولى. ولنا أن الرق منصف فيتزوج العبد اثنتين والحر أربعا إظهارا لشرف الحرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 " فإن طلق الحر إحدى الأربع طلاقا بائنا لم يجز له أن يتزوج رابعة حتى تنقضي عدتها " وفيه خلاف الشافعي وهو نظير نكاح الأخت في عدة الأخت. قال: " وإن تزوج حبلى من زنا جاز النكاح ولا يطؤها حتى تضع حملها " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله النكاح فاسد "وإن كان الحمل ثابت النسب فالنكاح باطل بالإجماع " لأبي يوسف رحمه الله أن الامتناع في الأصل لحرمة الحمل وهذا الحمل محترم لأنه لا جناية منه ولهذا لم يجز إسقاطه ولهما أنها من المحللات بالنص وحرمة الوطء كيلا يسقي ماءه زرع غيره والامتناع في ثابت النسب لحق صاحب الماء ولا حرمة للزاني " فان تزوج حاملا من السبي فالنكاح فاسد " لأنه ثابت النسب " وإن زوج أم ولده وهي حامل منه فالنكاح باطل " لأنها فراش لمولاها حتى يثبت نسب ولدها منه من غير دعوة فلو صح النكاح لحصل الجمع بين الفراشين إلا أنه غير متأكد حتى ينتفي الولد بالنفي من غير لعان فلا يعتبر ما لم يتصل به الحمل. قال: " ومن وطيء جاريته ثم زوجها جاز النكاح " لأنها ليست بفراش لمولاها فإنها لو جاءت بولد لا يثبت نسبه من غير دعوة إلا أن عليه أن يستبرئها صيانة لمائه " وإذا جاز النكاح فللزوج أن يطأها قبل الاستبراء " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا أحب له أن يطأها حتى أن يستبرئها لأنه احتمل الشغل بماء المولى فوجب التمزه كما في الشراء ولهما أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ فلا يؤمر بالاستبراء لا استحبابا ولا وجوبا بخلاف الشراء لأنه يجوز مع الشغل " وكذا إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها قبل أن يستبرئها عندهما وقال محمد لا أحب له أن يطأها ما لم يستبرئها " والمعنى ما ذكرنا. قال: " ونكاح المتعة باطل " وهو أن يقول لامرأة أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال وقال مالك هو جائز لأنه كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه قلنا ثبت النسخ باجماع الصحابة رضي الله عنهم وابن عباس رضي الله عنهما صح رجوعه إلى قولهم فتقرر الإجماع " والنكاح المؤقت باطل " مثل أن يتزوج امرأة بشهادة شاهدين إلى عشرة أيام وقال زفر هو صحيح لازم لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. ولنا أنه أتى بمعنى المتعة والعبرة في العقود للمعاني ولا فرق بين ما إذا طالت مدة التأقيت أو قصرت لأن التأقيت هو المعين لجهة المتعة وقد وجد " ومن تزوج امرأتين في عقدة واحدة وإحداهما لا يحل له نكاحها صح نكاح التي يحل نكاحها وبطل نكاح الأخرى " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 لأن المبطل في إحداهما بخلاف ما إذا جمع بين حر وعبد في البيع لأنه يبطل بالشروط الفاسدة وقبول العقد في الحر شرط فيه ثم جميع المسمى للتي يحل نكاحها عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقسم على مهر مثليهما وهي مسئلة الأصل " ومن ادعت عليه امرأة أنه تزوجها وأقامت بينة فجعلها القاضي امرأته ولم يكن تزوجها وسعها المقام معه وأن تدعه يجامعها " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا وفي قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله لا يسعه أن يطأها وهو قول الشافعي رحمه الله لأن القاضي أخطأ الحجة إذ الشهود كذبة فصار كما إذا ظهر أنهم عبيد أو كفار ولأبي حنيفة أن للشهود صدقة عنده وهو الحجة لتعذر الوقوف على حقيقة الصدق بخلاف الكفر والرق لأن الوقوف عليهما متيسر وإذا ابتنى القضاء على الحجة وأمكن تنفيذه باطنا بتقديم النكاح نفذ قطعا للمنازعة بخلاف الأملاك المرسلة لأن في الأسباب تزاحما فلا إمكان والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 باب في الأولياء والأكفاء مدخل ... باب في الأولياء والأكفاء " وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولى بكرا كانت أو ثيبا عند أبي حنيفة وأبي يوسف " رحمهما الله " في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف " رحمه الله " أنه لا ينعقد إلا بولي وعند محمد ينعقد موقوفا " وقال مالك والشافعي رحمهما الله لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا لأن النكاح يراد لمقاصد والتفويض إليهن مخل بها إلا أن محمدا رحمه الله يقول يرتفع الخلل باجازة الولي ووجه الجواز أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة مميزة ولهذا كان لها التصرف في المال ولها اختيار الأزواج وإنما يطالب الولي بالتزويج كيلا تنسب إلى الوقاحة ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء وغير الكفء ولكن للولي الاعتراض في غير الكفء وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز في غير الكفء لأنه كم من واقع لا يرفع ويروي رجوع محمد إلى قولهما " ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح " خلافا للشافعي رحمه الله له الاعتبار بالصغيرة وهذا لأنها جاهلة بأمر النكاح لعدم التجربة ولهذا يقبض الأب صداقها بغير أمرها. ولنا أنها حرة مخاطبة فلا يكون للغير عليها ولاية الإجبار والولاية على الصغيرة لقصور عقلها وقد كمل بالبلوغ بدليل توجه الخطاب فصار كالغلام وكالتصرف في المال وإنما يملك الأب قبض الصداق برضاها دلالة ولهذا لا يملك مع نهيها. قال: " وإذا استأذنها الولي فسكتت أو ضحكت فهو إذن " لقوله عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 " البكر تستأمر في نفسها فإن سكتت فقد رضيت " ولأن جنية الرضا فيه راجحة لأنها تستحيي عن إظهار الرغبة لا عن الرد والضحك أدل على الرضا من السكوت بخلاف ما إذا بكت لأنه دليل السخط والكراهية وقيل إذا ضحكت كالمستهزئة بما سمعت لا يكون رضا وإذا بكت بلا صوت لم يكن ردا. قال: " وإن فعل هذا غير الولي " يعني استأمر غير الولي " أو ولى غيره أولى منه لم يكن رضا حتى تتكلم به " لأن هذا السكوت لقلة الإلتفات إلى كلامه فلم يقع دلالة على الرضا ولو وقع فهو محتمل والاكتفاء بمثله للحاجة ولا حاجة في حق غير الأولياء بخلاف ما إذا كان المستأمر رسول الولي لأنه قائم مقامه ويعتبر في الاستثمار تسمية الزوج على وجه تقع به المعرفة لتظهر رغبتها فيه من رغبتها عنه " ولا تشترط تسمية المهر هو الصحيح " لأن النكاح صحيح بدونه. " ولو زوجها فبلغها الخبر فسكتت فهو على ما ذكرنا " لأن وجه الدلالة في السكوت لا يختلف ثم المخبر إن كان فضوليا يشترط فيه العدد أو العدالة عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما ولو كان رسولا لا يشترط إجماعا وله نظائر. " ولو استأذن الثيب فلا بد من رضاها بالقول " لقوله عليه الصلاة والسلام " الثيب تشاور " ولأن النطق لا يعد عيبا منها وقل الحياء بالممارسة فلا مانع من النطق في حقها " وإذا زالت بكارتها بوثبة أو حيضة أو جراحة أو تعنيس فهي في حكم الأبكار " لأنها بكر حقيقية لأن مصيبها أول مصيب لها ومنه الباكورة والبكرة ولأنها تستحيي لعدم الممارسة. " ولو زالت " بكارتها " بزنا فهي كذلك عند أبي حنيفة " رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله لا يكتفي بسكوتها لأنها ثيب حقيقية لأن مصيبها عائد إليها ومنه المثوبة والمثابة والتثويب ولأبي حنيفة رحمه الله أن الناس عرفوها بكرا فيعيبونها بالنطق فتمتنع عنه فيكتفي بسكوتها كيلا تتعطل عليها مصالحها بخلاف ما إذا وطئت بشبهة أو بنكاح فاسد لأن الشرع أظهره حيث علق به أحكاما أما الزنا فقد ندب إلى ستره حتى لو اشتهر حالها لا يكتفي بسكوتها. " وإذا قال الزوج بلغك النكاح فسكتت وقالت رددت فالقول قولها " وقال زفر رحمه الله القول قوله لأن السكوت أصل والرد عارض فصار كالمشروط له الخيار إذا ادعى الرد بعد مضي المدة ونحن نقول إنه يدعى لزوم العقد وتملك البضع والمرأة تدفعه فكانت منكرة كالمودع إذا ادعى رد الوديعة بخلاف مسئلة الخيار لأن اللزوم قد ظهر بمضي المدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 " وإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح " لأنه نور دعواه بالحجة وإن لم تكن له بينة فلا يمين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله وهي مسألة الاستحلاف في الأشياء الستة وستأتيك إن شاء الله. " ويجوز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجهما الولي بكرا كانت الصغيرة أو ثيبا والولي هو العصبة " ومالك رحمه الله يخالفنا في غير الأب والشافعي رحمه الله في غير الأب والجد وفي الثيب الصغيرة أيضا وجه قول مالك إن الولاية على الحرة باعتبار الحاجة ولا حاجة هنا لانعدام الشهوة إلا أن ولاية الأب ثبتت نصا بخلاف القياس والجد ليس في معناه فلا يلحق به قلنا لا بل هو موافق للقياس لأن النكاح يتضمن المصالح ولا تتوفر إلا بين المتكافئين عادة ولا يتفق الكفء في كل زمان فأثبتنا الولاية في حالة الصغر إحرازا للكفء وجه قول الشافعي رحمه الله أن النظر لا يتم بالتفويض إلى غير الأب والجد لقصور شفقته وبعد قرابته ولهذا لا يملك التصرف في المال مع انه أدنى رتبة فلأن لا يملك التصرف في النفس وأنه أعلى أولى. ولنا أن القرابة داعية إلى النظر كما في الأب والجد وما فيه من القصور أظهرناه في سلب ولاية الإلزام بخلاف التصرف في المال فإنه يتكرر فلا يمكن تدارك الخلل فلا تفيد الولاية إلا ملزمة ومع القصور لا تثبت ولاية الإلزام وجه قوله في المسئلة الثانية أن الثيابة سبب لحدوث الرأي لوجود الممارسة فأدرنا الحكم عليها تيسيرا. ولنا ما ذكرنا من تحقق الحاجة ووفور الشفقة ولا ممارسة تحدث الرأي بدون الشهوة فيدار الحكم على الصغر ثم الذي يؤيد كلامنا فيما تقدم قوله عليه الصلاة والسلام " النكاح إلى العصبات" من غير فصل والترتيب في العصبات في ولاية النكاح كالترتيب في الإرث والأبعد محجوب بالأقرب. قال: " فإن زوجهما الأب أو الجد " يعني الصغير والصغيرة " فلا خيار لهما " بعد بلوغهما لأنهما كاملا الرأي وافرا الشفقة فيلزم العقد بمباشرتهما كما إذا باشراه برضاهما بعد البلوغ " وإن زوجهما غير الأب والجد فلكل واحد منهما الخيار إذا بلغ إن شاء اقام على النكاح وإن شاء فسخ " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا خيار لهما اعتبارا بالأب والجد ولهما أن قرابة الأخ ناقصة والنقصان يشعر بقصور الشفقة فيتطرق الخلل إلى المقاصد عسى والتدارك ممكن بخيار الإدراك وإطلاق الجواب في غير الأب والجد يتناول الأم والقاضي وهو الصحيح من الرواية لقصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الرأي في أحدهما ونقصان الشفقة في الآخر فيتخير. قال: " ويشترط فيه القضاء " بخلاف خيار العتق لأن الفسخ ههنا لدفع ضرر خفي وهو تمكن الخلل ولهذا يشمل الذكر والأنثى فجعل إلزاما في حق الآخر فيفتقر إلى القضاء وخيار العتق لدفع ضرر جلي وهو زيادة الملك عليها ولهذا يختص بالأنثى فاعتبر دفعا والدفع لا يفتقر إلى القضاء " ثم عندهما إذا بلغت الصغيرة وقد علمت بالنكاح فسكتت فهو رضا وإن لم تعلم بالنكاح فلها الخيار حتى تعلم فتسكت " شرط العلم بأصل النكاح لأنها لا تتمكن من التصرف إلا به والولي ينفرد به فعذرت بالجهل ولم يشترط العلم بالخيار لأنها تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع والدار دار العلم فلم تعذر بالجهل بخلاف المعتقة لأن الأمة لا تتفرغ لمعرفتها فتعذر بالجهل بثبوت الخيار " ثم خيار البكر يبطل بالسكوت ولا يبطل خيار الغلام مالم يقل رضيت أو يجيىء منه ما يعلم أنه رضا وكذلك الجارية إذا دخل بها الزوج قبل البلوغ " اعتبارا لهذه الحالة بحالة ابتداء النكاح " وخيار البلوغ في حق البكر لا يمتد إلى آخر المجلس ولا يبطل بالقيام في حق الثيب والغلام " لأنه ما ثبت بإثبات الزوج بل لتوهم الخلل فإنما يبطل بالرضا غير أن سكوت البكر رضا بخلاف خيار العتق لأنه ثبت بإثبات المولى وهو الإعتاق فيعتبر فيه المجلس كما في خيار المخيرة " ثم الفرقة بخيار البلوغ ليست بطلاق " لأنها تصح من الأنثى ولا طلاق إليها وكذا بخيار العتق لما بينا بخلاف المخيرة لأن الزوج هو الذي ملكها وهو مالك للطلاق " فإن مات أحدهما قبل البلوغ ورثه الآخر " وكذا إذا مات بعد البلوغ قبل التفريق لأن أصل العقد صحيح والملك ثابت به وقد انتهى بالموت بخلاف مباشرة الفضولي إذا مات أحد الزوجين قبل الإجازة لأن النكاح ثمة موقوف فيبطل بالموت وههنا نافذ فيتقرر به. قال: " ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون " لأنه لا ولاية لهم على أنفسهم فأولى أن لا تثبت على غيرهم ولأن هذه ولاية نظرية ولا نظر في التفويض إلى هؤلا " ولا " ولاية "لكافر على مسلم" لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولهذا لا تقبل شهادته عليه ولا يتوارثان أما الكافر فتثبت له ولاية الإنكاح على ولده الكافر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [لأنفال: 73] ولهذا تقبل شهادته عليه ويجري بينهما التوارث " ولغير العصبات من الأقارب ولاية التزويج عند أبي حنيفة " رحمه الله معناه عند عدم العصبات وهذا استحسان وقال محمد رحمه الله لا تثبت وهو القياس وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقول أبي يوسف في ذلك مضطرب والأشهر أنه مع محمد لهما ما روينا ولأن الولاية إنما تثبت صونا للقرابة عن نسبة غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الكفء إليها وإلى العصبات الصيانة ولأبي حنيفة رحمه الله أن الولاية نظرية والنظر يتحقق بالتفويض إلى من هو المختص بالقرابة الباعثة على الشفقة " ومن لا ولي لها " يعني العصبة من جهة القرابة " إذا زوجها مولاها الذي أعتقها جاز " لأنه آخر العصبات " وإذا عدم الأولياء فالولاية إلى الإمام والحاكم " لقوله عليه الصلاة والسلام " السلطان ولي من لا ولي له " " فإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة جاز لمن هو أبعد منه أن يزوج " وقال زفر لا يجوز لأن ولاية الأقرب قائمة لأنها ثبتت حقا له صيانة للقرابة فلا تبطل بغيبته ولهذا لو زوجها حيث هو جاز ولا ولاية للأبعد مع ولايته. ولنا أن هذه ولاية نظرية وليس من النظر التفويض إلى من لا ينتفع برأيه ففوضناه إلى الأبعد وهو مقدم على السلطان كما إذا مات الأقرب ولو زوجها حيث هو فيه منع وبعد التسليم نقول للأبعد بعد القرابة وقرب التدبير وللأقرب عكسه فنزلا منزلة وليين متساويين فأيهما عقد نفذ ولا يرد " والغيبة المنقطعة أن يكون في بلد لا تصل إليها القوافل في السنة إلا مرة واحدة " وهو اختيار القدوري. وقيل: أدنى مدة السفر لأنه لا نهاية لأقصاه وهو اختيار بعض المتأخرين وقيل إذا كان بحال يفوت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه وهذا اقرب إلى الفقه لأنه لا نظر في إبقاء ولايته حينئذ " وإذا اجتمع في المجنونة أبوها وابنها فالولي في إنكاحها ابنها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله أبوها " لأنه أوفر شفقة من الابن ولهما أن الابن هو المقدم في العصوبة وهذه الولاية مبنية عليها ولا معتبر بزيادة الشفقة كأبي الأم مع بعض العصبات والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فصل في الكفاءة " الكفاءة في النكاح معتبرة " قال عليه الصلاة والسلام " ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الأكفاء " ولأن انتظام المصالح بين المتكافئين عادة لأن الشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس فلا بد من اعتبارها بخلاف جانبها لأن الزوج مستفرش فلا تغيظه دناءة الفراش " وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء فللأولياء أن يفرقوا بينهما " دفعا لضرر العار عن أنفسهم " ثم الكفاءة تعتبر في النسب " لأنه يقع به التفاخر " فقريش بعضهم أكفاء لبعض والعرب بعضهم أكفاء لبعض " والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " قريش بعضهم أكفاء لبعض بطن بيطن والعرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل " ولا يعتبر التفاضل فيما بين قريش لما روينا وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 محمد رحمه الله كذلك إلا أن يكون نسبا مشهورا كأهل بيت الخلافة كأنه قال تعظيما للخلافة وتسكينا للفتنة وبنو باهلة ليسوا بأكفاء لعامة العرب لأنهم معروفون بالخساسة. " وأما الموالي فمن كان له أبوان في الإسلام فصاعدا فهو من الأكفاء " يعني لمن له آباء فيه " ومن أسلم بنفسه أو له أب واحد في الإسلام لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام " لأن تمام النسب بالأب والجد وأبو يوسف ألحق الواحد بالمثنى كما هو مذهبه في التعريف " ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب واحد في الإسلام " لأن التفاخر فيما بين الموالي بالإسلام والكفاءة في الحرية نظيرها في الإسلام في جميع ما ذكرنا لأن الرق أثر الكفر وفيه معنى الذل فيعتبر في حكم الكفاءة. قال: " وتعتبر أيضا في الدين " أي الديانة وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله هو الصحيح لأنه من أعلى المفاخر والمرأة تعير بفسق الزوج فوق ما تعير بضعة نسبه وقال محمد رحمه الله لا تعتبر لأنه من أمور الآخرة فلا تبتنى أحكام الدنيا عليه إلا إذا كان يصفع ويسخر منه أو يخرج إلى الأسواق سكران ويلعب به الصبيان لأنه مستخف به. قال: " و " تعتبر " في المال وهو أن يكون مالكا للمهر والنفقة " وهذا هو المعتبر في ظاهر الرواية حتى إن من لا يملكهما أو لا يملك أحدهما لا يكون كفؤا لأن المهر بدل البضع فلا بد من إيفائه وبالنفقة قوام الازدواج ودوامه والمراد بالمهر قدر ما تعارفوا تعجيله لأن ما وراءه مؤجل عرفا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه اعتبر القدرة على النفقة دون المهر لأنه تجري المساهلة في المهور ويعد المرء قادرا عليه بيسار أبيه فأما الكفاءة في الغنى فمعتبرة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى إن الفائقة في اليسار لا يكافئها القادر على المهر والنفقة لأن الناس يتفاخرون بالغنى ويتعيرون بالفقر وقال أبو يوسف رحمه الله لا يعتبر لأنه لا ثبات له إذ المال غاد ورائح " و " تعتبر " في الصنائع " وهذا عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان وعن أبي يوسف أنه لا تعتبر إلا أن تفحش كالحجام والحائك والدباغ وجه الاعتبار أن الناس يتفاخرون بشرف الحرف ويتعيرون بدناءتها وجه القول الآخر أن الحرفة ليست بلازمة ويمكن التحول عن الخسيسة إلى النفيسة منها. قال: " وإذا تزوجت المرأة ونقصت عن مهر مثلها فللأولياء الاعتراض عليها " عند أبي حنيفة رحمه الله " حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها " وقالا ليس لهم ذلك وهذا الوضع إنما يصح على قول محمد رحمه الله على اعتبار قوله المرجوع إليه في النكاح بغير الولي وقد صح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ذلك، وهذه شهادة صادقة عليه لهما أن ما زاد على العشرة حقها ومن أسقط حقه لا يعترض عليه كما بعد التسمية ولأبي حنيفة رحمه الله أن الأولياء يفتخرون بغلاء المهر ويتعيرون بنقصانه بأشبه الكفاءة بخلاف الإبراء بعد التسمية لأنه لا يتعير به. " وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة ونقص من مهرها أو ابنه الصغير وزاد في مهر امرأته جاز ذلك عليهما ولا يجوز ذلك لغير الأب والجد وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجوز الحط والزيادة إلا بما يتغابن الناس فيه " ومعنى هذا الكلام أنه لا يجوز العقد عندهما لأن الولاية مقيدة بشرط النظر فعند فواته يبطل العقد وهذا لأن الحط عن مهر المثل ليس من النظر في شيء كما في البيع ولهذا لا يملك ذلك غيرهما ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحكم يدار على دليل النظر وهو قرب القرابة وفي النكاح مقاصد تربو على المهر أما المالية فهي المقصودة في التصرف المالي والدليل عدمناه في حق غيرهما. " ومن زوج ابنته وهي صغيرة عبدا أو زوج ابنه وهو صغير أمة فهو جائز " قال رضي الله عنه " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله أيضا " لأن الإعراض عن الكفاءة لمصلحة تفوقها وعندهما هو ضرر ظاهر لعدم الكفاءة فلا يجوز والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فصل في الوكالة بالنكاح وغيرها " ويجوز لابن العم أن يزوج بنت عمه من نفسه " وقال زفر رحمه الله لا يجوز " وإذا أذنت المرأة للرجل أن يزوجها من نفسه فعقد بحضرة شاهدين جاز " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يجوز لهما أن الواحد لا يتصور أن يكون مملكا ومتملكا كما في البيع إلا أن الشافعي رحمه الله يقول في الولي ضرورة لأنه لا يتولاه سواه ولا ضرورة في حق الوكيل. ولنا أن الوكيل في النكاح معبر وسفير والتمانع في الحقوق دون التعيير ولا ترجع الحقوق إليه بخلاف البيع لأنه مباشر حتى رجعت الحقوق إليه وإذا تولى طرفيه فقوله زوجت يتضمن الشطرين فلا يحتاج إلى القبول. قال: " وتزويج العبد والأمة بغير إذن مولاهما موقوف فإن أجازه المولى جاز وإن رده بطل وكذلك لو زوج رجل امرأة بغير رضاها أو رجلا بغير رضاه " وهذا عندنا فإن كل عقد صدر من الفضولي وله مجيز انعقد موقوفا على الإجازة وقال الشافعي رحمه الله تصرفات الفضولي كلها باطلة لأن العقد وضع لحكمه والفضولي لا يقدر على إثبات الحكم فيلغو ولنا أن ركن التصرف صدر من أهله مضافا إلى محله ولا ضرر في انعقاده فينعقد موقوفا حتى إذا رأى المصلحة فيه ينفذه وقد يتراخي حكم العقد عن العقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 " ومن قال اشهدوا أني قد تزوجت فلانة فبلغها الخبر فأجازت فهو باطل وإن قال آخر اشهدوا أني قد زوجتها منه فبلغها الخبر فأجازت جاز وكذلك إن كانت المرأة هي التي قالت جميع ذلك " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله إذا زوجت نفسها غائبا فبلغه فأجازه جاز. وحاصل هذا أن الواحد لا يصلح فضوليا من الجانبين أو فضوليا من جانب وأصيلا من جانب عندهما خلافا له ولو جرى العقد بين الفضوليين أو بين الفضولي والأصيل جاز بالإجماع هو يقول لو كان مأمورا من الجانبين ينفذ فإذا كان فضوليا بتوقف وصار كالخلع والطلاق والإعتاق على مال ولهما أن الموجود شطر العقد لأنه شطر حالة الحضرة فكذا عند الغيبة وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس كما في البيع بخلاف المأمور من الجانبين فإنه ينتقل كلامه إلى العاقدين وما جرى بين الفضوليين عقد تام وكذا الخلع وأختاه لأنه تصرف يمين من جانبه حتى يلزم فيتم به. " ومن أمر رجلا أن يزوجه امرأة فزوجه اثنتين في عقدة لم تلزمه واحدة منهما " لأنه لا وجه إلى تنفيذهما للمخالفة ولا إلى التنفيذ في إحداهما غير عين للجهالة ولا إلى التعيين لعدم الأولوية فتعين التفريق. " ومن أمره أمير بأن يزوجه امرأة فزوجه أمة لغيره جاز عند أبي حنيفة رحمه الله " رجوعا إلى إطلاق اللفظ وعدم التهمة " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز إلا أن يزوجه كفؤا " لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف وهو التزوج بالأكفاء قلنا العرف مشترك أو هو عرف عملي فلا يصلح مقيدا وذكر في الوكالة أن اعتبار الكفاءة في هذا استحسان عندهما لأن كل أحد لا يعجز عن التزوج بمطلق الزوج فكانت الاستعانة في التزوج بالكفء والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 باب المهر مدخل ... باب المهر " ويصح النكاح وإن لم يسم فيه مهرا " لأن النكاح عقد انضمام وازدواج لغة فيتم بالزوجين ثم المهر واجب شرعا إبانة لشرف المحل فلا يحتاج إلى ذكره لصحة النكاح وكذا إذا تزوجها بشرط أن لا مهر لها لما بينا وفيه خلاف مالك رحمه الله. " وأقل المهر عشرة دراهم " وقال الشافعي رحمه الله ما يجوز أن يكون ثمنا في البيع يجوز أن يكون مهرا لها لأنه حقها فيكون التقدير إليها ولنا قوله عليه الصلاة والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 " ولا مهر أقل من عشرة " ولأنه حق الشرع وجوبا إظهارا لشرف المحل فيتقدر بماله خطر وهو العشرة استدلالا بنصاب السرقة. " ولو سمي أقل من عشرة فلها العشرة " عندنا وقال زفر رحمه الله لها مهر المثل لأن تسمية مالا يصلح مهرا كانعدامه ولنا أن فساد هذه التسمية لحق الشرع وقد صار مقضيا بالعشرة فأما ما يرجع إلى حقها فقد رضيت بالعشرة لرضاها بما دونها ولا معتبر بعدم التسمية لأنها قد ترضى بالتمليك من غير عوض تكرما ولا ترضى فيه بالعوض اليسير ولو طلقها قبل الدخول بها تجب خمسة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله وعنده تجب المتعة كما إذا لم يسم شيئا. " ومن سمى مهرا عشرة فما زاد فعليه المسمى إن دخل بها أو مات عنها " لأنه بالدخول يتحقق تسليم المبدل وبه يتأكد البدل وبالموت ينتهي النكاح نهايته والشيء بانتهائه يتقرر ويتأكد فيتقرر بجميع مواجبه " وإن طلقها قبل الدخول بها والخلوة فلها نصف المسمى " لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، والأقيسة متعارضة ففيه تفويت الزوج الملك على نفسه باختياره وفيه عود المعقود عليه إليها سالما فكان المرجع فيه النص وشرط أن يكون قبل الخلوة لأنها كالدخول عندنا على ما نبينه إن شاء الله تعالى قال: " وإن تزوجها ولم يسم لها مهرا أو تزوجها على أن لا مهر لها فلها مهر مثلها إن دخل بها أو مات عنها " وقال الشافعي رحمه الله لا يجب شيء في الموت وأكثرهم على أنه يجب في الدخول له أن المهر خالص حقها فتتمكن من نفيه ابتداء كما تتمكن من إسقاطه انتهاء ولنا أن المهر وجوبا حق الشرع على ما مر وإنما يصير حقا لها في حالة البقاء فتملك الإبراء دون النفي "ولو طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة" لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] الآية ثم هذه المتعة واجبة رجوعا إلى الأمر وفيه خلاف مالك رحمه الله. " والمتعة ثلاثة أثواب من كسوة مثلها " وهي درع وخمار وملحفة وهذا التقدير مروي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما وقوله من كسوة مثلها إشارة إلى أنه يعتبر حالها وهو قول الكرخي رحمه الله في المتعة الواجبة لقيامها مقام مهر المثل والصحيح أنه يعتبر حاله عملا بالنص وهو قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ثم هي لا تزاد على نصف مهر مثلها ولا تنقص عن خمسة دراهم ويعرف ذلك في الأصل " وإن تزوجها ولم يسم لها مهرا ثم تراضيا على تسميته فهي لها إن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة " وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الأول نصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 هذا المفروض وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه مفروض فيتنصف بالنص ولنا أن هذا الفرض تعيين للواجب بالعقد وهو مهر المثل وذلك لا يتنصف فكذا ما نزل منزلته والمراد بما تلا الفرض في العقد إذ هو الفرض المتعارف. قال: " فإن زاد لها في المهر بعد العقد لزمته الزيادة " خلافا لزفر رحمه الله وسنذكره في زيادة الثمن والمثمن إن شاء الله وإذا صحت الزيادة " تسقط بالطلاق قبل الدخول " وعلى قول أبي يوسف رحمه الله أولا تتنصف مع الأصل لأن التنصيف عندهما يختص بالمفروض في العقد وعنده المفروض بعده كالمفروض فيه على ما مر " وإن حطت عنه من مهرها صح الحط " لأن المهر بقاء حقها والحط يلاقيه حالة البقاء "وإذا خلا الرجل بامرأته وليس هناك مانع من الوطء ثم طلقها فلها كمال المهر " وقال الشافعي رحمه الله لها نصف المهر لأن المعقود عليه إنما يصير مستوفى بالوطء فلا يتأكد المهر دونه. ولنا أنها سلمت المبدل حيث رفعت الموانع وذلك وسعها فيتأكد حقها في البدل اعتبارا بالبيع " وإن كان أحدهما مريضا أو صائما في رمضان أو محرما بحج فرض أو نفل أو بعمرة أو كانت حائضا فليست الخلوة صحيحة " حتى لو طلقها كان لها نصف المهر لأن هذه الأشياء موانع. أما المرض فالمراد منه ما يمنع الجماع أو يلحقه به ضرر وقيل مرضه لا يعري عن تكسر وفتور وهذا التفصيل في مرضها وصوم رمضان لما يلزمه من القضاء والكفارة والإحرام لما يلزمه من الدم وفساد النسك والقضاء والحيض مانع طبعا وشرعا " وإن كان أحدهما صائما تطوعا فلها المهر كله " لأنه يباح له الإفطار من غير عذر في رواية المنتقي وهذا القول في المهر هو الصحيح وصوم القضاء والمنذور كالتطوع في رواية لأنه لا كفارة فيه والصلاة بمنزلة الصوم فرضها كفرضه ونفلها كنفله. " وإذا خلا المجبوب بامرأته ثم طلقها فلها كمال المهر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليه نصف المهر " لأنه أعجز من المريض بخلاف العنين لأن الحكم أدير على سلامة الآلة ولأبي حنيفة رحمه الله أن المستحق عليها التسليم في حق السحق وقد أتت به. قال: " وعليها العدة في جميع هذه المسائل " احتياطا استحسانا لتوهم الشغل والعدة حق الشرع الولد فلا يصدق في إبطال حق الغير بخلاف المهر لأنه مال لا يحتاط في إيجابه وذكر القدوري رحمه الله في شرحه أن المانع إن كان شرعيا كالصوم والحيض تجب العدة لثبوت التمكن حقيقة وإن كان حقيقيا كالمرض والصغر لا تجب لانعدام التمكن حقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قال: " وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا لمطلقة واحدة وهي التي طلقها الزوج قبل الدخول بها وقد سمى لها مهرا " وقال الشافعي رحمه الله تجب لكل مطلقة إلا لهذه لأنها وجبت صلة من الزوج لأنه أوحشها بالفراق إلا أن في هذه الصورة نصف المهر طريقه المتعة لأن الطلاق فسخ في هذه الحالة والمتعة لا تتكرر. ولنا أن المتعة خلف عن مهر المثل في المفوضة لأنه سقط مهر المثل ووجبت المتعة والعقد يوجب العوض فكان خلفا والخلف لا يجامع الأصل ولا شيئا منه فلا تجب مع وجوب شيء من المهر وهو غير جان في الإيحاش فلا تلحقه الغرامة به فكان من باب الفضل " وإذا زوج الرجل بنته على أن يزوجه الآخر بنته أو أخته ليكون أحد العقدين عوضا عن الآخر فالعقدان جائزان ولكل واحدة منهما مهر مثلها " وقال الشافعي رحمه الله بطل العقدان لأنه جعل نصف البضع صداقا والنصف منكوحة ولا اشتراك في هذا الباب فبطل الإيجاب. ولنا أنه سمى مالا يصح صداقا فيصح العقد ويجب مهر المثل كما إذا سمى الخمر والخنزير ولا شركة بدون الاستحقاق " وإن تزوج حر امرأة على خدمته إياها سنة أو على تعليم القرآن فلها مهر مثلها وقال محمد رحمه الله لها قيمة خدمته سنة وإن تزوج عبد امرأة بإذن مولاه على خدمته سنة جاز ولها خدمته " وقال الشافعي رحمه الله لها تعليم القرآن والخدمة في الوجهين لأن ما يصح أخذ العوض عنه بالشرط يصلح مهرا عنده لأن بذلك تتحقق المعاوضة وصار كما إذا تزوجها على خدمة حر آخر برضاه أو على رعي الزوج غنمها. ولنا أن المشروع إنما هو الإبتغاء بالمال والتعليم ليس بمال وكذلك المنافع على أصلنا وخدمة العبد ابتغاء بالمال لتضمنه تسليم رقبته ولا كذلك الحر ولأن خدمة الزوج الحر لا يجوز استحقاقها بعقد النكاح لما فيه من قلب الموضوع بخلاف خدمة حر آخر برضاه لأنه لا مناقضة وبخلاف خدمة العبد لأنه يخدم مولاه معنى حيث يخدمها بإذنه وبأمره وبخلاف رعي الأغنام لأنه من باب القيام بأمور الزوجية فلا مناقضة على أنه ممنوع في رواية ثم على قول محمد رحمه الله تجب قيمة الخدمة لأن المسمى مال إلا أنه عجز عن التسليم لمكان المناقضة فصار كالتزوج على عبد الغير وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجب مهر المثل لأن الخدمة ليست بمال إذ لا تستحق فيه بحال فصار كتسمية الخمر والخنزير وهذا لأن تقومه بالعقد للضرورة فإذا لم يجب تسليمه بالعقد لم يظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 تقومه فيبقى الحكم للأصل وهو مهر المثل " فإن تزوجها على ألف فقبضتها ووهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بخمسمائة " لأنه لم يصل إليه بالهبة عين ما يستوجبه لأن الدراهم والدنانير لا تتعينان في العقود والفسوخ وكذا إذا كان المهر مكيلا أو موزونا أو شيئا آخر في الذمة لعدم تعينها " فإن لم تقبض الألف حتى وهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء " وفي القياس يرجع عليها بنصف الصداق وهو قول زفر رحمه الله لأنه سلم المهر له بالإبراء فلا تبرأعما يستحقه بالطلاق قبل الدخول وجه الاستحسان أنه وصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول وهو براءة ذمته عن نصف المهر ولا يبالي باختلاف السبب عند حصول المقصود " ولو قبضت خمسمائة ثم وهبت الألف كلها المقبوض وغيره أو وهبت الباقي ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يرجع عليها بنصف ما قبضت " اعتبارا للبعض بالكل ولأن هبة البعض حط فيلتحق بأصل العقد ولأبي حنيفة رحمه الله أن مقصود الزوج قد حصل وهو سلامة نصف الصداق بلا عوض فلا يستوجب الرجوع عند الطلاق والحط لا يلتحق بأصل العقد في النكاح ألا ترى أن الزيادة فيه لا تلتحق حتى لا تتنصف ولو كانت وهبت أقل من النصف وقبضت الباقي فعنده يرجع عليها إلى تمام النصف وعندهما ينصف المقبوض " ولو كان تزوجها على عرض فقبضته أو لم تقبض فوهبت له ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع عليها بشيء " وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله يرجع عليها بنصف قيمته لأن الواجب فيه رد نصف عين المهر على ما مر تقريره وجه الاستحسان أن حقه عند الطلاق سلامة نصف المقبوض من جهتها وقد وصل إليه ولهذا لم يكن لها دفع شيء آخر مكانه بخلاف ما إذا كان المهر دينا وبخلاف ما إذا باعت من زوجها لأنه وصل إليه ببدل. " ولو تزوجها على حيوان أو عروض في الذمة فكذلك الجواب " لأن المقبوض متعين في الرد وهذا لأن الجهالة تحملت في النكاح فإذا عين فيه يصير كأن التسمية وقعت عليه. " وإذا تزوجها على ألف على أن لا يخرجها من البلدة أو على أن لا يتزوج عليها أخرى فإن وفى بالشرط فلها المسمى " لأنه صلح مهرا وقد تم رضاها به " وإن تزوج عليها أخرى أو أخرجها فلها مهر مثلها " لأنه سمى مالها فيه نفع فعند فواته ينعدم رضاها بالألف فيكمل مهر مثلها كما في تسمية الكرامة والهدية مع الألف. " ولو تزوجها على ألف إن أقام بها وعلى ألفين إن أخرجها فإن أقام بها فلها الألف وإن أخرجها فلها مهر المثل لا يزاد على الألفين ولا ينقص عن الألف وهذا عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أبي حنيفة رحمه الله وقالا الشرطان جميعا جائزان " حتى كان لها الألف إن أقام بها والألفان إن أخرجها وقال زفر رحمه الله الشرطان جميعا فاسدان ويكون لها مهر مثلها لا ينقص من ألف ولا يزاد على ألفين وأصل المسئلة في الإجارات في قوله إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم وسنبينها فيه إن شاء الله. " ولو تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد فإذا أحدهما أوكس والآخر أرفع فإن كان مهر مثلها أقل من أوكسهما فلها الأوكس وإن كان أكثر من أرفعهما فلها الأرفع وإن كان بينهما فلها مهر مثلها " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لها الأوكس في ذلك كله " فإن طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الأوكس في ذلك كله بالإجماع " لهما أن المصير إلى مهر المثل لتعذر إيجاب المسمى وقد أمكن إيجاب الأوكس إذ الأقل متيقن فصار كالخلع والإعتاق على مال ولأبي حنيفة رحمه الله أن الموجب الأصلي مهر المثل إذ هو الأعدل والعدول عنه عند صحة التسمية وقد فسدت لمكان الجهالة بخلاف الخلع والإعتاق على مال لأنه لا موجب له في البدل إلا أن مهر المثل إذا كان أكثر من الأرفع فالمرأة رضيت بالحط وإن كان أنقص من الأوكس فالزوج رضي بالزيادة والواجب في الطلاق قبل الدخول في مثله المتعة ونصف الأوكس يزيد عليها في العادة فوجب لاعترافه بالزيادة. " وإذا تزوجها على حيوان غير موصوف صحت التسمية ولها الوسط منه والزوج مخير إن شاء أعطاها ذلك وإن شاء أعطاها قيمته " قال رحمه الله معنى هذه المسئلة أن يسمى جنس الحيوان دون الوصف بأن يتزوجها على فرس أو حمار أما إذا لم يسم الجنس بأن يتزوجها على دابة لا تجوز التسمية ويجب مهر المثل وقال الشافعي رحمه الله يجب مهر المثل في الوجهين جميعا لأن عنده مالا يصلح ثمنا في البيع لا يصلح مسمى في النكاح إذ كل واحد منهما معاوضة. ولنا أنه معاوضة مال بغير مال فجعلنا التزام المال ابتداء حتى لا يفسد بأصل الجهالة كالدية والأقارير وشرطنا أن يكون المسمى مالا وسطه معلوم رعاية للجانبين وذلك عند إعلام الجنس لأنه يشتمل على الجيد والرديء والوسط ذو حظ منهما بخلاف جهالة الجنس لأنه لا وسط له لاختلاف معاني الأجناس وبخلاف البيع لأن مبناه على المضايقة والمماكسة أما النكاح فمبناه على المسامحة وإنما يتخير لأن الوسط لا يعرف إلا بالقيمة فصارت أصلا في حق الإيفاء والعبد أصل تسمية فيتخير بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 " وإن تزوجها على ثوب غير موصوف فلها مهر المثل " ومعناه أنه ذكر الثوب ولم يزد عليه ووجهه أن هذه جهالة الجنس لأن الثياب أجناس ولو سمى جنسا بأن قال هروي يصح التسمية ويخير الزوج لما بينا وكذا إذا بالغ في وصف الثوب في ظاهر الرواية لأنها ليست من ذوات الأمثال وكذا إذا سمى مكيلا أو موزونا وسمى جنسه دون صفته وإن سمى جنسه وصفته لا يخير لأن الموصوف منهما يثبت في الذمة ثبوته صحيحا. " وإن تزوج مسلم على خمر أو خنزير فالنكاح جائز ولها مهر مثلها " لأن شرط قبول الخمر شرط فاسد فيصح النكاح ويلغو الشرط بخلاف البيع لأنه يبطل بالشروط الفاسدة لكن لم تصح التسمية لما أن المسمى ليس بمال في حق المسلم فوجب مهر المثل. " فإن تزوج امرأة على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر فلها مهر مثلها عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لها مثل وزنه خلا وإن تزوجها على هذا العبد فإذا هو حر يجب مهر المثل عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف تجب القيمة " لأبي يوسف أنه أطمعها مالا وعجز عن تسليمه فتجب قيمته أو مثله إن كان من ذوات الأمثال كما إذا هلك العبد المسمى قبل التسليم وأبو حنيفة رحمه الله يقول اجتمعت الإشارة والتسمية فتعتبر الإشارة لكونها أبلغ في المقصود وهو التعريف فكأنه تزوج على خمر أو حر ومحمد رحمه الله يقول الأصل أن المسمى إذا كان من جنس المشار إليه يتعلق العقد بالمشار إليه لأن المسمى موجود في المشار إليه ذاتا والوصف يتبعه وإن كان من خلاف جنسه يتعلق بالمسمى لأن المسمى مثل للمشار إليه وليس بتابع له والتسمية أبلغ في التعريف من حيث إنها تعرف الماهية والإشارة تعرف الذات ألا ترى أن من اشترى فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج لا ينعقد العقد لاختلاف الجنس ولو اشترى على أنه ياقوت أحمر فإذا هو أخضر ينعقد العقد لاتحاد الجنس وفي مسئلتنا العبد مع الحر جنس واحد لقلة التفاوت في المنافع والخمر مع الخل جنسان لفحش التفاوت في المقاصد. " فإن تزوجها على هذين العبدين فإذا أحدهما حر فليس لها إلا الباقي إذا ساوى عشرة دراهم عند أبي حنيفة رحمه الله " لأنه مسمى ووجوب المسمى وإن قل يمنع وجوب مهر المثل " وقال أبو يوسف لها العبد وقيمة الحر لو كان عبدا " لأنه أطمعها سلامة العبدين وعجز عن تسليم أحدهما فتجب قيمته " وقال محمد " رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله " لها العبد الباقي وتمام مهر مثلها إن كان مهر مثلها أكثر من قيمة العبد " لأنهما لو كانا حرين يجب تمام مهر المثل عنده فإذا كان أحدهما عبدا يجب العبد وتمام مهر المثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 " وإذا فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد قبل الدخول فلا مهر لها " لأن المهر فيه لا يجب بمجرد العقد لفساده وإنما يجب باستيفاء منافع البضع " وكذا بعد الخلوة " لأن الخلوة فيه لا يثبت بها التمكن فلا تقام مقام الوطء " فإن دخل بها فلها مهر مثلها لا يزاد على المسمى " عندنا خلافا لزفر رحمه الله هو يعتبره بالبيع الفاسد. ولنا أن المستوفى ليس بمال وإنما يتقوم بالتسمية فإذا زادت على مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية وإن نقصت لم تجب الزيادة على المسمى لانعدام التسمية بخلاف البيع لأنه مال متقوم في نفسه فيتقدر بدله بقيمته " وعليها العدة " إلحاقا للشبهة بالحقيقة في موضع الاحتياط وتحرزا عن اشتباه النسب " ويعتبر ابتداؤها من وقت التفريق لا من آخر الوطآت " هو الصحيح لأنها تجب باعتبار شبهة النكاح ورفعها بالتفريق " ويثبت نسب ولدها " لأن النسب يحتاط في إثباته إحياء للولد فيترتب على الثابت من وجه وتعتبر مدة النسب من وقت الدخول عند محمد رحمه الله وعليه الفتوى لأن النكاح الفاسد ليس بداع إليه والإقامة باعتباره. قال: " ومهر مثلها يعتبر بأخواتها وعماتها وبنات أعمامها " لقول ابن مسعود رحمه الله لها مهر مثل نسائها لا وكس فيه ولا شطط وهن أقارب الأب ولأن الإنسان من جنس قوم أبيه وقيمة الشيء إنما تعرف بالنظر في قيمة جنسه " ولا يعتبر بأمها وخالتها إذا لم تكونا من قبيلتها " لما بينا " فإن كانت الأم من قوم أبيها بأن كانت بنت عمه فحينئذ يعتبر بمهرها " لما أنها من قوم ابيها " ويعتبر في مهر المثل أن تتساوى المرأتان في السن والجمال والمال والعقل والدين والبلد والعصر " لأن مهر المثل يختلف باختلاف هذه الأوصاف وكذا يختلف باختلاف الدار والعصر قالوا ويعتبر التساوي أيضا في البكارة لأنه يختلف بالبكارة والثيوبة. " وإذا ضمن الولي المهر صح ضمانه " لأنه من أهل الالتزام وقد أضافه إلى ما يقبله فيصح " ثم المرأة بالخيار في مطالبتها زوجها أو وليها " اعتبارا بسائر الكفالات ويرجع الولي إذا أدى على الزوج إن كان بأمره كما هو الرسم في الكفالة وكذلك يصح هذا الضمان وإن كانت الزوجة صغيرة بخلاف ما إذا باع الأب مال الصغير وضمن الثمن لأن الولي سفير ومعبر في النكاح وفي البيع عاقد ومباشر حتى ترجع العهدة عليه والحقوق إليه ويصح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويملك قبضه بعد بلوغه فلو صح الضمان يصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ضامنا لنفسه وولاية قبض المهر للأب بحكم الأبوة باعتبار أنه عاقد ألا ترى أنه لا يملك القبض بعد بلوغها فلا يصير ضامنا لنفسه. قال: " وللمرأة أن تمنع نفسها حتى تأخذ المهر وتمنعه أن يخرجها " أي يسافر بها ليتعين حقها في البدل كما تعين حق الزوج في المبدل وصار كالبيع " وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها حتى يوفيها المهر كله " أي المعجل منه لأن حق الحبس لاستيفاء المستحق وليس له حق الاستيفاء قبل الإيفاء " ولو كان المهر كله مؤجلا ليس لها أن تمنع نفسها " لإسقاطها حقها بالتأجيل كما في البيع وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله وإن دخل بها فكذلك الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس لها أن تمنع نفسها والخلاف فيما إذا كان الدخول برضاها حتى لو كانت مكرهة أو كانت صبية أو مجنونة لا يسقط في حقها الحبس بالاتفاق وعلى هذا الخلاف الخلوة بها برضاها ويبتني على هذا استحقاق النفقة لهما أن المعقود عليه كله قد صار مسلما إليه بالوطأة الواحدة وبالخلوة ولهذا يتأكد بها جميع المهر فلم يبق لها حق الحبس كالبائع إذا سلم البيع وله أنها منعت منه ما قابل البدل لأن كل وطأة تصرف في البضع المحترم فلا يخلى عن العوض إبانة لخطره والتأكيد بالواحدة لجهالة ما وراءها فلا يصلح مزاحما للمعلوم ثم إذا وجد آخر وصار معلوما تحققت المزاحمة وصار المهر مقابلا بالكل كالعبد إذا جنى جناية يدفع كله بها ثم إذا جنى جناية أخرى وأخرى يدفع بجميعها " وإذا أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء " لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وقيل لا يخرجها إلى بلد غير بلدها لأن الغريبة تؤذى وفي قرى المصر القريبة لا تتحقق الغربة. قال: " ومن تزوج امرأة ثم اختلفا في المهر فالقول قول المرأة إلى تمام مهر مثلها والقول قول الزوج فيما زاد على مهر المثل وإن طلقها قبل الدخول بها فالقول قوله في نصف المهر وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف القول قوله بعد الطلاق وقبله إلا أن يأتي بشيء قليل " ومعناه مالا يتعارف مهرا لها هو الصحيح لأبي يوسف أن المرأة تدعي الزيادة والزوج ينكر والقول قول المنكر مع يمينه إلا أن يأتي بشيء يكذبه الظاهر فيه وهذا لأن تقوم منافع البضع ضروري فمتى أمكن إيجاب شيء من المسمى لا يصار إليه ولهما أن القول في الدعاوي قول من يشهد له الظاهر والظاهر شاهد لمن يشهد له مهر المثل لأنه هو الموجب الأصلي في باب النكاح وصار كالصباغ مع رب الثوب إذا اختلفا في مقدار الأجر يحكم فيه قيمة الصبغ ثم ذكر ههنا أن بعد الطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 قبل الدخول القول قوله في نصف المهر وهذا رواية الجامع الصغير والأصل وذكر في الجامع الكبير أنه يحكم متعة مثلها وهو قياس قولهما لأن المتعة موجبة بعد الطلاق كمهر المثل قبله فتحكم كهو ووجه التوفيق أنه وضع المسئلة في الأصل في الألف والألفين والمتعة لا تبلغ هذا المبلغ في العادة فلا يفيد تحكيمها ووضعها في الجامع الكبير في العشرة والمائة ومتعة مثلها عشرون فيفيد تحكيمها والمذكور في الجامع الصغير ساكت عن ذكر المقدار فيحمل على ما هو المذكور في الأصل وشرح قولهما فيما إذا اختلفا في حال قيام النكاح أن الزوج إذا ادعى الألف والمرأة الألفين فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فالقول قوله وإن كان ألفين أو أكثر فالقول قولها وأيهما اقام البينة في الوجهين تقبل وإن أقاما البينة في الوجه الأول تقبل بينتها لأنها تثبت الزيادة وفي الوجه الثاني بينته لأنها تثبت الحط وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة تحالفا وإذا حلفا يجب ألف وخمسمائة هذا تخريج الرازي وقال الكرخي رحمه الله يتحالفان في الفصول الثلاثة لم يحكم مهر المثل بعد ذلك " ولو كان الاختلاف في أصل المسمى يجب مهر المثل بالإجماع " لأنه هو الأصل عندهما وعنده تعذر القضاء بالمسمى فيصار إليه " ولو كان الاختلاف بعد موت أحدهما فالجواب فيه كالجواب في حياتهما " لأن اعتبار مهر المثل لا يسقط بموت أحدهما " ولو كان الاختلاف بعد موتهما في المقدار فالقول قول ورثة الزوج " عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يستثنى القليل وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول الورثة إلا أن يأتوا بشيء قليل وعند محمد الجواب فيه كالجواب في حالة الحياة وإن كان في أصل المسمى فعند أبي حنيفة رحمه الله القول قول من أنكره. فالحاصل أنه لا حكم لمهر المثل عنده بعد موتهما على ما نبينه من بعد إن شاء الله " وإذا مات الزوجان وقد سمى لها مهرا فلورثتها أن يأخذوا ذلك من ميراث الزوج وإن لم يسم لها مهرا فلا شيء لورثتها عند أبي حنيفة وقالا لورثتها المهر في الوجهين " معناه المسمى في الوجه الأول ومهر المثل في الوجه الثاني. أما الأول: فلأن المسمى دين في ذمته وقد تأكد بالموت فيقضى من تركته إلا إذا علم أنها ماتت أولا فيسقط نصيبه من ذلك. وأما الثاني: فوجه قولهما أن مهر المثل صار دينا في ذمته كالمسمى فلا يسقط بالموت كما إذا مات أحدهما ولأبي حنيفة رحمه الله أن موتهما يدل على انقراض أقرانهما فبمهر من يقدر القاضي مهر المثل " ومن بعث إلى امرأته شيئا فقالت هو هدية وقال الزوج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 هو من المهر فالقول قوله " لأنه هو المملك فكان أعرف بجهة التمليك كيف وأن الظاهر أنه يسعى في إسقاط الواجب. قال: " إلا في الطعام الذي يؤكل فإن القول قولها " والمراد منه ما يكون مهيأ للأكل لأنه يتعارف هدية فأما في الحنطة والشعير فالقول قوله لما بينا وقيل ما يجب عليه من الخمار والدرع وغيرهما ليس له أن يحتسبه من المهر لأن الظاهر يكذبه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فصل إذا تزوج النصراني النصرانية على ميتة وغيرها ... فصل " وإذا تزوج النصراني نصرانية على ميتة أو على غير مهر وذلك في دينهم جائز ودخل بها أو طلقها قبل الدخول بها أو مات عنها فليس لها مهر وكذلك الحربيان في دار الحرب " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما في الحربيين وأما في الذمية فلها مهر مثلها إن مات عنها أو دخل بها والمتعة إن طلقها قبل الدخول بها وقال زفر رحمه الله لها مهر المثل في الحربيين أيضا له أن الشرع ما شرع ابتغاء النكاح إلا بالمال وهذا الشرع وقع عاما فيثبت الحكم على العموم ولهما أن أهل الحرب غير ملتزمين أحكام الإسلام وولاية الإلزام منقطعة لتباين الدار بخلاف أهل الذمة لأنهم التزموا أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات كالربا والزنا وولاية الإلزام متحققة لاتحاد الدار ولأبي حنيفة رحمه الله أن أهل الذمة لا يلتزمون أحكامنا في الديانات وفيما يعتقدون خلافه في المعاملات وولاية الإلزام بالسيف وبالمحاجة وكل ذلك منقطع عنهم باعتبار عقد الذمة فإنا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون فصاروا كأهل الحرب بخلاف الزنا لأنه حرام في الأديان كلها والربا مستثنى عن عقودهم لقوله عليه الصلاة والسلام " ألا من أربى فليس بيننا وبينه عهد " وقوله في الكتاب أو على غير مهر يحتمل نفي المهر ويحتمل السكوت وقد قيل في الميتة والسكوت روايتان والأصح أن الكل على الخلاف. " فإن تزوج الذمي ذمية على خمر أو خنزير ثم اسلما أو اسلم أحدهما فلها الخمر والخنزير " ومعناه إذا كانا بأعيانهما والإسلام قبل القبض وإن كانا بغير أعيانهما فلها في الخمر القيمة وفي الخنزير مهر المثل وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله لها مهر المثل في الوجهين وقال محمد لها القيمة في الوجهين وجه قولهما أن القبض مؤكد للملك في المقبوض فيكون له شبه بالعقد فيمتنع بسبب الإسلام كالعقد وصار كما إذا كانا بغير أعيانهما وإذا التحقت حالة القبض بحالة العقد فأبو يوسف رحمه الله يقول لو كانا مسلمين وقت العقد يجب مهر المثل فكذا ههنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ومحمد رحمه الله يقول صحت التسمية لكون المسمى مالا عندهم إلا أنه امتنع التسليم للإسلام فتجب القيمة كما إذا هلك العبد المسمى قبل القبض ولأبي حنيفة رحمه الله أن الملك في الصداق المعين يتم بنفس العقد ولهذا تملك التصرف فيه وبالقبض ينتقل من ضمان الزوج إلى ضمانها وذلك لا يمتنع بالإسلام كاسترداد الخمر المغصوبة وفي غير المعين القبض يوجب ملك العين فيمتنع بالإسلام بخلاف المشتري لأن ملك التصرف فيه إنما يستفاد بالقبض وإذا تعذر القبض في غير المعين لا تجب القيمة في الخنزير لأنه من ذوات القيم فيكون أخذ قيمته كأخذ عينه ولا كذلك الخمر لأنها من ذوات الأمثال ألا ترى أنه لو جاء بالقيمة قبل الإسلام تجبر على القبول في الخنزير دون الخمر ولو طلقها قبل الدخول بها فمن أوجب مهر المثل أوجب المتعة ومن أوجب القيمة أوجب نصفها والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 باب نكاح الرقيق " لا يجوز نكاح العبد والأمة إلا بإذن مولاهما " وقال مالك رحمه الله يجوز للعبد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " ولأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه بدون إذن مولاهما " وكذلك المكاتب " لأن الكتابة أوجبت فك الحجر في حق الكسب فبقي في حق النكاح على حكم الرق ولهذا لا يملك المكاتب تزويج عبده ويملك تزويج أمته لأنه من باب الاكتساب وكذا المكاتبة لا تملك تزويج نفسها بدون إذن المولى وتملك تزويج أمتها لما بينا " و " كذا " المدبر وأم الولد " لأن الملك فيهما قائم. " وإذا تزوج العبد بإذن مولاه فالمهر دين في رقبته يباع فيه " لأن هذا دين وجب في رقبة العبد لوجود سببه من أهله وقد ظهر في حق المولى لصدور الإذن من جهته فيتعلق برقبته دفعا للمضرة عن أصحاب الديون كما في دين التجارة " والمدبر والمكاتب يسعيان في المهر ولا يباعان فيه " لأنهما لا يحتملان النقل من ملك إلى ملك مع بقاء الكتابة والتدبير فيؤدي من كسبهما لا من نفسهما. " وإذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فقال المولى طلقها أو فارقها فليس هذا بإجازة " لأنه يحتمل الرد لأن رد هذا العقد ومتاركته يسمى طلاقا ومفارقة وهو أليق بحال العبد المتمرد أو هو أدنى فكان الحمل عليه أولى " وإن قال طلقها تطليقة تملك الرجعة فهو إجازة " لأن الطلاق الرجعي لا يكون إلا في نكاح صحيح فتتعين الإجازة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 " ومن قال لعبده تزوج هذه الأمة فتزوجها نكاحا فاسدا ودخل بها فإنه يباع في المهر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يؤخذ منه إذا عتق " وأصله أن الإذن في النكاح ينتظم الفاسد والجائز عنده فيكون هذا المهر ظاهرا في حق المولى وعندهما ينصرف إلى الجائز لا غير فلا يكون ظاهرا في حق المولى فيؤاخذ به بعد العتاق لهما أن المقصود من النكاح في المستقبل الإعفاف والتحصين وذلك بالجائز ولهذا لو حلف لا يتزوج ينصرف إلى الجائز بخلاف البيع لأن بعض المقاصد حاصل وهو ملك التصرفات وله أن اللفظ مطلق فيجري على إطلاقه كما في البيع وبعض المقاصد في النكاح الفاسد حاصل كالنسب ووجوب المهر والعدة على اعتبار وجود الوطء ومسئلة اليمين ممنوعة على هذه الطريقة. " ومن زوج عبدا مأذونا له مديونا امرأة جاز والمرأة أسوة للغرماء في مهرها " ومعناه إذا كان النكاح بمهر المثل ووجهه أن سبب ولاية المولى ملكه الرقبة على ما نذكره والنكاح لا يلاقي حق الغرماء بالإبطال مقصودا إلا أنه إذا صح النكاح وجب الدين بسبب لا مرد له فشابه دين الاستهلاك وصار كالمريض المديون إذا تزوج امرأة فبمهر مثلها أسوة للغرماء. " ومن زوج أمته فليس عليه أن يبوئها بيت الزوج لكنها تخدم المولى ويقال للزوج متى ظفرت بها وطئتها " لأن حق المولى في الاستخدام باق والتبوئة إبطال له " فإن بوأها معه بيتا فلها النفقة والسكنى وإلا فلا " لأن النفقة تقابل الاحتباس " ولو بوأها بيتا ثم بدا له أن يستخدمها له ذلك " لأن الحق باق لبقاء الملك فلا يسقط بالتبوئة كما لا يسقط بالنكاح. قال رضي الله عنه: " ذكر تزويج المولى عبده وأمته ولم يذكر رضاهما " وهذا يرجع إلى مذهبنا أن للمولى إجبارهما على النكاح وعند الشافعي رحمه الله لا إجبار في العبد وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله لأن النكاح من خصائص الآدمية والعبد داخل تحت ملك المولى من حيث إنه مال فلا يملك إنكاحه بخلاف الأمة لأنه مالك منافع بضعها فيملك تمليكها ولنا أن الإنكاح إصلاح ملكه لأن فيه تحصينه عن الزنا الذي هو سبب الهلاك أو النقصان فيملكه اعتبارا بالأمة بخلاف المكاتب والمكاتبة لأنهما التحقا بالأحرار تصرفا فيشترط رضاهما. قال: " ومن زوج أمته ثم قتلها قبل أن يدخل بها زوجها فلا مهر لها عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليه المهر لمولاها " اعتبارا بموتها حتف أنفها وهذا لأن المقتول ميت بأجله فصار كما إذا قتلها أجنبي وله أنه منع المبدل قبل التسليم فيجازى بمنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 البدل كما إذا ارتدت الحرة والقتل في أحكام الدنيا جعل إتلافا حتى وجب القصاص والدية فكذا في حق المهر " وإن قتلت حرة نفسها قبل أن يدخل بها زوجها فلها المهر " خلافا لزفر رحمه الله هو يعتبره بالردة وبقتل المولى أمته والجامع ما بيناه ولنا أن جناية المرء على نفسه غير معتبرة في حق أحكام الدنيا فشابه موتها حتف أنفها بخلاف قتل المولى أمته لأنه معتبر في حق أحكام الدنيا حتى تجب الكفارة عليه. " وإذا تزوج أمة فالإذن في العزل إلى المولى " عند أبي حنيفة رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن الإذن في العزل إليها لأن الوطء حقها حتى تثبت لها ولاية المطالبة وفي العزل تنقيص حقها فيشترط رضاها كما في الحرة بخلاف الأمة المملوكة لأنه لا مطالبة لها فلا يعتبر رضاها وجه ظاهر الرواية أن العزل يخل بمقصود الولد وهو حق المولى فيعتبر رضاه وبهذا فارقت الحرة. " وإن تزوجت أمة بإذن مولاها ثم أعتقت فلها الخيار حرا كان زوجها أو عبدا " لقوله عليه الصلاة والسلام لبريرة حين عتقت " ملكت بضعك فاختاري " فالتعليل بملك البضع صدر مطلقا فينتظم الفصلين والشافعي رحمه الله يخالفنا فيما إذا كان زوجها حرا وهو محجوج به ولأنه يزداد الملك عليها عند العتق فيملك الزوج بعده ثلاث تطليقات فتملك رفع أصل العقد دفعا للزيادة " وكذلك المكاتبة " يعني إذا تزوجت بإذن مولاها ثم عتقت وقال زفر رحمه الله لا خيار لها لأن العقد نفذ عليها برضاها وكان المهر لها فلا معنى لإثبات الخيار بخلاف الأمة لأنه لا يعتبر رضاها ولنا أن العلة ازدياد الملك وقد وجدناها في المكاتبة لأن عدتها قرءان وطلاقها ثنتان. " وإن تزوجت أمة بغير إذن مولاها ثم أعتقت صح النكاح " لأنها من أهل العبارة وامتناع النفوذ لحق المولى وقد زال " ولا خيار لها " لأن النفوذ بعد العتق فلا تتحقق زيادة الملك كما إذا زوجت نفسها بعد العتق " فإن كانت تزوجت بغير إذنه على ألف ومهر مثلها مائة فدخل بها زوجها ثم أعتقها مولاها فالمهر للمولى لأنه استوفى منافع مملوكة للمولى وإن لم يدخل بها حتى أعتقها فالمهر لها " لأنه استوفى منافع مملوكة لها والمراد بالمهر الألف المسمى لأن نفاذ العقد بالعتق استند إلى وقت وجود العقد فصحت التسمية ووجب المسمى ولهذا لم يجب مهر آخر بالوطء في نكاح موقوف لأن العقد قد اتحد باستناد النفاذ فلا يوجب إلا مهرا واحدا. " ومن وطئ أمة ابنه فولدت منه فهي أم ولد له وعليه قيمتها ولا مهر عليه " ومعنى المسئلة أن يدعيه الأب ووجهه أن له ولاية تملك مال ابنه للحاجة إلى البقاء فله تملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 جاريته الحاجة إلى صيانة الماء غير أن الحاجة إلى إبقاء نسله دونها إلى إبقاء نفسه فلهذا يتملك الجارية بالقيمة والطعام بغير القيمة ثم هذا الملك يثبت قبيل الاستيلاد شرطا له إذ المصحح حقيقة الملك أو حقه وكل ذلك غير ثابت للأب فيها حتى يجوز له التزوج بها فلا بد من تقديمه فتبين أن الوطء يلاقي ملكه فلا يلزمه العقر وقال زفر والشافعي رحمهما الله يجب المهر لأنهما يثبتان الملك حكما للاستيلاد كما في الجارية المشتركة وحكم الشيء يعقبه والمسئلة معروفة. قال: " ولو كان الابن زوجها أباه فولدت لم تصر أم ولد له ولا قيمة عليه وعليه المهر وولدها حر " لأنه صح التزوج عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لخلوها عن ملك الأب ألا يرى أن الابن ملكها من كل وجه فمن المحال أن يملكها الأب من وجه وكذا يملك من التصرفات مالا يبقى معه ملك الأب لو كان فدل ذلك على انتفاء ملكه إلا أنه يسقط الحد للشبهة فإذا جاز النكاح صار ماؤه مصونا به فلم يثبت ملك اليمين فلا تصير أم ولد له ولا قيمة عليه فيها ولا في ولدها لأنه لم يملكهما وعليه المهر لالتزامه بالنكاح وولدها حر لأنه ملكة أخوه فيعتق عليه بالقرابة. قال: " وإذا كانت الحرة تحت عبد فقالت لمولاة أعتقه عني بألف ففعل فسد النكاح " وقال زفر رحمه الله لا يفسد وأصله أنه يقع العتق عن الآمر عندنا حتى يكون الولاء له ولو نوى به الكفارة يخرج عن عهدتها وعنده يقع عن المأمور لأنه طلب أن يعتق المأمور عبده عنه وهذا محال لأنه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فلم يصح الطلب فيقع العتق عن المأمور ولنا أنه أمكن تصحيحه بتقديم الملك بطريق الاقتضاء إذ الملك شرط لصحة العتق عنه فيصير قوله أعتق طلب التمليك منه بالألف ثم أمره بإعتاق عبد الآمر عنه وقوله أعتقت تمليكا منه ثم الإعتاق عنه وإذا ثبت الملك للآمر فسد النكاح للتنافي بين الملكين. " ولو قالت أعتقه عني ولم تسم مالا لم يفسد النكاح والولاء للمعتق " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله هذا والأول سواء لأنه يقدم التمليك بغير عوض تصحيحا لتصرفه ويسقط اعتبار القبض كما إذا كان عليه كفارة ظهار فأمر غيره أن يطعم عنه ولهما أن الهبة من شرطها القبض بالنص فلا يمكن إسقاطه ولا إثباته اقتضاء لأنه فعل حسي بخلاف البيع لأنه تصرف شرعي وفي تلك المسئلة الفقير ينوب عن الأمر في القبض أما العبد فلا يقع في يده شيء لينوب عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 باب نكاح أهل الشرك " وإذا تزوج الكافر بغير شهود أو في عدة كافر وذلك في دينهم جائز ثم أسلما أقرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 عليه " وهذا عند أبي حنيفة وقال زفر رحمه الله النكاح فاسد في الوجهين إلا أنه لا يتعرض لهم قبل الإسلام والمرافعة إلى الحكام وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في الوجه الأول كما قال أبو حنيفة رحمه الله وفي الوجه الثاني كما قال زفر رحمه الله له أن الخطابات عامة على ما مر من قبل فتلزمهم وإنما لا يتعرض لهم لذمتهم إعراضا لا تقريرا فإذا ترافعوا أو أسلموا والحرمة قائمة وجب التفريق ولهما أن حرمة نكاح المعتدة مجمع عليها فكانوا ملتزمين لها وحرمة النكاح بغير شهود مختلف فيها ولم يلتزموا أحكامنا بجميع الاختلافات ولأبي حنيفة رحمه الله أن الحرمة لا يمكن إثباتها حقا للشرع لأنهم لا يخاطبون بحقوقه ولا وجه إلى إيجاب العدة حقا للزوج لأنه لا يعتقده بخلاف ما إذا كانت تحت مسلم لأنه يعتقده وإذا صح النكاح فحالة المرافعة والإسلام حالة البقاء والشهادة ليست شرطا فيها وكذا العدة لا تنافيها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة " فإذا تزوج المجوسي أمه أو ابنته ثم أسلما فرق بينهما " لأن نكاح المحارم له حكم البطلان فيما بينهم عندهما كما ذكرنا في العدة ووجب التعرض بالإسلام فيفرق وعنده له حكم الصحة في الصحيح إلا أن المحرمية تنافي بقاء النكاح فيفرق بخلاف العدة لأنها لا تنافيه ثم بإسلام أحدهما يفرق بينهما وبمرافعة أحدهما لا يفرق عنده خلافا لهما والفرق أن استحقاق أحدهما لا يبطل بمرافعة صاحبه إذ لا يتغير به اعتقاده أما اعتقاد المصر بالكفر لا يعارض إسلام المسلم لأن الإسلام يعلو ولا يعلى ولو ترافعا يفرق بالإجماع لأن مرافعتهما كتحكيمهما. " ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة ولا كافرة ولا مرتدة " لأنه مستحق للقتل والإمهال ضرورة التأمل والنكاح يشغله عنه فلا يشرع في حقه " وكذا المرتدة لا يتزوجها مسلم ولا كافر " لأنها محبوسة للتأمل وخدمة الزوج تشغلها عنه ولأنه لا ينتظم بينهما المصالح والنكاح ما شرع لعينه بل لمصالحه " فإن كان أحد الزوجين مسلما فالولد على دينه وكذلك إن أسلم أحدهما وله ولد صغير صار ولده مسلما بإسلامه " لأن في جعله تبعا له نظرا له " ولو كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا فالولد كتابي " لأنه فيه نوع نظر له إذ المجوسية شر والشافعي رحمه الله يخالفنا فيه للتعارض ونحن بينا الترجيح. " وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عرض القاضي عليه الإسلام فإن أسلم فهي امرأته وإن أبى فرق بينهما وكان ذلك طلاقا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن أسلم الزوج وتحته مجوسية عرض عليها الإسلام فإن أسلمت فهي امرأته وإن أبت فرق القاضي بينهما ولم تكن الفرقة بينهما طلاقا " وقال أبو يوسف رحمه الله لا تكون الفرقة طلاقا في الوجهين أما العرض فمذهبنا وقال الشافعي رحمه الله لا يعرض الإسلام لأن فيه تعرضا لهم، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ضمنا بعقد الذمة أن لا نتعرض لهم إلا أن ملك النكاح قبل الدخول غير متأكد فينقطع بنفس الإسلام وبعده متأكد فيتأجل إلى انقضاء ثلاث حيض كما في الطلاق. ولنا أن المقاصد قد فاتت فلا بد من سبب يبتني عليه الفرقة والإسلام طاعة لا يصلح سببا لها فيعرض الإسلام لتحصل المقاصد بالإسلام أو تثبت الفرقة بالإباء وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الفرقة بسبب يشترك فيه الزوجان فلا يكون طلاقا كالفرقة بسبب الملك ولهما أن بالإباء امتنع الزوج عن الإمساك بالمعروف مع قدرته عليه بالإسلام فينوب القاضي منابه في التسريح كما في الجب والعنة. أما المرأة فليست بأهل للطلاق فلا ينوب القاضي منابها عند إبائها " ثم إذا فرق القاضي بينهما بإبائها فلها المهر إن كان دخل بها " لتأكده بالدخول " وإن لم يكن دخل بها فلا مهر لها " لأن الفرقة من قبلها والمهر لم يتأكد فأشبه الردة والمطاوعة " وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب وزوجها كافر أو أسلم الحربي وتحته مجوسية لم تقع الفرقة عليها حتى تحيض ثلاث حيض ثم تبين من زوجها " وهذا لأن الإسلام ليس سببا للفرقة والعرض على الإسلام متعذر لقصور الولاية ولا بد من الفرقة دفعا للفساد فأقمنا شرطها وهو مضي الحيض مقام السبب كما في حفر البئر ولا فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها والشافعي رحمه الله يفصل كما مر له في دار الإسلام وإذا وقعت الفرقة والمرأة حربية فلا عدة عليها وإن كانت هي المسلمة فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما وسيأتيك إن شاء الله تعالى. " وإذا أسلم زوج الكتابية فهما على نكاحهما " لأنه يصح النكاح بينهما ابتداء فلأن يبقى أولى قال: " وإذا خرج أحد الزوجين إلينا من دار الحرب مسلما وقعت البينونة بينهما " وقال الشافعي لا تقع " ولو سبي أحد الزوجين وقعت البينونة بينهما بغير طلاق وإن سبيا معا لم تقع البينونة " وقال الشافعي رحمه الله وقعت. فالحاصل أن السبب هو التباين دون السبي عندنا وهو يقول بعكسه له أن التباين أثره في انقطاع الولاية وذلك لا يؤثر في الفرقة كالحربي المستأمن والمسلم المستأمن أما السبي فيقتضي الصفاء للسابي ولا يتحقق إلا بانقطاع النكاح ولهذا يسقط الدين عن ذمة المسبي. ولنا أن مع التباين حقيقة وحكما لا تنتظم المصالح فشابه المحرمية والسبي يوجب ملك الرقبة وهو لا ينافي النكاح ابتداء فكذلك بقاء فصار كالشراء ثم هو يقتضي الصفاء في محل عمله وهو المال لا في محل النكاح وفي المستأمن لم تتباين الدار حكما لقصده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الرجوع " وإذا خرجت المرأة إلينا مهاجرة جاز لها أن تتزوج ولا عدة عليها " عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليها العدة لأن الفرقة وقعت بعد الدخول في دار الإسلام فيلزمها حكم الإسلام ولأبي حنيفة رحمه الله أنها أثر النكاح المتقدم وجبت إظهارا لخطره ولا خطر لملك الحربي ولهذا لا تجب العدة على المسبية " وإن كانت حاملا لم تتزوج حتى تضع حملها " وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يصح النكاح ولا يقربها زوجها حتى تضع حملها كما في الحبلى من الزنا وجه الأول أنه ثابت النسب فإذا ظهر الفراش في حق النسب يظهر في حق المنع من النكاح احتياطا. قال: " وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام وقعت الفرقة بغير طلاق " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله إن كانت الردة من الزوج فهي فرقة بطلاق هو يعتبره بالإباء والجامع ما بيناه وأبو يوسف رحمه الله مر على ما أصلنا له في الإباء وأبو حنيفة رحمه الله فرق بينهما ووجه الفرق أن الردة منافية للنكاح لكونها منافية للعصمة والطلاق رافع فتعذر أن تجعل طلاقا بخلاف الإباء لأنه يفوت الإمساك بالمعروف فيجب التسريح بالإحسان على ما مر ولهذا تتوقف الفرقة بالإباء على القضاء ولا تتوقف بالردة " ثم إن كان الزوج هو المرتد فلها كل المهر إن دخل بها ونصف المهر إن لم يدخل بها وإن كانت هي المرتدة فلها كل المهر إن دخل بها وإن لم يدخل بها فلا مهر لها ولا نفقة " لأن الفرقة من قبلها. قال: " وإذا ارتدا معا ثم أسلما معا فهما على نكاحهما " استحسانا. وقال زفر رحمه الله يبطل لأن ردة أحدهما منافية وفي ردتهما ردة أحدهما. ولنا ما روي أن بني حنيفة ارتدوا ثم أسلموا ولم يأمرهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بتجديد الأنكحة والارتداد منهم واقع معا لجهالة التاريخ ولو أسلم أحدهما بعد الارتداد معا فسد النكاح بينهما لإصرار الآخر على الردة لأنه مناف كابتدائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 باب القسم " وإذا كان للرجل امرأتان حرتان فعليه أن يعدل بينهما في القسم بكرين كانتا أو ثيبين أو إحداهما بكرا والأخرى ثيبا " لقوله عليه الصلاة والسلام " من كانت له امرأتان ومال إلى إحداهما في القسم جاء يوم القيامة وشقه مائل " وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعدل في القسم بين نسائه وكان يقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك " يعني زيادة المحبة ولا فصل فيما روينا، والقديمة والجديدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 سواء لإطلاق ما روينا ولأن القسم من حقوق النكاح ولا تفاوت بينهن في ذلك والاختيار في مقدار الدور إلى الزوج لأن المستحق هو التسوية دون طريقة والتسوية المستحقة في البيتوتة لا في المجامعة لأنها تبتني على النشاط " وإذا كانت إحداهما حرة والأخرى أمة فللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث " بذلك ورد الأثر ولأن حل الأمة أنقص من حل الحرة فلا بد من إظهار النقصان في الحقوق والمكاتبة والمدبرة وأم الولد بمنزلة الأمة لأن الرق فيهن قائم. قال: " ولا حق لهن في القسم حالة السفر فيسافر الزوج بمن شاء منهن والأولى أن يقرع بينهن فيسافر بمن خرجت قرعتها " وقال الشافعي رحمه الله القرعة مستحقة لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه إلا أنا نقول إن القرعة لتطييب قلوبهن فيكون من باب الاستحباب وهذا لأنه لا حق للمرأة عند مسافرة الزوج ألا يرى أن له أن لا يستصحب واحدة منهن فكذا له أن يسافر بواحدة منهن ولا يحتسب عليه بتلك المدة " وإن رضيت إحدى الزوجات بترك قسمها لصاحبتها جاز " لأن سودة بنت زمعة رضي الله عنها سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يراجعها وتجعل يوم نوبتها لعائشة رضي الله عنها " ولها أن ترجع في ذلك " لأنها أسقطت حقا لم يجب بعد فلا يسقط والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 كتاب الرضاع ما يحرم بالرضاع ... كتاب الرضاع قال: " قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع تعلق به التحريم " وقال الشافعي رحمه الله لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان " ولنا قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] الآية وقوله عليه الصلاة والسلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " من غير فصل ولأن الحرمة وإن كانت لشبهة البعضية الثابتة بنشوز العظم وإنبات اللحم لكنه أمر مبطن فتعلق الحكم بفعل الإرضاع وما رواه مردود بالكتاب أو منسوخ به وينبغي أن يكون في مدة الرضاع لما نبين " ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا سنتان " وهو قول الشافعي رحمه الله وقال زفر رحمه الله ثلاثة أحوال لأن الحول حسن للتحول من حال إلى حال ولا بد من الزيادة على الحولين لما نبين فيقدر به ولهما قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] ومدة الحمل أدناها ستة أشهر فبقي للفصال حولان وقال النبي عليه الصلاة والسلام " لا رضاع بعد حولين " وله هذه الآية ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين إلا انه قام المنقص في أحدهما فبقي في الثاني على ظاهره ولأنه لا بد من تغير الغذاء لينقطع الإنبات باللبن وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها غيره فقدرت بأدنى مدة الحمل لأنها مغيرة فإن غذاء الجنين يغاير غذاء الرضيع كما يغاير غذاء الفطيم والحديث محمول على مدة الاستحقاق وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب. قال: " وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا رضاع بعد الفصال " ولأن الحرمة باعتبار النشوء وذلك في المدة إذ الكبير لا يتربى به ولا يعتبر الفطام قبل المدة إلا في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله إذا استغنى عنه ووجهه انقطاع النشوء بتغير الغذاء وهل يباح الإرضاع بعد المدة فقيل لا يباح لإن إباحته ضررية لكونه جزء الآدمي. قال: " ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " للحديث الذي روينا " إلا أم أخته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الرضاع فإنه يجوز أن يتزوجها ولا يجوز أن يتزوج أم أخته من النسب" لأنها تكون أمه أو موطوءة أبيه بخلاف الرضاع. "ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع ولا يجوز ذلك من النسب " لأنه لما وطئ أمها حرمت عليه ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع " وامرأة أبيه أو امرأة ابنه من الرضاع لا يجوز أن يتزوجها كما لا يجوز ذلك من النسب " لما روينا وذكر الأصلاب في النص لإسقاط اعتبار التبني على ما بيناه "ولبن الفحل يتعلق به التحريم وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوجها وعلى آبائه وأبنائه ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبا للمرضعة " وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله لبن الفحل لا يحرم لأن الحرمة لشبهة البعضية واللبن بعضها لا بعضه ولنا ما روينا والحرمة بالنسب من الجانبين فكذا بالرضاع وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها " ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة " ولأنه سبب لنزول اللبن منها فيضاف إليه في موضع الحرمة احتياطا. " ويجوز أن يتزوج الرجل بأخت أخيه من الرضاع " لأنه يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب وذلك مثل الأخ من الأب إذا كانت له أخت من أمه جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها " وكل صبيين اجتمعا على ثدي امرأة واحدة لم يجز لأحدهما أن يتزوج بالأخرى " هذا هو الأصل لأن أمهما واحدة فهما أخ وأخت "ولا يتزوج المرضعة أحد من ولد التي أرضعت " لأنه أخوها " ولا ولد ولدها " لأنه ولد أخيه " ولا يتزوج الصبي المرضع أخت زوج المرضعة " لأنها عمته من الرضاع. " وإذا اختلط اللبن بالماء واللبن هو الغالب تعلق به التحريم وإن غلب الماء لم يتعلق به التحريم " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه موجود فيه حقيقة ونحن نقول المغلوب غير موجود حكما حتى لا يظهر في مقابلة الغالب كما في اليمين " وإن اختلط بالطعام لم يتعلق به التحريم " وإن كان اللبن غالبا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إذا كان اللبن غالبا يتعلق به التحريم قال رضي الله عنه قولهما فيما إذا لم تمسه النار حتى لو طبخ بها لا يتعلق به التحريم في قولهم جميعا لهما أن العبرة للغالب كما في الماء إذا لم يغيره شيء عن حاله ولأبي حنيفة رحمه الله أن الطعام أصل واللبن تابع له في حق المقصود فصار كالمغلوب ولا معتبر بتقاطر اللبن من الطعام عنده هو الصحيح لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل " وإن اختلط بالدواء واللبن غالب تعلق به التحريم " لأن اللبن يبقى مقصودا فيه إذ الدواء لتقويته على الوصول " وإذا اختلط اللبن بلبن الشاة وهو الغالب تعلق به التحريم وإن غلب لبن الشاة لم يتعلق به التحريم " اعتبارا للغالب كما في الماء " وإذا اختلط لبن امرأتين تعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 التحريم بأغلبهما عند أبي يوسف رحمه الله " لأن الكل صار شيئا واحدا فيجعل الأقل تابعا للأكثر في بناء الحكم عليه " وقال محمد " وزفر رحمهما الله " يتعلق التحريم بهما " لأن الجنس لا يغلب الجنس فإن الشيء لا يصير مستهلكا في جنسه لاتحاد المقصود وعن أبي حنيفة رحمه الله في هذا روايتان وأصل المسئلة في الأيمان. " وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيا تعلق به التحريم " لإطلاق النص ولأنه سبب النشوء فتثبت به شبهة البعضية " وإذا حلب لبن المرأة بعد موتها فأوجر الصبي تعلق به التحريم " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول الأصل في ثبوت الحرمة إنما هو المرأة ثم تتعدى إلى غيرها بواسطتها وبالموت لم تبق محلا لها ولهذا لا يوجب وطؤها حرمة المصاهرة ولنا أن السبب هو شبهة الجزئية وذلك في اللبن لمعنى الإنشاز والإنبات وهو قائم باللبن وهذه الحرمة تظهر في حق الميتة دفنا وتيمما أما الحرمة في الوطء لكونه ملاقيا لمحل الحرث وقد زال بالموت فافترقا. " وإذا احتقن الصبي باللبن لم يتعلق به التحريم " وعن محمد رحمه الله أنه تثبت به الحرمة كما يفسد به الصوم ووجه الفرق على الظاهر أن المفسد في الصوم إصلاح البدن ويوجد ذلك في الدواء فأما المحرم في الرضاع فمعنى النشوء ولا يوجد ذلك في الاحتقان لأن المغذى وصوله من الأعلى. " وإذا نزل للرجل لبن فأرضع به صبيا لم يتعلق التحريم " لأنه ليس بلبن على التحقيق فلا يتعلق به النشوء والنمو وهذا لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة " وإذا شرب صبيان من لبن شاة لم يتعلق به التحريم " لأنه لا جزئية بين الآدمي والبهائم والحرمة باعتبارها. " وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج " لأنه يصير جامعا بين الأم والبنت رضاعا وذلك حرام كالجمع بينهما نسبا " ثم إن لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها " لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها " وللصغيرة نصف المهر " لأن الفرقة وقعت لا من جهتها والاتضاع وإن كان فعلا منها لكن فعلها غير معتبر في إسقاط حقها كما إذا قتلت مورثها " ويرجع به الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد وإن لم تتعمد فلا شيء عليها وإن علمت بأن الصغيرة امرأته " وعن محمد رحمه الله أنه يرجع في الوجهين والصحيح ظاهر الرواية لأنها وإن أكدت ما كان على شرف السقوط وهو نصف المهر وذلك يجري مجرى الإتلاف لكنها مسببة فيه إما لأن الإرضاع ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 بإفساد للنكاح وضعا وإنما ثبت ذلك باتفاق الحال أو لأن إفساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر بل هو سبب لسقوطه إلا أن نصف المهر يجب بطريق المتعة على ما عرف لكن من شرطه إبطال النكاح وإذا كانت مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح وقصدت بالإرضاع الفساد أما إذا لم تعلم بالنكاح أو علمت بالنكاح ولكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة دون الفساد لا تكون متعدية لأنها مأمورة بذلك ولو علمت بالنكاح ولم تعلم بالفساد لا تكون متعدية أيضا وهذا منا اعتبار الجهل لدفع قصد الفساد لا لدفع الحكم. " ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات وإنما تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين " وقال مالك رحمه الله تثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة لأن الحرمة حق من حقوق الشرع فتثبت بخبر الواحد كمن اشترى لحما فأخبره واحد أنه ذبيحة المجوسي ولنا أن ثبوت الحرمة لا يقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين بخلاف اللحم لأن حرمة التناول تنفك عن زوال الملك فاعتبر أمرا دينيا والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 كتاب الطلاق باب طلاق السنة مدخل ... كتاب الطلاق باب طلاق السنة قال: " الطلاق على ثلاثة أوجه حسن وأحسن وبدعي فالأحسن أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها " لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة فإن هذا أفضل عندهم من أن يطلقها الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة ولأنه أبعد من الندامة وأقل ضررا بالمرأة ولا خلاف لأحد في الكراهة. " والحسن هو طلاق السنة وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثا في ثلاثة أطهار " وقال مالك رحمه الله إنه بدعة ولا يباح إلا واحدة لأن الأصل في الطلاق هو الحظر والإباحة لحاجة الخلاص وقد اندفعت بالواحدة. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله عنهما " إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة " ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة وهو الطهر الخالي عن الجماع فالحاجة كالمتكررة نظرا إلى دليلها ثم قيل الأولى أن يؤخر الإيقاع إلى آخر الطهر احترازا عن تطويل العدة والأظهر أن يطلقها كما طهرت لأنه لو أخر ربما يجامعها ومن قصده التطليق فيبتلى بالإيقاع عقيب الوقاع " وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو ثلاثا في طهر واحد فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيا " وقال الشافعي رحمه الله كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع حتى يستفاد به الحكم والمشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في حالة الحيض لأن المحرم تطويل العدة عليها لا الطلاق. ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث وهي في المفرق على الأطهار ثابتة نظرا إلى دليلها والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها والمشروعية في ذاته من حيث أنه إزالة الرق لا تنافي الحظر لمعنى في غيره وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ما ذكرناه وكذا إيقاع الثنتين في الطهر الواحد بدعة لما قلنا. واختلفت الرواية في الواحدة البائنة قال في الأصل إنه أخطأ السنة لأنه لا حاجة إلى إثبات صفة زائدة في الخلاص وهي البينونة وفي الزيادات أنه لا يكره للحاجة إلى الخلاص ناجزا " والسنة في الطلاق من وجهين سنة في الوقت وسنة في العدد فالسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها " وقد ذكرناها " والسنة في الوقت تثبت في المدخول بها خاصة وهو أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه " لأن المراعى دليل الحاجة وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة وهو الطهر الخالي عن الجماع. أما زمان الحيض فزمان النفرة وبالجماع مرة في الطهر تفتر الرغبة " وغير المدخول بها يطلقها في حالة الطهر والحيض " خلافا لزفر رحمه الله وهو يقيسها على المدخول بها. ولنا أن الرغبة في غير المدخول بها صادقة لا تقل بالحيض مالم يحصل مقصوده منها وفي المدخول بها تتجدد بالطهر. قالك " وإذا كانت المرأة لا تحيض من صغر أو كبر فأراد أن يطلقها ثلاثا للسنة طلقها واحدة فإذا مضى شهر طلقها أخرى فإذا مضى شهر طلقها أخرى " لأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلى أن قال: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ] [الطلاق: 4] والإقامة في حق الحيض خاصة حتى يقدر الاستبراء في حقها بالشهر وهو بالحيض لا بالطهر ثم إن كان الطلاق في أول الشهر تعتبر الشهور بالأهلة وإن كان في وسطه فبالأيام في حق التفريق وفي حق العدة كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يكمل الأول بالأخير والمتوسطان بالأهلة وهي مسئلة الإجارات. قال: " ويجوز أن يطلقها ولا يفصل بين وطئها وطلاقها بزمان " وقال زفر رحمه الله يفصل بينهما بشهر لقيامه مقام الحيض ولأن بالجماع تفتر الرغبة وإنما تتجدد بزمان وهو الشهر. ولنا أنه لا يتوهم الحبل فيها والكراهية في ذوات الحيض باعتباره لأن عند ذلك يشتبه وجه العدة والرغبة وإن كانت تفتر من الوجه الذي ذكر لكن تكثر من وجه آخر لأنه يرغب في وطء غير معلق فرارا عن مؤن الولد فكان الزمان زمان رغبة فصار كزمان الحبل " وطلاق الحامل يجوز عقب الجماع " لأنه لا يؤدي إلى اشتباه وجه العدة وزمان الحبل زمان الرغبة في الوطء لكونه غير معلق أو يرغب فيها لمكان ولده منها فلا تقل الرغبة بالجماع " ويطلقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 للسنة ثلاثا يفصل بين كل تطليقتين بشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله " وقال محمد رحمه الله وزفر " لا يطلقها للسنة إلا واحدة " لأن الأصل في الطلاق الحظر وقد ورد الشرع بالتفريق على فصول العدة والشهر في حق الحامل ليس من فصولها فصار كالممتد طهرها ولهما أن الإباحة بعلة الحاجة والشهر دليلها كما في حق الآيسة والصغيرة وهذا لأنه زمان تجدد الرغبة على ما عليه الجبلة السلمية فصلح علما ودليلا بخلاف الممتد طهرها لأن العلم في حقها إنما هو الطهر وهو مرجو فيها في كل زمان ولا يرجى مع الحبل " وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض وقع الطلاق " لأن النهي عنه لمعنى في غيره وهو ما ذكرناه فلا ينعدم مشروعيته " ويستحب له أن يراجعها " لقوله عليه الصلاة والسلام لعمر " مر ابنك فليراجعها وقد طلقها في حالة الحيض " وهذا يفيد الوقوع والحث على الرجعة ثم الاستحباب قول بعض المشايخ والأصح أنه واجب عملا بحقيقة الأمر ورفعا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره وهو العدة ودفعا لضرر تطويل العدة. قال: " فإذا طهرت وحاضت ثم طهرت فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها " قال رضي الله عنه " وهكذا ذكر في الأصل وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة الأولى " قال أبو الحسن الكرخي ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة وما ذكر في الأصل قولهما ووجه المذكور في الأصل أن السنة أن يفصل بين كل طلاقين بحيضة والفاصل ههنا بعض الحيضة فتكمل بالثانية ولا تتجزأ فتتكامل وإذا تكاملت الحيضة الثانية فالطهر الذي يليه زمان السنة فأمكن تطليقها على وجه السنة. ووجه القول الآخر أن أثر الطلاق قد انعدم بالمراجعة فصار كأنه لم يطلقها في الحيض فيسن تطليقها في الطهر الذي يليه " ومن قال لامرأته وهي من ذوات الحيض وقد دخل بها أنت طالق ثلاثا للسنة ولا نية له فهي طالق عند كل طهر تطليقة " لأن اللام فيه للوقت ووقت السنة طهر لا جماع فيه " وإن نوى أن تقع الثلاث الساعة أو عند رأس كل شهر واحدة فهو على ما نوى " سواء كانت في حالة الحيض أو في حالة الطهر وقال زفر رحمه الله لا تصح نية الجمع لأنه بدعة وهي ضد السنة. ولنا أنه محتمل لفظه لأنه سني وقوعا من حيث أن وقوعه بالسنة لا إيقاعا فلم يتناوله مطلق كلامه وينتظمه عند نيته " وإن كانت آيسة أو من ذوات الأشهر وقعت الساعة واحدة وبعد شهر أخرى وبعد شهر أخرى " لأن الشهر في حقها دليل الحاجة كالطهر في حق ذوات الأقراء على ما بينا " وإن نوى أن يقع الثلاث الساعة وقعن عندنا خلافا لزفر لما قلنا " بخلاف ما إذا قال أنت طالق للسنة ولم ينص على الثلاث حيث لا تصح نية الجمع فيه لأن نية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الثلاث إنما صحت فيه من حيث إن اللام فيه للوقت فيفيد تعميم الوقت ومن ضرورته تعميم الواقع فيه فإذا نوى الجمع بطل تعميم الوقت فلا تصح نية الثلاث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فصل ويقع طلاق كل زوج ألخ ... فصل " ويقع طلاق كل زوج إذا كان عاقلا بالغا ولا يقع طلاق الصبي والمجنون والنائم " لقوله عليه الصلاة والسلام " كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون " ولأن الأهلية بالعقل المميز وهما عديما العقل والنائم عديم الاختيار. " وطلاق المكره واقع " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إن الإكراه لا يجامع الاختيار وبه يعتبر التصرف الشرعي بخلاف الهازل لأنه مختار في التكلم بالطلاق ولنا أنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته في حال أهليته فلا يعرى عن قضيته دفعا لحاجته اعتبار بالطائع وهذا لأنه عرف الشرين واختار أهونهما وهذا آية القصد والاختيار إلا أنه غير راض بحكمه وذلك غير مخل به كالهازل. " وطلاق السكران واقع " واختيار الكرخي والطحاوي رحمهما الله انه لا يقع وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله لأن صحة القصد بالعقل وهو زائل العقل فصار كزواله بالبنج والدواء. ولنا أنه زال بسبب هو معصية فجعل باقيا حكما زجرا له حتى لو شرب فصدع وزال عقله بالصداع نقول إنه لا يقع طلاقه. " وطلاق الأخرس واقع بالإشارة " لأنها صارت معهودة فأقيمت مقام العبارة دفعا للحاجة وستأتيك وجوهه في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى " وطلاق الأمة ثنتان حرا كان زوجها أو عبدا وطلاق الحرة ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا " وقال الشافعي رحمه الله عدد الطلاق معتبر بحال الرجال لقوله عليه الصلاة والسلام " الطلاق بالرجال والعدة بالنساء " ولأن صفة المالكية كرامة والآدمية مستدعية لها ومعنى الآدمية في الحر أكمل فكانت مالكيته أبلغ وأكثر. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان " ولأن حل المحلية نعمة في حقها وللرق أثر في تنصيف النعم إلا أن العقدة لا تتجزأ فتكاملت عقدتان وتأويل ما روى أن الإيقاع بالرجال. " وإذا تزوج العبد امراة بإذن مولاه وطلقها وقع طلاقه ولا يقع طلاق مولاه على امرأته " لأن ملك النكاح حق العبد فيكون الإسقاط إليه دون المولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 باب ايقاع الطلاق مدخل ... باب إيقاع الطلاق " الطلاق على ضربين صريح وكناية فالصريح قوله أنت طالق ومطلقة وطلقتك فهذا يقع به الطلاق الرجعي " لأن هذه الألفاظ تستعمل في الطلاق ولا تستعمل في غيره فكان صريحا وأنه يعقب الرجعة بالنص " ولا يفتقر إلى النية " لأنه صريح فيه لغلبة الاستعمال " وكذا إذا نوى الإبانة " لأنه قصد تنجيز ما علقه الشرع بانقضاء العدة فيرد عليه. " ولو نوى الطلاق عن وثاق لم يدين في القضاء " لأنه خلاف الظاهر " ويدين فيما بينه وبين الله تعالى " لأنه نوى ما يحتمله " ولو نوى به الطلاق عن العمل لم يدين في القضاء فيما بينه وبين الله تعالى " لأن الطلاق لرفع القيد وهي غير مقيدة بالعمل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يستعمل للتخليص. " ولو قال أنت مطلقة " بتسكين الطاء " لا يكون طلاقا إلا بالنية " لأنها غير مستعملة فيه عرفا فلم يكن صريحا. قال: " ولا يقع به إلا واحدة وإن نوى أكثر من ذلك " وقال الشافعي رحمه الله يقع ما نوى لأنه محتمل لفظه فإن ذكر الطالق ذكر للطلاق لغة كذكر العالم ذكر للعلم ولهذا يصح قران العدد به فيكون نصبا على التمييز. ولنا أنه نعت فرد حتى قيل للمثنى طالقان وللثلاث طوالق فلا يحتمل العدد لأنه ضده وذكر الطالق ذكر لطلاق هو صفة للمرأة لا لطلاق هو تطليق والعدد الذي يقترن به نعت لمصدر محذوف معناه طلاقا ثلاثا كقولك أعطيته جزيلا أي عطاء جزيلا. " ولو قال أنت الطلاق أو أنت طالق الطلاق أو أنت طالق طلاقا فإن لم تكن له نية أو نوى واحدة أو ثنتين فهي واحدة رجعية وإن نوى ثلاثا فثلاث " ووقوع الطلاق باللفظة الثانية والثالثة ظاهر لأنه لو ذكر النعت وحده يقع به الطلاق فإذا ذكره وذكر المصدر معه وأنه يزيده وكادة أولى. وأما وقوعه باللفظة الأولى فلأن المصدر قد يذكر ويراد به الاسم يقال رجل عدل أي عادل فصار بمنزلة قوله أنت طالق وعلى هذا لو قال أنت طلاق يقع الطلاق به أيضا ولا يحتاج فيه إلى النية ويكون رجعيا لما بينا أنه صريح الطلاق لغلبة الاستعمال فيه وتصح نية الثلاث لأن المصدر يحتمل العموم والكثرة لأنه اسم جنس فيعتبر بسائر أسماء الأجناس فيتناول الأدنى مع احتمال الكل ولا تصح نية الثنتين فيها خلافا لزفر رحمه الله هو يقول إن الثنتين بعض الثلاث فلما صحت نية الثلاث صحت نية بعضها ضرورة ونحن نقول نية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الثلاث إنما صحت لكونها جنسا حتى لو كانت المرأة أمة تصح نية الثنتين باعتبار معنى الجنسية أما الثنتان في حق الحرة فعدد واللفظ لا يحتمل العدد وهذا لأن معنى التوحد يراعى في ألفاظ الوحدان وذلك بالفردية أو الجنسية والمثنى بمعزل منهما. " ولو قال أنت طالق الطلاق وقال أردت بقولي طالق واحدة وبقولي الطلاق أخرى يصدق " لأن كل واحد منهما صالح للايقاع فكأنه قال أنت طالق وطالق فتقع رجعيتان إذا كانت مدخولا بها. " وإذا أضاف الطلاق إلى جملتها أو إلى ما يعبر به عن الجملة وقع الطلاق " لأنه أضيف إلى محله " وذلك مثل أن يقول أنت طالق " لأن التاء ضمير المرأة " أو " يقول " رقبتك طالق أو عنقك " طالق أو رأسك طالق " أو روحك أو بدنك أو جسدك أو فرجك أو وجهك " لأنه يعبر بها عن جميع البدن أما الجسد والبدن فظاهر وكذا غيرهما قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقال: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] وقال عليه الصلاة والسلام " لعن الله الفروج على السروج " ويقال فلان رأس القوم ويا وجه العرب وهلك روحه بمعنى نفسه ومن هذا القبيل الدم في رواية يقال دمه هدر ومنه النفس وهو ظاهر " وكذلك إن طلق جزءا شائعا منها مثل أن يقول نصفك أو ثلثك طالق " لأن الجزء الشائع محل لسائر التصرفات كالبيع وغيره فكذا يكون محلا للطلاق إلا أنه لا يتجزأ في حق الطلاق فيثبت في الكل ضرورة. " ولو قال يدك طالق أو رجلك طالق لم يقع الطلاق " وقال زفر والشافعي رحمهما الله يقع وكذا الخلاف في كل جزء معين لا يعبر به عن جميع البدن لهما أنه جزء مستمتع بعقد النكاح وما هذا حاله يكون محلا لحكم النكاح فيكون محلا للطلاق فيثبت الحكم فيه قضية للإضافة ثم يسري إلى الكل كما في الجزء الشائع بخلاف ما إذا أضيف إليه النكاح لأن التعدي ممتنع إذ الحرمة في سائر الأجزاء تغلب الحل في هذا الجزء وفي الطلاق الأمر على القلب. ولنا أنه أضاف الطلاق إلى غير محله فيلغو كما إذا أضافه إلى ريقها أو ظفرها وهذا لأن محل الطلاق ما يكون فيه القيد لأنه ينبي عن رفع القيد ولا قيد في اليد ولهذا لا تصح إضافة النكاح إليه بخلاف الجزء الشائع لأنه محل للنكاح عندنا حتى تصح إضافته إليه فكذا يكون محلا للطلاق واختلفوا في الظهر والبطن والأظهر أنه لا يصح لأنه لا يعبر بهما عن جميع البدن " وإن طلقها نصف تطليقة أو ثلثها كانت طالقا تطليقة واحدة" لأن الطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 لا يتجزأ وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر الكل وكذا الجواب في كل جزء سماه لما بينا. " ولو قال لها أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثا " لأن نصف التطليقتين تطليقة فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تكون ثلاث تطليقات ضرورة " ولو قال أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة قيل يقع تطليقتان " لأنها طلقة ونصف فيتكامل وقيل يقع ثلاث تطليقات لأن كل نصف يتكامل في نفسه فتصير ثلاثا " ولو قال أنت طالق من واحدة إلى ثنتين أو ما بين واحدة إلى ثنتين فهي واحدة ولو قال من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى ثلاث فهي ثنتان وهذا عند أبي حنيفة وقالا في الأولى هي ثنتان وفي الثانية ثلاث " وقال زفر رحمه الله في الأولى لا يقع شيء وفي الثانية تقع واحدة وهو القياس لأنه الغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية كما لو قال بعت منك من هذا الحائط الى هذا الحائط وجه قولهما الإستحسان أن مثل هذا الكلام متى ذكر في العرف يراد به الكل كما تقول لغيرك خذ من مالي من درهم إلى مائة ولأبي حنيفة رحمه الله أن المراد به الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر فإنهم يقولون سني من ستين إلى سبعين وما بين ستين إلى سبعين ويريدون به ما ذكرنا وإرادة الكل فيما طريقه طريق الإباحة كما ذكر إذ الأصل في الطلاق هو الحظر ثم الغاية الأولى لا بد أن تكون موجودة ليترتب عليها الثانية ووجودها بوقوعها بخلاف البيع لأن الغاية فيه موجودة قبل البيع ولو نوى واحدة بدين ديانة لا قضاء محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر " ولو قال أنت طالق واحدة في ثنتين ونوى الضرب والحساب أو لم تكن له نية فهى واحدة" وقال زفر رحمه الله تقع ثنتان لعرف الحساب وهو قول الحسن بن زياد رحمه الله. ولنا أن عمل الضرب أثره في تكثير الأجزاء لا في زيادة المضروب وتكثير أجزاء التطليقة لا يوجب تعددها " فإن نوى واحدة وثنتين فهي ثلاث " لأنه يحتمله فإن حرف الواو للجمع والظرف يجمع المظروف ولو كانت غير مدخول بها تقع واحدة كما في قوله واحدة وثنتين وإن نوى واحدة مع ثنتين تقع الثلاث لأن كلمة في تأتي بمعنى مع كما هو قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي مع عبادي. " ولو نوى الظرف تقع واحدة " لأن الطلاق لا يصلح ظرفا فيلغو ذكر الثاني " ولو قال إثنتين في إثنتين ونوى الضرب والحساب فهي ثنتان " وعند زفر رحمه الله ثلاث لأن قضيته أن تكون أربعا لكن لا مزيد للطلاق على الثلاث وعندنا الإعتبار للمذكور الأول على ما بيناه " ولو قال أنت طالق من هنا الى الشام فهي واحدة ويملك الرجعة " وقال زفر رحمه الله هي بائنة لأنه وصف الطلاق بالطول قلنا لا بل وصفه بالقصر لأنه متى وقع وقع في الأماكن كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 " ولو قال أنت طالق بمكة أو في مكة فهي طالق في الحال في كل البلاد وكذلك لو قال أنت طالق في الدار " لأن الطلاق لا يتخصص بمكان دون مكان وإن عنى به إذا أتيت مكة يصدق ديانة لا قضاء لأنه نوى الإضمار وهو خلاف الظاهر وكذا إذا قال أنت طالق وأنت مريضة وإن نوى إن مرضت لم يدين في القضاء. " ولو قال أنت طالق إذا دخلت مكة لم تطلق حتى تدخل مكة " لأنه علقه بالدخول ولو قال أنت طالق في دخولك الدار يتعلق بالفعل لمقاربة بين الشرط والظرف فحمل عليه عند تعذر الظرفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فصل في إضافة الطلاق الى الزمان " ولو قال أنت طالق غدا وقع عليها الطلاق بطلوع الفجر " لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد وذلك بوقوعه في أول جزء منه ولو نوى به آخر النهار صدق ديانة لا قضاء لأنه نوى التخصيص في العموم وهو يحتمله لكنه مخالف للظاهر. " ولو قال أنت طالق اليوم غدا أو غدا اليوم فإنه يؤخذ بأول الوقتين الذي تفوه به " فيقع في الأول في اليوم وفي الثاني في الغد لأنه لما قال اليوم كان تنجيزا والمنجز لا يحتمل الإضافة وإذا قال غدا كان إضافة والمضاف لا يتنجز لما في من إبطال الإضافة فلغا اللفظ الثاني في الفصلين " ولو قال أنت طالق في غد وقال نويت آخر النهار دين في القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يدين في القضاء خاصة " لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد فصار بمنزلة قوله غدا على ما بيناه ولهذا يقع في أول جزء منه عند عدم النية وهذا لأن حذف في وإثباته سواء لأنه ظرف في الحالين ولأبي حنيفة رحمة الله أنه نوى حقيقة كلامه لأن كلمة في للظرف والظرفية لا تقضي الإستيعاب وتعين الجزء الأول ضرورة عدم المزاحم فإذا عين آخر النهار كان التعيين القصدي أولى بالإعتبار من الضرورى بخلاف قوله غدا لأنه يقتضي الإستيعاب حيث وصفها بهذه الصفة مضافا الى جميع الغد نظيره إذا قال والله لأصومن عمري ونظير الأول والله لأصومن في عمري وعلى هذين الدهر وفي الدهر. " ولو قال أنت طالق أمس وقد تزوجها اليوم لم يقع شيء " لأنه أسند الى حالة معهودة منافية لمالكية الطلاق فيلغو كما إذا قال أنت طالق قبل أن أخلق ولأنه يمكن تصحيحه إخبارا عن عدم النكاح أو عن كونها مطلقة بتطليق غيره من الأزواج " ولو تزوجها أول من أمس وقع الساعة " لأنه ما أسنده إلى حالة منافية ولا يمكن تصحيحه إخبارا أيضا فكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 إنشاء والإنشاء في الماضي إنشاء في الحال فيقع الساعة. " ولو قال أنت طالق قبل أن أتزوجك لم يقع شيء " لأنه أسنده إلى حالة منافية فصار كما إذا قال طلقتك وأنا صبي أو نائم أو يصح إخبارا على ما ذكرنا " ولو قال أنت طالق ما لم أطلقك أو متى لم أطلقك أو متى ما لم أطلقك وسكت طلقت " لأنه أضاف الطلاق إلى زمان خال عن التطليق وقد وجد حيث سكت وهذا لأن كلمة متى ومتى ما صريح في الوقت لأنهما من ظروف الزمان وكذا كلمة ما للوقت قال الله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31] أي وقت الحياة. " ولو قال أنت طالق إن لم أطلقك لم تطلق حتى يموت " لأن العدم لا يتحقق إلا باليأس عن الحياة وهو الشرط كما في قوله إن لم آت البصرة وموتها بمنزلة موته هو الصحيح " ولو قال أنت طالق إذا لم أطلقك أو إذا ما لم أطلقك لم تطلق حتى يموت عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تطلق حين سكت " لأن كلمة إذا للوقت قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] وقال قائلهم: وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب فصار بمنزلة متى ومتى ما ولهذا لو قال لامرأته أنت طالق إذا شئت لا يخرج الأمر من يدها بالقيام من المجلس كما في قوله متى شئت ولأبي حنيفة رحمه الله أن كلمة إذا تستعمل في الشرط أيضا قال قائلهم: واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل فإن أريد به الشرط لم تطلق في الحال وإن أريد به الوقت تطلق فلا تطلق بالشك والاحتمال بخلاف مسئلة المشيئة لأنه على اعتبار أنه للوقت لا يخرج الأمر من يدها وعلى اعتبار أنه للشرط يخرج والأمر صار في يدها فلا يخرج بالشك والاحتمال وهذا الخلاف فيما إذا لم تكن له نية ألبتة أما إذا نوى الوقت يقع في الحال ولو نوى الشرط يقع في آخر العمر لأن اللفظ يحتملهما. " ولو قال أنت طالق ما لم أطلقك أنت طالق فهي طالق بهذه التطليقة معناه قال ذلك موصولا به والقياس أن يقع المضاف فيقعان إن كانت مدخولا بها وهو قول زفر رحمه الله لأنه وجد زمان لم يطلقها فيه وإن قل وهو زمان قوله أنت طالق قبل أن يفرغ منها وجه الاستحسان أن زمان البر مستثنى عن اليمين بدلالة الحال لأن البر هو المقصود ولا يمكنه تحقيق البر إلا أن يجعل هذا القدر مستثنى وأصله من حلف لا يسكن هذه الدار فاشتغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بالنقلة من ساعته وأخواته على ما يأتيك في الأيمان إن شاء الله تعالى. " ومن قال لامرأة يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلا طلقت " لأن اليوم يذكر ويراد به بياض النهار فيحمل عليه إذا قرن بفعل يمتد كالصوم والأمر باليد لأنه يراد به المعيار وهذا أليق به ويذكر ويراد به مطلق الوقت قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [لأنفال: 16] والمراد به مطلق الوقت فيحمل عليه إذا قرن بفعل لا يمتد والطلاق من هذا القبيل فينتظم الليل والنهار ولو قال عنيت به بياض النهار خاصة دين في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه والليل لا يتناول إلا السواد والنهار لا يتناول إلا البياض خاصة وهذا هو اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فصل " ومن قال لامرأته أنا منك طالق فليس بشيء وإن نوى طلاقا ولو قال أنا منك بائن أو أنا عليك حرام ينوي الطلاق فهي طالق " وقال الشافعي رحمه الله يقع الطلاق في الوجه الأول أيضا إذا نوى لأن ملك النكاح مشترك بين الزوجين حتى ملكت هي المطالبة بالوطء كما يملك هو المطالبة بالتمكين وكذا الحل مشترك بينهما والطلاق وضع لإزالتهما فيصح مضافا إليه كما صح مضافا إليها كما في الإبانة والتحريم. ولنا أن الطلاق لإزالة القيد وهو فيها دون الزوج ألا ترى أنها هي الممنوعة عن التزوج بزوج آخر والخروج ولو كان لإزالة الملك فهو عليها لأنها مملوكة والزوج مالك ولهذا سميت منكوحة بخلاف الإبانة لأنها لإزالة الوصلة وهي مشتركة بينهما وبخلاف التحريم لأنه لإزالة الحل وهو مشترك بينهما فصحت إضافتهما إليهما ولا تصح إضافة الطلاق إلا إليها. " ولو قال أنت طالق واحدة أو لا فليس بشيء " قال رضي الله عنه هكذا ذكر في الجامع الصغير من غير خلاف وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله آخرا وعلى قول محمد وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا تطلق واحدة رجعية ذكر قول محمد رحمه الله في كتاب الطلاق فيما إذا قال لامرأته أنت طالق واحدة أو لا شيء ولا فرق بين المسئلتين ولو كان المذكور ههنا قول الكل فعن محمد رحمه الله روايتان له أنه أدخل الشك في الواحدة لدخول كلمة أو بينها وبين النفي فيسقط اعتبار الواحدة ويبقى قوله أنت طالق بخلاف قوله أنت طالق أولا لأنه أدخل الشك في أصل الإيقاع فلا يقع ولهما أن الوصف متى قرن بالعدد كان الوقوع بذكر العدد ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 طالق ثلاثا تطلق ثلاثا ولو كان الوقوع بالوصف للغا ذكر الثلاث وهذا لأن الواقع في الحقيقة إنما هو المنعوت المحذوف معناه أنت طالق تطليقة واحدة على ما مر وإذا كان الواقع ما كان العدد نعتا له كان الشك داخلا في أصل الإيقاع فلا يقع شيء " ولو قال أنت طالق مع موتي أو مع موتك فليس بشيء " لأنه أضاف الطلاق إلى حالة منافية له لأن موته ينافي الأهلية وموتها ينافي المحلية ولا بد منهما. " وإذا ملك الزوج امرأته أو شقصا منها أو ملكت المرأة زوجها أو شقصا منه وقعت الفرقة " للمنافاة بين الملكين أما ملكها إياه فللاجتماع بين المالكية والمملوكية وأما ملكه إياها فلأن ملك النكاح ضروري ولا ضرورة مع قيام ملك اليمين فينتفي النكاح " ولو اشتراها ثم طلقها لم يقع شيء " لأن الطلاق يستدعي قيام النكاح ولا بقاء له مع المنافي لا من وجه ولا من كل وجه وكذا إذا ملكته أو شقصا منه لا يقع الطلاق لما قلنا من المنافاة وعن محمد رحمه الله أنه يقع لأن العدة واجبة بخلاف الفصل الأول لأنه لا عدة هنالك حتى حل وطؤها له. " وإن قال لها وهي أمة لغيره أنت طالق ثنتين مع عتق مولاك إياك فأعتقها مولاها ملك الزوج الرجعة " لأنه علق التطليق بالإعتاق أو العتق لأن اللفظ ينتظمهما والشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود وللحكم تعلق به والمذكور بهذه الصفة والمعلق به التطليق لأن في التعليقات يصير التصرف تطليقا عند الشرط عندنا وإذا كان التطليق معلقا بالإعتاق أو العتق يوجد بعده ثم الطلاق يوجد بعد التطليق فيكون الطلاق متأخرا عن العتق فيصادفها وهي حرة فلا تحرم حرمة غليظة بالثنتين بقي شيء وهو أن كلمة مع للقران قلنا قد تذكر للتأخر كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح: 5، 6] فتحمل عليه بدليل ما ذكرنا من معنى الشرط. " ولو قال إذا جاء غد فأنت طالق ثنتين وقال المولى إذا جاء غد فأنت حرة فجاء الغد لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره وعدتها ثلاث حيض وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله زوجها يملك الرجعة " عليها لأن الزوج قرن الإيقاع بإعتاق المولى حيث علقه بالشرط الذي علق به المولى العتق وإنما ينعقد المعلق سببا عند الشرط والعتق يقارن الإعتاق لأنه علته أصله الاستطاعة مع الفعل فيكون التطليق مقارنا للعتق ضرورة فتطلق بعد العتق فصار كالمسئلة الأولى ولهذا تقدر عدتها بثلاث حيض ولهما أنه علق الطلاق بما علق به المولى العتق ثم العتق يصادفها وهي أمه فكذا الطلاق والطلقتان تحرمان الأمة حرمة غليظة بخلاف المسئلة الأولى لأنه علق التطليق بإعتاق المولى فيقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الطلاق بعد العتق على ما قررناه وبخلاف العدة لأنه يؤخذ فيها بالاحتياط وكذا الحرمة الغليظة يؤخذ فيها بالاحتياط ولا وجه إلى ما قال لأن العتق لو كان يقارن الإعتاق لأنه علته فالطلاق يقارن التطليق لأنه علته فيقترنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فصل في تشبيه الطلاق ووصفه " ومن قال لامرأته أنت طالق هكذا يشير بالإبهام والسبابة والوسطى فهي ثلاث " لأن الإشارة بالأصابع تفيد العلم بالعدد في مجرى العادة إذا اقترنت بالعدد المبهم قال عليه الصلاة والسلام " الشهر هكذا وهكذا " وهكذا الحديث وإن اشار بواحدة فهي واحدة وإن أشار بالثنتين فهي ثنتان لما قلنا والإشارة تقع بالمنشورة منها وقيل إذا أشار بظهورها فبالمضمومة منها وإذا كان تقع الإشارة بالمنشورة منها فلو نوى الإشارة بالمضمومتين يصدق ديانة لا قضاء وكذا إذا نوى الإشارة بالكف حتى يقع في الأولى ثنتان ديانة وفي الثانية واحدة لأنه يحتمله لكنه خلاف الظاهر ولو لم يقبل هكذا تقع واحدة لأنه لم يقترن بالعدد المبهم فبقي الاعتبار بقوله أنت طالق " وإذا وصف الطلاق بضرب من الزيادة أو الشدة كان نائبا مثل أن يقول أنت طالق بائن أو البتة " وقال الشافعي رحمه الله يقع رجعيا إذا كان بعد الدخول بها لأن الطلاق شرع معقبا للرجعة فكان وصفه بالبينونة خلاف المشروع فيلغو كما إذا قال أنت طالق على أن لا رجعة لي عليك. ولنا أنه وصفه بما يحتمله لفظه ألا ترى أن البينونة قبل الدخول بها وبعد العدة تحصل به فيكون هذا الوصف لتعيين أحد المحتملين ومسئلة الرجعة ممنوعة فتقع واحدة بائنة إذا لم تكن له نية أو نوى الثنتين أما إذا نوى الثلاث فثلاث لما مر من قبل ولو عنى بقوله أنت طالق واحدة وبقوله بائن أو البتة أخرى تقع تطليقتان بائنتان لأن هذا الوصف يصلح لابتداء الإيقاع " وكذا إذا قال أنت طالق أفحش الطلاق " لأنه إنما يوصف باعتبار أثره وهو البينونة في الحال فصار كقوله بائن وكذا إذا قال أخبث الطلاق " أو أسوأه " لما ذكرنا " وكذا إذا قال طلاق الشيطان أو طلاق البدعة " لأن الرجعي هو السني فيكون قوله البدعة وطلاق الشيطان بائنا وعن أبي يوسف في قوله أنت طالق البدعة أنه لا يكون بائنا إلا بالنية لأن البدعة قد تكون من حيث الإيقاع في حالة حيض فلا بد من النية وعن محمد رحمه الله أنه إذا قال أنت طالق للبدعة أو طلاق الشيطان يكون رجعيا لأن هذا الوصف قد يتحقق بالطلاق في حالة الحيض فلا تثبت البينونة بالشك " وكذا إذا قال كالجبل " لأن التشبيه به يوجب زيادة لا محالة وذلك بإثبات زيادة الوصف وكذا إذا قال مثل الجبل لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 قلنا وقال أبو يوسف رحمه الله يكون رجعيا لأن الجبل شيء واحد فكان تشبيها به في توحده. " ولو قال لها أنت طالق أشد الطلاق أو كألف أو ملء البيت فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا " أما الأول فلأنه وصفه بالشدة وهو البائن لأنه لا يحتمل الانتقاض والارتفاض أما الرجعي فيحتمله وإنما تصبح نية الثلاث لذكره المصدر وأما للثاني فلأنه قد يراد بهذا التشبيه في القوة تارة وفي العدد أخرى يقال هو كألف رجل ويراد به القوة فتصح نية الأمرين وعند فقدانها يثبت أقلهما وعن محمد رحمه الله أنه يقع الثلاث عند عدم النية لأنه عدد فيراد به التشبيه في العدد ظاهرا فصار كما إذا قال أنت طالق كعدد ألف وأما الثالث فلأن الشيء قد يملأ البيت لعظمه في نفسه وقد يملؤه لكثرته فأي ذلك نوى صحت نيته وعند انعدام النية يثبت الأقل ثم الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله أنه متى شبه الطلاق بشيء يقع بائنا أي شيء كان المشبه به ذكر العظم أو لم يذكر لما مر أن التشبيه يقتضي زيادة وصف وعند أبي يوسف رحمه الله أن ذكر العظم يكون بائنا وإلا فلا أي شيء كان المشبه به لأن التشبيه قد يكون في التوحيد على التجريد أما ذكر العظم فللزيادة لا محالة وعند زفر رحمه الله إن كان المشبه به مما يوصف بالعظم عند الناس يقع بائنا وإلا فهو رجعي وقيل محمد رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله وقيل مع أبي يوسف رحمه الله وبيانه في قوله مثل رأس الإبرة مثل عظم رأس الإبرة ومثل الجبل مثل عظم الجبل. " ولو قال أنت طالق تطليقة شديدة أو عريضة أو طويلة فهي واحدة بائنة " لأن مالا يمكن تداركه يشتد عليه وهو البائن وما يصعب تداركه يقال لهذا الأمر طول وعرض وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقع بها لأن هذا الوصف لا يليق به فيلغو ولو نوى الثلاث في هذه الفصول صحت نيته لتنوع البينونة على ما مر والواقع بها بائن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فصل في الطلاق قبل الدخول " وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل الدخول بها وقعن عليها " لأن الوقاع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا على ما بيناه فلم يكن قوله أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة " فإن فرق الطلاق بانت بالأولى ولم تقع الثانية والثالثة " وذلك مثل أن يقول أنت طالق طالق طالق لأن كل واحدة إيقاع على حدة إذا لم يذكر في آخر كلامه ما يغير صدره حتى يتوقف عليه فتقع الأولى في الحال فتصادفها الثانية وهي مبانة " وكذا إذا قال لها أنت طالق واحدة وواحدة وقعت واحدة " لما ذكرنا أنا بانت بالأولى " ولو قال لها أنت طالق واحدة فماتت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قبل قوله واحدة كان باطلا " لأنه قرن الوصف بالعدد فكان الواقع هو العدد فإذا ماتت قبل ذكر العدد فات المحل قبل الإيقاع فبطل " وكذا إذا قال أنت طالق ثنتين أو ثلاثا " لما بينا وهذه تجانس ما قبلها من حيث المعنى. " ولو قال أنت طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة وقعت واحدة " والأصل أنه متى ذكر شيئين وأدخل بينهما حرف الظرف إن قرنها بهاء الكناية كان صفة للمذكور آخر كقوله جاءني زيد قبله عمرو إن لم يقرنها بهاء الكناية كان صفة للمذكور أولا كقوله جاءني زيد قبل عمرو وإيقاع الطلاق في الماضي إيقاع في الحال لأن الإسناد ليس في وسعه فالقبلية في قوله أنت طالق واحدة قبل واحدة صفة للأولى فتبين بالأولى فلا تقع الثانية والبعدية في قوله بعدها واحدة صفة للأخيرة فحصلت الإبانة بالأولى " ولو قال أنت طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان " لأن القبلية صفة للثانية لاتصالها بحرف الكناية فاقتضى إيقاعها في الماضي وإيقاع الأولى في الحال غير أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال أيضا فيقترنان فيقعان " وكذا إذا قال أنت طالق واحدة بعد واحدة يقع ثنتان " لأن البعدية صفة للأولى فاقتضى إيقاع الواحدة في الحال وإيقاع الأخرى قبل هذه فتقترنان. " ولو قال أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة تقع ثنتان " لأن كلمة مع للقران. وعن أبي يوسف رحمه الله في قوله معها واحدة أنه تقع واحدة لأن الكناية تقتضي ضيق المكنى عنه لا محالة " وفي المدخول بها تقع ثنتان في الوجوه كلها لقيام المحلية بعد وقوع الأولى ولو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة فدخلت وقعت عليها واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تقع ثنتان ولو قال لها أنت طالق واحدة وواحدة إن دخلت الدار فدخلت طلقت ثنتين " بالاتفاق لهما أن حرف الواو للجمع المطلق فتعلقن جملة كما إذا نص على الثلاث أو أخر الشرط وله أن الجمع المطلق يحتمل القران والترتيب فعلى اعتبار الأول تقع ثنتان وعلى اعتبار الثاني لا تقع إلا واحدة كما إذا نجز بهذه اللفظة فلا يقع الزائد على الواحدة بالشك بخلاف ما إذا أخر الشرط لأنه مغير صدر الكلام فيتوقف الأول عليه فيقعن جملة ولا مغير فيما إذا قدم الشرط فلم يتوقف ولو عطف بحرف الفاء فهو على هذا الخلاف فيما ذكر الكرخي رحمه الله وذكر الفقيه أبو الليث أنه يقع واحدة بالاتفاق لأن الفاء للتعقيب وهو الأصح " وأما الضرب الثاني وهو الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا بالنية أو بدلالة الحال " لأنها غير موضوعة للطلاق بل تحتمله وغيره فلا بد من التعيين أو دلالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قال: " وهي على ضربين منها ثلاثة ألفاظ يقع بها الطلاق الرجعي ولا يقع بها إلا واحدة وهي قوله اعتدى واستبرئي رحمك وأنت واحدة ". أما الأولى: فلأنها تحتمل الاعتداد عن النكاح وتحتمل اعتداد نعم الله تعالى فإن نوى الأول تعين بنيته فيقتضي طلاقا سابقا والطلاق يعقب الرجعة. وأما الثانية: فلأنها تستعمل بمعنى الاعتداد لأنه تصريح بما هو المقصود منه فكان بمنزلته وتحتمل الاستبراء ليطلقها. وأما الثالثة: فلأنها تحتمل أن تكون نعتا لمصدر محذوف معناه تطليقة واحدة فإذا نواه جعل كأنه قاله والطلاق يعقب الرجعة ويحتمل غيره وهو أن تكون واحدة عنده أو عند قومه ولما احتملت هذه الألفاظ الطلاق وغيره تحتاج فيه إلى النية ولا تقع إلا واحدة لأن قوله أنت طالق فيها مقتضى أو مضمر ولو كان مظهرا لا تقع بها إلا واحدة فإذا كان مضمرا أولى وفي قوله واحدة وإن صار المصدر مذكورا لكن التنصيص على الواحدة ينافي نية الثلاث ولا معتبر بإعراب الواحدة عند عامة المشايخ وهو الصحيح لأن العوام لا يميزون بين وجوه الإعراب. قال: " وبقية الكنايات إذا نوى بها الطلاق كانت واحدة بائنة وإن نوى ثلاثا كانت بثلاث وإن نوى ثنتين كانت واحدة بائنة وهذا مثل قوله أنت بائن وبتة وبتلة وحرام وحبلك على غلوبك الحقي بأهلك وخلية وبرية ووهبتك لأهلك وسرحتك وفارقتك وأمرك بيدك واختاري وأنت حرة وتقنعي وتخمري واستتري واغربي واخرجي واذهبي وقومي وابتغي الأزواج " لأنها تحتمل الطلاق وغيره فلا بد من النية. قال: " إلا أن يكون في حال مذاكرة الطلاق فيقع بها الطلاق في القضاء ولا يقع فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن ينويه " قال رضي الله عنه " سوى بين هذه الألفاظ وقال ولا يصدق في القضاء إذا كان في حال مذاكرة الطلاق " قالوا " وهذا فيما لا يصلح ردا " والجملة في ذلك أن الأحوال ثلاثة حالة مطلقة وهي حالة الرضا وحالة مذاكرة الطلاق وحالة الغضب. والكنايات ثلاثة أقسام ما يصلح جوابا وردا وما يصلح جوابا لا ردا وما يصلح جوابا وسبا وشتيمة ففي حالة الرضا لا يكون شيء منها طلاقا إلا بالنية فالقول قوله في إنكار النية لما قلنا وفي حالة مذاكرة الطلاق لم يصدق فيما يصلح جوابا ولا يصلح ردا في القضاء مثل قوله خلية برية بائن بتة حرام اعتدي أمرك بيدك اختاري لأن الظاهر أن مراده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الطلاق عند سؤال الطلاق ويصدق فيما يصلح جوابا وردا مثل قوله اذهبي اخرجي قومي تقنعي تخمري وما يجري هذا المجرى لأنه يحتمل الرد وهو الأدنى فحمل عليه وفي حالة الغضب يصدق في جميع ذلك لاحتمال الرد والسب إلا فيما يصلح للطلاق ولا يصلح للرد والشتم كقوله اعتدي واختاري وأمرك بيدك فإنه لا يصدق فيها لأن الغضب يدل على إرادة الطلاق وعن أبي يوسف رحمه الله في قوله لا ملك لي عليك ولا سبيل لي عليك وخليت سبيلك وفارقتك أنه يصدق في حالة الغضب لما فيها من احتمال معنى السب ثم وقوع البائن بما سوى الثلاثة الأول مذهبنا وقال الشافعي رحمه الله يقع بها رجعي لأن الواقع بها طلاق لأنها كنايات عن الطلاق ولهذا تشترط النية وينتقص به العدد والطلاق معقب للرجعة كالصريح. ولنا أن تصرف الإبانة صدر من أهله مضافا إلى محله عن ولاية شرعية ولا خفاء في الأهلية والمحلية والدلالة على الولاية أن الحاجة ماسة إلى إثباتها كيلا ينسد عليه باب التدارك ولا يقع في عهدتها بالمراجعة من غير قصد وليست بكنايات على التحقيق لأنها عوامل في حقائقها والشرط تعيين أحد نوعي البينونة دون الطلاق وانتقاص العدد لثبوت الطلاق بناء على زوال الوصلة وإنما تصح نية الثلاث فيها لتنوع البينونة إلى غليظة وخفيفة وعند انعدام النية يثبت الأدنى " ولا تصح نية الثنتين عندنا خلافا لزفر رحمه الله " لأنه عدد وقد بيناه من قبل " وإن قال لها اعتدي اعتدي وقال نويت بالأولى طلاقا وبالباقي حيضا دين في القضاء " لأنه نوى حقيقة كلامه ولأنه يأمر امرأته في العادة بالاعتداد بعد الطلاق فكان الظاهر شاهدا له " وإن قال لم أنو بالباقي شيئا فهي ثلاث " لأنه لما نوى بالأولى الطلاق صار الحال حال مذاكرة الطلاق فتعين الباقيان للطلاق بهذه الدلالة فلا يصدق في نفي النية بخلاف ما إذا قال لم أنو بالكل الطلاق حيث لا يقع شيء لأنه لا ظاهر يكذبه وبخلاف ما إذا قال نويت بالثالثة الطلاق دون الأولين حيث لا يقع إلا واحدة لأن الحال عند الأوليين لم تكن حال مذاكرة الطلاق وفي كل موضع يصدق الزوج على نفي النية إنما يصدق مع اليمين لأنه أمين في الإخبار عما في ضميره والقول قول الأمين مع اليمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 باب تفويض الطلاق فصل في الاختيار " وإذا قال لامرأته اختاري ينوي بذلك الطلاق أو قال لها طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 من يدها " لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولأنه تمليك الفعل منها والتمليكات تقتضي جوابا في المجلس كما في البيع لأن ساعات المجلس اعتبرت ساعة واحدة إلا أن المجلس تارة يتبدل بالذهاب عنه وتارة بالاشتغال بعمل آخر إذ مجلس الأكل غير مجلس المناظرة ومجلس القتال غيرهما " ويبطل خيارها بمجرد القيام " لأنه دليل الإعراض بخلاف الصرف والسلم لأن المفسد هناك الافتراق من غير قبض ثم لا بد من النية في قوله اختاري لأنه يحتمل تخييرها في نفسها ويحتمل تخييرها في تصرف آخر غيره " فإن اختارت نفسها في قوله اختاري كانت واحدة بائنة " والقياس أن لا يقع بهذا شيئ وإن نوى الزوج الطلاق لأنه لا يملك الإيقاع بهذا اللفظ فلا يملك التفويض إلى غيره إلا أنا استحسناه لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولأنه بسبيل من أن يستديم نكاحها أو يفارقها فيملك إقامتها مقام نفسه في حق هذا الحكم ثم الواقع بها بائن لأن اختيارها نفسها بثبوت اختصاصها بها وذلك في البائن " ولا يكون ثلاثا وإن نوى الزوج ذلك " لأن الاختيار لا يتنوع بخلاف الإبانة لأن البينونة قد تتنوع قال: " ولا بد من ذكر النفس في كلامه أو في كلامها حتى لو قال لها اختاري فقالت قد اخترت فهو باطل " لأنه عرف بالإجماع وهو في المفسرة من أحد الجانبين ولأن المبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم الآخر ولا تعيين مع الإبهام. " ولو قال لها اختاري نفسك فقالت اخترت تقع واحدة بائنة " لأن كلامه مفسر وكلامها خرج جوابا له فيتضمن إعادته " وكذا لو قال اختاري اختيارة فقالت اخترت " لأن الهاء في الاختيارة تنبئ عن الاتحاد والانفراد واختيارها نفسها هو الذي يتحد مرة ويتعدد أخرى فصار مفسرا من جانبه. " ولو قال اختاري فقالت قد اخترت نفسي يقع الطلاق إذا نوى الزوج " لأن كلامها مفسر وما نواه الزوج من محتملات كلامه. " ولو قال اختاري فقالت أنا أختار نفسي فهي طالق " والقياس أن لا تطلق لأن هذا مجرد وعد أو يحتمله فصار كما إذا قال لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي وجه الاستحسان حديث عائشة رضي الله عنها فإنها قالت لا بل أختار الله ورسوله اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام جوابا منها ولأن هذه الصيغة حقيقة في الحال وتجوز في الاستقبال كما في كلمة الشهادة وأداء الشاهد الشهادة بخلاف قولها أطلق نفسي لأنه تعذر حمله على الحال لأنه ليس بحكاية عن حالة قائمة ولا كذلك قولها أنا أختار نفسي لأنه حكاية عن حالة قائمة وهو اختيارها نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 " ولو قال لها اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة طلقت ثلاثا في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يحتاج إلى نية الزوج وقالا تطلق واحدة " وإنما لا يحتاج إلى نية الزوج لدلالة التكرار عليه إذ الاختيار في حق الطلاق هو الذي يتكرر لهما أن ذكر الأولى وما يجري مجراه إن كان لا يفيد من حيث الترتيب يفيد من حيث الإفراد فيعتبر فيما يفيد وله أن هذا وصف لغو لأن المجتمع في الملك لا ترتيب فيه كالمجتمع في المكان والكلام للترتيب والإفراد من ضروراته فإذا لغا في حق الأصل لغا في حق البناء. " ولو قالت اخترت اختيارة فهي ثلاث في قولهم جميعا " لأنها للمرة فصار كما إذا صرحت بها ولأن الاختيارة للتأكيد وبدون التأكيد تقع الثلاث فمع التأكيد أولى " ولو قالت قد طلقت نفسي أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بملك الرجعة " لأن هذا اللفظ يوجب الانطلاق بعد انقضاء العدة فكأنها اختارت نفسها بعد العدة " وإن قال لها أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة فاختارت نفسها فهي واحدة بملك الرجعة " لأنه جعل لها الاختيار لكن بتطليقة وهي معقبة للرجعة بالنص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فصل في الأمر باليد " وإن قال لها أمرك بيدك ينوي ثلاثا فقالت قد اخترت نفسي بواحدة فهي ثلاث " لأن الاختيار يصلح جوابا للأمر باليد لكونه تمليكا كالتخيير والواحدة صفة للاختيارة لصار كأنها قالت اخترت نفسي بمرة واحدة وبذلك يقع الثلاث. " ولو قالت قد طلقت نفسي بواحدة أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة " لأن الواحدة نعت لمصدر محذوف وهو في الأولى الاختيارة وفي الثانية التطليقة إلا أنها تكون بائنة لأن التفويض في البائن ضرورة ملكها أمرها وكلامها خرج جوابا له فتصير الصفة المذكورة في التفويض مذكورة في الإيقاع وإنما تصح نية الثلاث في قوله أمرك بيدك لأنه يحتمل العموم والخصوص ونية الثلاث نية التعميم بخلاف قوله اختاري لأنه لا يحتمل العموم وقد حققناه من قبل. " ولو قال لها أمرك بيدك اليوم وبعد غد لم يدخل فيه الليل وإن ردت الأمر في يومها بطل أمر ذلك اليوم وكان الأمر بيدها بعد غد " لأنه صرح بذكر وقتين بينهما وقت من جنسهما لم يتناوله الأمر إذ ذكر اليوم بعبارة الفرد لا يتناول الليل فكانا أمرين فبرد أحدهما لا يرتد الآخر وقال زفر رحمه الله هما أمر واحد بمنزلة قوله أنت طالق اليوم وبعد غد قلنا الطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 لا يحتمل التأقيت والأمر باليد يحتمله فيوقت الأمر بالأول ويجعل الثاني أمرا مبتدأ. " ولو قال أمرك بيدك اليوم وغدا يدخل الليل في ذلك فإن ردت الأمر في يومها لا يبقى الأمر في يدها في غد " لأن هذا أمر واحد لأنه لم يتخلل بين الوقتين المذكورين وقت من جنسهما لم يتناوله الكلام وقد يهجم الليل ومجلس المشورة لا ينقطع فصار كما إذا قال أمرك بيدك في يومين وعن أبي حنيفة رحمه الله أنها إذا ردت الأمر في اليوم لها أن تختار نفسها غدا لأنها لا تملك رد الأمر كما لا تملك رد الإيقاع وجه الظاهر أنها إذا اختارت نفسها اليوم لا يبقى لها الخيار في الغد فكذا إذا اختارت زوجها برد الأمر لأن المخير بين الشيئين لا يملك إلا اختيار أحدهما وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا قال أمرك بيدك اليوم وأمرك بيدك غدا أنهما أمران لما أنه ذكر لكل وقت خبرا على حدة بخلاف ما تقدم " وإن قال أمرك بيدك يوم يقدم فلان فقدم فلان ولم تعلم بقدومه حتى جن الليل فلا خيار لها " لأن الأمر باليد مما يمتد فيحمل اليوم المقرون به على بياض النهار وقد حققناه من قبل فيتوقت به ثم ينقضي بانقضاء وقته. " وإذا جعل أمرها بيدها أو خيرها فمكثت يوما لم تقم فالأمر في يدها مالم تأخذ في عمل آخر " لأن هذا تمليك التطليق منها لأن المالك من يتصرف برأي نفسه وهي بهذه الصفة والتمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه من قبل " ثم إذا كانت تسمع يعتبر مجلسها ذلك وإن كانت لا تسمع فمجلس علمها وبلوغ الخبر إليها " لأن هذا تمليك فيه معنى التعليق فيتوقف على ما وراء المجلس ولا يعتبر مجلسه لأن التعليق لازم في حقه بخلاف البيع لأنه تمليك محض لا يشوبه التعليق وإذا اعتبر مجلسها فالمجلس تارة يتبدل بالتحول ومرة بالأخذ في عمل آخر على ما بيناه في الخيار ويخرج الأمر من يدها بمجرد القيام لأنه دليل الإعراض إذ القيام يفرق الرأي بخلاف ما إذا مكثت يوما لم تقم ولم تأخذ في عمل آخر لأن المجلس قد يطول وقد يقصر فيبقى إلى أن يوجد ما يقطعه أو ما يدل على الإعراض وقوله مكثت يوما ليس للتقدير به وقوله مالم تأخذ في عمل آخر يراد به عمل يعرف أنه قطع لما كان فيه لا مطلق العمل. " ولو كانت قائمة فجلست فهي على خيارها " لأنه دليل الإقبال فإن القعود أجمع للرأي " وكذا إذا كانت قاعدة فاتكأت أو متكئة فقعدت " لأن هذا انتقال من جلسة إلى جلسة فلا يكون إعراضا كما إذا كانت محتبية فتربعت قال رضي الله عنه هذا رواية الجامع الصغير وذكر في غيره أنها إذا كانت قاعدة فاتكأت لا خيار لها لأن الاتكاء إظهار التهاون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بالأمر فكان إعراضا والأول هو الأصح ولو كانت قاعدة فاضطجعت ففيه روايتان عن أبي يوسف رحمه الله. " ولو قالت ادع أبي أستشيره أو شهودا أشهدهم فهي على خيارها " لأن الاستشارة لتحري الصواب والإشهاد للتحرز عن الإنكار فلا يكون دليل الإعراض " وإن كانت تسير على دابة أو في محمل فوقفت فهي على خيارها وإن سارت بطل خيارها " لأن سير الدابة ووقوفها مضاف إليها " والسفينة بمنزلة البيت " لأن سيرها غير مضاف إلى راكبها ألا ترى أنه لا يقدر على إيقافها وراكب الدابة يقدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فصل في المشيئة " ومن قال لامرأته طلقي نفسك ولا نية له أو نوى واحدة فقالت طلقت نفسي فهي واحدة رجعية وإن طلقت نفسها ثلاثا وقد أراد الزوج ذلك وقعن عليها " وهذا لأن قوله طلقي معناه افعلي فعل التطليق وهو اسم جنس فيقع على الأدنى مع احتمال الكل كسائر أسماء الأجناس فلهذا تعمل فيه نية الثلاث وينصرف إلى واحدة عند عدمها وتكون الواحدة رجعية لأن المفوض إليها صريح الطلاق ولو نوى الثنتين لا تصح لأنه نية العدد إلا إذا كانت المنكوحة أمة لأنه جنس في حقها. " وإن قال لها طلقي نفسك فقالت أبنت نفسي طلقت ولو قالت قد اخترت نفسي لم تطلق " لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق ألا ترى أنه لو قال لامرأته أبنتك ينوي به الطلاق أو قالت أبنت نفسي فقال الزوج قد أجزت ذلك بانت فكانت موافقة التفويض في الأصل إلا أنها زادت فيه وصفا وهو تعجيل الإبانة فيلغو الوصف الزائد ويثبت الأصل كما إذا قالت طلقت نفسي تطليقة بائنة وينبغي أن تقع تطليقة رجعية بخلاف الاختيار لأنه ليس من ألفاظ الطلاق ألا ترى أنه لو قال لامرأته اخترتك أو اختاري ينوي الطلاق لم يقع ولو قالت ابتداء اخترت نفسي فقال الزوج قد أجزت لا يقع شيء إلا أنه عرف طلاقا بالإجماع إذا حصل جوابا للتخيير وقوله طلقي نفسك ليس بتنجيز فيلغو وعن أبي حنيفة أنه لا يقع شيء بقولها أبنت نفسي لأنها أتت بغير ما فوض إليها إذ الإبانة تغاير الطلاق. " ولو قال لها طلقي نفسك فليس له أن يرجع عنه " لأن فيه معنى اليمين لأنه تعليق الطلاق بتطليقها واليمين تصرف لازم ولو قامت عن مجلسها بطل لأنه تمليك بخلاف ما إذا قال لها طلقي ضرتك لأنه توكيل وإنابة فلا يقتصر على المجلس ويقبل الرجوع " وإن قال لها طلقي نفسك متى شئت فلها أن تطلق نفسها في المجلس وبعده " لأن كلمة متى عامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 في الأوقات كلها فصار كما إذا قال في أي وقت شئت " وإذا قال لرجل طلق امرأتي فله أن يطلقها في المجلس وبعده " وله أن يرجع عنه لأنه توكيل وأنه استعانة فلا يلزم ولا يقتصر على المجلس بخلاف قوله لامراته طلقي نفسك لأنها عاملة لنفسها فكان تمليكا لا توكيلا. " ولو قال لرجل طلقها إن شئت فله أن يطلقها في المجلس خاصة " وليس للزوج أن يرجع وقال زفر رحمه الله هذا والأول سواء لأن التصريح بالمشيئة كعدمه لأنه يتصرف عن مشيئته فصار كالوكيل بالبيع إذا قيل له بعه إن شئت ولنا أنه تمليك لأنه علقه بالمشيئة والمالك هو الذي يتصرف عن مشيئته والطلاق يحتمل التعليق بخلاف البيع لأنه لا يحتمله. " ولو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة فهي واحدة " لأنها ملكت إيقاع الثلاث فتملك إيقاع الواحدة ضرورة. " ولو قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء عند أبي حنيفة وقالا تقع واحدة " لأنها أتت بما ملكته وزيادة فصار كما إذا طلقها الزوج ألفا ولأبي حنيفة أنها أتت بغير ما فوض إليها فكانت مبتدئة وهذا لأن الزوج ملكها الواحدة والثلاث غير الواحدة لأن الثلاث اسم لعدد مركب مجتمع والواحدة فرد لا تركيب فيه فكانت بينهما مغايرة على سبيل المضادة بخلاف الزوج لأنه يتصرف بحكم الملك وكذا هي في المسئلة الأولى لأنها ملكت الثلاث أما ههنا لم تملك الثلاث وما أتت بما فوض إليها فلغت. " وإن أمرها بطلاق يملك الرجعة فطلقت بائنة أو أمرها بالبائن فطلقت رجعية وقع ما أمر به الزوج " فمعنى الأول أن يقول لها الزوج طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة فتقول طلقت نفسي واحدة بائنة فتقع رجعية لأنها أتت بالأصل وزيادة وصف كما ذكرنا فيلغو الوصف ويبقى الأصل ومعنى الثاني أن يقول لها طلقي نفسك واحدة بائنة فتقول طلقت نفسي واحدة رجعية فتقع بائنة لأن قولها واحدة رجعية لغو منها لأن الزوج لما عين صفة المفوض إليها فحاجتها بعد ذلك إلى إيقاع الأصل دون تعيين الوصف فصار كأنها اقتصرت على الأصل فيقع بالصفة التي عينها الزوج بائنا أو رجعيا " وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثا إن شئت فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء " لأن معناه إن شئت الثلاث وهي بإيقاع الواحدة ما شاءت الثلاث فلم يوجد الشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 " ولو قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت فطلقت ثلاثا فكذلك عند أبي حنيفة " لأن مشيئة الثلاث ليست بمشيئة الواحدة كإيقاعها " وقالا تقع واحدة " لأن مشيئة الثلاث مشيئة الواحدة كما أن إيقاعها إيقاع للواحدة فوجد الشرط. " ولو قال لها أنت طالق إن شئت فقالت شئت إن شئت فقال الزوج شئت ينوي الطلاق بطل الأمر " لأنه علق طلاقها بالمشيئة المرسلة وهي أتت بالمعلقة فلم يوجد الشرط وهو اشتعال مالا يعنيها فخرج الأمر من يدها ولا يقع الطلاق بقوله شئت وإن نوى الطلاق لأنه ليس في كلام المرأة ذكر الطلاق ليصير الزوج شائيا طلاقها والنية لا تعمل في غير المذكور حتى لو قال شئت طلاقك يقع إذا نوى لأنه إيقاع مبتدأ إذ المشيئة تنبئ عن الوجود بخلاف قوله أردت طلاقك لأنه لا ينبئ عن الوجود " وكذا إذا قالت شئت إن شاء أبى أو شئت إن كان كذا لأمر لم يجئ بعد " لما ذكرنا أن المأتي به مشيئة معلقة فلا يقع الطلاق وبطل الأمر " وإن قالت قد شئت إن كان كذا لأمر قد مضى طلقت " لأن التعليق بشرط كائن تنجيز. " ولو قال لها أنت طالق إذا شئت أو إذا ما شئت أو متى شئت أو متى ما شئت فردت الأمر لم يكن ردا ولا يقتصر على المجلس " أما كلمة متى ومتى ما فلأنهما للوقت وهي عامة في الأوقات كلها كأنه قال في أي وقت شئت فلا يقتصر على المجلس بالإجماع ولو ردت الأمر لم يكن ردا لأنه ملكها الطلاق في الوقت الذي شاءت فلم يكن تمليكا قبل المشيئة حتى يرتد بالرد ولا تطلق نفسها إلا واحدة لأنها تعم الأزمان دون الأفعال فتملك التطليق في كل زمان ولا تملك تطليقا بعد تطليق وأما كلمة إذا وإذا ما فهما ومتى سواء عندهما وعند أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وإن كان يستعمل للشرط كما يستعمل للوقت لكن الأمر صار بيدها فلا يخرج بالشك وقد مر من قبل. " ولو قال لها أنت طالق كلما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة بعد واحدة حتى تطلق نفسها ثلاثا " لأن كلمة كلما توجب تكرار الأفعال إلا أن التعليق ينصرف إلى الملك القائم " حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر فطلقت نفسها لم يقع شيء " لأنه ملك مستحدث " وليس لها أن تطلق نفسها ثلاثا بكلمة واحدة " لأنها توجب عموم الانفراد لا عموم الاجتماع فلا تملك الإيقاع جملة وجمعا. " ولو قال لها أنت طالق حيث شئت أو أين شئت لم تطلق حتى تشاء وإن قامت من مجلسها فلا مشيئة لها " لأن كلمة حيث وأين من أسماء المكان والطلاق لا تعلق له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 بالمكان فيلغو ويبقى ذكر مطلق المشيئة فيقتصر على المجلس بخلاف الزمان لأن له تعلقا به حتى تقع في زمان دون زمان فوجب اعتباره عموما وخصوصا " وإن قال لها أنت طالق كيف شئت طلقت تطليقة يملك الرجعة " ومعناه قبل المشيئة فإن قالت قد شئت واحدة بائنة أو ثلاثا وقال الزوج ذلك نويت فهو كما قال لأن عند ذلك تثبت المطابقة بين مشيئتها وإرادته أما إذا أرادت ثلاثا والزوج واحدة بائنة أو على القلب تقع واحدة رجعية لأنه لغا تصرفها لعدم الموافقة فبقي إيقاع الزوج وإن لم تحضره النية تعتبر مشيئتها فيما قالوا جريا على موجب التخيير. " قال رضي الله تعالى عنه وقال في الأصل هذا قول أبي حنيفة " رحمه الله " وعندهما لا يقع مالم توقع المرأة رجعية أو بائنة أو ثلاثا " وعلى هذا الخلاف العتاق لهما أنه فوض التطليق إليها على أي صفة شاءت فلا بد من تعليق أصل الطلاق بمشيئتها لتكون لها المشيئة في جميع الأحوال أعني قبل الدخول وبعده ولأبي حنيفة رحمه الله أن كلمة كيف للاستيصاف يقال كيف اصبحت والتفويض في وصفه يستدعي وجود أصله ووجود الطلاق لوقوعه " وإن قال لها أنت طالق كم شئت أو ما شئت طلقت نفسها ما شاءت " لأنهما يستعملان للعدد فقد فوض إليها أي عدد شاءت " فإن قامت من المجلس بطل وإن ردت الأمر كان ردا " لأن هذا أمر واحد وهو خطاب في الحال فيقتضي الجواب في الحال " وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة أو ثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت " لأن كلمة "ما" محكمة في التعميم وكلمة "من" قد تستعمل للتمييز فيحمل على تمييز الجنس كما إذا قال كل من طعامي ما شئت أو طلق من نسائي من شاءت ولأبي حنيفة رحمه الله أن كلمة من حقيقة للتبعيض وما للتعميم فعمل بهما وفيما استشهدا به ترك التبعيض بدلالة إظهار السماحة أو لعموم الصفة وهي المشيئة حتى لو قال من شئت كان على هذا الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 باب الأيمان في الطلاق مدخل ... باب الأيمان في الطلاق " وإذا أضاف الطلاق إلى النكاح وقع عقيب النكاح مثل أن يقول لامرأة إن تزوجتك فأنت طالق أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق " وقال الشافعي رحمه الله: لا يقع لقوله عليه الصلاة والسلام " لا طلاق قبل النكاح ". ولنا أن هذا تصرف يمين لوجود الشرط والجزاء فلا يشترط لصحته قيام الملك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الحال لأن الوقوع عند الشرط والملك متيقن به عنده وقبل ذلك أثره المنع وهو قائم بالمنصرف والحديث محمول على نفي التنجيز والحمل مأثور عن السلف كالشعبي والزهري وغيرهما. " وإذا أضافه إلى شرط وقع عقيب الشرط مثل أن يقول لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق " وهذا بالاتفاق لأن الملك قائم في الحال والظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط فيصح يمينا أو إيقاعا " ولا تصح إضافة الطلاق إلا أن يكون الحالف مالكا أو يضيفه إلى ملك " لأن الجزاء لا بد أن يكون ظاهرا ليكون مخيفا فيتحقق معنى اليمين وهو القوة والظهور بأحد هذين والإضافة إلى سبب الملك بمنزلة الإضافة إليه لأنه ظاهر عند سببه " فإن قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها فدخلت الدار لم تطلق " لأن الحالف ليس بمالك ولا أضافه إلى الملك أو سببه ولا بد من واحد منهما. " وألفاظ الشرط: إن وإذا وإذا ما وكل وكلما ومتى ومتى ما " لأن الشرط مشتق من العلامة وهذه الألفاظ مما تليها أفعال فتكون علامات على الحنث ثم كلمة إن حرف للشرط لأنه ليس فيها معنى الوقت وما وراءها ملحق بها وكلمة كل ليست شرطا حقيقة لأن ما يليها اسم والشرط ما يتعلق به الجزاء والأجزية تتعلق بالأفعال إلا أنه ألحق بالشرط لتعلق الفعل بالاسم الذي يليها مثل قولك كل عبد اشتريته فهو حر قال " ففي هذه الألفاظ إذا وجد الشرط انحلت وانتهت اليمين " لأنها غير مقتضية للعموم والتكرار لغة فبوجود الفعل مرة يتم الشرط ولا بقاء لليمين بدونه " إلا في " كلمة " كلما فإنها تقتضي تعميم الأفعال " قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} [النساء: 56] الآية ومن ضرورة التعميم التكرار. قال: " فإن تزوجها بعد ذلك " أي بعد زوج آخر " وتكرر الشرط لم يقع شيء " لأن باستيفاء الطلقات الثلاث المملوكات في هذا النكاح لم يبق الجزاء وبقاء اليمين به وبالشرط وفيه خلاف زفر رحمه الله وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى. " ولو دخلت على نفس التزوج بأن قال كلما تزوجت امرأة فهي طالق يحنث بكل مرة وإن كان بعد زوج آخر " لأن انعقادها باعتبار ما يملك عليها من الطلاق بالتزوج وذلك غير محصور قال " وزوال الملك بعد اليمين لا يبطلها " لأنه لم يوجد الشرط فبقي والجزاء باق لبقاء محله فبقي اليمين " ثم إن وجد الشرط في ملكه انحلت اليمين ووقع الطلاق " لأنه وجد الشرط والمحل قابل للجزاء فينزل الجزاء ولا تبقى اليمين لما قلنا " وإن وجد في غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الملك انحلت اليمين " لوجود الشرط " ولم يقع شيء " لانعدام المحلية. " وإن اختلفا في وجود الشرط فالقول قول الزوج إلا أن تقيم المرأة البينة " لأنه متمسك بالأصل وهو عدم الشرط ولأنه ينكر وقوع الطلاق وزوال الملك والمرأة تدعيه " فإن كان الشرط لا يعلم إلا من جهتها فالقول قولها في حق نفسها مثل أن يقول إن حضت فأنت طالق وفلانة فقالت قد حضت طلقت هي ولم تطلق فلانة " ووقوع الطلاق استحسان والقياس أن لا يقع لأنه شرط فلا تصدق كما في الدخول وجه الاستحسان أنها أمينة في حق نفسها إذ لا يعلم ذلك إلا من جهتها فيقبل قولها كما قبل في حق العدة والغشيان لكنها شاهدة في حق ضرتها بل هي متهمة فلا يقبل قولها في حقها " وكذلك لو قال إن كنت تحبين أن يعذبك الله في نار جهنم فأنت طالق وعبدي حر فقالت أحبه أو قال إن كنت تحبيني فأنت طالق وهذه معك فقالت أحبك طلقت هي ولم يعتق العبد ولا تطلق صاحبتها " لما بينا ولا يتيقن بكذبها لأنها لشدة بغضها إياه قد تحب التخليص منه بالعذاب وفي حقها إن تعلق الحكم بإخبارها وإن كانت كاذبة ففي حق غيرها بقي الحكم على الأصل وهي المحبة. " وإذا قال لها إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم لم يقع الطلاق حتى يستمر بها ثلاثة أيام " لأن ما ينقطع دونها لا يكون حيضا " فإذا تمت ثلاثة أيام حكمنا بالطلاق من حين حاضت " لأنه بالامتداد عرف أنه من الرحم فكان حيضا من الابتداء. " ولو قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر من حيضتها " لأن الحيضة بالهاء هي الكاملة منها ولهذا حمل عليه في حديث الاستبراء وكمالها بانتهائها وذلك بالطهر " وإذا قال أنت طالق إذا صمت يوما طلقت حين تغيب الشمس في اليوم الذي تصوم " لأن اليوم إذا قرن بفعل ممتد يراد به بياض النهار بخلاف ما إذا قال لها إذا صمت لأنه لم يقدره بمعيار وقد وجد الصوم بركنه وشرطه. " ومن قال لامرأته إذا ولدت غلاما فأنت طالق واحدة وإذا ولدت جارية فأنت طالق ثنتين فولدت غلاما وجارية ولا يدري أيهما أول لزمه في القضاء تطليقة وفي التنزه تطليقتان وانقضت العدة بوضع الحمل " لأنها لو ولدت الغلام أولا وقعت واحدة وتنقضي عدتها بوضع الجارية ثم لا تقع أخرى به لأنه حال انقضاء العدة ولو ولدت الجارية أولا وقعت تطليقتان وانقضت عدتها بوضع الغلام ثم لا يقع شيء آخر به لما ذكرنا أنه حال انقضاء العدة فإذا في حال تقع واحدة وفي حال تقع ثنتان فلا تقع الثانية بالشك والاحتمال والأولى أن يؤخذ بالثنتين تنزها واحتياطا والعدة منقضية بيقين لما بينا " وإن قال لها إن كلمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أبا عمرو وأبا يوسف فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها واحدة فبانت وانقضت عدتها فكلمت أبا عمرو ثم تزوجها فكلمت أبا يوسف فهي طالق ثلاثا مع الواحدة الأولى وقال زفر رحمه الله لا يقع " وهذه على وجوه أما إن وجد الشرطان في الملك فيقع الطلاق وهذا ظاهر أو وجدا في غير الملك فلا يقع أو وجد الأول في الملك والثاني في غير الملك فلا يقع أيضا لأن الجزاء لا ينزل في غير الملك فلا يقع أو وجد الأول في غير الملك والثاني في الملك وهي مسئلة الكتاب الخلافية له اعتبار الأول بالثاني إذ هما في حكم الطلاق كشيء واحد. ولنا أن صحة الكلام بأهلية المتكلم إلا أن الملك يشترط حالة التعليق ليصير الجزاء غالب الوجود لاستصحاب الحال فتصح اليمين وعند تمام الشرط لينزل الجزاء لأنه لا ينزل إلا في الملك وفيما بين ذلك الحال حال بقاء اليمين فيستغنى عن قيام الملك إذ بقاؤه بمحله وهو الذمة " وإن قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا فطلقها ثنتين وتزوجت زوجا آخر ودخل بها ثم عادت إلى الأول فدخلت الدار طلقت ثلاثا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله هي طالق ما بقي من الطلقات " وهو قول زفر رحمه الله وأصله أن الزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث عندهما فتعود إليه بالثلاث وعند محمد وزفر رحمهما الله لا يهدم ما دون الثلاث فتعود إليه بما بقي وسنبين من بعد إن شاء الله تعالى " وإن قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم قال لها أنت طالق ثلاثا فتزوجت غيره ودخل بها ثم رجعت إلى الأول فدخلت الدار لم يقع شيء " وقال زفر رحمه الله يقع الثلاث لأن الجزاء ثلاث مطلق لإطلاق اللفظ وقد بقي احتمال وقوعها فتبقى اليمين. ولنا أن الجزاء طلقات هذا الملك لأنها هي المانعة لأن الظاهر عدم ما يحدث واليمين تعقد للمنع أو الحمل وإذا كان الجزاء ما ذكرناه وقد فات بتنجيز الثلاث المبطل للمحلية فلا تبقى اليمين بخلاف ما إذا أبانها لأن الجزاء باق لبقاء محله. " ولو قال لامرأته إذا جامعتك فأنت طالق ثلاثا فجامعها فلما التقى الختانان طلقت ثلاثا وإن لبث ساعة لم يجب عليه المهر وإن أخرجه ثم أدخله وجب عليه المهر " وكذا إذا قال لأمته إذا جامعتك فأنت حرة " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه أوجب المهر في الفصل الأول أيضا لوجود الجماع بالدوام عليه إلا أنه لا يجب عليه الحد للاتحاد " وجه الظاهر أن الجماع إدخال الفرج في الفرج ولا دوام للإدخال بخلاف ما إذا أخرج ثم أولج لأنه وجد الإدخال بعد الطلاق إلا أن الحد لا يجب بشبهة الاتحاد بالنظر إلى المجلس والمقصود وإذا لم يجب الحد وجب العقر إذ الوطء لا يخلو عن أحدهما ولو كان الطلاق رجعيا يصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مراجعا باللبث عند أبي يوسف رحمه الله لمحمد رحمه الله لوجود المساس ولو نزع ثم أولج صار مراجعا بالإجماع لوجود الجماع والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فصل في الاستثناء " وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله تعالى متصلا لم يقع الطلاق " لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف بطلاق أو عتاق وقال إن شاء الله تعالى متصلا به فلا حنث عليه " ولأنه أتى بصورة الشرط فيكون تعليقا من هذا الوجه وأنه إعدام قبل الشرط والشرط لا يعلم ههنا فيكون إعداما من الأصل ولهذا يشترط أن يكون متصلا به بمنزلة سائر الشروط " ولو سكت يثبت حكم الكلام الأول " فيكون الاستثناء أو ذكر الشرط بعده رجوعا عن الأول. قال: " وكذا إذا ماتت قبل قوله إن شاء الله تعالى " لأن بالاستثناء خرج الكلام من أن يكون إيجابا والموت ينافي الموجب دون المبطل بخلاف ما إذا مات الزوج لأنه لم يتصل به الاستثناء " وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة طلقت ثنتين وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين طلقت واحدة " والأصل أن الاستثناء تكلم بالحاصل بعد الثنيا هو الصحيح ومعناه أنه تكلم بالمستثنى منه إذ لا فرق بين قول القائل لفلان علي درهم وبين قوله عشرة إلا تسعة فيصح استثناء البعض من الجملة لأنه يبقى التكلم بالبعض بعده ولا يصح استثناء الكل من الكل لأنه لا يبقى بعده شيء ليصير متكلما به وصارفا للفظ إليه وإنما يصح الاستثناء إذا كان موصولا به كما ذكرنا من قبل وإذا ثبت هذا ففي الفصل الأول المستثنى منه ثنتان فيقعان وفي الثاني واحدة فتقع واحدة ولو قال إلا ثلاثا يقع الثلاث لأنه استثناء الكل من الكل فلم يصح الاستثناء والله أعلم. تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب طلاق المريض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 المجلد الثاني تابع كتاب الطلاق باب طلاق المريض ... " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " حديث شريف بسم الله الرحمن الرحيم باب طلاق المريض " وإذ طلق الرجل امرأته في مرض موته طلاقا بائنا فمات وهي في العدة ورثته وإن مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها " وقال الشافعي رحمه الله لا ترث في الوجهين لأن الزوجية قد بطلت بهذا العارض وهي السبب ولهذا لا يرثها إذا ماتت ولنا أن الزوجية سبب إرثها في مرض موته والزوج قصد إبطاله فيرد عليه قصده بتأخير عمله إلى زمان انقضاء العدة دفعا للضرر عنها وقد أمكن لأن النكاح في العدة يبقى في حق بعض الآثار فجاز أن يبقى في حق إرثها عنه بخلاف ما بعد الانقضاء لأنه لا إمكان والزوجية في هذه الحالة ليست بسبب لإرثه عنها فتبطل في حقه خصوصا إذا رضي به " وإن طلقها ثلاثا بأمرها أو قال لها اختاري فاختارت نفسها أو اختلعت منه ثم مات وهي في العدة لم ترثه " لأنها رضيت بإبطال حقها والتأخير لحقها وإن قالت طلقني للرجعة فطلقها ثلاثا ورثته لأن الطلاق الرجعي لا يزيل النكاح فلم تكن بسؤالها راضية ببطلان حقها " وإن قال لها في مرض موته كنت طلقتك ثلاثا في صحتي وانقضت عدتك فصدقته ثم أقر لها بدين أو أوصى لها بوصية فلها الأقل من ذلك ومن الميراث عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز إقراره ووصيته وإن طلقها ثلاثا في مرضه بأمرها ثم أقر لها بدين أو أوصى بوصية فلها الأقل من ذلك ومن الميراث في قولهم جميعا " إلا على قول زفر رحمه الله فإن لها جميع ما أوصى وما أقربه لأن الميراث لما بطل بسؤالها زال المانع من صحة الأقرار والوصية. وجه قولهما في المسألة الأولى أنهما لما تصادقا على الطلاق وانقضاء العدة صارت أجنبية عنه حتى جاز له أن يتزوج أختها فانعدمت التهمة الا ترى أنه تقبل شهادته لها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 ويجوز وضع الزكاة فيها بخلاف المسئلة الثانية لأن العدة باقية وهي سبب التهمة والحكم يدار على دليل التهمة ولهذا يدار على النكاح والقرابة ولاعدة في المسئلة الأولى. ولأبي حنيفة رحمه الله في المسئلتين أن التهمة قائمة لأن المرأة قد تختار الطلاق لينفتح باب الاقرار والوصية عليها فيزيد حقها والزوجان قد يتواضعان على الأقرار بالفرقة وانقضاء العدة ليبرها الزوج بماله زيادة على ميراثها وهذه التهمة في الزيادة فرددناها ولا تهمة في قدر الميراث فصححناه ولا مواضعة عادة في حق الزكاة والتزويج والشهادة فلا تهمة في حق هذه الأحكام. قال: " ومن كان محصورا أو في صف القتال فطلق امرأته ثلاثا لم ترثه وان كان قد بارز رجلا أو قدم ليقتل في قصاص أو رجم ورثت إن مات في ذلك الوجه أو قتل " وأصله ما بينا أن امرأة الفار ترث استحسانا وإنما يثبت حكم الفرار بتعلق حقها بماله وإنما يتعلق بمرض يخاف منه الهلاك غالبا كما إذا كان صاحب الفراش وهو أن يكون بحال لا يقوم بحوائجه كما يعتاده الأصحاء وقد يثبت حكم الفرار بما هو في معنى المرض في توجه الهلاك الغالب وما يكون الغالب منه السلامة لا يثبت به حكم الفرار فالمحصور والذي في وصف القتال الغالب منه السلامة لأن الحصن لدفع بأس العدو وكذا المنعة فلا يثبت به حكم الفرار والذي بارز أو قدم ليقتل الغالب منه الهلاك فيتحقق به الفرار ولهذا أخوات تخرج على هذا الحرف وقوله إذا مات في ذلك الوجه أو قتل دليل على أنه لا فرق بين ما إذا مات بذلك السبب أو بسبب آخر كصاحب الفراش بسبب المرض إذا قتل. " وإذا قال الرجل لامرأته وهو صحيح إذا جاء رأس الشهر أو إذا دخلت الدار أو إذا صلى فلان الظهر أو إذا دخل فلان الدار فأنت طالق فكانت هذه الأشياء والزوج مريض لم ترث وإن كان القول في المرض ورثت إلا في قوله إذا دخلت الدار " وهذا على وجوه إما أن يعلق الطلاق بمجيء الوقت أو بفعل الأجنبي أو بفعل نفسه أو بفعل المرأة وكل وجه على وجهين أما إن كان التعليق في الصحة والشرط في المرض أو كلاهما في المرض. أما الوجهان الأولان وهو ما إن كان التعليق بمجيء الوقت بأن قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق أو بفعل الأجنبي بأن قال إذ دخل فلان الدار أو صلى فلان الظهر فإن كان التعليق والشرط في المرض فلها الميراث لأن القصد إلى الفرار قد تحقق منه بمباشرة التعليق في حال تعلق حقها بماله وإن كان التعليق بالصحة والشرط في المرض لم ترث وقال زفر رحمه الله ترث لأن المعلق بالشرط ينزل عند وجود الشرط كالمنجز فكان إيقاعا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 المرض. ولنا أن التعليق السابق يصير تطليقا عند الشرط حكما لا قصدا ولا ظلم إلا عن قصد فلا يرد تصرفه. وأما الوجه الثالث: وهو ما إذا علقه بفعل نفسه فسواء كان التعليق في الصحة والشرط في المرض أو كانا في المرض والفعل مما له عنه بد أو لا بد له منه يصير فارا لوجود قصد الابطال إما بالتعليق أو بمباشرة الشرط في المرض وإن لم يكن له من فعل الشرط بد فله من التعليق ألف بد فيرد تصرفه دفعا للضرر عنها. وأما الوجه الرابع: وهو ما إذا علقه بفعلها فإن كان التعليق والشرط في المرض والفعل مما لها منه بد ككلام زيد ونحوه لم ترث لأنها راضية بذلك وإن كان الفعل مما بد لها منه كأكل الطعام وصلاة الظهر وكلام الأبوين ترث لأنها مضطرة في المباشرة لما لها في الامتناع من خوف الهلاك في الدنيا أو في العقبى ولا رضا مع الاضطرار وأما إذا كان التعليق في الصحة والشرط في المرض فإن كان الفعل مما لها منه بد فلا إشكال أنه لا ميراث لها وإن كان مما لا بد لها منه فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله وهو قول زفر لأنه لم يوجد من الزوج صنع بعدما تعلق حقها بماله وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ترث لأن الزوج ألجأها إلى المباشرة فينتقل الفعل إليه كأنها آلة له كما في الإكراه. قال: " وإذا طلقها ثلاثا وهو مريض ثم صح ثم مات لم ترث " وقال زفر رحمه الله ترث لأنه قصد الفرار حين أوقع في المرض وقد مات وهي في العدة ولكنا نقول المرض إذا تعقبه برء فهو بمنزلة الصحة لأنه ينعدم به مرض الموت فتبين أنه لا حق لها يتعلق بماله فلا يصير الزوج فارا ولو طلقها فارتدت والعياذ بالله ثم أسلمت ثم مات الزوج من مرضه وهي في العدة لم ترث وإن لم ترتد بل طاوعت ابن زوجها في الجماع ورثت ووجه الفرق أنها بالردة أبطلت أهلية الارث إذا المرتد لا يرث أحدا ولا بقاء له بدون الأهلية وبالمطاوعة ما أبطلت الأهلية لأن المحرمية لا تنافي الإرث وهو الباقي بخلاف ما إذا طاوعت في حال قيام النكاح لأنها تثبت الفرقة فتكون راضية ببطلان السبب وبعد الطلقات الثلاث لا تثبت الحرمة بالمطاوعة لتقدمها عليها فافترقا. " ومن قذف امرأته وهو صحيح ولا عن في المرض ورثت وقال محمد رحمه الله لا ترث وإن كان القذف في المرض ورثته في قولهم جميعا " وهذا ملحق بالتعليق بفعل لا بد لها منه إذ هي ملجأة إلى الخصومة لدفع عار الزنا عن نفسها وقد بينا الوجه فيه " وإن آلى من امرأته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وهو صحيح ثم بانت بالإيلاء وهو مريض لم ترث وإن كان الإيلاء أيضا في المرض ورثت " لأن الإيلاء في معنى تعليق الطلاق بمضي أربعة أشهر خالية عن الوقاع فيكون ملحقا بالتعليق بمجيء الوقف وقد ذكرنا وجهه. قال رضي الله تعالى عنه: " والطلاق الذي يملك فيه الرجعة ترث به في جميع الوجوه " لما بينا أنه لا يزيل النكاح حتى يحل الوطء فكان السبب قائما قال " وكل ما ذكرنا أنها ترث إنما ترث إذا مات وهي في العدة " وقد بيناه والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 باب الرجعة مدخل ... باب الرجعة " وإذا طلق الرجل امرأته تطليقة رجعية أو تطليقتين فله أن يراجعها في عدتها رضيت بذلك أو لم ترض " لقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] من غير فصل ولا بد من قيام العدة لأن الرجعة استدامة الملك ألا ترى أنه سمى إمساكا وهو الإبقاء وإنما يتحقق الاستدامة في العدة لأنه لا ملك بعد انقضائها " والرجعة أن يقول راجعتك أو راجعت امرأتي " وهذا صريح في الرجعة ولا خلاف فيه بين الأئمة. قال: " أو يطأها أو يقبلها أو يلمسها بشهوة أو بنظر إلى فرجها بشهوة " وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا تصح الرجعة إلا بالقول مع القدرة عليه لأن الرجعة بمنزلة ابتداء النكاح حتى يحرم وطؤها وعندنا هو استدامة النكاح على ما بيناه وسنقرره إن شاء الله والفعل قد يقع دلالة على الاستدامة كما في إسقاط الخيار والدلالة فعل يختص بالنكاح وهذه الأفاعيل تختص به خصوصا في حق الحرة بخلاف المس والنظر بغير شهوة لأنه قد يحل بدون النكاح كما في القابلة والطبيب وغيرهما والنظر إلى غير الفرج قد يقع بين المساكنين والزوج يساكنها في العدة فلو كان رجعة لطلقها فتطول العدة عليها. قال: " ويستحب أن يشهد على الرجعة شاهدين فإن لم يشهد صحت الرجعة " وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه لا تصح وهو قول مالك رحمه الله لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] والأمر للايجاب ولنا إطلاق النصوص عن قيد الاشهاد ولأنه استدامة للنكاح والشهادة ليست شرطا فيه في حالة البقاء كما في الفيء في الإيلاء إلا أنها تستحب لزيادة الاحتياط كيلا يجري التناكر فيها وما تلاه محمول عليه ألا ترى أنه قرنها بالمفارقة وهو فيها مستحب ويستحب أن يعلمها كيلا تقع في المعصية. " وإذا انقضت العدة فقال كنت راجعتها في العدة فصدقته فهي رجعة وإن كذبته فالقول قولها " لأنه أخبر عما لا يملك إنشاءه في الحال فكان متهما إلا أن بالتصديق ترتفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 التهمة ولا يمين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله وهي مسئلة الاستحلاف في الأشياء الستة وقد مر في كتاب النكاح. " وإذا قال الزوج قد راجعتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي لم تصح الرجعة عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا تصح الرجعة لأنها صادفت العدة إذ هي باقية ظاهرا إلى أن تخبر وقد سبقته الرجعة ولهذا لو قال لها طلقتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي يقع الطلاق ولأبي حنيفة رحمه الله أنها صادفت حالة الانقضاء لأنها أمينة في الإخبار عن الانقضاء فإذا أخبرت دل ذلك على سبق الانقضاء وأقرب أحواله حال قول الزوج ومسئلة الطلاق على الخلاف ولو كانت على الاتفاق فالطلاق يقع بإقراره بعد الانقضاء والمراجعة لا تثبت به. " وإذا قال زوج الأمة بعد انقضاء عدتها قد كنت راجعتها وصدقه المولى وكذبته الأمة فالقول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا القول قول المولى " لأن بضعها مملوك له فقد أقر بما هو خالص حقه للزوج فشابه الإقرار عليها بالنكاح وهو يقول حكم الرجعة يبتني على العدة والقول في العدة قولها فكذا فيما يبتني عليها ولو كان على القلب فعندهما القول قول المولى وكذا عنده في الصحيح لأنها منقضية العدة في الحال وقد ظهر ملك المتعة للمولى فلا يقبل قولها في إبطاله بخلاف الوجه الأول لأن المولى بالتصديق في الرجعة مقر بقيام العدة عندها ولا يظهر ملكه مع العدة " وإن قالت قد انقضت عدتي وقال الزوج والمولى لم تنقض عدتك فالقول قولها " لأنها أمينة في ذلك إذ هي العالمة به. " وإذا انقطع الدم من الحيضة الثالثة لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل وإن انقطع لأقل من عشرة أيام لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل " لأن الحيض لا مزيد له على العشرة فبمجرد الانقطاع خرجت من الحيض فانقضت العدة وانقطعت الرجعة وفيما دون العشرة يحتمل عود الدم فلا بد أن يعتضد الانقطاع بحقيقة الاغتسال أو بلزوم حكم من أحكام الطاهرات بمضي وقت الصلاة بخلاف ما إذا كانت كتابية لأنه لا يتوقع في حقها أمارة زائدة فاكتفى بالانقطاع وتنقطع إذا تيممت وصلت عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهذا استحسان وقال محمد رحمه الله إذا تيممت انقطعت وهذا قياس لأن التيمم حال عدم الماء طهارة مطلقة حتى يثبت به من الأحكام ما يثبت بالاغتسال فكان بمنزلته ولهما أنه ملوث غير مطهر وإنما اعتبر طهارة ضرورة أن لا تتضاعف الواجبات وهذه الضرورة تتحقق حال أداء الصلاة لا فيما قبلها من الأوقات والأحكام الثابتة أيضا ضرورية اقتضائية ثم قيل تنقطع بنفس الشروع عندهما وقيل بعد الفراغ ليتقرر حكم جواز الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 " وإذا اغتسلت ونسيت شيئا من بدنها لم يصبه الماء فإن كان عضوا فما فوقه لم تنقطع الرجعة وإن كان أقل من عضو انقطعت ". قال رضي الله عنه وهذا استحسان والقياس في العضو الكامل أن لا تبقى الرجعة لأنها غسلت الأكثر والقياس فيما دون العضو أن تبقى لأن حكم الجنابة والحيض لا يتجزأ ووجه الاستحسان وهو الفرق أن ما دون العضو يتسارع إليه الجفاف لقلته فلا يتيقن بعدم وصول الماء إليه فقلنا بأنه تنقطع الرجعة ولا يحل لها التزوج أخذا بالاحتياط فيهما بخلاف العضو الكامل لأنه لا يتسارع إليه الجفاف ولا يغفل عنه عادة فافترقا. وعن أبي يوسف رحمه الله أن ترك المضمضة والاستنشاق كترك عضو كامل وعنه وهو قول محمد رحمه الله هو بمنزلة ما دون العضو لأن في فرضيته اختلافا بخلاف غيره من الأعضاء " ومن طلق امرأته وهي حامل أو ولدت منه وقال لم أجامعها فله الرجعة " لأن الحبل متى ظهر في مدة يتصور أن يكون منه جعل منه لقوله عليه الصلاة والسلام " الولد للفراش " وذلك دليل الوطء منه وكذا إذا ثبت نسب الولد منه جعل واطئا وإذا ثبت الوطء تأكد الملك والطلاق في ملك متأكد يعقب الرجعة ويبطل زعمه بتكذيب الشرع ألا ترى أنه يثبت بهذا الوطء الإحصان فلأن تثبت به الرجعة أولى وتأويل مسئلة الولادة أن تلد قبل الطلاق لأنها لو ولدت بعده تنقضي العدة بالولادة فلا تتصور الرجعة. قال: " فإن خلا بها وأغلق بابا أو أرخى سترا وقال لم أجامعها ثم طلقها لم يملك الرجعة " لأن تأكد الملك بالوطء وقد أقر بعدمه فيصدق في حق نفسه والرجعة حقه ولم يصر مكذبا شرعا بخلاف المهر لأن تأكد المهر المسمى يبتني على تسليم المبدل لا على القبض بخلاف الفصل الأول " فإن راجعها " معناه بعد ما خلا بها وقال لم أجامعها " ثم جاءت بولد لأقل من سنتين بيوم صحت تلك الرجعة " لأنه يثبت النسب منه إذ هي لم تقر بانقضاء العدة والولد يبقى في البطن هذه المدة فأنزل واطئا قبل الطلاق دون ما بعده لأن على اعتبار الثاني يزول الملك بنفس الطلاق لعدم الوطء قبله فيحرم الوطء والمسلم لا يفعل الحرام. " فإن قال لها إذا ولدت فأنت طالق فولدت ثم أتت بولد آخر فهي رجعة " معناه من بطن آخر وهو أن يكون بعد ستة أشهر وإن كان أكثر من سنتين إذا لم تقر بانقضاء العدة لأنه وقع الطلاق عليه بالولد الأول ووجبت العدة فيكون الولد الثاني من علوق حادث منه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 العدة لأنها لم تقر بانقضاء العدة فيصير مراجعا " وإن قال كلما ولدت ولدا فأنت طالق لولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فالولد الأول طلاق والولد الثاني رجعة وكذا الثالث " لأنها إذا جاءت بالولد الأول وقع الطلاق وصارت معتدة وبالثاني صار مراجعا لما بينا أنه يجعل العلوق بوطء حادث في العدة ويقع الطلاق الثاني بولادة الولد الثاني لأن اليمين معقودة بكلمة كلما ووجبت العدة وبالولد الثالث صار مراجعا لما ذكرنا وتقع الطلقة الثالثة بولادة الثالث ووجبت العدة بالأقراء لأنها حائل من ذوات الحيض حين وقع الطلاق. " والمطلقة الرجعية تتشوف وتتزين " لأنها حلال للزوج إذ النكاح قائم بينهما ثم الرجعة مستحبة والتزين حامل له عليها فيكون مشروعا. " ويستحب لزوجها أن لا يدخل عليها حتى يؤذنها أو يسمعها خفق نعليه " معناه إذا لم يكن من قصده المراجعة لأنها ربما تكون متجردة فيقع بصره على موضع يصير به مراجعا ثم يطلقها فتطول عليها العدة. " وليس له أن يسافر بها حتى يشهد على رجعتها " وقال زفر رحمه الله له ذلك لقيام النكاح ولهذا له أن يغشاها عندنا ولنا قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الآية ولأن تراخي عمل المبطل لحاجته إلى المراجعة فإذا لم يراجعها حتى انقضت العدة ظهر أنه لا حاجة له فتبين أن البطل عمل عمله من وقت وجوده ولهذا تحتسب الأقراء من العدة فلم يملك الزوج الإخراج إلا أن يشهد على رجعتها فتبطل العدة ويتقرر ملك الزوج وقوله حتى يشهد على رجعتها معناه الاستحباب على ما قدمناه. " والطلاق الرجعي لا يحرم الوطء " وقال الشافعي رحمه الله يحرمه لأن الزوجية زائلة لوجود القاطع وهو الطلاق ولنا أنها قائمة حتى يملك مراجعتها من غير رضاها لأن حق الرجعة ثبت نظرا للزوج ليمكنه التدارك عند اعتراض الندم وهذا المعنى يوجب استبداده به وذلك يؤذن بكونه استدامة لا إنشاء إذ الدليل ينافيه والقاطع أخر عمله إلى مدة إجماعا أو نظرا له على ما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 فصل فيما تحل به المطلقة " وإذا كان الطلاق بائنا دون الثلاث فله أن يتزوجها في العدة وبعد انقضائها " لأن حل المحلية باق لأن زواله معلق بالطلقة الثالثة فينعدم قبله ومنع الغير في العدة لاشتباه النسب ولا اشتباه في إطلاقه " وإن كان الطلاق ثلاثا في الحرة أو ثنتين في الأمة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويدخل بها ثم يطلقها أو يموت عنها " والأصل فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فالمراد الطلقة الثالثة والثنتان في حق الأمة كالثلاث في حق الحرة لأن الرق منصف لحل المحلية على ما عرف ثم الغاية نكاح الزوج مطلقا والزوجية المطلقة إنما ثبتت بنكاح صحيح وشرط الدخول ثبت بإشارة النص وهو أن يحمل النكاح على الوطء حملا للكلام على الإفادة دون الإعادة إذ العقد استفيد بإطلاق اسم الزوج أو يزاد على النص بالحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر روي بروايات ولا خلاف لأحد فيه سوى سعيد بن المسيب رضي الله عنه وقوله غير معتبر حتى لو قضى به القاضي لا ينفذ والشرط الإيلاج دون الإنزال لأنه كمال ومبالغة فيه والكمال قيد زائد. " والصبي المراهق في التحليل كالبالغ " لوجود الدخول في نكاح صحيح وهو الشرط بالنص ومالك رحمه الله يخالفنا فيه والحجة عليه ما بيناه وفسروه في الجامع الصغير وقال غلام لم يبلغ ومثله يجامع جامع امرأته وجب عليها الغسل وأحلها على الزوج الأول. ومعنى هذا الكلام أن تتحرك آلته ويشتهي وإنما وجب الغسل عليها لإلتقاء الختانين وهو سبب لنزول مائها والحاجة إلى الإيجاب في حقها أما لا غسل على الصبي وإن كان يؤمر به تخلقا. قال: " ووطء المولى أمته لا يحلها " لأن الغاية نكاح الزوج " وإذا تزوجها بشرط التحليل فالنكاح مكروه " لقوله عليه الصلاة والسلام " لعن الله المحلل والمحلل له " وهذا هو محمله " فإن طلقها بعد ما وطئها حلت للأول " لوجود الدخول في نكاح صحيح إذ النكاح لا يبطل بالشرط وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يفسد النكاح لأنه في معنى الموقت فيه ولا يحلها على الأول لفساده وعن محمد رحمه الله أنه يصح النكاح لما بينا ولا يحلها على الأول لأنه استعجل ما أخره الشرع فيجازى بمنع مقصوده كما في قتل المورث " وإذا طلق الحرة تطليقة أو تطليقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الزوج الأول عادت بثلاث تطليقات ويهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث كما يهدم الثلاث وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يهدم ما دون الثلاث " لأنه غاية للحرمة بالنص فيكون منهيا ولا إنهاء للحرمة قبل الثبوت ولهما قوله عليه الصلاة والسلام لعن الله المحلل والمحلل له سماه محللا وهو المثبت للحل " وإذا طلقها ثلاثا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 فقالت قد انقضت عدتي وتزوجت ودخل بي الزوج وطلقني وانقضت عدتي والمدة تحتمل ذلك جاز للزوج أن يصدقها إذا كان في غالب ظنه أنها صادقة لأنه معاملة أو أمر ديني لتعلق الحل به وقول الواحد فيهما مقبول وهو غير مستنكر إذا كانت المدة تحتمله واختلفوا في أدنى هذه المدة وسنبينها في باب العدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 باب الإيلاء " وإذا قال الرجل لامرأته والله لا أقربك أو قال والله لا أقربك أربعة أشهر فهو مول " لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} [البقرة: 226] الآية " فإن وطئها في الأربعة الأشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة " لأن الكفارة موجب الحنث " وسقط الإيلاء " لأن اليمين ترتفع بالحنث " وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة ". وقال الشافعي رحمه الله تبين بتفريق القاضي لأنه مانع حقها في الجماع فينوب القاضي منابه في التسريح كما في الجب والعنة ولنا أنه ظلمها بمنع حقها فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة وهو المأثور عن عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين وكفى بهم قدوة ولأنه كان طلاقا في الجاهلية فحكم الشرع بتأجيله إلى انقضاء المدة " فإن كان حلف على أربعة أشهر فقد سقطت اليمين " لأنها كانت مؤقتة به " وإن كان حلف على الأبد فاليمين باقية " لأنها مطلقة ولم يوجد الحنث لترتفع به إلا أنه لا يتكرر الطلاق قبل التزوج لأنه لم يوجد منع الحق بعد البينونة " فإن عاد فتزوجها عاد الإيلاء فإن وطئها وإلا وقعت بمضي اربعة أشهر تطليقة أخرى " لأن اليمين باقية لإطلاقها وبالتزوج ثبت حقها فيتحقق الظلم ويعتبر ابتداء هذا الإيلاء من وقت التزوج " فإن تزوجها ثالثا عاد الإيلاء ووقعت بمضي أربعة أشهر أخرى إن لم يقربها " لما بيناه " فإن تزوجها بعد زوج آخر لم يقع بذلك الإيلاء طلاق " لتقيده بطلاق هذا الملك وهي فرع مسئلة التنجيز الخلافية وقد مر من قبل " واليمين باقية " لإطلاقها وعدم الحنث " فإن وطئها كفر عن يمينه " لوجود الحنث " فإن حلف على أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا " لقول ابن عباس رضي الله عنه لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر ولأن الامتناع عن قربانها في أكثر المدة بلا مانع وبمثلة لا يثبت حكم الطلاق فيه " ولو قال والله لا أقربك شهرين وشهرين بعد هذين الشهرين فهو مول " لأنه جمع بينهما بحرف الجمع فصار كجمعه بلفظ الجمع " ولو مكث يوما ثم قال والله لا أقربك شهرين بعد الشهرين الأولين لم يكن موليا " لأن الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 إيجاب مبتدأ وقد صار ممنوعا بعد اليمين الأولى شهرين وبعد الثانية أربعة أشهر إلا يوما مكث فيه فلم تتكامل مدة المنع " ولو قال والله لا أقربك سنة إلا يوما لم يكن موليا " خلافا لزفر رحمه الله هو يصرف الاستثناء إلى آخرها اعتبارا بالإجارة فتمت مدة المنع ولنا أن المولي من لا يمكنه القربان أربعة أشهر إلا بشيء يلزمه وههنا يمكنه لأن المستثنى يوم منكر بخلاف الإجارة لأن الصرف إلا الآخر لتصحيحها فإنها لا تصح مع التنكير ولا كذلك اليمين " ولو قربها في يوم والباقي أربعة أشهر أوأكثر صار موليا " لسقوط الاستثناء " ولو قال وهو بالبصرة والله لا أدخل الكوفة وامرأته بها لم يكن موليا " لأنه يمكنه القربان من غير شيء يلزمه بإخراج من الكوفة. قال: " ولو حلف بحج أو بصوم أو صدقة أو عتق أو طلاق فهو مول " لتحقق المنع باليمين وهو ذكر الشرط والجزاء وهذه الأجزية مانعة لما فيها من المشقة. وصورة الحلف بالعتق أن يعلق بقربانها عتق عبده وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله فإنه يقول يمكنه البيع ثم القربان فلا يلزمه شيء وهما يقولان البيع موهوم فلا يمنع المانعية فيه والحلف بالطلاق أن يعلق بقربانها طلاقها أو طلاق صاحبتها وكل ذلك مانع " وإن آلى من المطلقة الرجعية كان موليا وإن آلى من البائنة لم يكن موليا " لأن الزوجية قائمة في الأولى دون الثانية ومحل الإيلاء من تكون من نسائنا بالنص فلو انقضت العدة قبل انقضاء مدة الإيلاء سقط الإيلاء لفوات المحلية " ولو قال لأجنبية والله لا أقربك أو أنت علي كظهر أمي ثم تزوجها لم يكن موليا ولا مظاهرا " لأن الكلام في مخرجه وقع باطلا لانعدام المحلية فلا ينقلب صحيحا بعد ذلك " وإن قربها كفر " لتحقق الحنث إذا اليمين منعقدة في حقه " ومدة إيلاء الأمة شهران " لأن هذه مدة ضربت أجلا للبينونة فتتنصف بالرق كمدة العدة " وإن كان المولى مريضا لا يقدر على الجماع أو كانت مريضة أو رتقاء أو صغيرة لا تجامع أو كانت بينهما مسافة لا يقدر أن يصل إليها في مدة الإيلاء ففيؤه أن يقول بلسانه فئت إليها في مدة الإيلاء فإن قال ذلك سقط الإيلاء ". وقال الشافعي رحمه الله: لا فيء إلا بالجماع وإليه ذهب الطحاوي لأنه لو كان فيئا لكان حنثا ولنا أنه آذاها بذكر المنع فيكون إرضاؤها بالوعد باللسان وإذا ارتفع الظلم لا يجازى بالطلاق " ولو قدر على الجماع في المدة بطل ذلك الفيء وصار فيؤه بالجماع " لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالحلف "وإ ذا قال لامرأته أنت علي حرام سئل عن نيته فإن قال أردت الكذب فهو كما قال " لأنه نوى حقيقة كلامه وقيل لا يصدق في القضاء لأنه يمين ظاهرا " وإن قال أردت الطلاق فهي تطليقة بائنة إلا أن ينوي الثلاث " وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 ذكرناه في الكنايات " وإن قال أردت الظهار فهو ظهار " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله ليس بظهار لانعدام التشبيه بالمحرمة وهو الركن فيه ولهما أنه أطلق الحرمة وفي الظهار نوع حرمة المطلق يحتمل المقيد " وإن قال أردت التحريم أو لم أرد به شيئا فهو يمين يصير به موليا " لأن الأصل في تحريم الحلال إنما هو يمين عندنا وسنذكره في الأيمان إن شاء الله ومن المشايخ من يصرف لفظة التحريم إلى الطلاق من غير نية بحكم العرف والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 باب الخلع " وإذا تشاق الزوجان وخافا أن لا يقيما حدود الله فلا بأس بأن تفتدي نفسها منه بمال يخلعها به " لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] " فإذا فعلا ذلك وقع بالخلع تطليقة بائنة ولزمها المال " لقوله عليه الصلاة والسلام: " الخلع تطليقة بائنة " ولأنه يحتمل الطلاق حتى صار من الكنايات والواقع بالكنايات بائن إلا أن ذكر المال أغنى عن النية هنا ولأنها لا تسلم المال إلا لتسلم لها نفسها وذلك بالبينونة " وإن كان النشوز من قبله يكره له أن يأخذ منها عوضا " لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} إلى أن قال {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: من الآية20] ولأنه أوحشها بالاستبدال فلا يزيد في وحشتها بأخذ المال " وإن كان النشوز منها كرهنا له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ". وفي رواية الجامع الصغير: طاب الفضل أيضا لإطلاق ما تلونا بدءا ووجه الأخرى قوله عليه الصلاة والسلام في امرأة ثابت بن قيس بن شماس أما الزيادة فلا وقد كان النشوز منها " ولو أخذ الزيادة جاز في القضاء " وكذلك إذا أخذ والنشوز منه لأن مقتضى ما تلوناه شيآن الجواز حكما والإباحة وقد ترك العمل في حق الإباحة لمعارض فبقي معمولا في الباقي " وإن طلقها على مال فقبلت وقع الطلاق ولزمها المال " لأن الزوج يستبد بالطلاق تنجيزا وتعليقا وقد علقه بقبولها والمرأة تملك التزام المال لولايتها على نفسها وملك النكاح مما يجوز الاعتياض عنه وإن لم يكن مالا كالقصاص " وكان الطلاق بائنا " لما بينا ولأنه معاوضة المال بالنفس وقد ملك الزوج أحد البدلين فتملك هي الآخر وهو النفس تحقيقا للمساواة. قال: " وإن بطل العوض في الخلع مثل أن يخالع المسلم على خمر أو خنزير أو ميتة فلا شيء للزوج والفرقة بائنة وإن بطل العوض في الطلاق كان رجعيا " فوقوع الطلاق في الوجهين للتعليق بالقبول وافتراقهما في الحكم لأنه لما بطل العوض كان العامل في الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 لفظ الخلع وهو كناية وفي الثاني الصريح وهو يعقب الرجعة وإنما لم يجب للزوج شيء عليها لأنها ما سمت مالا متقوما حتى تصير غارة له ولأنه لا وجه إلى إيجاب المسمى للإسلام ولا إلى إيجاب غيره لعدم الالتزام بخلاف ما إذا خالع على خل بعينه فظهر أنه خمر لأنها سمت مالا فصار مغرورا وبخلاف ما إذا كاتب أو أعتق على خمر حيث تجب قيمة العبد لأن ملك المولى فيه متقوم وما رضي بزواله مجانا. أما ملك البضع في حالة الخروج فغير متقوم على ما نذكر وبخلاف النكاح لأن البضع في حالة الدخول متقوم والفقه أنه شريف فلم يشرع تملكه إلا بعوض إظهارا لشرفه فأما الإسقاط فنفسه شرف فلا حاجة إلى إيجاب المال. قال: " وما جاز أن يكون مهرا جاز أن يكون بدلا في الخلع " لأن ما يصلح عوضا للمتقوم أولى أن يصلح عوضا لغير المتقوم " فإن قالت له خالعني على ما في يدي فخالعها فلم يكن في يدها شيء فلا شيء له عليها " لأنها لم تغره بتسمية المال " وإن قالت خالعني على ما في يدي من مال فخالعها فلم يكن في يدها شيء ردت عليه مهرها " لأنها لما سمت مالا لم يكن الزوج راضيا بالزوال إلا بعوض ولا وجه إلى إيجاب المسمى وقيمته للجهالة ولا إلى قيمة البضع أعني مهر المثل لأنه غير متقوم حالة الخروج فتعين إيجاب ما قام به على الزوج دفعا للضرر عنه. " ولو قالت خالعني على ما في يدي من دراهم أو من الدراهم ففعل فلم يكن في يدها شيء فعليها ثلاثة دراهم " لأنها سمت الجمع وأقله ثلاثة وكلمة من ههنا للصلة دون التبعيض لأن الكلام يختل بدونه " فإن اختلعت على عبد لها آبق على أنها بريئة من ضمانه لم تبرأ وعليها تسليم عينه إن قدرت وتسليم قيمته إن عجزت " لأنه عقد المعاوضة فيقتضي سلامة العوض واشتراط البراءة عنه شرط فاسد فيبطل إلا أن الخلع لا يبطل بالشروط الفاسدة وعلى هذا النكاح. " وإذا قالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فعليها ثلث الألف " لأنها لما طلبت الثلاث بألف فقد طلبت كل واحدة بثلث الألف وهذا لأن حرف الباء يصحب الأعواض والعوض ينقسم على المعوض والطلاق بائن لوجوب المال " وإن قالت طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة فلا شيء عليها عند أبي حنيفة رحمه الله ويملك الرجعة وقالا هي واحدة بائنة بثلث الألف " لأن كلمة على بمنزلة الباء في المعاوضات حتى إن قولهم احمل هذا الطعام بدرهم أو على درهم سواء وله أن كلمة على للشرط قال الله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة: 12] ومن قال لامرأته أنت طالق على أن تدخلي الدار كان شرطا وهذا لأنه للزوم حقيقة واستعير للشرط لأنه يلازم الجزاء وإذا كان للشرط فالمشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط بخلاف الباء لأنه للعوض على ما مر وإذا لم يجب المال كان مبتدأ فوقع الطلاق ويملك الرجعة. " ولو قال الزوج طلقي نفسك ثلاثا بألف أو على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء " لأن الزوج ما رضي بالبينونة إلا لتسلم له الألف كلها بخلاف قولها طلقني ثلاثا بألف لأنها لما رضيت بالبينونة بألف كانت ببعضها أرضى. " ولو قال أنت طالق على ألف فقبلت طلقت وعليها الألف وهو كقوله أنت طالق بألف " ولا بد من القبول في الوجهين لأن معنى قوله بألف بعوض ألف يجب لي عليك ومعنى قوله على ألف على شرط ألف يكون لي عليك والعوض لا يجب بدون قبوله والمعلق بالشرط لا ينزل قبل وجوده والطلاق بائن لما قلنا. " ولو قال لامرأته أنت طالق وعليك ألف فقبلت أو قال لعبده أنت حر وعليك ألف فقبل عتق العبد وطلقت المرأة ولا شيء عليهما عند أبي حنيفة رحمه الله " وكذا إذا لم يقبلا " وقالا على كل واحد منهما الألف إذا قبل " وإذا لم يقبل لا يقع الطلاق والعتاق لهما أن هذا الكلام يستعمل للمعاوضة فإن قولهم احمل هذا المتاع ولك درهم بمنزلة قولهم بدرهم وله أنه جملة تامة فلا ترتبط بما قبله إلا بدلالة إذ الأصل فيها الاستقلال ولا دلالة لأن الطلاق والعتاق ينفكان عن المال بخلاف البيع والإجارة لأنهما لا يوجدان دونه. " ولو قال أنت طالق على ألف على أني بالخيار أو على أنك بالخيار ثلاثة ايام فقبلت فالخيار باطل إذا كان للزوج وهو جائز إذا كان للمرأة فإن ردت الخيار في الثلاث بطل وإن لم ترد طلقت ولزمها الألف " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا الخيار باطل في الوجهين والطلاق واقع وعليها ألف درهم " لأن الخيار للفسخ بعد الانعقاد لا للمنع من الانعقاد والتصرفان لا يحتملان الفسخ من الجانبين لأنه في جانبه يمين ومن جانبها شرط. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخلع في جانبها بمنزلة البيع حتى يصح رجوعها ويتوقف على ما وراء المجلس فيصح اشتراط الخيار فيه أما في جانبه يمين حتى لا يصح رجوعه ويتوقف على ما وراء المجلس ولا خيار في الأيمان وجانب العبد في العتاق مثل جانبها في الطلاق " ومن قال لامرأته طلقتك أمس على ألف درهم فلم تقبل فقالت قبلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 فالقول قول الزوج ومن قال لغيره بعت منك هذا العبد بألف درهم أمس فلم تقبل فقال قبلت فالقول قول المشتري " ووجه الفرق أن الطلاق بالمال يمين من جانبه فالإقرار به لا يكون إقرارا بالشرط لصحته بدونه أما البيع فلا يتم إلا بالقبول والإقرار به إقرار بما لا يتم إلا به فإنكاره القبول رجوع منه. قال: " والمبارأة كالخلع كلاهما يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح عند أبي حنيفة " رحمه الله وقال محمد رحمه الله لا يسقط فيهما إلا ما سمياه وأبو يوسف رحمه الله معه في الخلع ومع أبي حنيفة رحمه الله في المبارأة لمحمد رحمه الله أن هذه معاوضة وفي المعاوضات يعتبر المشروط لا غيره ولأبي يوسف رحمه الله أن المبارأة مفاعلة من البراءة فتقتضيها من الجانبين وأنه مطلق قيدناه بحقوق النكاح لدلالة الفرض. أما الخلع فمقتضاه الانخلاع وقد حصل في نقض النكاح ولا ضرورة إلى انقطاع الأحكام ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخلع ينبئ عن الفصل ومنه خلع النعل وخلع العمل وهو مطلق كالمبارأة فيعمل بإطلاقهما في النكاح وأحكامه وحقوقه. قال: " ومن خلع ابنته وهي صغيرة بمالها لم يجز عليها " لأنه لا نظر لها فيه إذ البضع في حالة الخروج غير متقوم والبدل متقوم بخلاف النكاح لأن البضع متقوم عند الدخول ولهذا يعتبر خلع المريضة من الثلث ونكاح المريض بمهر المثل من جميع المال وإذا لم يجز لا يسقط المهر ولا يستحق مالها ثم يقع الطلاق في رواية وفي رواية لا يقع والأول أصح لأنه تعليق بشرط قبوله فيعتبر بالتعليق بسائر الشروط. " وإن خالعها على ألف على أنه ضامن فالخلع واقع والألف على الأب " لأن اشتراط بدل الخلع على الأجنبي صحيح فعلى الأب أولى ولا يسقط مهرها لأنه لم يدخل تحت ولاية الأب " وإن شرط الألف عليها توقف على قبولها إن كانت من أهل القبول فإن قبلت وقع الطلاق " لوجود الشرط " ولا يجب المال " لأنها ليست من أهل الغرامة فإن قبله الأب عنها ففيه روايتان "وكذا إن خالعها على مهرها ولم يضمن الأب المهر توقف على قبولها فإن قبلت طلقت ولا يسقط المهر " فإن قبل الأب عنها فعلى الروايتين " وإن ضمن الأب المهر وهو ألف درهم طلقت " لوجود قبوله وهو الشرط ويلزمه خمسمائة استحسانا وفي القياس يلزمه الألف وأصله في الكبيرة إذا اختلعت قبل الدخول على ألف ومهرها ألف ففي القياس عليها خمسمائة زائدة وفي الاستحسان لا شيء عليها لأنه يراد به عادة حاصل ما يلزم لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 باب الظهار مدخل ... باب الظهار " وإذا قال الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي فقد حرمت عليه لا يحل له وطؤها ولا مسها ولا تقبيلها حتى يكفر عن ظهاره " لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} إلى أن قال {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص: 3] . والظهار كان طلاقا في الجاهلية فقرر الشرع أصله ونقل حكمه إلى تحريم موقت بالكفارة غير مزيل للنكاح وهذا لأنه جناية لكونه منكرا من القول وزورا فيناسب المجازاة عليها بالحرمة وارتفاعها بالكفارة ثم الوطء إذا حرم حرم بدواعيه كيلا يقع فيه كما في الإحرام بخلاف الحائض والصائم لأنه يكثر وجودهما فلو حرم الدواعي يفضي إلى الحرج ولا كذلك الظهار والإحرام " فإن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله تعالى ولا شيء عليه غير الكفارة الأولى ولا يعود حتى يكفر " لقوله عليه الصلاة السلام للذي واقع في ظهاره قبل الكفارة " استغفر الله ولا تعد حتى تكفر " ولو كان شيء آخر واجبا لنبه عليه قال " وهذا اللفظ لا يكون إلا ظهارا " لأنه صريح فيه " ولو نوى به الطلاق لا يصح " لأنه منسوخ فلا يتمكن من الإتيان به. " وإذا قال أنت علي كبطن أمي أو كفخذها أو كفرجها فهو مظاهر " لأن الظهار ليس إلا تشبيه المحللة بالمحرمة وهذا المعنى يتحقق في عضو لا يجوز النظر إليه " وكذا إذا شبهها بمن لا يحل له النظر إليها على التأبيد من محارمه مثل أخته أو عمته أو أمه من الرضاعة " لأنهن في التحريم المؤبد كالأم " وكذلك إذا قال رأسك علي كظهر أمي أو فرجك أو وجهك أو رقبتك أو نصفك أو ثلثك أو بدنك " لأنه يعبر بها عن جميع البدن ويثبت الحكم في الشائع ثم يتعدى كما بيناه في الطلاق. " ولو قال أنت علي مثل أمي أو كأمي يرجع إلى نيته " لينكشف حكمه " فإن قال أردت الكرامة فهو كما قال " لأن التكريم بالتشبيه فاش في الكلام " وإن قال أردت الظهار فهو ظهار " لأنه تشبيه بجميعها وفيه تشبيه بالعضو لكنه ليس بصريح فيفتقر إلى النية " وإن قال أردت الطلاق فهو طلاق بائن " لأنه تشبيه بالأم في الحرمة فكأنه قال أنت علي حرام ونوى الطلاق " وإن لم تكن له نية فليس بشيء " عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لاحتمال الحمل على الكرامة وقال محمد رحمه الله يكون ظهارا لأن التشبيه بعضو منها لما كان ظهارا فالتشبيه بجميعها أولى وإن عنى به التحريم لا غير فعند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 أبي يوسف رحمه الله هو إيلاء ليكون الثابت به أدنى الحرمتين وعند محمد رحمه الله ظهار لأن كاف التشبيه تختص به. " ولو قال أنت علي حرام كأمي ونوى ظهارا أو طلاقا فهو على ما نوى " لأنه يحتمل الوجهين الظهار لمكان التشبيه والطلاق لمكان التحريم والتشبيه تأكيد له وإن لم تكن له نية فعلى قول أبي يوسف رحمه الله إيلاء وعلى قول محمد رحمه الله ظهار والوجهان بيناهما " وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي ونوى به طلاقا أو إيلاء لم يكن إلا ظهارا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا هو على ما نوى " لأن التحريم يحتمل كل ذلك على ما بينا غير أن عند محمد رحمه الله إذا نوى الطلاق لا يكون ظهارا وعند أبي يوسف رحمه الله يكونان جميعا وقد عرف في موضعه ولأبي حنيفة رحمه الله أنه صريح في الظهار فلا يحتمل غيره ثم هو محكم فيرد التحريم إليه. قال: " ولا يكون الظهار إلا من الزوجة حتى لو ظاهر من أمته لم يكن مظاهرا " لقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} ولأن الحل في الأمة تابع فلا تلحق بالمنكوحة ولأن الظهار منقول عن الطلاق ولا طلاق في المملوكة " فإن تزوج امرأة بغير أمرها ثم ظاهر منها ثم أجازت النكاح فالظهار باطل " لأنه صادق في التشبيه وقت المتصرف فلم يكن منكرا من القول والظهار ليس بحق من حقوقه حتى يتوقف بخلاف إعتاق المشتري من الغاصب لأنه من حقوق الملك " ومن قال لنسائه أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرا منهن جميعا " لأنه أضاف الظهار إليهن فصار كما إذا أضاف الطلاق " وعليه لكل واحدة كفارة " لأن الحرمة تثبت في حق كل واحدة والكفارة لإنهاء الحرمة فتتعدد بتعددها بخلاف الإيلاء منهن لأن الكفارة فيه لصيانة حرمة الاسم ولم يتعدد ذكر الاسم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 فصل في الكفارة قال: " وكفارة الظهار عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " للنص الوارد فيه فإنه يفيد الكفارة على هذا الترتيب. قال: " وكل ذلك قبل المسيس " وهذا في الإعتاق والصوم ظاهر للتنصيص عليه وكذا في الإطعام لأن الكفارة فيه منهية للحرمة فلا بد من تقديمها على الوطء ليكون الوطء حلالا. قال: " وتجزئ في العتق الرقبة الكافرة والمسلمة والذكر والأنثى والصغير والكبير " لأن اسم الرقبة ينطلق على هؤلاء إذ هي عبارة عن الذات المرقوق المملوك من كل وجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 والشافعي رحمه الله يخالفنا في الكافرة ويقول الكفارة حق الله تعالى فلا يجوز صرفه إلى عدو الله كالزكاة ونحن نقول المنصوص عليه إعتاق الرقبة وقد تحقق وقصده من الإعتاق التمكن من الطاعة ثم مقارفته المعصية يحال به إلى سوء اختياره " ولا تجزئ العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين " لأن الفائت جنس المنفعة وهي البصر أو البطش أو المشي وهو المانع أما إذا اختلت المنفعة فهو غير مانع حتى يجوز العوراء ومقطوعة إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف لأنه ما فات جنس المنفعة بل اختلت بخلاف ما إذا كانت مقطوعتين من جانب واحد حيث لا يجوز لفوات جنس منفعة المشي إذ هو عليه متعذر ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه سمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزيه " ولا يجوز مقطوع إبهامي اليدين " لأن قوة البطش بهما فبفواتهما يفوت جنس المنفعة " ولا يجوز المجنون الذي لا يعقل " لأن الانتفاع بالجوارح لا يكون إلا بالعقل فكان فائت المنافع " والذي يجن ويفيق يجزئه " لأن الاختلال غير مانع " ولا يجزئ عتق المدبر وأم الولد " لاستحقاقهما الحرية بجهة فكان الرق فيهما ناقصا وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال لأن إعتاقه يكون ببدل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجزئه لقيام الرق من كل وجه ولهذا تقبل الكتابة الانفساخ بخلاف أمومية الولد والتدبير لأنهما لا يحتملان الانفساخ فإن أعتق مكاتبا لم يؤد شيئا جاز خلافا للشافعي رحمه الله له أنه استحق الحرية بجهة الكتابة فأشبه المدبر ولنا أن الرق قائم من كل وجه على ما بينا ولقوله عليه الصلاة والسلام المكاتب عبد ما بقي عليه درهم والكتابة لا تنافيه فإنه فك الحجر بمنزلة الإذن في التجارة إلا أنه بعوض فيلزم من جانبه ولو كان مانعا ينفسخ بمقتضى الإعتاق إذ هو يحتمله إلا أنه تسلم له الأكساب والأولاد لأن العتق في حق المحل بجهة الكتابة أو لأن الفسخ ضروري لا يظهر في حق الولد والكسب. " وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز وعلى هذا الخلاف كفارة اليمين والمسئلة تأتيك في كتاب الأيمان إن شاء الله " وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر وضمن قيمة باقيه لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله ويجوز عندهما " لأنه يملك نصيب صاحبه بالضمان فصار معتقا كل العبد عن الكفارة وهو ملكه بخلاف ما إذا كان المعتق معسرا لأنه وجب عليه السعاية في نصيب الشريك فيكون إعتاقا بعوض ولأبي حنيفة رحمه الله أن نصيب صاحبه ينتقص على ملكه ثم يتحول إليه بالضمان ومثله يمنع الكفارة " وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم أعتق باقيه عنها جاز " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 لأنه أعتقه بكلامين والنقصان متمكن على ملكه بسبب الإعتاق بجهة الكفارة ومثله غير مانع كمن أضجع شاة للأضحية فاصاب السكين عينها بخلاف ما تقدم لأن النقصان تمكن على ملك الشريك وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله أما عندهما فالإعتاق لا يتجزأ فإعتاق النصف إعتاق الكل فلا يكون إعتاقا بكلامين " وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع التي ظاهر منها ثم أعتق باقيه لم يجز عند أبي حنيفة " رحمه الله لأن الإعتاق يتجزأ عنده وشرط الإعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص وإعتاق النصف حصل بعده وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس. " وإذا لم يجد المظاهر ما يعتق فكفارته صوم شهرين متتابعين ليس فيهما شهر رمضان ولا يوم الفطر ولا يوم النحر ولا أيام التشريق " أما التتابع فلأنه منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار لما فيه من إبطال ما أوجبه الله والصوم في هذه الأيام منهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل " فإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد " وقال أبو يوسف رحمه الله لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط وإن كان تقديمه على المسيس شرطا ففيما ذهبنا إليه تقديم البعض وفيما قلتم تأخير الكل عنه ولهما أن الشرط في الصوم أن يكون قبل المسيس وأن يكون خاليا عنه ضرورة بالنص وهذا الشرط ينعدم به فيستأنف " وإن أفطر منها يوما بعذر أو بغير عذر استأنف " لفوات التتابع وهو قادر عليه عادة. " وإن ظاهر العبد لم يجز في الكفارة إلا الصوم " لأنه لا ملك له فلم يكن من أهل التكفير بالمال " وإن أعتق المولى أو أطعم عنه لم يجزه " لأنه ليس من أهل الملك فلا يصير مالكا بتمليكه. " وإذا لم يستطع المظاهر الصيام أطعم ستين مسكينا " لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] " ويطعم كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير أو قيمة ذلك " لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أوس بن الصامت وسهل بن صخرك " لكل مسكين نصف صاع من بر " ولأن المعتبر دفع حاجة اليوم لكل مسكين فيعتبر بصدقة الفطر وقوله أو قيمة ذلك مذهبنا وقد ذكرناه في الزكاة. " فإن أعطى منا من بر ومنوين من تمر أو شعير جاز " لحصول المقصود لا الجنس متحد " وإن أمر غيره أن يطعم عنه من ظهاره ففعل أجزأه " لأنه استقراض معنى والفقير قابض له أولا ثم لنفسه فتحقق تملكه ثم تمليكه " فإن غداهم وعشاهم جاز قليلا كان ما أكلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 أو كثيرا " وقال الشافعي رحمه الله لا يجزئه إلا التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة ولنا أن المنصوص عليه هو الإطعام وهو حقيقة في التمكين من الطعم وفي الإباحة ذلك كما في التمليك. أما الواجب في الزكاة الإيتاء وفي صدقة الفطر الأداء وهما للتمليك حقيقة " ولو كان فيمن عشاهم صبي فطيم لا يجزئه " لأنه لا يستوفى كاملا ولا بد من الإدام في خبز الشعير ليمكنه الإستيفاء إلى الشبع وفي خبز الحنطة لا يشترط الإدام " وإن أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه " لأن المقصود سد خلة المحتاج والحاجة تتجدد في كل يوم فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إلى غيره وهذا في الإباحة من غير خلاف وأما التمليك من مسكين واحد في يوم واحد بدفعات فقد قيل لا يجزئه وقد قيل يجزئه لأن الحاجة إلى التمليك تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة واحدة لأن التفريق واجب بالنص " وإن قرب التي ظاهر منها في خلال الإطعام لم يستأنف " لأنه تعالى ما شرط في الإطعام أن يكون قبل المسيس إلا أنه يمنع من المسيس قبله لأنه ربما يقدر على الإعتاق أو الصوم فيقعان بعد المسيس والمنع لمعنى في غيره لا يعدم المشروعية في نفسه " وإذا أطعم عن ظهارين ستين مسكينا كل مسكين صاعا من بر لم يجزه إلا عن واحد منهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يجزئه عنهما وإن أطعم ذلك عن إفطار وظهار أجزأه عنهما " له أن بالمؤدى وفاء بهما والمصروف إليه محل لهما فيقع عنهما كما لو اختلف السبب أو فرق في الدفع ولهما أن النية في الجنس الواحد لغو وفي الجنسين معتبرة وإذا لغت النية والمؤدى يصلح كفارة واحدة لأن نصف الصاع أدنى المقادير فيمنع النقصان دون الزيادة فيقع عنها كما إذا نوى أصل الكفارة بخلاف ما إذا فرق في الدفع لأنه في الدفعة الثانية في حكم مسكين آخر " ومن وجبت عليه كفارتا ظهار فأعتق رقبتين لا ينوي عن إحداهما بعينها جاز عنهما وكذا إذا صام أربعة أشهر أو أطعم مائة وعشرين مسكينا جاز لأن الجنس متحد فلا حاجة إلى نية معينة وإن أعتق عنهما رقبة واحدة أو صام شهرين كان له أن يجعل ذلك عن أيهما شاء وإن أعتق عن ظهار وقتل لم يجز عن واحد منهما ". وقال زفر رحمه الله: لا يجزئه عن أحدهما في الفصلين وقال الشافعي رحمه الله له أن يجعل ذلك عن أحدهما في الفصلين لأن الكفارات كلها باعتبار اتحاد المقصود جنس واحد وجه قول زفر رحمه الله أنه أعتق عن كل ظهار نصف العبد وليس له أن يجعل عن أحدهما بعد ما أعتق عنهما لخروج الأمر من يده ولنا أن نية التعيين في الجنس المتحد غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 مفيد فتلغو وفي الجنس المختلف مفيد واختلاف الجنس في الحكم وهو الكفارة ههنا باختلاف السبب نظير الأول إذا صام يوما في قضاء رمضان عن يومين يجزئه عن قضاء يوم واحد ونظير الثاني إذا كان عليه صوم القضاء والنذر فإنه لا بد فيه من التمييز والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 باب اللعان قال: " إذا قذف الرجل امرأته بالزنا وهما من أهل الشهادة والمرأة ممن يحد قاذفها أو نفي نسب ولدها وطالبته بموجب القذف فعليه اللعان " والأصل أن اللعان عندنا شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنا في حقها لقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] والاستثناء إنما يكون من الجنس وقال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] نص على الشهادة واليمين فقلنا الركن هو الشهادة المؤكدة باليمين ثم قرن الركن في جانبه باللعن لو كان كاذبا وهو قائم مقام حد القذف وفي جانبها بالغضب وهو قائم مقام حد الزنا. إذا ثبت هذا نقول لا بد أن يكونا من أهل الشهادة لأن الركن فيه الشهادة ولا بد أن تكون هي ممن يحد قاذفها لأنه قائم في حقه مقام حد القذف فلا بد من إحصانها ويجب بنفي الولد لأنه لما نفي ولدها صار قاذفا لها ظاهرا ولا يعتبر احتمال أن يكون الولد من غيره بالوطء من شبهة كما إذا نفى أجنبي نسبه عن أبيه المعروف وهذا لأن الأصل في النسب الفراش الصحيح والفاسد ملحق به فنفيه عن الفراش الصحيح قذف حتى يظهر الملحق به ويشترط طلبها لأنه حقها فلا بد من طلبها كسائر الحقوق " فإن امتنع منه حبسه الحاكم حتى يلاعن أو يكذب نفسه " لأنه حق مستحق عليه وهو قادر على إيفاته فيحبس به حتى يأتي بما هو عليه أو يكذب نفسه ليرتفع السبب " ولو لاعن وجب عليها اللعان " لما تلونا من النص إلا انه يبتدأ بالزوج لأنه هو المدعي " فإن امتنعت حبسها الحاكم حتى تلاعن أو تصدقه " لأنه حق مستحق عليها وهي قادرة على أيفائه فتحبس فيه " وإذا كان الزوج عبدا أو كافرا أو محدودا في قذف فقذف امرأته فعليه الحد " لأنه تعذر اللعان لمعنى من جهته فيصار إلى الموجب الأصلي وهو الثابت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية واللعان خلف عنه " وإن كان من أهل الشهادة وهي أمة أو كافرة أو محدودة في قذف أو كانت ممن لا يحد قاذفها " بأن كانت صبية أو مجنونة أو زانية " فلا حد عليه ولا لعان " لانعدام أهلية الشهادة وعدم الإحصان في جانبها وامتناع اللعان لمعنى من جهتها فيسقط الحد كما إذا صدقته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم اليهودية والنصرانية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت المملوك ولو كانا محدودين في قذف فعليه الحد لأن امتناع اللعان من جهته إذ هو ليس من أهله " وصفة اللعان أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا يشير إليها في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتقول في الخامسة غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا " والأصل فيه ما تلوناه من النص وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يأتي بلفظة المواجهة يقول فيما رميتك به من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وجه ما ذكر في الكتاب أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الاحتمال. قال: " وإذا التعنا لا تقع الفرقة حتى يفرق القاضي بينهما " وقال زفر تقع بتلاعنهما لأنه تثبت الحرمة المؤبدة بالحديث ولنا أن ثبوت الحرمة يفوت الإمساك بالمعروف فيلزمه التسريح بالإحسان فإذا امتنع ناب القاضي منابه دفعا للظلم دل عليه قول ذلك الملاعن عند النبي عليه الصلاة والسلام كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا قاله بعد اللعان " وتكون الفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " لأن فعل القاضي انتسب إليه كما في العنين " وهو خاطب إذا أكذب نفسه " عندهما وقال أبو يوسف رحمه الله هو تحريم مؤبد لقوله عليه الصلاة والسلام: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " نص على التأبيد ولهما أن الإكذاب رجوع والشهادة بعد الرجوع لا حكم لها ولا يجتمعان ما داما متلاعنين ولم يبق التلاعن ولا حكمه بعد الإكذاب فيجتمعان " ولو كان القذف بنفي الولد نفى القاضي نسبه وألحقه بأمه " وصورة اللعان أن يأمر الحاكم الرجل فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتك به من نفي الولد وكذا في جانب المرأة. " ولو قذفها بالزنا ونفى الولد ذكر في اللعان الأمرين ثم ينفي القاضي نسب الولد ويلحقه بأمه " لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نفى ولد امرأة هلال بن أمية عن هلال وألحقه بها ولأن المقصود من هذا اللعان نفي الولد فيوفر عليه مقصوده فيتضمنه القضاء بالتفريق وعن أبي يوسف رحمه الله أن القاضي يفرق ويقول قد ألزمته أمه وأخرجته من نسب الأب لأنه ينفك عنه فلا بد من ذكره " فإن عاد الزوج وأكذب نفسه حده القاضي " لإقراره بوجوب الحد عليه " وحل له أن يتزوجها " وهذا عندهما لأنه لما حد لم يبق أهلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 للعان فارتفع حكمه المنوط به وهو التحريم " وكذلك إن قذف غيرها فحد به " لما بينا وكذا إذا زنت فحدت لانتفاء أهلية اللعان من جانبها. " وإذا قذف امرأته وهي صغيرة أو مجنونة فلا لعان بينهما " لأنه لا يحد قاذفها لو كان أجنبيا فكذا لا يلاعن الزوج لقيامه مقامه " وكذا إذا كان الزوج صغيرا أو مجنونا " لعدم أهلية الشهادة " وقذف الأخرس لا يتعلق به اللعان " لأنه يتعلق بالصريح كحد القذف وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وهذا لأنه لا يعرى عن الشبهة والحدود تندرئ بها. " وإذا قال الزوج ليس حملك مني فلا لعان بينهما " وهذا قول أبي حنيفة زفر رحمهما الله لأنه لا يتيقن بقيام الحمل فلم يصر قاذفا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله اللعان يجب بنفي الحمل إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر وهو معنى ما ذكر في الأصل لأنا تيقنا بقيام الحمل عنده فيتحقق القذف قلنا إذا لم يكن قذفا في الحال يصير كالمعلق بالشرط فيصير كأنه قال إن كان بك حمل فليس مني والقذف لا يصح تعليقه بالشرط " فإن قال لها زنيت وهذا الحمل من الزنا تلاعنا " لوجود القذف حيث ذكر الزنا صريحا " ولم ينف القاضي الحمل " وقال الشافعي رحمه الله ينفيه لأنه عليه الصلاة والسلام نفى الولد عن هلال وقد قذفها حاملا ولنا أن الأحكام لا تترتب عليه إلا بعد الولادة لتمكن الاحتمال قبله والحديث محمول على أنه عرف قيام الحبل بطريق الوحي. " وإذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة أو في الحالة التي تقبل التهنئة وتبتاع آلة الولادة صح نفيه ولاعن به وإن نفاه بعد ذلك لاعن ويثبت النسب هذا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يصح نفيه في مدة النفاس " لأن النفي يصح في مدة قصيرة ولا يصح في مدة طويلة ففصلنا بينهما بمدة النفاس لأنه أثر الولادة وله أنه لا معنى للتقدير لأن الزمان للتأمل وأحوال الناس فيه مختلفة فاعتبرنا ما يدل عليه وهو قبوله التهنئة أو سكوته عند التهنئة أو ابتياعه متاع الولادة أو مضي ذلك الوقت فهو ممتنع عن النفي ولو كان غائبا ولم يعلم بالولادة ثم قدم تعتبر المدة التي ذكرناها على الأصلين. قال: " وإذا ولدت ولدين في بطن واحد فنفى الأول واعترف بالثاني يثبت نسبهما " لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد " وحد الزوج " لأنه أكذب نفسه بدعوى الثاني " وإن اعترف بالأول ونفى الثاني يثبت نسبهما " لما ذكرنا " ولاعن " لأنه قاذف بنفي الثاني ولم يرجع عنه والإقرار بالعفة سابق على القذف فصار كما إذا قال إنها عفيفة ثم قال هي زانية وفي ذلك التلاعن كذا هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 باب العنين وغيره " وإذا كان الزوج عنينا أجله الحاكم سنة فإن وصل إليها فبها وإلا فرق بينهما إذا طلبت المرأة ذلك " هكذا روي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم ولأن الحق ثابت لها في الوطء ويحتمل أن يكون الامتناع لعلة معترضة ويحتمل لآفة أصلية فلا بد من مدة معرفة لذلك وقدرناها بالسنة لاشتمالها على الفصول الأربعة فإذا مضت المدة ولم يصل إليها تبين أن العجز بآفة أصلية ففات الإمساك بالمعروف ووجب عليه التسريح بالإحسان فإذا امتنع ناب القاضي منابه ففرق بينهما ولا بد من طلبها لأن التفريق حقها " وتلك الفرقة تطليقة بائنة " لأن فعل القاضي أضيف إلى فعل الزوج فكأنه طلقها بنفسه وقال الشافعي رحمه الله هو فسخ لكن النكاح لا يقبل الفسخ عندنا وإنما تقع بائنة لأن المقصود وهو دفع الظلم عنها لا يحصل إلا بها لو لم تكن بائنة تعود معلقة بالمراجعة " ولها كمال مهرها إن كان خلا بها " إن خلوة العنين صحيحة " ويجب العدة " لما بينا من قبل هذا إذا اقر الزوج أنه لم يصل إليها. " ولو اختلف الزوج والمرأة في الوصول إليها فإن كانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه " لأنه ينكر استحقاق حق الفرقة والأصل هو السلامة في الجبلة " ثم إن حلف بطل حقها وإن نكل يؤجل سنة وإن كانت بكرا نظر إليها النساء فإن قلن هي بكر أجل سنة " لظهور كذبه " وإن قلن هي ثيب يحلف الزوج فإن حلف لا حق لها وإن نكل يؤجل سنة وإن كان مجبوبا فرق بينهما في الحال إن طلبت " لأنه لا فائدة في التأجيل " والخصي يؤجل كما يؤجل العنين " لأن وطأه مرجو. " وإذا أجل العنين سنة وقال قد جامعتها وأنكرت نظر إليها النساء فإن قلن هي بكر خيرت " لأن شهادتهن تأيدت بمؤيد وهي البكارة " وإن قلن هي ثيب حلف الزوج فإن نكل خيرت " لتأيدها بالنكول. " وإن حلف لا تخير وإن كانت ثيبا في الأصل فالقول قوله مع يمينه " وقد ذكرناه " فإن اختارت زوجها لم يكن لها بعد ذلك خيار " لأنها رضيت ببطلان حقها وفي التأجيل تعتبر السنة القمرية هو الصحيح ويحتسب بأيام الحيض وبشهر رمضان لوجود ذلك في السنة ولا يحتسب بمرضه ومرضها لأن السنة قد تخلو عنه " وإذا كان بالزوجة عيب فلا خيار للزوج ". وقال الشافعي رحمه الله: ترد بالعيوب الخمسة: وهي الجذام، والبرص، والجنون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 والرتق والقرن لأنها تمنع الاستيفاء حسا أو طبعا والطبع مؤيد بالشرع قال عليه الصلاة والسلام فر من المجذوم فرارك من الأسد ولنا أن فوت الاستيفاء أصلا بالموت لا يوجب الفسخ فاختلاله بهذه العيوب أولى وهذا الأن الاستيفاء من الثمرات والمستحق هو التمكن وهو حاصل. " وإذا كان بالزوج جنون أو برص أو جذام فلا خيار لها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لها الخيار " دفعا للضرر عنها كما في الجب والعنة بخلاف جانبه لأنه متمكن من دفع الضرر بالطلاق ولهما أن الأصل عدم الخيار لما فيه من إبطال حق الزوج وإنما يثبت في الجب والعنة لأنهما يخلان بالمقصود المشروع له النكاح وهذه العيوب غير مخلة به فافترقا والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 باب العدة " وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا بائنا أو رجعيا أو وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق وهي حرة ممن تحيض فعدتها ثلاثة أقراء " لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] والفرقة إذا كانت بغير طلاق فهي في معنى الطلاق لأن العدة وجبت للتعرف عن براءة الرحم في الفرقة الطارئة على النكاح وهذا يتحقق فيها والأقراء الحيض عندنا. وقال الشافعي رحمه الله الأطهار واللفظ حقيقة فيهما إذ هو من الأضداد كذا قاله ابن السكيت ولا ينتظمهما جملة للاشتراك والحمل على الحيض أولى إما عملا بلفظ الجمع لأنه لو حمل على الأطهار والطلاق يوقع في طهر لم يبق جمعا أو لأنه معرف لبراءة الرحم وهو المقصود أو لقوله عليه الصلاة والسلام: " وعدة الأمة حيضتان " فيلتحق بيانا به " وإن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر فعدتها ثلاثة أشهر " لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: من الآية4] الآية وكذا التي بلغت بالسن ولم تحض بآخر الآية. " وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها " لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: من الآية4] " وإن كانت أمة فعدتها حيضتان " لقوله عليه الصلاة والسلامك " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " ولأن الرق منصف والحيضة لا تتجزأ فكملت فصارت حيضتين وإليه أشار عمر رضي الله عنه بقوله لو استطعت لجعلتها حيضة ونصفا " وإن كانت لا تحيض فعدتها شهر ونصف " لأنه متجز فأمكن تنصيفه عملا بالرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 " وعدة الحرة في الوفاة أربعة أشهر وعشر " لقوله تعالى: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] " وعدة الأمة شهران وخمسة أيام " لأن الرق منصف " وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها " لإطلاق قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة وقال عمر رضي الله عنه لو وضعت وزوجها على سريره لانقضت عدتها وحل لها أن تتزوج. " وإذا ورثت المطلقة في المرض فعدتها أبعد الأجلين " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله ثلاث حيض ومعناه إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا. أما إذا كان رجعيا فعليها عدة الوفاة بالإجماع لأبي يوسف رحمه الله أن النكاح قد انقطع قبل الموت بالطلاق ولزمتها ثلاث حيض وإنما تجب عدة الوفاة إذا زال النكاح في الوفاة إلا أنه بقي في حق الإرث لا في حق تغير العدة بخلاف الرجعي لأن النكاح باق من كل وجه ولهما أنه لما بقي في حق الإرث يجعل باقيا في حق العدة احتياطا فيجمع بينهما ولو قتل على ردته حتى ورثته امرأته فعدتها على هذا الاختلاف وقيل عدتها بالحيض بالإجماع لأن النكاح حينئذ ااعتبر باقيا إلى وقت الموت في حق الإرث لأن المسلمة لا ترث من الكافر " فإذا عتقت الأمة في عدتها من طلاق رجعي انتقلت عدتها إلى عدة الحرائر " لقيام النكاح من كل وجه " وإن أعتقت وهي مبتوتة أو متوفى عنها زوجها لم تنتقل عدتها " إلى عدة الحرائر لزوال النكاح بالبينونة أو الموت " وإن كانت آيسة فاعتدت بالشهور ثم رأت الدم انتقض ما مضى من عدتها وعليها أن تستأنف العدة بالحيض " ومعناه إذا رأت الدم على العادة لأن عودها يبطل الإياس هو الصحيح فظهر أنه لم يكن خلفا وهذا لأن شرط الخلفية تحقق اليأس وذلك باستدامة العجز إلى الممات كالفدية في حق الشيخ الفاني. " ولو حاضت حيضتين ثم أيست تعتد بالشهور " تحرزا عن الجمع بين البدل والمبدل " والمنكوحة نكاحا فاسدا والموطوءة بشبهة عدتهما الحيض في الفرقة والموت " لأنها للتعرف عن براءة الرحم لا لقضاء حق النكاح والحيض هو المعرف. " وإذا مات مولى أم الولد عنها أو أعتقها بعدتها ثلاث حيض وقال الشافعي رحمه الله حيضة واحدة " لأنها تجب بزوال ملك اليمين فشابهت الاستبراء ولنا أنها وجبت بزوال الفراش فأشبه عدة النكاح ثم إمامنا فيه عمر رضي الله عنه فإنه قال عدة أم الولد ثلاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 حيض " ولو كانت ممن لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر " كما في النكاح. " وإذا مات الصغير عن امرأته وبها حبل فعدتها أن تضع حملها " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله عدتها أربعة أشهر وعشر وهو قول الشافعي رحمه الله لأن الحمل ليس بثابت النسب منه فصار كالحادث بعد الموت ولهما إطلاق قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأنها مقدرة بمدة وضع الحمل في أولات الأحمال قصرت المدة أو طالت لا للتعرف عن فراغ الرحم لشرعها بالأشهر مع وجود الأقراء لكن لقضاء حق النكاح وهذا المعنى يتحقق في الصبي وإن لم يكن الحمل منه بخلاف الحمل الحادث لأنه وجبت العدة بالشهور فلا تتغير بحدوث الحمل وفيما نحن فيه كما وجبت وجبت مقدرة بمدة الحمل فافترقا ولا يلزم امرأة الكبير إذا حدث لها الحبل بعد الموت لأن النسب يثبت منه فكان كالقائم عند الموت حكما " ولا يثبت نسب الولد في الوجهين " لأن الصبي لا ماء له فلا يتصور منه العلوق والنكاح يقوم مقامه في موضع التصور. " وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض لم تعتد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق " لأن العدة مقدرة بثلاث حيض كوامل فلا ينقص عنها. " وإذا وطئت المعتدة بشبهة فعليها عدة أخرى وتداخلت العدتان ويكون ما تراه المرأة من الحيض محتسبا منهما جميعا وإذا انقضت العدة الأولى ولم تكمل الثانية فعليها تمام العدة الثانية " وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا تتداخلان لأن المقصود هو العبادة فإنها عبادة كف عن التزوج والخروج فلا تتداخلان كالصومين في يوم واحد ولنا أن المقصود التعرف عن فراغ الرحم وقد حصل بالواحدة فتتداخلان ومعنى العبادة تابع ألا ترى أنها تنقضي بدون علمها ومع تركها الكف. " والمعتدة عن وفاة إذا وطئت بشبهة تعتد بالشهور وتحتسب بما تراه من الحيض فيها " تحقيقا للتداخل بقدر الإمكان " وإبتداء العدة في الطلاق عقيب الطلاق وفي الوفاة عقيب الوفاة فإن لم تعلم بالطلاق أو الوفاة حتى مضت مدة العدة فقد انقضت عدتها " لأن سبب وجوب العدة الطلاق أو الوفاة فيعتبر ابتداؤها من وقت وجود السبب ومشايخنا رحمهم الله يفتون في الطلاق أن ابتداءها من وقت الإقرار نفيا لتهمة المواضعة " والعدة في النكاح الفاسد عقيب التفريق أو عزم الواطئ على ترك وطئها " وقال زفر رحمه الله من آخر الوطآت لأن الوطء هو السبب الموجب ولنا أن كل وطء وجد في العقد الفاسد يجري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 مجرى الوطأة الواحدة لاستناد الكل إلى حكم عقد واحد ولهذا يكتفى في الكل بمهر واحد فقبل المتاركة أو العزم لا تثبت العدة مع جواز وجود غيره ولأن التمكن على وجه الشبهة أقيم مقام حقيقة الوطء لخفائه ومساس الحاجة إلى معرفة الحكم في حق غيره. " وإذا قالت المعتدة انقضت عدتي وكذبها الزوج كان القول قولها مع اليمين " لأنها أمينة في ذلك وقد اتهمت بالكذب فتحلف كالمودع. " وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا بائنا ثم تزوجها في عدتها وطلقها قبل الدخول بها فعليه مهر كامل وعليها عدة مستقبلة وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله عليه نصف المهر وعليها إتمام العدة الأولى " لأن هذا طلاق قبل المسيس فلا يوجب كمال المهر ولا استئناف العدة وإكمال العدة الأولى إنما يجب بالطلاق الأول إلا أنه لم يظهر حال التزوج الثاني فإذا ارتفع بالطلاق الثاني ظهر حكمه كما لو اشترى أم ولده ثم أعتقها ولهما أنها مقبوضة في يده حقيقة بالوطأة الأولى وبقي أثره وهو العدة فإذا جدد النكاح وهي مقبوضة ناب ذلك القبض عن القبض المستحق في هذا النكاح كالغاصب يشتري المغصوب الذي في يده يصير قابضا بمجرد العقد فوضح بهذا أنه طلاق بعد الدخول. وقال زفر رحمه الله: لا عدة عليها أصلا لأن الأولى قد سقطت بالتزوج فلا تعود والثانية لم تجب وجوابه ما قلنا. " وإذا طلق الذمي الذمية فلا عدة عليها وكذا إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة فإن تزوجت جاز إلا أن تكون حاملا وهذا كله عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا عليها وعلى الذمية العدة " أما الذمية فالاختلاف فيها نظير الاختلاف في نكاحهم محارمهم وقد بيناه في كتاب النكاح وقول أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا كان معتقدهم أنه لا عدة عليها. وأما المهاجرة فوجه قولهما إن الفرقة لو وقعت بسبب آخر وجبت العدة فكذا بسبب التباين بخلاف ما إذا هاجر الرجل وتركها لعدم التبليغ وله قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] ولأن العدة حيث وجبت كان فيها حق بني آدم والحربي ملحق بالجماد حتى كان محلا للتملك إلا أن تكون حاملا لأن في بطنها ولدا ثابت النسب وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجوز نكاحها ولا يطؤها كالحبلى من الزنا والأول أصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فصل وعلى المبتونة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد ... فصل قال: " وعلى المبتوتة والمتوفى عنها زوجها إذا كانت بالغة مسلمة الحداد " أما المتوفى عنها زوجها فلقوله عليه الصلاة والسلام " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا " وأما المبتوتة فمذهبنا وقال الشافعي رحمه الله لا حداد عليها لأنه وجب إظهارا للتأسف على فوت زوج وفى بعهدها إلى مماته وقد أوحشها بالإبانة فلا تأسف بفوته ولنا ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال " الحناء طيب " ولأنه يجب إظهارا للتأسف على فوت نعمة النكاح الذي هو سبب لصونها وكفاية مؤنها والإبانة أقطع لها من الموت حتى كان لها أن تغسله ميتا قبل الإبانة لا بعدها. " والحداد " ويقال الإحداد وهما لغتان "أن تترك الطيب والزينة والكحل والدهن والمطيب وغير المطيب إلا من عذر وفي الجامع الصغير إلا من وجع ". والمعنى فيه وجهان: أحدهما ما ذكرناه من إظهار التأسف والثاني أن هذه الأشياء دواعي الرغبة فيها وهي ممنوعة عن النكاح فتجتنبها كيلا تصير ذريعة إلى الوقوع في المحرم وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن للمعتدة في الاكتحال والدهن لا يعرى عن نوع طيب وفيه زينة الشعر ولهذا يمنع المحرم عنه قال إلا من عذر لأن فيه ضرورة والمراد الدواء لا الزينة ولو اعتادت الدهن فخافت وجعا فإن كان ذلك أمرا ظاهرا يباح لها لأن الغالب كالواقع وكذا لبس الحرير إذا احتاجت إليه لعذر لا بأس به " ولا تختضب بالحناء " لما روينا " ولا تلبس ثوبا مصبوغا بعصفر ولا بزعفران " لأنه يفوح منه رائحة الطيب. قال: " ولا حداد على كافرة " لأنها غير مخاطبة بحقوق الشرع " ولا على صغيرة " لأن الخطاب موضوع عنها " وعلى الأمة الإحداد " لأنها مخاطبة بحقوق الله تعالى فيما ليس فيه إبطال حق المولى بخلاف المنع من الخروج لأن فيه إبطال حقه وحق العبد مقدم لحاجته. قال: " وليس في عدة أم الولد ولا في عدة النكاح الفاسد إحداد " لأنها ما فاتها نعمة النكاح لتظهر التأسف والإباحة أصل. " ولا ينبغي أن تخطب المعتدة ولا بأس بالتعريض في الخطبة " لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلى أن قال {وَلَكِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة: 235] وقال عليه الصلاة والسلام " السر النكاح " وقال ابن عباس رضي الله عنهما التعريض أن يقول إني أريد أن أتزوج وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه في القول المعروف إني فيك لراغب وإني أريد أن نجتمع. " ولا يجوز للمطلقة الرجعية والمبتوتة الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا والمتوفى عنها زوجها تخرج نهارا وبعض الليل ولا تبيت في غير منزلها " أما المطلقة فلقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قيل الفاحشة نفس الخروج وقيل الزنا ويخرجن لإقامة الحد. وأما المتوفى عنها زوجها فلأنه لا نفقة لها فتحتاج إلى الخروج نهارا لطلب المعاش وقد يمتد إلى أن يهجم الليل ولا كذلك المطلقة لأن النفقة دارة عليها من مال زوجها حتى لو اختلعت على نفقة عدتها قيل إنها تخرج نهارا وقيل لا تخرج لأنها أسقطت حقها فلا يبطل به حق عليها. " وعلى المعتدة أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حال وقوع الفرقة والمو ت" لقوله تعالى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} والبيت المضاف إليها هو البيت الذي تسكنه ولهذا لو زارت أهلها وطلقها زوجها كان عليها أن تعود إلى منزلها فتعتد فيه وقال عليه الصلاة والسلام للتي قتل زوجها " اسكني في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " " وإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها فأخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت " لأن هذا انتقال بعذر والعبادات تؤثر فيها الأعذار فصار كما إذا خافت على متاعها أو خافت سقوط المنزل أو كانت فيها بأجر ولا تجد ما تؤديه " ثم إن وقعت الفرقة بطلاق بائن أو ثلاث لا بد من سترة بينهما ثم لا بأس به " لأنه معترف بالحرمة إلا أن يكون فاسقا يخاف عليها منه فحينئذ تخرج لأنه عذر ولا تخرج عما انتقلت إليه والأولى أن يخرج هو ويتركها. " وإن جعلا بينهما امرأة ثقة تقدر على الحيلولة فحسن وإن ضاق عليهما المنزل فلتخرج والأولى خروجه وإذا خرجت المرأة مع زوجها إلى مكة فطلقها ثلاثا أو مات عنها في غير مصر فإن كان بينها وبين مصرها أقل من ثلاثة أيام رجعت إلى مصرها " لأنه ليس بابتداء الخروج معنى بل هو بناء "وإن كانت مسيرة ثلاثة أيام إن شاءت رجعت وإن شاءت مضت سواء كان معها ولي أو لم يكن " معناه إذا كان إلى المقصد ثلاثة أيام أيضا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 لأن المكث في ذلك المكان أخوف عليها من الخروج إلا أن الرجوع أولى ليكون الاعتداد في منزل الزوج قال: " إلا أن يكون طلقها أو مات عنها زوجها في مصر فإنها لا تخرج حتى تعتد ثم تخرج إن كان لها محرم " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن كان معها محرم فلا بأس بأن تخرج من المصر قبل أن تعتد " لهما أن نفس الخروج مباح دفعا لأذى الغربة ووحشة الوحدة وهذا عذر وإنما الحرمة للسفر وقد ارتفعت بالمحرم وله أن العدة أمنع من الخروج من عدم المحرم فإن للمراة أن تخرج إلى ما دون السفر بغير محرم وليس للمعتدة ذلك فلما حرم عليها الخروج إلى السفر بغير المحرم ففي العدة أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 باب ثبوت النسب " ومن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها فولدت ولدا لستة أشهر من يوم تزوجها فهو ابنه وعليه المهر " أما النسب فلأنها فراشه لأنها لما جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح فقد جاءت به لأقل منها من وقت الطلاق فكان العلوق قبله في حالة النكاح والتصور ثابت بأن تزوجها وهو يخالطها فوافق الإنزال النكاح والنسب يحتاط في إثباته وأما المهر فلأنه لما ثبت النسب منه جعل واطئا حكما فتأكد المهر به. قال: " ويثبت نسب ولد المطلقة الرجعية إذا جاءت به لسنتين أو أكثر مالم تقر بانقضاء عدتها " لاحتمال العلوق في حالة العدة لجواز أنها تكون ممتدة الطهر " وإن جاءت به لأقل من سنتين بانت من زوجها بانقضاء العدة وثبت نسبه " لوجود العلوق في النكاح أو في العدة فلا يصير مراجعا لأنه يحتمل العلوق قبل الطلاق ويحتمل بعده فلا يصير مراجعا بالشك " وإن جاءت به لأكثر من سنتين كانت رجعية " لأن العلوق بعد الطلاق والظاهر أنه منه لانتفاء الزنا منها فيصير بالوطء مراجعا. " والمثبوتة يثبت نسب ولدها إذا جاءت به لأقل من سنتين " لأنه يحتمل أن يكون الولد قائما وقت الطلاق فلا يتيقن زوال الفراش قبل العلوق فيثبت النسب إحتياطا " وإذا جاءت به لتمام سنتين من وقت الفرقة لم يثبت " لأن الحمل حادث بعد الطلاق فلا يكون منه لأن وطأها حرام " إلا أن يدعيه " لأنه لتزمه وله وجه بأن وطئها بشبهة في العدة " فإن كانت المبتونة صغيرة يجامع مثلها فجاءت بولد لتسعة أشهر لم يلزمه حتى تأتي به لأقل من تسعة أشهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله يثبت النسب منه إلى سنتين " لأنها معتدة يحتمل أن تكون حاملا ولم تقر بانقضاء العدة فأشبهت الكبيرة، ولهما أن لانقضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 عدتها جهة متعينة وهو الأشهر فبمضيها يحكم الشرع بالانقضاء وهو في الدلالة فوق إقرارها لأنه لا يحتمل الخلاف والإقرار يحتمله وإن كانت مطلقة طلاقا رجعيا فكذلك الجواب عندهما وعنده يثبت إلى سبعة وعشرين شهرا لأنه يجعل واطئا في آخر العدة وهي الثلاثة الأشهر ثم تأتي به لأكثر مدة الحمل وهو سنتان وإن كانت الصغيرة ادعت الحبل في العدة فالجواب فيها وفي الكبيرة سواء لأن بإقرارها يحكم ببلوغها. " ويثبت نسب ولد المتوفى عنها زوجها ما بين الوفاة وبين السنتين " وقال زفر رحمه الله إذا جاءت به بعد انقضاء عدة الوفاة لستة أشهر لا يثبت النسب لأن الشرع حكم بانقضاء عدتها بالشهور لتعين الجهة فصار كما إذا أقرت بالانقضاء كما بينا في الصغيرة إلا أنا نقول لانقضاء عدتها جهة أخرى وهو وضع الحمل بخلاف الصغيرة لأن الأصل فيها عدم الحبل لأنها ليست بمحل قبل البلوغ وفيه شك. " وإذا اعترفت المعتدة بانقضاء عدتها ثم جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر يثبت نسبه " لأنه ظهر كذبها بيقين فبطل الإقرار " وإن جاءت به لستة أشهر لم يثبت " لأنا لم نعلم ببطلان الإقرار لاحتمال الحدوث بعده وهذا اللفظ بإطلاقه يتناول كل معتدة. " وإذا ولدت المعتدة ولدا لم يثبت نسبه عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يشهد بولادتها رجلان أو رجل وامرأتان إلا أن يكون هناك حبل ظاهر أو اعتراف من قبل الزوج فيثبت النسب من غير شهادة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يثبت في الجميع بشهادة امرأة واحدة " لأن الفراش قائم بقيام العدة وهو ملزم للنسب والحاجة إلى تعيين الولد أنه منها فيتعين بشهادتها كما في حال قيام النكاح ولأبي حنيفة رحمه الله تنقضي بإقرارها بوضع الحمل والمنقضي ليس بحجة فمست الحاجة إلى إثبات النسب ابتداء فيشترط كمال الحجة بخلاف ما إذا كان ظهرالحبل أو صدر الاعتراف من الزوج لأن النسب ثابت قبل الولادة والتعين يثبت بشهادتها " فإن كانت معتدة عن وفاة فصدقها الورثة في الولادة ولم يشهد على الولادة أحد فهو ابنه في قولهم جميعا " وهذا في حق الإرث ظاهر لأنه خالص حقهم فيقبل فيه تصديقهم أما في حق النسب هل يثبت في حق غيرهم قالوا إذا كانوا من أهل الشهادة يثبت لقيام الحجة ولهذا قيل تشترط لفظة الشهادة وقيل لا تشترط لأن الثبوت في حق غيرهم تبع للثبوت في حقهم بإقراراهم وما ثبت تبعا لا يراعى فيه الشرائط. " وإذا تزوج الرجل امرأة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ يوم تزوجها لم يثبت نسبه " لأن العلوق سابق على النكاح فلا يكون منه " وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا يثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 نسبه اعترف به الزوج أو سكت " لأن الفراش قائم والمدة تامة " فإن جحد الولادة يثبت بشهادة امرأة واحدة تشهد بالولادة حتى لو نفاه الزوج يلاعن " لأن النسب يثبت بالفراش القائم واللعان إنما يجب بالقذف وليس من ضرورته وجود الولد فإنه يصح بدونه " فإن ولدت ثم اختلفا فقال الزوج تزوجتك منذ أربعة وقالت هي منذ ستة أشهر فالقول قولها وهو ابنه " لأن الظاهر شاهد لها فإنها تلد ظاهرا من نكاح لا من سفاح ولم يذكر الاستحلاف وهو على الاختلاف. " وإن قال لامرأته إذا ولدت ولدا فأنت طالق فشهدت امرأة على الولادة لم تطلق عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تطلق " لأن شهادتها حجة في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: " شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه " ولأنها لما قبلت في الولادة تقبل فيما يبتنى عليها وهو الطلاق. ولأبي حنيفة رحمه الله أنها ادعت الحنث فلا يثبت إلا بحجة تامة وهذا لأن شهادتهن ضرورية في حق الولادة فلا تظهر في حقا الطلاق لأنه ينفك عنها " وإن كان الزوج قد أقر بالحبل طلقت من غير شهادة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تشترط شهادة القابلة " لأنه لا بد من حجة لدعواها الحنث وشهادتها حجة فيه على ما بينا وله أن الإقرار بالحبل إقرار بما يفضي إليه وهو الولادة ولأنه أقر بكونها مؤتمنة فيقبل قولها في رد الأمانة. قال: " وأكثر مدة الحمل سنتان " لقول عائشة رضي الله عنها الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين ولو بطل مغزل " وأقله ستة أشهر " لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] ثم قال {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فبقي للحمل ستة أشهر والشافعي رحمه الله يقدر الأكثر بأربع سنين والحجة عليه ما رويناه والظاهر أنها قالته سماعا إذ العقل لا يهتدى إليه. " ومن تزوج أمة فطلقها ثم اشتراها فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ يوم اشتراها لزمه وإلا لم يلزمه " لأنه في الوجه الأول ولد المعتدة فإن العلوق سابق على الشراء وفي الوجه الثاني ولد المملوكة لأنه يضاف الحادث إلى أقرب وقته فلا بد من دعوة وهذا إذا كان الطلاق واحدا بائنا أو خلعا أو رجعيا أما إذا كان اثنتين يثبت النسب إلى سنتين من وقت الطلاق لأنها حرمت عليه حرمة غليظة فلا يضاف العلوق إلا إلى ما قبله لأنها لا تحل بالشراء. " ومن قال لأمته إن كان في بطنك ولد فهو مني فشهدت على الولادة امرأة فهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 أم ولده لأن الحاجة إلى تعيين الولد ويثبت ذلك بشهادة القابلة بالإجماع. " ومن قال الغلام هو ابني ثم مات فجاءت أم الغلام وقالت أنا امرأته فهي امرأته وهو ابنه يرثانه " وفي النوادر جعل هذا جواب الاستحسان والقياس أن لا يكون لها الميراث لأن النسب كما يثبت بالنكاح الصحيح يثبت بالنكاح الفاسد وبالوطءعن شبهة وبملك اليمين فلم يكن قوله إقرارا بالنكاح وجه الاستحسان أن المسألة فيما إذا كانت معروفة بالحرية وبكونها أم الغلام والنكاح الصحيح هو المتعين لذلك وضعا وعادة " ولو لم يعلم بأنها حرة فقالت الورثة أنت أم ولد فلا ميراث لها " لأن ظهور الحرية باعتبار الدار حجة في دفع الرق لا في استحقاق الميراث والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 باب الولد من أحق به " وإذا وقعت الفرقة ين الزوجين فالأم أحق بالولد " لما روى أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال عليه الصلاة والسلام: " أنت أحق به مالم تتزوجي " ولأن الأم أشفق وأقدر على الحضانة فكان الدفع إليها أنظر وإليه أشار الصديق رضي الله عنه بقوله ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر قاله حين وقعت الفرقة بينه وبين امرأته والصحابة حاضرون متوافرون. " والنفقة على الأب " على ما نذكر " ولا تجبر الأم عليه " لأنها عست تعجز عن الحضانة " فإن لم تكن له أم فأم الأم أولى من أم الأب وإن بعدت " لأن هذه الولاية تستفاد من قبل الأمهات " فإن لم تكن أم الأم فأم الأب أولى من الأخوات " لأنها من الأمهات ولهذا تحرز ميراثهن السدس ولأنها أوفر شفقة للأولاد " فإن لم تكن له جدة فالأخوات أولى من العمات والخالات " لأنهن بنات الأبوين ولهذا قدمن في الميراث وفي رواية الخالة أولى من الأخت لأب لقوله عليه الصلاة والسلام " الخالة والدة " وقيل في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] أنها كانت خالته " وتقدم الأخت لأب وأم " لأنها أشفق " ثم الأخت من الأم ثم الأخت من الأب " لأن الحق لهن من قبل الأم " ثم الخالات أولى من العمات " ترجيحا لقرابة الأم " وينزلن كما نزلنا الأخوات " معناه ترجيح ذات قرابتين ثم قرابة الأم " ثم العمات ينزلن كذلك وكل من تزوجت من هؤلاء يسقط حقها " لما روينا ولأن زوج الأم إذا كان أجنبيا يعطيه نزرا وينظر إليه شزرا فلا نظر قال " إلا الجدة إذا كان زوجها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 الجد " لأنه قام مقام أبيه فينظر له " وكذلك كل زوج هو ذو رحم محرم منه " لقيام الشفقة نظرا إلى القرابة القريبة. " ومن سقط حقها بالتزوج يعود إذا ارتفعت الزوجية " لأن المانع قد زال " فإن لم تكن للصبي امرأة من أهله فاختصم فيه الرجال فأولاهم أقربه تعصيبا " لأن الولاية للأقرب وقد عرف الترتيب في موضعه غير أن الصغيرة لا تدفع إلى عصبة غير محرم كمولى العتاقة وابن العم تحرزا عن الفتنة. " والأم والجدة أحق بالغلام حتى يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ويستنجي وحده وفي الجامع الصغير حتى يستغني فيأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده " والمعنى واحد لأن تمام الاستغناء بالقدرة على الاستنجاء. ووجهه أنه إذا استغنى يحتاج إلى التأدب والتخلق بآداب الرجال وأخلاقم والأب أقدر على التأديب والتثقيف والخصاف رحمه الله قدر الاستغناء بسبع سنين اعتبارا للغالب " والأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض " لأن بعد الاستغناء تحتاج إلى معرفة آداب النساء والمرأة على ذلك أقدر وبعد البلوغ تحتاج إلى التحصين والحفظ والأب فيه أقوى وأهدى وعن محمد رحمه الله أنها تدفع ألى الأب إذا بلغت حد الشهوة لتحقق الحاجة إلى الصيانة " ومن سوى الأم والجدة أحق بالجارية حتى تبلغ حدا تشتهى وفي الجامع الصغير حتى تستغنى " لأنها لا تقدر على استخدامها ولهذا لا تؤاجراها للخدمة فلا يحصل المقصود بخلاف الأم والجدة لقدرتهما عليه شرعا. قال: " والأمة إذا أعتقها مولاها وأم الولد إذا أعتقت كالحرة في حق الولد " لأنهما حرتان أو أن ثبوت الحق " وليس لهما قبل العتق حق في الولد " لعجزهما عن الحضانة بالاشتغال بخدمة المولى. " والذمية أحق بولدها المسلم ما لم يعق الأديان أويخاف أن يألف الكفر " للنظر قبل ذلك واحتمال الضرر بعده " ولا خيار للغلام والجارية " وقال الشافعي رحمه الله لهما الخيار لأن النبي عليه الصلاة والسلام خير ولنا أنه لقصور عقله يختار من عنده الدعة لتخليته بينه وبين اللعب فلا يتحقق النظر وقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم لم يخيروا وأما الحديث فقلنا قد قال عليه الصلاة والسلام اللهم اهده فوفق لاختياره الأنظر بدعائه عليه الصلاة والسلام أو يحمل على ما إذا كان بالغا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 فصل وإذا أرادت المطلقة أن تخرج بولدها من المصر فليس لها ذلك " لما فيه من الإضرار بالأب " إلا أن تخرج به إلى وطنها وقد كان الزوج تزوجها فيه " لأنه التزم المقام فيه عرفا وشرعا. قال عليه الصلاة والسلام: " من تأهل ببلدة فهو منهم " ولهذا يصير الحربي به ذميا وإن أرادت الخروج إلى مصر غير وطنها وقد كان التزوج فيه أشار في الكتاب إلى أنه ليس لها ذلك وهذه رواية كتاب الطلاق وقد ذكر في الجامع الصغير أن لها ذلك لأن العقد متى وجد في مكان يوجب أحكامه فيه كما يوجب البيع التسليم في مكانه ومن جملة ذلك حق إمساك الأولاد وجه الأول أن التزوج في دار الغربة ليس التزاما للمكث فيه عرفا وهذا أصح. والحاصل: أنه لا بد من الأمرين جميعا الوطن ووجود النكاح وهذا كله إذا كان بين المصرين تفاوت أما إذا تقاربا بحيث يمكن للوالد أن يطالع ولده ويبيت في بيته فلا بأس به وكذا الجواب في القريتين ولو انتقلت من قرية المصر إلى المصر لا بأس به لأن فيه نظرا للصغيرحيث يتخلف بأخلاق أهل المصر وليس فيه ضرر بالأب وفي عكسه ضرر بالصغير لتخلقه بأخلاق السواد فليس لها ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 باب النفقة مدخل ... باب النفقة قال: " النفقة واجبة للزوجة على زوجها مسلمة كانت أو كافرة إذا سلمت نفسها إلى منزله فعليه نفقتها وكسوتها وسكناها " والأصل في ذلك قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: من الآية7] وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث حجة الوداع: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولأن النفقة جزاء الاحتباس وكل من كان محبوسا بحق مقصود لغيره كانت نفقته عليه أصله القاضي والعامل في الصدقات وهذه الدلائل لا فصل فيها فتستوي فيها المسلمة والكافرة " ويعتبر في ذلك حالهما جميعا " قال العبد الضعيف وهذا اختيار الخصاف وعليه الفتوى وتفسيره أنهما إذا كانا موسرين تجب نفقة اليسار وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار وإن كانت معسرة والزوج موسرا فنفقتها دون نفقة الموسرات وفوق نفقة المعسرات وقال الكرخي رحمه الله يعتبر حال الزوج وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وجه الأول قوله عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان: " خذي من مال زوجك ما يكفيك وولدك بالمعروف " اعتبر حالها وهو الفقه فإن النفقة تجب بطريق الكفاية والفقيرة لا تفتقر إلى كفاية الموسرات فلا معنى للزيادة. وأما النص فنحن نقول بموجبه أنه يخاطب بقدر وسعه والباقي دين في ذمته ومعنى قوله بالمعروف الوسط وهو الواجب وبه يتبين أنه لا معنى للتقدير كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أنه على الموسر مدان وعلى المعسر مد وعلى المتوسط مد ونصف مد لأن ما يوجب كفاية لا يتقدر شرعا في نفسه " وإن امتنعت من تسليم نفسها حتى يعطيها مهرها فلها النفقة " لأنه منع بحق فكان فوت الاحتباس بمعنى من قبله فيجعل كلا فائت " وإن نشزت لا نفقة لها حتى تعود إلى منزله " لأن فوت الاحتباس منها وإذا عادت جاء الاحتباس قائم والزوج يقدر على الوطء كرها " وإن كانت صغيرة لا يستمتع بها فلا نفقة لها " لأن امتناع الاستمتاع لمعنى فيها والاحتباس الموجب ما يكون وسيلة إلى مقصود مستحق بالنكاح ولم يوجد بخلاف المريضة على ما نبين. وقال الشافعي رحمه الله لها النفقة لأنها عوض عن الملك عنده كما في المملوكة بملك اليمين ولنا أن المهر عوض عن الملك ولا يجتمع العوضان عن معوض واحد فلها المهر دون النفقة " وإن كان الزوج صغيرا لا يقدر على الوطء وهي كبيرة فلها النفقة من ماله " لأن التسليم قد تحقق منها وإنما العجز من قبله فصار كالمجبوب والعنين. " وإذا حبست المرأة في دين فلا نفقة لها " لأن فوت الاحتباس منها بالمماطلة وإن لم يكن منها بأن كانت عاجزة فليس منه وكذا إذا غصبها رجل كرها فذهب بها. وعن أبي يوسف أن لها النفقة والفتوى على الأول لأن فوت الاحتباس ليس منه ليجعل باقيا تقديرا وكذا إذا حجت مع محرم لأن فوت الاحتباس منها وعن أبي يوسف رحمه الله أن لها النفقة لأن إقامة الفرض عذر ولكن تجب عيه نفقة الحضر دون السفرلأنها هي المستحقة عليه ولو سافر معها الزوج تجب النفقة بالاتفاق لأن الإحتباس قائم لقيامه عليها وتجب نفقة الحضر دون السفر ولا يجب الكراء لما قلنا. " وإن مرضت في منزل الزوج فلها النفقة " والقياس أن لا نفقة لها إذا كان مرضا يمنع من الجماع لفوت الاحتباس للاستمتاع وجه الاستحسان أن الاحتباس قائم فإنه يستأنس بها ويمسها وتحفظ البيت والمانع يعارض فأشبه الحيض وعن أبي يوسف رحمه الله أنها إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 سلمت نفسها ثم مرضت بجب النفقة لتحقق التسليم ولو مرضت ثم سلمت لا تجب لأن التسليم لم يصح قالوا هذا حسن وفي لفظ الكتاب ما يشير إليه. قال: " وتفرض على الزوج النفقة إذا كان موسرا ونفقة خادمها " والمراد بهذا بيان نفقة الخادم ولهذا ذكر في بعض النسخ وتفرض على الزوج إذا كان موسرا نفقة خادمها ووجهه أن كفايتها واجبة عليه وهذا من تمامها إذ لا بد لها منه. " ولا تفرض لأكثر من نفقة خادم واحد " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله تفرض لخادمين لأنها تحتاج إلى أحدهما لمصالح الداخل وإلى الآخر لمصالح الخارج ولهما أن الواحد يقوم بالأمرين فلا ضرورة إلى اثنين ولأنه لو تولى كفايتها بنفسه كان كافيا فكذا إذا أقام الواحد مقام نفسه وقالوا إن الزوج الموسر يلزمه من نفقة الخادم ما يلزم المعسر من نفقة امرأته وهو أدنى الكفاية وقوله في الكتاب إذا كان موسرا إشارة إلى أنه لا تجب نفقة الخادم عند إعساره وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله وهو الأصح خلافا لما قاله محمد رحمه الله لأن الواجب على المعسر أدنى الكفاية وهي قد تكتفي بخدمة نفسها. " ومن أعسر بنفقة امرأته لم يفرق بينهما ويقال لها استديني عليه " وقال الشافعي رحمه الله يفرق لأنه عجز عن الإمساك بالمعروف فينوب القاضي منابه في التفريق كما في الجب والعنة بل أولى لأن الحاجة إلى النفقة أقوى ولنا أن حقه يبطل وحقها يتأخر والأول أقوى في الضرر وهذا لأن النفقة تصير دينا بفرض القاضي فتستوفى في الزمان الثاني وفوت المال وهو تابع في النكاح لا يلحق بما هو المقصود وهو التناسل وفائدة الأمر بالاستدانة مع الفرض أن يمكنها إحالة الغريم على الزوج فأما إذا كانت الاستدانة بغير أمر القاضي كانت المطالبة عليها دون الزوج. " وإذا قضى القاضي لها بنفقة الإعسار ثم أيسر فخاصمته تمم لها نفقة الموسر " لأن النفقة تختلف بحسب اليسار والإعسار وما قضى به تقدير لنفقة لم تجب فإذا تبدل حاله فلها المطالبة بتمام حقها. " وإذا مضت مدة لم ينفق الزوج عليها وطالبته بذلك فلا شيء لها إلا أن يكون القاضي فرض لها النفقة أو صالحت الزوج على مقدار نفقتها فيقضي لها بنفقة ما مضى " لأن النفقة صلة وليست بعوض عندنا عل مامر من قبل فلا يستحكم الوجوب فيها إلا بالقضاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 لا توجب الملك إلا بمؤكد وهو القبض والصلح بمنزلة القضاء لأن ولايته على نفسه أقوى من ولاية القاضي بخلاف المهر لأنه عوض. " وإن مات الزوج بعد ما قضي عليه بالنفقة ومضى شهور سقطت النفقة " وكذا إذا ماتت الزوجة لأن النفقة صلة والصلات تسقط بالموت كالهبة تبطل بالموت قبل القبض وقال الشافعي رحمه الله تصير دينا قبل القضاء ولا تسقط بالموت لأنه عوض عنده فصار كسائر الديون وجوابه قد بيناه. " وإن أسلفها نفقة السنة " أي عجلها " ثم مات لم يسترجع منها شيء وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحتسب لها نفقة ما مضى وما بقي فهو للزوج " وهو قول الشافعي رحمه الله وعلى هذا الخلاف الكسوة لأنها استعجلت عوضا عما تستحقه عليه بالاحتباس وقد بطل الاستحقاق بالموت فيبطل العوض بقدره كرزق القاضي وعطاء المقاتلة ولهما أنه صلة وقد اتصل به القبض ولا رجوع في الصلات بعد الموت لانتهاء حكمها كما في الهبة ولهذا لو هلكت من غير استهلاك لا يسترد شيء منها بالإجماع وعن محمد رحمه الله أنها إذا قبضت نفقة الشهر أو ما دونه لايسترجع منها شيء لأنه يسير فصار في حكم الحال. " وإذا تزوج العبد حرة فنفقتها دين عليه يباع فيها " ومعناه إذا تزوج بإذن المولى لأنه دين وجب في ذمته لوجود سببه وقد ظهر وجوبه في حق المولى فيتعلق برقبته كدين التجارة في العبد التاجر وله أن يفدى لأن حقها في النفقة لا في عين الرقبة ولو مات العبد سقطت وكذا إذا قتل في الصحيح لأنه صلة. " وإن تزوج الحر أمة فبوأها مولاها معه منزلا فعليه النفقة " لأنه تحقق الاحتباس " وإن لم يبوئها فلا نفقة لها " لعدم الاحتباس والتبوئه أن يخلي بينها وبينه في منزله ولا يستخدمها ولو استخدمها بعد التبوئه سقطت النفقة لأنه فات الاحتباس والتبوئه غير لازمة على ما مر في النكاح ولو خدمته الجارية أحيانا من غير أن يستخدمها لا تسقط النفقة لأنه لم يستخدمها ليكون استردادا والمدبرة وأم الولد في هذا كالأمة والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فصل " وعلى الزوج أن يسكنها في دار مفردة ليس فيها أحد من أهله إلا أن تختار ذلك " لأن السكنى من كفايتها فتجب لها كالنفقة وقد أوجبه الله تعالى مقرونا بالنفقة وإذا أوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 حقا لها ليس له أن يشرك غيرها فيه لأنها تتضرر به فإنها لا تأمن على متاعها ويمنعها ذلك عن المعاشرة مع زوجها ومن الاستمتاع إلا أن تختار لأنها رضيت بانتقاص حقها " وإن كان له ولد من غيرها فليس له أن يسكنه معها " لما بينا ولو أسكنها في بيت من الدار مفرد وله غلق كفاها لأن المقصود قد حصل " وله أن يمنع والديها وولدها من غيره وأهلها من الدخول عليها " لأن المنزل ملكه فله حق المنع من دخول ملكه " ولا يمنعهم من النظر إليها وكلامها في أي وقت اختاروا " لما فيه من قطيعة الرحم وليس له في ذلك ضرر وقيل لا يمنعهم من الدخول والكلام وإنما يمنعهم من القرار والدوام إن الفتنة في اللباث وتطويل الكلام وقيل لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين ولا يمنعهما من الدخول عليها في كل جمعة وفي غيرهما من المحارم التقدير بسنة وهو الصحيح. " وإذا غاب الرجل وله مال في يد رجل يعترف به وبالزوجية فرض القاضي في ذلك المال نفقة زوجة الغائب وولده الصغار ووالديه وكذا إذا علم القاضي ذلك ولم يعترف به " لأنه لما أقر بالزوجية والوديعة فقد أقر أن حق الأخذ لها لأن لها أن تأخذ من مال الزوج حقها من غير رضاه وإقرار صاحب اليد مقبول في حق نفسه لا سيما ههنا فإنه لو أنكر أحد الأمرين لا تقبل بينة المرأة فيه لأن المودع ليس بخصم في إثبات الزوجية عليه ولا المرأة خصم في إثبات حقوق الغائب فإذا ثبت في حقه تعدى إلى الغائب وكذا إذا كان المال في يده مضاربه وكذا الجواب في الدين وهذا كله إذا كان المال من جنس حقها دراهم أو دنانير أو طعاما أو كسوة من جنس حقها أما إذا كان من خلاف جنسه لا تفرض النفقة فيه لأنه يحتاج إلى البيع ولا يباع مال الغائب بالاتفاق أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه لا يباع على الحاضر وكذا على الغائب وأما عندهما فلأنه إن كان يقضي على الحاضر لأنه يعرف امتناعه لا يقضى على الغائب لأنه لا يعرف امتناعه. قال: " ويأخذ منها كفيلا بها " نظرا للغائب لأنها ربما استوفت النفقة أو طلقها الزوج وانقضت عدتها فرق بين هذا وبين الميراث إذا قسم بين ورثة حضور البينة ولم يقولوا لا نعلم له وارثا آخر حيث لا يؤخذ منهم الكفيل عند أبي حنيفة رحمه الله لأن هناك المكفول له مجهول وههنا معلوم وهو الزوج ويحلفها بالله ما أعطاها النفقة نظرا للغائب. قال: " ولا يقضى بنفقة في مال غائب إلا لهؤلاء " ووجه الفرق هو أن نفقة هؤلاء واجبة قبل قضاء القاضي ولهذا كان لهم أن يأخذوا قبل القضاء فكأن قضاء القاضي إعانة لهم أما غيرهم من المحارم فنفقتهم إنما تجب بالقضا لأنه مجتهد فيه والقضاء على الغائب لا يجوز ولو لم يعلم القاضي بذلك ولم يكن مقرا به فأقامت البينة على الزوجية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 أو لم يخلف مالا فأقامت ألبينة ليفرض القاضي نفقتها على الغائب ويأمرها بالاستدانة لا يقضى القاضي بذلك لأن في ذلك قضاء على الغائب. وقا زفر رحمه الله: يقضى فيه لأن فيه نظرا لها ولا ضرر فيه على الغائب فإنه لو حضر وصدقها فقد أخذت حقها وإن جحد يحلف فإن نكل فقد صدق وإن أقامت بينة فقد ثبت حقها وإن عجزت يضمن الكفيل أو المرأة وعمل القضاة اليوم على هذا أنه يقضى بالنفقة على الغائب لحاجة الناس وهو مجتهد فيه وفي هذه المسألة أقاويل مرجوع عنها فلم يذكرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فصل " وإذا طلق الرجل امرأته فلها النفقة والسكنى في عدتها رجعيا كان أو بائنا " وقال الشافعي رحمه الله لا نفقة للمبتوتة إلا إذا كانت حاملا أما الرجعى فلأن النكاح بعده قائم لا سيما عندنا فإنه يحل له الوطء وأما البائن فوجه قوله ما روى عن فاطمة بنت قيس قالت طلقني زوجي ثلاثا فلم يفرض لي رسول الله عليه الصلاة والسلام سكنى ولا نفقة ولأنه لا ملك له وهي مرتبة على الملك ولهذا لا تجب للمتوفي عنها زوجها لانعدامه بخلاف ما إذا كانت حاملا لأنا عرفناه بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: من الآية6] الآية ولنا أن النفقة جزاءاحتباس على ما ذكرنا والاحتباس قائم في حق حكم مقصود بالنكاح وهو الولد إذ العدة واجبة لصيانة الولد فتجب النفقة ولهذا كان لها السكنى بالإجماع وصار كما إذا كانت حاملا وحديث فاطمة بنت قيس رده عمر رضي الله عنه فإنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أم نسبت سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: " للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة " ورده أيضا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأسامة بن زيد وجابر وعائشة رضي الله عنهم. " ولا نفقة للمتوفى عنها زوجها " لأن احتباسها ليس لحق الزوج بل لحق الشرع فإن التربص عبادة منها ألا ترى أن معنى التعرف عن براءة الرحم ليس بمراعى فيه حتى لا يشترط فيها الحيض فلا تجب نفقتها عليه ولأن النفقة تجب شيئا فشيئا ولا ملك له بعد الموت فلا يمكن إيجابها في ملك الورثة. " وكل فرقة جاءت من قبل المرأة بمعصية مثل الردة وتقبيل ابن الزوج فلا نفقة لها " لأنها صارت حابسة نفسها بغير حق فصارت كما إذا كانت ناشزة بخلاف المهر بعد الدخول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 لأنه وجد التسليم في حق المهر بالوطء وبخلاف ما إذا جاءت الفرقة من قبلها بغير معصية كخيار العتق وخيار البلوغ والتفريق لعدم الكفاءة لأنها حبست نفسها بحق وذلك لا يسقط النفقة كما إذا حبست نفسها لاستيفاء المهر. " وإن طلقها ثلاثا ثم ارتدت والعياذ بالله سقطت نفقتها وإن مكنت ابن زوجها من نفسها فلها النفقة " معناه مكنت بعد الطلاق لأن الفرقة تثبت بالطلقات الثلاث ولا عمل فيها للردة والتمكين إلا أن المرتدة تحبس حتى تتوب ولا نفقة للمحبوسة والممكنة لا تحبس فلهذا يقع الفرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فصل " ونفقة الأولاد الصغار على الأب لا يشاركه فيها أحد كما لا يشاركه في نفقة الزوجة " لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] والمولود له هو الأب " وإن كان الصغير رضيعا فليس على أمه أن ترضعه " لما بينا أن الكفاية على الأب وأجرة الرضاع كالنفقة ولأنها عساها لا تقدر عليه لعذر بها فلا معنى للجبر عليه وقيل في تأويل قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] بإلزامها الإرضاع مع كراهتها وهذا الذي ذكرنا بيان الحكم وذلك إذا كان يوجد من ترضعه أما إذا كان لا توجد من ترضعه تجبر الأم على الإرضاع صيانة للصبي عن الضياع. قال: " ويستأجر الأب من ترضعه عندها " أما استئجار الأب فلأن الأجر عليه وقوله عندها معناه إذا أرادت ذلك لأن الحجر لها " وإن استأجرها وهي زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز " لأن الإرضاع مستحق عليها ديانة قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] إلا أنها عذرت لاحتمال عجزها فإذا أقدمت عليه بالأجر ظهرت قدرتها فكان الفعل واجبا عليها فلا يجوز أخذ الآجر عليه وهذا في المعتدة عن طلاق رجعي رواية واحدة لأن النكاح قائم وكذا في المبتوتة في رواية وفي رواية أخر جاز استئجارها لأن النكاح قد زال وجه الأولى أنه باق في حق بعض الأحكام. " ولو استأجرها وهي منكوحته أو معتدته لإرضاع ابن له من غيرها جاز " لأنه غير مستحق عليها " وإن انقضت عدتها فاستأجرها " يعني لإرضاع ولدها " جاز " لأن النكاح قد زال بالكلية وصارت كالأجنبية " فإن قال الأب لا أستأجرها وجاء بغيرها فرضيت الأم بمثل أجر الأجنبية أو رضيت بغير أجر كانت هي أحق " لأنها أشفق فكان نظرا للصبي في الدفع إليها " وإن التمست زيادة لم يجبر الزوج عليها " دفعا للضرر عنه وإليه الإشارة بقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] أي بإلزامه لها أكثر من أجرة الأجنبية. " ونفقة الصغير واجبة على أبيه وإن خالفه في دينه " كما تجب نفقة الزوجة على الزوج وإن خالفته في دينه أما الولد فلإطلاق ما تلونا ولأنه جزؤه فيكون في معنى نفسه وأما الزوجة فلأن السبب هو العقد الصحيح فإنه بإزاء الاحتباس الثابت به وقد صح العقد بين المسلم والكافرة وترتب عليه الاحتباس فوجبت النفقة وفي جميع ما ذكرنا إنما تجب النفقة على الأب إذا لم يكن للصغير مال أما إذا كان فالأصل أن نفقة الإنسان في مال نفسه صغيرا كان أو كبيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فصل " وعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجدته إذا كانوا فقراء وإن خالفوه في دينه " أما الأبوان فلقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: من الآية15] نزلت الآية في الأبوين الكافرين وليس من المعروف أن يعيش في نعم الله تعالى ويتركهما يموتان جوعا وأما الأجداد والجدات فلأنهم من الآباء والأمهات ولهذا يقوم الجد مقام الأب عند عدمه ولأنهم سببوا لإحياءه فاستوجبوا عليه الإحياء بمنزلة الأبوين وشرط الفقر لأنه لو كان ذا مال فإيجاب نفقته في ماله أولى من إيجابها في مال غيره ولا يمنع ذلك باختلاف الدين لما تلونا. " ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين للزوجة والأبوين والأجداد والولد وولد الولد " أما الزوجة فلما ذكرنا أنها واجبة لها بالعقد لاحتباسها لحق له مقصود وهذا يتعلق باتحاد الملة وأما غيرها فلآن الجزئية ثابتة وجزء المرء في معنى نفسه فكما لا يمتنع نفقة نفسه لكفره لا يمتنع نفقة جزئه إلا أنهم إذا كانوا حربيين لا تجب نفقتهم على المسلم وإن كانوا مستأمنين لأنا نهينا عن البر في حق من يقاتلنا في الدين. " ولا تجب على النصراني نفقة أخيه المسلم وكذا لا تجب على المسلم نفقة أخيه النصراني " لأن النفقة متعلقة بالإرث بالنص بخلاف العتق عند الملك لأنه متعلق بالقرابة والمحرمية بالحديث ولأن القرابة موجبة للصلة ومع الاتفاق في الدين آكد ودوام ملك اليمين أعلى في القطيعة من حرمان النفقة فاعتبرنا في الأعلى أصل العلة وفي الأدنى العلة المؤكدة فلهذا افترقا " ولا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد " لأن لهما تأويلا في مال الولد بالنص ولا تأويل لهما في مال غيره ولأنه أقرب الناس إليهما فكان أولى باستحقاق نفقتهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 عليه وهي على الذكور والإناث بالسوية في ظاهر الرواية وهو الصحيح لآن المعنى يشملهما. " والنفقة لكل ذي رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا أو كانت امرأة بالغة فقيرة أو كان ذكرا بالغا فقيرا زمنا أو أعمى " لأن الصلة في القرابة القريبة واجبة دون البعيدة والفاصل أن يكون ذا رحم محرم وقد قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وفي قراءة عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ثم لا بد من الحاجة والصغر والأنوثة والزمانة والعمى أمارة الحاجة لتحقق العجز فإن القادر على الكسب غني بكسبه بخلاف الأبوين لأنه يلحقهما تعب الكسب والولد مأمور بدفع الضرر عنهما فتجب نفقتهما مع قدرتهما على الكسب. قال: " ويجب ذلك على مقدار الميراث ويجبر عليه " لأن التنصيص على الوارث تنبيه على اعتبار المقدار ولأن الغرم بالغنم والجبر لإيفاء حق مستحق. قال: " وتجب نفقة الابنة البالغة والابن الزمن على أبويه أثلاثا على الأب الثلثان وعلى الأم الثلث " لأن الميراث لهما على هذا المقدار قال العبد الضعيف هذا الذي ذكره رواية الخصاف والحسن رحمه الله وفي ظاهر الرواية كل النفقة على الأب لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] وصار كالولد الصغير ووجه الفرق على الرواية الأولى أنه اجتمعت للأب في الصغير ولاية ومؤنة حتى وجبت عليه صدقة فطره فاختص بنفقته ولا كذلك الكبير لانعدام الولاية فيه فتشاركه الأم وفي غير الوالد يعتبر قدر الميراث حتى تكون نفقة الصغير على الأم والجد أثلاثا ونفقة الأخ المعسر على الأخوات المتفرقات الموسرات أخماسا على قدر الميراث غير أن المعتبر أهلية الإرث في الجملة لا إحرازه فإن المعسر إذا كان له خال وابن عم تكون نفقته على خاله وميراثه يحرزه ابن عمه " ولا تجب نفقتهم مع اختلاف الدين " لبطلان أهلية الإرث ولا بد من اعتباره " ولا تجب على الفقير " لأنها تجب صلة وهو يستحقها على غيره فكيف تستحق عليه بخلاف نفقة الزوجة وولده الصغير لأنه التزمها بالإقدام على العقد إذا المصالح لا تنتظم دونها ولا يعمل في مثلها الإعسار ثم اليسار مقدر بالنصاب فيما روي عن أبي يوسف وعن محمد رحمه الله أنه قدره بما يفضل على نفقة نفسه وعياله شهرا أو بما يفضل على ذلك من كسبه الدائم كل يوم لأن المعتبر في حقوق العباد إنما هو القدرة دون النصاب فإنه للتيسير والفتوى على الأول لكن النصاب نصاب حرمان الصدقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 " وإذا كان للابن الغائب مال قضى فيه بنفقة أبويه " وقد بينا الوجه فيه. " وإذا باع أبوه متاعه في نفقته جاز " عند أبي حنيفة رحمه الله وهذا استحسان " وإن باع العقار لم يجز " وفي قولهما لا يجوز في ذلك كله وهو القياس لأنه لا ولاية له لانقطاعها بالبلوغ ولهذا لا يملك في حال حضرته ولا يملك البيع في دين له سوى النفقة وكذا لا تملك الأم في النفقة ولأبي حنيفة رحمه الله أن للأب ولاية الحفظ في مال الغائب ألا ترى أن للوصي ذلك فالأب أولى لوفور شفقته وبيع المنقول من باب الحفظ ولا كذلك العقار لأنها محصنة بنفسها وبخلاف غير الأب من الأقارب لأنه لا ولاية لهم أصلا في التصرف حالة الصغر ولا في الحفظ بعد الكبر وإذا جاز بيع الأب والثمن من جنس حقه وهو النفقة فله الاستيفاء منه كما لو باع العقار والمنقول على الصغير جاز لكمال الولاية ثم له أن يأخذ منه بنفقته لأنه من جنس حقه " وإن كان للابن الغائب مال في يد أبويه وأنفقا منه لم يضمنا " لأنهما استوفيا حقهما لأن نفقتهما واجبة قبل القضاء على ما مر وقد أخذا جنس الحق " وإن كان له مال في يد أجنبي فأنفق عليهما بغير إذن القاضي ضمن " لأنه تصرف في مال الغير بغير ولاية لأنه نائب في الحفظ لا غير بخلاف ما إذا أمره القاضي لأن أمره ملزم لعموم ولايته وإذا ضمن لا يرجع على القابض لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه كان متبرعا به. " وإذا قضى القاضي للولد والوالدين وذوي الأرحام بالنفقة فمضت مدة سقطت " لأن نفقة هؤلاء تجب كفاية للحاجة حتى لا تجب مع اليسار وقد حصلت بمضي المدة بخلاف نفقة الزوجة إذا قضى بها القاضي لأنها تجب مع يسارها فلا تسقط بحصول الاستغناء فيما مضى. قال: " إلا أن يأذن القاضي بالاستدانة عليه " لأن القاضي له ولاية عامة فصار إذنه كأمر الغائب فيصير دينا في ذمته فلا تسقط بمضي المدة والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 فصل " وعلى المولى أن ينفق على أمته وعبده " لقوله عليه الصلاة والسلام في المماليك: " إنهم إخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تعذبوا عباد الله " " فإن امتنع وكان لهما كسب اكتسبا وأنفقا " لأن فيه نظرا للجانبين حتى يبقى المملوك حيا ويبقى في ملك المالك " وإن لم يكن لهما كسب " بأن كان عبدا زمنا أو جارية لا يؤاجر مثلها " أجبر المولى على بيعهما " لأنهما من أهل الاستحقاق، وفي البيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 إيفاء حقهما وإيفاء حق المولى بالخلف بخلاف نفقة الزوجة لأنها تصير دينا فكان تأخيرا على ما ذكرنا ونفقة المملوك لا تصير دينا فكان إبطالا وبخلاف سائر الحيوانات لأنها ليست من أهل الاستحقاق فلا يجبر على نفقتها إلا أنه يؤمر به فيما بينه وبين الله تعالى لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تعذيب الحيوان وفيه ذلك ونهى عن إضاعة المال وفيه إضاعته وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجبر والأصح ما قلنا والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 كتاب العتاق شروط الاعتاق مدخل ... كتاب العتاق " الإعتاق تصرف مندوب إليه قال عليه الصلاة والسلام: " أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار "" ولهذا استحبوا أن يعتق الرجل العبد والمرأة الأمة ليتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء. قال رضي الله عنه: " العتق يصح من الحر البالغ العاقل في ملكه " شرط الحرية لأن العتق لا يصح إلا في الملك ولا ملك للمملوك والبلوغ لأن الصبي ليس من أهله لكونه ضررا ظاهرا ولهذا لا يملكه الولي عليه والعقل لأن المجنون ليس بأهل للتصرف ولهذا لو قال البالغ أعتقت وأنا صبي فالقول قوله وكذا إذا قال المعتق أعتقت وأنا مجنون وجنونه كان ظاهرا لوجود الإسناد إلى حالة منافية وكذا لو قال الصبي كل مملوك أملكه فهو حر إذا احتلمت لا يصح لأنه ليس بأهل لقول ملزم ولا بد أن يكون العبد في ملكه حتى لو أعتق عبد غيره لا ينفذ عتقه لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم ". " وإذا قال لعبده أو أمته أنت حر أو معتق أو عتيق أو محرر أو قد حررتك أو قد أعتقتك فقد عتق نوى به العتق أو لم ينو " لأن هذه الألفاظ صريحة فيه لأنها مستعملة فيه شرعا وعرفا فأغنى ذلك عن النية والوضع وإن كان في الإخبار فقد جعل إنشاء في التصرفات الشرعية للحاجة كما في الطلاق والبيع وغيرهما. " ولو قال عنيت به الإخبار الباطل أو أنه حر من العمل صدق ديانة " لأنه يحتمله " ولا يدين قضاء " لأنه خلاف الظاهر " ولو قال له يا حر يا عتيق يعتق " لأنه نداء بما هو صريح في العتق وهو لاستحضار المنادى بالوصف المذكور هذا هو حقيقته فيقتضى تحقق الوصف فيه وأنه يثبت من جهته فيقضى بثبوته تصديقا له فيما أخبر وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى إلا إذا سماه حرا ثم ناداه يا حر لأن مراده الإعلام باسم علمه وهو ما لقبه به ولو ناداه بالفارسية ياآزاد وقد لقبه بالحر قالوا يعتق وكذا عكسه لأنه ليس بنداء باسم علمه فيعتبر إخبارا عن الوصف " وكذا لو قال رأسك حر أو جهك أو رقبتك أو بدنك أو قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 لأمته فرجك حر " لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن جميع البدن وقد مر في الطلاق " وإن أضافه إلى جزء شائع يقع في ذلك الجزء " وسيأتيك الاختلاف فيه إن شاء الله تعالى وإن أضافه إلى جزء معين لا يعبر به عن الجملة كاليد والرجل لا يقع عندنا خلافا للشافعي رحمه الله والكلام فيه كالكلام في الطلاق وقد بيناه. " ولو قال لا ملك لي عليك ونوى به الحرية عتق وإن لم ينو لم يعتق " لأنه يحتمل أنه أراد لا ملك لي عليك لأني بعتك ويحتمل لأن أعتقتك فلا يتعين أحدهما مرادا إلا بالنية قال رضي الله عنه " وكذا كنايات العتق " وذلك مثل قوله خرجت من ملكي ولا سبيل لي عليك ولا رق لي عليك وقد خليت سبيلك لأنه يحتمل نفي السبيل والخروج عن الملك وتخلية السبيل بالبيع أو الكتابة كما يحتمل بالعتق فلا بد من النية وكذا قوله لأمته قد أطلقنك لأنه بمنزلة قوله قد خليت سبيلك وهو المروي عن أبي يوسف رحمه الله بخلاف قوله طلقتك على ما نبين من بعد إن شاء الله تعالى. " ولو قال لا سلطان لي عليك ونوى العتق لم يعتق " لأن السلطان عبارة عن اليد وسمى السلطان به لقيام يده وقد بقي الملك دون اليد كما في المكاتب بخلاف قوله لا سبيل لي عليك لأن نفيه مطلقا بانتفاء الملك لأن للمولى على المكاتب سبيلا فلهذا يحتمل العتق. " ولو قال هذا ابني وثبت على ذلك عتق " ومعنى المسألة إذا كان يولد مثله لمثله فإن كان لا يولد مثله لمثله ذكره بعد هذا ثم إن لم يكن للعبد نسب معروف يثبت نسبه منه لأن ولاية الدعوة بالملك ثابتة والعبد محتاج إلى النسب فيثبت نسبه منه وإذا ثبت عتق لأنه يستند النسب إلى وقت العلوق وإن كان له نسب معروف لا يثبت نسبه منه للتعذر ويعتق إعمالا للفظ في مجازه عند تعذر إعماله بحقيقته ووجه المجاز نذكره من بعد إن شاء الله تعالى. " ولو قال هذا مولاي أو يا مولاي عتق " أما الأول فلأن اسم المولى وإن كان ينتظم الناصر وابن العم والموالاة في الدين والأعلى والأسفر في العتاقة إلا أنه تعين الأسفل فصار كاسم خاص له وهذا لأن المولى لا يستنصر بمملوكه عادة وللعبد نسب معروف فانتفى الأول والثاني والثالث نوع مجاز والكلام للحقيقة والإضافة إلى العبد تنافي كونه معتقا فتعين المولى الأسفل فالتحق بالصريح وكذا إذا قال لأمته هذه مولاتي لما بينا ولو قال عنيت به المولى في الدين أو الكذب يصدق فيما بينه وبين الله تعالى ولا يصدق في القضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 لمخالفته الظاهر وأما الثاني فلأنه لما تعين الأسفل مرادا التحق بالصريح وبالنداء باللفظ الصريح يعتق بأن قال يا حر يا عتيق فكذا النداء بهذا اللفظ وقال زفر رحمه الله لا يعتق في الثاني لأنه يقصد به الإكرام بمنزلة قوله يا سيدي يا مالكي قلنا الكلام لحقيقته وقد أمكن العمل به بخلاف ما ذكره لأنه ليس فيه ما يختص بالعتق فكان إكراما محضا. " ولو قال يا ابني أو يا أخي لم يعتق " لأن النداء لإعلام المنادي إلا أنه إذا كان بوصف يمكن إثباته من جهته كان لتحقيق ذلك الوصف في المنادى استحضارا له بالوصف المخصوص كما في قوله يا حر على ما بيناه وإذا كان النداء بوصف لا يمكن إثباته من جهته كان للإعلام المجرد دون تحقيق الوصف فيه لتعذره والبنوة لا يمكن إثباتها حالة النداء من جهته لأنه لو انخلق من ماء غيره لا يكون ابنا له بهذا النداء فكان لمجرد الإعلام ويروى عن أبي حنيفة رحمه الله شاذا أنه يعتق فيهما والاعتماد على الظاهر. " ولو قال يا ابن لا يعتق " لأن الأمر كما أخبر فإنه ابن أبيه " وكذا إذا قال يا بني أو يا بنية " لأنه تصغير للابن والبنت من غير إضافة والأمر كما أخبر " وإن قال لغلام لا يولد مثله لمثله هذا ابني عتق عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا لا يعتق وهو قول الشافعي رحمه الله لهم أنه كلام محال الحقيقة فيرد ويلغو كقوله أعتقتك قبل أن أخلق أو قبل أن تخلق ولأبي حنيفة رحمه الله أنه كلام محال بحقيقته لكنه صحيح بمجازه لأنه إخبار عن حريته من حين ملكه وهذا لأن البنوة في المملوك سبب لحريته إما إجماعا أو صلة للقرابة وإطلاق السبب وإرادة المسبب مستجاز في اللغة تجوزا ولأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك والمشابهة في وصف ملازم من طرق المجاز على ما عرف فيحمل عليه تحرزا عن الإلغاء بخلاف ما استشهد به لأنه لا وجه له في المجاز فتعين الإلغاء وهذا بخلاف ما إذا قال لغيره قطعت يدك فأخرجهما صحيحتين حيث لم يجعل مجازا عن الإقرار بالمال والتزامه وإن كان القطع سببا لوجوب المال لأن القطع خطأ سببا لوجوب مال مخصوص وهو الأرش وهو يخالف مطلق المال في الوصف حتى وجب على العاقلة في سنتين ولا يمكن إثباته بدون القطع وما أمكن إثباته فالقطع ليس بسبب له أما الحرية فلا تختلف ذاتا وحكما فأمكن جعله مجازا عنه. ولو قال: هذا أبي أو أمي ومثله لا يولد لمثلهما فهو على الخلاف لما بينا ولو قال لصبي صغير هذا جدي قيل هو على الخلاف وقيل لا يعتق بالإجماع لأن هذا الكلام لا موجب له في الملك إلا بواسطة وهو الأب وهي غير ثابتة في كلامه فتعذر أن يجعل مجازا عن الموجب بخلاف الأبوة والبنوة لأن لهما موجبا في الملك من غير واسطة. ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 قال هذا أخي لا يعتق في ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يعتق ووجه الروايتين ما بيناه ولو قال لعبده هذا ابنتي فقد قيل على الخلاف وقيل هو بالإجماع لأن المشار إليه ليس من جنس المسمى فتعلق الحكم بالمسمى وهو معدوم فلا يعتبر وقد حققناه في النكاح " وإن قال لأمته أنت طالق أو بائن أو تخمري ونوى به العتق لم تعتق " وقال الشافعي رحمه الله تعتق إذا نوى وكذا على هذا الخلاف سائر ألفاظ الصريح والكناية على ما قال مشايخهم رحمه الله له أنه نوى ما يحتمله لفظه لأن بين الملكين موافقة إذ كل واحد منهما ملك العين أما ملك اليمين فظاهر وكذا ملك النكاح في حكم ملك العين حتى كان التأبيد من شرطه والتأقيت مبطلا له وعمل اللفظين في إسقاط ما هو حقه وهو الملك ولهذا يصح التعليق فيه بالشرط. أما الأحكام فتثبت لسبب سابق وهو كونه مكلف ولهذا يصلح لفظه العتق والتحرير كناية عن الطلاق فكذا عكسه ولنا أنه نوى مالا يحتمله لفظه لأن الإعتاق لغة إثبات القوة والطلاق رفع القيد وهذا لأن العبد ألحق بالجمادات وبالإعتاق يحيا فيقدر ولا كذلك المنكوحة فإنها قادرة إلا أن قيد النكاح مانع وبالطلاق يرتفع المانع فتظهر القوة ولا خفاء أن الأول أقوى ولأن ملك اليمين فوق ملك النكاح فكان إسقاطه أقوى واللفظ يصلح مجازا عما هو دون حقيقته لا عما هو فوقه فلهذا امتنع في المتنازع فيه وانساغ في عكسه. " وإذا قال لعبده أنت مثل الحر لم يعتق " لأن المثل يستعمل للمشاركة في بعض المعاني عرفا فوقع الشك في الحرية " ولو قال ما أنت إلا حر عتق " لأن الاستثناء من النفي إثبات على وجه التأكيد كما في كلمة الشهادة " ولو قال رأسك رأس حر لا يعتق " لأنه تشبيه بحذف حرفه " ولو قال رأسك رأس حر عتق " لأنه إثبات الحرية فيه إذ الرأس يعبر به عن جمع البدن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 فصل " ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه " وهذا اللفظ مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام وقال عليه الصلاة والسلام: " من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر " واللفظ بعمومه ينتظم كل قرابة مؤبدة بالمحرمية ولادا أو غيره والشافعي رحمه الله يخالفنا في غيره له أن ثبوت العتق من غير مرضاة المالك ينفيه القياس أولا يقتضيه والأخوة وما يضاهيها نازلة عن قرابة الولاد فامتنع الإلحاق أو الاستدلال به ولهذا امتنع التكاتب على المكاتب في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 غير الولاد ولم يمتنع فيه ولنا ما روينا ولأنه ملك قريبه قرابة مؤثرة في المحرمية فيعتق عليه وهذا هو المؤثر في الأصل والولاد ملغي لأنها هي التي يفترض وصلها ويحرم قطعها حتى وجبت النفقة وحرم النكاح ولا فرق بين ما إذا كان المالك مسلما أو كافرا في دار الإسلام لعموم العلة والمكاتب إذا اشترى أخاه ومن يجري مجراه لا يتكاتب عليه لأنه ليس له ملك تام يقدره على الإعتاق والافتراض عند القدرة بخلاف الولاد لأن العتق فيه من مقاصد الكتابة فامتنع البيع فيعتق تحقيقا لمقصود العقد وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يتكاتب على الأخ أيضا وهو قولهما فلنا أن نمنع وهذا بخلاف ما إذا ملك ابنة عمه وهي أخته من الرضاع لأن المحرمية ما ثبتت بالقرابة والصبي جعل أهلا لهذا العتق وكذا المجنون حتى عتق القريب عليهما عند الملك لأنه تعلق به حق العبد فشابه النفقة. " ومن أعتق عبدا لوجه الله تعالى أو للشيطان أو للصنم عتق " لوجود ركن الإعتاق من أهله في محله ووصف القربة في اللفظ الأول زيادة فلا يختل العتق بعدمه في اللفظين الآخرين. " وعتق المكره والسكران واقع " لصدور الركن من الأهل في المحل كما في الطلاق وقد بيناه من قبل " وإن أضاف العتق إلى ملك أو شرط صح كما في الطلاق " أما الإضافة إلى الملك ففيه خلاف الشافعي رحمه الله وقد بيناه في كتاب الطلاق وأما التعليق بالشرط فلأنه إسقاط فيجري فيه التعليق بخلاف التمليكات على ما عرف في موضعه. " وإذا خرج عبد الحربي إلينا مسلما عتق " لقوله عليه الصلاة والسلام في عبيد الطائف حين خرجوا إليه مسلمين: " هم عتقاء الله تعالى " ولأنه أحرز نفسه وهو مسلم ولا استرقاق على المسلم ابتداء " وإن أعتق حاملا عتق حملها تبعا لها " إذ هو متصل بها. " ولو أعتق الحمل خاصة عتق دونها " لأنه لا وجه إلى إعتاقها مقصودا لعدم الإضافة إليها ولا إليه تبعا لما فيه من قلب الموضوع ثم إعتاق الحمل صحيح ولا يصح بيعه وهبته لأن التسليم نفسه شرط في الهبة والقدرة عليه في البيع ولم يوجد ذلك بالإضافة إلى الجنين وشيء من ذلك ليس بشرط في الإعتاق فافترقا " ولو أعتق الحمل على مال صح ولا يجب المال " إذ لا وجه إلى إلزام المال على الجنين لعدم الولاية عليه ولا إلى إلزامه الأم لأنه في حق العتق نفس على حدة واشتراط بدل العتق على غير المعتق لا يجوز على ما مر في الخلع وإنما يعرف قيام الحبل وقت العتق إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر منه لأنه أدنى مدة الحمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 قال: " وولد الأمة من مولاها حر " لأنه مخلوق من مائه فيعتق عليه هذا هو الأصل ولا معارض له فيه لأن ولد الأمة لمولاها " وولدها من زوجها مملوك لسيدها " لترجح جانب الأم باعتبار الحضانة أو لاستهلاك مائه بمائها والمنافاة متحققة والزوج قد رضي به بخلاف ولد المغرور لأن الوالد ما رضي به " وولد الحرة حر على كل حال " لأن جانبها راجح فيتبعها في وصف الحرية كما يتبعها في المملوكية والمرقوقية والتدبير وأمومية الولد والكتابة والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 باب العبد يعتق بعضه " وإذا أعتق المولى بعض عبده عتق ذلك القدر ويسعى في بقية قيمته لمولاه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يعتق كله " وأصله أن الإعتاق يتجزأ عنده فيقتصر على ما أعتق وعندهما لا يتجزأ وهو قول الشافعي رحمه الله فإضافته إلى البعض كإضافته إلى الكل فلهذا يعتق كله لهم أن الإعتاق إثبات العتق وهو قوة حكمية وإثباتها بإزالة ضدها وهو الرق الذي هو ضعف حكمي وهما لا يتجزآن فصار كالطلاق والعفو عن القصاص والاستيلاد ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإعتاق إثبات العتق بإزالة الملك أو هو إزالة الملك لأن الملك حقه والرق حق الشرع أو حق العامة وحكم التصرف ما يدخل تحت ولاية المتصرف وهو إزالة حقه لا حق غيره. والأصل أن التصرف يقتصر على موضع الإضافة والتعدي إلى ما وراءه ضرورة عدم التجزي والملك متجزي كما في البيع والهبة فيبقى على الأصل وتجب السعاية لاحتباس مالية البعض عند العبد والمستسعي بمنزلة المكاتب عنده لأن الإضافة إلى البعض توجب ثبوت المالكية في كله وبقاء الملك في بعضه يمنعه فعملنا بالدليلين بإنزاله مكاتبا إذ هو مالك يدا لا رقبة والسعاية كبدل الكتابة فله أن يستسعيه وله خيار أن يعتقه لأن المكاتب قابل للإعتاق غير أنه إذا عجز لا يرد إلى الرق لأنه إسقاط لا إلى أحد فلا يقبل الفسخ بخلاف الكتابة المقصودة لأنه عقد يقال ويفسخ وليس في الطلاق والعفو عن القصاص حالة متوسطة فأثبتناه في الكل ترجيحا للمحرم والاستيلاد متجزي عنده حتى لو استولد نصيبه من مدبرة يقتصر عليه وفي القنة لما ضمن نصيب صاحبه بالإفساد ملكه بالضمان فكمل الاستيلاد. " وإذا كان العبد بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه عتق فإن كان موسرا فشريكه بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء ضمن شريكه قيمة نصيبه وإن شاء استسعى العبد فإن ضمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 رجع المعتق على العبد والولاء للمعتق وإن أعتق أو استسعى فالولاء بينهما وإن كان المعتق معسرا فالشريك بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء استسعى العبد والولاء بينهما في بينهما في الوجهين وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس له إلا الضمان مع اليسار والسعاية مع الإعسار ولا يرجع المعتق على العبد والولاء للمعتق " وهذه المسئلة تبتني على حرفين: أحدهما: تجزي الإعتاق وعدمه على ما بيناه. والثاني: أن يسار المعتق لا يمنع سعاية العبد عنده وعندهما يمنع لهما في الثاني قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل يعتق نصيبه إن كان غنيا ضمن وإن كان فقيرا سعى في حصة الآخر قسم والقسمة تنافي الشركة وله أنه احتبست مالية نصيبه عند العبد فله أن يضمنه كما إذا هبت الريح في ثوب إنسان وألقته في صبغ غيره حتى انصبغ به فعلى صاحب الثوب قيمة صبغ الاخر موسرا كان أو معسرا لما قلنا فكذا ههنا إلا أن العبد فقير فيستسعيه ثم المعتبر يسار التيسير وهو أن يملك من المال قدر قيمة نصيب الآخر لإيسار الغني لأن به يعتدل النظر من الجانبين بتحقيق ما قصده المعتق من القربة وإيصال بدل حق الساكت إليه ثم التخريج على قولهما ظاهر فعدم رجوع المعتق بما ضمن على العبد لعدم السعاية عليه في حالة اليسار والولاء للمعتق لأن العتق كله من جهته لعدم التجزي. وأما التخريج على قوله: فخيار الإعتاق لقيام ملكه في الباقي إذ الإعتاق يتجزأ عنده والتضمين لأن المعتق جان عليه بإفساد نصيبه حيث امتنع عليه البيع والهبة ونحو ذلك مما سوى الإعتاق وتوابعه والاستسعاء لما بينا ويرجع المعتق بما ضمن على العبد لأنه قام مقام الساكت بأداء الضمان وقد كان له ذلك بالاستسعاء فكذلك للمعتق ولأنه ملكه بأداء الضمان ضمنا فيصير كأن الكل له وقد أعتق بعضه فله أن يعتق الباقي أو يستسعي إن شاء والولاء للمعتق في هذا الوجه لأن العتق كله من جهته حيث ملكه بأداء الضمان وفي حال إعسار المعتق إن شاء أعتق لبقاء ملكه وإن شاء استسعى لما بينا والولاء له في الوجهين لأن العتق من جهته ولا يرجع المستسعي على المعتق بما أدى بإجماع بيننا لأنه يسعى لفكاك رقبته أولا يقضي دينا على المعتق إذ لا شيء عليه لعسرته بخلاف المرهون إذا أعتقه الراهن المعسر لأنه يسعى في رقبة قد فكت أو يقضي دينا على الراهن فلهذا يرجع عليه. وقول الشافعي رحمه الله في الموسر كقولهما وقال في المعسر يبقى نصيب الساكت على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 ملكه يباع ويوهب لأنه لا وجه إلى تضمين الشريك لإعساره ولا إلى السعاية لأن العبد ليس بجان ولا راض به ولا إلى إعتاق الكل للإضرار بالساكت فتعين ما عيناه قلنا إلى الاستسعاء سبيل لأنه لا يفتقر إلى الجناية بل تبتني السعاية على احتباس المالية فلا يصار إلى الجمع بين القوة الموجبة للمالكية والضعف السالب لها في شخص واحد. قال: " ولو شهد كل واحد من الشريكين على صاحبه بالعتق سعى العبد لكل واحد منهما في نصيبه موسرين كانا أو معسرين عند أبي حنيفة رحمه الله " وكذا إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا لأن كل واحد منهما يزعم أن صاحبه أعتق نصيبه فصار مكاتبا في زعمه عنده وحرم عليه الاسترقاق فيصدق في حق نفسه فيمنع من استرقاقه ويستسعيه لأنا تيقنا بحق الاستسعاء كاذبا كان أو صادقا لأنه مكاتبه أو مملوكه فلهذا يستسعيانه ولا يختلف ذلك باليسار والإعسار لأن حقه في الحالين في أحد شيئين لأن يسار المعتق لا يمنع السعاية عنده وقد تعذر التضمين لإنكار الشريك فتعين الآخر وهو السعاية والولاء لهما لأن كلا منهما يقول عتق نصيب صاحبي عليه بإعتاقه وولاؤه له وعتق نصيبي بالسعاية وولاؤه لي " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إن كانا موسرين فلا سعاية عليه " لأن كل واحد منهما يتبرأ عن سعايته بدعوى العتاق على صاحبه لأن يسار المعتق يمنع السعاية عندهما إلا أن الدعوى لم تثبت لإنكار الآخر والبراءة عن السعاية قد ثبتت لإقراره على نفسه " وإن كانا معسرين سعى لهما " لأن كل واحد منهما يدعي السعاية عليه صادقا كان أو كاذبا على ما بيناه إذ المعتق معسر " وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا سعى للموسر منهما " لأنه لا يدعي الضمان على صاحبه لإعساره وإنما يدعي عليه السعاية فلا يتبرأ عنه " ولا يسعى للمعسر منهما " لأنه يدعي الضمان على صاحبه ليساره فيكون مبرئا للعبد عن السعاية والولاء موقوف في جميع ذلك عندهما لأن كل واحد منهما يحيله على صاحبه وهو يتبرأعنه فيبقى موقوفا إلى أن يتفقا على إعتاق أحدهما. " ولو قال أحد الشريكين إن لم يدخل فلان هذه الدار غدا فهو حر وقال الآخر إن دخل فهو حر فمضى الغد ولا يدري أدخل أم لا عتق النصف وسعى لهما في النصف الآخر وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يسعى في جميع قيمته " لأن المقضي عليه بسقوط السعاية مجهول ولا يمكن القضاء على المجهول فصار كما إذا قال لغيره لك على أحدنا ألف درهم فإنه لا يقضي بشيء للجهالة كذا هذا ولهما أنا تيقنا بسقوط نصف السعاية لأن أحدهما حانث بيقين ومع التيقن بسقوط النصف كيف يقضي بوجوب الكل والجهالة ترتفع بالشيوع والتوزيع كما إذا أعتق أحد عبديه لا بعينه أو بعينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 ونسيه ومات قبل التذكر أو البيان ويتأتى التفريع فيه على أن اليسار هل يمنع السعاية أو لا يمنعها على الاختلاف الذي سبق. " ولو حلفا على عبدين كل واحد منهما لأحدهما بعينه لم يعتق واحد منهما " لأن المقضي عليه بالعتق مجهول وكذلك المقضي له فتفاحشت الجهالة فامتنع القضاء وفي العبد الواحد المقضي له والمقضي به معلوم فغلب المعلوم المجهول. " وإذا اشترى الرجلان ابن أحدهما عتق نصيب الأب " لأنه ملك شقص قريبه وشراؤه إعتاق على ما مر " ولا ضمان عليه " علم الآخر أنه ابن شريكه أو لم يعلم " وكذا إذا ورثاه والشريك بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعى العبد " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا في الشراء يضمن الأب نصف قيمته إن كان موسرا وإن كان معسرا سعى الابن في نصف قيمته لشريك أبيه وعلى هذا الخلاف إذا ملكاه بهبة أو صدقة أو وصية وعلى هذا إذا اشتراه رجلان وأحدهما قد حلف بعتقه إن اشترى نصفه لهما أنه أبطل نصيب صاحبه بالإعتاق لأن شراء القريب إعتاق وصار هذا كما إذا كان العبد بين أجنبيين فأعتق أحدهما نصيبه وله أنه رضي بإفساد نصيبه فلا يضمنه كما إذا أذن له بإعتاق نصيبه صريحا ودلالة ذلك أنه شاركه فيما هو علة العتق وهو الشراء لأن شراء القريب إعتاق حتى يخرج به عن عهدة الكفارة عندنا وهذا ضمان إفساد في ظاهر قولهما حتى يختلف باليسار والإعسار فيسقط بالرضا ولا يختلف الجواب بين العلم وعدمه وهو ظاهر الرواية عنه لأن الحكم يدار على السبب كما إذا قال لغيره كل هذا الطعام وهو مملوك للآمر ولا يعلم الآمر بملكه " وإن بدأ الأجنبي فاشترى نصفه ثم اشترى الأب نصفه الآخر وهو موسر فالأجنبي بالخيار إن شاء ضمن الأب " لأنه ما رضي بإفساد نصيبه " وإن شاء استسعى الابن في نصف قيمته " لاحتباس ماليته عنده " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " لأن يسار المعتق لا يمنع السعاية عنده وقالا لا خيار له ويضمن الأب نصف قيمته لأن يسار المعتق يمنع السعاية عندهما. " ومن اشترى نصف ابنه وهو موسر فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يضمن إذا كان موسرا " ومعناه: إذا اشترى نصفه ممن يملك كله فلا يضمن لبائعه شيئا عنده والوجه قد ذكرناه. " وإذا كان العبد بين ثلاثة نفر فدبره أحدهم وهو موسر ثم أعتقه الآخر وهو موسر فأرادوا الضمان فللساكت أن يضمن المدبر ثلث قيمته قنا ولا يضمن المعتق وللمدبر أن يضمن المعتق ثلث قيمته مدبرا ولا يضمنه الثلث الذي ضمن وهذا عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 أبي حنيفة رحمه الله وقالا العبد كله للذي دبره أول مرة ويضمن ثلثي قيمته لشريكيه موسرا كان أو معسرا ". وأصل هذا أن التدبير يتجزأ عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما كالإعتاق لأنه شعبة من شعبه فيكون معتبرا به ولما كان متجزئا عنده اقتصر على نصيبه وقد أفسد بالتدبير نصيب الآخرين فلكل واحد منهما أن يدبر نصيبه أو يعتق أو يكاتب أو يضمن المدبر أو يستسعي العبد أو يتركه على حاله لأن نصيبه باق على ملكه فاسدا بإفساد شريكه حيث سد عليه طرق الانتفاع به بيعا وهبة على ما مر فإذا اختار أحدهما العتق تعين حقه فيه وسقط اختياره غيره فتوجه للساكت سببا ضمان تدبير المدبر وإعتاق هذا المعتق غير أن له أن يضمن المدبر ليكون الضمان ضمان معاوضة إذ هو الأصل حتى جعل الغضب ضمان معاوضة على أصلنا وأمكن ذلك في التدبير لكونه قابلا للنقل من ملك إلى ملك وقت التدبير ولا يمكن ذلك في الإعتاق لأنه عند ذلك مكاتب أو حر على اختلاف الأصلين ولا بد من رضا المكاتب بفسخه حتى يقبل الانتقال فلهذا يضمن المدبر ثم للمدبر أن يضمن المعتق ثلث قيمته مدبرا لأنه أفسد عليه نصيبه مدبرا والضمان يتقدر بقيمة المتلف وقيمة المدبر ثلثا قيمته قنا على ما قالوا ولا يضمنه قيمة ما ملكه بالضمان من جهة الساكت لأن ملكه يثبت مستندا وهذا ثابت من وجه دون وجه فلا يظهر في حق التضمين والولاء بين المعتق والمدبر أثلاثا ثلثاه للمدبر والثلث للمعتق لأن العبد عتق على ملكهما على هذا المقدار وإذا لم يكن التدبير متجزئا عندهما صار كله مدبرا للمدبر وقد أفسد نصيب شريكيه لما بينا فيضمنه ولا يختلف باليسار والإعسار لأنه ضمان تملك فأشبه الاستيلاد بخلاف الإعتاق لأنه ضمان جناية والولاء كله للمدبر وهذا ظاهر. قال: " وإذا كانت جارية بين رجلين زعم أحدهما أنها أم ولد لصاحبه وأنكر ذلك الآخر فهي موقوفة يوما ويوما تخدم المنكر عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إن شاء المنكر استسعى الجارية في نصف قيمتها ثم تكون حرة لا سبيل عليها ". لهما أنه لما لم يصدقه صاحبه انقلب إقرار المقر عليه كأنه استولدها فصار كما إذا أقر المشتري على البائع أنه أعتق المبيع قبل البيع يجعل كأنه أعتق كذا هذا فتمتنع الخدمة ونصيب المنكر على ملكه في الحكم فتخرج إلى الإعتاق بالسعاية كأم ولد النصراني إذا أسلمت ولأبي حنيفة رحمه الله أن المقر لو صدق كانت الخدمة كلها للمنكر ولو كذب كان له نصف الخدمة فيثبت ما هو المتيقن به وهو النصف ولا خدمة للشريك الشاهد ولا استسعاء لأنه يتبرأعن جميع ذلك بدعوى الاستيلاد والضمان والإقرار بأمومية الولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 يتضمن الإقرار بالنسب وهذا أمر لازم لا يرتد بالرد فلا يمكن أن يجعل المقر كالمستولد " وإن كانت أم ولد بينهما فأعتقها أحدهما وهو موسر فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يضمن نصف قيمتها " لأن مالية أم الولد غير متقومة عنده ومتقومة عندهما وعلى هذا الأصل تبتني عدة من المسائل أوردناها في كفاية المنتهى. وجه قولهما: أنها منتفع بها وطأ وإجارة واستخداما وهذا هو دلالة التقوم وبامتناع بيعها لا يسقط تقومها كما في المدبر ألا ترى أن ولد أم النصراني إذا أسلمت عليها السعاية وهذا آية التقوم غير أن قيمتها ثلث قيمتها قنة على ما قالوا لفوات منفعة البيع السعاية بعد الموت بخلاف المدبر لأن الفائت منفعة البيع. أما السعاية والاستخدام فباقيان ولأبي حنيفة رحمه الله أن التقوم بالإحراز وهي محرزة للنسب لا للتقوم والإحراز للتقوم تابع ولهذا لا تسعى لغريم ولا لوارث بخلاف المدبر وهذا لأن السبب فيها متحقق في الحال وهو الجزئية الثابتة بواسطة الولد على ما عرف في حرمة المصاهرة إلا أنه لم يظهر عمله في حق الملك ضرورة الانتفاع فعمل السبب في إسقاط التقوم وفي المدبر ينعقد السبب بعد الموت وامتناع البيع فيه لتحقيق مقصوده فافترقا وفي أم ولد النصراني قضينا بتكاتبها عليه دفعا للضرر عن الجانبين وبدل الكتابة لا يفتقر وجوبه إلى التقوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 باب عتق أحد العبدين " ومن كان له ثلاثة أعبد دخل عليه اثنان فقال أحدكما حر ثم خرج واحد ودخل آخر فقال أحدكما حر ثم مات ولم يبين عتق من الذي أعيد عليه القول ثلاثة أرباعه ونصف كل واحد من الآخرين عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله كذلك إلا في العبد الآخر فإنه يعتق ربعه " أما الخارج فلأن الإيجاب الأول دائر بينه وبين الثابت وهو الذي أعيد عليه القول فأوجب عتق رقبة بينهما لاستوائهما فيصيب كلا منهما النصف غير أن الثابت استفاد بالإيجاب الثاني ربعا آخر لأن الثاني دائر بينه وبين الداخل وهو الذي سماه في الكتاب آخرا فيتنصف بينهما غير أن الثابت استحق نصف الحرية بالإيجاب الأول فشاع النصف المستحق بالثاني في نصفيه فما أصاب المستحق بالأول لغا وما أصاب الفارغ بقي فيكون له الربع فتمت له ثلاثة الأرباع ولأنه لو أريد هو بالثاني يعتق نصفه ولو أريد به الداخل لا يعتق هذا النصف فيتنصف فيعتق منه الربع بالثاني والنصف بالأول وأما الداخل فمحمد رحمه الله يقول: لما دار الإيجاب الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 بينه وبين الثابت وقد أصاب الثابت منه الربع فكذلك يصيب الداخل وهما يقولان إنه دائر بينهما وقضيته التنصيف وإنما نزل إلى الربع في حق الثابت لاستحقاقه النصف بالإيجاب الأول كما ذكرنا ولا استحقاق للداخل من قبل فيثبت فيه النصف. قال: " فإن كان القول منه في المرض قسم الثلث على هذا " وشرح ذلك أن يجمع بين سهام العتق وهي سبعة على قولهما لأنا نجعل كل رقبة على أربعة لحاجتنا إلى ثلاثة الأرباع فنقول يعتق من الثابت ثلاثة أسهم ومن الآخرين من كل واحد منهما سهمان فيبلغ سهام العتق سبعة والعتق في مرض الموت وصية ومحل نفاذها الثلث فلا بد أن يجعل سهام الورثة ضعف ذلك فيجعل كل رقبة على سبعة وجميع المال أحد وعشرون فيعتق من الثابت ثلاثة ويسعى في أربعة ويعتق من الباقيين من كل واحد منهما سهمان ويسعى في خمسة فإذا تأملت وجمعت استقام الثلث والثلثان وعند محمد رحمه الله يجعل كل رقبة على ستة لأنه يعتق من الداخل عنده سهم فنقصت سهام العتق بسهم وصار جميع المال ثمانية عشر وباقي التخريج ما مر " ولو كان هذا في الطلاق وهن غير مدخولات ومات الزوج قبل البيان سقط من مهر الخارجة ربعه ومن مهر الثابتة ثلاثة أثمانه ومن مهر الداخلة ثمنه " قيل هذا قول محمد رحمه الله خاصة وعندهما يسقط ربعه وقيل هو قولهما أيضا وقد ذكرنا الفرق وتمام تفريعاتها في الزيادات. " ومن قال لعبديه أحدكما حر فباع أحدهما أو مات أو قال له أنت حر بعد موتي عتق الآخر لأنه لم يبق محلا للعتق أصلا بالموت وللعتق من جهته بالبيع وللعتق من كل وجه بالتدبير فتعين له الآخر " ولأنه بالبيع قصد الوصول إلى الثمن وبالتدبير إبقاء الانتفاع إلى موته والمقصودان ينافيان العتق الملتزم فتعين له الاخر دلالة وكذا إذا استولد إحداهما للمعنيين ولا فرق بين البيع الصحيح والفاسد مع القبض وبدونه والمطلق وبشرط الخيار لأحد المتعاقدين لإطلاق جواب الكتاب والمعنى ما قلنا والعرض على البيع ملحق به في المحفوظ عن أبي يوسف رحمه الله والهبة والتسليم والصدقة والتسليم بمنزلة البيع لأنه تمليك " وكذلك لو قال لامرأتيه إحداكما طالق ثم ماتت إحداهما " لما قلنا وكذلك لو وطئ إحداهما لما تبين. " ولو قال لأمتيه: إحداكما حرة ثم جامع إحداهما لم تعتق الأخرى عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا تعتق " لأن الوطء لا يحل إلا في الملك وإحداهما حرة فكان بالوطء مستبقيا الملك في الموطوءة فتعينت الأخرى لزواله بالعتق كما في الطلاق وله أن الملك قائم في الموطوءة لأن الإيقاع في المنكرة وهي معينة فكان وطؤها حلالا فلا يجعل بيانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 ولهذا حل وطؤهما على مذهبه إلا أنه لا يفتى به ثم يقال العتق غير نازل قبل البيان لتعلقه به أو يقال نازل في المنكرة فيظهر في حق حكم تقبله والوطء يصادف المعينة بخلاف الطلاق لأن المقصود الأصلي من النكاح الولد وقصد الولد بالوطء يدل على استبقاء الملك في الموطوءة صيانة للولد أما الأمة فالمقصود من وطئها قضاء الشهوة دون الولد فلا يدل على الاستبقاء. " ومن قال لأمته إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية ولا يدري أيهما ولد أولا عتق نصف الأم ونصف الجارية والغلام عبد " لأن كل واحد منهما تعتق في حال وهو ما إذا ولدت الغلام أول مرة الأم بالشرط والجارية لكونها تبعا لها إذ الأم حرة حين ولدتها وترق في حال وهو ما إذا ولدت الجارية أولا لعدم الشرط فيعتق نصف كل واحدة منهما وتسعى في النصف. أما الغلام يرق في الحالين فلهذا يكون عبدا وإن ادعت الأم أن الغلام هو المولود أولا وأنكر المولى والجارية صغيرة فالقول قوله مع اليمين لإنكاره شرط العتق فإن حلف لم يعتق واحد منهم وإن نكل عتقت الأم والجارية لأن دعوى الأم حرية الصغيرة معتبرة لكونها نفعا محضا فاعتبر النكول في حق حريتهما فعتقتا ولو كانت الجارية كبيرة ولم تدع شيئا والمسئلة بحالها عتقت الأم بنكول المولى خاصة دون الحارية لأن دعوى الأم غير معتبرة في حق الجارية الكبيرة وصحة النكول تبتني على الدعوى فلم يظهر في حق الجارية ولو كانت الجارية الكبيرة هي المدعية لسبق ولادة الغلام والأم ساكتة يثبت عتق الجارية بنكول المولى دون الأم لما قلنا والتحليف على العلم فيما ذكرنا لأنه استحلاف على فعل الغير وبهذا القدر يعرف ما ذكرنا من الوجوه في كفاية المنتهى. قال: " وإذا شهد رجلان على رجل أنه أعتق أحد عبديه فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكون في وصية " استحسانا ذكره في كتاب العتاق " وإن شهدا أنه طلق إحدى نسائه جازت الشهادة ويجبر الزوج على أن يطلق إحداهن " وهذا بالإجماع " وقال أبو يوسف ومحمد رحمه الله الشهادة في العتق مثل ذلك " وأصل هذا أن الشهادة على عتق العبد لا تقبل من غير دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تقبل والشهادة على عتق الأمة وطلاق المنكوحة مقبولة من غير دعوى بالإتفاق والمسئلة معروفة وإذا كان دعوى العبد شرطا عنده لم تتحقق في مسئلة الكتاب لأن الدعوى من المجهول لا تتحقق فلا تقبل الشهادة وعندهما ليس بشرط فتقبل الشهادة وإن انعدم الدعوى أما في الطلاق فعدم الدعوى لا يوجب خللا في الشهادة لأنها ليست بشرط فيها ولو شهدا أنه أعتق إحدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 أمتيه لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله وإن لم تكن الدعوى شرطا فيه لأنه إنما لا تشترط الدعوى لما أنه يتضمن تحريم الفرج فشابه الطلاق والعتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده على ما ذكرناه فصار كالشهادة على عتق أحد العبدين وهذا كله إذا شهدا في صحته على أنه أعتق أحد عبديه. أما إذا شهدا أنه أعتق أحد عبديه في مرض موته أو شهدا على تدبيره في صحته أو في مرضه وأداء الشهادة في مرض موته أو بعد الوفاة تقبل استحسانا لأن التدبير حيثما وقع وقع وصية وكذا العتق في مرض الموت وصية والخصم في الوصية إنما هو الموصي وهو معلوم وعنه خلف وهو الوصي أو الوارث ولأن العتق في مرض الموت يشيع بالموت فيهما فصار كل واحد منهما خصما متعينا ولو شهدا بعد موته أنه قال في صحته أحد كما حر فقد قيل لا تقبل لأنه ليس بوصية وقيل تقبل للشيوع وهو الصحيح والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 باب الحلف بالعتق " ومن قال إذا دخلت الدار فكل مملوك لي يومئذ فهو حر وليس له مملوك فاشترى مملوكا ثم دخل عتق " لأن قوله يومئذ تقديره يوم إذ دخلت إلا أنه اسقط الفعل وعوضه بالتنوين فكان المعتبر قيام الملك وقت الدخول وكذا لو كان في ملكه يوم حلف عبد فبقي على ملكه حتى دخل عتق لما قلنا قال: " ولو لم يكن قال في يمينه يومئذ لم يعتق " لأن قوله كل مملوك لي للحال والجزاء حرية المملوك في الحال إلا أنه لما دخل الشرط على الجزاء تأخر إلى وجود الشرط فيعتق إذا بقي على ملكه إلى وقت الدخول ولا يتناول من اشتراه بعد اليمين. " ومن قال كل مملوك لي ذكر فهو حر وله جارية حامل فولدت ذكرا لم يعتق " وهذا إذا ولدت لستة أشهر فصاعدا ظاهر لأن اللفظ للحال وفي قيام الحمل وقت اليمين احتمال لوجود أقل مدة الحمل بعده وكذا إذا ولدت لأقل من ستة أشهر لأن اللفظ يتناول المملوك المطلق والجنين مملوك تبعا للأم لا مقصودا ولأنه عضو من وجه واسم المملوك يتناول الأنفس دون الأعضاء ولهذا لا يملك بيعه منفردا قال العبد الضعيف وفائدة التقييد بوصف الذكورة أنه لو قال كل مملوك لي تدخل الحامل فيدخل الحمل تبعا لها. " وإن قال كل مملوك أملكه حر بعد غد أو قال كل مملوك لي فهو حر بعد غد وله مملوك فاشترى آخر ثم جاء بعد غد عتق الذي في ملكه يوم حلف " لأن قوله أملكه للحال حقيقة يقال أنا أملك كذا وكذا ويراد به الحال وكذا يستعمل له من غير قرينة، وللاستقبال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 بقرينة السين أو سوف فيكون مطلقه للحال فكان الجزاء حرية المملوك في الحال مضافا إلى ما بعد الغد فلا يتناول ما يشتريه بعد اليمين. " ولو قال كل مملوك أملكه أو قال كل مملوك لي حر بعد موتي وله مملوك فاشترى مملوكا آخر فالذي كان عنده وقت اليمين مدبر والآخر ليس بمدبر وإن مات عتقا من الثلث " وقال أبو يوسف رحمه الله في النوادر يعتق ما كان في ملكه يوم حلف ولا يعتق ما استفاد بعد يمينه وعلى هذا إذا قال كل مملوك لي إذا مت فهو حر له أن اللفظ حقيقة للحال على ما بيناه فلا يعتق به ما سيملكه ولهذا صار هو مدبرا دون الآخر ولهما أن هذا إيجاب عتق وإيصاء حتى اعتبر من الثلث وفي الوصايا تعتبر الحالة المنتظرة والحالة الراهنة ألا ترى أنه يدخل في الوصية بالمال ما يستفيده بعد الوصية وفي الوصية لأولاد فلان من يولد له بعدها والإيجاب إنما يصح مضافا إلى الملك أو إلى سببه فمن حيث إنه إيجاب العتق يتناول العبد المملوك اعتبارا للحالة الراهنة فيصير مدبرا حتى لا يجوز بيعه ومن حيث إنه إيصاء يتناول الذي يشتريه اعتبارا للحالة المتربصة وهي حالة الموت وقبل الموت حالة التملك استقبال محض فلا يدخل تحت اللفظ وعند الموت يصير كأنه قال كل مملوك لي أو كل مملوك أملكه فهو حر بخلاف قوله بعد غد على ما تقدم لأنه تصرف واحد وهو إيجاب العتق وليس فيه إيصاء والحالة محض استقبال فافترقا ولا يقال إنكم جمعتم بين الحال والاستقبال لأنا نقول نعم لكن بسببين مختلفين إيجاب عتق ووصية وإنما لا يجوز ذلك بسببب واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 باب العتق على جعل " ومن أعتق عبده على مال فقبل العبد عتق " وذلك مثل أن يقول أنت حر على ألف درهم أو بألف درهم وإنما يعتق بقبوله لأنه معاوضة المال بغير المال إذ العبد لا يملك نفسه ومن قضية المعاوضة ثبوت الحكم بقبول العوض للحال كما في البيع فإذا قبل صار حرا وما شرط دين عليه حتى تصح الكفالة بخلاف بدل الكتابة لأنه ثبت مع المنافي وهو قيام الرق على ما عرف وإطلاق لفظ المال ينتظم أنواعه من النقد والعرض والحيوان وإن كان بغير عينه لأنه معاوضة المال بغير المال فشابه النكاح والطلاق والصلح عن دم العمد وكذا الطعام والمكيل والموزون إذا كان معلوم الجنس ولا تضره جهالة الوصف لأنها يسيرة. قال: " ولو علق عتقه بأداء المال صح وصار مأذونا " وذلك مثل أن يقول إن أديت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 إلي ألف درهم فأنت حر ومعنى قوله صح أنه يعتق عند الأداء من غير أن يصير مكاتبا لأنه صريح في تعليق العتق بالأداء وإن كان فيه معنى المعاوضة في الانتهاء على ما نبين إن شاء الله تعالى وإنما صار مأذونا لأنه رغبه في الاكتساب بطلبه الأداء منه ومراده التجارة دون التكدي فكان إذنا له دلالة. " وإن أحضر المال أجبره الحاكم على قبضه وعتق العبد " ومعنى الإجبار فيه وفي سائر الحقوق أنه ينزل قابضا بالتخلية وقال زفر رحمه الله لا يجبر على القبول وهو القياس لأنه تصرف يمين إذ هو تعليق العتق بالشرط لفظا ولهذا لا يتوقف على قبول العبد ولا يحتمل الفسخ ولا جبر على مباشرة شروط الإيمان لأنه لا استحقاق قبل وجود الشرط بخلاف الكتابة لأنه معاوضة والبدل فيها واجب ولنا أنه تعليق نظرا إلى اللفظ ومعاوضة نظرا إلى المقصود لأنه ما علق عتقه بالأداء إلا ليحثه على دفع المال فينال العبد شرف الحرية والمولى المال بمقابلته بمنزلة الكتابة ولهذا كان عوضا في الطلاق في مثل هذا اللفظ حتى كان بائنا فجعلناه تعليقا في الابتداء عملا باللفظ ودفعا للضرر عن المولى حتى لا يمتنع عليه بيعه ولا يكون العبد أحق بمكاسبه ولا يسري إلى الولد المولود قبل الأداء وجعلناه معاوضة في الانتهاء عند الأداء دفعا للضرر عن العبد حتى يجبر المولى على القبول فعلى هذا يدور الفقه وتخرج المسائل نظيره الهبة بشرط العوض ولو أدى البعض يجبر على القبول إلا أنه لا يعتق مالم يؤد الكل لعدم الشرط كما إذا حط البعض وأدى الباقي ثم لو أدى ألفا اكتسبها قبل التعليق رجع المولى عليه وعتق لاستحقاقها ولو كان اكتسبها بعده لم يرجع عليه لأنه مأذون من جهته بالأداء منه ثم الأداء في قوله إن أديت يقتصر على المجلس لأنه تخيير وفي قوله إذا أديت لا يقتصر لأن إذا تستعمل للوقت بمنزلة متى. " ومن قال لعبده أنت حر بعد موتي على ألف درهم فالقبول بعد الموت " لإضافة الإيجاب إلى ما بعد الموت فصار كما إذا قال أنت حر غدا على ألف درهم بخلاف ما إذا قال أنت مدبر على ألف درهم حيث يكون القبول إليه في الحال لأن إيجاب التدبير في الحال إلا أنه لا يجب المال لقيام الرق قالوا لا يعتق عليه في مسئلة الكتاب وإن قبل بعد الموت مالم يعتقه الوارث لأن الميت ليس بأهل للإعتاق وهذا صحيح. قال: " ومن أعتق عبده على خدمته أربع سنين فقبل العبد فعتق من مات من ساعته فعليه قيمة نفسه في ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله عليه قيمة خدمته أربع سنين " أما العتق فلأنه جعل الخدمة في مدة معلومة عوضا فيتعلق العتق بالقبول وقد وجد ولزمه خدمة أربع سنين لأنه يصلح عوضا فصار كما إذا أعتقه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ألف درهم ثم إذا مات العبد فالخلافية فيه بناء على خلافية أخرى وهي أن من باع نفس العبد منه بجارية بعينها ثم استحقت الجارية أو هلكت يرجع المولى على العبد بقيمة نفسه عندهما وبقيمة الجارية عنده وهي معروفة ووجه البناء أنه كما يتعذر تسليم الجارية بالهلاك والاستحقاق يتعذر الوصول إلى الخدمة بموت العبد وكذا بموت المولى فصار نظيرها. " ومن قال لآخر أعتق أمتك على ألف درهم على أن تزوجنيها ففعل فأبت أن تتزوجه فالعتق جائز ولا شيء على الآمر " لأن من قال لغيره أعتق عبدك على ألف درهم علي ففعل لا يلزمه شيء ويقع العتق عن المأمور بخلاف ما إذا قال لغيره طلق امرأتك على ألف درهم علي ففعل حيث يجب الألف على الآمر لأن اشتراط البدل على الأجنبي في الطلاق جائز وفي العتاق لا يجوز وقد قررناه من قبل. " ولو قال أعتق أمتك عني على ألف درهم والمسئلة بحالها قسمت الألف على قيمتها ومهر مثلها فما أصاب القيمة أداه الآمر وما أصاب المهر بطل عنه " لأنه لما قال عني تضمن الشراء اقتضاء على ما عرف وإذا كان كذلك فقد قابل الألف بالرقبة شراء وبالبضع نكاحا فانقسم عليهما ووجبت حصة ما سلم له وهو الرقبة وبطل عنه مالم يسلم وهو البضع فلو زوجت نفسها منه لم يذكره وجوابه أن ما اصاب قيمتها سقط في الوجه الأول وهي للمولى في الوجه الثاني وما أصاب مهر مثلها كان مهرا لها في الوجهين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 باب التدبير " وإذا قال المولى لمملوكه إذا مت فأنت حر أو أنت حر عن دبر مني أو أنت مدبر أو قد دبرتك فقد صار مدبرا " لأن هذه الألفاظ صريح في التدبير فإنه إثبات العتق عن دبر " ثم لا يجوز بيعه ولا هبته ولا إخراجه عن ملكه إلا إلى الحرية " كما في الكتابة وقال الشافعي رحمه الله يجوز لأنه تعليق العتق بالشرط فلا يمتنع به البيع والهبة كما في سائر التعليقات وكما في المدبر المقيد ولأن التدبير وصية وهي غير مانعة من ذلك ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: " المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث " وهو حر من الثلث ولأنه سبب الحرية لأن الحرية تثبت بعد الموت ولا سبب غيره ثم جعله سببا في الحال أولى لوجوده في الحال وعدمه بعد الموت ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية الصرف فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية بخلاف سائر التعليقات لأن المانع من السببية قائم قبل الشرط لأنه يمين واليمين مانع والمنع هو المقصود وأنه يضاد وقوع الطلاق والعتاق وأمكن تأخير السببية إلى زمان الشرط لقيام الأهلية عنده فافترقا ولأنه وصية والوصية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 خلافة في الحال كالوراثة وإبطال السبب لا يجوز وفي البيع وما يضاهيه ذلك. قال: " وللمولى أن يستخدمه ويؤاجره وإن كانت أمة وطئها وله أن يزوجها " لأن الملك فيه ثابت له وبه تستفاد ولاية هذه التصرفات " فإذا مات المولى عتق المدبر من ثلث ماله " لما روينا ولأن التدبير وصية لأنه تبرع مضاف إلى وقت الموت والحكم غير ثابت في الحال فينفذ من الثلث حتى لو لم يكن له مال غيره يسعى في ثلثيه وإن كان على المولى دين يسعى في كل قيمته لتقدم الدين على الوصية ولا يمكن نقض العتق فيجب رد قيمته وولد المدبرة مدبر وعلى ذلك نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم " وإن علق التدبير بموته على صفة مثل أن يقول إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا أو من مرض كذا فليس بمدين ويجوز بيعه " لأن السبب لم ينعقد في الحال لتردد في تلك الصفة بخلاف المدبر المطلق لأنه تعلق عتقه بمطلق الموت وهو كائن لا محالة "فإن مات المولى على الصفة التي ذكرها عتق كما يعتق المدبر " معناه من الثلث لأنه ثبت حكم التدبير في آخر جزء من أجزاء حياته لتحقق تلك الصفة فيه فلهذا يعتبر من الثلث ومن المقيد أن يقول إن مت إلى سنة أو عشر سنين لما ذكرنا بخلاف ماذا قال إلى مائة سنة ومثله لا يعيش إليه في الغالب لأنه كالكائن لا محالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 باب الاستيلاد " إذا ولدت الأمة من مولاها فقد صارت أم ولد له لا يجوز بيعها ولا تمليكها " لقوله عليه الصلاة والسلام " أعتقها ولدها " أخبر عن إعتاقها فيثبت بعض مواجبه وهو حرمة البيع ولأن الجزئية قد حصلت بين الواطئ والموطوءة بواسطة الولد فإن الماءين قد اختلطا بحيث لا يمكن الميز بينهما على ما عرف في حرمة المصاهرة إلا أن بعد الانفصال تبقى الجزئية حكما لا حقيقة فضعف السبب فأوجب حكما مؤجلا إلى ما بعد الموت وبقاء الجزئية حكما باعتبار النسب وهو من جانب الرجال فكذا الحرية تثبت في حقهم لا في حقهن حتى إذا ملكت الحرة زوحها وقد ولدت منه لم يعتق الزوج الذي ملكته بموتها وبثبوت عتق مؤجل يثبت حق الحرية في الحال فيمنع جواز البيع وإخراجها لا إلى الحرية في الحال ويوجب عتقها بعد موته وكذا إذا كان بعضها مملوكا له لأن الاستيلاد لا يتجزأ فإنه فرع النسب فيعتبر بأصله. قال: " وله وطؤها واستخدامها وإجارتها وتزويجها " لأن الملك فيها قائم فأشبهت المدبرة " ولا يثبت نسب ولدها إلا أن يعترف به " وقال الشافعي رحمه الله يثبت نسبه منه وإن لم يدع لأنه لما ثبت النسب بالعقد فلأن يثبت بالوطء وأنه أكثر إفضاء أولى ولنا أن وطء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الأمة يقصد به قضاء الشهوة دون الولد لوجود المانع عنه فلا بد من الدعوة بمنزلة ملك اليمين من غير وطء بخلاف العقد لأن الولد يتعين مقصودا منه فلا حاجة إلى الدعوة " فإن جاءت بعد ذلك بولد ثبت نسبه بغير إقرار " معناه بعد اعتراف منه بالولد الأول لأنه بدعوى الولد الأول تعين الولد مقصودا منها فصارت فراشا كالمعقودة بعد النكاح " إلا أنه إذا نفاه ينتفي بقوله " لأن فراشها ضعيف حتى يملك نقله بالتزويج بخلاف المنكوحة حيث لا ينتفي الولد بنفيه إلا باللعان لتأكد الفراش حتى لا يملك إبطاله بالتزويج وهذا الذي ذكرناه حكم فأما الديانة فإن كان وطئها وحصنها ولم يعزل عنها يلزمه أن يعترف به ويدعي لأن الظاهر أن الولد منه وإن عزل عنها أو لم يحصنها جاز له أن ينفيه لأن هذا الظاهر يقابله ظاهر آخر هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف وعن محمد رحمهما الله ذكرناهما في كفاية المنتهى " فإن زوجها فجاءت بولد فهو في حكم أمه " لأن حق الحرية يسري إلى الولد كالتدبير ألا ترى أن ولد الحرة حر وولد القنة رقيق " والنسب يثبت من الزوج " لأن الفراش له وإن كان النكاح فاسدا إذ الفاسد ملحق بالصحيح في حق الأحكام ولو ادعاه المولى لا يثبت نسبه منه لأنه ثابت النسب من غيره ويعتق الولد وتصير أمه أم ولد له لإقراره " وإذا مات المولى عتقت من جميع المال " لحديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بعتق أمهات الأولاد وأن لا يبعن في دين ولا يجعلن من الثلث ولأن الحاجة إلى الولد أصلية فتقدم على حق الورثة والدين كالتكفين بخلاف التدبير لأنه وصية بما هو من زوائد الحوائج " ولا سعاية عليها في دين المولى للغرماء " لما روينا ولأنها ليست بمال متقوم حتى لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يتعلق بها حق الغرماء كالقصاص بخلاف المدبر لأنه مال متقوم " وإذا أسلمت أم ولد النصراني فعليها أن تسعى في قيمتها " وهي بمنزلة المكاتبة لا تعتق حتى تؤدي السعاية. وقال زفر رحمه الله: تعتق في الحال والسعاية دين عليها وهذا الخلاف فيما إذا عرض على المولى الإسلام فأبى فإن أسلم تبقى على حالها له أن إزالة الذل عنها بعد ما أسلمت واجبة وذلك بالبيع أو الإعتاق وقد تعذر البيع فتعين الإعتاق ولنا أن النظر من الجانبين في جعلها مكاتبة لأنه يندفع الذل عنها بصيرورتها حرة يدا والضرر عن الذمي لانبعاثها على الكسب نيلا لشرف الحرية فيصل الذمي إلى بدل ملكه أما لو أعتقت وهي مفلسة تتوانى في الكسب ومالية أم الولد يعتقدها الذمي متقومة فيترك وما يعتقده ولأنها إن لم تكن متقومة فهي محترمة وهذا يكفي لوجوب الضمان كما في القصاص المشترك إذا عفا أحد الأولياء يجب المال للباقين " ولو مات مولاها عتقت بلا سعاية " لأنها أم ولد له ولو عجزت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 في حياته لا ترد قنة لأنها لو ردت قنة أعيدت مكاتبة لقيام الموجب. " ومن استولد أمة غيره بنكاح ثم ملكها صارت أم ولد له " وقال الشافعي رحمه الله لا تصير أم ولد له ولو استولدها بملك يمين ثم استحقت ثم ملكها تصير أم ولد له عندنا وله فيه قولان وهو ولد المغرور له أنها علقت برقيق فلا تكون أم ولد له كما إذا علقت من الزنا ثم ملكها الزاني وهذا لأن أمومية الولد باعتبار علوق الولد حرا لأنه جزء الأم في تلك الحالة والجزء لا يخالف الكل ولنا أن السبب هو الجزئية على ما ذكرنا من قبل والجزئية إنما تثبت بينهما بنسبة الولد الواحد إلى كل واحد منهما كملا وقد ثبت النسب فتثبت الجزئية بهذه الواسطة بخلاف الزنا لأنه لا نسب فيه للولد إلى الزاني وإنما يعتق على الزاني إذا ملكه لأنه جزؤه حقيقة بغير واسطة نظيره من اشترى أخاه من الزنا لا يعتق لأنه ينسب إليه بواسطة نسبته إلى الولد وهي غير ثابتة. " وإذا وطئ جارية ابنه فجاءت بولد فادعاه ثبت نسبه منه وصارت أم ولد له وعليه قيمتها وليس عليه عقرها ولا قيمة ولدها " وقد ذكرنا المسئلة بدلائلها في كتاب النكاح من هذا الكتاب وإنما لا يضمن قيمة الولد لأنه انعلق حر الأصل لاستناد الملك إلى ما قبل الاستيلاد " وإن وطئ أب الأب مع بقاء الأب لم يثبت النسب " لأنه لا ولاية للجد حال بقاء الأب "ولو كان الأب ميتا ثبت من الجد كما يثبت نسبه من الأب " لظهور ولايته عند فقد الأب وكفر الأب ورقه بمنزلة موته لأنه قاطع للولاية. " وإذا كانت الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت نسبه منه " لأنه لما ثبت النسب في نصفه لمصادفته ملكه ثبت في الباقي ضرورة أنه لا يتجزأ لما أن سببه لا يتجزأ وهو العلوق إذ الولد الواحد لا ينعلق من ماءين " وصارت أم ولد له " لأن الاستيلاد لا يتجزأ عندهما. " وعند أبي حنيفة رحمه الله يصير نصيبه أم ولد له ثم يتملك نصيب صاحبه إذ هو قابل للملك ويضمن نصف قيمتها " لأنه تملك نصيب صاحبه لما استكمل الاستيلاد ويضمن نصف عقرها لأنه وطئ جارية مشتركة إذ الملك يثبت حكما للاستيلاد فيتعقبه الملك في نصيب صاحبه بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه لأن الملك هنالك يثبت شرطا للاستيلاد فيتقدمه فصار واطئا ملك نفسه " ولا يغرم قيمة ولدها " لأن النسب يثبت مستندا إلى وقت العلوق فلم ينعلق شيء منه على ملك الشريك " وإن ادعياه معا ثبت نسبه منهما " معناه إذا حملت على ملكهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وقال الشافعي رحمه الله يرجع إلى قول القافة لأن إثبات النسب من شخصين معا مع علمنا أن الولد لا ينخلق من ماءين متعذر فعملنا بالشبه وقد سر رسول الله عليه الصلاة والسلام بقول القائف في اسامة رضي الله عنه. ولنا كتاب عمر رضي الله عنه إلى شريح في هذه الحادثة لبسا فلبس عليهما ولو بينا لبين لهما هو ابنهما يرثهما ويرثانه وهو للباقي منهما وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك ولأنهما استويا في ثبت الاستحقاق فيستويان فيه والنسب وإن كان لا يتجزأ ولكن تتعلق به أحكام متجزئة فما يقبل التجزئة يثبت في حقهما على التجزئة ومالا يقبلها يثبت في حق كل أحد منهما كملا كأن ليس معه غيره إلا إذا كان أحد الشريكين أبا للآخر أو كان أحدهما مسلما والآخر ذميا لوجود المرجح في حق المسلم وهو الإسلام وفي حق الأب وهو ماله من الحق في نصيب الابن وسرور النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي لأن الكفار كانوا يطعنون في نسب أسامة رضي الله عنه وكان قول القائف مقطعا لطعنهم فسر به " وكانت الأمة أم ولد لهما " لصحة دعوة كل واحد منهما في نصيبه في الولد فيصير نصيبه منها أم ولد له تبعا لولدها " وعلى كل واحد منهما نصف العقر قصاصا بماله على الآخر ويرث الابن من كل واحد منهما ميراث ابن كامل " لأنه أقر له بميراثه كله وهو حجة في حقه " ويرثان منه ميراث أب واحد " لاستوائهما في النسب كما إذا اقاما البينة. " وإذا وطئ المولى جارية مكاتبه فجاءت بولد فادعاه فإن صدقه المكاتب ثبت نسب الولد منه " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يعتبر تصديقه اعتبارا بالأب يدعى ولد جارية ابنه ووجه الظاهر وهو الفرق أن المولى لا يملك التصرف في أكساب مكاتبه حتى لا يتملكه والأب يملك تملكه فلا معتبر بتصديق الابن قال " وعليه عقرها " لأنه لا يتقدمه الملك لأن ماله من الحق كاف لصحة الاستيلاد لما نذكره قال " وقيمة ولدها " لأنه في معنى المغرور حيث إنه اعتمد دليلا وهو أنه كسب كسبه فلم يرض برقه فيكون حرا بالقيمة ثابت النسب منه " ولا تصير الجارية أم ولد له " لأنه لا ملك له فيها حقيقة كما في ولد المغرور. " وإن كذبه المكاتب في النسب لم يثبت " لما بينا أنه لا بد من تصديقه " فلو ملكه يوما ثبت نسبه منه " لقيام الموجب وزوال حق المكاتب إذ هو المانع والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 كتاب الأيمان أضرب الأيمان ... كتاب الأيمان قال: " الأيمان على ثلاثة أضرب اليمين العموس ويمين منعقدة ويمين لغو فالغموس هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من حلف كاذبا أدخله الله النار " " ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار ". وقال الشافعي رحمه الله فيها الكفارة لأنها شرعت لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى وقد تحقق بالاستتشهاد بالله كاذبا فأشبه المعقودة ولنا أنها كبيرة محضة والكفارة عبادة تتأدى بالصوم ويشترط فيها النية فلا تناط بها بخلاف المعقودة لأنها مباحة ولو كان فيها ذنب فهو متأخر متعلق باختيار مبتدأوما في الغموس ملازم فيمتنع الإلحاق " والمنعقدة ما يحلف على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله وإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة " لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وهو ما ذكرنا " واليمين اللغو أن يحلف على أمر ماض وهو يظن أنه كما قال والأمر يخلافه فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها " ومن اللغو أن يقول والله إنه لزيد وهو يظنه زيدا وإنما هو عمرو والأصل فيه قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} الآية إلا أنه علقه بالرجاء للاختلاف في تفسيره. قال: " والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواء " حتى تجب الكفارة لقوله عليه الصلاة والسلام ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين والشافعي رحمه الله يخالفنا في ذلك وسنبين في الإكراه إن شاء الله تعالى. " ومن فعل المحلوف عليه مكرها أو ناسيا فهو سواء " لأن الفعل الحقيقي لا ينعدم بالإكراه وهو الشرط وكذا إذا فعله وهو مغمى عليه أو مجنون لتحقق الشرط حقيقة ولو كانت الحكمة رفع الذنب فالحكم يدار على دليله وهو الحنث لا على حقيقة الذنب والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 باب ما يكون يمينا وما لا يكون يمينا مدخل ... باب ما يكون يمينا ومالا يكون يمينا قال: " واليمين بالله تعالى أو باسم آخر من أسماء الله تعالى كالرحمن والرحيم أو بصفة من صفاته التي يحلف بها عرفا كعزة الله وجلاله وكبريائه " لأن الحلف بها متعارف ومعنى اليمين وهو القوة حاصل لأنه يعتقد تعظيم الله وصفاته فصلح ذكره حاملا ومانعا. قال: " إلا قوله وعلم الله فإنه لا يكون يمينا " لأنه غير متعارف ولأنه يذكر ويراد به المعلوم يقال اللهم اغفر علمك فينا أي معلوماتك. ولو قال: " وغضب الله وسخطه لم يكن حالفا " وكذا ورحمة الله لأن الحلف بها غير متعارف ولأن الرحمة قد يراد بها أثرها وهو المطر أو الجنة والغضب والسخط يراد بهما العقوبة. " ومن حلف بغير الله لم يكن حالفا كالنبي والكعبة " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر " وكذا إذا حلف بالقرآن لأنه غير متعارف قال رضي الله عنه معناه أن يقول والنبي والقرآن أما لو قال أنا بريء منهما يكون يمينا لأن التبري منهما كفر. قال: " والحلف بحروف القسم وحروف القسم الواو كقوله والله والباء كقوله بالله والتاء كقوله تالله " لأن كل ذلك معهود في الأيمان ومذكور في القرآن " وقد يضمر الحرف فيكون حالفا كقوله الله لا أفعل كذا " لأن حذف الحرف من عادة العرب إيجازا ثم قيل ينصب لانتزاع الحرف الخافض وقيل يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف وكذا إذا قال لله في المختار لأن الباء تبدل بها قال الله تعالى: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] أي آمنتم به. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال وحق الله فليس بحالف وهو قول محمد رحمه الله وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وعنه رواية أخرى أنه يكون يمينا لأن الحق من صفات الله تعالى وهو حقيته فصار كأنه قال والله الحق والحلف به متعارف ولهما أنه يراد به طاعة الله تعالى إذ الطاعات حقوقه فيكون حلفا بغير الله قالوا ولو قال والحق يكون يمينا ولو قال حقا لا يكون يمينا لأن الحق من أسماء الله تعالى والمنكر يراد به تحقيق الوعد. " ولو قال اقسم أو أقسم بالله أو أحلف أو أحلف بالله أو أشهد أو أشهد بالله فهو حالف " لأن هذه الألفاظ مستعملة في الحلف وهذه الصيغة للحال حقيقة وتستعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 للاستقبال بقرينة فجعل حالفا في الحال والشهادة يمين قال الله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] ثم قال {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] والحلف بالله هو المعهود المشروع وبغيره محظور فصرف إليه ولهذا قيل لا يحتاج إلى النية وقيل لا بد منها لاحتمال العدة واليمين بغير الله. " ولو قال بالفارسية سوكند ميخورم بخداي يكون يمينا " لأنه للحال ولو قال سوكندخورم قيل لا يكون يمينا ولو قال بالفارسية سوكندخورم بطلاق زنم لا يكون يمينا لعدم التعارف قال رضي الله عنه " وكذا قوله لعمر الله وأيم الله " لأن عمر الله بقاء الله وأيم الله معناه أيمن الله وهو جمع يمين وقيل معناه والله وأيم صلة كالواو والحلف باللفظين متعارف " وكذا قوله وعهد الله وميثاقه " لأن العهد يمين قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91] والميثاق عبارة عن العهد "وكذا إذا قال علي نذر أو نذر الله" لقوله عليه الصلاة والسلام " من نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين " " وإن قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينا " لأنه لما جعل الشرط علما على الكفر فقد اعتقده واجب الامتناع وقد أمكن القول بوجوبه لغيره بجعله يمينا كما تقول في تحريم الحلال ولو قال ذلك لشيء قد فعله فهو الغموس ولا يكفر اعتبارا بالمستقبل وقيل يكفر لأنه تنجيز معنى فتصار كما إذا قال هو يهودي والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل. " ولو قال: إن فعلت كذا فعلي غضب الله أو سخط الله فليس بحالف " لأنه دعاء على نفسه ولا يتعلق ذلك بالشروط ولأنه غير متعارف " وكذا إذا قال إن فعلت كذا فأنا زان أو سارق أو شارب خمر أو آكل ربا " لأن حرمة هذه الأشياء تحتمل النسخ والتبديل فلم تكن في معنى حرمة الاسم ولأنه ليس بمتعارف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 فصل في الكفارة قال: " كفارة اليمين عتق رقبة يجزي فيها ما يجزي في الظهار وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحد ثوبا فما زاد وأدناه ما يجوز فيه الصلاة وإن شاء أطعم عشرة مساكين كالإطعام في كفارة الظهار " والأصل فيه قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية وكلمة أو للتخيير فكان الواجب أحد الأشياء الثلاثة قال: " فإن لم يقدر على أحد الأشياء الثلاثة صام ثلاثة أيام متتابعات " وقال الشافعي رحمه الله يخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 لإطلاق النص ولنا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات وهي كالخبر المشهور ثم المذكور في الكتاب في بيان أدنى الكسوة مروي عن محمد وعن أبي يوسف وأبي حنيفة رحمهما الله أن أدناه ما يستر عامة بدنه حتى لا يجوز السراويل وهو الصحيح لأن لابسه يسمى عريانا في العرف لكن ما لا يجزيه عن الكسوة يجزيه عن الطعام باعتبار القيمة " وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزه ". وقال الشافعي رحمه الله يجزيه بالمال لأنه أداها بعد السبب وهو اليمين فأشبه التكفير بعد الجرح ولنا أن الكفارة لستر الجناية ولا جناية ههنا واليمين ليست بسبب لأنه مانع غير مفض بخلاف الجرح لأنه مفض " ثم لا يسترد من المسكين " لوقوعه صدقة. قال: " ومن حلف على معصية مثل أن لا يصلي أو لا يكلم أباه أو ليقتلن فلانا ينبغي أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه " ولأن فيما قلنا تفويت البر إلى جابر وهو الكفارة ولا جابر للمعصية في ضده. " وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال كفره أو بعد إسلامه فلا حنث عليه " لأنه ليس بأهل لليمين لأنها تعقد لتعظيم الله تعالى ومع الكفر لا يكون معظما ولا هو أهل للكفارة لأنها عبادة. " ومن حرم على نفسه شيئا مما يملكه لم يصر محرما وعليه إن استباحه كفارة يمين " وقال الشافعي رحمه الله لا كفارة عليه لأن تحريم الحلال قلب المشروع فلا ينعقد به تصرف مشروع وهو اليمين ولنا أن اللفظ ينبئ عن إثبات الحرمة وقد أمكن إعماله بثبوت الحرمة لغيره بإثبات موجب اليمين فيصار إليه ثم إذا فعل مما حرمه قليلا أو كثيرا حنث ووجبت الكفارة وهو المعنى من الاستباحة المذكورة لأن التتحريم إذا ثبت تناول كل جزء منه. " ولو قال كل حل علي حرام فهو على الطعام والشراب إلا أن ينوي غير ذلك " والقياس أن يحنث كما فرغ لأنه باشر فعلا مباحا وهو التنفس ونحوه وهذا قول زفر رحمه الله وجه الاستحسان أن المقصود وهو البر لا يتحصل مع اعتبار العموم وإذا سقط اعتباره ينصرف إلى الطعام والشراب للعرف فإنه يستعمل فيما يتناول عادة ولا يتناول المرأة إلا بالنية لإسقاط اعتبار العموم وإذا نواها كان إيلاء ولا تصرف اليمين عن المأكول والمشروب وهذا كله جواب ظاهر الرواية ومشايخنا رحمهم الله قالوا يقع به الطلاق عن غير نية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 لغلبة الاستعمال وعليه الفتوى وكذا ينبغي في قوله حلال يروى حرام للعرف. واختلفوا في قوله هرجه بردست راست كيرم بروى حرام أنه هل تشترط النية والأظهر أنه يجعل طلاقا من غير نية للعرف. " ومن نذر نذرا مطلقا فعليه الوفاء " لقوله عليه الصلاة والسلام: " من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى " " وإن علق النذر بشرط فوجد الشرط فعليه الوفاء بنفس النذر " لإطلاق الحديث ولأن المعلق بشرط كالمنجز عنده " وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه رجع عنه وقال إذا قال إن فعلت كذا فعلي حجة أو صوم سنة أو صدقة ما أملكه أجزأه من ذلك كفارة يمين وهو قول محمد رحمه الله " ويخرج عن العهدة بالوفاء بما سمى أيضا وهذا إذا كان شرطا لا يريد كونه لأن فيه معنى اليمين وهو المنع وهو بظاهره نذر فيتخير ويميل إلى أي الجهتين شاء بخلاف ما إذا كان شرطا يريد كونه كقوله إن شفى الله مريضي لانعدام معنى اليمين فيه وهو المنع وهذا التفصيل هو الصحيح. قال: " ومن حلف على يمين وقال إن شاء الله متصلا بيمينه فلا حنث " عليه لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف على يمين وقال إن شاء الله فقد بر في يمينه " إلا أنه لا بد من الاتصال لأنه بعد الفراغ رجوع ولا رجوع في اليمين والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 باب اليمين في الدخول والسكنى " ومن حلف لا يدخل بيتا فدخل الكعبة أو المسجد أو البيعة أو الكنيسة لم يحنث " لأن البيت ما أعد للبيتوتة وهذه البقاع ما بنيت لها " وكذا إذا دخل دهليزا أو ظلة باب الدار " لما ذكرنا والظلة ما تكون على السكة وقيل إذا كان الدهليز بحيث لو أغلق الباب يبقى داخلا وهو مسقف يحنث لأنه يبات فيه عادة " وإن دخل صفة حنث " لأنها تبنى للبيتوتة فيها في بعض الأوقات فصار كالشتوي والصيفي وقيل هذا إذا كانت الصفة ذات حوائط أربعة وهكذا كانت صفافهم وقيل الجواب مجرى على إطلاقه وهو الصحيح. "ومن حلف لا يدخل دارا فدخل دارا خربة لم يحنث ولو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث " لأن الدار اسم للعرصة عند العرب والعجم يقال دار عامرة ودار غامرة وقد شهدت أشعار العرب بذلك والبناء وصف فيها غير أن الوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر. " ولو حلف لا يدخل هذه الدار فخربت ثم بنيت أخرى فدخلها يحنث " لما ذكرنا أن الاسم باق بعد الانهدام " وإن جعلت مسجدا أو حماما أو بستانا أو بيتا فدخله لم يحنث " لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 لم يبق دارا لاعتراض اسم آخر عليه وكذا إذا دخله بعد انهدام الحمام وأشباهه لأنه لا يعود اسم الدارية " وإن حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم وصار صحراء لم يحنث " لزوال اسم البيت لأنه لا يبات فيه حتى لو بقيت الحيطان وسقط السقف يحنث لأنه يبات فيه والسقف وصف فيه " وكذا إذا بنى بيتا آخر فدخله لم يحنث " لأن الاسم لم يبق بعد الانهدام. قال: " ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها حنث " لأن السطح من الدار ألا ترى أن المعتكف لا يفسد اعتكافه بالخروج إلى سطح المسجد وقيل في عرفنا لا يحنث وهو اختيار الفقيه أبي الليث قال " وكذا إذا دخل دهليزها " ويجب أن يكون على التفصيل الذي تقدم " وإن وقف في طاق الباب بحيث إذا أغلق الباب كان خارجا لم يحنث " لأن الباب لإحزاز الدار وما فيها فلم يكن الخارج من الدار. قال: " ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود حتى يخرج ثم يدخل " استحسانا والقياس أن يحنث لأن الدوام له حكم الابتداء وجه الاستحسان أن الدخول لا دوام له لأنه انفصال من الخارج إلى الداخل. " ولو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فنزعه في الحال لم يحنث " وكذا إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل من ساعته لم يحنث وكذا لو حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في النقلة من ساعته وقال زفر رحمه الله يحنث لوجود الشرط وإن قل ولنا أن اليمين تعقد للبر فيستثنى منه زمان تحققه " فإن لبث على حاله ساعة حنث " لأن هذه الأفاعيل لها دوام بحدوث أمثالها ألا يرى أنه يضرب لها مدة يقال ركبت يوما ولبست يوما بخلاف الدخول لأنه لا يقال دخلت يوما بمعنى المدة والتوقيت ولو نوى الابتداء الخالص يصدق لأنه محتمل كلامه. قال: " ومن حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه ومتاعه وأهله فيها ولم يرد الرجوع إليها حنث " لأنه يعد ساكنها ببقاء أهله ومتاعه فيها عرفا فإن السوقي عامة نهاره في السوق ويقول أسكن سكة كذا والبيت والمحلة بمنزلة الدار ولو كان اليمين على المصر لا يتوقف البر على نقل المتاع والأهل فيما روي عن أبي يوسف رحمه الله لأنه لا يعد ساكنا في الذي انتقل عنه عرفا بخلاف الأول والقرية بمنزلة المصر في الصحيح من الجواب ثم قال أبو حنيفة رحمه الله لا بد من نقل لك المتاع حتى لو بقي وقد يحنث لأن السكنى قد ثبت بالكل فيبقى ما بقي شيء منه وقال أبو يوسف رحمه الله يعتبر نقل الأكثر لأن نقل الكل قد يتعذر وقال محمد رحمه الله يعتبر نقل ما يقوم به كدخدائيته لأن ما وراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ذلك ليس من السكنى قالوا هذا أحسن وأرفق بالناس وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر بلا تأخير حتى يبر فإن انتقل إلى السكة إو إلى المسجد قالوا لا يبر دليله في الزيادات أن من خرج بعياله من مصره فما لم يتخذ وطنا آخر يبقى وطنه الأول في حق الصلاة كذا هذا والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك قال: " ومن حلف لا يخرج من المسجد فأمر إنسانا فحمله فأخرجه حنث " لأن فعل المأمور مضاف إلى الآمر فصار كما إذا ركب دابة فخرجت " ولو أخرجه مكرها لم يحنث " لأن الفعل لم ينتقل إليه لعدم الأمر " ولو حمله برضاه لا بأمره لا يحنث " في الصحيح لأن الانتقال بالأمر لا بمجرد الرضا. قال: " ولو حلف لا يخرج من داره إلا إلى جنازة فخرج إليها ثم أتى حاجة أخرى لم يحنث " لأن الموجود خروج مستثنى والمضي بعد ذلك ليس بخروج " ولو حلف لا يخرج إلى مكة فخرج يريدها ثم رجع حنث " لوجود الخروج على قصد مكة وهو الشرط إذ الخروج هو الانفصال من الداخل إلى الخارج. " ولو حلف لا يأتيها لم يحنث حتى يدخلها " لأنه عبارة عن الوصول قال الله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا} [الشعراء: 16] ولو حلف لا يذهب إليها قيل هو كالإتيان وقيل هو كالخروج وهو الأصح لأنه عبارة عن الزوال " وإن حلف ليأتين البصرة فلم يأتها حتى مات حنث في آخر جزء من أجزاء حياته " لأن البر قبل ذلك مرجو. " ولو حلف ليأتينه غدا إن استطاع فهذا على استطاعة الصحة دون القدرة وفسره في الجامع الصغير وقال إذا لم يمرض ولم يمنعه السلطان ولم يجئ أمر لا يقدر على إتيانه فلم يأته حنث وإن عنى استطاعة القضاء دين فيما بينه وبين الله تعالى " وهذا لأن حقيقة الاستطاعة فيما يقارن الفعل ويطلق الاسم على سلامة الآلات وصحة الأسباب في المتعارف فعند الإطلاق ينصرف إليه وتصح نية الأول ديانة لأنه نوى حقيقة كلامه ثم قيل وتصح قضاء أيضا لما بينا وقيل لا تصح لأنه خلاف الظاهر. قال: " ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه فأذن لها مرة فخرجت ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه حنث ولا بد من الإذن في كل خروج " لأن المستثنى خروج مقرون بالإذن وما وراءه داخل في الحظر العام ولو نوى الإذن مرة يصدق ديانة لا قضاء لأنه محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 " ولو قال إلا أن آذن لك فأذن لها مرة واحدة فخرجت ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث " لأن هذه كلمة غاية فتنتهي اليمين به كما إذا قال حتى آذن لك. " ولو أرادت المرأة الخروج فقال إن خرجت فأنت طالق فجلست ثم خرجت لم يحنث " وكذلك إذا أراد رجل ضرب عبده فقال له آخر إن ضربته فعبدي هو حر فتركه ثم ضربه وهذه تسمى يمين فور وتفرد أبو حنيفة رحمه الله بإظهاره ووجهه أن مراد المتكلم الرد عن تلك الضربة والخرجة عرفا ومبني الأيمان عليه. " ولو قال له رجل اجلس فتغد عندي فقال إن تغديت فعبدي حر فخرج فرجع إلى منزله وتغدى لم يحنث " لأن كلامه خرج مخرج الجواب فينطبق على السؤال فينصرف إلى الغداء المدعو إليه بخلاف ما إذا قال إن تغديت اليوم لأنه زاد على حرف الجواب فيجعل مبتدئا. " ومن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبد مأذون له مديون أو غير مديون لم يحنث " عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أنه إذا كان عليه دين مستغرق لا يحنث وإن نوى لأنه لا ملك للمولى فيه عنده وإن كان الدين غير مستغرق أو لم يكن عليه دين لا يحنث ما لم ينوه لأن الملك فيه للمولى لكنه يضاف إلى العبد عرفا وكذا شرعا قال عليه الصلاة والسلام " من باع عبدا وله مال فهو للبائع " الحديث فتختل الإضافة إلى المولى فلا بد من النية وقال أبو يوسف رحمه الله في الوجوه كلها يحنث إذا نواه لاختلال الإضافة وقال محمد رحمه الله يحنث وإن لم ينوه لاعتبار حقيقة الملك إذ الدين لا يمنع وقوعه السيد عندهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 باب اليمين في الأكل والشرب قال: " ومن حلف لا يأكل من هذه النخلة فهو على ثمرها " لأنه أضاف اليمين إلى مالا يؤكل فينصرف إلى ما يخرج منه وهو الثمر لأنه سبب له فيصلح مجازا عنه لكن الشرط أن لا يتغير بصنعة جديدة حتى لا يحنث بالنبيذ والخل والدبس المطبوخ " وإن حلف لا يأكل من هذا البسر فصار رطبا فأكله لم يحنث وكذا إذا حلف لا يأكل من هذا الرطب أو من هذا اللبن فصار تمرا أو صار اللبن شبرازا لم يحنث " لأن صفة البسورة والرطوبة داعية إلى اليمين وكذا كونه لبنا فيتقيد به ولأن اللبن مأكول فلا ينصرف اليمين إلى ما يتخذ منه بخلاف ما إذا حلف لا يكلم هذا الصبي أو هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ لأن هجران المسلم بمنع الكلام منهي عنه فلا يعتبر الداعي داعيا في الشرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 " ولو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل فأكل بعد ما صار كبشا حنث " لأن صفة الصغر في هذا ليست بداعية إلى اليمين فإن الممتنع عنه أكثر امتناعا عن لحم الكبش قال " ومن حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا لم يحنث " لأنه ليس ببسر " ومن حلف لا يأكل رطبا أو بسرا أو حلف لا يأكل رطبا ولا بسرا فأكل مذنبا حنث عند أبي حنيفة وقالا لا يحنث في الرطب " يعني بالبسر المذنب ولا في البسر بالرطب المذنب لأن الرطب المذنب يسمى رطبا والبسر المذنب يسمى بسرا فصار كما إذا كان اليمين على الشراء وله أن الرطب المذنب ما يكون في ذنبه قليل بسر والبسر المذنب على عكسه فيكون آكله آكل البسر والرطب وكل واحد مقصود في الأكل بخلاف الشراء لأنه يصادف الجملة فيتبع القليل فيه الكثير. " ولو حلف لا يشتري رطبا فاشترى كباسة بسر فيها رطب لا يحنث " لأن الشراء يصادف الجملة والمغلوب تابع ولو كانت اليمين على الأكل يحنث لأن الأكل يصادفه شيئا فشيئا فكان كل منهما مقصودا وصار كما إذا حلف لا يشتري شعيرا أو لا يأكله فاشترى حنطة فيها حبات شعير وأكلها يحنث في الأكل دون الشراء لما قلنا. قال: " ومن حلف لا يأكل لحما فأكل لحم السمك لا يحنث " والقياس أن يحنث لأنه يسمى لحما في القرآن وجه الاستحسان أن التسمية مجازية لأن اللحم منشؤه من الدم ولا دم فيه لكونه في الماء " وإن أكل لحم خنزير أو لحم إنسان يحنث " لأنه لحم حقيقي إلا أنه حرام واليمين قد تعقد للمنع من الحرام " وكذا إذا أكل كبدا أو كرشا " لأنه لحم حقيقة فإن نموه من الدم ويستعمل استعمال اللحم وقيل في عرفنا لا يحنث لأنه لا يعد لحما. قال: " ولو حلف لا يأكل أو لا يشتري شحما لم يحنث إلا في شحم البطن عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يحنث في شحم الظهر أيضا " وهو اللحم السمين لوجود خاصية الشحم فيه وهو الذوب بالنار وله أنه لحم حقيقة ألا ترى أنه ينشأ من الدم ويستعمل استعماله وتحصل به قوته ولهذا يحنث بأكله في اليمين على أكل اللحم ولا يحنث ببيعه في اليمين على بيع الشحم وقيل هذا بالعربية فأما اسم بيه بالفارسية لا يقع على شحم الظهر بحال. " ولو حلف لا يشتري أو لا يأكل لحما أو شحما فاشترى ألية أو أكلها لم يحنث " لأنه نوع ثالث حتى لا يستعمل استعمال اللحوم والشحوم. " ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة لم يحنث حتى يقضمها ولو أكل من خبزها لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا إن أكل من خبزها حنث أيضا " لأنه مفهوم منه عرفا ولأبي حنيفة رحمه الله أن له حقيقة مستعملة فإنها تقلى وتغلى وتؤكل قضما وهي قاضية على المجاز المتعارف على ما هو الأصل عنده ولو قضمها حنث عندهما هو الصحيح لعموم المجاز كما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان وإليه الإشارة بقوله في الخبز حنث أيضا. قال: " ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه حنث " لأن عينه غير مأكول فانصرف إلى ما يتخذ منه " ولو استفه كما هو لا يحنث " هو الصحيح لتعين المجاز مرادا. " ولو حلف لا يأكل خبزا فيمينه على ما يعتاد أهل المصر أكله خبز ا" وذلك خبز الحنط والشعير لأنه هو المعتاد في غالب البلدان "ولو أكل من خبز القطائف لا يحنث" لأنه لا يسمى خبزا مطلقا إلا إذا نواه لأنه محتمل كلامه " وكذا لو أكل خبز الأرز بالعراق لم يحنث " لأنه غير معتاد عندهم حتى لو كان بطبرستان أو في بلدة طعامهم ذلك يحنث. " ولو حلف لا يأكل الشواء فهو على اللحم دون الباذنجان والجزر " لأنه يراد به اللحم المشوي عند الإطلاق إلا أن ينوي ما يشوى من بيض أو غيره لمكان الحقيقة " وإن حلف لا يأكل الطبيخ فهو على ما يطبخ من اللحم " وهذا استحسان اعتبارا للعرف وهذا لأن التعميم متعذر فيصرف إلى خاص هو متعارف وهو اللحم المطبوخ بالماء إلا إذا نوى غير ذلك لأن فيه تشديدا وإن أكل من مرقه يحنث لما فيه من أجزاء اللحم ولأنه يسمى طبيخا. " ومن حلف لا يأكل الرؤوس فيمينه على ما يكبس في التنانير ويباع في المصر " ويقال يكنس. " وفي الجامع الصغير لو حلف لا يأكل رأس فهو على رؤوس البقر والغنم عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على الغنم خاصة " وهذا اختلاف عصر وزمان كان العرف في زمنه فيهما وفي زمنهما في الغنم خاصة وفي زماننا يفتي على حسب العادة كما هو المذكور في المختصر. قال: " ومن حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو رمانا أو رطبا أو قثاء أو خيارا لم يحنث وإن أكل تفاحا أو بطيخا أو مشمشا حنث وهذا عند أبي أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله حنث في العنب والرطب والرمان أيضا " والأصل أن الفاكهة اسم لما يتفكه به قبل الطعام وبعده أي يتنعم به زيادة على المعتاد والرطب واليابس فيه سواء بعد أن يكون التفكه به معتادا حتى لا يحنث بيابس البطيخ وهذا المعنى موجود في التفاح وأخواته فيحنث بها وغير موجود في القثاء والخيار لأنهما من البقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 بيعا وأكلا فلا يحنث بهما وأما العنب والرطب والرمان فهما يقولان إن معنى التفكه موجود فيها فإنها أعز الفواكه والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها وأبو حنيفة رحمه الله يقول إن هذه الأشياء مما يتغذى بها ويتداوى بها فأوجب قصورا في معنى التفكه للاستعمال في حاجة البقاء ولهذا كان اليابس منها من التوابل أو من الأقوات. قال: " ولو حلف لا يأتدم فكل شيء اصطبغ به فهو إدام والشواء ليس بإدام والملح إدام وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله كل ما يؤكل مع الخبز غالبا فهو إدام " وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن الإدام من الموادمة وهي الموافقة وكل ما يؤكل مع الخبز موافق له كاللحم والبيض ونحوه ولهما أن الإدام ما يؤكل تبعا والتبعية في الاختلاط حقيقة ليكون قائما به وفي أن لا يؤكل على الانفراد حكما وتمام الموافقة في الامتزاج أيضا والخل وغيره من المائعات لا يؤكل وحده بل يشرب والملح لا يؤكل بانفراده عادة ولأنه يذوب فيكون تبعا بخلاف اللحم وما يضاهيه لأنه يؤكل وحده إلا أن ينويه لما فيه من التشديد والعنب والبطيخ ليسا بإدام هو الصحيح. " وإذا حلف لا يتغدى فالغداء الأكل من طلوع الفجر إلى الظهر والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل " لأن ما بعد الزوال يسمى عشاء ولهذا تسمى الظهر إحدى صلاتي العشاء في الحديث. " والسحور من نصف الليل إلى طلوع الفجر " لأنه مأخوذ من السحر ويطلق على ما يقرب منه ثم الغداء والعشاء ما يقصد به الشبع عادة وتعتبر عادة أهل كل بلدة في حقهم ويشترط أن يكون أكثر من نصف الشبع. " ومن قال إن لبست أو أكلت أو شربت فعبدي حر وقال عنيت شيئا دون شيء لم يدين في القضاء وغيره " لأن النية إنما تصح في الملفوظ والثوب وما يضاهيه غير مذكور تنصيصا والمقتضى لا عموم له فلغت نية التخصيص فيه " وإن قال إن لبست ثوبا أو أكلت طعاما أو شربت شرابا لم يدين في القضاء خاصة " لأنه نكرة في محل الشرط فتعم فعملت نية التخصيص فيه إلا أنه خلاف الظاهر فلا يدين في القضاء. قال: " ومن حلف لا يشرب من دجلة فشرب منها بإناء لم يحنث حتى يكرع منها كرعا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقالا إذا شرب منها بإناء يحنث لأنه المتعارف المفهوم وله أن كلمة من للتبعيض وحقيقته في الكرع وهي مستعملة ولهذا يحنث بالكرع إجماعا فمنعت المسير إلى المجاز وإن كان متعارفا "وإن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 حنث " لأنه بعد الاغتراف بقي منسوبا إليه وهو الشرط فصار كما إذا شرب من ماء نهر يأخذ من دجلة. " ومن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق وليس في الكوز ماء لم يحنث فإن كان فيه ماء فأهريق قبل الليل لم يحنث وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف يحنث في ذلك كله " يعني إذا مضى اليوم وعلى هذا الخلاف إذا كان اليمين بالله تعالى وأصله أن من شرط انعقاد اليمين وبقائه تصور البر عندهما خلافا لأبي يوسف رحمه الله لأن اليمين إنما تعقد للبر فلا بد من تصور البر ليمكن إيجابه وله أنه أمكن القول بانعقاده موجبا للبر على وجه يظهر في حق الخلف وهو الكفارة قلنا لا بد من تصور الأصل لينعقد في حق الخلف ولهذا لا ينعقد الغموس موجبا للكفارة " ولو كانت اليمين مطلقة ففي الوجه الأول لا يحنث عندهما وعند أبي يوسف رحمه الله يحنث في الحال وفي الوجه الثاني يحنث في قولهم جميعا " فأبو يوسف رحمه الله فرق بين المطلق والمؤقت ووجه الفرق أن التوقيت للتوسعة فلا يجب الفعل إلا في آخر الوقت فلا يحنث قبله وفي المطلق يجب البر كما فرغ وقد عجز فيحنث في الحال وهما فرقا بينهما ووجه الفرق أن في المطلق يجب البر كما فرغ فإذا فات البر بفوات ما عقد عليه اليمين يحنث في يمينه كما إذا مات الحالف والماء باق أما في المؤقت فيجب البر في الجزء الأخير من الوقت وعند ذلك لم تبق محلية البر لعدم التصور فلا يجب البر فيه فتبطل اليمين كما إذا عقده ابتداء في هذه الحالة. قال: " ومن حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهبا انعقدت يمينه وحنث عقيبها " وقال زفر رحمه الله لا تنعقد لأنه مستحيل عادة فأشبه المستحيل حقيقة فلا ينعقد ولنا أن البر متصور حقيقة لأن الصعود إلى السماء ممكن حقيقة ألا ترى أن الملائكة يصعدون السماء وكذا تحول الحجر ذهبا بتحويل الله تعالى وإذا كان متصورا ينعقد اليمين موجبا لخلفه ثم يحنث بحكم العجز الثابت عادة كما إذا مات الحالف فإنه يحنث مع احتمال إعادة الحياة بخلاف مسئلة الكوز لأن شرب الماء الذي في الكوز وقت الحلف ولا ماء فيه لا يتصور فلم ينعقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 باب اليمين في الكلام مدخل ... باب اليمين في الكلام قال: " ومن حلف لا يكلم فلانا فكلمه وهو بحيث يسمع إلا أنه نائم حنث " لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه لكنه لم يفهم لنومه فصار كما إذا ناداه وهو بحيث يسمع لكنه لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 يفهم لتغافله وفي بعض روايات المبسوط شرط أن يوقظه وعليه عامة مشايخنا لأنه إذا لم يتتبه كان كما إذا ناداه من بعيد وهو بحيث لا يسمع صوته. " ولو حلف لا يكلمه إلا بإذنه فأذن له ولم يعلم بالإذن حتى كلمه حنث " لأن الإذن مشتق من الأذان الذي هو الإعلام أو من الوقوع في الإذن وكل ذلك لا يتحقق إلا بالسماع وقال أبو يوسف لا يحنث لأن الإذن هو الإطلاق وإنه يتم بالإذن كالرضا قلنا الرضا من أعمال القلب ولا كذلك الإذن على ما مر. قال: " وإن حلف لا يكلمه شهرا فهو من حين حلف " لأنه لو لم يذكر الشهر لتأبد اليمين فذكر الشهر لإخراج ما وراءه فبقي الذي يلي يمينه داخلا عملا بدلالة حاله بخلاف ما إذا قال والله لأصومن شهرا لأنه لو لم يذكر الشهر لم تتأبد اليمين فكان ذكره لتقدير الصوم به وأنه منكر فالتعيين إليه " وإن حلف لا يتكلم فقرأ القرآن في صلاته لا يحنث وإن قرأ في غير صلاته حنث " وعلى هذا التسبيح والتهليل والتكبير وفي القياس يحنث فيهما وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه كلام حقيقة ولنا أنه في الصلاة ليس بكلام عرفا ولا شرعا قال عليه الصلاة والسلام " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " وقيل في عرفنا لا يحنث في غير الصلاة أيضا لأنه لا يسمى متكلما بل قارئا ومسبحا. " ولو قال يوم أكلم فلانا فامرأته طالق فهو على الليل والنهار " لأن اسم اليوم إذا قرن بفعل لا يمتد يراد به مطلق الوقت قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [لأنفال: 16] والكلام لا يمتد " وإن عنى النهار خاصة دين في القضاء " لأنه مستعمل فيه أيضا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يدين في القضاء لأنه خلاف المتعارف " ولو قال ليلة أكلم فلانا فهو على الليل خاصة " لأنه حقيقة في سواد الليل كالنهار للبياض خاصة وما جاء استعماله في مطلق الوقت. " ولو قال إن كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان أو قال حتى يقدم فلان أو قال إلا أن يأذن فلان أو حتى يأذن فلان فامرأته طالق فكلمه قبل القدوم والإذن حنث ولو كلمه بعد القدوم والإذن لم يحنث " لأنه غاية واليمين باقية قبل الغاية ومنتهية بعدها فلا يحنث بالكلام بعد انتهاء اليمين " وإن مات فلان سقطت اليمين " خلافا لأبي يوسف رحمه الله لأن الممنوع عنه كلام ينتهي بالإذن والقدوم ولم يبق بعد الموت متصور الوجود فسقطت اليمين وعنده التصور ليس بشرط فعند سقوط الغاية تأبد اليمين. " ومن حلف لا يكلم عبد فلان ولم ينو عبدا بعينه أو امرأة فلان أو صديق فلان فباع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فلان عبده أو بانت منه امرأته أو عادى صديقه فكلمهم لم يحنث " لأنه عقد يمينه على فعل واقع في محل مضاف إلى فلان إما إضافة ملك أو إضافة نسبة ولم يوجد فلا يحنث قال رضي الله عنه هذا في إضافة الملك بالاتفاق وفي إضافة النسبة عند محمد رحمه الله يحنث كالمرأة والصديق قال في الزيادات لأن هذه الإضافة للتعريف لأن المرأة والصديق مقصودان بالهجران فلا يشترط دوامها فيتعلق الحكم بعينه كما في الإشارة ووجه ما ذكر ههنا وهو رواية الجامع الصغير أنه يحتمل أن يكون غرضه هجرانه لأجل المضاف إليه ولهذا لم يعينه فلا يحنث بعد زوال الإضافة بالشك " وإن كانت يمينه على عبد بعينه بأن قال عبد فلان هذا أو امرأة فلان بعينها أو صديق فلان بعينه لم يحنث في العبد وحنث في المرأة والصديق وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحنث في العبد أيضا " وهو قول زفر رحمه الله " وإن حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها ثم دخلها فهو على هذا الاختلاف " وجه قول محمد وزفر رحمهما الله أن الإضافة للتعريف والإشارة أبلغ منها فيه لكونها قاطعة للشركة بخلاف الإضافة فاعتبرت الإشارة ولغت الإضافة وصار كالصديق والمرأة ولهما أن الداعي إلى اليمين معني في المضاف إليه لأن هذه الأعيان لا تهجر ولا تعادى لذواتها وكذا العبد لسقوط منزلته بل لمعنى في ملاكها فتتقيد اليمين بحال قيام الملك بخلاف ما إذا كانت الإضافة إضافة نسبة كالصديق والمرأة لأنه يعادى لذاته فكانت الإضافة للتعريف والداعي لمعنى في المضاف إليه غير ظاهر لعدم التعيين بخلاف ما تقدم. قال: " وإن حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه حنث " لأن هذه الإضافة لا تحتمل إلا التعريف لأن الإنسان لا يعادى لمعنى في الطيلسان فصار كما إذا أشار إليه. " ومن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه وقد صار شيخا حنث " لأن الحكم تعلق بالمشار إليه إذ الصفة في الحاضر لغو وهذه الصفة ليست بداعية إلى اليمين على ما مر من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فصل ومن حلف لا يكلمه حينا ولا زمنا إلخ ... فصل قال: " ومن حلف لا يكلمه حينا أو زمانا أو الحين أو الزمان فهو على ستة أشهر " لأن الحين قد يراد به الزمان القليل وقد يراد به أربعون سنة قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الانسان:1] وقد يراد به ستة أشهر قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 كُلَّ حِينٍ} [ابراهيم: 25] وهذا هو الوسط فينصرف إليه وهذا لأن اليسير لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والمؤبد لا يقصد غالبا لأنه بمنزلة الأبد ولو سكت عنه يتأبد فيتعين ما ذكرنا وكذا الزمان يستعمل استعمال الحين يقال ما رأيتك منذ حين ومنذ زمان بمعنى وهذا إذا لم تكن له نية أما إذا نوى شيئا فهو على ما نوى لأنه نوى حقيقة كلامه " وكذلك الدهر عندهما وقال أبو حنيفة رحمه الله الدهر لا أدري ما هو " وهذا الاختلاف في المنكر هو الصحيح أما المعرف بالألف واللام يراد به الأبد عرفا لهما أن دهرا يستعمل استعمال الحين والزمان يقال ما رأيتك منذ حين ومنذ دهر بمعنى وأبو حنيفة رحمه الله توقف في تقديره لأن اللغات لا تدرك قياسا والعرف لم يعرف استمراه لاختلاف في الاستعمال. " ولو حلف لا يكلمه أياما فهو على ثلاثة أيام " لأنه اسم جمع ذكر منكرا فيتناول أقل الجمع وهو الثلاث ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا على أيام الأسبوع ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهر عنده وعندهما على اثني عشر شهرا لأن اللام للمعهود وهو ما ذكرنا لأنه يدور عليها وله أنه جمع معرف فينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع وذلك عشرة " وكذا الجواب عنده في الجمع والسنين " وعندهما ينصرف إلى العمر لأنه لا معهود دونه " ومن قال لعبده إن خدمتني أياما كثيرة فأنت حر فالأيام الكثيرة عند أبي حنيفة رحمه الله عشرة أيام " لأنه أكثر ما يتناوله اسم الأيام وقالا سبعة أيام لأن ما زاد عليها تكرار وقيل لو كان اليمين بالفارسية ينصرف إلى سبعة أيام لأنه يذكر فيها بلفظ الفرد دون الجمع والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 باب اليمين في العتق والطلاق " ومن قال لامرأته إذا ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدا ميتا طلقت وكذلك إذا قال لأمته إذا ولدت ولدا فأنت حرة " لأن الموجود مولود فيكون ولدا حقيقة ويسمى به في العرف ويعتبر ولدا في الشرع حتى تنقضي به العدة والدم بعده نفاس وأمه أم ولد له فتحقق الشرط وهو ولادة الولد. " ولو قال إذا ولدت ولدا فهو حر فولدت ولدا ميتا ثم آخر حيا عتق الحي وحده عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يعتق واحد منهما " لأن الشرط قد تحقق بولادة الميت على ما بينا فتنحل اليمين لا إلى جزاء لأن الميت ليس بمحل للحرية وهي الجزاء ولأبي حنيفة رحمه الله أن مطلق اسم الولد مقيد بوصف الحياة لأنه قصد إثبات الحرية جزاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وهي قوة حكمية تظهر في دفع تسلط الغير ولا تثبت في الميت فيتقيد بوصف الحياة فصار كما إذا قال إذا ولدت ولدا حيا بخلاف جزاء الطلاق وحرية الأم لأنه لا يصلح مقيدا. " وإذا قال أول عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا عتق " لأن الأول اسم لفرد سابق " فإن اشترى عبدين معا ثم آخر لم يعتق أحد منهم " لانعدام التفرد في الأولين والسبق في الثالث فانعدمت الأولية " وإن قال أول عبد أشتريه وحده فهو حر عتق الثالث " لأنه يراد به التفرد في حالة الشراء لأن وحده للحال لغة والثالث سابق في هذا الوصف " وإن قال آخر عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا ثم مات لم يعتق " لأن الآخر اسم لفرد لاحق ولا سابق له فلا يكون لاحقا " ولو اشترى عبدا ثم عبدا ثم مات عتق الآخر " لأنه فرد لاحق فاتصف بالآخرية " ويعتق يوم اشتراه عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يعتبر من جميع المال وقال يعتق يوم مات " حتى يعتبر من الثلث لأن الآخرية لا تثبت إلا بعدم شراء غيره بعده وذلك يتحقق بالموت فكان الشرط متحققا عند الموت فيقتصر عليه ولأبي حنيفة رحمه الله أن الموت معرف فأما اتصافه بالآخرية فمن وقت الشراء فيثبت مستندا وعلى هذا الخلاف تعليق الطلقات الثلاث به وفائدته تظهر في جريان حرمان الإرث وعدمه. " ومن قال كل عبد بشرني بولادة فلانة فهو حر فبشره ثلاثة متفرقين عتق الأول " لأن البشارة اسم لخبر يغير بشرة الوجه ويشترط كونه سارا بالعرف وهذا إنما يتحقق من الأول " وإن بشروه معا عتقوا " لأنها تحققت من الكل " ولو قال إن اشتريت فلانا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينه لم يجزه " لأن الشرط قران النية بعلة العتق وهي اليمين فأما الشراء فشرطه " وإن اشترى أباه ينوي عن كفارة يمينه أجزأه عندنا " خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله لهما أن الشراء شرط العتق فأما العلة فهي القرابة وهذا لأن الشراء إثبات الملك والإعتاق إزالته وبينهما منافاة ولنا أن شراء القريب إعتاق لقوله عليه الصلاة والسلام " لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " جعل نفس الشراء إعتاقا لأنه لا يشترط غيره فصار نظير قوله سقاه فأرواه " ولو اشترى أم ولده لم يجزه " ومعنى هذه المسئلة أن يقول لأمة قد استولدها بالنكاح إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يميني ثم اشتراها فإنها تعتق لوجود الشرط ولا يجزيه عن الكفارة لأن حريتها مستحقة بالاستيلاد فلا تضاف إلى اليمين من كل وجه بخلاف ما إذا قال لقنة إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يميني حيث يجزيه عنها إذا اشتراها لأن حريتها غير مستحقة بجهة أخرى فلم تختل الإضافة إلى اليمين وقد قارنته النية. " ومن قال إن تسريت جارية فهي حرية فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت " لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 اليمين انعقدت في حقها لمصادفتها الملك وهذا لأن الجارية منكرة في هذا الشرط لتتناول كل جارية على الانفراد " وإن اشترى جارية فتسراها لم تعتق بهذه اليمين " خلافا لزفر رحمه الله فإنه يقول التسري لا يصح إلا في الملك فكان ذكره ذكر الملك وصار كما إذا قال لأجنبية إن طلقتك فعبدي حر يصير التزوج مذكورا ولنا أن الملك يصير مذكورا ضرورة صحة التسري وهو شرط فيتقدر بقدره فلا يظهر في حق صحة الجزاء وهو الحرية وفي مسئلة الطلاق إنما يظهر في حق الشرط دون الجزاء حتى لو قال لها إن طلقتك فأنت طالق ثلاثا فتزوجها وطلقها واحدة لا تطلق ثلاثا فهذه وزان مسألتنا. " ومن قال كل مملوك لي حر تعتق أمهات أولاده ومدبروه وعبيده " لوجود الإضافة المطلقة في هؤلاء إذ الملك ثابت فيهم رقبة ويدا " ولا يعتق مكاتبوه إلا أن ينويهم " لأن الملك غير ثابت يدا ولهذا لا يملك أكسابه ولا يحل له وطء المكاتبة بخلاف أم الولد والمدبرة فاختلت الإضافة فلا بد من النية. " ومن قال لنسوة له هذه طالق أو هذه وهذه طلقت الأخيرة وله الخيار في الأوليين " لأن كلمة أو لإثبات أحد المذكورين وقد أدخلها بين الأوليين ثم عطف الثالثة على المطلقة لأن العطف للمشاركة في الحكم فيختص بمحله فصار كما إذا قال إحداكما طالق وهذه " وكذا إذا قال لعبيده هذا حر أو هذا وهذا عتق الأخير " وله الخيار في الأوليين لما بينا والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 باب اليمين في البيع والشراء والتزوج وغير ذلك " ومن حلف لا يبيع أو لا يشتري أو لا يؤاجر فوكل من فعل ذلك لم يحنث " لأن العقد وجد من العاقد حتى كانت الحقوق عليه ولهذا لو كان العاقد هو الحالف يحنث في يمينه فلم يوجد ما هو الشرط وهو العقد من الآمر وإنما الثابت له حكم العقد " إلا أن ينوي ذلك " لأن فيه تشديدا " أو يكون الحالف ذا سلطان " لا يتولى العقد بنفسه لأنه يمنع نفسه عما يعتاده " ومن حلف لا يتزوج أولا يطلق أولا يعتق فوكل بذلك حنث " لأن الوكيل في هذا سفير ومعبر ولهذا لا يضيفه إلى نفسه بل إلى الآمر وحقوق العقد ترجع إلى الآمر لا إليه " ولو قال عنيت أن لا أتكلم به لم يدين في القضاء خاصة " وسنشير إلى المعنى في الفرق إن شاء الله تعالى " ولو حلف لا يضرب عبده أو لا يذبح شاته فأمر غيره ففعل يحنث في يمينه " لأن المالك له ولاية ضرب عبده وذبح شاته فيملك تولية غيره ثم منفعته راجعة إلى الآمر، فيجعل هو مباشرا إذ لا حقوق له ترجع إلى المأمور " ولو قال عنيت أن لا أتولى ذلك بنفسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 دين في القضاء " بخلاف ما تقدم من الطلاق وغيره ووجه الفرق أن الطلاق ليس إلا تكلما بكلام يفضي إلى وقوع الطلاق عليها والأمر بذلك مثل التكلم به واللفظ ينتظمهما فإذا نوى التكلم به فقد نوى الخصوص في العام فيدين ديانة لا قضاء أما الذبح والضرب ففعل حسي يعرف بأثره والنسبة إلى الآمر بالتسبيب مجاز فإذا نوى الفعل بنفسه فقد نوى الحقيقة فيصدق ديانة وقضاء " ومن حلف لا يضرب ولده فأمر إنسانا فضربه لم يحنث في يمينه " لأن منفعة ضرب الولد عائدة إليه وهو التأدب والتثقف فلم ينسب فعله إلى الآمر بخلاف الأمر بضرب العبد لأن منفعة الائتمار بأمره عائدة إلى الآمر فيضاف الفعل إليه. " ومن قال لغيره إن بعت لك هذا الثوب فامرأته طالق فدس المحلوف عليه ثوبه في ثياب الحلف فباعه ولم يعلم لم يحنث " لأن حرف اللام دخل على البيع فيقتضي اختصاصه به وذلك بأن يفعله بأمره إذ البيع تجري فيه النيابة ولم توجد بخلاف ما إذا قال إن بعت ثوبا لك حيث يحنث إذا باع ثوبا مملوكا له سواء كان بأمره أو بغير أمره علم بذلك أو لم يعلم لأن حرف اللام دخل على العين لنه أقرب إليه فيقتضي الاختصاص به وذلك بأن يكون مملوكا له ونظيره الصياغة والخياطة وكل ما تجري فيه النيابة بخلاف الأكل والشرب وضرب الغلام لأنه لا يحتمل النيابة فلا يفترق الحكم فيه في الوجهين. " ومن قال هذا العبد حر إن بعته فباعه على أنه بالخيار عتق " لوجود الشرط وهو البيع والملك فيه قائم فينزل الجزاء " وكذلك لو قال المشتري إن اشتريته فهو حر فاشتراه على أنه بالخيار عتق " أيضا لأن الشرط قد تحقق وهو الشراء والملك قائم فيه وهذا على أصلهما ظاهر وكذا على أصله لأن هذا العتق بتعليقه والمعلق كالمنجز ولو نجز العتق يثبت الملك سابقا عليه فكذا هذا. " ومن قال إن لم أبع هذا لعبد أو هذه الأمة فامرأته طالق فأعتق أو دبر طلقت امرأته " لأن الشرط قد تحقق وهو عدم البيع لفوات محلية البيع. " وإذا قالت المرأة لزوجها تزوجت علي فقال كل امرأة لي طالق ثلاثا طلقت هذه التي حلفته في القضاء " وعن أبي يوسف رحمه الله أنها لا تطلق لأنه أخرجه جوابا فينطبق عليه ولأن غرضه إرضاؤها وهو بطلاق غيرها فيتقيد به ووجه الظاهر عموم الكلام وقد زاد على حرف الجواب فيجعل مبتدئا وقد يكون غرضه إيحاشها حين اعترضت عليه فيما أحله الشرع ومع التردد لا يصلح مقيدا وإن نوى غيرها يصدق ديانة لا قضاء لأنه تخصيص العام والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 باب اليمين في الحج والصلاة والصوم قال: " ومن قال وهو في الكعبة أو في غيرها علي المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى الكعبة فعليه حجة أو عمرة ماشيا وإن شاء ركب وأهراق دما " وفي القياس لا يلزمه شيء لأنه التزم ما ليس بقربة واجبة ولا مقصودة في الأصل ومذهبنا مأثور عن علي رضي الله عنه ولأن الناس تعارفوا إيجاب الحج والعمرة بهذا اللفظ فصار كما إذا قال علي زيارة البيت ماشيا فيلزمه ماشيا وإن شاء ركب وأهراق دما وقد ذكرناه في المناسك. " ولو قال علي الخروج أو الذهاب إلى بيت الله تعالى فلا شيء عليه " لأن التزام الحج أو العمرة بهذا الففظ غير متعارف. " ولو قال علي المشي إلى الحرم إو إلى الصفا والمروة فلا شيء عليه " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في قوله علي المشي إلى الحرم حجة أو عمرة " ولو قال إلى المسجد الحرام فهو على هذا الاختلاف لهما أن الحرم شامل على البيت بالاتصال وكذا المسجد الحرام شامل على البيت فصار ذكره كذكره بخلاف الصفا والمروة لأنهما منفصلان عنه وله أن التزام الإحرام بهذه العبارة غير متعارف ولا يمكن إيجابه باعتبار حقيقة اللفظ فامتنع أصلا. " ومن قال عبدي حر إن لم أحج العام فقال حججت وشهد شاهدان على أنه ضحى العام بالكوفة لم يعتق عبده وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يعتق " لأن هذه شهادة قامت على أمر معلوم وهو التضحية ومن ضرورته انتفاء الحج فيتحقق الشرط ولهما أنها قامت على النفي لأن المقصود منها نفي الحج لا إثبات التضحية لأنه لا مطالب لها فصار كما إذا شهدوا أنه لم يحج العام غاية الأمر أن هذا النفي مما يحيط علم الشاهد به ولكنه لا يميز بين نفي ونفي تيسيرا. " ومن حلف لا يصوم فنوى الصوم وصام ساعة ثم أفطر من يومه حنث " لوجود الشرط إذ الصوم هو الإمساك عن المفطرات على قصد التقرب. " ولو حلف لا يصوم يوما أو صوما فصام ساعة ثم أفطر لا يحنث " لأنه يراد به الصوم التام المعتبر شرعا وذلك بإنهائه إلى آخر اليوم واليوم صريح في تقدير المدة به. " ولو حلف لا يصلي فقام وقرأ وركع لم يحنث وإن سجد مع ذلك ثم قطع حنث " والقياس أن يحنث بالافتتاح اعتبارا بالشروع في الصوم وجه الاستحسان أن الصلاة عبارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 عن الأركان المختلفة فما لم يأت بجميعها لا يسمى صلاة بخلاف الصوم لأنه ركن واحد وهو الإمساك ويتكرر في الجزء الثاني. " ولو حلف لا يصلي صلاة لا يحنث مالم يصل ركعتين " لأنه يراد به الصلاة المعتبرة شرعا وأقلها ركعتان للنهي عن البتيراء والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 باب اليمين في لبس الثياب والحلي وغير ذلك " ومن قال لامرأته إن لبست من غزلك فهو هدي فاشترى قطنا لغزلته ونسجته فلبسه فهو هدي عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا ليس عليه أن يهدي حتى تغزل من قطن ملكه يوم حلف " ومعنى الهدي التصدق به بمكة لأنه اسم لما يهدى إليها لهما أن النذر إنما يصح في الملك أو مضافا إلى سبب الملك ولم يوجد لأن اللبس وغزل المرأة ليسا من أسباب ملكه وله أن غزل المرأة عادة يكون من قطن الزوج والمعتاد هو المراد وذلك سبب لملكه ولهذا يحنث إذا غزلت من قطن مملوك له وقت النذر لأن القطن لم يصر مذكورا. " ومن حلف لا يلبس حليا فلبس خاتم فضة لم يحنث " لأنه ليس بحلي عرفا ولا شرعا حتى أبيح استعماله للرجال والتختم به لقصد الختم " وإن كان من ذهب حنث " لأنه حلي ولهذا لا يحل استعماله للرجال. " ولو لبس عقد لؤلؤ غير مرصع لا يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يحنث " لأنه حلي حقيقة حتى سمي به في القرآن وله أنه يتحلى به عرفا إلا مرصعا ومبنى الأيمان على العرف وقيل هذا اختلاف عصر وزمان ويفتى بقولهما لأن التحلي به على الإنفراد معتاد. " ومن حلف لا ينام على فراش فنام عليه وفوقه قرام حنث " لأنه تبع للفراش فيعد نائما عليه " وإن جعل فوقه فراشا آخر فنام عليه لم يحنث " لأن مثل الشيء لا يكون تبعا له فقطع النسبة عن الأول " ولو حلف لا يجلس على الأرض فجلس على بساط أو حصير لم يحنث " لأنه لا يسمى جالسا على الأرض بخلاف ما إذا حال بينه وبين الأرض لباسه لأنه تبع له فلا يعتبر حائلا " وإن حلف لا يجلس على سرير فجلس على سرير فوقه بساط أو حصير حنث " لأنه يعد جالسا عليه والجلوس على السرير في العادة كذلك بخلاف ما إذا جعل فوقه سريرا آخر لأنه مثل الأول فقطع النسبة عنه والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 باب اليمين في القتل والضرب وغيره " ومن قال لآخر: إن ضربتك فعبدي حر فمات فضربه فهو على الحياة " لأن الضرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 اسم لفعل مؤلم يتصل بالبدن والإيلام لا يتحقق في الميت ومن يعذب في القبر توضع فيه الحياة في قول العامة وكذلك الكسوة لأنه يراد به التمليك عند الإطلاق ومنه الكسوة في الكفارة وهو من الميت لا يتحقق إلا أن ينوي به الستر وقيل بالفارسية ينصرف إلى اللبس " وكذا الكلام والدخول " لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه والمراد من الدخول عليه زيارته وبعد الموت يزار قبره لا هو. " ولو قال إن غسلتك فعبدي حر فغسله بعد ما مات يحنث " لأن الغسل هو الإسالة ومعناه التطهير ويتحقق ذلك في الميت " ومن حلف لا يضرب امرأته فمد شعرها أو خنقها أو عضها حنث " لأنه اسم لفعل مؤلم وقد تحقق الإيلام وقيل لا يحنث في حال الملاعبة لأنه يسمى ممازحة لا ضربا " ومن قال إن لم أقتل فلانا فامرأته طالق وفلان ميت وهو عالم به حنث " لأنه عقد يمينه على حياة يحدسها الله تعالى فيه وهو متصور فينعقد ثم يحنث للعجز العادي " وإن لم يعلم به لا يحنث " لأنه عقد يمينه على حياة كانت فيه ولا تتصور فيصير قياس مسئلة الكوز على الاختلاف وليس في تلك المسئلة تفصيل العلم هو الصحيح والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 باب اليمين في تقاضي الدراهم قال: " ومن حلف ليقضين دينه إلى قريب فهو على ما دون الشهر وإن قال إلى بعيد فهو أكثر من شهر " لأن ما دونه يعد قريبا والشهر وما زاد عليه يعد بعيدا ولهذا يقال عند بعد العهد ما لقيتك منذ شهر " ومن حلف ليقضين فلانا دينه اليوم فقضاه ثم وجد فلان بعضها زيوفا أو نبهرجة أو مستحقة لم يحنث الحالف " لأن الزيافة عيب والعيب لا يعدم الجنس ولهذا لو تجوز به صار مستوفيا فوجد شرط البر وقبض المستحقة صحيح ولا يرتفع برده البر المتحقق " وإن وجدها رصاصا أو ستوقة حنث " لأنهما ليسا من جنس الدراهم حتى لا يجوز التجوز بهما في الصرف والسلم " وإن باعه بها عبدا وقبضه بر في يمينه " لأن قضاء الدين طريقه المقاصة وقد تحققت بمجرد البيع فكأنه شرط القبض ليتقرر به " وإن وهبها له " يعني الدين " لم يبر " لعدم المقاصة لأن القضاء فعله والهبة إسقاط من صاحب الدين. " ومن حلف لا يقبض دينه درهما دون درهم فقبض بعضه لم يحنث حتى يقبض جميعه متفرقا " لأن الشرط قبض الكل لكنه بوصف التفرق ألا يرى أنه أضاف القبض إلى دين معرف مضاف إليه فينصرف إلى كله فلا يحنث إلا به " فإن قبض دينه في وزنين ولم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث وليس ذلك بتفريق " لأنه قد يتعذر قبض الكل دفعة واحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 عادة فيصير هذا القدر مستثنى عنه " ومن قال إن كان لي إلا مائة درهم فامرأته طالق فلم يملك إلا خمسين درهما لم يحنث " لأن المقصود منه عرفا نفي ما زاد على المائة ولأن استثناء المائة استثناؤها بجميع أجزائها " وكذلك لو قال غير مائة أو سوى مائة " لأن كل ذلك أداة الاستثناء والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 مسائل متفرقة " وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبدا " لأنه نفي الفعل مطلقا فعم الامتناع ضرورة عموم النفي " وإن حلف ليفعلن كذا ففعله مرة واحدة بر في يمينه " لأن الملتزم فعل واحد غير عين إذ المقام مقام الإثبات فيبر بأي فعل فعله وإنما يحنث بوقوع اليأس عنه وذلك بموته أو بفوت محل الفعل. " وإذا استحلف الوالي رجلا ليعلمنه بكل داعر دخل البلد فهذا على حال ولايته خاصة " لأن المقصود منه دفع شره أو شر غيره بزجره فلا يفيد فائدته بعد زوال سلطنته والزوال بالموت وكذا بالعزل في ظاهر الرواية " ومن حلف أن يهب عبده لفلان فوهبه ولم يقبل فقد بر في يمينه " خلافا لزفر رحمه الله فإنه يعتبره بالبيع لأنه تمليك مثله ولنا أنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع ولهذا يقال وهب ولم يقبل ولأن المقصود إظهار السماحة وذلك يتم به أما البيع فمعاوضة فاقتضى الفعل من الجانبين. " ومن حلف لا يشم ريحانا فشم وردا أو ياسمينا لا يحنث " لأنه اسم لما لا ساق له ولهما ساق " ولو حلف لا يشتري بنفسجا ولا نية له فهو على دهنه " اعتبارا للعرف ولهذا يسمى بائعه بائع البنفسج والشراء ينبني عليه وقيل في عرفنا يقع على الورق " وإن حلف على الورد فاليمين على الورق " لأنه حقيقة فيه والعرف مقرر له وفي البنفسج قاض عليه والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 كتاب الحدود حد الزنا مدخل ... كتاب الحدود قال: الحد لغة هو المنع ومنه الحداد للبواب وفي الشريعة هو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى حتى لا يسمى القصاص حدا لأنه حق العبد ولا التعزير لعدم التقدير والمقصد الأصلي من شرعه الانزجار عما يتضرر به العباد والطهارة ليست أصلية فيه بدليل شرعه في حق الكافر. قال: " الزنا يثبت بالبينة والإقرار " والمراد ثبوته عند الإمام لأن البينة دليل ظاهر وكذا الإقرار لأن الصدق فيه مرجح لا سيما فيما يتعلق بثبوته مضرة ومعرة والوصول إلى العلم القطعي متعذر فيكتفي بالظاهر. قال: " فالنية أن تشهد أربعة من الشهود على رجل أو امرأة بالزنا " لقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وقال عليه الصلاة والسلام للذي قذف امرأته " ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك " ولأن في اشتراط الأربعة يتحقق معنى الستر وهو مندوب إليه والإشاعة ضده " وإذا شهدوا يسألهم الإمام عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى ومتى زنى وبمن زنى " ولأن النبي عليه الصلاة والسلام استفسر ماعزا عن الكيفية وعن المزنية ولأن الاحتياط في ذلك واجب لأنه عساه غير الفعل في الفرج عناه أو زنى في دار الحرب أو في المتقادم من الزمان أو كانت له شبهة لا يعرفها هو ولا الشهود كوطء جارية الابن فيستقصى في ذلك احتيالا للدرء. " فإذا بينوا ذلك وقالوا رأيناه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة وسأل القاضي عنهم فعدلوا في السر والعلانية حكم بشهادتهم " ولم يكتف بظاهر العدالة في الحدود احتيالا للدرء قال عليه الصلاة والسلام " ادرءوا الحدود ما استطعتم " بخلاف سائر الحقوق عند أبي حنيفة رحمه الله وتعديل السر والعلانية نبينه في الشهادات إن شاء الله تعالى. قال في الأصل يحبسه حتى يسأل عن الشهود للاتهام بالجناية وقد حبس رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 عليه الصلاة والسلام رجلا بالتهمة بخلاف الديون حيث لا يحبس فيها قبل ظهور العدالة وسيأتيك الفرق إن شاء الله تعالى. قال: " والإقرار أن يقر البالغ العاقل على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة مجالس من مجالس المقر كلما أقر رده القاضي " فاشتراط البلوغ والعقل لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر أو هو غير موجب للحد واشتراط الأربع مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله يكتفى بالإقرار مرة واحدة اعتبارا بسائر الحقوق وهذا لأنه مظهر وتكرار الإقرار لا يفيد زيادة الظهور بخلاف زيادة العدد في الشهادة ولنا حديث ماعز رضي الله عنه فإنه عليه الصلاة والسلام أخر الإقامة إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس فلو ظهر بما دونها لما أخرها لثبوت الوجوب ولأن الشهادة اختصت فيه بزيادة العدد فكذا الإقرار إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر ولا بد من اختلاف المجالس لما روينا ولأن لاتحاد المجلس أثرا في جمع المتفرقات فعنده يتحقق شبهة الاتحاد في الإقرار والإقرار قائم بالمقر فيعتبر اختلاف مجلسه دون مجلس القاضي والاختلاف بأن يرده القاضي كلما أقر فيذهب حيث لا يراه ثم يجيء فيقر هو المروي عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه عليه الصلاة والسلام طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة. قال: " فإذا تم إقراره أربع مرات سأله عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى وبمن زنى فإذا بين ذلك لزمه الحد " لتمام الحجة ومعنى السؤال عن هذه الأشياء بيناه في الشهادة ولم يذكر السؤال فيه عن الزمان وذكره في الشهادة لأن تقادم العهد يمنع الشهادة دون الإقرار وقيل لو سأله جاز لجواز أنه زنى في صباه " فإن رجع المقر عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه وخلى سبيله " وقال الشافعي رحمه الله وهو قول ابن أبي ليلى يقيم عليه الحد لأنه وجب الحد بإقراره فلا يبطل برجوعه وإنكاره كما إذا وجب بالشهادة وصار كالقصاص وحد القذف ولنا أن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار وليس أحد يكذبه فيه فتتحقق الشبهة في الإقرار بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذبه ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع. " ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع فيقول له لعلك لمست أو قبلت " لقوله عليه الصلاة والسلام لماعز رضي الله عنه " لعلك لمستها أو قبلتها " قال في الأصل وينبغي أن يقول له الإمام لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة وهذا قريب من الأول في المعنى والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 فصل في كيفية الحد وإقامته " وإذا وجب الحد وكان الزاني محصنا رجمه بالحجارة حتى يموت " لأنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا وقد أحصن وقال في الحديث المعروف وزنا بعد إحصان وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قال: " ويخرجه إلى أرض فضاء ويبتدئ الشهود برجمه ثم الإمام ثم الناس " كذا روي عن علي رضي الله عنه ولأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بداءته احتيال للدرء وقال الشافعي رحمه الله لا تشترط بداءته اعتبارا بالجلد. قلنا: كل أحد لا يحسن الجلد فربما يقع مهلكا والإهلاك غير مستحق ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف قال " فإن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد " لأنة دلالة الرجوع وكذا إذا ماتوا أو غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط " وإن كان مقرا ابتدأ الإمام ثم الناس " كذا روي عن علي رضي الله عنه ورمى رسول الله عليه الصلاة والسلام الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت قد اعترفت بالزنا " ويغسل ويكفن ويصلى عليه" لقوله عليه الصلاة والسلام في ماعز رضي الله عنه " اصنعوا به كما تصنعون بموتاكم " ولأنه قتل بحق فلا يسقط الغسل كالمقتول قصاصا وصلى النبي عليه الصلاة والسلام على الغامدية بعد ما رجمت " وإن لم يكن محصنا وكان حرا فحده مائة جلدة " لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] إلا أنه انتسخ في حق المحصن فبقي في حق غيره معمولا به. قال: " يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا " لأن عليا رضي الله عنه لما أراد أن يقيم الحد كسر ثمرته والمتوسط بين المبرح وغير المؤلم لإفضاء الأول إلى الهلاك وخلو الثاني عن المقصود وهو الانزجار " وتنزع عنه ثيايه " معناه دون الإزار لأن عليا رضي الله عنه كان يأمر بالتجريد في الحدود ولأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه وهذا الحد مبناه على الشدة في الضرب وفي نزع الإزار كشف العورة فيتوقاه " ويفرق الضرب على أعضائه " لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف. قال: " إلا رأسه ووجهه وفرجه " لقوله عليه الصلاة والسلام للذي أمره بضرب الحد " عاتق الوجه والمذاكير " ولأن الفرج مقتل والرأس مجمع الحواس وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا فلا يؤمن فوات شيء منها بالضرب وذلك إهلاك معنى فلا يشرع حدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وقال أبو يوسف رحمه الله يضرب الرأس أيضا رجع إليه وإنما يضرب سوطا لقول أبي بكر رضي الله عنه اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا. قلنا: تأويله أنه قال ذلك فيمن أبيح قتله ويقال إنه ورد في حربي كان من دعاة الكفرة والإهلاك فيه مستحق " ويضرب في الحدود كلها قائما غير ممدود " لقول علي رضي الله عنه يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا ولأن مبنى إقامة الحد على التشهير والقيام أبلغ فيه ثم قوله غير ممدود فقد قيل المد أن يلقى على الأرض ويمد كما يفعل في زماننا وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه وقيل أن يمده بعد الضرب وذلك كله لا يفعل لأنه زيادة على المستحق " وإن كان عبدا جلده خمسين جلدة " لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] نزلت في الإماء ولأن الرق منقص للنعمة فيكون منقصا للعقوبة لأن الجناية عند توافر النعم أفحش فيكون أدنى إلى التغليظ " والرجل والمرأة في ذلك سواء " لأن النصوص تشملهما " غير أن المرأة لا ينزع من ثيابها إلا الفرو والحشو " لأن في تجريدها كشف العورة والفرو والحشو يمنعان وصول الألم إلى المضروب والستر حاصل بدونهما فينزعان " وتضرب جالسة " لما روينا ولأنه أستر لها. قال: " وإن حفر لها في الرجم جاز " لأنه عليه الصلاة والسلام حفر للغامدية إلى ثندوتها وحفر علي رضي الله عنه لشراحة الهمدانية وإن ترك لا يضره لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك وهي مستورة بثيابها والحفر أحصن لأنه أستر ويحفر إلى الصدر لما روينا " ولا يحفر للرجل " لأنه عليه الصلاة والسلام ما حفر لماعز رضي الله عنه ولأن مبنى الإقامة على التشهير في الرجال والربط والإمساك غير مشروع " ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام ". وقال الشافعي رحمه الله له أن يقيمه لأن له ولاية مطلقة عليه كالإمام بل أولى لأنه يملك من التصرف فيه مالا يملكه الإمام فصار كالتعزير ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " أربع إلى الولاة وذكر منها الحدود " ولأن الحد حق الله تعالى لأن المقصد منها إخلاء العالم عن الفساد ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد فيستوفيه من هو نائب عن الشرع وهو الإمام أو نائبه بخلاف التعزير لأنه حق العبد ولهذا يعزر الصبي وحق الشرع موضوع عنه. قال: " وإحصان الرجم أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما على صفة الإحصان " فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة إذ لا خطاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 دونهما وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة إذ كفران النعمة يتغلظ عند تكثرها وهذه الأشياء من جلائل النعم وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيناط به بخلاف الشرف والعلم لأن الشرع ما ورد باعتبارهما ونصب الشرع بالرأي متعذر ولأن الحرية ممكنة من النكاح الصحيح والنكاح الصحيح ممكن من الوطء الحلال والإابة شبع بالحلال والإسلام يمكنه من نكاح المسلمة ويؤكد اعتقاد الحرمة فيكون الكل مزجرة عن الزنا والجناية بعد توفر الزواجر أغلظ والشافعي رحمه الله يخالفنا في اشتراط الإسلام وكذا أبو يوسف رحمه الله في رواية لهما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين قد زنيا. قلنا: كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " من أشرك بالله فليس بمحصن " والمعتبر في الدخول الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل. وشرط صفة الإحصان فيهما عند الدخول حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة أو المملوكة أو المجنونة أو الصبية لا يكون محصنا وكذا إذا كان الزوج موصوفا بإحدى هذه الصفات وهي حرة مسلمة عاقلة بالغة لأن النعمة بذلك لا تتكامل إذ الطبع ينفر عن صحبة المجنونة وقلما يرغب في الصبية لقلة رغبتها فيه وفي المنكوحة المملوكة حذرا عن رق الولد ولا ائتلاف مع الاختلاف في الدين وأبو يوسف رحمه الله يخالفهما في الكافرة والحجة عليه ما ذكرناه وقوله عليه الصلاة والسلام " لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد ". قال: " ولا يجمع في المحصن بين الرجم والجلد " لأنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع ولأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم لأن زجر غيره يحصل بالرجم إذ هو في العقوبة أقصاها وزجره لا يحصل بعد هلاكه. قال: " ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي " والشافعي رحمه الله يجمع بينهما حدا لقوله عليه الصلاة والسلام " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ولأن فيه حسم باب الزنا لقلة المعارف ولنا قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} جعل الجلد كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء وإلى كونه كل المذكور ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة ثم فيه قطع مواد البقاء فربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا وهذه الجهة مرجحة لقول علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة والحديث منسوخ كشطره، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 قوله عليه الصلاة والسلام: " الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " وقد عرف طريقه في موضعه. قال: " إلا أن يرى الإمام في ذلك مصلحة فيغربه على قدر ما يرى " وذلك تعزير وسياسة لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه إلى الإمام وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم " وإذا زنى المريض وحده الرجم رجم " لأن الإتلاف مستحق فلا يمتنع بسبب المرض " وإن كان حده الجلد لم يجلد حتى يبرأ " كيلا يفضي إلى الهلاك ولهذا لا يقام القطع عند شدة الحر والبرد " وإذا زنت الحامل لم تحد حتى تضع حملها " كيلا يؤدي إلى هلاك الولد وهو نفس محترمة " وإذا كان حدها الجلد لم تجلد حتى تتعالى من نفاسها " أي ترتفع يريد به تخرج منه لأن النفاس نوع مرضي فيؤخر إلى زمان البرء بخلاف الرجم لأن الأخير لأجل الولد وقد انفصل وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يؤخر إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته لأن في التأخير صيانة الولد عن الضياع وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال للغامدية بعد ما وضعت " ارجعي حتى يستغني ولدك " ثم الحبلى تحبس إلى أن تلد إن كان الحد ثابتا بالبينة كيلا تهرب بخلاف الإقرار لأن الرجوع عنه عامل فلا يفيد الحبس والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه قال: " الوطء الموجب للحد هو الزنا " وأنه في عرف الشرع واللسان وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك لأنه فعل محظور والحرمة على الإطلاق عند التعري عن الملك وشبهته يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " ادرءوا الحدود بالشبهات ". ثم الشبهة نوعان شبهة في الفعل وتسمى شبهة اشتباه وشبهة في المحل وتسمى شبهة حكمية. فالأولى: تتحقق في حق من اشتبه عليه لأن معناه أن يظن غير الدليل دليلا ولا بد من الظن ليتحقق الاشتباه والثانية: تتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته ولا تتوقف على ظن الجاني واعتقاده والحد يسقط بالنوعين لإطلاق الحديث والنسب يثبت في الثانية إذا ادعى الولد ولا يثبت في الأولى وإن ادعاه لأن الفعل تمحض زنا في الأولى وإنما يسقط الحد لأمر راجع إليه وهو اشتباه الأمر عليه ولم يتمحض في الثانية فشبهة الفعل في ثمانية مواضع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 جارية أبيه وأمه وزوجته والمطلقة ثلاثا وهي في العدة وبائنا بالطلاق على مال وهي في العدة وأم ولد أعتقها مولاها وهي في العدة وجارية المولى في حق العبد والجارية المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الحدود ففي هذه المواضع لا حد عليه إذا قال ظننت أنها تحل لي ولو قال علمت أنها علي حرام وجب الحد والشبهة في المحل في ستة مواضع جارية ابنه والمطلقة طلاقا بائنا بالكنايات والجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم والممهورة في حق الزوج قبل القبض والمشتركة بينه وبين غيره والمرهونة قي حق المرتهن في رواية كتاب الرهن ففي هذه المواضع لا يجب الحد وإن قال علمت أنها علي حرام ثم الشبهة عند أبي حنيفة رحمه الله تثبت بالعقد وإن كان متفقا على تحريمه وهو عالم به وعند الباقين لا تثبت إذا علم بتحريمه ويظهر ذلك في نكاح المحارم على ما يأتيك إن شاء الله تعالى إذا عرفنا هذا. " ومن طلق امرأته ثلاثا ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام حد " لزوال الملك المحلل من كل وجه فتكون الشبهة منتفية وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل وعلى ذلك الإجماع ولا يعتبر قول المخالف فيه لأنه خلاف لا اختلاف ولو قال ظننت أنها تحل لي لا يحد لأن الظن في موضعه لأن أثر الملك قائم في حق النسب والحبس والنفقة فاعتبر ظنه في إسقاط الحد وأم الولد إذا أعتقها مولاها والمختلعة والمطلقة على مال بمنزلة المطلقة الثلاث لثبوت الحرمة بالإجماع وقيام بعض الآثار في العدة. " ولو قال لها أنت خلية أو برية أو أمرك بيدك فاختارت نفسها ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها علي حرام لم يحد " لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيه فمن مذهب عمر رضي الله عنه أنها تطليقة رجعية وكذا الجواب في سائر الكنايات وكذا إذا نوى ثلاثا لقيام الاختلاف مع ذلك. " ولا حد على من وطئ جارية ولده وولد ولده وإن قال علمت أنها علي حرام " لأن الشبهة حكمية لأنها نشأت عن دليل وهو قوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك والأبوة قائمة في حق الجد. قال: " ويثبت النسب منه وعليه قيمة الجارية " وقد ذكرناه. " وإذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته وقال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه ولا على قاذفه وإن قال علمت أنها علي حرام حد وكذا العبد إذا وطئ جارية مولاه " لأن بين هؤلاء انبساطا في الانتفاع فظنه في الاستمتاع محتمل فكان شبهة اشتباه إلا أنه زنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 حقيقة فلا يحد قاذفه وكذا إذا قالت الجارية ظننت أنه يحل لي والفحل لم يدع في الظاهر لأن الفعل واحد " وإن وطئ جارية أخيه أو عمه وقال ظننت أنها تحل لي حد " لأنه لا انبساط في المال فيما بينهما وكذا سائر المحارم سوى الولاد لما بينا. " ومن زفت إليه غير امرأته وقالت النساء إنها زوجتك فوطئها لا حد عليه وعليه المهر " قضى بذلك علي رضي الله عنه وبالعدة لأنه اعتمد دليلا وهو الإخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يميز بين امرأته وبين غيرها في أول الوهلة فصار كالمغرور ولا يحد قاذفه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن الملك منعدم حقيقة. " ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد " لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة فلم يكن الظن مستندا إلى دليل وهذا لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها وكذا إذا كان أعمى لأنه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره إلا إن كان دعاها فأجابته أجنبية وقالت أنا زوجتك فواقعها لأن الإخبار دليل. " ومن تزوج امرأة لا يحل له نكاحها فوطئها لا يجب عليه الحد عند أبي حنيفة رحمه الله " ولكن يوجع عقوبة إذا كان علم بذلك وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله عليه الحد إذا كان عالما بذلك لأنه عقد لم يصادف محله فيلغو كما إذا أضيف إلى الذكور وهذا لأن محل التصرف ما يكون محلا لحكمه وحكمه الحل وهي من المحرمات ولأبي حنيفة رحمه الله أن العقد صادف محله لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده والأنثى من بنات آدم قابلة للتوالد وهو المقصود فكان ينبغي أن ينعقد في جميع الأحكام إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة لأن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت إلا أنه ارتكب جريمة وليس فيها حد مقدر فيعزر. " ومن وطئ أجنبية فيما دون الفرج يعزر " لأنه منكر ليس فيه شيء مقدر " ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمل عمل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة رحمه الله ويعزر وزاد في الجامع الصغير ويودع في السجن وقالا هو كالزنا فيحد " وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وقال في قول يقتلان بكل حال لقوله عليه الصلاة والسلام " اقتلوا الفاعل والمفعول " ويروى " فارجموا الأعلى والأسفل " ولهما أنه في معنى الزنا لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء وله أنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة في موجبه من الإحراق بالنار وهدم الجدار والتنكيس من مكان مرتفع باتباع الأحجار وغير ذلك ولا هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 واشتباه الأنساب وكذا هو أندر وقوعا لانعدام الداعي من أحد الجانبين والداعي إلى الزنا من الجانبين وما رواه محمول على السياسة أو على المستجل إلا أنه يعزر عنده لما بيناه. " ومن وطئ بهيمة فلا حد عليه " لأنه ليس في معنى الزنا في كونه جناية وفي وجود الداعي لأن الطبع السليم ينفر عنه والحامل عليه نهاية السفه أو فرط الشبق ولهذا لا يجب ستره إلا أنه يعزر لما بينا والذي يروى أنه تذبح البهيمة وتحرق فذلك لقطع التحدث به وليس بواجب. " ومن زنى في دار الحرب أو في دار البغي ثم خرج إلينا لا يقام عليه الحد " وعند الشافعي رحمه الله يحد لأنه التزم بإسلامه أحكامه أينما كان مقامه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا تقام الحدود في دار الحرب " ولأن المقصود هو الانزجار وولاية الإمام منقطعة فيهما فيعرى الوجوب عن الفائدة ولا تقام بعد ما خرج لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة ولو غزا من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على من زنى في معسكره لأنه تحت يده بخلاف أمير العسكر والسرية لأنه لم تفوض إليهما الإقامة. " وإذا دخل حربي دارنا بأمان فزنى بذمية أو زنى ذمي بحربية يحد الذمي والذمية عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يحد الحربي والحربية وهو قول محمد رحمه الله في الذمي " يعني إذا زنى بحربية فأما إذا زنى الحربي بذمية لا يحدان عند محمد رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا " وقال أبو يوسف رحمه الله يحدون كلهم " وهو قوله الآخر لأبي يوسف رحمه الله أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات كما أن الذمي التزمها مدة عمره ولهذا يحد حد القذف ويقتل قصاصا بخلاف حد الشرب لأنه يعتقد إباحته ولهما أنه ما دخل للقرار بل لحاجة كالتجارة ونحوها فلم يصر من أهل دارنا ولهذا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب ولا يقتل المسلم ولا الذمي به وإنما التزم من الحكم ما يرجع إلى تحصيل مقصوده وهو حقوق العباد لأنه لما طمع في الإنصاف يلتزم الانتصاف والقصاص وحد القذف من حقوقهم أما حد الزنا فمحض حق الشرع. ولمحمد رحمه الله وهو الفرق أن الأصل في باب الزنا فعل الرجل والمرأة تابعة له على ما نذكره إن شاء الله تعالى فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع أما الامتناع في حق التبع لا يوجب الامتناع في حق الأصل. ونظيره إذا زنى البالغ بصبية أو مجنونة وتمكين البالغة من الصبي والمجنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 ولأبي حنيفة رحمه الله فيه أن فعل الحربي المستأمن زنا لأنه مخاطب بالحرمات على ما هو الصحيح وإن لم يكن مخاطبا بالشرائع على أصلنا والتمكين من فعل هو زنا موجب للحد عليها بخلاف الصبي والمجنون لأنهما لا يخاطبان ونظير هذا الاختلاف إذا زنى المكره بالمطاوعة تحد المطاوعة عنده وعند محمد رحمه الله لا تحد. قال: " وإذا زنى الصبي أو المجنون بامرأة طاوعته فلا حد عليه ولا عليها " وقال زفر والشافعي رحمهما الله يجب الحد عليها وهو راوية عن أبي يوسف رحمه الله " قال زنى صحيح بمجنونة أو صغيرة يجامع مثلها حد الرجل خاصة " وهذا بالإجماع لهما أن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من حانبه فكذا العذر من جانبه وهذا لأن كلا منهما مؤاخذ بفعله ولنا أن فعل الزنا يتحقق منه وإنما هي محل الفعل ولهذا يمسى هو واطئا وزانيا والمرأة موطوءة ومزنيا بها إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للمفعول باسم الفاعل كالراضية في معنى المرضية أو لكونها مسببة بالتمكين فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنا وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه ومؤثم على مباشرته وفعل الصبي ليس بهذه الصفة فلا يناط به الحد. قال: " ومن أكرهه السلطان حتى زنى فلا حد عليه " وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا يحد وهو قول زفر رحمه الله لأن الزنا من الرجل لا يكون إلا بعد انتشار الآلة وذلك دليل الطواعية ثم رجع عنه فقال لا حد عليه لأن سببه الملجئ قائم ظاهرا والانتشار دليل متردد لأنه قد يكون من غير قصد لأن الانتشار قد يكون طبعا لا طوعا كما في النائم فأورث شبهة وإن أكرره غير السلطان حد عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يحد لأن الإكراه عندهما قد يتحقق من غير السلطان لأن المؤثر خوف الهلاك وأنه يتحقق من غيره وله أن الإكراه من غيره لا يدوم إلا نادرا لتمكنه من الاستعانة بالسلطان أو بجماعة المسلمين ويمكنه دفعه بنفسه بالسلاح والنادر لا حكم له فلا يسقط به الحد بخلاف السلطان لأنه لا يمكنه الاستعانة بغيره ولا الخروج بالسلاح عليه فافترقا. " ومن أقر أربع مرات في مجالس مختلفة أنه زنى بفلانة وقالت هي تزوجني أو أقرت بالزنا وقال الرجل تزوجتها فلا حد عليه وعليه المهر في ذلك " لأن دعوى النكاح يحتمل الصدق وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة وإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لخطر البضع. " ومن زنى بجارية فقتلها فإنه يحد وعليه القيمة " معناه قتلها بفعل الزنا لأنه جنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 جنايتين فيوفر على كل واحد منهما حكمه وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحد لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة فصار كما إذا اشتراها بعد ما زنى بها وهو على هذا الاختلاف واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه كما إذا ملك المسروق قبل القطع ولهما أنه ضمان قتل فلا يوجب الملك لأنه ضمان دم ولو كان يوجبه فإنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع لأنها استوفيت والملك يثبت مستندا فلا يظهر في المستوفى لكونها معدومة وهذا بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث تجب عليه قيمتها ويسقط الحد لأن الملك هنالك يثبت في الجثة العمياء وهي عين فأورث شبهة. قال: " وكل شيء صنعه الإمام الذي ليس فوقه إمام فلا حد عليه إلا القصاص فإنه يؤخذ به وبالأموال " لأن الحدود حق الله تعالى وإقامتها إليه لا إلى غيره ولا يمكنه أن يقيم على نفسه لأنه لا يفيد بخلاف حقوق العباد لأنه يستوفيه ولي الحق إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين والقصاص والأموال منها وأما حد القذف قالوا المغلب فيه حق الشرع فحكمه كحكم سائر الحدود التي هي حق الله تعالى والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها قال: " وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة وفي الجامع الصغير وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به وضمن السرقة " والأصل فيه أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم خلافا للشافعي رحمه الله هو يعتبرها بحقوق العباد وبالإقرار الذي هو إحدى الحجتين ولنا أن الشاهد مخير بين حسبتين أداء الشهادة والستر فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيجته أو لعداوة حركته فيتهم فيها وإن كان التأخير لا للستر يصير فاسقا آثما فتيقنا بالمانع بخلاف الإقرار لأن الإنسان لا يعادي نفسه فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق الله تعالى حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار فيكون التقادم فيه مانعا وحد القذف فيه حق العبد لما فيه من دفع العار عنه ولهذا لا يصح رجوعه بعد الإقرار والتقادم غير مانع في حقوق العباد ولأن الدعوى فيه شرط فيحمل تأخيرهم على انعدام الدعوى فلا يوجب تفسيقهم بخلاف حد السرقة لأن الدعوى ليست بشرط للحد لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر وإنما شرطت للمال ولأن الحكم يدار على كون الحد حقا لله تعالى فلا يعتبر وجود التهمة في كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 فرد ولأن السرقة تقام على الاستسرار على غرة من المالك فيجب على الشاهد إعلامه وبالكتمان يصير فاسقا آثما ثم التقادم كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا خلافا لزفر رحمه الله حتى لو هرب بعد ما ضرب بعض الحد ثم أخذ بعد ما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود. واختلفوا في حد التقادم وأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر فإنه قال بعد حين وهكذا أشار الطحاوي وأبو حنيفة رحمه الله لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر وعن محمد رحمه الله أنه قدره بشهر لأن ما دونه عاجل وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وهو الأصح وهذا إذا لم يكن بين القاضي وبينهم مسيرة شهر أما إذا كان تقبل شهادتهم لأن المانع بعدهم عن الإمام فلا تتحقق التهمة والتقادم في حد الشرب كذلك عند محمد رحمه الله وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى. " وإذا شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة فإنه يحد وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع " والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى وهي شرط في السرقة دون الزنا وبالحضور يتوهم دعوى الشبهة ولا يعتبر بالموهوم " وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد " لاحتمال أنها امرأته أو أمته بل هو الظاهر " وأن أقر بذلك حد " لأنه لا يخفى عليه أمته أو امرأته. " وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها وآخران أنها طاوعته درئ الحد عنهما جميعا عند أبي حنيفة رحمه الله " وهو قول زفر رحمه الله " وقالا يحد الرجل خاصة " لاتفاقهما على الموجب وتفرد أحدهما بزيادة جناية وهو الإكراه بخلاف جانبها لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها ولم يثبت لاختلافهما وله أنه اختلف المشهود عليه لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها فصارا خصمين في ذلك " وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بها بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا " لأن المشهود به فعل الزنا وقد اختلف باختلاف المكان ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة ولا يحد الشهود خلافا لزفر رحمه الله لشبهة الاتحاد نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة. " وإن اختلفوا في بيت واحد حد الرجل والمرأة " معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في زاوية وهذا استحسان والقياس أن لا يجب الحد لاختلاف المكان حقيقة. وجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه من في المقدم في المقدم ومن في المؤخر في المؤخر فيشهد بحسب ما عنده. " وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس وأربعة أنه زنى بها عند طلوع الشمس بدير هند درئ الحد عنهم جميعا " أما عنهما فلأنا تيقنا بكذب أحد الفريقين غير عين وأم اعن الشهود فلاحتمال صدق كل فريق " وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وهي بكر درئ الحد عنهما وعنهم " لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة ومعنى المسئلة أن النساء نظرن إليها فقلن إنها بكر وشهادتهن حجة في إسقاط الحد وليست بحجة في إيجابه فلهذا سقط الحد عنهما ولا يجب عليهم. " وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وهم عميان أو محدودون في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف فإنهم يحدون ولا يحد المشهود عليه " لأنه لا يثبت بشهادتهم المال فكيف يثبت الحد وهم ليسوا من أهل أداء الشهادة والعبد ليس بأهل للتحمل والأداء فلم تثبت شبهة الزنا لأن الزنا يثبت بالأداء " وإن شهدوا بذلك وهم فساق أو ظهر أنهم فساق لم يحدو ا" لأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق ولهذا لو قضى القاضي بشهادة فاسق ينفذ عندنا ويثبت بشهادتهم شبهة الزنا وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق يثبت شبهة عدم الزنا فلهذا امتنع الحدان وسيأتي فيه خلاف الشافعي رحمه الله بناء على أصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة فهو كالعبد عنده " وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا " لأنهم قذفة إذ لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف باعتبارها. " وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم ثم وجد أحدهم عبدا أو محدودا في قذف فإنهم يحدون " لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة " وليس عليهم ولا على بيت المال أرش الضرب وإن رجم فديته على بيت المال وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا أرش الضرب أيضا على بيت المال " قال العبد الضعيف عصمه الله معناه إذا كان جرحه وعلى هذا الخلاف إذا مات من الضرب وعلى هذا إذا رجع الشهود لا يضمنون عنده وعندهما يضمنون لهما أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع فينتظم الجارح وغيره فيضاف إلى شهادتهم فيضمنون بالرجوع وعند عدم الرجوع تجب على بيت المال لأنه يتنقل فعل الجلاد إلى القاضي وهو عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم فصار كالرجم والقصاص ولأبي حنيفة رحمه الله أن الواجب هو الجلد وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك فلا يقع جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب وهو قلة هدايته فاقتصر عليه إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح كيلا يمتنع الناس عن الإقامة مخافة الغرامة. " وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد " لما فيها من زيادة الشبهة ولا ضرورة إلى تحملها فإن جاء الأولون فشهدوا على المعاينة في ذلك المكان لم يحد أيضا " معناه شهدوا على ذلك الزنا بعينه لأن شهادتهم قد ردت من وجه برد شهادة الفروع في عين هذه الحادثة إذ هم قائمون مقامهم في الأمر والتحميل ولا يحد الشهود لأن عددهم متكامل وامتناع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه. " وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم فكلما رجع واحد حد الراجع وحده وغرم ربع الدية " أما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التألف بشهادة الراجع ربع الحق وقال الشافعي رحمه الله يجب القتل دون المال بناء على أصله في شهود القصاص وسنبينه في الديات إن شاء الله تعالى. وأما الحد فمذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر رحمه الله لا يحد لأنه إن كان الراجع قاذف حي فقد بطل بالموت وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم القاضي فيورث ذلك شبهة ولنا أن الشهادة إنما تنقلب قذفا بالرجوع لأن به تفسخ شهادته فجعل للحال قذفا للميت وقد انفسخت الحجة فينفسخ ما يبتنى عليه وهو القضاء في حقه فلا يورث الشبهة بخلاف ما إذا قذفه غيره لأنه غير محصن في حق غيره لقيام القضاء في حقه " فإن لم يحد المشهود عليه حتى رجع واحد منهم حدوا جميعا وسقط الحد عن المشهود عليه " وقال محمد رحمه الله حد الراجع خاصة لأن الشهادة تأكدت بالقضاء فلا ينفسخ إلا في حق الراجع كما إذا رجع بعد الإمضاء ولهما أن الإمضاء من القضاء فصار كما إذا رجع واحد منهم قبل القضاء ولهذا سقط الحد عن المشهود عليه ولو رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعا وقال زفر رحمه الله يحد الراجع خاصة لأنه لا يصدق على غيره ولنا أن كلامهم قذف في الأصل وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به فإذا لم يتصل به بقي قذفا فيحدون " فإن كانوا خمسة فرجع أحدهم فلا شيء عليه " لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق وهو شهادة الأربعة " فإن رجع آخر حدا وغرما ربع الدية " أما الحد فلما ذكرنا وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق والمعتبر بقاء من بقي لا رجوع من رجع على ما عرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 " وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فزكوا فرجم فإذا الشهود مجوس أو عبيد فالدية على المزكين عند أبي حنيفة " رحمه الله معناه: إذا رجعوا عن التزكية " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو على بيت المال " وقيل هذا إذا قالوا تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم لهما أنهم أثنوا على الشهود خيرا فصار كما إذا أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه وله أن الشهادة إنما تصير حجة عاملة بالتزكية فكانت التزكية في معنى علة العلة فيضاف الحكم إليها بخلاف شهود الإحصان لأنه محض الشرط ولا فرق بين ما إذا شهدوا بلفظة الشهادة أو أخبرونا وهذا إذا أخبروا بالحرية والإسلام أما إذا قالوا هم عدول وظهروا عبيدا لا يضمنون لأن العبد قد يكون عدلا " ولا ضمان على الشهود " لأنه لا يقع كلامهم شهادة ولا يحدون حد القذف لأنهم قذفوا حيا وقد مات فلا يورث عنه. " وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه فضرب رجل عنقه ثم وجد الشهود عبيدا فعلى القاتل الدية " وفي القياس يجب القصاص لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل فأورث شبهة بخلاف ما إذا قتله قبل القضاء لأن الشهادة لم تصر حجة بعد ولأنه ظنه مباح الدم معتمدا على دليل مبيح فصار كما إذا ظنه حربيا وعليه علامتهم وتجب الدية في ماله لأنه عمد والعواقل لا تعقل العمد ويجب ذلك في ثلاث سنين لأنه وجب بنفس القتل " وإن رجم ثم وجدوا عبيدا فالدية على بيت المال " لأنه امتثل أمر الإمام فنقل فعله إليه ولو باشره بنفسه تجب الدية في بيت المال لما ذكرنا كذا هذا بخلاف ما إذا ضرب عنقه لأنه لم يأتمر أمره " وإذا شهدوا على رجل بالزنا وقالوا تعمدنا النظر قبلت شهادتهم " لأنه يباح النظر لهم ضرورة تحمل الشهادة فأشبه الطبيب والقابلة. " وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم " معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه ولهذا لو طلقها بعقب الرجعة والإحصان يثبت بمثله " فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه بالأحصان رجل وامرأتان رجم " خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله فالشافعي رحمه الله مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال وزفر رحمه الله يقول إنه شرط في معنى العلة لأن الجناية تتغلظ عنده فيضاف الحكم إليه فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا فلا تقبل لما ذكرنا ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة وأنها مانعة من الزنا على ما ذكرنا فلا يكون في معنى العلة وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة بخلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ما ذكر لأن العتق يثبت بشهادتهما وإنما لا يثبت بسبق التاريخ لأنه ينكره المسلم أو يتضرر به المسلم " فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون " عندنا خلافا لزفر وهو فرع ما تقدم والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 باب حد الشرب " ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك فعليه الحد وكذلك إذا أقر وريحها موجودة " لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه ". " وأن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحد " وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها والسكر لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان والرائحة قد تكون من غيرن كما قيل: يقولون لي انكه شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا وعندهما يقدر يزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه فيه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما تشتبه على الجهال. وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا " فإن اخذه الشهود وريحها توجد منه أو هو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حد في قولهم جميعا " لأن هذا عذر كعبد المسافة في حد الزنا والشاهد لا يتهم في مثلة. " ومن سكر من النبيذ حد " لما روي أن عمر رضي الله عنه أقام الحد على أعرابي سكر من النبيذ وسنبين الكلام في حد السكر ومقدار حده المستحق عليه إن شاء الله تعالى " ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها " لأن الرائحة محتملة وكذا الشرب قد يقع عن إكراه أو اضطرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 " ولا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا " لأن السكر من المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك وكذا شرب المكره لا يوجب الحد " ولا يحد حتى يزول عنه السكر " تحصيلا لمقصود الانزجار. " وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا " لإجماع الصحابة رضي الله عنهم " يفرق على بدنه كما في حد الزنا على ما مر " ثم يجرد في المشهور من الرواية وعن محمد رحمه الله أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف لأنه لم يرد به نص ووجه المشهور أنا أظهرنا التخفيف مرة فلا يعتبر ثانيا " وإن كان عبدا فحده أربعون سوطا " لأن الرق منصف على ما عرف " ومن أقر بشرب الخمر أو السكر ثم رجع لم يحد " لأنه خالص حق الله تعالى. " ويثبت الشرب بشهادة شاهدين و " يثبت " بالإقرار مرة واحدة " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة وسنبينها هناك إن شاء الله "ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال" لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان. " والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا لا قليلا ولا كثيرا ولا ولا يعقل الرجل من المرأة " قال العبد الضعيف: " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا هو الذي يهذى ويختلط كلامه " لأنه هو السكران في العرف وإليه مال أكثر المشايخ رحمهم الله وله أنه يؤخذ في اسباب لحدود بأقصاها درءا للحد ونهاية السكر أن يغلب السرور على العقل فيسلبه التمييز بين شيء وشيء وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط والشافعي رحمه الله يعتبر ظهور أثره في مشيته وحركاته وأطرافه وهذا مما يتفاوت فلا معنى لاعتباره. " ولا يحد السكران بإقراره على نفسه " لزيادة احتمال الكذب في إقراره فيحتال لدرئه لأنه خالص حق الله تعالى بخلاف حد القذف لأن فيه حق العبد والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه كما في سائر تصرفاته ولو ارتد السكران لا تبين منه امرأته لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي ظاهر الرواية تكون ردة والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 باب حد القذف مدخل ... باب حد القذف " وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة محصنة بصريح الزنا وطالب المقدوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان حرا " لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 إلى أن قال {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية والمراد الرمي بالزنا بالإجماع وفي النص إشارة إليه وهو اشتراط أربعة من الشهداء إذ هو مختص بالزنا ويشترط مطالبة المقذوف لأن فيه حقه من حيث دفع العار وإحصان المقذوف لما تلونا. قال: " ويفرق على أعضائه " لما مر في حد الزنا " ولا يجرد من ثيابه " لأن سسببه غير مقطوع به فلا يقام على الشدة بخلاف حد الزنا " غير أنه ينزع عنه الفرو والحشو " لأن ذلك يمنع أيصال الألم به " وإن كان القاذف عبدا جلد أربعين سوطا " لمكان الرق. " والإحصان أن يكون المقذوف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا عن فعل الزنا " أم الحرية فلأنه يطلق عليه اسم الإحصان قال الله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أي الحرائر والعقل والبلوغ لأن العار لا يلحق بالصبي والمجنون لعدم تحقق فعل الزنا منهما والإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام " من أشرك بالله فليس بمحصن " والعفة لأن غير العفيف لا يلحقه العار وكذا القاذف صادق فيه. " ومن نفى نسب غيره فقال لست لأبيك فإنه يحد " وهذا إذا كانت أمه حرة مسلمة لأنه في الحقيقة قذف لأمه لأن النسب إنما ينفى عن الزاني لا عن غيره " ومن قال لغيره في غضب لست بابن فلان لأبيه الذي يدعة له يحد ولو قال في غير غضب لا يحد " لأن عند الغضب يراد به حقيقته سبا له وفي غيره يراد به المعاتبة بنفي مشابهته إباه في أسباب المروءة. " ولو قال لست بابن فلان يعني جده لم يحد " لأنه صادق في كلامه ولو نسبه إلى جده لا يحد أيضا لأنه قد ينسب إليه مجازا " ولو قال له يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة فطالب الابن بحده حد القاذف " لأنه قذف محصنة بعد موتها " ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه وهو الوالد والولد " لأن العار يلتحق به لمكان الجزئية فيكون القذف متناولا له معنى. وعند الشافعي رحمه الله يثبت حق المطالبة لكل وارث لأن حد القذف يورث عنده على ما نبين وعندنا ولاية المطالبة ليست بطريق الإرث بل لما ذكرناه ولهذا يثبت عندنا للمحروم عن الميراث بالقتل ويثبت لولد البنت كما يثبت لولد الابن خلافا لمحمد رحمه الله ويثبت لولد الولد حال قيام الولد خلافا لزفر رحمه الله. " وإذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد " خلافا لزفر هو يقول القذف يتناوله معنى لرجوع العار إليه وليس طريقه الإرث عندنا فصار كما إذا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 متناولا له صورة ومعنى ولها أنه عيره بقذف محصن فيأخذه بالحد وهذا لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعييرا على الكمال ثم يرجع هذا التعيير الكامل إلى ولده والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق بخلاف ما إذا تناول القذف نفسه لأنه لم يوجد التعيير على الكمال لفقد الإحصان في المنسوب إلى الزنا. " وليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة ولا للابن أن يطالب أباه بقذف أمه الحرة المسلمة " لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده وكذا الأب بسبب ابنه ولهذا لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده ولو كان لها ابن من غيره له أن يطالب لتحقق السبب وانعدام المانع. " ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد " وقال الشافعي رحمه الله لا يبطل " ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي " عندنا خلافا له بناء على أنه يورث عنده وعندنا لا يورث ولا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه حق العبد ثم إنه شرع زاجرا ومنه سمى حدا والمقصود من شرع الزاجر إخلاء العالم عن الفساد وهذا آية حق الشرع وبكل ذلك تشهد الأحكام وإذا تعارضت الجهتان فالشافعي رحمه الله مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيا به ولا كذلك عكسه لآنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة عنه وهذا هو الأصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها منها الإرث إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع ومنها العفو فإنه لا يصح عفو المقذوف عندنا ويصح عنده ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه ويجري فيه التداخل وعنده لا يجري وعن أبي يوسف رحمه الله في العفو مثل قول الشافعي رحمه الله ومن أصحابنا من قال إن الغالب حق العبد وخرج الأحكام والأول أظهر. قال: " ومن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه " لأن للمقذوف فيه حقا فيكذبه في الرجوع بخلاف ما هو خالص حق الله لأنه لا مكذب له فيه " ومن قال لعربي يا نبطي لم يحد " لأنه يراد به التشبيه في الأخلاق أو عدم الفصاحة وكذا إذا قال لست بعربي لما قلنا. " ومن قال لرجل يا ابن ماء السماء فليس بقاذف " لأنه يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء لأن ماء السماء لقب به بصفائه وسخائه " وإن نسبه إلى عمه أو خاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 أو إلى زوج أمه فليس بقاذف " لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أبا. أما الأول فلقوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] واسماعيل كان عما له، والثاني لقوله عليه الصلاة والسلام: " الخال أب " والثالث للتربية. " ومن قال لغيرة زنأت في الجبل وقال عنيت صعود الجبل حد وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يحد " لأن المهموز منه للصعود حقيقة قالت امراة من العرب: وارق إلى الخيرات زناء في الجبل وذكر الجبل يقرره مرادا ولهما أنه يستعمل في الفاحشة مهموزا أيضا لأن من العرب من يهمز الملين كما يلين المهموز وحالة الغضب والسباب تعين الفاحشة مرادا بمنزلة ما إذا قال يا زانىء أو قال زنأت وذكر الجبل إنما بعين الصعود مرادا إذا كان مقرونا بكلمة على إذ هو المستعمل فيه ولو قال زنأت على الجبل قيل لا يحد لما قلنا وقيل يحد للمعنى الذي ذكرناه. " ومن قال لآخر يازاني فقال لا بل أنت فإنهما يحدان " لأن معناه لا بل أنت زان إذ هي كلمة عطف يستدرك بها الغلط فيصير الخبر المذكور في الأول مذكورا في الثاني " ومن قال لامرأته يا زانية فقالت لا بل أنت حدت المرأة ولا لعان " لأنهما قاذفان وقذفه يوجب اللعان وقذفها الحد وفي البداءة بالحد إبطال اللعان لأن المحدود في القذف ليس بأهل له وا إبطال في عكسه أصلا فيحتال للدرء إذ اللعان في معنى الحد " ولو قالت زنيت بك فلا حد ولا لعان " معناه قالت بعد ما قال لها يا زانية لوقوع الشك في كل واحد منهما لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح فيجب الحد دون اللعان لتصديقها إياه وانعدامه منه ويحتمل انها أرادت زناي ما كان معك بعد النكاح لأني ما مكنت أحدا غيرك وهو المراد في مثل هذه الحالة وعلى هذا الاعتبار يجب اللعان دون الحد على المرأة لوجود القذف منه وعدمه منها فجاء ما قلنا. " ومن أقر بولد ثم نفاه فإنه يلاعن " لأن النسب لزمه بإقراره وبالنفي بعده صار قاذفا فيلاعن " وإن نفاه ثم أقر به حد " لأنه لما أكذب نفسه بطل اللعان لأنه حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب والأصل فيه حد القذف فإذا بطل التكاذب يصار إلى الأصل وفيه خلاف ذكرناه في اللعان " والولد ولده " في الوجهين لإقراره به سابقا أو لاحقا واللعان يصح بدون قطع النسب كما يصح بدون الولد " وإن قال ليس بابني ولا بابنك فلا حد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 ولا لعان " لأنه أنكر الولادة وبه لا يصير قاذفا. " ومن قذف امرأة ومعها أولاد لم يعرف لهم أب أو قذف الملاعنة بولد والولد حي أو قذفها بعد موت الولد فلا حد عليه " لقيام أمارة الزنا منها وهي ولادة ولد لا أب له ففاتت العفة نظرا إليها وهي شرط الإحصان " ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد " لانعدام أمارة الزنا. قال: " ومن وطىء وطئا حراما في غير ملكه لم يحد قاذفه " لفوات العفة وهي شرط الإحصان ولأن القاذف صادق والأصل فيه أن من وطىء حراما لعينه لا يجب الحد بقذفه لأن الزنا هو الوطء المحرم لعينه وإن كان محرما لغيره يحد لأنه ليس بزنا فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه وكذا الوطء في الملك والحرمة مؤيدة فإن كانت الحرمة مؤقتة فالحرمة لغيره وأبو حنيفة رحمه الله يشترط أن تكون الحرمة المؤبدة ثابتة بالإجماع أو بالحديث المشهور لتكون ثابتة من غير تردد " وبيانه أن من قذف رجلا وطىء جارية مشتركة بينه وبين آخر فلا حد عليه " لانعدام الملك من وجه " وكذا إذا قذف امرأة زنت في نصرانيتها " لتحقق الزنا منها شرعا لانعدام الملك ولهذا وجب عليها الحد " ولو قذف رجلا أتى أمته وهي مجوسية أو امرأته وهي حائض أو مكاتبة له فعليه الحد " لأن الحرمة مع قيام الملك وهي مؤقتة فكانت الحرمة لغيره فلم يكن زنا وعن أبي يوسف رحمه الله أن وطء المكاتبة يسقط الإحصان وهو قول زفر رحمه الله لآن الملك زائل في حق الوطء ولهذا يلزمه العقر بالوطء ونحن نقول ملك الذات باق والحرمة لغيره إذ هي مؤقته. " ولو قذف رجلا وطء أمته وهي أخته من الرضاعة لا يحد " لأن الحرمة مؤبدة وهذا هو الصحيح " ولو قذف مكاتبا مات وترك وفاء لا حد عليه " لتمكن الشبهة في الحرية لكان اختلاف الصحابة رضي الله عنهم " ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ثم أسلم يحد عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا حد عليه " وهذا بناء على أن تزوج المجوسي بالمحارم له حكم الصحة فيما بينهم عنده خلافا لهما وقد مر في النكاح " وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فقذف مسلما حد " لأن فيه حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد ولأنه طمع في أن لا يؤذى فيكون ملتزما أن لا يؤذى وموجب أذاه الحد. " وإذا حد المسلم في قذف سقطت شهادته وإن تاب " وقال الشافعي رحمه الله تقبل إذا تاب وهي تعرف في الشهادات " وإذا حد الكافر في قذف لم تجز شهادته على أهل الذمة " لأن له الشهادة على جنسه فترد تتمة لحده " فإن أسلم قبلت شهادته عليهم وعلى المسلمين " لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 هذه شهادة استفادها بعد الإسلام فلم تدخل تحت الرد بخلاف العبد إذا حد حد القذف ثم أعتق حيث لا تقبل شهادته لأنه لا شهادة له أصلا في حال الرق فكان رد شهادته بعد العتق من تمام حده " فإن ضرب سوطا في قذف ثم أسلم ثم ضرب ما بقي جازت شهادته " لأن رد الشهادة متمم للحد فيكون صفة له والمقام بعد الإسلام بعض الحد فلا يكون رد الشهادة صفة له وعن أبي يوسف رحمه الله أنه رد شهادته إذ الأقل تابع للأكثر والأول أصح. قال: " ومن قذف أو زنى أو شرب غير مرة فحد فهو لذلك كله " أما الأولان فلأن المقصد من إقامة الحد حقا لله تعالى الانزجار واحتمال حصوله بالأول قائم فيتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني وهذا بخلاف ما إذا زنى وقذف وسرق وشرب لأن المقصود من كل جنس غير المقصود من الآخر فلا يتداخل وأما القذف فالمغلب فيه عندنا حق الله ليكون ملحقا بهما وقال الشافعي رحمه الله إن اختلف المقذوف أو المقذوف به وهو الزنا لا يتداخل لأن المغلب فيه حق العبد عنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 فصل في التعزير " ومن قذف عبدا أو أمة أو أم ولد أو كافرا بالزنا عزر " لأنه جناية قذف وقد امتنع وجوب الحد لعقد الإحصان فوجب التعزير " وكذا إذا قذف مسلما بغير الزنا فقال يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث أو ياسارق " لأنه آذاه وألحق الشين به ولا مدخل للقياس في الحدود فوجب التعزير إلا أنه يبلغ بالتعزير غايته في الجناية الأولى لأنه من جنس ما يجب به الحد وفي الثانية الرأي إلى الإمام. " ولو قال يا حمار أو يا خنزير لم يعزر " لأنه ما ألحق الشين به للتيقن بنفيه وقيل في عرفنا يعزر لأنه يعد شينا وقيل إن كان المسبوب من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر لأنه يلحقهم الوحشة بذلك وإن كان من العامة لا يعزر وهذا أحسن. والتعزيز أكثره تسعة وثلاثون سوطا وأقله ثلاث جلدات وقال أبو يوسف رحمه الله يبلغ التعزير خمسة وسبعين سوطا والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام " من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين " وإذا تعذر تبليغه حدا فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله نظرا إلى أدنى الحد وهو حد العبد في القذف فصرفاه إليه وذلك أربعون سوطا فنقصا منه سوطا وأبو يوسف رحمه الله اعتبر أقل الحد في الأحرار إذ الأصل هو الحرية ثم نقص سوطا في رواية عنه وهو قول زفر رحمه الله وهو القياس وفي هذه الرواية نقص خمسة وهو مأثور عن علي رضي الله عنه فقلده ثم قدر الأدنى في الكتاب بثلاث جلدات لأن ما دونها لا يقع به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الزجر. وذكر مشايخنا رحمهم الله أن أدناه على ما يراه الإمام فيقدر بقدر ما يعلم أنه ينزجر لأنه يختلف باختلاف الناس وعن أبي يوسف رحمه الله أنه على قدر عظم الجرم وصغره وعنه أنه يقرب كل نوع من بابه فيقرب اللمس والقبلة من حد الزنا والقذف بغير الزنا من حد القذف قال: " وإن رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل " لأنه صلح تعزيزا وقد ورد الشرع به في الجملة حتى جاز أن يكتفى به فجاز أن يضم إليه ولهذا لم يشرع في التعزير بالتهمة قبل ثبوته كما شرع في الحد لأنه من التعزيز. قال: " وأشد الضرب التعزيز " لأنه جرى التخفيف فيه من حيث العدد فلا يخفف من حيث الوصف كيلا يؤدي إلى فوات المقصود ولهذا لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء. قال: " ثم حد الزنا " لأنه ثابت بالكتاب وحد الشرب ثبت بقول الصحابة رضي الله عنهم ولأنه أعظم جناية حتى شرع فيه الرجم " ثم حد الشرب " لأن سببه متيقن به " ثم حد القذف " لأن سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا ولأنه جرى فيه التغليظ من حيث رد الشهادة فلا يغلظ من حيث الوصف. " ومن حده الإمام أو عزره فمات فدمه هدر " لأنه فعل ما فعل بأمر الشرع وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة كالفصاد والبزاغ بخلاف الزوج إذا عزر زوجته لأنه مطلق فيه والإطلاقات تتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق وقال الشافعي رحمه الله تجب الدية في بيت المال لأن الإتلاف خطأ فيه إذ التعزير للتأديب غير أنه تجب الدية في بيت المال لأن نفع عمله يرجع إلى عامة المسلمين فيكون الغرم في ما لهم قلنا لما استوفى حق الله تعالى بأمره صار كأن الله أماته من غير واسطة فلا يجب الضمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 كتاب السرقة جزاء السارق ... كتاب السرقة السرقة في اللغة: أخذ الشيء من الغير على سبيل الخفية والاستسرار ومنه استراق السمع قال الله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] وقد زيدت عليه أوصاف في الشريعة على ما يأتيك بيانه إن شاء الله تعالى والمعنى اللغوي مراعى فيها ابتداء وانتهاء أو ابتداء لا غير كما إذا نقب الجدار على الاستسرار وأخذ المال من المالك مكابرة على الجهار وفي الكبرى أعني قطع الطريق مسارقة عين الإمام لآنه هو المتصدي لحفظ الطريق بأعوانه وفي الصغرى مسارقة عين المالك أو من يقوم مقامه. قال: " وإذا سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه وجب عليه القطع " والأصل فيه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: من الآية38] الآية ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ لأأن الجناية لا تتحقق دونهما والقطع جزاء الجناية ولا بد من التقدير بالمال الخطير لأن الرغبات تفتر في الحقير وكذا أخذه لا يخفى فلا يتحقق ركنه ولا حكمة الزجر لأنها فيما يغلب والتقدير بعشرة دراهم مذهبنا وعند الشافعي رحمه الله التقدير بربع دينار وعند مالك رحمه الله بثلاثة دراهم لهما أن القطع على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ما كان إلا في ثمن المجن وأقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم والأخذ بالأقل وهو المتيقن به أولى غير أن الشافعي رحمه الله يقول كانت قمة الدينار على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام اثني عشر درهما والثلاثة ربعها ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالا لدرء الحد وهذا لأن في الأقل شبهة عدم الجناية وهي دارئة للحد وقد تأيد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم " واسم الدراهم ينطلق على المضروبة عرفا فهذا يبين لك اشتراط المضروب كما قال في الكتاب وهو ظاهر الرواية وهو الأصح رعاية لكمال الجناية حتى لو سرق عشرة تبرا قيمتها أنقص من عشرة مضروبة لا يجب القطع والمعتبر وزن سبعة مثاقيل لأنه هو المتعارق في عامة البلاد وقوله أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم إشارة إلى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 غير الدراهم تعتبر قيمته بها وإن كان ذهبا ولا بد من حرز لا شبهة فيه لأن الشبهة دارئة وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى. قال: " والعبد والحر في القطع سواء " لأن النص لم يفصل ولأن التنصيف متعذر فيتكامل صيانة لأموال الناس. "ويجب القطع بإقراره مرة واحدة وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يقطع إلا بالإقرار مرتين " ويروى عنه أنهما في مجلسين مختلفين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر بالأخرى وهي البينة كذلك اعتبرنا في الزنا ولهما أن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة فيكتفي به كما في القصاص وحد القذفولا اعتبار بالشهادة لأن الزيادة تفيد فيها تقليل تهمة الكذب ولا تفيد في الإقرار شيئا لأنه لا تهمة وباب الرجوع في حق الحد لا ينسد بالتكرار والرجوع في حق المال لا يصح أصلا لأن صاحب المال يكذبه واشترط الزيادة في الزنا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع. قال: " ويجب بشهادة شاهدين " لتحقق الظهور كما في سائر الحقوق وينبغي أن يسألهما الإمام عن كيفية السرقة وما هيتها وزمانها ومكانها لزيادة الاحتياط كما مر في الحدود ويحبسه إلى أن يسأل عن الشهود للتهمة. قال: " وإذا اشترك جماعة في سرقة فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهم قطع وإن أصابه أقل لا يقطع " لأن الموجب سرقة النصاب ويجب على كل واحد منهم بجنايته فيعتبر كمال النصاب في حقه والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 باب ما يقطع فيه ومالا يقطع مدخل ... باب ما يقطع فيه ومالا يقطع " ولا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد والزرنيخ والمغرة والنورة " والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في الشيء التافه أي الحقير وما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته غير مرغوب فيه حقير تقل الرغبات فيه والطباع لا تضن به فقلما يوجد أخذه على كره من الملك فلا حاجة إلى شرع الزاحر ولهذا لم يجب القطع في سرقة ما دون النصاب ولأن الحرز فيها ناقص ألا يرى أن الخشب يلقى على الأبواب وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز والطير يطير والصيد يفر وكلنا الشركة العامة التي كانت فيه وهو على تلك الصفة تورث الشبهة والحد يندرىء بها ويدخل في السمك المالح والطري وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع في الطير " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين وهو قول الشافعي رحمه الله والحجة عليهما ما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 قال: " ولا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم والفواكه الرطبة " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع في تمر ولا كثر " والكثر الجمار وقيل الودى وقال عليه الصلاة والسلام: " لا قطع في الطعام " والمراد والله أعلم ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للأكل منه وما في معناه كاللحم والثمر لأنه يقطع في الحنطة والسكر إجماعا وقال الشافعي رحمه الله يقطع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام " لا قطع في ثمر ولا كثر فإذا آواه الجرين أو الجران قطع " قلنا أخرجه على وفاق العادة والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر وفيه القطع. قال: " ولا قطع في الفاكهة على الشجر والزرع الذي لم يحصد " لعدم الإحراز " ولا قطع في الأشربة المطربة " لأن السارق يتأول في تناولها الإراقة ولأن بعضها ليس بمال وفي مالية بعضها اختلاف فتتحقق شبهة عدم المالية. قال: " ولا في الطنبور " لأنه من المعازف " ولا في سرقة المصحف وإن كان عليه حلية " وقال الشافعي رحمه الله يقطع لأنه مال متقوم حتى يجوز بيعه وعن أبي يوسف رحمه الله مثله وعنه أيضا أن يقطع إذا بلغت الحلية نصابا لآنها ليست من المصحف فتعتبر بانفرادها ووجه الظاهر أن الآخذ يتأول في أخذه القراءة والنظر فيه ولأنه لا مالية له على اعتبار المكتوب وإحرازه لأجله لا للجلد والأوراق والحلية وإنما هي توابع ولا معتبر بالتبع كمن سرق آنية فيها خمر وقيمة الآنية تربو على النصاب " ولا قطع في أبواب المسجد " لعدم الإحراز فصار كباب الدار بل أولى لأنه يحرز بباب الدار ما فيها ولا يحرز بباب المسجد ما فيه حتى لا يجب القطع بسرقة متاعه. قال: " ولا الصليب من الذهب ولا الشطرنج ولا النرد " لأنه يتأول من أخذها الكسر نهيا عن المنكر بخلاف الدرهم الذي عليه التمثال لأنه ما أعد للعبادة فلا تثبت شبهة إباحة الكسر وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إن كان الصليب في المصلى لا يقطع لعد الحرز وإن كان في بيت آخر يقطع لكمال المالية والحرز " ولا قطع على سارق الصبي الحر وإن كان عليه حلى " لأن الحر ليس بمال وما عليه من الحلى تبع له ولأنه يتأول في أخذه الصبي إسكاته أو حمله إلى مرضعته وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع إذا كان عليه حلى فهو نصاب لآنه يجب القطع بسرقته وحده فكذا مع غيره وعلى هذا إذا سرق إناء فضة فيه نبيذ أو ثريد والخلاف في صبي لا يمشي ولا يتكلم كيلا يكون في يد نفسه " ولا قطع في سرقة العبد الكبير " لأنه غصب أو خداع " ويقطع في سرقة العبد الصغير " لتحققها بحدها إذا كان يعبر عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 نفسه لأنه هو والبالغ سواء في اعتبار يده وقال أبو يوسف رحمه الله لا يقطع وإن كان صغيرا لا يعقل ولا يتكلم استحسانا لآنه آدمي من وجه مال من وجه ولهما أنه مال مطلق لكونه منتفعا به أو يعرض أن يصير منتفعا به إلا أنه انضم إليه معنى الآدمية " ولا قطع في الدفاتر كلها " لأن المقصود ما فيها وذلك ليس بمال " إلا في دفاتر الحساب " لأن ما فيها لا يقصد بالأخذ فكان المقصود هو الكواغد. قال: " ولافي سرقة كلب ولا فهد " لأن من جنسهما يوجد مباح الأصل غير مرغوب فيه ولأن الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب فأورث شبهة " ولا قطع في دف ولا طبل ولا بربط ولا مزمار " لأن عندهما لا قيمة لها وعند أبي حنيفة رحمه الله آخذها يتأول الكسر فيها " ويقطع في الساج والقنا والآبنوس والصندل " لأنها أموال محرزة لكونها عزيزة عند الناس ولا توجد بصورتها مباحة في دار الإسلام. قال: " ويقطع في الفصوص الخضر والياقوت والزبرجد " لأنها من أعز الأموال وأنفسها ولا توجد مباحة الأصل في دار إسلام غير مرغوب فيها فصارت كالذهب والفضة " وإذا اتخذ من الخشب أواني وأبوبا قطع فيها " لأنه بالصنعة التحق بالأموال النفيسة ألا ترى أنها تحرز بخلاف الحصير لأن الصنعة فيه لم تغلب على الجنس حتى يبسط في غير الحرز وفي الحصر البغدادية قالوا يجب القطع في سرقتها لغلبة الصنعة على الأصل وإنما يجب القطع في غير المركب وإنما يجب إذا كان خفيفا لا يثقل على الواحد حمله لأن الثقيل منه لا يرغب في سرقته " ولا قطع على خائن ولا خائنة " لقصور في الحرز " ولا منتهب ولا مختلس " لأنه يجاهر بفعله كيف وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: " لا قطع في مختلس ولا منتهب ولا خائن " " ولا قطع على النباش " وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله عليه القطع لقوله عليه الصلاة والسلام " من نبش قطعناه " ولأنه مال متقوم محرز بحرز مثله فيقطع فيه ولهما قوله عليه الصلاة والسلام " لاقطع على المختفي " وهو النباش بلغة أهل المدينة ولأن الشبهة تمكنت في الملك لأنه لا ملك للميت حقيقة ولا للوارث لتقدم حاجة الميت وقد تمكن الخلل في المقصود وهو الانزجار لأن الجناية في نفسها نادرة الوجود وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على السياسة وإن كان القبر في بيت مقفل فهو على الخلاف في الصحيح لما قلنا وكذا إذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بيناه. " ولا يقطع السارق من بيت المال " لأنه مال العامة وهو منهم قال " ولا من مال للسارق فيه شركة " لما قلنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 " ومن له على آخر دراهم فسرق منه مثلها لم يقطع " لأنه استيفاء لحقه والحال والمؤجل فيه سواء استحسانا لأن التأجيل لتأخير المطالبة وكذا إذا سرق زيادة على حقه لآنه بمقدار حقه يصير شريكا فيه " وإن سرق منه عروضا قطع " لأنه ليس له ولاية الاستيفاء منه إلا بيعا بالتراضي وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقطع لأن له أن يأخذه عند بعض العلماء قضاء من حقه أو رهنا بحقه قلنا هذا قول لا يستند إلى دليل ظاهر فلا يعتبر بدون إتصال الدعوى به حتى لو ادعى ذلك درىء عنه الحد لأنه ظن في موضع الخلاف ولو كان حقه دراهم فسرق منه دنانير قيل يقطع لأنه ليس له حق الأخذ وقيل لا يقطع لأن النقود جنس واحد. " ومن سرق عينا فيها فردها ثم عاد فسرقها وهي بحالها لم يقطع " والقياس أن يقطع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن عاد فاقطعوه " من غير فصل ولأن الثانية متكاملة كالأولى بل أقبح لتقدم الزاجر وصار كما إذا باعه المالك من السارق ثم اشتراه منه ثم كانت السرقة ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل على ما يعرف من بعد إن شاء الله تعالى وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة السقوط نظرا إلى اتحاد الملك والمحل وقيل الموجب وهو القطع فيه بخلاف ما ذكر لأن الملك قد اختلف باختلاف سببه ولأن تكرار الجناية منه نادر لتحمله مشقة الزاجر فتعرى الإقامة عن المقصود وهو تقليل الجناية وصار كما إذا قذف المحدود في قذف المقذوف الأول قال: " فإن تغيرت عن حالها مثل أن يكون غزلا فسرقه وقطع فرده ثم نسج فعاد فسرقه قطع " لأن العين قد تبدلت ولهذا يملكه الغاصب به وهذا هو علامة التبدل في كل محل وإذا تبدلت انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع فيه فوجب القطع ثانيا والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 فصل في الحرز والأخذ منه " ومن سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم محرم منه لم يقطع " فالأول وهو الولاد للبسوطة في المال وفي الدخول في الحرز والثاني للمعنى الثاني ولهذا أباح الشرع النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منها بخلاف الصديقين لأنه عاداه بالسرقة وفي الثاني خلاف الشافعي رحمه الله لأنه ألحقها بالقرابة البعيدة وقد بيناه في العتاق. " ولو سرق من بيت ذي رحم محرم متاع غيره ينبغي أن لا يقطع ولو سرق ماله من بيت غيره يقطع " اعتبارا للحرز وعدمه " وإن سرق من أمه من الرضاعة قطع "وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يقطع لأنه يدخل عليها من غير استئذان وحشمة بخلاف الأخت من الرضاعة لانعدام هذا المعنى فيها عادة وجه الظاهر أنه لا قرابة والمحرمية بدونها لا تحترم كما إذا ثبتت بالزنا والتقبيل عن شهوة وأقرب من ذلك الأخت من الرضاعة وهذا لأن الرضاع قلما يشتهر فلا بسوطة تحرزا عن موقف التهمة بخلاف النسب. " وإذا سرق أحد الزوجين من الآخر أو العبد من سيده أو من امرأة سيده أو من زوج سيدته لم يقطع " لوجود الإذن بالدخول عادة وإن سرق أحد الزوجين من حرز الآخر خاصة لا يسكنان فيه فكذلك عندنا خلافا للشافعي رحمه الله لبسوطة بينهما في الأموال عادة ودلالة وهو نظير الخلاف في الشهادة " ولو سرق المولى من مكاتبه لم يقطع " لأن له في أكسابه حقا " وكذلك السارق من الغنم " لأن له فيه نصيبا وهو مأثور عن علي رضي الله تعالى عنه درءا وتعليلا. قال: " والحرز على نوعين حرز لمعنى فيه كالبيوت والدور وحرز بالحافظ " قال العبد الضعيف احرز لا بد منه لأن الاستسرار لا يتحقق دونه ثم هو قد يكون بالمكان وهو المكان المعد لإحراز الأمتعة كالدور والبيوت والصندوق والحانوت وقد يكون بالحافظ كمن جلس في الطريق أو في المسجد وعنده متاعه فهو محرز به وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد " وفي المحرز بالمكان لا يعتبر الإحراز بالحافظ " هو الصحيح لآنه محرز بدونه وهو البيت وإن لم يكن له باب أو كان وهو مفتوح حتى يقطع السارق منه لأن البناء لقصد الإحراز إلا أنه لا يجب القطع إلا بالإخراج منه لقيام يده فيه قبله بخلاف المحرز بالحافظ حيث يجب القطع فيه كما أخذ لزوال يد المالك بمجرد الأخذ فتتم السرقة ولا فرق بين أن يكون الحافظ مستيقظا أو نائما والمتاع تحته أو عنده هو الصحيح لأنه يعد النائم عند متاعه حافظا له في العادة وعلى هذا لا يضمن المودع والمستعير بمثله لأنه ليس له بتضييع بخلاف ما اختاره في الفتاوى. قال: " ومن سرق شيئا من حرز أو من غير حرز وصاحبه عنده يحفظه قطع " لأنه سرق مالا محرزا بأحد الحرزين " ولا قطع على من سرق مالا من حمام أو من بيت أذن للناس في دخوله فيه " لوجود الإذن عادة أو حقيقة في الدخول فاختل الحرز ويدخل في ذلك حوانيت التجار والخانات إلا إذا سرق منها ليلا لأنها بنيت لإحراز الأموال وإنما الإذن يختص بالنهار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 " ومن سرق من المسجد متاعا وصاحبه عنده قطع " لأنه محرز بالحافظ لأن المسجد ما بني لإحراز الأموال فلم يكن المال محرزا بالمكان بخلاف الحمام والبيت الذي أذن للناس في دخوله حيث لا يقطع لأنه بني للإحراز فكان المكان حرزا فلا يعتبر الإحراز بالحافظ " ولا قطع على الضيف إذا سرق ممن أضافه " لأن البيت لم يبق حرزا في حقه لكونه مأذونا في دخوله ولأنه بمنزلة أهل الدار فيكون فعله خيانة لا سرقة. " ومن سرق سرقة فلم يخرجها من الدار لم يقطع " لأن الدار كلها حرز واحد فلا بد من الإخراج منها ولأن الدار وما فيها في يد صاحبها معنى فتتمكن شبهة عدم الأخذ " فإن كانت دار فيها مقاصير فأخرجها من المقصورة إلى صحن الدار قطع " لأن كل مقصورة باعتبار ساكنها حرز على حدة " وإن أغار إنسان من أهل المقاصير على مقصورة فسرق منها قطع " لما بينا " وإذا نقب اللص البيت فدخل وأخذ المال وناوله آخر خارج البيت فلا قطع عليهما " لأن الأول لم يوجد منه الإخراج لاعتراض يد معتبرة على المال قبل خروجه والثاني لم يوجد منه هتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد وعن أبي يوسف رحمه الله إن أخرج الداخل يده وناولها الخارج فالقطع على الداخل وإن أدخل الخارج يده فتناولها من يد الداخل فعليهما القطع وهي بناء على مسئلة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى " وإن ألقاه في الطريق وخرج فأخده قطع " وقال زفر رحمه الله لا يقطع لأن الإلقاء غير موجب للقطع كما لو خرج ولم يأخذ وكذا الأخذ من السكة كما لو أخذه غيره ولنا أن الرمي حيلة يعتادها السراق لتعذر الخروج مع المتاع أو ليتفرغ لقتال صاحب الدار أو للفرار ولم تعترض عليه يد معتبرة فاعتبر الكل فعلا واحدا فإذا خرج ولم يأخذه فهو مضيع لا سارق. قال: " وكذلك إن حمله على حمار فساقه وأخرجه " لأن سيره مضاف إليه لسوقه " وإذا دخل الحرز جماعة فتولى بعضهم الأخذ قطعوا جميعا " قال العبد الضعيف رحمه الله هذا استحسان والقياس أن يقطع الحامل وحده وهو قول زفر رحمه الله لأن الإخراج وجد منه فتمت السرقة به ولنا أن الإخراج من الكل معنى للمعاونة كما في السرقة الكبرى وهذا لأن المعتاد فيما بينهم أن يحمل البعض المتاع ويتشمر الباقون للدفع فلو امتنع القطع لأدى إلى سد باب الحد. قال: " ومن نقب البيت وأدخل يده فيه وأخذ شيئا لم يقطع " وعن أبي يوسف رحمه الله في الإملاء أنه يقطع لأنه أخرج المال من الحرز وهو المقصود فلا يشترط الدخول فيه كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي فأخرج الغطريفي ولنا أن هتك الحرز يشترط فيه الكمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 تحرزا عن شبهة العدم والكمال في الدخول وقد أمكن اعتباره والدخول هو المعتاد بخلاف الصندوق لأن الممكن فيه إدخال اليد دون الدخول وبخلاف ما تقدم من حمل البعض المتاع لأن ذلك هو المعتاد. قال: " وإن طر صرة خارجة من الكم لم يقطع وإن أدخل يده في الكم يقطع " لأن في الوجه الأول الرباط من خارج فبالطر يتحقق الأخذ من الظاهر فلا يوجد هتك الحرز وفي الثاني الرباط من داخل فبالطر يتحقق الأخذ من الحرز وهو الكم ولو كان مكان الطر حل الرباط ثم الأخذ في الوجهين ينعكس الجواب لانعكاس العلة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقطع على كل حال لأنه محرز إما بالكم أو بصاحبه. قلنا الحرز هو الكم لأنه يعتمده وإنما قصده قطع المسافة والاستراحة فأشبه الجوالق " وإن سرق من القطار بعيرا أو حملا لم يقطع " لأنه ليس بمحرز مقصودا فتتمكن شبهة العدم وهذا لأن السائق والقائد والراكب يقصدون قطع المسافة ونقل الأمتعة دون الحفظ حتى لو كان مع الأحمال من يتبعها للحفظ قالوا يقطع " وإن شق الجمل وأخذ منه قطع " لأن الجوالق في مثل هذا حرز لأنه يقصد بوضع الأمتعة فيه صيانتها كالكم فوجد الأخذ من الحرز فيقطع " وإن سرق جوالقا فيه متاع وصاحبه يحفظه ونائم عليه قطع " ومعناه إذا كان الجوالق في موضع هو ليس بحرز كالطريق ونحوه حتى يكون محرزا بصاحبه لكونه مترصدا لحفظه وهذا لأن المعتبر هو الحفظ المعتاد والجلوس عنده والنوم عليه يعد حفظا عادة وكذا النوم بقرب منه على ما اخترناه من قبل وذكر في بعض النسخ وصاحبه نائم عليه أو حيث يكون حافظا له وهذا يؤكد ما قدمناه من القول المختار والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 فصل في كيفية القطع وإثباته قال: " ويقطع يمين السارق من الزند ويحسم " فالقطع لما تلوناه من قبل واليمين بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومن الزند لأن الاسم يتناول اليد إلى الإبط وهذا المفصل أعني الرسغ متيقن به كيف وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقطع يد السارق من الزند والحسم لقوله عليه الصلاة والسلام " فاقطعوه واحسموه " ولأنه لو لم يحسم يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف " فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا لم يقطع وخلد في السجن حتى يتوب " وهذا استحسان ويعزر أيضا ذكره المشايخ رحمهم الله وقال الشافعي رحمه الله في الثالثة تقطع يده اليسرى وفي الرابعة تقطع رجله اليمنى لقوله عليه الصلاة والسلام " من سرق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 ويروى مفسرا كما هو مذهبه ولأن الثالثة مثل الأولى في كونها جناية بل فوقها فتكون أدعى إلى شرع الحد ولنا قول علي رضي الله عنه فيه إني لأستحي من الله تعالى أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها ورجلا يمشي عليها وبهذا حاج بقية الصحابة رضي الله عنهم فحجهم فانعقد إجماعا ولأنه إهلاك معني لما فيه من تفويت جنس المنفعة والحد زاجر ولأنه نادر الوجود والزجر فيما يغلب وقوعه بخلاف القصاص لأنه حق العبد فيستوفى ما أمكن جبرا لحقه والحديث طعن فيه الطحاوي رحمه الله أو نحمله على السياسة. " وإذا كان السارق أشل اليد اليسرى أو أقطع أو مقطوع الرجل اليمنى لم يقطع " لأن فيه تفويت جنس المنفعة بطشا أو مشيا وكذا إذا كانت رجله اليمنى شلاء لما قلنا " وكذا إن كانت إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء أو الأصبعان منها سوى الإبهام " لأن قوام البطش بالإبهام " فإن كانت أصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء قطع " لأن فوات الواحدة لا يوجب خللا ظاهرا في البطش بخلاف فوات الأصبعين لأنهما ينزلان منزلة الإبهام في نقصان البطش. قال: " وإذا قال الحاكم للحداد اقطع يمين هذا في سرقة سرقها فقطع يساره عمدا أو خطأ فلا شيء عليه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا شيء عليه في الخطأ ويضمن في العمد " وقال زفر رحمه الله يضمن في الخطأ أيضا وهو القياس والمراد بالخطأ هو الخطأ في الاجتهاد وأما الخطأ في معرفة اليمين واليسار لا يجعل عفوا وقيل يجعل عذرا أيضا له أنه قطع يدا معصومة والخطأ في حق العباد غير موضوع فيضمنها. قلنا إنه أخطأ في اجتهاده إذ ليس في النص تعيين اليمين والخطأ في الاجتهاد موضوع ولهما أنه قطع طرفا معصوما بغير حق ولا تأويل لأنه تغمد الظلم فلا يعفى وإن كان في المجتهدات وكان ينبغي أن يجب القصاص إلا أنه امتنع للشبهة ولأبي حنيفة رحمه الله أنه أتلف وأخلف من جنسه ما هو خير منه فلا يعد إتلافا كمن شهد على غيره ببيع ماله بمثل قيمته ثم رجع وعلى هذا لو قطعه غير الحداد لا يضمن أيضا هو الصحيح ولو أخرج السارق يساره وقال هذه يميني لا يضمن بالاتفاق لأنه قطعه بأمره ثم في العمد عنده عليه أي السارق ضمان المال لأنه لم يقع حدا وفي الخطأ كذلك على هذه الطريقة وعلى طريقة الاجتهاد لا يضمن. " ولا يقطع السارق إلا أن يحضر المسروق منه فيطالب بالسرقة " لأن الخصومة شرط لظهورها ولا فرق بين الشهادة والإقرار عندنا خلافا للشافعي رحمه الله في الإقرار، لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الجناية على مال الغير لا تظهر إلا بخصومته "وكذا إذا غاب عند القطع عندنا " لأن الاستيفاء من القضاء في باب الحدود. " وللمستودع والغاصب وصاحب الربا أن يقطعوا السارق منهم ولرب الوديعة أن يقطعه أيضا وكذا المغصوب منه " وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يقطع بخصومة الغاصب والمستودع وعلى هذا الخلاف المستعير والمستأجر والمضارب والمستبضع والقابض على سوم الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة سوى المالك ويقطع بخصومة المالك في السرقة من هؤلاء إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن بعد قضاء الدين لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه والشافعي رحمه الله بناه على أصله لا خصومة لهؤلاء في الاسترداد عنده وزفر رحمه الله يقول ولاية الخصومة في حق الاسترداد ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع لأن فيه تفويت الصيانة ولنا أن السرقة موجبة للقطع في نفسها وقد ظهرت عند القاضي بحجة شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة معتبرة مطلقا إذ الاعتبار لحاجتهم إلى الاسترداد فيستوفي القطع والمقصود من الخصومة إحياء حقه وسقوط العصمة ضرورة الاستيفاء فلم يعتبر ولا معتبر بشبهة موهومة الاعتراض كما إذا حضر المالك وغاب المؤتمن فإنه يقطع بخصومته في ظاهر الرواية وإن كانت شبهة الإذن في دخول الحرز ثابتة " وإن قطع سارق فسرقت منه لم يكن له ولا لرب السرقة أن يقطع السارق الثاني " لأن المال غير متقوم في حق السارق حتى لا يجب عليه الضمان بالهلاك فلم تنعقد موجبة في نفسها وللأول ولاية الخصومة في الاسترداد في رواية لحاجته إذ الرد واجب عليه. " ولو سرق الثاني قبل أن يقطع الأول أو بعد ما درئ الحد بشبهة يقطع بخصومة الأول " لأن سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد فصار كالغاصب. " ومن سرق سرقة فردها على المالك قبل الارتفاع إلى الحاكم لم يقطع " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقطع اعتبارا بما إذا رده بعد المرافعة وجه الظاهر أن الخصومة شرط لظهور السرقة لأن البينة إنما جعلت حجة ضرورة قطع المنازعة وقد انقطعت الخصومة بخلاف ما عبد المرافعة لانتهاء الخصومة لحصول مقصودها فتبقى تقديرا. " وإذا قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبت له لم يقطع " معناه إذا سلمت إليه " وكذلك إذا باعها المالك إياه " وقال زفر والشافعي رحمهما الله يقطع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن السرقة قد تمت انعقادا وظهورا وبهذا العارض لم يتبين قيام الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وقت السرقة فلا شبهة ولنا أن الإمضاء من القضاء في هذا الباب لوقوع الاستغناء عنه بالاستيفاء إذ القضاء للإظهار والقطع حق الله تعالى وهو ظاهر عنده وإذا كان كذلك يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء وصار كما إذا ملكها منه قبل القضاء قال " وكذلك إذا نقصت قيمتها من النصاب " يعني قبل الإستيفاء بعد القضاء وعن محمد رحمه الله أنه يقطع وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله اعتبارا بالنقصان في العين ولنا أن كمال النصاب لما كان شرطا يشترط قيامه عند الإمضاء لما ذكرنا بخلاف النقصان في العين لأنه مضمون عليه فكمل النصاب عينا ودينا كما إذا استهلك كله أما نقصان السعر فغير مضمون فافترقا. " وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه سقط القطع عنه وإن لم يقم بينة " معناه بعد ما شهد الشاهدان بالسرقة وقال الشافعي رحمه الله لا يسقط بمجرد الدعوى لأنه لا يعجز عنه سارق فيؤدي إلى سد باب الحد ولنا أن الشبهة دارئة تتحقق بمجرد الدعوى للاحتمال ولا معتبر بما قال بدليل صحة الرجوع بعد الإقرار. " وإذا أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما هو مالي لم يقطعا " لأن الرجوع عامل في حق الراجع ومورث للشبهة في حق الآخر لأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة " فإن سرقا ثم غاب أحدهما وشهد الشاهدان على سرقتهما قطع الآخر في قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر وهو قولهما " وكان يقول أولا لا يقطع لأنه لو حضر ربما يدعي الشبهة وجه قوله الآخر أن الغيبة تمنع ثبوت السرقة على الغائب فيبقى معدوما والمعدوم لا يورث الشبهة ولا معتبر بتوهم حدوث الشبهة على ما مر. " وإذا أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها فإنه يقطع وترد السرقة إلى المسروق منه " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف رحمه الله يقطع والعشرة للمولى وقال محمد رحمه الله لا يقطع والعشرة للمولى وهو قول زفر رحمه الله ومعنى هذا إذا كذبه المولى. " ولو أقر بسرقة مال مستهلك قطعت يده ولو كان العبد مأذونا له يقطع في الوجهين " وقال زفر رحمه الله لا يقطع في الوجوه كلها لأن الأصل عنده أن إقرار العبد على نفسه بالحدود والقصاص لا يصح لأنه يرد على نفسه وطرفه وكل ذلك مال المولى والإقرار على الغير غير مقبول إلا أن المأذون له يؤاخذ بالضمان والمال لصحة إقراره به لكونه مسلطا عليه من جهته والمحجور عليه لا يصح إقراره بالمال أيضا ونحن نقول يصح إقراره من حيث إنه آدمي ثم يتعدى إلى المالية فيصح من حيث إنه مال ولأنه لا تهمة في هذا الإقرار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 لما يشتمل عليه من الإضرار ومثله مقبول على الغير لمحمد رحمه الله في المحجور عليه أن إقراره بالمال باطل ولهذا لا يصح منه الإقرار بالغصب فيبقى مال المولى ولا قطع على العبد في سرقة مال المولى يؤيده أن المال أصل فيها والقطع تابع حتى تسمع الخصومة فيه بدون القطع ويثبت المال دونه وفي عكسه لا تسمع ولا يثبت وإذا بطل فيما هو الأصل بطل في التبع بخلاف المأدون لأن إقراره بالمال الذي في يده صحيح فيصح في حق القطع تبعا ولأبي يوسف رحمه الله أنه أقر بشيئين بالقطع وهو على نفسه فيصح على ما ذكرناه وبالمال وهو على المولى فلا يصح في حقه فيه والقطع يستحق بدونه كما إذا قال الحر الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو وزيد يقول هو ثوبي يقطع يد المقر وإن كان لا يصدق في تعيين الثوب حتى لا يؤخذ من زيد ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإقرار بالقطع قد صح منه لما بينا فيصح بالمال بناء عليه لأن الإقرار يلاقي حالة البقاء والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى تسقط عصمة المال باعتباره فيستوفى القطع بعد استهلاكه بخلاف مسئلة الحر لأن القطع إنما يجب بالسرقة من المودع أما مالا يجب بسرقة العبد مال المولى فافترقا ولو صدقه المولى يقطع في الفصول كلها لزوال المانع. قال: " وإذا قطع السارق والعين قائمة في يده ردت إلى صاحبها " لبقائها على ملكه " وإن كانت مستهلكة لم يضمن " وهذا الإطلاق يشمل الهلاك والاستهلاك وهو رواية أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله وهو المشهور وروى الحسن عنه أنه يضمن بالاستهلاك وقال الشافعي رحمه الله يضمن فيهما لأنهما حقان قد اختلف سبباهما فلا يمتنعان فالقطع حق بالشرع وسببه ترك الانتهاء عما نهي عنه والضمان حق العبد وسببه أخذ المال فصار كاستهلاك صيد مملوك في الحرم أو شرب خمر مملوكة لذمي ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه " ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندا إلى وقت الأخذ فتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع للشهبة وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي ولأن المحل لا يبقى معصوما حقا للعبد إذ لو بقي لكان مباحا في نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرما حقا للشرع كالميتة ولا ضمان فيه إلا أن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك لأنه فعل آخر غير السرقة ولا ضرورة في حقه وكذا الشبهة تعتبر فيما هو السبب دون غيره ووجه المشهور أن الاستهلاك إتمام المقصود فتعتبر الشبهة فيه وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان لأنه من ضرورات سقوطها في حق الهلاك لانتفاء المماثلة. قال: " ومن سرق سرقات فقطع في إحداها فهو لجميعها ولا يضمن شيئا عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 أبي حنيفة رحمه الله وقالا يضمن كلها إلا التي قطع لها " ومعنى المسئلة إذا حضر أحدهم فإن حضروا جميعا وقطعت يده لخصومتهم لا يضمن شيئا بالاتفاق في السرقات كلها لهما أن الحاضر ليس بنائب عن الغائب ولا بد من الخصومة لتظهر السرقة فلم تظهر السرقة من الغائبين فلم يقع القطع لها فبقيت أموالهم معصومة وله أن الواجب بالكل قطع واحد حقا لله تعالى لأن مبنى الحدود على التداخل والخصومة شرط للظهور عند القاضي فإذا استوفى فالمستوفي كل الواجب ألا ترى أنه يرجع نفعه إلى الكل فيقع عن الكل وعلى هذا الخلاف إذا كانت النصب كلها لواحد فخاصم في البعض والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 باب ما يحدث للسارق في السرقة " ومن سرق ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم قطع " وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقطع لأن له فيه سبب الملك وهو الخرق الفاحش فإنه يوجب القيمة وتملك المضمون وصار كالمشتري إذا سرق مبيعا فيه خيار للبائع ولهما أن الأخذ وضع سببا للضمان لا للملك وإنما الملك يثبت ضرورة أداء الضمان كيلا يجتمع البدلان في ملك واحد ومثله لا يورث الشبهة كنفس الأخذ وكما إذا سرق البائع معيبا باعه بخلاف ما ذكر لأن البيع موضوع لإفادة الملك وهذا الخلاف فيما إذا اختار تضمين النقصان وأخذ الثوب فإن اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه لا يقطع بالاتفاق لأنه ملكه مستندا إلى وقت الأخذ فصار كما إذا ملكه بالهبة فأورث شبهة وهذا كله إذا كان النقصان فاحشا فإن كان يسيرا يقطع بالاتفاق لانعدام سبب الملك إذ ليس له اختيار تضمين كل القيمة " وإن سرق شاة فذبحها ثم أخرجها لم يقطع " لأن السرقة تمت على اللحم ولا قطع فيه " ومن سرق ذهبا أو فضة يجب فيه القطع فصنعه دراهم أو دنانير قطع وترد الدراهم والدنانير إلى المسروق منه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا سبيل للمسروق منه عليهما " وأصله في الغصب فهذه صنعة متقومة عندهما خلافا له ثم وجوب الحد لا يشكل على قوله لأنه لم يملكه وقيل على قولهما لا يجب لأنه ملكه قبل القطع وقيل يجب لأنه صار بالصنعة شيئا آخر فلم يملك عينه " فإن سرق ثوبا فصبغه أحمر قطع ولم يؤخذ منه الثوب ولم يضمن قيمة الثوب وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ". " وقال محمد رحمه الله يؤخذ منه الثوب ويعطى ما زاد الصبغ فيه " اعتبارا بالغصب والجامع بينهما كون الثوب أصلا قائما وكون الصبع تابعا ولهما أن الصبغ قائم صورة ومعنى حتى لو أراد أخذه مصبوغا يضمن ما زاد الصبغ فيه وحق المالك في الثوب قائم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 صورة لا معنى ألا ترى أنه غير مضمون على السارق بالهلاك فرجحنا جانب السارق بخلاف الغصب لأن حق كل واحد منهما قائم صورة ومعنى فاستويا من هذا الوجه فرجحنا جانب المالك بما ذكرنا " وإن صبغه أسود أخذ منه في المذهبين " يعني عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله هذا والأول سواء لأن السواد زيادة عنده كالحمرة وعند محمد رحمه الله زيادة أيضا كالحمرة ولكنه لا يقطع حق المالك وعند أبي حنيفة رحمه الله السواد نقصان فلا يوجب انقطاع حق المالك والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 باب قطع الطريق قال: " وإذا خرج جماعة ممتنعين أو واحد يقدر على الامتناع فقصدوا قطع الطريق فأخذوا قبل أن يأخذوا مالا ويقتلوا نفسا حبسهم الإمام حتى يحدثوا توبة وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم فصاعدا أو ما تبلغ قيمته ذلك قطع الإمام أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم الإمام حدا " والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} [المائدة: 33] الآية والمراد منه والله أعلم التوزيع على الأحوال وهي أربعة هذه الثلاثة المذكورة والرابعة نذكرها إن شاء الله تعالى ولأن الجنايات تتفاوت على الأحوال فاللائق تغلظ الحكم بتغلظها. أما الحبس في الأولى فلأنه المراد بالنفي المذكور لأنه نفي عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها ويغزرون أيضا لمباشرتهم منكرا لإخافة وشرط القدرة على الامتناع لأن المحاربة لا تتحقق إلا بالمنعة والحالة الثانية كما بيناها لما تلوناه وشرط أن يكون المأخوذ مال مسلم أو ذمي لتكون العصمة مؤبدة ولهذا لو قطع الطريق على المستأمن لا يجب القطع وشرط كمال النصاب في حق كل واحد كيلا يستباح طرفه إلا بتناوله ماله خطر والمراد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى كيلا يؤدي إلى تفويت جنس المنفعة والحالة الثالثة كما بيناها لما تلوناه " ويقتلون حدا حتى لو عفا الأولياء عنهم لا يلتفت إلى عفوهم " لأنه حق الشرع " و " الرابعة " إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وإن شاء قتلهم وإن شاء صلبهم وقال محمد رحمه الله يقتل أو يصلب ولا يقطع " لأنه جناية واحدة فلا توجب حدين ولأن ما دون النفس يدخل في النفس في باب الحد كحد السرقة والرجم ولهما أن هذه عقوبة واحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 تغلظت لغلظ سببها وهو تفويت الأمن على التناهي بالقتل وأخذ المال ولهذا كان قطع اليد والرجل معا في الكبرى حدا واحدا وإن كانا في الصغرى حدين والتداخل في الحدود لا في حد واحد ثم ذكر في الكتاب التخيير بين الصلب وتركه وهو ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتركه لأنه منصوص عليه والمقصود التشهير ليعتبر به غيره ونحن نقول أصل التشهير بالقتل والمبالغة بالصلب فيخير فيه. ثم قال: " ويصلب حيا ويبعج بطنه برمح إلى أن يموت " ومثله عن الكرخي رحمه الله وعن الطحاوي رحمه الله أنه يقتل ثم يصلب توقيا عن المثلة وجه الأول وهو الأصح أن الصلب على هذا الوجه أبلغ في الردع وهو المقصود به. قال: " ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام " لأنه يتغير بعدها فيتأذى الناس به وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يترك على خشبة حتى يتقطع ويسقط ليعتبر به غيره قلنا حصل الاعتبار بما ذكرناه والنهاية غير مطلوبة. قال: " وإذا قتل القاطع فلا ضمان عليه في مال أخذه " اعتبارا بالسرقة الصغرى وقد بيناه "ف إن باشر القتل أحدهم أجرى الحد عليهم بأجمعهم " لأنه جزاء المحاربة وهي تتحقق بأن يكون البعض ردءا للبعض حتى إذا زلت أقدامهم انحازوا إليهم وإنما الشرط القتل من واحد منهم وقد تحقق. قال: " والقتل وإن كان بعصا أو بحجر أو بسيف فهو سواء " لأنه يقع قطعا للطريق بقطع المارة " وإن لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا وقد جرح اقتص منه فيما فيه القصاص وأخذ الأرش منه فيما فيه الأرش وذلك إلى الأولياء " لأنه لا حد في هذه الجناية فظهر حق العبد وهو ما ذكرناه فيستوفيه الولي " وإن أخذ مالا ثم جرح قطعت يده ورجله وبطلت الجراحات " لأنه لما وجب الحد حقا لله سقطت عصمة النفس حقا للعبد كما تسقط عصمة المال " وإن أخذ بعد ما تاب وقد قتل عمدا فإن شاء الأولياء قتلوه وإن شاءوا عفوا عنه " لأن الحد في هذه الجناية لا يقام بعد التوبة للاستثناء المذكور في النص ولأن التوبة تتوقف على رد المال ولا قطع في مثله فظهر حق العبد في النفس والمال حتى يستوفي الولي القصاص أو يعفو ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلكه " وإن كان من القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين " فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لو باشر العقلاء يحد الباقون وعلى هذا السرقة الصغرى له أن المباشر أصل والردء تابع ولا خلل في مباشرة العاقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 ولا اعتبار بالخلل في التبع وفي عكسه ينعكس المعنى والحكم ولهما أنه جناية واحدة قامت بالكل فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبا كان فعل الباقين بعض العلة وبه لا يثبت الحكم فصار كالخاطئ مع العامد. وأما ذو الرحم المحرم فقد قيل تأويله إذا كان المال مشتركا بين المقطوع عليهم والأصح أنه مطلق لأن الجناية واحدة على ما ذكرناه فالامتناع في حق البعض يوجب الامتناع في حق الباقين بخلاف ما إذا كان فيهم مستأمن لأن الامتناع في حقه لخلل في العصمة وهو يخصه أما هنا الامتناع لخلل في الحرز والقافلة حرز واحد " وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء " لظهور حق العبد على ما ذكرناه " فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وإذا قطع بعض القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد " لأن الحرز واحد فصارت القافلة كدار واحدة " ومن قطع الطريق ليلا أو نهارا في المصر أو بين الكوفة والحيرة فليس بقاطع الطريق " استحسانا وفي القياس يكون قاطع الطريق وهو قول الشافعي رحمه الله لوجوده حقيقة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجب الحد إذا كان خارج المصر وإن كان بقربه لأنه لا يلحقه الغوث وعنه إن قاتلوا نهارا بالسلاح أو ليلا به أو بالخشب فهم قطاع الطريق لأن السلاح لا يلبث والغوث يبطئ بالليالي ونحن نقول إن قطع الطريق يقطع المارة ولا يتحقق ذلك في المصر ويقرب منه لأن الظاهر لحوق الغوث لأنهم يؤخذون برد المال إيصالا للحق إلى المستحق ويؤدبون ويحبسون لارتكابهم الجناية ولو قتلوا فالأمر فيه إلى الأولياء لما بينا " ومن خنق رجلا حتى قتله فالدية على عاقلته عند أبي حنيفة رحمه الله " وهي مسئلة القتل بالمثقل وسنبين في باب الديات إن شاء الله تعالى " وإن خنق في المصر غير مرة قتل به " لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد فيدفع شره بالقتل. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 كتاب السير الجهاد ... كتاب السير السير جمع سيرة وهي الطريقة في الأمور وفي الشرع تختص بسير النبي عليه الصلاة والسلام في مغازيه. قال: " الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين " أما الفرضية فلقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] ولقوله عليه الصلاة والسلام " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " وأراد به فرضا باقيا وهو فرض على الكفاية لأنه ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام " فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه " لأن الوجوب على الكل ولأن في اشتغال الكل به قطع مادة الجهاد من الكراع والسلاح فيجب على الكفاية " إلا أن يكون النفير عاما " فحينئذ يصير من فروض الأعيان لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: من الآية41] الآية وقال في الجامع الصغير الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم فأول هذا الكلام إشارة إلى الوجوب على الكفاية وآخره إلى النفير العام وهذا لأن المقصود عند ذلك لا يتحصل إلا بإقامة الكل فيفترض على الكل " وقتال الكفار واجب " وإن لم يبدءوا للعمومات " ولا يجب الجهاد على صبي " لأن الصبا مظنة المرحمة " ولا عبد ولا امرأة " لتقدم حق المولى والزوج " ولا أعمى ولا مقعد ولا أقطع لعجزهم فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن المولى " لأنه صار فرض عين وملك اليمين ورق النكاح لا يظهر في حق فروض الأعيان كما في الصلاة والصوم بخلاف ما قبل النفير لأن بغيرهما مقنعا فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج. " ويكره الجعل ما دام للمسلمين فيء" لأنه لا يشبه الأجر ولا ضرورة إليه لأن مال بيت المال معد لنوائب المسلمين. قال: " فإذا لم يكن فلا بأس بأن يقوي بعضهم بعضا" لأن فيه دفع الضرر الأعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 بإلحاق الأدنى يؤيده أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ دروعا من صفوان وعمر رضي الله عنه كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 باب كيفية القتال " وإذا دخل المسملون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصنا دعوهم إلى الإسلام " لما روى ابن عباس رضي الله عنما أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام قال " فإن أجابوا كفوا عن قتالهم " لحصول المقصود وقد قال صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " الحديث " وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية " به أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أمراء الجيوش ولأنه أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص وهذا في حق من تقبل منه الجزية ومن لا تقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام قال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] " فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " لقول علي رضي الله عنه إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا والمراد بالبذل القبول وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه في القرآن والله أعلم. " ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام إلا أن يدعوه " لقوله عليه الصلاة والسلام في وصية أمراء الأجناد " فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله " ولأنهم بالدعوة يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار فصار كقتل النسوان والصبيان. " ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة " مبالغة في الإندار ولا يجب ذلك لأنه صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أغار على بني المصطلق وهم غارون وعهد إلى أسامة رضي الله عنه أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق والغارة لا تكون بدعوة قال " فإن أبوا ذلك استعانوا بالله عليهم وحاربوهم " لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سليمان بن بريدة " فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية إلى أن قال فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم " ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه فيستعان به في كل الأمور قال " ونصبوا عليهم المجانيق " كما نصب رسول الله عليه الصلاة ولاسلام على الطائف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 " وحرقوهم " لأنه عليه الصلاة والسلام أحرق اليوبرة قال " وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم " لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت والغيظ بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعا. " ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر " لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ولأنه قلما يخلو حصن من مسلم فلو امتنع باعتباره لانسد بابه " وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم " لما بينا " ويقصدون بالرمي الكفار " لأنه إن تعذر التمييز فعلا فلقد أمكن قصدا والطاعة بحسب الطاقة وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة لأن الجهاد فرض والغرامات لا تقرن بالفروض بخلاف حالة المخمصة لأنه لا يمتنع مخافة الضمان لما فيه من إحياء نفسه أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس فيمتنع حذار الضمان. قال: " ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كانوا عسكرا عظيما يؤمن عليه " لأن الغالب هو السلامة والغالب كالمتحقق " ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها " لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة وتعريض المصاحف على الاستخفاف فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين وهو التأويل الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو " ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد لأن الظاهر عدم التعرض والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن كالطبخ والسقي والمداواة فأما الشواب فقرارهن في البيوت أدفع للفتنة ولا يباشرن القتال لأنه يستدل به على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة ولا يستحب إخراجهن للمباضعة والخدمة فإن كانوا لا بد مخرجبن فبالإماء دون الحرائر. " ولا تقاتل المرأة إذ بإذن زوجها ولا العبد إلا بإذن سيده " لما بينا "إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة " وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا " والغلول السرقة من المغنم والغدر الخيانة ونقض العهد والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول " ولا يقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا مقعدا ولا أعمى " لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب ولا يتحقق منهم ولهذا لا يقتل يابس الشق والمقطوع اليمنى والمقطوع يده ورجله من خلاف والشافعي رحمه الله تعالى يخالفنا في الشيخ الفاني والمقعد والأعمى لأن المبيح عنده الكفر والحجة عليه ما بينا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 الصبيان والذراري وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال " هذه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت " قال " إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب أو تكون المرأة ملكة " لتعدي ضررها إلى العباد وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء دفعا لشره ولأن القتال مبيح حقيقة " ولا يقتلوا مجنونا " لأنه غير مخاطب إلا أن يقاتل فيقتل دفعا لشره غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر لأنه من أهل العقوبة لتوجه الخطاب نحوه وإن كان يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح. " ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله " لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] ولأنه يجب عليه إحياؤه بالإتفاق فيناقضه الإطلاق في إفنائه " فإن أدركه امتنع عليه حتى يقتله غيره " لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحامه المأثم وإن قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله لا بأس به لأن مقصوده الدفع ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه إلا بقتله يقتله لما بينا فهذا أولى والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 باب الموادعة ومن يجوز أمانه مدخل ... باب الموادعة ومن يجوز أمانه " وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به " لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [لأنفال: 61] ووادع رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به ولا يقتصر الحكم على المدة المروية لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها بخلاف ما إذا لم يكن خيرا لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى. " وإن صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم " لأنه عليه الصلاة والسلام نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهادا وإيفاء العهد ترك الجهاد صورة ومعنى فلا بد من النبذ تحرزا عن الغدر وقد قال عليه الصلاة والسلام " في العهود وفاء لا غدر " ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جميعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته لأن بذلك ينتفي الغدر. قال: " وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم " لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 ولا منعة لهم حيث لا يكون هذا نقضا للعهد ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم لأنه بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد لأنه باتفاقهم معنى. " وإذا رأى الإمام موادعة أهل الحرب وأن يأخذ على ذلك مالا فلا بأس به " لأنه لما جازت الموادعة بغير المال فكذا بالمال لكن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة أما إذا لم تكن لا يجوز لما بينا من قبل والمأخوذ من المال يصرف مصارف الجزية هذا إذا لم ينزلوا بساحتهم بل أرسلوا رسولا لأنه في معنى الجزية أما إذا أحاط الجيش بهم ثم أخذوا المال فهو غنيمة بخمسها ويقسم الباقي بينهم لأنه مأخوذ بالقهر معنى " وأما المرتدون فيوادعهم الإمام حتى ينظر في أمرهم " لأن الإسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعا في إسلامهم. " ولا يأخذ عليه مالا " لأنه لا يجوز أخذ الجزية منهم لما تبين " ولو أخذه لم يرده " لأنه مال غير معصوم ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون إليهم لا يفعله الإمام لما فيه من إعطاء الدنية وإلحاق المذلة بأهل الإسلام إلا إذا خاف الهلاك لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن. ولا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب ولا يجهز إليهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم ولأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك وكذا الكراع لما بينا وكذا الحديد لأنه أصل السلاح وكذا بعد الموادعة لأنها على شرف النقض أو الانقض فكانا حربا علينا وهذا هو القياس في الطعام والثوب إلا أنا عرفناه بالنص فإنه عليه الصلاة والسلام أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 فصل في الأمان ... فصل " إذا أمن رجل حرا وامرأة حرا كافرا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم ولم يكن لأحد من المسلمين قتالهم " والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بدمتهم أدناهم " أي أقلهم وهو الواحد ولأنه من أهل القتال فيخافونه إذ هو من أهل المنعة فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله ثم يتعدى إلى غيره ولأن سببه لا يتجزأ وهو الإيمان وكذا الأمان لا يتجزأ فيتكامل كولاية الإنكاح. قال: " إلا أن يكون في ذلك مفسدة فينبذ إليهم " كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 المصلحة في النبذ وقد بيناه ولو حاصر الإمام حصنا وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة ينبذ الإمام الأمان لما بينا ويؤدبه الإمام لا فتيانه على رأيه بخلاف ما إذا كان فيه نظر لأنه ربما تفوت المصلحة بالتأخير فكان معذورا. " ولا يجوز أمان ذمي " لأنه متهم بهم وكذا لا ولاية له على المسلمين قال " ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم " لأنهما مقهوران تحت أيديهم فلا يخافونهما والأمان يختص بمحل الخوف ولأنهما يجبران عليه فيعرى الأمان عن المصلحة ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح لنا باب الفتح ومن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يصح أمانه لما بينا. " ولا يجوز أمان العبد المحجور عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يأذن له مولاه في القتال وقال محمد رحمه الله يصح " وهو قول الشافعي رحمه الله وأبو يوسف رحمه الله معه في رواية ومع أبي حنيفة رحمه الله في رواية لمحمد رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام " أمان العبد أمان " رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ولأنه مؤمن ممتنع فيصح أمانه اعتبارا بالمأذون له في القتال وبالمؤبد من الأمان فالإيمان لكونه شرطا للعبادة والجهاد عبادة والامتناع لتحقق إزالة الخوف به والتأثير إعزاز الدين وإقامة المصلحة في حق جماعة المسلمين إذ الكلام في مثل هذه الحالة وإنما لا يملك المسايفة لما فيه من تعطيل منافع المولى ولا تعطيل في مجرد القول ولأبي حنيفة رحمه الله أنه محجور عن القتال فلا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه فلم يلاق الأمان محله بخلاف المأذون له في القتال لأن الخوف منه متحقق ولأنه إنما لا يملك المسايفة لما أنه تصرف في حق المولى على وجه لا يعرى عن احتمال الضرر في حقه. والأمان نوع قتال وفيه ما ذكرناه لأنه قد يخطئ بل هو الظاهر وفيه سد باب الاستغنام بخلاف المأذون لأنه رضي به والخطأ نادر لمباشرته القتال وبخلاف المؤبد لأنه خلف عن الإسلام فهو بمنزلة الدعوة إليه ولأنه مقابل بالجزية ولأنه مفروض عند مسألتهم ذلك وإسقاط الفرض نفع فافترقا. ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح كالمجنون وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال فعلى الخلاف وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 باب الغنائم وقسمتها مدخل ... باب الغنائم وقسمتها " وإذا فتح الإمام بلدة عنوة " أي قهرا " فهو بالخيار إن شاء قسمه بين المسلمين " كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام بخيبر " وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج " كذلك فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصحابة رضي الله عنهم ولم يحمد من خالفه وفي كل من ذلك قدوة فيتخير وقيل الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين والثاني عند عدم الحاجة ليكون عدة في الزمان الثاني وهذا في العقار. أما في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم لأنه لم يرد به الشرع فيه وفي العقار خلاف الشافعي رحمه الله لأن في المن إبطال حق الغانمين أو ملكهم فلا يجوز من غير بدل يعادله والخراج غير معادل لقلته بخلاف الرقاب لأن للإمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل والحجة عليه ما رويناه ولأن فيه نظرا لأنهم كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة والمؤن مرتفعة مع ما أنه يحظى به الذين يأتون من بعد والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا لدوامه وإن من عليهم بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات بقدر ما يتهيأ لهم العمل ليخرج عن حد الكراهة. قال: " وهو في الأسارى بالخيار إن شاء قتلهم " لأنه عليه الصلاة والسلام قد قتل ولأن فيه حسم مادة الفساد " وإن شاء استرقهم " لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة لأهل الإسلام " وإن شاء تركهم أحرارا ذمة للمسلمين " لما بيناه " إلا مشركي العرب والمرتدين " على ما نبين إن شاء الله تعالى. " ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب " لأن فيه تفويتهم على المسلمين فإن أسلموا لا يقتلهم لاندفاع الشر بدونه " وله أن يسترقهم " توفيرا للمنفعة بعد انعقاد سبب الملك بخلاف إسلامهم قبل الأخذ لأنه لم ينعقد السبب بعد. " ولا يفادى بالأسارى عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يفادى بهم أسارى المسلمين " وهو قول الشافعي رحمه الله لأن فيه تخليص المسلم وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به، وله أن فيه معونة للكفرة لأنه يعود حربا عليا ودفع شر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه غير مضاف إلينا والإعانة بدفع أسيرهم إليهم مضاف إلينا أما المفاداة بمال يأخذه منهم لا يجوز في المشهور من المذاهب لما بينا وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة استدلالا بأسارى بدر ولو كان أسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 الأسير في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامهم. قال: " ولا يجوز المن عليهم " أي على الأسارى خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول من رسول الله عليه الصلاة والسلام على بعض الأسارى يوم بدر ولنا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولأنه بالأسر والقسر ثبت حق الاسترقاق فيه فلا يجوز إسقاطه بغير منفعة وعوض وما رواه منسوخ بما تلونا. " وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها وحرقها ولا يعقرها ولا يتركها " وقال الشافعي رحمه الله يتركها لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكلة ولنا أن ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء ثم يحرق بالنار لينقطع منفعته عن الكفار وصار كتخريب البنيان بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه وبخلاف العقر لأنه مثلة وتحرق الأسلحة أيضا ومالا يحترق منها يدفن في موضع لا يطلع عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم. " ولا يقسم غنيمة في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام " وقال الشافعي رحمه الله لا بأس بذلك وأصله أن الملك للغانمين لا يثبت قبل للإحراز بدار الإسلام عندنا وعنده يثبت ويبتنى على هذا الأصل عدة من المسائل ذكرناها في كفاية المنتهى له أن سبب الملك الاستيلاء إذا ورد على مال مباح كما في الصيود ولا معنى للاستيلاء سوى إثبات اليد وقد تحقق ولنا أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب والخلاف ثابت فيه والقسمة بيع معني فتدخل تحته ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة والثاني منعدم لقدرتهم على الاستنقاذ ووجوده ظاهرا ثم قيل موضع الخلاف ترتب الأحكام على القسمة إذا قسم الإمام لا عن اجتهاد لأن حكم الملك لا يثبت بدونه وقيل الكراهة وهي كراهة تنزيه عند محمد رحمه الله فإنه قال على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تجوز القسمة في دار الحرب وعند محمد رحمه الله الأفضل أن يقسم في دار الإسلام ووجه الكراهة أن دليل البطلان راجح إلا أنه تقاعد عن سلب الجواز فلا يتعاقد عن إيراث الكراهة. قال: " والردء والمقاتل في العسكر سواء " لاستوائهم في السبب وهو المجاوزة أو شهود الوقعة على ما عرف وكذلك إذا لم يقاتل لمرض أو غيره لما ذكرنا " وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها " خلافا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 للشافعي رحمه الله بعد انقضاء القتال وهو بناء على ما مهدناه من الأصل وإنما ينقطع حق المشاركة عندنا بالإحراز أو بقسمة الإمام في دار الحرب أو ببيعه المغانم فيها لأن بكل واحد منها يتم الملك فينقطع حق شركة المدد. قال: " ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة إلا أن يقاتلوا " وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يسهم له لقوله عليه الصلاة والسلام " الغنيمة لمن شهد الوقعة " ولأنه وجد الجهاد معنى بتكثير السواد ولنا أنه لم توجد المجاوزة على قصد القتال فانعدم السبب الظاهر فيعتبر السبب الحقيقي وهو القتال فيفيد الاستحقاق على حسب حاله فارسا أو راجلا عند القتال وما رواه موقوف على عمر رضي الله عنه أو تأويله أن يشهدها على قصد القتال " وإن لم تكن للإمام حمولة تحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداع ليحملوها إلى دار الإسلام ثم يرتجعها منهم فيقسمها " قال العبد الضعيف هكذا ذكر في المختصر ولم يشترط رضاهم وهو رواية السير الكبير والجملة في هذا أن الإمام إذا وجد في المغنم حمولة يحمل الغنائم عليها لأن الحمولة والمحمول ما لهم وكذا إذا كان في بيت المال فضل حمولة لأنه مال المسلمين ولو كان للغانمين أو لبعضهم لا يجبهرم في رواية السير الصغير لأنه ابتداء إجارة وصار كما إذا نفقت دابته في مفازة ومع رفيقه فضل حمولة ويجبرهم في رواية السير الكبير لأنه دفع الضرر العام بتحميل ضرر خاص " ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب " لأنه لا ملك قبلها وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وقد بينا الأصل. " ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار الإسلام فنصيبه لورثته " لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبل الإحراز وإنما الملك بعده وقال الشافعي رحمه الله من مات منهم بعد استقرار الهزيمة يورث نصيبه لقيام الملك فيه عنده وقد بيناه. قال: " ولا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا مما وجدوه من الطعام " قال العبد الضعيف أرسل ولم يقيده بالحاجة وقد شرطها في رواية ولم يشترطها في أخرى وجه الأولى أنه مشترك بين الغانمين فلا يباح الانتفاع به إلا للحاجة كما في الثياب والدواب وجه الأخرى قوله عليه الصلاة والسلام في طعام خيبر " كلوها واعلفوها ولا تحملوها " ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة وهو كونه في دار الحرب لأن الغازي لا يستصحب قوت نفسه وعلف ظهره مدة مقامه فيها والميرة منقطعة فبقي على أصل الإباحة للحاجة بخلاف السلاح لأنه يستصحبه فانعدم دليل الحاجة وقد تمس إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الحاجة فتعتبر حقيقتها فيستعمله ثم يرده في المغنم إذا استغنى عنه والدابة مثل السلاح والطعام كالخبز واللحم وما يستعمل فيه كالسمن والزيت. قال: " ويستعملوا الحطب " وفي بعض النسخ الطيب " ويدهنوا بالدهن ويوقحوا به الدابة " لمساس الحاجة إلى جميع ذلك " ويقاتلوا بما يجدونه من السلاح كل ذلك بلا قسمة " وتأويله إذا احتاج إليه بأن لم يكن له سلاح وقد بيناه. " ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئا ولا يتمولونه " لأن البيع يترتب على الملك ولا ملك على ما قدمناه وإنما هو إباحة وصار كالمباح له الطعام وقوله ولا يتمولونه إشارة إلى أنهم لا يبيعونه بالذهب والفضة والعروض لأنه لا ضرورة إلى ذلك فإن باعه أحدهم رد الثمن إلى الغنيمة لأنه بدل عين كانت للجماعة وأما الثياب والمتاع فيكره الانتفاع بها قبل القسمة من غير حاجة للاشتراك إلا أنه يقسم الإمام بينهم في دار الحرب إذا احتاجوا إلى الثياب والدواب والمتاع لأن المحرم يستباح للضرورة فالمكروه أولى وهذا لأن حق المدد محتمل وحاجة هؤلاء متيقن بها فكان أولى بالرعاية ولم يذكر القسمة في السلاح ولا فرق في الحقيقة فإنه إذا احتاج واحاد يباح له الانتفاع في الفصلين وإن احتاج الكل يقسم في الفصلين بخلاف ما إذا احتاجوا إلى السبي حيث لا يقسم لأن الحاجة إليه من فضول الحوائج. قال: " ومن أسلم منهم " معناه في دار الحرب " أحرز بإسلامه نفسه " لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق " وأولاده الصغار " لأنهم مسلمون بإسلامه تبعا " وكل مال هو في يده " لقوله عليه الصلاة والسلام " من أسلم على مال فهو له " ولأنه سبقت يده الحقيقية إليه يد الظاهرين عليه " أو وديعة في يد مسلم أو ذمي " لأنه في يد صحيحة محترمة ويده كيده " فإن ظهرنا على دار الحرب فعقاره فيء " وقال الشافعي رحمه الله هو له لأنه في يده فصار كالمنقول ولنا أن العقار في يد أهل الدار وسلطانها إذ هو من جملة دار الحرب فلم يكن في يده حقيقة وقيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر وفي قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول رحمهم الله هو كغيره من الأموال بناء على أن اليد حقيقة لا تثبت على العقار عندهما وعند محمد تثبت. " وزوجته فيء " لأنها كافرة حربية لا تتبعه في الإسلام " وكذا حملها فيء " خلافا للشافعي رحمه الله هو يقول إنه مسلم تبعا كالمنفصل ولنا أنه جزؤها فيرق برقها والمسلم محل للتملك تبعا لغيره بخلاف المنفصل لأنه حر لانعدام الجزئية عند ذلك " وأولاده الكبار فيء " لأنهم كفار حربيون ولا تبعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 " ومن قاتل من عبيده فيء " لأنه لما تمرد على مولاه خرج من يده فصار تبعا لأهل دارهم " وما كان من ماله في يد حربي فهو فيء " غصبا كان أو وديعة لأن يده ليست بمحترمة " وما كان غصبا في يد مسلم أو ذمي فهو فيء عند أبي حنيفة وقال محمد رحمه الله لا يكون فيئا " قال العبد الضعيف رحمه الله كذا ذكر الاختلاف في السير الكبير وذكروا في شروح الجامع الصغير قول أبي يوسف مع قول محمد رحمهما الله لهما أن المال تابع للنفس وقد صارت معصومة بإسلامه فيتبعها ماله فيها وله أنه مال مباح فيملك بالاستيلاء والنفس لم تصر معصومة بالإسلام ألا ترى أنها ليست بمتقومة إلا أنه محرم التعرض في الأصل لكونه مكلفا وإباحة التعرض بعارض شره وقد اندفع بالإسلام بخلاف المال لأنه خلق عرضة للامتهان فكان محلا للتملك وليست في يده حكما فلم تثبت العصمة. " وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا منها " لأن الضرورة قد ارتفعت والإباحة باعتبارها ولأن الحق قد تأكد حتى يورث نصيبه ولا كذلك قبل الإخراج إلى دار الإسلام. " ومن فضل معه علف أو طعام رده إلى الغنيمة " معناه إذا لم تقسم وعن الشافعي رحمه الله مثل قولنا وعنه أنه لا يرد اعتبارا بالمتلصص ولنا أن الاختصاص ضرورة الحاجة وقد زالت بخلاف المتلصص لأنه كان أحق به قبل الإحراز فكذا بعده وبعد القسمة تصدقوا به إن كانوا إغنياء وانتفعوا به إن كانوا محاويج لأنه صار في حكم اللقطة لتعذر الرد على الغانمين وإن كانوا انتفعوا به بعد الإحراز ترد قيمته إلى المغنم إن كان لم يقسم وإن قسمت الغنيمة بالغني يتصدق بقيمته والفقير لا شيء عليه لقيام القيمة مقام الأصل فأخذ حكمه والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 فصل في كيفية القسمة قال: " ويقسم الإمام الغنيمة فيخرج خمسها " لقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [لأنفال: من الآية41] استثنى الخمس " ويقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين " لأنه عليه الصلاة والسلام قسمها بين الغانمين " ثم للفارس سهمان وللراجل سهم " عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال للفارس ثلاثة أسهم " وهو قول الشافعي رحمه الله لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما ولأن الاستحقاق بالغناء وغناؤه على ثلاثة أمثال الراجل لأنه للكر والفر والثبات والراجل للثبات لا غير ولأبي حنيفة رحمه الله ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 الصلاة والسلام أعطى الفارس سهمين والراجل سهما فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله وقد قال عليه الصلاة والسلام للفارس سهمان وللراجل سهم كيف وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم للفارس سهمين وللراجل سهما وإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره لأن الكر والفر من جنس واحد فيكون غناؤه مثلي غناء الراجل فيفضل عليه بسهم ولأنه تعذر اعتبار مقدار الزيادة لتعذر معرفته فيدار الحكم على سبب ظاهر وللفارس سببان النفس والفرس وللراجل سبب واحد فكان استحقاقه على ضعفه. " ولا يسهم إلا لفرس واحد " وقال أبو يوسف رحمه الله يسهم لفرسين لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين ولأن الواحد قد يعيا فيحتاج إلى الآخر ولهما أن البراء بن أوس قاد فرسين فلم يسهم رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا لفرس واحد ولأن القتال لا يتحقق بفرسين دفعة واحدة فلا يكون السبب الظاهر مفضيا إلى القتال عليهما فيسهم لواحد ولهذا لا يسهم لثلاثة أفراس وما رواه محمول على التنفيل كما أعطى سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل " والبراذين والعتاق سواء " لأن الإرهاب مضاف إلى جنس الخيل في الكتاب قال الله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [لأنفال: 60] واسم الخيل ينطلق على البراذين والعراب والهجين والمقرف إطلاقا واحدا ولأن العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفا ففي كل واحد منهما منفعة معتبرة فاستويا. " ومن دخل دار الحرب فارسا فنفق فرسه استحق سهم الفرسان ومن دخل راجلا فاشترى فرسا استحق سهم راجل " وجواب الشافعي رحمه الله على عكسه في الفصلين وهكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله في الفصل الثاني أنه يستحق سهم الفرسان. والحاصل أن المعتبر عندنا حالة المجاوزة وعنده حالة انقضاء الحرب له أن السبب هو القهر والقتال فيعتبر حال الشخص عنده والمجاوزة وسيلة إلى السبب كالخروج من البيت وتعليق الأحكام بالقتال يدل على إمكان الوقوف عليه ولو تعذر أو تعسر تعلق بشهود الوقعة لأنه أقرب إلى القتال ولنا أن المجاوزة نفسها قتال لأنه يلحقهم الخوف بها والحال بعدها حالة الدوام ولا معتبر بها ولأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر وكذا على شهود الوقعة لأنه حال التقاء الصفين فتقام المجاوزة مقامه إذ هو السبب المفضي إليه ظاهرا إذا كان على قصد القتال فيعتبر حال الشخص بحالة المجاوزة فارسا كان أو راجلا ولو دخل فارسا وقاتل راجلا لضيق المكان يستحق سهم الفرسان بالاتفاق ولو دخل فارسا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 ثم باع فرسه أو وهب أو آجر أو رهن ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله يستحق سهم الفرسان اعتبارا للمجاوزة وفي ظاهر الرواية يستحق سهم الرجالة لأن الإقدام على هذه التصرفات يدل على أنه لم يكن من قصده بالمجاوزة القتال فارسا ولو باعه بعد الفراغ لم يسقط سهم الفرسان وكذا إذا باع في حالة القتال عند البعض والأصح أنه يسقط لأن البيع يدل على أن غرضه التجارة فيه إلا أنه ينتظر عزته. " ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم على حسب ما يرى الإمام " لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد وكان يرضخ لهم ولما استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود لم يعطهم شيئا من الغنيمة يعني أنه لم يسهم لهم ولأن الجهاد عبادة والذمي ليس من أهل العبادة والصبي والمرأة عاجزان عنه ولهذا لم يلحقهما فرضه والعبد لا يمكنه المولى وله منعه إلا أنه يرضخ لهم تحريضا على القتال مع إظهار انحطاط رتبتهم والمكاتب بمنزلة العبد لقيام الرق وتوهم عجزه فيمنعه المولى عن الخروج إلى القتال ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل لأنه دخل لخدمة المولى فصار كالتاجر والمرأة يرضخ لها إذا كانت تداوي الجرحى وتقوم على المرضى لأنها عاجزة عن حقيقة القتال فيقام هذا النوع من الإعانة مقام القتال بخلاف العبد لأنه قادر على حقيقة القتال والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق ولم يقاتل لأن فيه منفعة للمسلمين إلا أنه يزاد على السهم في الدلالة إذا كانت فيه منفعة عظيمة ولا يبلغ به السهم إذا قاتل لأنه جهاد والأول ليس من عمله ولا يسوى بينه وبين المسلم في حكم الجهاد. " وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل يدخل فقراء ذوي القربى فيهم ويقدمون ولا يدفع إلى أغنيائهم " وقال الشافعي رحمه الله لهم خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم لقوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [لأنفال: 41] من غير فصل بين الغني والفقير ولنا أن الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلناه وكفى بهم قدوة وقال عليه الصلاة والسلام " يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس " والعوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض وهم الفقراء والنبي عليه الصلاة والسلام أعطاهم للنصرة ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام علل فقال " إنهم لن يزالوا معي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 هكذا في الجاهلية والإسلام وشبك بين أصابعه" دل على أن المراد من النص قرب النصرة لا قرب القرابة. قال: " فأما ذكر الله تعالى في الخمس فإنه لافتتاح الكلام تبركا باسمه وسهم النبي عليه الصلاة والسلام سقط بموته كا سقط الصفي " لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده والصفي شيء كان عليه الصلاة والسلام يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع أو سيف أو جارية وقال الشافعي رحمه الله يصرف سهم الرسول إلى الخليفة والحجة عليه ما قدمناه. " وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي عليه الصلاة والسلام بالنصرة " لما روينا قال " وبعده بالفقر ". قال العبد الضعيف عصمه الله هذا الذي ذكره قول الكرخي وقال الطحاوي رحمه الله سهم الفقير منهم ساقط أيضا لما روينا من الإجماع ولأن فيه معنى الصدقة نظرا إلى المصرف فيحرمه كما يحرم العمالة وجه الأول وقيل هو الأصح ما روي أن عمر رضي الله عنه أعطى الفقراء منهم والإجماع انعقد على سقوط حق الأغنياء أما فقراؤهم فيدخلون في الأصناف الثلاثة. " وإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس " لأن الغنيمة هو المأخوذ قهرا وغلبة لا اختلاسا وسرقة والخمس وظيفتها ولو دخل الواحد أو الاثنان بإذن الإمام ففيه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم الإمام فقد التزم نصرتهم بالإمداد فصار كالمنعة " فإن دخلت جماعة لها منعة فأخذوا شيئا خمس وإن لم يأذن لهم الإمام " لأنه مأخوذ قهرا وغلبة فكان غنيمة ولأنه يجب على الإمام أن ينصرهم إذ لو خذلهم كان فيه وهن المسلمين بخلاف الواحد والاثنين لأنه لا يجب عليه نصرتهم والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 فصل في التنفيل قال: " ولا بأس بأن ينفل الإمام في حالة القتال ويحرض به على القتال فيقول من قتل قتيلا فله سلبه ويقول للسرية قد حعلت لكم الربع بعد الخمس " معناه بعد ما رفع الخمس لأن التحريض مندوب إليه قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [لأنفال: 65] وهذا نوع تحريض ثم قد يكون التنفيل بما ذكر وقد يكون بغيره إلا أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 لا ينبغي للإمام أن ينفل بكل المأخوذ لأن فيه إبطال حق الكل فإن فعله مع السرية جاز لأن التصرف إليه وقد تكون المصلحة فيه. " ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام " لأن حق الغير قد تأكد فيه بالإحراز قال " إلا من الخمس " لأنه لا حق للغانمين في الخمس. " وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة والقاتل وغيره ذلك سواء " وقال الشافعي رحمه الله السلب للقاتل إذا كان من أهل أن يسهم له وقد قتله مقبلا لقوله عليه الصلاة والسلام " من قتل قتيلا فله سلبه " والظاهر أنه نصب شرع لأنه بعث له ولأن القاتل مقبلا أكثر غناء فيختص بسلبه إظهارا للتفاوت بينه وبين غيره ولنا أنه مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمة الغنائم كما نطق به النص وقال عليه الصلاة والسلام لحبيب بن أبي سلمة " ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك " وما رواه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فنحمله على الثاني لما رويناه وزيادة الغناء لا تعتبر في جنس واحد كما ذكرناه. " والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه وكذا ما كان على مركبه من السرج والآلة وكذا ما معه على الدابة من ماله في حقيبته أو على وسطه وما عدا ذلك فليس بسلب " وما كان مع غلامه على دابة أخرى فليس بسلبه ثم حكم التنفيل قطع حق الباقين فأما الملك فإنما يثبت بعد الإحراز بدار الإسلام لم مر من قبل حتى لو قال الإمام من أصاب جارية فهي له فأصابها مسلم واستبرأها لم يحل له وطؤها وكذا لا يبيعها وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله له أن يطأها ويبيعها لأن التنفيل يثبت به الملك عنده كما يثبت بالقسمة في دار الحرب وبالشراء من الحربي ووجوب الضمان بالإتلاف قد قيل على هذا الاختلاف والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 باب استيلاء الكفار " وإذا غلب الترك على الروم فسبوهم وأخذوا أموالهم ملكوها " لأن الاستيلاء قد تحقق في مال مباح وهو السبب على ما نبينه إن شاء الله تعالى " فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من ذلك " اعتبارا بسائر أملاكهم. " وإذا غلبوا على أموالنا والعياذ بالله وأحرزوها بدارهم ملكوها " وقال الشافعي رحمه الله لا يملكونها لأن الاستيلاء محظور ابتداء وانتهاء والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدة الخصم ولنا أن الاستيلاء ورد على مال مباح فينعقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 سببا للملك دفعا لحاجة المكلف كاستيلائنا على أموالهم وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع فإذا زالت المكنة عاد مباحا كما كان غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالإحراز بالدار لأنه عبارة عن الاقتدار على المحل حالا ومآلا والمحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب الآجل فما ظنك بالملك العاجل " فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا " لقوله عليه الصلاة والسلام فيه " إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة " ولأن المالك القديم زال ملكه بغير رضاه فكان له حق الأخذ نظرا له إلا أن في الأخذ بعد القسمة ضررا بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص فيأخذه بالقيمة ليعتدل النظر من الجانبين والشركة قبل القسمة عامة فيقل الضرر فيأخذه بغير قيمة " وإن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه الأول بالخيار إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه به وإن شاء تركه " لأنه يتضرر بالأخذ مجانا ألا ترى أنه قد دفع العوض بمقابلته فكان اعتدال النظر فيما قلناه ولو اشتراه بعرض يأخذه بقيمة العرض ولو وهبوه لمسلم يأخذه بقيمته لأنه ثبت له ملك خاص فلا يزال إلا بالقيمة ولو كان مغنوما وهو يأخذه قبل القسمة ولا يأخذه بعدها لأن الأخذ بالمثل غير مفيد وكذا إذا كان موهوبا لا يأخذه لما بينا وكذا إذا كان مشترى بمثله قدرا ووصفا قال " فإن أسروا عبدا فاشتراه رجل وأخرجه إلى دار الإسلام ففقئت عينه وأخذ أرشها فإن المولى يأخذه بالثمن الذي أخذ به من العدو " أما الأخذ بالثمن فلما قلنا " ولا يأخذ الأرش " لأن الملك فيه صحيح فلو أخذه أخذه بمثله وهو لا يفيد ولا يحط شيء من الثمن لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن بخلاف الشفعة لأن الصفقة لما تحولت إلى الشفيع صار المشترى في يد المشتري بمنزلة المشترى شراء فاسدا والأوصاف تضمن فيه كما في الغصب أما ههنا الملك صحيح فافترقا " وإن أسروا عبدا فاشتراه رجل بألف درهم فأسروه ثانيا وأدخلوه دار الحرب فاشتراه رجل آخر بألف درهم فليس للمولى الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن " لأن الأسر ما ورد على ملكه. " وللمشتري الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن " لأن الأسر ورد على ملكه " ثم يأخذه المالك القديم بألفين إن شاء " لأنه قام عليه بالثمنين فيأخذه بهما وكذا إذا كان المأسور منه الثاني غائبا ليس للأول أن يأخذه اعتبارا بحال حضرته. " ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة مدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا وأحرارنا ونملك عليهم جميع ذلك " لأن السبب إنما يفيد الملك في محله والمحل المال المباح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 والحر معصوم بنفسه وكذا من سواه لأنه تثبت الحرية فيه من وجه بخلاف رقابهم لأن الشرع أسقط عصمتهم جزاء على جنايتهم وجعلهم أرقاء ولا جناية من هؤلاء. " وإذا أبق عبد لمسلم فدخل إليهم فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يملكونه " لأن العصمة لحق المالك لقيام يده وقد زالت ولهذا لو أخذوه من دار الإسلام ملكوه وله أنه ظهرت يده على نفسه بالخروج من دارنا لأن سقوط اعتباره لتحقق يد المولى عليه تمكينا له من الانتفاع وقد زالت يد المولى فظهرت يده على نفسه وصار معصوما بنفسه فلم يبق محلا للملك بخلاف المتردد لأن يد المولى باقية عليه لقيام يد أهل الدار فمنع ظهور يده وإذا لم يثبت الملك لهم عند أبي حنيفة رحمه الله يأخذه المالك القديم بغير شيء موهوبا كان أو مشترى أو مغنوما قبل القسمة وبعد القسمة يؤدى عوضه من بيت المال لأنه لا يمكن إعادة القسمة لتفرق الغانمين وتعذر اجتماعهم وليس له على المالك جعل الآبق لأنه عامل لنفسه إذ في زعمه أنه ملكه " وإن ند بعير إليهم فأخذوه ملكوه " لتحقق الاستيلاء إذ لا بد للعجماء لتظهر عند الخروج من دارنا بخلاف العبد على ما ذكرنا وإن اشتراه رجل وأدخله دار الإسلام فصاحبه يأخذه بالثمن إن شاء" لما بينا " فإن أبق عبد إليهم وذهب معه بفرس ومتاع فأخذ المشركون ذلك كله واشترى رجل ذلك كله وأخرجه إلى دار الإسلام فإن المولى يأخذ العبد بغير شيء والفرس والمتاع بالثمن وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا يأخذ العبد وما معه بالثمن إن شاء " اعتبارا لحالة الاجتماع بحالة الانفراد وقد بينا الحكم في كل فرد. " وإذا دخل الحربي دارنا بأمان واشترى عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يعتق " لأن الإزالة كانت مستحقة بطريق معين وهو البيع وقد انقطعت ولاية الجبر عليه فبقي في يده عبدا ولأبي حنيفة رحمه الله أن تخليص المسلم عن ذل الكافر واجب فيقام الشرط وهو تباين الدارين مقام العلة وهو الإعتاق تخليصا له كما يقام مضي ثلاث حيض مقام التفريق فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب. " وإذا أسلم عبد لحربي ثم خرج إلينا أو ظهر على الدار فهو حر وكذلك إذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار " لما روي أن عبيدا من عبيد الطائف أسلموا وخرجوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقضى بعتقهم وقال " هم عتقاء الله " ولأنه أحرز نفسه بالخروج إلينا مراغما لمولاه أو بالالتحاق بمنعة المسلمين إذا ظهر على الدار واعتبار يده أولى من اعتبار يد المسلمين لأنها أسبق ثبوتا على نفسه فالحاجة في حقه إلى زيادة توكيد وفي حقهم إلى إثبات اليد ابتداء فلهذا كان أولى والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 باب المستأمن مدخل ... باب المستأمن " وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ولا من دمائهم " لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان فالتعرض بعد ذلك يكون غدرا والغدر حرام إلا إذا غدر بهم ملكهم فأخذ أموالهم أو حبسهم أو فعل غيره بعلم الملك ولم يمنعه لأنهم هم الذين نقضوا العهد بخلاف الأسير لأنه غير مستأمن فيباح له التعرض وإن أطلقوه طوعا " فإن غدر بهم " أعني التاجر " أخذ شيئا وخرج به ملكه ملكا محظورا " لورود الاستيلاء على مال مباح إلا أنه حصل بسبب الغدر فأوجب ذلك خبثا فيه فيؤمر بالتصدق به وهذا لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد السبب على ما بيناه. " وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدانه حربي أو أدان هو حربيا أو غصب أحدهما صاحبه ثم خرج إلينا واستأمن الحربي لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء " أما الإدانة فلأن القضاء يعتمد الولاية ولا ولاية وقت الإدانة أصلا ولا وقت القضاء على المستأمن لأنه ما التزم حكم الإسلام فيما مضى من أفعاله وإنما التزم ذلك في المستقبل وأما الغصب فلأنه صار ملكا للذي غصبه واستولى عليه لمصادفته مالا غير معصوم على ما بيناه وكذلك لو كانا حربيين فعلا ذلك ثم خرجا مستأمنين لما قلنا " ولو خرجا مسلمين قضي بالدين بينهما ولم يقض بالغصب " أما المداينة فلأنها وقعت صحيحة لوقوعها بالتراضي والولاية ثابتة حالة القضاء لالتزامهما الأحكام بالإسلام وأما الغصب فلما بينا أنه ملكه ولا خبث في ملك الحربي حتى يؤمر بالرد. " وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فغصب حربيا ثم خرجا مسلمين أمر برد الغصب ولم يقض عليه " أما عدم القضاء فلما بينا أنه ملكه وأما الأمر بالرد ومراده الفتوى به فلأنه فسد الملك لما يقارنه من المحرم وهو نقض العهد. " وإذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمدا أو خطأ فعلى القاتل الدية في ماله وعليه الكفارة في الخطأ " أما الكفارة فلإطلاق الكتاب وأما الدية فلأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان وإنما لا يجب القصاص لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة ولا منعة بدون الإمام وجماعة المسلمين ولم يوجد ذلك في دار الحرب وإنما تجب الدية في ماله في العمد لأن العواقل لا تعقل العمد وفي الخطأ لأنه لا قدرة لهم على الصيانة مع تباين الدارين والوجوب عليهم على اعتبار تركها " وإن كانا أسيرين فقتل أحدهما صاحبه " أو قتل مسلم تاجر أسيرا " فلا شيء على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 القاتل لا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا في الأسيرين الدية في الخطأ والعمد " لأن العصمة لا تبطل بعارض الأسر كما لا تبطل بعارض الاستئمان على ما بيناه وامتناع القصاص لعدم المنعة وتجب الدية في ماله لما قلنا ولأبي حنيفة رحمه الله أن بالأسر صار تبعا لهم لصيرورته مقهورا في أيديهم ولهذا يصير مقيما بإقامتهم ومسافرا بسفرهم فيبطل به الإحراز أصلا وصار كالمسلم الذي لم يهاجر إلينا وخص الخطأ بالكفارة لأنه لا كفارة في العمد عندنا والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فصل وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا إلخ ... فصل قال: " وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا لم يمكن أن يقيم في دارنا سنة ويقول له الإمام إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية " والأصل أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية لأنه يصير عينا لهم وعونا علينا فتلتحق المضرة بالمسلمين ويمكن من الإقامة اليسيرة لأن في منعها قطع الميرة والجلب وسد باب التجارة ففصلنا بينهما بسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية فتكون الإقامة لمصلحة الجزية ثم إن رجع بعد مقالة الإمام قبل تمام السنة إلى وطنه فلا سبيل عليه وإذا مكث سنة فهو ذمي لأنه لما أقام سنة بعد تقدم الإمام إليه صار ملتزما للجزية فيصير ذميا وللإمام أن يؤقت في ذلك ما دون السنة كالشهر والشهرين " وإذا أقامها بعد مقالة الإمام يصير ذميا " لما قلنا " ثم لا يترك أن يرجع إلى دار الحرب " لأن عقد الذمة لا ينقض كيف وأن فيه قطع الجزية وجعل ولده حربا علينا وفيه مضرة بالمسلمين " فإن دخل الحربي دارنا بأمان فاشترى أرض خراج فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي " لأن خراج الأرض بمنزلة خراج الرأس فإذا التزمه صار ملتزما المقام في دارنا أما بمجرد الشراء فلا يصير ذميا لأنه قد يشتريها للتجارة وإذا لزمه خراج الأرض فبعد ذلك تلزمه الجزية لسنة مستقبلة لأنه يصير ذميا بلزوم الخراج فتعتبر المدة من وقت وجوبه وقوله في الكتاب فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي تصريح بشرط الوضع فيتخرج عليه أحكام جمة فلا تغفل عنه. " وإذا دخلت حربية بأمان فتزوجت ذميا صارت ذمية " لأنها التزمت المقام تبعا للزوج " وإذا دخل حربي بأمان فتزوج ذمية لم يصر ذميا " لأنه يمكنه أن يطلقها فيرجع إلى بلده فلم يكن ملتزما المقام. " ولو أن حربيا دخل دارنا بأمان ثم عاد إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي أو دينا في ذمتهم فقد صار دمه مباحا بالعود " لأنه أبطل أمانه " وما في دار الإسلام من ماله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 على خطر فإن أسر أو ظهر على الدار فقتل سقطت ديونه وصارت الوديعة فيئا " أما الوديعة فلأنها في يده تقديرا لأن يد المودع كيده فيصير فيئا تبعا لنفسه وأما الدين فلأن إثبات اليد عليه بواسطة المطالبة وقد سقطت ويد من عليه أسبق إليه من يد العامة فيختص به فيسقط " وإن قتل ولم يظهر على الدار فالقرض والوديعة لورثته " وكذلك إذا مات لأن نفسه لم تصر مغنومة فكذلك ماله وهذا لأن حكم الأمان باق في ماله عليه أو على ورثته من بعده. قال: " وما أوجف المسلمون عليه من أموال أهل الحرب بغير قتال يصرف في مصالح المسلمين كما يصرف الخراج " قالوا هو مثل الأراضي التي أجلوا أهلها عنها والجزية ولا خمس في ذلك وقال الشافعي رحمه الله فيها الخمس اعتبارا بالغنيمة ولنا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ الجزية وكذا عمر ومعاذ رضي الله عنهما ووضع في بيت المال ولم يخمس ولأنه مال مأخوذ بقوة المسلمين من غير قتال بخلاف الغنيمة لأنه مملوك بمباشرة الغانمين وبقوة المسلمين فاستحق الخمس بمعنى واستحتقه الغانمون بمعنى وفي هذا السبب واحد وهو ما ذكرناه فلا معنى لإيجاب الخمس. " وإذا دخل الحربي دارنا بأمان وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار ومال أودع بعضه ذميا وبعضه حربيا وبعضه مسلما فأسلم ههنا ثم ظهر على الدار فذلك كله فيء " أما المرأة وأولاده الكبار فظاهر لأنهم حربيون كبار وليسوا بأتباع وكذلك ما في بطنها لو كانت حاملا لما قلنا من قبل وأما أولاده الصغار فلأن الصغير إنما يصير مسلما تبعا لإسلام أبيه إذا كان في يده وتحت ولايته ومع تباين الدارين لا يتحقق ذلك وكذا أمواله لا تصير محرزة بإحرازه نفسه لاختلاف الدارين فبقي الكل فيئا وغنيمة " وإن أسلم في دار الحرب ثم جاء فظهر على الدار فأولاده الصغار أحرار مسلمون " تبعا لأبيهم لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم إذ الدار واحدة " وما كان من مال أودعه مسلما أو ذميا فهو له " لأنه في يد محترمة ويده كيده " وما سوى ذلك فيء " أما المرأة وأولاده الكبار فلما قلنا وأما المال الذي في يد الحربي فلأنه لم يصر معصوما لأن يد الحربي ليست يدا محترمة. " وإذا أسلم الحربي في دار الحرب فقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون هناك فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ " وقال الشافعي رحمه الله تجب الدية في الخطأ والقصاص في العمد لأنه أراق دما معصوما " لوجود العاصم وهو الإسلام " لكونه مستجلبا للكرامة وهذا لأن العصمة أصلها المؤثمة لحصول أصل الزجر بها وهي ثابتة إجماعا والمقومة كمال فيه لكمال الامتناع به فيكون وصفا فيه فتتعلق بما علق به الأصل. ولنا قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 جعل التحرير كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء أو إلى كونه كل المذكور فينتفي غيره ولأن العصمة المؤثمة بالآدمية لأن الآدمي خلق متحملا أعباء التكليف والقيام بها بحرمة التعرض والأموال تابعة لها أما المقومة فالأصل فيها الأموال لأن التقوم يؤذن بجبر الفائت وذلك في الأموال دون النفوس لأن من شرطه التماثل وهو في المال دون النفس فكانت النفوس تابعة ثم العصمة المقومة في الأموال بالإحراز بالدار لأن العزة بالمنعة فكذلك في النفوس إلا أن الشرع أسقط اعتبار منعة الكفرة لما أنه أوجب إبطالها والمرتد والمستأمن في دارنا من أهل دارهم حكما لقصدهما الانتقال إليها. " ومن قتل مسلما خطأ لا ولي له أو قتل حربيا دخل إلينا بأمان فأسلم الدية على عاقلته للإمام وعليه الكفارة " لأنه قتل نفسا معصومة خطأ فتعتبر بسائر النفوس المعصومة ومعنى قوله للإمام أن حق الأخذ له لأنه لا وارث له " وإن كان عمدا فإن شاء الإمام قتله وإن شاء أخذ الدية " لأن النفس معصومة والقتل عمد والولي معلوم وهو العامة أو السلطان قال عليه الصلاة والسلام " السلطان ولي من لا ولي له " وقوله وإن شاء أخذ الدية معناه بطريق الصلح لأن موجب العمد هو القود عينا وهذا لأن الدية أنفع في هذه المسألة من القود فلهذا كان له ولاية الصلح على المال " وليس له أن يعفو " لأن الحق للعامة وولايته نظرية وليس من النظر إسقاط حقهم من غير عوض والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 باب العشر والخراج قال: " أرض العرب كلها أرض عشر وهي ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد الشام والسواد أرض خراج وهو ما بين العذيب إلى عقبة حلوان ومن الثعلبية ويقال من العلث إلى عبادان " لأن النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يأخذوا الخراج من أراضي العرب ولأنه بمنزلة الفيء فلا يثبت في أراضيهم كما لا يثبت في رقابهم وهذا لأن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها على الكفر كما في سواد العراق ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وعمر رضي الله عنه حين فتح السواد وضع الخراج عليها بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ووضع على مصر حين افتتحها عمرو بن العاص وكذا اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على وضع الخراج على الشام. قال: " وأرض السواد مملوكة لأهلها يجوز بيعهم لها وتصرفهم فيها " لأن الإمام إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 فتح أرضا عنوة وقهرا له أن يقر أهلها عليها ويضع عليها وعلى رءوسهم الخراج فتبقى الأراضي مملوكة لأهلها وقد قدمناه من قبل. قال: " وكل أرض أسلم أهلها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فهي أرض عشر " لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على المسلم والعشر أليق به لما فيه من معنى العبادة وكذا هو أخف حيث يتعلق بنفس الخارج. " وكل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها عليها فهي أرض خراج " وكذا إذا صالحهم لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به ومكة مخصوصة من هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وتركها لأهلها ولم يوظف الخراج. " وفي الجامع الصغير كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج ومالم يصل إليها ماء الأنهار واستخرج منها عين فهي أرض عشر " لأن العشر يتعلق بالأرض النامية ونماؤها بمائها فيعتبر السقي بماء العشر أو بماء الخراج. قال: " ومن أحيا أرضا مواتا فهي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى معتبرة بحيزها فإن كانت من حيز أرض الخراج " ومعناه بقربه " فهي خراجية وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية " والبصرة عنده عشرية بإجماع الصحابة رضي الله عنهم لأن حيز الشيء يعطي له حكمه كفناء الدار يعطى له حكم الدار حتى يجوز لصاحبها الانتفاع به وكذا لا يجوز أخذ ما قرب من العامر وكان القياس في البصرة أن تكون خراجية لأنها من حيز أرض الخراج إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وظفوا عليها العشر فترك القياس لإجماعهم " وقال محمد رحمه الله إن أحياها ببئر حفرها أو بعين استخرجها أو ماء دجلة أو الفرات أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحد فهي عشرية " وكذا إن أحياها بماء السماء " وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها الأعاجم " مثل نهر الملك ونهر يزدجرد " فهي خراجية " لما ذكرنا من اعتبار الماء إذ هو السبب للنماء ولأنه لا يمكن توظيف الخراج ابتداء على المسلم كرها فيعتبر في ذلك الماء لأن السقي بماء الخراج دلالة التزامية. قال: " والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه على أهل السواد من كل جريب يبلغه الماء قفيز هاشمي وهو الصاع ودرهم ومن جريب الرطبة خمسة دراهم ومن جريب الكرم المتصل والنخيل المتصل عشرة دراهم " وهذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه فإنه بعث عثمان بن حنيف حتى يمسح سواد العراق وجعل حذيفة مشرفا عليه فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب ووضع على ذلك ما قلنا وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 الله عنهم من غير نكير فكان إجماعا منهم ولأن المؤن متفاوتة فالكرم أخفها مؤنة والمزارع أكثرها مؤنة والرطاب بينهما والوظيفة تتفاوت بتفاوتها فجعل الواجب في الكرم أعلاها وفي الزرع أدناها وفي الرطبة أوسطها. قال: " وما سوى ذلك من الأصناف كالزعفران والبستان وغيره يوضع عليها بحسب الطاقة " لأنه ليس فيه توظيف عمر رضي الله عنه وقد اعتبر الطاقة في ذلك فنعتبرها فيما لا توظيف فيه قالوا ونهاية الطاقة أن يبلغ الواجب نصف الخارج لا يزاد عليه لأن التنصيف عين الإنصاف لما كان لنا أن نقسم الكل بين الغانمين والبستان كل أرض يحوطها حائط وفيها نخيل متفرقة وأشجار أخر وفي ديارنا وظفوا من الدراهم في الأراضي كلها وترك كذلك لأن التقدير يجب أن يكون بقدر الطاقة من أي شيء كان. قال: " فإن لم تطق ما وضع عليها نقصهم الإمام " والنقصان عند قلة الريع جائز بالإجماع ألا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه لعلكما حملتما الأرض مالا تطيق فقالا لا بل حملناها ما تطيق ولو زدنا لأطاقت وهذا يدل على جواز النقصان. وأما الزيادة عند زيادة الريع يجوز عند محمد رحمه الله اعتبارا بالنقصان وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجوز لأن عمر رضي الله عنه لم يزد حين أخبر بزيادة الطاقة " وإن غلب على أرض الخراج الماء أو انقطع الماء عنها أو اصطلم الزرع آفة فلا خراج عليه " لأنه فات التمكن من الزراعة وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج وفيما إذا اصطلم الزرع آفة فات النماء بالتقديري في بعض الحول وكونه ناميا في جميع الحول شرط كما في مال الزكاة أو يدار الحكم على الحقيقة عند خروج الخارج. قال: " وإن عطلها صاحبها فعليه الخراج " لأن التمكن كان ثابتا وهو الذي فوته. قالوا: من انتقل إلى أخس الأمرين من غير عذر فعليه خراج الأعلى لأنه هو الذي ضيع الزيادة وهذا يعرف ولا يفتى به كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس " ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله " لأن فيه معنى المؤنة فيعتبر مؤنة في حالة البقاء فأمكن إبقاؤه على المسلم " ويجوز أن يشتري المسلم أرض الخراج من الذمي ويؤخذ منه الخراج " لما قلنا وقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم اشتروا أراضي الخراج وكانوا يؤدون خراجها فدل على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم عن غير كراهة " ولا عشر في الخارج من أرض الخراج " وقال الشافعي رحمه الله يجمع بينهما لأنهما حقان مختلفان وجبا في محلين بسببين مختلفين فلا يتنافيان ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 عشر وخراج في أرض مسلم " ولأن أحدا من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما وكفى بإجماعهم حجة ولأن الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهرا والعشر في أرض أسلم أهلها طوعا والوصفان لا يجتمعان في ارض واحدة وسبب الحقين واحد وهو الأرض النامية إلا أنه يعتبر في العشر تحقيقا وفي الخراج تقديرا ولهذا يضافان إلى الأرض وعلى هذا الخلاف الزكاة مع أحدهما " ولا يتكرر الخراج بتكرر الخارج في سنة " لأن عمر رضي الله عنه لم يوظفه مكررا بخلاف العشر لأنه لا يتحقق عشرا إلا بوجوبه في كل خارج والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 باب الجزية " وهي على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق " كما صالح رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب هو التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه الاتفاق " وجزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني للظاهر الغني في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يأخذ منهم في كل شهر أربعة دراهم وعلى وسط الحال أربعة وعشرين درهما في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهما في كل شهر درهما " وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدل الدينار الغني والفقير في ذلك سواء لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه " خذ من كل حالم وحالمة دينارا أو عدله معافر من غير فصل " ولأن الجزية إنما وجبت بدلا عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان وهذا المعنى ينتظم الفقير والغني ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فتجب على التفاوت بمنزلة خراج الأرض وهذا لأنه وجب بدلا عن النصرة بالنفس والمال وذلك يتفاوت بكثرة الوفر وقلته فكذا ما هو بدله وما رواه محمول على أنه كان ذلك صلحا ولهذا أمره بالأخذ من الحالمة وإن كانت لا يؤخذ منها الجزية. قال: " وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس " لقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] الآية ووضع رسول الله عليه الصلاة والسلام الجزية على المجوس. قال: " وعبدة الأوثان من العجم " وفيه خلاف الشافعي رحمه الله هو يقول إن القتال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 واجب لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 193] إلا أنا عرفنا جواز تركه في حق أهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل ولنا أنه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فإنه يكتسب ويؤدى إلى المسلمين ونفقته في كسبه " وإن ظهر عليهم قبل ذلك فهم ونساؤهم وصبيانهم فيء " لجواز استرقاقهم. " ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين " لأن كفرهما قد تغلظ أما مشركو العرب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر وأما المرتد فلأنه كفر بربه بعد ما هدى للإسلام ووقف على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة وعند الشافعي رحمه الله يسترق مشركو العرب وجوابه ما قلنا. " وإذا ظهر عليهم فنساؤهم وصبيانهم فيء " لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين " ومن لم يسلم من رجالهم قتل " لما ذكرنا. " ولا جزية على امرأة ولا صبي " لأنها وجبت بدلا عن القتل أو عن القتال وهما لا يقتلان ولا يقاتلان لعدم الأهلية. قال: " ولا زمن ولا أعمى " وكذا المفلوج والشيخ الكبير لما بينا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تجب إذا كان له مال لأنه يقتل في الجملة إذا كان له رأي " ولا على فقير غير معتمل " خلافا للشافعي رحمه الله له إطلاق حديث معاذ رضي الله عنه ولنا أن عثمان رضي الله عنه لم يوظفها على فقير غير معتمل وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولأن خراج الأرض لا يوظف على أرض لا طاقة لها فكذا هذا الخراج والحديث محمول على المعتمل. " ولا توضع على المملوك والمكاتب والمدبر وأم الولد " لأنه بدل عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا وعلى اعتبار الثاني لا تجب فلا تجب بالشك " ولا يؤدى عنهم مواليهم " لأنهم تحملوا الزيادة بسببهم " ولا توضع على الرهبان الذين لا يخالطون الناس " كذا ذكر ههنا وذكر محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يوضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف رحمه الله وجه الوضع عليهم أن القدرة على العمل هو الذي ضيعها فصار كتعطيل الأرض الخراجية ووجه الوضع عنهم أنه لا قتل عليهم إذا كانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 لا يخالطون الناس والجزية في حقهم لإسقاط القتل ولا بد أن يكون المعتمل صحيحا ويكتفى بصحته في أكثر السنة. " ومن أسلم وعليه جزية سقطت عنه " وكذلك إذا مات كافرا خلافا للشافعي رحمه الله فيهما له أنها وجبت بدلا عن العصمة أو عن السكنى وقد وصل إليه المعوض فلا يسقط عنه العوض بهذا العارض كما في الأجرة والصلح عن دم العمد ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس على مسلم جزية " ولأنها وجبت عقوبة على الكفر ولهذا تسمى جزية وهي والجزاء واحد وعقوبة الكفر تسقط بالإسلام ولا تقام بعد الموت ولأن شرع العقوبة في الدنيا لا يكون إلا لدفع لاشر وقد اندفع بالموت والإسلام ولأنها وجبت بدلا عن النصرة في حقنا وقد قدر عليها بنفسه بعد الإسلام والعصمة تثبت بكونه آدميا والذمي يسكن ملك نفسه فلا معنى لإيجاب بدل العصمة والسكنى " وإن اجتمعت عليه الحولان تداخلت وفي الجامع الصغير ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت السنة وجاءت سنة أخرى لم يؤخذ " وهذا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يؤخذ منه وهو قول الشافعي رحمه الله. " وإن مات عند تمام السنة لم يؤخذ منه في قولهم جميعا وكذلك إن مات في بعض السنة ". أما مسألة الموت فقد ذكرناها وقيل خراج الأرض على هذا الخلاف وقيل لا تداخل فيه بالاتفاق لهما في الخلافية أن الخراج وجب عوضا والأعواض إذا اجتمعت وأمكن استيفاؤها تستوفى وقد أمكن فيما نحن فيه بعد توالي السنين بخلاف ما إذا أسلم لأنه تعذر استيفاؤه. ولأبي حنيفة رحمه الله أنها وجبت عقوبة على الإصرار على الكفر على ما بيناه ولهذا لا تقبل منه لو بعث على يد نائبه في أصح الروايات بل يكلف أن يأتي به بنفسه فيعطي قائما والقابض منه قاعد وفي رواية يأخذ بتلبيبه ويهزه هزا ويقول أعط الجزية يا ذمي فثبت أنه عقوبة والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت كالحدود ولأنها وجبت بدلا عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا كما ذكرنا لكن في المستقبل لا في الماضي لأن القتل إنما يستوفى لحراب قائم في الحال لا لحراب ماض وكذا النصرة في المستقبل لأن الماضي وقعت الغنية عنه ثم قول محمد رحمه الله في الجزية في الجامع الصغير وجاءت سنة أخرى حمله بعض المشايخ رحمهم الله على المضي مجازا وقال الوجوب بآخر السنة فلا بد من المضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 ليتحقق الاجتماع فتتداخل وعند البعض هو مجرى على حقيقته والوجوب عند أبي حنيفة رحمه الله بأول الحول فيتحقق الاجتماع بمجرد المجيء والأصح أن الوجوب عندنا في ابتداء الحول وعند الشافعي رحمه الله في آخر اعتبارا بالزكاة. ولنا أن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل على ما قررناه فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناه في أوله والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 فصل " ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام " لقوله عليه الصلاة والسلام " لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة " والمراد إحداثها " وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها " لأن الأبنية لا تبقى دائما ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة إلا أنهم لا يمكنون من نقلها لأنه إحداث في الحقيقة والصومعة للتخلي فيها بمنزلة البيعة بخلاف موضع الصلاة في البيت لأنه تبع للسكنى وهذا في الأمصار دون القرى لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر فلا تعارض بإظهار ما يخالفها وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضا لأن فيها بعض الشعائر والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ". قال: " ويؤخذ أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في زيهم ومراكبهم وسروجهم وقلانسهم فلا يركبون الخيل ولا يعملون بالسلاح وفي الجامع الصغير ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات والركوب على السروج التي هي كهيئة الأكف " وإنما يؤخذون بذلك إظهارا للصغار عليهم وصيانة لضعفة المسلمين ولأن المسلم يكرم والذمي يهان ولا يبتدأ بالسلام ويضيق عليه الطريق فلو لم تكن علامة مميزة فلعله يعامل معاملة المسلمين وذلك لا يجوز والعلامة يجب أن تكون خيطا غليظا من الصوف يشده على وسطه دون الزنار من الإبريسم فإنه جفاء في حق أهل الإسلام ويجب أن يتميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات ويجعل على دورهم علامات كيلا يقف عليها سائل يدعو لهم بالمغفرة قالوا الأحق أن لا يتركوا أن يركبوا إلا للضرورة وإذا ركبوا للضرورة فلينزلوا في مجامع المسلمين فإن لزمت الضرورة اتخذوا سروجا بالصفة التي تقدمت ويمنعون من لباس يختص به أهل العلم والزهد والشرف. " ومن امتنع من الجزية أو قتل مسلما أو سب النبي عليه الصلاة والسلام أو زنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 بمسلمة لم ينتقض عهده " لأن الغاية التي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها والالتزام باق وقال الشافعي رحمه الله سب النبي عليه الصلاة والسلام يكون نقضا لأنه لو كان مسلما ينقض إيمانه فكذا ينقض أمانه إذ عقد الذمة خلف عنه ولنا أن سب النبي عليه الصلاة والسلام كفر منه والكفر المقارن لا يمنعه فالطارئ لا يرفعه قال " ولا ينقض العهد إلا أن يلتحق بدار الحرب أو يغلبوا على موضع فيحاربوننا " لأنهم صاروا حربا علينا فيعرى عقد الذمة عن الفائدة وهو دفع شر الحراب. " وإذا نقض الذمي العهد فهو بمنزلة المرتد " معناه في الحكم بموته باللحاق لأنه التحق بالأموات وكذا في حكم ما حمله من ماله إلا أنه لو أسر يسترق بخلاف المرتد والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 فصل ونصارى بني تغلب يؤخذ من أمواهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة ... فصل " ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة " لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم " ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم " لأن الصلح وقع على الصدقة المضاعفة والصدقة تجب عليهن دون الصبيان فكذا المضاعف وقال زفر رحمه الله لا يؤخذ من نسائهم أيضا وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه جزية في الحقيقة على ما قال عمر رضي الله عنه هذه جزية فسموها ما شئتم ولهذا تصرف مصارف الجزية ولا جزية على النسوان ولنا أنه مال وجب بالصلح والمرأة من أهل وجوب مثله عليها والمصرف مصالح المسلمين لأنه مال بيت المال وذلك لا يختص بالجزية ألا ترى أنه لا يراعى فيه شرائطها " ويوضع على مولى التغلبي الخراج " أي الجزية " وخراج الأرض بمنزلة مولى القرشي " وقال زفر رحمه الله يضاعف لقوله عليه الصلاة والسلام " إن مولى القوم منهم " ألا ترى أن مولى الهاشمي يلحق في حق حرمة الصدقة ولنا أن هذا تخفيف والمولى لا يلحق بالأصل فيه ولهذا توضع الجزية على مولى المسلم إذا كان نصرانيا بخلاف حرمة الصدقة لأن الحرمات تثبت بالشبهات فألحق المولى بالهاشمي في حقه ولا يلزم مولى الغني حيث لا تحرم عليه الصدقة لأن الغني من أهلها وإنما الغني مانع ولم يوجد في حق المولى أما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلا لأنه صين لشرفه وكرامته عن أوساخ الناس فألحق به مولاه. قال: " وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية يصرف في مصالح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطر إلا الجسور ويعطى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم " لأنه مال بيت المال فإنه وصل إلى المسلمين من غير قتال وهو معد لمصالح المسلمين وهؤلاء عملتهم ونفقة الذراري على الآباء فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب فلا يتفرغون للقتال. " ومن مات في نصف السنة فلا شيء له من العطاء " لأنه نوع صلة وليس بدين ولهذا سمي عطاء فلا يملك قبل القبض ويسقط بالموت وأهل العطاء في زماننا مثل القاضي والمدرس والمفتي والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 باب أحكام المرتدين قال: " وإذا ارتد المسلم عن الإسلام والعياذ بالله عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة كشفت عنه " لأنه عساه اعترته شبهة فتزاح وفيه دفع شره بأحسن الأمرين إلا أن العرض على ما قالوا غير واجب لأن الدعوة بلغته. قال: " ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قتل وفي الجامع الصغير المرتد يعرض عليه الإسلام حرا كان أو عبدا فإن أبى قتل " وتأويل الأول أنه يستمهل فيمهل ثلاثة أيام لأنها مدة ضربت لإبلاء الأعذار وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب وعن الشافعي رحمه الله أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا فلا بد من مدة يمكنه التأمل فقدرناها بالثلاثة ولنا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من غير قيد الإمهال وكذا قوله عليه الصلاة والسلام " من بدل دينه فاقتلوه " ولأنه كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال وهذا لأنه لا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم ولا فرق بين الحر والعبد لإطلاق الدلائل وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام لأنه لا دين له ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود قال " فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره ولا شيء على القاتل " ومعنى الكراهية ههنا ترك المستحب وانتفاء الضمان لأن الكفر مبيح للقتل والعرض بعد بلوغ الدعوة غير واجب. " وأما المرتدة فلا تقتل " وقال الشافعي رحمه الله تقتل لما روينا ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنه جناية مغلظة فتناط بها عقوبة مغلظة وردة المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء ولأن الأصل تأخير الجزية إلى دار الآخرة إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء وإنما عدل عنه دفعا لشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 ناجز وهو الحراب ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية بخلاف الرجال فصارت المرتدة كالأصلية قال " ولكن تحبس حتى تسلم " لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار فتجبر على إيفائه بالحبس كما في حقوق العباد. " وفي الجامع الصغير وتجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة والأمة يجبرها مولاها " أما الجبر فلما ذكرنا ومن المولى لما فيه من الجمع بين الحقين ويروى تضرب في كل أيام مبالغة في الحمل على الإسلام. قال: " ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالا مراعى فإن أسلم عادت إلى حالها قالوا هذا عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يزول ملكه " لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل يبقى ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل ولا قتل إلا بالحراب وهذا يوجب زوال ملكه ومالكيته غير أنه مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه ويرجى عوده إليه فتوقفنا في أمره فإن أسلم جعل العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم وصار كأن لم يزل مسلما ولم يعمل السبب وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه استقر كفره فيعمل السبب عمله وزال ملكه. قال: " وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في إسلامه إلى ورثته المسلمين وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله " وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله كلاهما لورثته " وقال الشافعي رحمه الله كلاهما فيء لأنه مات كافرا والمسلم لا يرث الكافر ثم هو مال حربي لا أمان له فيكون فيئا ولهما أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه فينتقل بموته إلى ورثته ويستند إلى ما قبيل ردته إذ الردة سبب الموت فيكون توريث المسلم من المسلم ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الاستناد في كسب الإسلام لوجوده قبل الردة ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها ومن شرطه وجوده ثم إنما يرثه من كان وارثا له حالة الردة وبقي وارثا إلى وقت موته في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله اعتبارا للاستناد وعنه أنه يرثه من كان وارثا له عند الردة ولا يبطل استحقاقه بموته بل يخلفه وارثه لأن الردة بمنزلة الموت وعنه أنه يعتبر وجود الوارث عند الموت لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه كالحادث قبل انعقاده بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض وترثه امرأته المسلمة إذا مات أو قتل على ردته وهي في العدة لأنه يصير فارا وإن كان صحيحا وقت الردة والمرتدة كسبها لورثتها لأنه لا حراب منها فلم يوجد سبب الفيء بخلاف المرتد عند أبي حنيفة رحمه الله ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وهي مريضة لقصدها إبطال حقه وإن كانت صحيحة لا يرثها لأنها لا تقتل فلم يتعلق حقه بمالها بالردة بخلاف المرتد. قال: " وإن لحق بدار الحرب مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين " وقال الشافعي رحمه الله يبقى ماله موقوفا كما كان لأنه نوع غيبة فأشبه الغيبة في دار الإسلام ولنا أنه باللحاق صار من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى فصار كالموت إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا فلا بد من القضاء وإذا تقرر موته ثبتت الأحكام المتعلقة به وهي ما ذكرناها كما في الموت الحقيقي ثم يعتبر كونه وارثا عند لحاقه في قول محمد رحمه الله لأن اللحاق هو السبب والقضاء لتقرره بقطع الاحتمال وقال أبو يوسف رحمه الله وقت القضاء لأنه يصير موتا بالقضاء والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف " وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام وما لزمه في حال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته " قال العبد الضعيف عصمه الله هذه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وعنه أنه يبدأ بكسب الإسلام وإن لم يف بذلك يقضى من كسب الردة وعنه على عكسه وجه الأول أن المستحق بالسببين مختلف وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضى كل دين من الكسب المكتسب في تلك الحالة ليكون الغرم بالغنم وجه الثاني أن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث فيقدم الدين عليه أما كسب الردة فليس بمملوك له لبطلان أهلية الملك بالردة عنده فلا يقضى دينه منه إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فحينئذ يقضى منه كالذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لجماعة المسلمين ولو كان عليه دين يقضى منه كذلك ههنا وجه الثالث أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه فكان قضاء الدين منه أولى إلا إذا تعذر بأن لم يف به فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديما لحقه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه حتى يجري الإرث فيهما والله أعلم. قال: " وما باعه أو اشتراه أو أعتقه أو وهبه أو رهنه أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته فهو موقوف فإن أسلم صحت عقوده وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت " وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ما صنع في الوجهين. اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 نافذ بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك وتمام الولاية. وباطل بالاتفاق: كالنكاح والذبيحة لأنه يعتمد الملة ولا ملة له. وموقوف بالاتفاق: كالمفاوضة لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة بين المسلم والمرتد مالم يسلم. ومختلف في توقفه وهو ما عددناه لهما أن الصحة تعتمد الأهلية والنفاذ يعتمد الملك ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطبا وكذا الملك لقيامه قبل موته على ما قررناه من قبل ولهذا لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه ولو مات ولده بعد الردة قبل الموت لا يرثه فيصح تصرفاته قبل المدة إلا أن عند أبي يوسف رحمه الله تصح كما تصح من الصحيح لأن الظاهر عوده إلى الإسلام إذ الشبهة تزاح فلا يقتل وصار كالمرتدة وعند محمد رحمه الله تصح كما تصح من المريض لأن من انتحل إلى نحلة لا سيما معرضا عما نشأ عليه قلما يتركه فيفضي إلى القتل ظاهرا بخلاف المرتدة لأنها لا تقتل ولأبي حنيفة رحمه الله أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك وتوقف التصرفات بناء عليه وصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان فيؤخذ ويقهر وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله فكذا المرتد واستحقاقه القتل لبطلان سبب العصمة في الفصلين فأوجب خللا في الأهلية بخلاف الزاني وقاتل العمد لأن الاستحقاق في ذلك جزاء على الجناية وبخلاف المرأة لأنها ليست حربية ولهذا لا تقتل " فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام مسلما فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه " لأن الوارث إنما يخلفه فيه لاستغنائه وإذا عاد مسلما احتاج إليه فيقدم عليه بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض ولو جاء مسلما قبل أن يقضي القاضي بذلك فكأنه لم يزل مسلما لما ذكرنا. " وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد فادعاه فهي أم ولد له والولد حر وهو ابنه ولا يرثه وإن كانت الجارية مسلمة ورثه الابن إن مات على الردة أو لحق بدار الحرب " أما صحة الاستيلاد فلما قلنا وأما الإرث فلأن الأم إذا كانت نصرانية والولد تبع له لقربه إلى الإسلام للجبر عليه فصار في حكم المرتد والمرتد لا يرث المرتد أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعا لها لأنها خيرهما دينا والمسلم يرث المرتد " وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر على ذلك المال فهو فيء فإن لحق ثم رجع وأخذ مالا وألحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 فوجدته الورثة قبل القسمة رد عليهم " لأن الأول مال لم يجر فيه الإرث والثاني انتقل إلى الورثة بقضاء القاضي بلحاقه فكان الوارث مالكا قديما. " وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه وكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلما فالكتابة جائزة والمكاتبة والولاء للمرتد الذي أسلم " لأنه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ فجعلنا الوارث الذي هو خلفه كالوكيل من جهته وحقوق العقد فيه ترجع إلى الموكل والولاء لمن يقع العتق عنه. " وإذا قتل المرتد رجلا خطأ ثم لحق بدار الحرب أو قتل على ردته فالدية في مال اكتسبه في حال الإسلام خاصة عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا الدية فيما اكتسبه في حالة الإسلام والردة جميعا " لأن العواقل لا تعقل المرتد لانعدام النصرة فتكون في ماله وعندهما الكسبان جميعا ماله لنفوذ تصرفاته في الحالين ولهذا يجري الإرث فيهما عندهما وعنده ماله المكتسب في الإسلام لنفاذ تصرفه فيه دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه ولهذا كان الأولى ميراثا عنه والثاني فيئا عنده. " وإذا قطعت يد المسلم عمدا فارتد والعياذ بالله ثم مات على ردته من ذلك أو لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فمات من ذلك فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة " أما الأول فلأن السراية حلت محلا غير معصوم فأهدرت بخلاف ما إذا قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك لأن الإهدار لا يحلقه الاعتبار أما المعتبر فقد يهدر بالإبراء فكذا بالردة وأما الثاني وهو ما إذا لحق ومعناه إذا قضى بلحاقه فلأنه صار ميتا تقديرا والموت يقطع السراية وإسلامه حياة حادثة في التقدير فلا يعود حكم الجناية الأولى فإذا لم يقض القاضي بلحاقه فهو على الخلاف الذي نبينه إن شاء الله تعالى قال " فإن لم يلحق وأسلم ثم مات فعليه الدية كاملة " وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد وزفر في جميع ذلك نصف الدية لأن اعتراض الردة أهدر السراية فلا ينقلب بالإسلام إلى الضمان كما إذا قطع يد مرتد فأسلم ولهما أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه فيجب ضمان النفس كما إذا لم تتخلل الردة وهذا لأنه لا معتبر بقيام العصمة في حال بقاء الجناية وإنما المعتبر قيامها في حال انعقاد السبب وفي حال ثبوت الحكم وحالة البقاء بمعزل من ذلك كله وصار كقيام الملك في حال بقاء اليمين. " وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا فأخذ بماله وأبى أن يسلم فقتل فإنه يوفي مولاه مكاتبته وما بقي فلورثته " وهذا ظاهر على أصلهما لأن كسب الردة ملكه إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 كان حرا فكذا إذا كان مكاتبا وأما عند أبي حنيفة فلأن المكاتب إنما يملك أكسابه بالكتابة والكتابة لا تتوقف بالردة فكذا أكسابه ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق فكذا بالأدنى بطريق الأولى. " وإذا ارتد الرجل وامرأته والعياذ بالله ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب وولدت ولدا وولد لولدهما ولد فظهر عليهم جميعا فالولدان فيء" لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها ويجبر الولد الأول على الإسلام ولا يجبر ولد الولد وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يجبر تبعا للجد وأصله التبعية في الإسلام وهي رابعة أربع مسائل كلها على الروايتين والثانية صدقة الفطر والثالثة جر الولاء والأخرى الوصية بالقرابة. قال: " وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويجبر على الإسلام ولا يقتل وإسلامه إسلام لا يرث أبويه إن كانا كافرين وقال أبو يوسف ارتداده ليس بارتداد وإسلامه إسلام " وقال زفر والشافعي رحمهما الله إسلامه ليس بإسلام وارتداده ليس بارتداد لهما في الإسلام أنه تبع لأبويه فيه فلا يجعل أصلا ولأنه يلزمه أحكاما تشوبها المضرة فلا يؤهل له ولنا فيه أن عليا رضي الله عنه أسلم في صباه وصحح النبي عليه الصلاة والسلام إسلامه وافتخاره بذلك مشهور ولأنه أتى بحقيقة الإسلام وهي التصديق والإقرار معه لأن الإقرار عن طوع دليل على الاعتقاد على ما عرف والحقائق لا ترد وما يتعلق به سعادة أبدية ونجاة عقباوية وهي من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي ثم يبتنى عليه غيرها فلا يبالي بشوبه ولهم في الردة أنها مضرة محضة بخلاف الإسلام على أصل أبي يوسف رحمه الله لأنه تعلق به أعلى المنافع على ما مر ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فيها أنها موجودة حقيقة ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له ولا يقتل لأنه عقوبة والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم وهذا في الصبي الذي يعقل ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده لأن إقراره لا يدل على تغير العقيدة وكذا المجنون والسكران الذي لا يعقل والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 باب البغاة " وإذا تغلب قوم من المسلمين على بلد وخرجوا من طاعة الإمام دعاهم إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم " لأن عليا رضي الله عنه فعل كذلك بأهل حروراء قبل قتالهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 ولأنه أهون الأمرين ولعل الشر يندفع به فيبدأ به " ولا يبدأ بقتال حتى يبدءوه فإن بدءوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم " قال العبد الضعيف هكذا ذكره القدوري رحمه الله في مختصره وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله أن عندنا يجوز أن يبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز حتى يبدءوا بالقتال حقيقة لأنه لا يجوز قتل المسلم إلا دفعا وهم مسلمون بخلاف الكافر لأن نفس الكفر مبيح عنده ولنا أن الحكم يدار على الدليل وهو الاجتماع والامتناع وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع فيدار على الدليل ضرورة دفع شرهم وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الإمكان والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله من لزوم البيت محمول على حال عدم الإمام أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب عند الغناء والقدرة " فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم وأتبع موليهم " دفعا لشرهم كيلا يلتحقوا بهم " وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم " لاندفاع الشر دونه وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز ذلك في الحالين لأن القتال إذا تركوه لم يبق قتلهم دفعا وجوابه ما ذكرناه أن المعتبر دليله لا حقيقته " ولا يسبى لهم ذرية ولا يقسم لهم مال " لقول علي رضي الله عنه يوم الجمل ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال وهو القدرة في هذا الباب وقوله في الأسير تأويله إذا لم يكن لهم فئة فإن كانت يقتل الإمام الأسير وإن شاء حبسه لما ذكرنا ولأنهم مسلمون والإسلام يعصم النفس والمال. " ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه " وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز والكراع على هذا الخلاف له أنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به إلا برضاه ولنا أن عليا رضي الله عنه قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك ولأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة ففي مال الباغي أولى والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى لدفع الأعلى. " ويحبس الإمام أموالهم فلا يردها عليهم ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم " أما عدم القسمة فلما بيناه وأما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم ولهذا يحبسها عنهم وإن كان لا يحتاج إليها إلا أنه يبيع الكراع لأن حبس الثمن أنظر وأيسر وأما الرد بعد التوبة فلاندفاع الضرورة ولا استغنام فيها. قال: " وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانيا " لأن ولاية الأخذ له باعتبار الحماية ولم يحمهم " فإن كانوا صرفوه في حقه أجزأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 من أخذ منه " لوصول الحق إلى مستحقه " وإن لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى أهله فيما بينهم وبين الله تعالى أن يعيدوا ذلك " لأنه لم يصل إلى مستحقه. قال العبد الضعيف رحمه الله قالوا الإعادة عليهم في الخراج لأنهم مقاتلة فكانوا مصارف وإن كانوا أغنياء وفي العشر إن كانوا فقراء فكذلك لأنه حق الفقراء وقد بيناه في الزكاة وفي المستقبل يأخذه الإمام لأنه يحميهم فيه لظهور ولايته. " ومن قتل رجلا وهما من عسكر أهل البغي ثم ظهر عليهم فليس عليهم شيء " لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل فلم ينعقد موجبا كالقتل في دار الحرب " وإن غلبوا على مصر فقتل رجل من أهل المصر رجلا من أهل المصر عمدا ثم ظهر على المصر فإنه يقتص منه " وتأويله: إذا لم يجر على أهله أحكامهم وأزعجوا قبل ذلك وفي ذلك لم تنقطع ولاية الإمام فيجب القصاص. " وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه فإن قتله الباغي وقال قد كنت على حق وأنا الآن على حق ورثه وإن قال قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله " وقال أبو يوسف رحمه الله لا يرث الباغي في الوجهين وهو قول الشافعي رحمه الله وأصله أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم. وقال الشافعي رحمه الله في القديم: إنه يجب وعلى هذا الخلاف إذا تاب المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا له أنه أتلف مالا معصوما أو قتل نفسا معصومة فيجب الضمان اعتبارا بما قبل المنعة ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم رواه الزهري رحمه الله ولأنه أتلف عن تأويل فاسد والفاسد منه ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم وهذا لأن الأحكام لا بد فيها من الإلزام أو الإلتزام ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل ولا إلزام لعدم الولاية لوجود المنعة والولاية باقية قبل المنعة وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقادا بخلاف الإثم لأنه لا منعة في حق الشارع إذا ثبت هذا فنقول قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث ولأبي يوسف رحمه الله في قتل الباغي العادل أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع والحاجة ههنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبرا في حق الإرث ولهما فيه أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضا إذ القرابة سبب الإرث فيعتبر الفاسد فيه إلا أن من شرطه بقاءه على ديانته فإذا قال كنت على الباطل لم يوجد الدافع فوجب الضمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 قال: " ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم " لأنه إعانة على المعصية " وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس " لأن الغلبة من الأمصار لأهل الصلاح وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع مالا يقاتل به إلا بصنعة ألا ترى أنه يكره بيع المعازف ولا يكره بيع الخشب وعلى هذا الخمر مع العنب والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 كتاب اللقيط اللقيط سمي به باعتبار مآله لما أنه يلقط والالتقاط مندوب إليه لما فيه من إحيائه وإن غلب على ظنه ضياعه فواجب. قال: " اللقيط حر " لأن الأصل في بني آدم إنما هو الحرية وكذا الدار دار الأحرار ولأن الحكم للغالب " ونفقته في بيت المال " هو المروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما ولأنه مسلم عاجز عن التكسب ولا مال له ولا قرابة فأشبه المقعد الذي لا مال له ولا قرابة ولأن ميراثه لبيت المال والخراج بالضمان ولهذا كانت جنايته فيه والملتقط متبرع في الإنفاق عليه لعدم الولاية إلا أن يأمره القاضي به ليكون دينا عليه لعموم الولاية. قال: " فإن التقطه رجل لم يكن لغيره أن يأخذه منه " لأنه ثبت حق الحفظ له لسبق يده " فإن ادعى مدع أنه ابنه فالقول قوله " معناه إذا لم يدع الملتقط نسبه وهذا استحسان والقياس أن لا يقبل قوله لأنه يتضمن إبطال حق الملتقط وجه الاستحسان أنه إقرار للصبي بما ينفعه لأنه يتشرف بالنسب ويعير بعدمه ثم قيل يصح في حقه دون إبطال يد الملتقط وقيل يبتنى عليه بطلان يده ولو ادعاه الملتقط قيل يصح قياسا واستحسانا والأصح أنه على القياس والاستحسان وقد عرف في الأصل " وإن ادعاه اثنان ووصف أحدهما علامة في جسده فهو أولى به " لأن الظاهر شاهد له لموافقة العلامة كلامه وإن لم يصف أحدهما علامة فهو ابنهما لاستوائهما في السبب ولو سبقت دعوة أحدهما فهو ابنه لأنه ثبت حقه في زمان لا منازع له فيه إلا إذا أقام الآخر البينة لأن البينة أقوى. " وإذا وجد في مصر من أمصار المسلمين أو في قرية من قراهم فادعى ذمي أنه ابنه ثبت نسبه منه وكان مسلما " وهذا استحسان لأن دعواه تضمن النسب وهو نافع للصغير وإبطال الإسلام ثابت بالدار وهو يضره فصحت دعوته فيما ينفعه دون ما يضره " وإن وجد في قرية من قرى أهل الذمة أو في بيعة أو كنيسة كان ذميا " وهذا الجواب فيما إذا كان الواجد ذميا رواية واحدة وإن كان الواجد مسلما في هذا المكان أو ذميا في مكان المسلمين اختلفت الرواية فيه ففي رواية كتاب اللقيط اعتبر المكان لسبقه وفي كتاب الدعوى في بعض النسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 اعتبر الواجد وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله لقوة اليد ألا ترى أن تبعية الأبوين فوق تبعية الدار حتى إذا سبي مع الصغير أحدهما يعتبر كافرا وفي بعض نسخه اعتبر الإسلام نظرا للصغير. " ومن ادعى أن اللقيط عبده لم يقبل منه" لأنه حر ظاهرا إلا أن يقيم البينة أنه عبده "فإن ادعى عبد أنه ابنه ثبت نسبه منه " لأنه ينفعه " وكان حرا " لأن المملوك قد تلد له الحرة فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك. " والحر في دعوته اللقيط أولى من العبد والمسلم أولى من الذمي " ترجيحا لما هو الأنظر في حقه " وإن وجد مع اللقيط مال مشدود عليه فهو له " اعتبارا للظاهر وكذا إذا كان مشدودا على دابة وهو عليها لما ذكرنا ثم يصرفه الواجد إليه بأمر القاضي لأنه مال ضائع وللقاضي ولاية صرف مثله إليه وقيل يصرفه بغير أمر القاضي لأنه للقيط ظاهرا " وله ولاية الإنفاق وشراء مالا بد له منه " كالطعام والكسوة لأنه من الإنفاق. " ولا يجوز تزويج الملتقط " لانعدام سبب الولاية من القرابة والملك والسلطنة. قال " ولا تصرفه في مال الملتقط " اعتبارا بالأم وهذا لأن ولاية التصرف لتثمير المال وذلك يتحقق بالرأي الكامل والشفقة الوافرة والموجود في كل واحد منهما أحدهما. قال: " ويجوز أن يقبض له الهبة " لأنه نفع محض ولهذا يملكه الصغير بنفسه إذا كان عاقلا وتملكه الأم ووصيها. قال: " ويسلمه في صناعة " لأنه من باب تثقيفه وحفظ حاله قال: " ويؤاجره " قال العبد الضعيف: وهذا رواية القدوري في مختصره. وفي الجامع الصغير لا يجوز أن يؤاجره ذكره في الكراهية وهو الأصح وجه الأول أنه يرجع إلى تثقيفه ووجه الثاني أنه لا يملك إتلاف منافعه فأشبه العم بخلاف الأم لأنها تملكه على ما نذكره في الكراهية إن شاء الله تعالى والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 كتاب اللقطة قال: " اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها " لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا بل هو الأفضل عند عامة العلماء وهو الواجب إذا خاف الضياع على ما قالوا وإذا كان كذلك لا تكون مضمونة عليه وكذلك إذا تصادقا أنه أخذها للمالك لأن تصادقهما حجة في حقهما فصار كالبينة ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه وبغير إذن الشرع وإن لم يشهد الشهود عليه وقال الآخذ أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يضمن والقول قوله لأن الظاهر شاهد له لاختياره الحسبة دون المعصية ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ لمالكه وفيه وقع الشك فلا يبرأ وما ذكر من الظاهر يعارضه مثله لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملا لنفسه ويكفيه في الإشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي واحدة كانت اللقطة أو أكثر لأنه اسم جنس قال " فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا ". قال العبد الضعيف وهذه رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقوله أياما معناه على حسب ما يرى وقدره محمد رحمه الله في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله لقوله عليه الصلاة والسلام " من التقط شيئا فليعرفه سنة من غير فصل " وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة وتعلق استحلال الفرج به وليست في معناها في حق تعلق الزكاة فأوجبنا التعريف بالحول احتياطا وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما ففوضنا إلى رأي المبتلى به وقيل الصحيح أن شيئا من هذه المقادير ليس بلازم ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 كالنواة وقشور الرمان يكون إلقاؤه إباحة حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف ولكنه مبقى على ملك مالكه لأن التمليك من المجهول لا يصح. قال: " فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها " إيصالا للحق إلى المستحق وهو واجب بقدر الإمكان وذلك بإيصال عينها عند الظفر بصاحبها وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازة التصدق بها وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها. قال: " فإن جاء صاحبها " يعني بعد ما تصدق بها " فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة " وله ثواها لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه فتيوقف على إجازته والملك يثبت للفقير قبل الإجازة فلا يتوقف على قيام المحل بخلاف بيع الفضولي لثبوته بعد الإجازة فيه " وإن شاء ضمن الملتقط " لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه إلا أنه بإباحة من جهة الشرع وهذا لا ينافي الضمان حقا للعبد كما في تناول مال الغير حالة المخمصة وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه وإن كان قائما أخذه لأنه وجد عين ماله. قال: " ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير " وقال مالك والشافعي رحمهما الله إذا وجد البعير والبقر في الصحراء فالترك أفضل وعلى هذا الخلاف الفرس لهما أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع وإذا كان معها ما تدفع عن نفسها يقل الضياع ولكنه يتوهم فيقضي بالكراهة والندب إلى الترك ولنا أنها لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة " فإن أنفق الملتقط عليها بغير إذن الحاكم فهو متبرع " لقصور ولايته عن ذمة المالك وإن أنفق بأمره كان ذلك دينا على صاحبها لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرا له وقد يكون النظر في الإنفاق على ما نبين. " وإذا رفع ذلك إلى الحاكم نظر فيه فإن كان للبهيمة منفعة آجرها وأنفق عليها من أجرتها " لأن فيه إبقاء العين على ملكه من غير إلزام الدين عليه وكذلك يفعل بالعبد الآبق " وإن لم تكن لها منفعة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر بحفظ ثمنها " إبقاء له معنى عند تعذر إبقائه صورة " وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك وجعل النفقة دينا على مالكها " لأنه نصب ناظرا وفي هذا نظر من الجانبين قالوا إنما يأمر بالإنفاق يومين أو ثلاثة أيام على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لأن دارة النفقة مستأصلة فلا نظر في الإنفاق مدة مديدة. قال رضي الله عنه: وفي الأصل شرط إقامة البينة وهو الصحيح لأنه يحتمل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 يكون غصبا في يده فلا يأمر فيه بالإنفاف وإنما يأمر به في الوديعة فلا بد من البينة لكشف الحال وليست البينة تقام للقضاء وإن قال لا بينة لي يقول القاضي له أنفق عليه إن كنت صادقا فيما قلت حتى ترجع على المالك إن كان صادقا ولا يرجع إن كان غاصبا وقوله في الكتاب وجعل النفقة دينا على صاحبها إشارة إلى أنه إنما يرجع على المالك بعد ما حضر ولم تبع اللقطة إذا شرط القاضي الرجوع على المالك وهذه رواية وهو الأصح. قال: " وإذا حضر " يعني " المالك فللملتقط أن يمنعها منه حتى يحضر النفقة " لأنه حي بنفقته فصار كأنه استفاد الملك من جهته فأشبه المبيع وأقرب من ذلك راد الآبق فإن له الحبس لاستيفاء الجعل لما ذكرنا ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه في يد الملتقط قبل الحبس ويسقط إذا هلك بعد الحبس لأنه يصير بالحبس شبيه الرهن. قال: " ولقطة الحل والحرم سواء " وقال الشافعي يجب التعريف في لقطة الحرم إلى أن يجيء صاحبها لقوله عليه الصلاة والسلام في الحرم " ولا يحل لقطتها إلا لمنشد " ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة " من غير فصل ولأنها لقطة وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه فيملكه كما في سائرها وتأويل ما روي أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف والتخصيص بالحرم لبيان أنه لا يسقط التعريف فيه لمكان أنه للغرباء ظاهرا. قال: " وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم ندفع إليه حتى يقيم البينة فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه ولا يجبر على ذلك في القضاء " وقال مالك والشافعي يجبر والعلامة مثل أن يسمي وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها لهما أن صاحب اليد ينازعه في اليد ولا ينازعه في الملك فيشترط الوصف لوجود المنازعة من وجه ولا تشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه ولنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بحجة وهو البينة اعتبارا بالملك إلا أنه يحل له الدفع عند إصابة العلامة لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه " وهذا للإباحة عملا بالمشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام " البينة على المدعي " الحديث ويأخذ منه كفيلا إذا كان يدفعها إليه استيثاقا وهذا بلا خلاف لأنه يأخذ الكفيل لنفسه بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده وإذا صدق قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه وقيل يجبر لأن المالك ههنا غير ظاهر والمودع مالك ظاهر. " ولا يتصدق باللقطة على غني " لأن المأمور به هو التصدق لقوله عليه الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 والسلام: " فإن لم يأت " يعني صاحبها " فليتصدق به " والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة " وإن كان الملتقط غنيا لم يجز له أن ينتفع بها " وقال الشافعي رحمه الله يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي رضي الله عنه " فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها " وكان من المياسير ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه ولنا أنه مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص والإباحة للفقير لما رويناه أو بالإجماع فيبقى ما وراءه على الأصلي والغني محمول على الأخذ لاحتمال افتقاره في مدة التعريف والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها وانتفاع أبي رضي الله عنه كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه " وإن كان الملتقط فقيرا فلا بأس بأن ينتفع بها " لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين ولهذا جاز الدفع إلى فقير غيره " وكذا إذا كان الفقير أباه أو ابنه أو زوجته وإن كان هو غنيا " لما ذكرنا والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 كتاب الإباق " الآبق أخذه أفضل في حق من يقوى عليه " لما فيه من إحيائه وأما الضال فقد قيل كذلك وقد قيل تركه أفضل لأنه لا يبرح مكانه فيجده المالك ولا كذلك الآبق ثم آخذ الآبق يأتي به إلى السلطان لأنه لا يقدر على حفظه بنفسه بخلاف اللقطة ثم إذا رفع الآبق إليه يحبسه ولو رفع الضال لا يحبسه لأنه لا يؤمن على الآبق الإباق ثانيا بخلاف الضال. قال: " ومن رد آبقا على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا فله عليه جعله أربعون درهما وإن رده لأقل من ذلك فبحسابه " وهذا استحسان والقياس أن لا يكون له شيء إلا بالشرط وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه متبرع بمنافعه فأشبه العبد الضال. ولنا أن الصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على وجوب أصل الجعل إلا أن منهم من أوجب أربعين ومنه من أوجب ما دونها فأوجبنا الأربعين في مسيرة السفر وما دونها فيما دونه توفيقا وتلفيقا بينهما ولأن إيجاب الجعل أصله حامل على الرد إذ الحسبة نادرة فتحصل صيانة أموال الناس والتقدير بالسمع ولا سمع في الضال فامتنع ولأن الحاجة إلى صيانة الضال دونها إلى صيانة الآبق لأنه لا يتوارى والآبق يختفي ويقدر الرضخ في الرد عما دون السفر باصطلاحهما أو يفوض إلى رأي القاضي وقيل تقسم الأربعون على الأيام الثلاثة إذ هي أقل مدة السفر. قال: " وإن كانت قيمته أقل من أربعين يقضى له بقيمته إلا درهما " قال رضي الله عنه وهذا قول محمد رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله له أربعون درهما لأن التقدير بها ثبت بالنص فلا ينقص عنها ولهذا لا يجوز الصلح على الزيادة بخلاف الصلح على الأقل لأنه حط منه ولمحمد رحمه الله أن المقصود حمل الغير على الرد ليحيا مال المالك فينقص درهم ليسلم له شيء تحقيقا للفائدة وأم الولد والمدبر في هذا بمنزلة القن إذا كان الرد في حياة المولى لما فيه من إحياء ملكه ولو رد بعد مماته لا جعل فيهما لأنهما يعتقان بالموت بخلاف القن ولو كان الراد أبا المولى أو ابنه وهو في عياله أو أحد الزوجين على الآخر فلا جعل لأن هؤلاء يتبرعون بالرد عادة ولا يتناولهم إطلاق الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 قال: " وإن أبق من الذي رده فلا شيء عليه " لأنه أمانة في يده لكن هذا إذا أشهد وقد ذكرناه في اللقطة. قال رضي الله عنه: وذكر في بعض النسخ أنه لا شيء له وهو صحيح أيضا لأنه في معنى البائع من المالك ولهذا كان له أن يحبس الآبق حتى يستوفي الجعل بمنزلة البائع يحبس المبيع لاستيفاء الثمن وكذا إذا مات في يده لا شيء عليه لما قلنا. قال: " ولو أعتقه المولى كما لقيه صار قابضا بالإعتاق " كما في العبد المشترى وكذا إذا باعه من الراد لسلامة البدل له والرد وإن كان له حكم البيع لكنه بيع من وجه فلا يدخل تحت النهي الوارد عن بيع مالم يقبض فجاز. قال: " وينبغي إذا أخذه أن يشهد أنه يأخذه ليرده " فالإشهاد حتم فيه عليه على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى لو رده من لم يشهد وقت الأخذ لا جعل له عندهما لأن ترك الإشهاد أمارة أنه أخذه لنفسه وصار كما إذا اشتراه من الآخذ أو أتهبه أو ورثه فرده على مولاه لا جعل له لأنه رده لنفسه إلا إذا أشهد أنه اشتراه ليرده فيكون له الجعل وهو متبرع في أداء الثمن " وإن كان الآبق رهنا فالجعل على المرتهن " لأنه أحيا ماليته بالرد وهي حقه إذ الاستيفاء منها والجعل بمقابلة إحياء المالية فيكون عليه والرد في حياة الراهن وبعده سواء لأن الرهن لا يبطل بالموت وهذا إذا كانت قيمته مثل الدين أو أقل منه فإن كانت أكثر فبقدر الدين عليه والباقي على الراهن لأن حقه بالقدر المضمون فصار كثمن الدواء وتخليصه عن الجناية بالفداء وإن كان مديونا فعلى المولى إن اختار قضاء الدين وإن بيع بدئ بالجعل والباقي للغرماء لأنه مؤنة الملك والملك فيه كالموقوف فتجب على من يستقر له وإن كان جانيا فعلى المولى إن اختار الفداء لعود المنفعة إليه وعلى الأولياء إن اختار الدفع لعودها إليهم وإن كان موهوبا فعلى الموهوب له وإن رجع الواهب في هبته بعد الرد لأن المنفعة للواهب ما حصلت بالرد بل بترك الموهوب له التصرف فيه بعد الرد وإن كان لصبي فالجعل في ماله لأنه مؤنة ملكه وإن رده وصيه فلا جعل له لأنه هو الذي يتولى الرد فيه والله أعلم بالصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 كتاب المفقود " إذا غاب الرجل فلم يعرف له موضع ولا يعلم أحي هو أم ميت نصب القاضي من يحفظ ماله ويقوم عليه ويستوفي حقه " لأن القاضي نصب ناظرا لكل عاجز عن النظر لنفسه والمفقود بهذه الصفة وصار كالصبي والمجنون وفي نصب الحافظ لماله والقائم عليه نظر له وقوله يستوفي حقه لإخفاء أنه يقبض غلاته والدين الذي أقر به غريم من غرمائه لأنه من باب الحفظ ويخاصم في دين وجب بعقده لأنه أصيل في حقوقه ولا يخاصم في الذي تولاه المفقود ولا في نصيب له في عقار أو عروض في يد رجل لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه إنما هو وكيل بالقبض من جهة القاضي وأنه لا يملك الخصومة بلا خلاف إنما الخلاف في الوكيل بالقبض من جهة المالك في الدين وإذا كان كذلك يتضمن الحكم به قضاء على الغائب وأنه لا يجوز إلا إذا رآه القاضي وقضى به لأنه مجتهد فيه ثم ما كان يخاف عليه الفساد يبيعه القاضي لأنه تعذر عليه حفظ صورته ومعناه فينظر له بحفظ المعنى. " ولا يبيع مالا يخاف عليه الفساد في نفقة ولا غيرها " لأنه لا ولاية له على الغائب إلا في حفظ ماله فلا يسوغ له ترك حفظ الصورة وهو ممكن. قال: " وينفق على زوجته وأولاده من ماله " وليس هذا الحكم مقصورا على الأولاد بل يعم جميع قرابة الأولاد والأصل أن كل من يستحق النفقة في ماله حال حضرته بغير قضاء القاضي ينفق عليه من ماله عند غيبته لأن القضاء حينئذ يكون إعانة وكل من لا يستحقها في حضرته إلا بالقضاء لا ينفق عليه من ماله في غيبته لأن النفقة حينئذ تجب بالقضاء والقضاء على الغائب ممتنع فمن الأول الأولاد الصغار والإناث من الكبار والزمنى من الذكور الكبار ومن الثاني الأخ والأخت والخال والخالة. وقوله: من ماله مراده الدراهم والدنانير لأن حقهم في المطعوم والملبوس فإذا لم يكن ذلك في ماله يحتاج إلى القضاء بالقيمة وهي النقدان والتبر بمنزلتهما في هذا الحكم لأنه يصلح قيمة كالمضروب وهذا إذا كانت في يد القاضي فإن كانت وديعة أو دينا ينفق عليهم منهما إذا كان المودع والمديون مقرين بالدين والوديعة والنكاح والنسب وهذا إذا لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 يكونا ظاهرين عند القاضي فإن كانا ظاهرين فلا حاجة إلى الإقرار وإن كان أحدهما ظاهر الوديعة والدين أو النكاح والنسب يشترط الإقرار بما ليس بظاهر هذا هو الصحيح فإن دفع المودع بنفسه أو من عليه الدين بغير أمر القاضي يضمن المودع ولا يبرأ المديون لأنه ما أدى إلى صاحب الحق ولا إلى نائبه بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي لأن القاضي نائب عنه وإن كان المودع والمديون جاحدين أصلا أو كانا جاحدين الزوجية والنسب لم ينتصب أحد من مستحقي النفقة خصما في ذلك لأن ما يدعيه للغائب لم يتعين سببا لثبوت حقه وهو النفقة لأنها كما تجب في هذا المال تجب في مال آخر للمفقود. قال: " ولا يفرق بينه وبين امرأته " وقال مالك إذا مضى أربع سنين يفرق القاضي بينه وبين امرأته وتعتد عدة الوفاة ثم تتزوج من شاءت لأن عمر رضي الله عنه هكذا قضى في الذي استهواه الجن بالمدينة وكفى به إماما ولأنه منع حقها بالغيبة فيفرق القاضي بينهما بعد مضي مدة اعتبارا بالإيلاء والعنة وبعد هذا الاعتبار أخذ المقدار منهما الأربع من الإيلاء والسنين من العنة عملا بالشبهين ولنا قوله صلى الله عليه وسلم في امرأة المفقود: " إنها امرأته حتى يأتيها البيان " وقول علي رضي الله عنه فيها هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق خرج بيانا للبيان المذكور في المرفوع ولأن النكاح عرف ثبوته والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حيز الاحتمال فلا يزال النكاح بالشك وعمر رضي الله عنه رجع إلى قول علي رضي الله عنه ولا معتبر بالإيلاء لأنه كان طلاقا معجلا فاعتبر في الشرع مؤجلا فكان موجبا للفرقة ولا بالعنة لأن الغيبة تعقب العودة والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة. قال: " وإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته " قال رضي الله عنه: وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الأقران وفي المروي عن أبي يوسف بمائة سنة وقدره بعضهم بتسعين والأقيس أن لا يقدر بشيء والأرفق أن يقدر بتسعين وإذا حكم بموته اعتدت امرأته عدة الوفاة من ذلك الوقت " ويقسم ماله بين ورثته الموجودين في ذلك الوقت " كأنه مات في ذلك الوقت معاينة إذ الحكمي معتبر بالحقيقي " ومن مات قبل ذلك لم يرث منه " لأنه لم يحكم بموته فيها فصار كما إذا كانت حياته معلومة " ولا يرث المفقود أحدا مات في حال فقده " لأن بقاءه حيا في ذلك الوقت باستصحاب الحال وهو لا يصلح حجة في الاستحقاق " وكذلك لو أوصى المفقود ومات الموصي " ثم الأصل أنه لو كان مع المفقود وارث لا يحجب به ولكنه ينتقص حقه به يعطي أقل النصيبين ويوقف الباقي وإن كان معه وارث يحجب به لا يعطى أصلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 بيانه: رجل مات عن ابنتين وابن مفقود وابن ابن وبنت ابن والمال في يد الأجنبي وتصادقوا على فقد الابن وطلبت الابنتان الميراث تعطيان النصف لأنه متيقن به ويوقف النصف الآخر ولا يعطى ولد الابن لأنهم يحجبون بالمفقود ولو كان حيا فلا يستحقون الميراث بالشك " ولا ينزع من يد الأجنبي إلا إذا ظهرت منه خيانة " ونظير هذا الحمل فإنه يوقف له ميراث ابن واحد على ما عليه الفتوى ولو كان معه وارث آخر إن كان لا يسقط بحال ولا يتغير بالحمل يعطى كل نصيبه وإن كان ممن يسقط بالحمل لا يعطى وإن كان ممن يتغير به يعطى الأقل للتيقن به كما في المفقود وقد شرحناه في كفاية المنتهى بأتم من هذا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث وأوله كتاب الشركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 المجلد الثالث كتاب الشركة ضروب الشركة مدخل ... من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "حديث شريف" بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشركة "الشركة جائزة" لأنه صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتعاملون بها فقررهم عليه. قال: "الشركة ضربان: شركة أملاك، وشركة عقود. فشركة الأملاك: العين يرثها رجلان أو يشتريانها فلا يجوز لأحدهما أن يتصرف في نصيب الآخر إلا بإذنه، وكل منهما في نصيب صاحبه كالأجنبي" وهذه الشركة تتحقق في غير المذكور في الكتاب كما إذا اتهب رجلان عينا أو ملكاها بالاستيلاء أو اختلط مالهما من غير صنع أحدهما أو بخلطهما خلطا يمنع التمييز رأسا أو إلا بحرج، ويجوز بيع أحدهما نصيبه من شريكه في جميع الصور ومن غير شريكه بغير إذنه إلا في صورة الخلط والاختلاط فإنه لا يجوز إلا بإذنه، وقد بينا الفرق في كفاية المنتهى. "والضرب الثاني: شركة العقود، وركنها الإيجاب والقبول، وهو أن يقول أحدهما شاركتك في كذا وكذا ويقول الآخر قبلت" وشرطه: أن يكون التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلا للوكالة ليكون ما يستفاد بالتصرف مشتركا بينهما فيتحقق حكمه المطلوب منه "ثم هي أربعة أوجه: مفاوضة، وعنان، وشركة الصنائع، وشركة الوجوه. فأما شركة المفاوضة فهي أن يشترك الرجلان فيتساويان في مالهما وتصرفهما ودينهما" لأنها شركة عامة في جميع التجارات يفوض كل واحد منهما أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق إذ هي من المساواة، قال قائلهم: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا أي متساويين. فلا بد من تحقيق المساواة ابتداء وانتهاء وذلك في المال، والمراد به ما تصح الشركة فيه، ولا يعتبر التفاضل فيما لا يصح الشركة فيه، وكذا في التصرف، لأنه لو ملك أحدهما تصرفا لا يملك الآخر لفات التساوي، وكذلك في الدين لما نبين إن شاء الله تعالى، وهذه الشركة جائزة عندنا استحسانا. وفي القياس لا تجوز، وهو قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الشافعي. وقال مالك: لا أعرف ما المفاوضة. وجه القياس أنها تضمنت الوكالة بمجهول الجنس والكفالة بمجهول، وكل ذلك بانفراده فاسد. وجه الاستحسان قوله صلى الله عليه وسلم "فاوضوا فإنه أعظم للبركة" وكذا الناس يعاملونها من غير نكير وبه يترك القياس والجهالة متحملة تبعا كما في المضاربة "ولا تنعقد إلا بلفظة المفاوضة" لبعد شرائطها عن علم العوام، حتى لو بينا جميع ما تقتضيه تجوز لأن المعتبر هو المعنى. قال: "فتجوز بين الحرين الكبيرين مسلمين أو ذميين لتحقق التساوي، وإن كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا تجوز أيضا" لما قلنا "ولا تجوز بين الحر والمملوك ولا بين الصبي والبالغ" لانعدام المساواة، لأن الحر البالغ يملك التصرف والكفالة، والمملوك لا يملك واحدا منهما إلا بإذن المولى، والصبي لا يملك الكفالة ولا يملك التصرف إلا بإذن الولي. قال: "ولا بين المسلم والكافر" وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يجوز للتساوي بينهما في الوكالة والكفالة، ولا معتبر بزيادة تصرف يملكه أحدهما كالمفاوضة بين الشفعوي والحنفي فإنها جائزة. ويتفاوتان في التصرف في متروك التسمية، إلا أنه يكره لأن الذمي لا يهتدي إلى الجائز من العقود. ولهما أنه لا تساوي في التصرف، فإن الذمي لو اشترى برأس المال خمورا أو خنازير صح، ولو اشتراها مسلم لا يصح "ولا يجوز بين العبدين ولا بين الصبيين ولا بين المكاتبين" لانعدام صحة الكفالة، وفي كل موضع لم تصح المفاوضة لفقد شرطها، ولا يشترط ذلك في العنان كان عنانا لاستجماع شرائط العنان، إذ هو قد يكون خاصا وقد يكون عاما. قال: "وتنعقد على الوكالة والكفالة" أما الوكالة فلتحقق المقصود وهو الشركة في المال على ما بيناه، وأما الكفالة: فلتحقق المساواة فيما هو من مواجب التجارات وهو توجه المطالبة نحوهما جميعا. قال: "وما يشتريه كل واحد منهما يكون على الشركة إلا طعام أهله وكسوتهم" وكذا كسوته، وكذا الإدام لأن مقتضى العقد المساواة، وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في التصرف، وكان شراء أحدهما كشرائهما، إلا ما استثناه في الكتاب، وهو استحسان لأنه مستثنى عن المفاوضة للضرورة، فإن الحاجة الراتبة معلومة الوقوع، ولا يمكن إيجابه على صاحبه ولا التصرف من ماله، ولا بد من الشراء فيختص به ضرورة. والقياس أن يكون على الشركة لما بينا "وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء" المشتري بالأصالة وصاحبه بالكفالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 ويرجع الكفيل على المشتري بحصته مما أدى لأنه قضى دينا عليه من مال مشترك بينهما. قال "وما يلزم كل واحد منهما من الديون بدلا عما يصح فيه الاشتراك فالآخر ضامن له" تحقيقا للمساواة، فمما يصح الاشتراك فيه الشراء والبيع والاستئجار، ومن القسم الآخر الجناية والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد وعن النفقة. قال "ولو كفل أحدهما بمال عن أجنبي لزم صاحبه عند أبي حنيفة، وقالا: لا يلزمه" لأنه تبرع، ولهذا لا يصح من الصبي والعبد المأذون والمكاتب، ولو صدر من المريض يصح من الثلث وصار كالإقراض والكفالة بالنفس. ولأبي حنيفة أنه تبرع ابتداء ومعاوضة بقاء لأنه يستوجب الضمان بما يؤدي على المكفول عنه إذا كانت الكفالة بأمره، فبالنظر إلى البقاء تتضمنه المفاوضة، وبالنظر إلى الابتداء لم تصح ممن ذكره وتصح من الثلث من المريض، بخلاف الكفالة بالنفس لأنها تبرع ابتداء وانتهاء. وأما الإقراض فعن أبي حنيفة أنه يلزم صاحبه، ولو سلم فهو إعارة فيكون لمثلها حكم عينها لا حكم البدل حتى لا يصح فيه الأجل فلا يتحقق معاوضة، ولو كانت الكفالة بغير أمره لم تلزم صاحبه في الصحيح لانعدام معنى المفاوضة. ومطلق الجواب في الكتاب محمول على المقيد، وضمان الغصب والاستهلاك بمنزلة الكفالة عند أبي حنيفة لأنه معاوضة انتهاء. قال "وإن ورث أحدهما ما لا يصح فيه الشركة أو وهب له ووصل إلى يده بطلت المفاوضة وصارت عنانا" لفوات المساواة فيما يصلح رأس المال إذ هي شرط فيه ابتداء وبقاء، وهذا لأن الآخر لا يشاركه فيما أصابه لانعدام السبب في حقه، إلا أنها تنقلب عنانا للإمكان، فإن المساواة ليست بشرط فيه، ولدوامه حكم الابتداء لكونه غير لازم "وإن ورث أحدهما عرضا فهو له ولا تفسد المفاوضة" وكذا العقار لأنه لا تصح فيه الشركة فلا تشترط المساواة فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 فصل: "ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة" وقال مالك: تجوز بالعروض والمكيل والموزون أيضا إذا كان الجنس واحدا؛ لأنها عقدت على رأس مال معلوم فأشبه النقود، بخلاف المضاربة لأن القياس يأباها لما فيها من ربح ما لم يضمن. فيقتصر على مورد الشرع. ولنا أنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن؛ لأنه إذا باع كل واحد منهما رأس ماله وتفاضل الثمنان فما يستحقه أحدهما من الزيادة في مال صاحبه ربح ما لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 يملك وما لم يضمن، بخلاف الدراهم والدنانير لأن ثمن ما يشتريه في ذمته إذ هي لا تتعين فكان ربح ما يضمن، ولأن أول التصرف في العروض البيع وفي النقود الشراء، وبيع أحدهما ماله على أن يكون الآخر شريكا في ثمنه لا يجوز، وشراء أحدهما شيئا بماله على أن يكون المبيع بينه وبين غيره جائز. وأما الفلوس النافقة فلأنها تروج رواج الأثمان فالتحقت بها. قالوا: هذا قول محمد لأنها ملحقة بالنقود عنده حتى لا تتعين بالتعيين، ولا يجوز بيع اثنين بواحد بأعيانها على ما عرف، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لا تجوز الشركة والمضاربة بها لأن ثمنيتها تتبدل ساعة فساعة وتصير سلعة. وروي عن أبي يوسف مثل قول محمد، والأول أقيس وأظهر، وعن أبي حنيفة صحة المضاربة بها. قال: "ولا تجوز الشركة بما سوى ذلك إلا أن يتعامل الناس بالتبر" والنقرة فتصح الشركة بهما، هكذا ذكر في الكتاب "وفي الجامع الصغير: ولا تكون المفاوضة بمثاقيل ذهب أو فضة" ومراده التبر، فعلى هذه الرواية التبر سلعة تتعين بالتعيين فلا تصلح رأس المال في المضاربات والشركات. وذكر في كتاب الصرف أن النقرة لا تتعين بالتعيين حتى لا ينفسخ العقد بها بهلاكه قبل التسليم، فعلى تلك الرواية تصلح رأس المال فيهما، وهذا لما عرف أنهما خلقا ثمنين في الأصل، إلا أن الأول أصح؛ لأنها وإن خلقت للتجارة في الأصل لكن الثمنية تختص بالضرب المخصوص؛ لأن عند ذلك لا تصرف إلى شيء آخر ظاهرا إلا أن يجري التعامل باستعمالهما ثمنا فنزل التعامل بمنزلة الضرب فيكون ثمنا ويصلح رأس المال. ثم قوله ولا تجوز بما سوى ذلك يتناول المكيل والموزون والعددي المتقارب، ولا خلاف فيه بيننا قبل الخلط، ولكل واحد منهما ربح متاعه وعليه وضيعته، وإن خلطا ثم اشتركا فكذلك في قول أبي يوسف، والشركة شركة ملك لا شركة عقد. وعند محمد تصح شركة العقد. وثمرة الاختلاف تظهر عند التساوي في المالين واشتراط التفاضل في الربح، فظاهر الرواية ما قاله أبو يوسف رحمه الله لأنه يتعين بالتعيين بعد الخلط كما تعين قبله. ولمحمد أنها ثمن من وجه حتى جاز البيع بها دينا في الذمة. ومبيع من حيث إنه يتعين بالتعيين، فعملنا بالشبهين بالإضافة إلى الحالين، بخلاف العروض؛ لأنها ليست ثمنا بحال ولو اختلفا جنسا كالحنطة والشعير والزيت والسمن فخلطا لا تنعقد الشركة بها بالاتفاق. والفرق لمحمد أن المخلوط من جنس واحد من ذوات الأمثال، ومن جنسين من ذوات القيم فتتمكن الجهالة كما في العروض، وإذا لم تصح الشركة فحكم الخلط قد بيناه في كتاب القضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 قال: "وإذا أراد الشركة بالعروض باع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر، ثم عقد الشركة" قال رضي الله عنه: "وهذه الشركة ملك" لما بينا أن العروض لا تصلح رأس مال الشركة، وتأويله إذا كان قيمة متاعهما على السواء، ولو كان بينهما تفاوت يبيع صاحب الأقل بقدر ما تثبت به الشركة. قال: "وأما شركة العنان فتنعقد على الوكالة دون الكفالة، وهي أن يشترك اثنان في نوع بر أو طعام، أو يشتركان في عموم التجارات ولا يذكران الكفالة"، وانعقاده على الوكالة لتحقق مقصوده كما بيناه، ولا تنعقد على الكفالة؛ لأن اللفظ مشتق من الأعراض يقال عن له: أي عرض، وهذا لا ينبئ عن الكفالة وحكم التصرف لا يثبت بخلاف مقتضى اللفظ. "ويصح التفاضل في المال" للحاجة إليه وليس من قضية اللفظ المساواة. "ويصح أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح" وقال زفر والشافعي: لا تجوز لأن التفاضل فيه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن، فإن المال إذا كان نصفين والربح أثلاثا فصاحب الزيادة يستحقها بلا ضمان، إذ الضمان بقدر رأس المال، ولأن الشركة عندهما في الربح للشركة في الأصل، ولهذا يشترطان الخلط، فصار ربح المال بمنزلة نماء الأعيان فيستحق بقدر الملك في الأصل. ولنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين" ولم يفصل، ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كما في المضاربة؛ وقد يكون أحدهما أحذق وأهدى وأكثر عملا وأقوى فلا يرضى بالمساواة فمست الحاجة إلى التفاضل، بخلاف اشتراط جميع الربح لأحدهما لأنه يخرج العقد به من الشركة ومن المضاربة أيضا إلى قرض باشتراطه للعامل أو إلى بضاعة باشتراطه لرب المال، وهذا العقد يشبه المضاربة من حيث إنه يعمل في مال الشريك، ويشبه الشركة اسما وعملا فإنهما يعملان فعملنا بشبه المضاربة. وقلنا: يصح اشتراط الربح من غير ضمان ويشبه الشركة حتى لا تبطل باشتراط العمل عليها. قال: "ويجوز أن يعقدها كل واحد منهما ببعض ماله دون البعض" لأن المساواة في المال ليست بشرط فيه إذ اللفظ لا يقتضيه "ولا يصح إلا بما بينا" أن المفاوضة تصح به للوجه الذي ذكرناه "ويجوز أن يشتركا ومن جهة أحدهما دنانير ومن الآخر دراهم، وكذا من أحدهما دراهم بيض ومن الآخر سود" وقال زفر والشافعي: لا يجوز، وهذا بناء على اشتراط الخلط وعدمه فإن عندهما شرط ولا يتحقق ذلك في مختلفي الجنس، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 قال: "وما اشتراه كل واحد منهما للشركة طولب بثمنه دون الآخر لما بينا" أنه يتضمن الوكالة دون الكفالة، والوكيل هو الأصل في الحقوق. قال: "ثم يرجع على شريكه بحصته منه" معناه إذا أدى من مال نفسه؛ لأنه وكيل من جهته في حصته فإذا نقد من مال نفسه رجع عليه، فإن كان لا يعرف ذلك إلا بقوله فعليه الحجة؛ لأنه يدعي وجوب المال في ذمة الآخر وهو ينكر، والقول للمنكر مع يمينه. قال: "وإذا هلك مال الشركة أو أحد المالين قبل أن يشتريا شيئا بطلت الشركة" لأن المعقود عليه في عقد الشركة المال، فإنه يتعين فيه كما في الهبة والوصية، وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في البيع، بخلاف المضاربة والوكالة المفردة؛ لأنه لا يتعين الثمنان فيهما بالتعيين، وإنما يتعينان بالقبض على ما عرف، وهذا ظاهر فيما إذا هلك المالان، وكذا إذا هلك أحدهما؛ لأنه ما رضي بشركة صاحبه في ماله إلا ليشركه في ماله، فإذا فات ذلك لم يكن راضيا بشركته فيبطل العقد لعدم فائدته، وأيهما هلك هلك من مال صاحبه؛ إن هلك في يده فظاهر، وكذا إذا كان هلك في يد الآخر لأنه أمانة في يده، بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة؛ لأنه لا يتميز فيجعل الهالك من المالين. "وإن اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر قبل الشراء فالمشترى بينهما على ما شرطا" لأن الملك حين وقع وقع مشتركا بينهما لقيام الشركة وقت الشراء فلا يتغير الحكم بهلاك مال الآخر بعد ذلك، ثم الشركة شركة عقد عند محمد خلافا للحسن بن زياد، حتى إن أيهما باع جاز بيعه؛ لأن الشركة قد تمت في المشترى فلا ينتقض بهلاك المال بعد تمامها. قال: "ويرجع على شريكه بحصة من ثمنه" لأنه اشترى نصفه بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه وقد بيناه، هذا إذا اشترى أحدهما بأحد المالين أولا ثم هلك مال الآخر. أما إذا هلك مال أحدهما ثم اشترى الآخر بمال الآخر، إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة فالمشترى مشترك بينهما على ما شرطا؛ لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة فكان مشتركا بحكم الوكالة، ويكون شركة ملك ويرجع على شريكه بحصته من الثمن لما بيناه، وإن ذكرا مجرد الشركة ولم ينصا على الوكالة فيها كان المشترى للذي اشتراه خاصة؛ لأن الوقوع على الشركة حكم الوكالة التي تضمنتها الشركة، فإذا بطلت يبطل ما في ضمنها، بخلاف ما إذا صرح بالوكالة لأنها مقصودة. قال: "وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المال" وقال زفر والشافعي: لا تجوز لأن الربح فرع المال، ولا يقع الفرع على الشركة إلا بعد الشركة في الأصل وأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 بالخلط، وهذا لأن المحل هو المال ولهذا يضاف إليه، ويشترط تعيين رأس المال، بخلاف المضاربة؛ لأنها ليست بشركة، وإنما هو يعمل لرب المال فيستحق الربح عمالة على عمله، أما هنا بخلافه، وهذا أصل كبير لهما حتى يعتبر اتحاد الجنس. ويشترط الخلط ولا يجوز التفاضل في الربح مع التساوي في المال. ولا تجوز شركة التقبل والأعمال لانعدام المال. ولنا أن الشركة في الربح مستندة إلى العقد دون المال؛ لأن العقد يسمى شركة فلا بد من تحقق معنى هذا الاسم فيه فلم يكن الخلط شرطا، ولأن الدراهم والدنانير لا يتعينان فلا يستفاد الربح برأس المال، وإنما يستفاد بالتصرف لأنه في النصف أصيل وفي النصف وكيل. وإذا تحققت الشركة في التصرف بدون الخلط تحققت في المستفاد به وهو الربح بدونه، وصار كالمضاربة فلا يشترط اتحاد الجنس والتساوي في الربح، وتصح شركة التقبل. قال: "ولا تجوز الشركة إذا شرط لأحدهما دراهم مسماة من الربح" لأنه شرط يوجب انقطاع الشركة فعساه لا يخرج إلا قدر المسمى لأحدهما، ونظيره في المزارعة. قال: "ولكل واحد من المتفاوضين وشريكي العنان أن يبضع المال" لأنه معتاد في عقد الشركة، ولأن له أن يستأجر على العمل، والتحصيل بغير عوض دونه فيملكه، وكذا له أن يودعه لأنه معتاد ولا يجد التاجر منه بدا. قال: "ويدفعه مضاربة"؛ لأنها دون الشركة فتتضمنها. وعن أبي حنيفة أنه ليس له ذلك لأنه نوع شركة، والأصح هو الأول، وهو رواية الأصل؛ لأن الشركة غير مقصودة، وإنما المقصود تحصيل الربح كما إذا استأجره بأجر بل أولى؛ لأنه تحصيل بدون ضمان في ذمته، بخلاف الشركة حيث لا يملكها لأن الشيء لا يستتبع مثله. قال: "ويوكل من يتصرف فيه" لأن التوكيل بالبيع والشراء من توابع التجارة والشركة انعقدت للتجارة، بخلاف الوكيل بالشراء حيث لا يملك أن يوكل غيره لأنه عقد خاص طلب منه تحصيل العين فلا يستتبع مثله. قال: "ويده في المال يد أمانة" لأنه قبض المال بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة فصار كالوديعة. قال: "وأما شركة الصنائع" وتسمى شركة التقبل "كالخياطين والصباغين يشتركان على أن يتقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما فيجوز ذلك" وهذا عندنا. وقال زفر والشافعي: لا تجوز لأن هذه شركة لا تفيد مقصودها وهو التثمير؛ لأنه لا بد من رأس المال، وهذا لأن الشركة في الربح تبتنى على الشركة في المال على أصلهما على ما قررناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 ولنا أن المقصود منه التحصيل وهو ممكن بالتوكيل، لأنه لما كان وكيلا في النصف أصيلا في النصف تحققت الشركة في المال المستفاد ولا يشترط فيه اتحاد العمل والمكان خلافا لمالك وزفر فيهما؛ لأن المعنى المجوز للشركة وهو ما ذكرناه لا يتفاوت. "ولو شرطا العمل نصفين والمال أثلاثا جاز" وفي القياس: لا يجوز؛ لأن الضمان بقدر العمل، فالزيادة عليه ربح ما لم يضمن فلم يجز العقد لتأديته إليه، وصار كشركة الوجوه، ولكنا نقول: ما يأخذه لا يأخذه ربحا لأن الربح عند اتحاد الجنس، وقد اختلف لأن رأس المال عمل والربح مال فكان بدل العمل والعمل يتقوم بالتقويم فيتقدر بقدر ما قوم به فلا يحرم، بخلاف شركة الوجوه؛ لأن جنس المال متفق والربح يتحقق في الجنس المتفق، وربح ما لم يضمن لا يجوز إلا في المضاربة. قال: "وما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ويلزم شريكه" حتى إن كل واحد منهما يطالب بالعمل ويطالب بالأجر "ويبرأ الدافع بالدفع إليه" وهذا ظاهر في المفاوضة وفي غيرها استحسان. والقياس خلاف ذلك لأن الشركة وقعت مطلقة والكفالة مقتضى المفاوضة. وجه الاستحسان أن هذه الشركة مقتضية للضمان؛ ألا ترى أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل مضمون على الآخر، ولهذا يستحق الأجر بسبب نفاذ تقبله عليه فجرى مجرى المفاوضة في ضمان العمل واقتضاء البدل. قال: "وأما شركة الوجوه فالرجلان يشتركان ولا مال لهما على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا فتصح الشركة على هذا" سميت به لأنه لا يشتري بالنسيئة إلا من كان له وجاهة عند الناس، وإنما تصح مفاوضة لأنه يمكن تحقيق الكفالة والوكالة في الأبدال، وإذا أطلقت تكون عنانا لأن مطلقه ينصرف إليه وهي جائزة عندنا خلافا للشافعي، والوجه من الجانبين ما قدمناه في شركة التقبل. قال: "وكل واحد منهما وكيل الآخر فيما يشتريه" لأن التصرف على الغير لا يجوز إلا بوكالة أو بولاية ولا ولاية فتتعين الوكالة "فإن شرطا أن المشترى بينهما نصفان والربح كذلك يجوز، ولا يجوز أن يتفاضلا فيه، وإن شرطا أن يكون المشترى بينهما أثلاثا فالربح كذلك"، وهذا لأن الربح لا يستحق إلا بالمال أو العمل أو بالضمان فرب المال يستحقه بالمال، والمضارب يستحقه بالعمل، والأستاذ الذي يلقي العمل على التلميذ بالنصف بالضمان، ولا يستحق بما سواها؛ ألا ترى أن من قال لغيره تصرف في مالك على أن لي ربحه لم يحز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 لعدم هذه المعاني. واستحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان على ما بينا والضمان على قدر الملك في المشترى وكان الربح الزائد عليه ربح ما لم يضمن فلا يصح اشتراطه إلا في المضاربة والوجوه ليست في معناها، بخلاف العنان؛ لأنه في معناها من حيث أن كل واحد منهما يعمل في مال صاحبه فيلحق بها، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 فصل: في الشركة الفاسدة "ولا تجوز الشركة في الاحتطاب والاصطياد، وما اصطاده كل واحد منهما أو احتطبه فهو له دون صاحبه"، وعلى هذا الاشتراك في أخذ كل شيء مباح؛ لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة، والتوكيل في أخذ المال المباح باطل لأن أمر الموكل به غير صحيح، والوكيل يملكه بدون أمره فلا يصلح نائبا عنه، وإنما يثبت الملك لهما بالأخذ وإحراز المباح، فإن أخذاه معا فهو بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق، وإن أخذه أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا فهو للعامل، وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر، أو قلعه وجمعه وحمله الآخر فللمعين أجر المثل بالغا ما بلغ عند محمد. وعند أبي يوسف لا يجاوز به نصف ثمن ذلك، وقد عرف في موضعه. قال: "وإذا اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي عليها الماء فالكسب بينهما لم تصح الشركة، والكسب كله للذي استقى، وعليه أجر مثل الراوية إن كان العامل صاحب البغل، وإن كان صاحب الراوية فعليه أجر مثل البغل" أما فساد الشركة فلانعقادها على إحراز المباح وهو الماء، وأما وجوب الأجر فلأن المباح إذا صار ملكا للمحرز وهو المستقي، وقد استوفى منافع ملك الغير وهو البغل أو الراوية بعقد فاسد فيلزمه أجره "وكل شركة فاسدة فالربح فيهما على قدر المال، ويبطل شرط التفاضل" لأن الربح فيه تابع للمال فيتقدر بقدره، كما أن الريع تابع للبذر في الزراعة، والزيادة إنما تستحق بالتسمية، وقد فسدت فبقي الاستحقاق على قدر رأس المال "وإذا مات أحد الشريكين أو ارتد ولحق بدار الحرب بطلت الشركة" لأنها تتضمن الوكالة، ولا بد منها لتتحقق الشركة على ما مر، والوكالة تبطل بالموت، وكذا بالالتحاق مرتدا إذا قضى القاضي بلحاقه؛ لأنه بمنزلة الموت على ما بيناه من قبل، ولا فرق بين ما إذا علم الشريك بموت صاحبه أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي، وإذا بطلت الوكالة بطلت الشركة، بخلاف ما إذا فسخ أحد الشريكين الشركة ومال الشركة دراهم ودنانير حيث يتوقف على علم الآخر لأنه عزل قصدي، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 فصل: ليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه ... فصل: "وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه" لأنه ليس من جنس التجارة، "فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه أن يؤدي زكاته. فإن أدى كل واحد منهما فالثاني ضامن علم بأداء الأول أو لم يعلم"، وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا يضمن إذا لم يعلم وهذا إذا أديا على التعاقب، أما إذا أديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه. وعلى هذا الاختلاف المأمور بأداء الزكاة إذا تصدق على الفقير بعدما أدى الآمر بنفسه. لهما أنه مأمور بالتمليك من الفقير، وقد أتى به فلا يضمن للموكل، وهذا لأن في وسعه التمليك لا وقوعه زكاة لتعلقه بنية الموكل، وإنما يطلب منه ما في وسعه وصار كالمأمور بذبح دم الإحصار إذا ذبح بعدما زال الإحصار وحج الآمر لم يضمن المأمور علم أو لا. ولأبي حنيفة أنه مأمور بأداء الزكاة والمؤدى لم يقع زكاة فصار مخالفا، وهذا لأن المقصود من الأمر إخراج نفسه عن عهدة الواجب؛ لأن الظاهر أنه لا يلتزم الضرر إلا لدفع الضرر، وهذا المقصود حصل بأدائه وعرى أداء المأمور عنه فصار معزولا علم أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي. وأما دم الإحصار فقد قيل هو على هذا الاختلاف، وقيل بينهما فرق. ووجهه أن الدم ليس بواجب عليه فإنه يمكنه أن يصبر حتى يزول الإحصار. وفي مسألتنا الأداء واجب فاعتبر الإسقاط مقصودا فيه دون دم الإحصار. قال: "وإذا أذن أحد المتفاوضين لصاحبه أن يشتري جارية فيطأها ففعل فهي له بغير شيء عند أبي حنيفة، وقالا: يرجع عليه بنصف الثمن" لأنه أدى دينا عليه خاصة من مال مشترك فيرجع عليه صاحبه بنصيبه كما في شراء الطعام والكسوة "وهذا" لأن الملك واقع له خاصة والثمن بمقابلة الملك. وله أن الجارية دخلت في الشركة على البتات جريا على مقتضى الشركة إذ هما لا يملكان تغييره فأشبه حال عدم الإذن، غير أن الإذن يتضمن هبة نصيبه منه؛ لأن الوطء لا يحل إلا بالملك، ولا وجه إلى إثباته بالبيع لما بينا أنه مخالف مقتضى الشركة فأثبتناه بالهبة الثابتة في ضمن الإذن، بخلاف الطعام والكسوة؛ لأن ذلك مستثنى عنها للضرورة فيقع الملك له خاصة بنفس العقد فكان مؤديا دينا عليه من مال الشركة. وفي مسألتنا قضى دينا عليهما لما بينا "وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء" بالاتفاق لأنه دين وجب بسبب التجارة، والمفاوضة تضمنت الكفالة فصار كالطعام والكسوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 كتاب الوقف شروط الوقف مدخل ... كتاب الوقف قال أبو حنيفة: "لا يزول ملك الواقف عن الوقف إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته فيقول إذا مت فقد وقفت داري على كذا". وقال أبو يوسف "يزول ملكه بمجرد القول. وقال محمد: لا يزول حتى يجعل للوقف وليا ويسلمه إليه". قال رضي الله عنه: الوقف لغة. هو الحبس تقول وقفت الدابة وأوقفتها بمعنى. وهو في الشرع عند أبي حنيفة: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة بمنزلة العارية. ثم قيل المنفعة معدومة فالتصدق بالمعدوم لا يصح، فلا يجوز الوقف أصلا عنده، وهو الملفوظ في الأصل. والأصح أنه جائز عنده إلا أنه غير لازم بمنزلة العارية، وعندهما حبس العين على حكم ملك الله تعالى فيزول ملك الواقف عنه إلى الله تعالى على وجه تعود منفعته إلى العباد فيلزم ولا يباع ولا يوهب ولا يورث. واللفظ ينتظمهما والترجيح بالدليل. لهما قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه حين أراد أن يتصدق بأرض له تدعى ثمغا: "تصدق بأصلها لا يباع ولا يورث ولا يوهب" ولأن الحاجة ماسة إلى أن يلزم الوقف منه ليصل ثوابه إليه على الدوام، وقد أمكن دفع حاجته بإسقاط الملك وجعله لله تعالى. إذ له نظير في الشرع وهو المسجد فيجعل كذلك. ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: "لا حبس عن فرائض الله تعالى" وعن شريح: جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس لأن الملك باق فيه بدليل أنه يجوز الانتفاع به زراعة وسكنى وغير ذلك والملك فيه للواقف؛ ألا ترى أن له ولاية التصرف فيه بصرف غلاته إلى مصارفها ونصب القوام فيها إلا أنه يتصدق بمنافعه فصار شبيه العارية، ولأنه يحتاج إلى التصدق بالغلة دائما ولا تصدق عنه إلا بالبقاء على ملكه، ولأنه لا يمكن أن يزال ملكه، لا إلى مالك لأنه غير مشروع مع بقائه كالسائبة. بخلاف الإعتاق لأنه إتلاف، وبخلاف المسجد لأنه جعل خالصا لله تعالى ولهذا لا يجوز الانتفاع به، وهنا لم ينقطع حق العبد عنه فلم يصر خالصا لله تعالى. قال رضي الله عنه: قال في الكتاب: لا يزول ملك الواقف إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته، وهذا في حكم الحاكم صحيح؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه، أما في تعليقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بالموت فالصحيح أنه لا يزول ملكه إلا أنه تصدق بمنافعه مؤبدا فيصير بمنزلة الوصية بالمنافع مؤبدا فيلزم، والمراد بالحاكم المولى، فأما المحكم ففيه اختلاف المشايخ. ولو وقف في مرض موته قال الطحاوي: هو بمنزلة الوصية بعد الموت. والصحيح أنه لا يلزمه عند أبي حنيفة، وعندهما يلزمه إلا أنه يعتبر من الثلث والوقف في الصحة من جميع المال، وإذا كان الملك يزول عندهما يزول بالقول عند أبي يوسف وهو قول الشافعي بمنزلة الإعتاق لأنه إسقاط الملك. وعند محمد لا بد من التسليم إلى المتولي لأنه حق الله تعالى، وإنما يثبت فيه في ضمن التسليم إلى العبد لأن التمليك من الله تعالى وهو مالك الأشياء لا يتحقق مقصودا، وقد يكون تبعا لغيره فيأخذ حكمه فينزل منزلة الزكاة والصدقة. قال: "وإذا صح الوقف على اختلافهم" وفي بعض النسخ: وإذا استحق مكان قوله إذا صح "خرج من ملك الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليه" لأنه لو دخل في ملك الموقوف عليه لا يتوقف عليه بل ينفذ بيعه كسائر أملاكه، ولأنه لو ملكه لما انتقل عنه بشرط المالك الأول كسائر أملاكه. قال رضي الله عنه: قوله خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما على الوجه الذي سبق تقريره. قال: "ووقف المشاع جائز عند أبي يوسف" لأن القسمة من تمام القبض والقبض عنده ليس بشرط فكذا تتمته. "وقال محمد: لا يجوز" لأن أصل القبض عنده شرط فكذا ما يتم به، وهذا فيما يحتمل القسمة، وأما فيما لا يحتمل القسمة فيجوز مع الشيوع عند محمد أيضا لأنه يعتبر بالهبة والصدقة المنفذة إلا في المسجد والمقبرة، فإنه لا يتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة أيضا عند أبي يوسف، لأن بقاء الشركة يمنع الخلوص لله تعالى، ولأن المهايأة فيهما في غاية القبح بأن يقبر فيه الموتى سنة، ويزرع سنة ويصلى فيه في وقت ويتخذ إصطبلا في وقت، بخلاف الوقف لإمكان الاستغلال وقسمة الغلة. ولو وقفه الكل ثم استحق جزء منه بطل في الباقي عند محمد لأن الشيوع مقارن كما في الهبة، بخلاف ما إذا رجع الواهب في البعض أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض وقد وهبه أو أوقفه في مرضه وفي المال ضيق، لأن الشيوع في ذلك طارئ. ولو استحق جزء مميز بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع ولهذا جاز في الابتداء، وعلى هذا الهبة والصدقة المملوكة. قال: "ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد حتى يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا. وقال أبو يوسف: إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وإن لم يسمهم". لهما أن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك وأنه يتأبد كالعتق، فإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليه مقتضاه، فلهذا كان التوقيت مبطلا له كالتوقيت في البيع. ولأبي يوسف أن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى وهو موفر عليه، لأن التقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة تنقطع ومرة بالصرف إلى جهة تتأبد فيصح في الوجهين وقيل إن التأبيد شرط بالإجماع، إلا أن عند أبي يوسف لا يشترط ذكر التأبيد لأن لفظة الوقف والصدقة منبئة عنه لما بينا أنه إزالة الملك بدون التمليك كالعتق، ولهذا قال في الكتاب في بيان قوله وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم، وهذا هو الصحيح، وعند محمد ذكر التأبيد شرط لأن هذا صدقة بالمنفعة أو بالغلة، وذلك قد يكون مؤقتا وقد يكون مؤبدا فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد فلا بد من التنصيص. قال: "ويجوز وقف العقار" لأن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم وقفوه "ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول". قال رضي الله عنه: وهذا على الإرسال قول أبي حنيفة "وقال أبو يوسف: إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده جاز" وكذا سائر آلات الحراسة لأنه تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود، وقد يثبت من الحكم تبعا ما لا يثبت مقصودا كالشرب ف البيع والبناء في الوقف، ومحمد معه فيه، لأنه لما جاز إفراد بعض المنقول بالوقف عنده فلأن يجوز الوقف فيه تبعا أولى. "وقال محمد: يجوز حبس الكراع والسلاح" ومعناه وقفه في سبيل الله، وأبو يوسف معه فيه على ما قالوا، وهو استحسان. والقياس أن لا يجوز لما بيناه من قبل. وجه الاستحسان الآثار المشهورة فيه: منها قوله عليه الصلاة والسلام: "وأما خالد فقد حبس أدرعا وأفراسا له في سبيل الله تعالى وطلحة حبس دروعه في سبيل الله تعالى" ويروى أكراعه. والكراع: الخيل. ويدخل في حكمه الإبل؛ لأن العرب يجاهدون عليها، وكذا السلاح يحمل عليها وعن محمد أنه يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات كالفأس والمر والقدوم والمنشار والجنازة وثيابها والقدور والمراجل والمصاحف. وعند أبي يوسف لا يجوز؛ لأن القياس إنما يترك بالنص، والنص ورد في الكراع والسلاح فيقتصر عليه. ومحمد يقول: القياس قد يترك بالتعامل كما في الاستصناع، وقد وجد التعامل في هذه الأشياء. وعن نصير بن يحيى أنه وقف كتبه إلحاقا لها بالمصاحف، وهذا صحيح لأن كل واحد يمسك للدين تعليما وتعلما وقراءة، وأكثر فقهاء الأمصار على قول محمد، وما لا تعامل فيه لا يجوز عندنا وقفه. وقال الشافعي: كل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله ويجوز بيعه يجوز وقفه؛ لأنه يمكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الانتفاع به، فأشبه العقار والكراع والسلاح. ولنا أن الوقف فيه لا يتأبد، ولا بد منه على ما بيناه فصار كالدراهم والدنانير، بخلاف العقار، ولا معارض من حيث السمع ولا من حيث التعامل فبقي على أصل القياس. وهذا لأن العقار يتأبد، والجهاد سنام الدين، فكان معنى القربة فيهما أقوى فلا يكون غيرهما في معناهما. قال: "وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه، إلا أن يكون مشاعا عند أبي يوسف فيطلب الشريك القسمة فيصح مقاسمته" أما امتناع التمليك فلما بينا. وأما جواز القسمة فلأنها تمييز وإفراز، غاية الأمر أن الغالب في غير المكيل والموزون معنى المبادلة، إلا أن في الوقف جعلنا الغالب معنى الإفراز نظرا للوقف فلم تكن بيعا وتمليكا؛ ثم إن وقف نصيبه من عقار مشترك فهو الذي يقاسم شريكه؛ لأن الولاية للواقف وبعد الموت إلى وصية، وإن وقف نصف عقار خالص له فالذي يقاسمه القاضي أو يبيع نصيبه الباقي من رجل، ثم يقاسمه المشتري ثم يشتري ذلك منه لأن الواحد لا يجوز أن يكون مقاسما ومقاسما، ولو كان في القسمة فضل دراهم إن أعطى الواقف لا يجوز لامتناع بيع الوقف، وإن أعطى الواقف جاز ويكون بقدر الدراهم شراء. قال: "والواجب أن يبتدأ من ارتفاع الوقف بعمارته شرط ذلك الواقف أو لم يشترط" لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدا، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاء ولأن الخراج بالضمان وصار كنفقة العبد الموصى بخدمته، فإنها على الموصى له بها. ثم إن كان الوقف على الفقراء لا يظفر بهم، وأقرب أموالهم هذه الغلة فتجب فيها. ولو كان الوقف على رجل بعينه وآخره للفقراء فهو في ماله: أي مال شاء في حال حياته. ولا يؤخذ من الغلة؛ لأنه معين يمكن مطالبته، وإنما يستحق العمارة عليه بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه، وإن خرب يبني على ذلك الوصف؛ لأنها بصفتها صارت غلتها مصروفة إلى الموقوف عليه. فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه والغلة مستحقة فلا يجوز صرفها إلى شيء آخر إلا برضاه، ولو كان الوقف على الفقراء فكذلك عند البعض، وعند الآخرين يجوز ذلك، والأول أصح لأن الصرف إلى العمارة ضرورة إبقاء الوقف ولا ضرورة في الزيادة. قال: "فإن وقف دارا على سكنى ولده فالعمارة على من له سكنى" لأن الخراج بالضمان على ما مر فصار كنفقة العبد الموصى بخدمته "فإن امتنع من ذلك، أو كان فقيرا آجرها الحاكم وعمرها بأجرتها، وإذا عمرها ردها إلى من له السكنى" لأن في ذلك رعاية الحقين حق الواقف وحق صاحب السكنى، لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 والأول أولى، ولا يجبر الممتنع على العمارة لما فيه من إتلاف ماله فأشبه امتناع صاحب البذر في المزارعة فلا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز التردد، ولا تصح إجارة من له السكنى لأنه غير مالك. امتناع صاحب البذر في المزارعة فلا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز. قال: "وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيهما"؛ لأنه لا بد من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف. فإن مست الحاجة إليه في الحال صرفها فيها، وإلا أمسكها حتى لا يتعذر عليه ذلك أوان الحاجة فيبطل المقصود، وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرمة صرفا للبدل إلى مصرف المبدل "ولا يجوز أن يقسمه" يعني النقض "بين مستحقي الوقف" لأنه جزء من العين ولا حق للموقوف عليهم فيه: وإنما حقهم في المنافع، والعين حق الله تعالى فلا يصرف إليهم غير حقهم. قال: "وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف" قال رضي الله عنه: ذكر فصلين شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية إليه. أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف، ولا يجوز على قياس قول محمد وهو قول هلال الرازي وبه قال الشافعي. وقيل إن الاختلاف بينهما بناء على الاختلاف في اشتراط القبض والإفراز. وقيل هي مسألة مبتدأة، والخلاف فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء سواء؛ ولو وقف وشرط البعض أو الكل لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فهو للفقراء والمساكين، فقد قيل يجوز بالاتفاق، وقد قيل هو على الخلاف أيضا وهو الصحيح لأن اشتراطه لهم في حياته كاشتراطه لنفسه. وجه قول محمد رحمه الله أن الوقف تبرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه، فاشتراطه البعض أو الكل لنفسه يبطله؛ لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة، وشرط بعض بقعة المسجد لنفسه. ولأبي يوسف ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من صدقته" والمراد منها صدقته الموقوفة، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط، فدل على صحته، ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة على ما بيناه، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه، فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالى لنفسه لا أنه يجعل ملك نفسه لنفسه، وهذا جائز، كما إذا بنى خانا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة، وشرط أن ينزله أو يشرب منه أو يدفن فيه، ولأن مقصوده القربة وفي الصرف إلى نفسه ذلك، قال عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 الصلاة والسلام: "نفقة الرجل على نفسه صدقة". ولو شرط الواقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف، وعند محمد الوقف جائز والشرط باطل. ولو شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام جاز الوقف والشرط عند أبي يوسف وعند محمد الوقف باطل، وهذا بناء على ما ذكرنا. وأما فصل الولاية فقد نص فيه على قول أبي يوسف، وهو قول هلال أيضا وهو ظاهر المذهب. وذكر هلال في وقفه وقال أقوام: إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له ولاية، وإن لم يشترط لم تكن له ولاية. قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد، لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط لصحة الوقف، فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه. ولنا أن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهته بشرطه فيستحيل أن لا يكون له الولاية وغيره يستفيد الولاية منه، ولأنه أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته، كمن اتخذ مسجدا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذن فيه، وكمن أعتق عبدا كان الولاء له لأنه أقرب الناس إليه. ولو أن الواقف شرط ولايته لنفسه وكان الواقف غير مأمون على الوقف فللقاضي أن ينزعها من يده نظرا للفقراء، كما له أن يخرج الوصي نظرا للصغار، وكذا إذا شرط أن ليس للسلطان ولا لقاض أن يخرجها من يده ويوليها غيره لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فبطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 فصل: وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه الخ ... فصل: "وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن للناس بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه واحد زال عند أبي حنيفة عن ملكه" أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه فلأنه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد، ويشترط تسليم نوعه، وذلك في المسجد بالصلاة فيه، أو لأنه لما تعذر القبض فقام تحقق المقصود مقامه ثم يكتفى بصلاة الواحد فيه في رواية عن أبي حنيفة، وكذا عن محمد؛ لأن فعل الجنس متعذر فيشترط أدناه. وعن محمد أنه يشترط الصلاة بالجماعة؛ لأن المسجد بني لذلك في الغالب "وقال أبو يوسف: يزول ملكه بقوله جعلته مسجدا" لأن التسليم عنده ليس بشرط؛ لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصا لله تعالى بسقوط حق العبد وصار كالإعتاق، وقد بيناه من قبل. قال: "ومن جعل مسجدا تحته سرداب أو فوقه بيت وجعل باب المسجد إلى الطريق، وعزله عن ملكه فله أن يبيعه، وإن مات يورث عنه" لأنه لم يخلص لله تعالى لبقاء حق العبد متعلقا به، ولو كان السرداب لمصالح المسجد جاز كما في مسجد بيت المقدس. وروى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الحسن عنه أنه قال: إذا جعل السفل مسجدا وعلى ظهره مسكن فهو مسجد؛ لأن المسجد مما يتأبد، وذلك يتحقق في السفل دون العلو. وعن محمد على عكس هذا؛ لأن المسجد معظم، وإذا كان فوقه مسكن أو مستغل يتعذر تعظيمه. وعن أبي يوسف أنه جوز في الوجهين حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل فكأنه اعتبر الضرورة. وعن محمد أنه حين دخل الري أجاز ذلك كله لما قلنا. قال: "وكذلك إن اتخذ وسط داره مسجدا وأذن للناس بالدخول فيه" يعني له أن يبيعه ويورث عنه؛ لأن المسجد ما لا يكون لأحد فيه حق المنع، وإذا كان ملكه محيطا بجوانبه كان له حق المنع فلم يصر مسجدا، ولأنه أبقى الطريق لنفسه فلم يخلص لله تعالى "وعن محمد أنه لا يباع ولا يورث ولا يوهب" اعتبره مسجدا، وهكذا عن أبي يوسف أنه يصير مسجدا؛ لأنه لما رضي بكونه مسجدا ولا يصير مسجدا إلا بالطريق دخل فيه الطريق وصار مستحقا كما يدخل في الإجارة من غير ذكر. قال: "ومن اتخذ أرضه مسجدا لم يكن له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه" لأنه تجرد عن حق العباد وصار خالصا لله، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق. ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه يبقى مسجدا عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه، وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وارثه بعد موته؛ لأنه عينه لنوع قربة، وقد انقطعت فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه، إلا أن أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش إنه ينقل إلى مسجد آخر. قال: "ومن بنى سقاية للمسلمين أو خانا يسكنه بنو السبيل أو رباطا أو جعل أرضه مقبرة لم يزل ملكه عن ذلك حتى يحكم به الحاكم عند أبي حنيفة"؛ لأنه لم ينقطع عن حق العبد؛ ألا ترى أن له أن ينتفع به فيسكن في الخان وينزل في الرباط ويشرب من السقاية، ويدفن في المقبرة فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت كما في الوقف على الفقراء، بخلاف المسجد؛ لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم. "وعند أبي يوسف يزول ملكه بالقول" كما هو أصله، إذ التسليم عنده ليس بشرط والوقف لازم. "وعند محمد إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 المقبرة زال الملك" لأن التسليم عنده شرط والشرط تسليم نوعه، وذلك بما ذكرناه. ويكتفى بالواحد لتعذر فعل الجنس كله، وعلى هذا البئر الموقوفة والحوض، ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه كلها؛ لأنه نائب عن الموقوف عليه، وفعل النائب كفعل المنوب عنه، وأما في المسجد فقد قيل لا يكون تسليما؛ لأنه لا تدبير للمتولي فيه، وقيل يكون تسليما؛ لأنه يحتاج إلى من يكنسه ويغلق بابه، فإذا سلم إليه صح التسليم، والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل؛ لأنه لا متولي له عرفا. وقيل هي بمنزلة السقاية والخان فيصح التسليم إلى المتولي؛ لأنه لو نصب المتولي يصح، وإن كان بخلاف العادة، ولو جعل دارا له بمكة سكنى لحاج بيت الله والمعتمرين، أو جعل داره في غير مكة سكنى للمساكين، أو جعلها في ثغر من الثغور سكنى للغزاة والمرابطين. أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى وال يقوم عليه فهو جائز، ولا رجوع فيه لما بينا إلا أن في الغلة تحل للفقراء دون الأغنياء، وفيما سواه من سكنى الخان والاستقاء من البئر والسقاية وغير ذلك يستوي فيه الغني والفقير، والفارق هو العرف في الفصلين. فإن أهل العرف يريدون بذلك في الغلة الفقراء، وفي غيرها التسوية بينهم وبين الأغنياء، ولأن الحاجة تشمل الغني والفقير في الشرب والنزول. والغني لا يحتاج إلى صرف هذا الغلة لغناه، والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 كتاب البيوع كيفية انعقاد البيع مدخل ... كتاب البيوع قال: "البيع ينعقد بالإيجاب والقبول إذا كانا بلفظي الماضي" مثل أن يقول أحدهما بعت والآخر اشتريت؛ لأن البيع إنشاء تصرف، والإنشاء يعرف بالشرع والموضوع للإخبار قد استعمل فيه فينعقد به. ولا ينعقد بلفظين أحدهما لفظ المستقبل والآخر لفظ الماضي، بخلاف النكاح، وقد مر الفرق هناك. وقوله رضيت بكذا أو أعطيتك بكذا أو خذه بكذا في معنى قوله بعت واشتريت؛ لأنه يؤدي معناه، والمعنى هو المعتبر في هذه العقود، ولهذا ينعقد بالتعاطي في النفيس والخسيس هو الصحيح لتحقق المراضاة. قال: "وإذا أوجبأحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد"، وهذا خيار القبول؛ لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم البيع من غير رضاه، وإذا لم يفسد لحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع عنه قبل قبوله لخلوه عن إبطال حق الغير، وإنما يمتد إلى آخر المجلس؛ لأن المجلس جامع المتفرقات فاعتبرت ساعاته ساعة واحدة دفعا للعسر وتحقيقا لليسر، والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة، وليس له أن يقبل في بعض المبيع ولا أن يقبل المشتري ببعض الثمن لعدم رضا الآخر بتفرق الصفقة، إلا إذا بين كل واحد؛ لأنه صفقات معنى. قال: "وأيهما قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب؛ لأن القيام دليل الإعراض" والرجوع، وله ذلك على ما ذكرناه. وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحد منهما إلا من عيب أو عدم رؤية. وقال الشافعي رحمه الله يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس لقوله عليه الصلاة والسلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" ولنا أن في الفسخ إبطال حق الآخر فلا يجوز. والحديث محمول على خيار القبول. وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه، والتفرق فيه تفرق الأقوال. قال: "والأعواض المشار إليها لا يحتاج إلى معرفة مقدارها في جواز البيع" لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 بالإشارة كفاية في التعريف وجهالة الوصف فيه لا تفضي إلى المنازعة "والأثمان المطلقة لا تصح إلا أن تكون معروفة القدر والصفة"؛ لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة فيمتنع التسليم والتسلم، وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز، هذا هو الأصل. قال: "ويجوز البيع بثمن حال ومؤجل إذا كان الأجل معلوما" لإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وعنه عليه الصلاة والسلام "أنه اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم ورهنه درعه". ولا بد أن يكون الأجل معلوما؛ لأن الجهالة فيه مانعة من التسليم الواجب بالعقد، فهذا يطالبه به في قريب المدة، وهذا يسلمه في بعيدها. قال: "ومن أطلق الثمن في البيع كان على غالب نقد البلد"؛ لأنه المتعارف، وفيه التحري للجواز فيصرف إليه "فإن كانت النقود مختلفة فالبيع فاسد إلا أن يبين أحدهما" وهذا إذا كان الكل في الرواج سواء؛ لأن الجهالة مفضية إلى المنازعة إلا أن ترتفع الجهالة بالبيان أو يكون أحدهما أغلب وأروج فحينئذ يصرف إليه تحريا للجواز، وهذا إذا كانت مختلفة في المالية، فإن كانت سواء فيها كالثنائي والثلاثي والنصرتي اليوم بسمرقند والاختلاف بين العدالى بفرغانة جاز البيع إذا أطلق اسم الدرهم، كذا قالوا، وينصرف إلى ما قدر به من أي نوع كان؛ لأنه لا منازعة ولا اختلاف في المالية. قال: "ويجوز بيع الطعام والحبوب مكايلة ومجازفة" وهذا إذا باعه بخلاف جنسه لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" بخلاف ما إذا باعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا ولأن الجهالة غير مانعة من التسليم والتسلم فشابه جهالة القيمة. قال: "ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره وبوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره"؛ لأن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لما أنه يتعجل فيه التسليم فيندر هلاكه قبله بخلاف السلم؛ لأن التسليم فيه متأخر والهلاك ليس بنادر قبله فتتحقق المنازعة. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا، والأول أصح وأظهر قال: "ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة إلا أن يسمي جملة قفزانها وقالا يجوز في الوجهين" له أنه تعذر الصرف إلى الكل لجهالة المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل وهو معلوم، وإلا أن تزول الجهالة بتسمية جميع القفزان أو بالكيل في المجلس، وصار هذا كما لو أقر وقال لفلان علي كل درهم فعليه درهم واحد بالإجماع. ولهما أن الجهالة بيدهما إزالتها ومثلها غير مانع، وكما إذا باع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 عبدا من عبدين على أن المشتري بالخيار. ثم إذا جاز في قفيز واحد عند أبي حنيفة فللمشتري الخيار لتفرق الصفقة عليه، وكذا إذا كيل في المجلس أو سمى جملة قفزانها؛ لأنه علم ذلك الآن فله الخيار، كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع. قال: "ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم فسد البيع في جميعها عند أبي حنيفة، وكذلك من باع ثوبا مذارعة كل ذراع بدرهم ولم يسم جملة الذراعان، وكان كل معدود متفاوت، وعندهما يجوز في الكل لما قلنا، وعنده ينصرف إلى الواحد" لما بينا غير أن بيع شاة من قطيع غنم وذراع من ثوب لا يجوز للتفاوت. وبيع قفيز من صبرة يجوز لعدم التفاوت فلا تفضي الجهالة إلى المنازعة فيه، وتقضي إليها في الأول فوضح الفرق. قال: "ومن ابتاع صبرة طعام على أنها مائة قفيز بمائة درهم فوجدها أقل كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن، وإن شاء فسخ البيع" لتفرق الصفقة عليه قبل التمام، فلم يتم رضاه بالموجود، "وإن وجدها أكثر فالزيادة للبائع"؛ لأن البيع وقع على مقدار معين والقدر ليس بوصف "ومن اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم أو أرضا على أنها مائة ذراع بمائة درهم فوجدها أقل فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بجملة الثمن، وإن شاء ترك"؛ لأن الذراع وصف في الثوب؛ ألا يرى أنه عبارة عن الطول والعرض، والوصف لا يقابله شيء من الثمن كأطراف الحيوان فلهذا يأخذه بكل الثمن، بخلاف الفصل الأول؛ لأن المقدار يقابله الثمن فلهذا يأخذه بحصته، إلا أنه يتخير لفوات الوصف المذكور لتغير المعقود عليه فيختل الرضى. قال: "وإن وجدها أكثر من الذراع الذي سماه فهو للمشتري ولا خيار للبائع"؛ لأنه صفة، فكان بمنزلة ما إذا باعه معيبا، فإذا هو سليم "ولو قال بعتكها على أنها مائة ذراع بمائة درهم كل ذراع بدرهم فوجدها ناقصة، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن شاء ترك"؛ لأن الوصف وإن كان تابعا لكنه صار أصلا بإفراده بذكر الثمن فينزل كل ذراع منزلة ثوب؛ وهذا لأنه لو أخذه بكل الثمن لم يكن آخذا لكل ذراع بدرهم "وإن وجدها زائدة فهو بالخيار إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع" لأنه إن حصل له الزيادة في الذرع تلزمه زيادة الثمن فكان نفعا يشوبه ضرر فيتخير، وإنما يلزمه الزيادة لما بينا أنه صار أصلا، ولو أخذه بالأقل لم يكن آخذا بالمشروط. قال: "ومن اشترى عشرة أذرع من مائة ذراع من دار أو حمام فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقالا: هو جائز، وإن اشترى عشرة أسهم من مائة سهم جاز في قولهم جميعا" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 لهما أن عشرة أذرع من مائة ذراع عشر الدار فأشبه عشرة أسهم. وله أن الذراع اسم لما يذرع به، واستعير لما يحله الذراع وهو المعين دون المشاع، وذلك غير معلوم، بخلاف السهم. ولا فرق عند أبي حنيفة بين ما إذا علم من جملة الذراعان أو لم يعلم هو الصحيح خلافا لما يقوله الخصاف لبقاء الجهالة. ولو اشترى عدلا على أنه عشرة أثواب فإذا هو تسعة أو أحد عشر فسد البيع لجهالة المبيع أو الثمن. "ولو بين لكل ثوب ثمنا جاز في فصل النقصان بقدره وله الخيار، ولم يجز في الزيادة" لجهالة العشرة المبيعة. وقيل عند أبي حنيفة لا يجوز في فصل النقصان أيضا وليس بصحيح، بخلاف ما إذا اشترى ثوبين على أنهما هرويان فإذا أحدهما مروي حيث لا يجوز فيهما، وإن بين ثمن كل واحد منهما؛ لأنه جعل القبول في المروي شرطا لجواز العقد في الهروي، وهو شرط فاسد ولا قبول يشترط في المعدوم فافترقا. "ولو اشترى ثوبا واحدا على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فإذا هو عشرة ونصف أو تسعة ونصف، قال أبو حنيفة رحمه الله: في الوجه الأول يأخذه بعشرة من غير خيار، وفي الوجه الثاني يأخذه بتسعة إن شاء وقال أبو يوسف رحمه الله: في الوجه الأول يأخذه بأحد عشر إن شاء، وفي الثاني يأخذ بعشرة إن شاء. وقال محمد رحمه الله: يأخذ في الأول بعشرة ونصف إن شاء، وفي الثاني بتسعة ونصف ويخير"؛ لأن من ضرورة مقابلة الذراع بالدرهم مقابلة نصفه بنصفه فيجري عليه حكمها. ولأبي يوسف رحمه الله أنه لما أفرد كل ذراع ببدل نزل كل ذراع منزلة ثوب على حدة وقد انتقض. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الذراع وصف في الأصل، وإنما أخذ حكم المقدار بالشرط وهو مقيد بالذراع، فعند عدمه عاد الحكم إلى الأصل. وقيل في الكرباس الذي لا يتفاوت جوانبه لا يطيب للمشتري ما زاد على المشروط؛ لأنه بمنزلة الموزون حيث لا يضره الفصل، وعلى هذا لو قالوا: يجوز بيع ذراع منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 فصل: "ومن باع دارا دخل بناؤها في البيع وإن لم يسمه"، لأن اسم الدار يتناول العرصة والبناء في العرف ولأنه متصل بها اتصال قرار فيكون تبعا له. "ومن باع أرضا دخل ما فيها من النخل والشجر وإن لم يسمه" لأنه متصل بها للقرار فأشبه البناء "ولا يدخل الزرع في بيع الأرض إلا بالتسمية" لأنه متصل بها للفصل فشابه المتاع الذي فيها. "ومن باع نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع" لقوله عليه الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 والسلام: "من اشترى أرضا فيها نخل فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع" ولأن الاتصال وإن كان خلقة فهو للقطع لا للبقاء فصار كالزرع. "ويقال للبائع اقطعها وسلم المبيع" وكذا إذا كان فيها زرع؛ لأن ملك المشتري مشغول بملك البائع فكان عليه تفريغه وتسليمه، كما إذا كان فيه متاع. وقال الشافعي رحمه الله: يترك حتى يظهر صلاح الثمر ويستحصد الزرع؛ لأن الواجب إنما هو التسليم المعتاد، والمعتاد أن لا يقطع كذلك وصار كما إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع. قلنا: هناك التسليم واجب أيضا حتى يترك بأجر، وتسليم العوض كتسليم المعوض،. ولا فرق بين ما إذا كان الثمر بحال له قيمة أو لم يكن في الصحيح ويكون في الحالين للبائع؛ لأن بيعه يجوز في أصح الروايتين على ما تبين فلا يدخل في بيع الشجر من غير ذكر. وأما إذا بيعت الأرض وقد بذر فيها صاحبها ولم ينبت بعد لم يدخل فيه؛ لأنه مودع فيها كالمتاع،. ولو نبت ولم تصر له قيمة فقد قيل لا يدخل فيه، وقد قيل يدخل فيه، وكأن هذا بناء على الاختلاف في جواز بيعه قبل أن تناله المشافر والمناجل، ولا يدخل الزرع والثمر بذكر الحقوق والمرافق؛ لأنهما ليسا منهما. ولو قال بكل قليل وكثير هو له فيها ومنها من حقوقها أو قال من مرافقها لم يدخلا فيه لما قلنا، وإن لم يقل من حقوقها أو من مرافقها دخلا فيه. وأما الثمر المجذوذ والزرع المحصود فهو بمنزلة المتاع لا يدخل إلا بالتصريح به. قال: "ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها أو قد بدا جاز البيع"؛ لأنه مال متقوم، إما لكونه منتفعا به في الحال أو في الثاني، وقد قيل لا يجوز قبل أن يبدو صلاحها والأول أصح "وعلى المشتري قطعها في الحال" تفريغا لملك البائع، وهذا. إذا اشتراها مطلقا أو بشرط القطع "وإن شرط تركها على النخيل فسد البيع"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وهو شغل ملك الغير أو هو صفقة في صفقة وهو إعارة أو إجارة في بيع، وكذا بيع الزرع بشرط الترك لما قلنا، وكذا إذا تناهى عظمها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لما قلنا، واستحسنه محمد رحمه الله للعادة، بخلاف ما إذا لم يتناه عظمها؛ لأنه شرط فيه الجزء المعدوم وهو الذي يزيد لمعنى من الأرض أو الشجر. ولو اشتراها مطلقا وتركها بإذن البائع طاب له الفضل، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد في ذاته لحصوله بجهة محظورة، وإن تركها بعدما تناهى عظمها لم يتصدق بشيء. لأن هذا تغير حالة لا تحقق زيادة، وإن اشتراها مطلقا وتركها على النخيل وقد استأجر النخيل إلى وقت الإدراك طاب له الفضل؛ لأن الإجارة باطلة لعدم التعارف والحاجة فبقي الإذن معتبرا، بخلاف ما إذا اشترى الزرع واستأجر الأرض إلى أن يدرك وتركه حيث لا يطيب له الفضل؛ لأن الإجارة فاسدة للجهالة فأورثت خبثا، ولو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 اشتراها مطلقا فأثمرت ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع؛ لأنه لا يمكنه تسليم المبيع لتعذر التمييز. ولو أثمرت بعد القبض يشتركان فيه للاختلاط، والقول قول المشتري في مقداره؛ لأنه في يده، وكذا في الباذنجان والبطيخ، والمخلص أن يشتري الأصول لتحصل الزيادة على ملكه. قال: "ولا يجوز أن يبيع ثمرة ويستثني منها، أرطالا معلومة" خلافا لمالك رحمه الله؛ لأن الباقي بعد الاستثناء مجهول،. بخلاف ما إذا باع واستثنى نخلا معينا؛ لأن الباقي معلوم بالمشاهدة. قال رضي الله عنه: قالوا هذه رواية الحسن وهو قول الطحاوي؛ أما على ظاهر الرواية ينبغي أن يجوز؛ لأن الأصل أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه من العقد، وبيع قفيز من صبرة جائز فكذا استثناؤه، بخلاف استثناء الحمل وأطراف الحيوان؛ لأنه لا يجوز بيعه، فكذا استثناؤه. "ويجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره" وكذا الأرز والسمسم. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، وكذا الجوز واللوز والفستق في قشره الأول عنده. وله في بيع السنبلة قولان، وعندنا يجوز ذلك كله. له أن المعقود عليه مستور بما لا منفعة له فيه فأشبه تراب الصاغة إذا بيع بجنسه. ولنا ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة"؛ ولأنه حب منتفع به فيجوز بيعه في سنبله كالشعير والجامع كونه مالا متقوما، بخلاف تراب الصاغة؛ لأنه إنما لا يجوز بيعه بجنسه لاحتمال الربا، حتى لو باعه بخلاف جنسه جاز، وفي مسألتنا لو باعه بجنسه لا يجوز أيضا لشبهة الربا؛ لأنه لا يدري قدر ما في السنابل. "ومن باع دارا دخل في البيع مفاتيح إغلاقها"؛ لأنه يدخل فيه الإغلاق؛ لأنها مركبة فيها للبقاء والمفتاح يدخل في بيع الغلق من غير تسمية؛ لأنه بمنزلة بعض منه إذ لا ينتفع به بدونه. قال: "وأجرة الكيال وناقد الثمن على البائع" أما الكيل فلا بد منه للتسليم وهو على البائع ومعنى هذا إذا بيع مكايلة، وكذا أجرة الوزان والزراع والعداد، وأما النقد فالمذكور رواية ابن رستم عن محمد؛ لأن النقد يكون بعد التسليم؛ ألا ترى أنه يكون بعد الوزن والبائع هو المحتاج إليه ليميز ما تعلق به حقه من غيره أو ليعرف المعيب ليرده. وفي رواية ابن سماعة عنه على المشتري؛ لأنه يحتاج إلى تسليم الجيد المقدر، والجودة تعرف بالنقد كما يعرف القدر بالوزن فيكون عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 قال: "وأجرة وزان الثمن على المشتري" لما بينا أنه هو المحتاج إلى تسليم الثمن وبالوزن يتحقق التسليم. قال: "ومن باع سلعة بثمن قيل للمشتري ادفع الثمن أولا"؛ لأن حق المشتري تعين في المبيع فيقدم دفع الثمن ليتعين حق البائع بالقبض لما أنه لا يتعين بالتعيين تحقيقا للمساواة. قال: "ومن باع سلعة بسلعة أو ثمنا بثمن قيل لهما سلما معا" لاستوائهما في التعين فلا حاجة إلى تقديم أحدهما في الدفع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 باب خيار الشرط خيار الشرط جائز في البيع للبائع والمشتري "ولهما الخيار ثلاثة أيام فما دونها والأصل" فيه ما روي: أن حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه كان يغبن في البياعات، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا بايعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام". "ولا يجوز أكثر منها عند أبي حنيفة" وهو قول زفر والشافعي. "وقالا: يجوز إذا سمى مدة معلومة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجاز الخيار إلى شهرين"؛ ولأن الخيار إنما شرع للحاجة إلى التروي ليندفع الغبن، وقد تمس الحاجة إلى الأكثر فصار كالتأجيل في الثمن. ولأبي حنيفة أن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد وهو اللزوم، وإنما جوزناه بخلاف القياس لما رويناه من النص، فيقتصر على المدة المذكورة فيه وانتفت الزيادة. "إلا أنه إذا أجاز في الثلاثجاز عند أبي حنيفة" خلافا لزفر، هو يقول: إنه انعقد فاسدا فلا ينقلب جائزا. وله أنه أسقط المفسد قبل تقرره فيعود جائزا كما إذا باع بالرقم وأعلمه في المجلس. ولأن الفساد باعتبار اليوم الرابع، فإذا أجاز قبل ذلك لم يتصل المفسد بالعقد، ولهذا قيل: إن العقد يفسد بمضي جزء من اليوم الرابع، وقيل ينعقد فاسدا ثم يرتفع الفساد بحذف الشرط، وهذا على الوجه الأول. "ولو اشترى على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما جاز. وإلى أربعة أيام لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يجوز إلى أربعة أيام أو أكثر، فإن نقد في الثلاث جاز في قولهم جميعا". والأصل فيه أن هذا في معنى اشتراط الخيار إذ الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد تحرزا عن المماطلة في الفسخ فيكون ملحقا به. وقد مر أبو حنيفة على أصله في الملحق به، ونفى الزيادة على الثلاث وكذا محمد في تجويز الزيادة. وأبو يوسف أخذ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 الأصل بالأثر. وفي هذا بالقياس، وفي هذه المسألة قياس آخر وإليه مال زفر وهو أنه بيع شرط فيه إقالة فاسدة لتعلقها بالشرط، واشتراط الصحيح منها فيه مفسد للعقد، فاشتراط الفاسد أولى ووجه الاستحسان ما بينا. قال: "وخيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه"؛ لأن تمام هذا السبب بالمراضاة ولا يتم مع الخيار ولهذا ينفذ عتقه. ولا يملك المشتري التصرف فيه وإن قبضه بإذن البائع "ولو قبضه المشتري وهلك في يده في مدة الخيار ضمنه بالقيمة"؛ لأن البيع ينفسخ بالهلاك؛ لأنه كان موقوفا، ولا نفاذ بدون المحل فبقي مقبوضا في يده على سوم الشراء وفيه القيمة، ولو هلك في يد البائع انفسخ البيع ولا شيء على المشتري اعتبارا بالبيع الصحيح المطلق. قال: "وخيار المشتري لا يمنع خروج المبيع عن ملك البائع"؛ لأن البيع في جانب الآخر لازم، وهذا؛ لأن الخيار إنما يمنع خروج البدل. عن ملك من له الخيار؛ لأنه شرع نظرا له دون الآخر. قال: "إلا أن المشتري لا يملكه عند أبي حنيفة، وقالا: يملكه" لأنه لما خرج عن ملك البائع فلو لم يدخل في ملك المشتري يكون زائلا لا إلى مالك ولا عهد لنا به في الشرع. ولأبي حنيفة أنه لما لم يخرج الثمن عن ملكه فلو قلنا بأنه يدخل المبيع في ملكه لاجتمع البدلان في ملك رجل واحد حكما للمعاوضة، ولا أصل له في الشرع؛ لأن المعاوضة تقتضي المساواة؛ ولأن الخيار شرع نظرا للمشتري ليتروى فيقف على المصلحة، ولو ثبت الملك ربما يعتق عليه من غير اختياره بأن كان قريبه فيفوت النظر. قال: "فإن هلك في يده هلك بالثمن، وكذا إذا دخله عيب" بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع. ووجه الفرق أنه إذا دخله عيب يمتنع الرد، والهلاك لا يعرى عن مقدمة عيب فيهلك، والعقد قد انبرم فيلزمه الثمن، بخلاف ما تقدم؛ لأن بدخول العيب لا يمتنع الرد حكما بخيار البائع فيهلك والعقد موقوف. قال: "ومن اشترى امرأته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح"؛ لأنه لم يملكها لما له من الخيار "وإن وطئها له أن يردها"؛ لأن الوطء بحكم النكاح "إلا إذا كانت بكرا"؛ لأن الوطء ينقصها، وهذا عند أبي حنيفة "وقالا: يفسد النكاح"؛ لأنه ملكها "وإن وطئها لم يردها"؛ لأن وطأها بملك اليمين فيمتنع الرد وإن كانت ثيبا؛ ولهذه المسألة أخوات كلها تبتني على وقوع الملك للمشتري بشرط الخيار وعدمه: منها عتق المشترى على المشتري إذا كان قريبا له في مدة الخيار، ومنها: عتقه إذا كان المشتري حلف إن ملكت عبدا فهو حر. بخلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 ما إذا قال: إن اشتريت فهو حر؛ لأنه يصير كالمنشئ للعتق بعد الشراء فيسقط الخيار، ومنها أن حيض المشتراة في المدة لا يجتزأ به عن الاستبراء عنده، وعندهما يجتزأ؛ ولو ردت بحكم الخيار إلى البائع لا يجب عليه الاستبراء عنده، وعندهما يجب إذا ردت بعد القبض. ومنها إذا ولدت المشتراة في المدة بالنكاح لا تصير أم ولد له عنده خلافا لهما،. ومنها إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع ثم أودعه عند البائع فهلك في يده في المدة هلك من مال البائع لارتفاع القبض بالرد لعدم الملك عنده، وعندهما من مال المشتري لصحة الإيداع باعتبار قيام الملك. ومنها لو كان المشتري عبدا مأذونا له فأبرأه البائع من الثمن في المدة بقي على خياره عنده؛ لأن الرد امتناع عن التملك والمأذون له يليه، وعندهما بطل خياره؛ لأنه لما ملكه كان الرد منه تمليكا بغير عوض وهو ليس من أهله. ومنها إذا اشترى ذمي من ذمي خمرا على أنه بالخيار ثم أسلم بطل الخيار عندهما؛ لأنه ملكها فلا يملك ردها وهو مسلم. وعنده يبطل البيع؛ لأنه لم يملكها فلا يتملكها بإسقاط الخيار بعده وهو مسلم. قال: "ومن شرط له الخيار فله أن يفسخ في المدة وله أن يجيز، فإن أجازه بغير حضرة صاحبها جاز. وإن فسخ لم يجز إلا أن يكون الآخر حاضرا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يجوز" وهو قول الشافعي والشرط هو العلم، وإنما كنى بالحضرة عنه. له أنه مسلط على الفسخ من جهة صاحبه فلا يتوقف على علمه كالإجازة ولهذا لا يشترط رضاه وصار كالوكيل بالبيع. ولهما أنه تصرف في حق الغير وهو العقد بالرفع، ولا يعرى عن المضرة؛ لأنه. عساه يعتمد تمام البيع السابق فيتصرف فيه فتلزمه غرامة القيمة بالهلاك فيما إذا كان الخيار للبائع، أو لا يطلب لسلعته مشتريا فيما إذا كان الخيار للمشتري، وهذا نوع ضرر فيتوقف على علمه وصار كعزل الوكيل، بخلاف. الإجازة لأنه لا إلزام فيه، ولا نقول إنه مسلط، وكيف يقال ذلك وصاحبه لا يملك الفسخ ولا تسليط في غير. ما يملكه المسلط، ولو كان فسخ في حال غيبة صاحبه وبلغه في المدة تم الفسخ لحصول العلم به، ولو بلغه بعد مضي المدة تم العقد بمضي المدة قبل الفسخ. قال: "وإذا مات من له الخيار بطل خياره ولم ينتقل إلى ورثته" وقال الشافعي: يورث عنه؛ لأنه حق لازم ثابت في البيع فيجري فيه الإرث كخيار العيب والتعيين. ولنا أن الخيار ليس إلا مشيئة وإرادة ولا يتصور انتقاله، والإرث فيما يقبل الانتقال. بخلاف خيار العيب؛ لأن المورث استحق المبيع سليما فكذا الوارث، فأما نفس الخيار لا يورث، وأما خيار التعيين يثبت للوارث ابتداء لاختلاط ملكه بملك الغير لا أن يورث الخيار. قال "ومن اشترى شيئا وشرط الخيار لغيره فأيهما أجاز الخيار وأيهما نقض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 انتقض" وأصل هذا أن اشتراط الخيار لغيره جائز استحسانا، وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر؛ لأن الخيار من مواجب العقد وأحكامه، فلا يجوز اشتراطه لغيره كاشتراط الثمن على غير المشتري.. ولنا أن الخيار لغير العاقد لا يثبت إلا بطريق النيابة عن العاقد فيقدر الخيار له اقتضاء ثم يجعل هو نائبا عنه تصحيحا لتصرفه، وعند ذلك يكون لكل واحد منهما الخيار، فأيهما أجاز جاز، وأيهما نقض انتقض "ولو أجاز أحدهما وفسخ الآخر يعتبر السابق" لوجوده في زمان لا يزاحمه فيه غيره، ولو خرج الكلامان منهما معا يعتبر تصرف العاقد في رواية وتصرف الفاسخ في أخرى. وجه الأول أن تصرف العاقد أقوى؛ لأن النائب يستفيد الولاية منه. وجه الثاني أن الفسخ أقوى؛ لأن المجاز يلحقه الفسخ والمفسوخ لا تلحقه الإجازة، ولما ملك كل واحد منهما التصرف رجحنا بحال التصرف. وقيل الأول قول محمد والثاني قول أبي يوسف، واستخراج ذلك مما إذا باع الوكيل من رجل والموكل من غيره معا؛ فمحمد يعتبر فيه تصرف الموكل، وأبو يوسف يعتبرهما. قال: "ومن باع عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام فالبيع فاسد، وإن باع كل واحد منهما بخمسمائة على أنه بالخيار في أحدهما بعينه جاز البيع" والمسألة على أربعة أوجه: أحدها: أن لا يفصل الثمن ولا يعين الذي فيه الخيار وهو الوجه الأول في الكتاب وفساده لجهالة الثمن والمبيع؛ لأن الذي فيه الخيار كالخارج عن العقد، إذ العقد مع الخيار لا ينعقد في حق الحكم فبقي الداخل فيه أحدهما وهو غير معلوم. والوجه الثاني: أن يفصل الثمن ويعين الذي فيه الخيار وهو المذكور ثانيا في الكتاب، وإنما جاز؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، وقبول العقد في الذي فيه الخيار وإن كان شرطا لانعقاد العقد في الآخر ولكن هذا غير مكسد للعقد لكونه محلا للبيع كما إذا جمع بين قن ومدبر. والثالث: أن يفصل ولا يعين. والرابع: أن يعين ولا يفصل، فالعقد فاسد في الوجهين: إما لجهالة المبيع أو لجهالة الثمن. قال: "ومن اشترى ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء بعشرة وهو بالخيار ثلاثة أيام فهو جائز، وكذا الثلاثة، فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد" والقياس أن يفسد البيع في الكل لجهالة المبيع، وهو قول زفر والشافعي. وجه الاستحسان أن شرع الخيار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأرفق والأوفق، والحاجة إلى هذا النوع من البيع متحققة؛ لأنه يحتاج إلى اختيار من يثق به أو اختيار من يشتريه لأجله، ولا يمكنه البائع من الحمل إليه إلا بالبيع فكان في معنى ما ورد به الشرع، غير أن هذه الحاجة تندفع بالثلاث لوجود الجيد والوسط والرديء فيها، والجهالة لا تفضي إلى المنازعة في الثلاثة لتعيين من له الخيار، وكذا في الأربع، إلا أن الحاجة إليها غير متحققة والرخصة ثبوتها بالحاجة وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة فلا تثبت بأحدهما. ثم قيل: يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين، وهو المذكور في الجامع الصغير. "وقيل لا يشترط وهو المذكور في الجامع الكبير"، فيكون ذكره على هذا الاعتبار وفاقا لا شرطا؛ وإذا لم يذكر خيار الشرط لا بد من توقيت خيار التعيين بالثلاث عنده وبمدة معلومة أيتها كانت عندهما. ثم ذكر في بعض النسخ: اشترى ثوبين وفي بعضها اشترى أحد الثوبين وهو الصحيح؛ لأن المبيع في الحقيقة أحدهما والآخر أمانة، والأول تجوز واستعارة. ولو هلك أحدهما أو تعيب لزمه البيع فيه بثمنه وتعين الآخر للأمانة لامتناع الرد بالتعيب، ولو هلكا جميعا معا يلزمه نصف ثمن كل واحد منهما لشيوع البيع والأمانة فيهما. ولو كان فيه خيار الشرط له أن يردهما جميعا. ولو مات من له الخيار فلوارثه أن يرد أحدهما؛ لأن الباقي خيار التعيين للاختلاط، ولهذا لا يتوقف في حق الوارث. وأما خيار الشرط لا يورث وقد ذكرناه من قبل. قال: "ومن اشترى دارا على أنه بالخيار فبيعت دار أخرى بجنبها فأخذها بالشفعة فهو رضا"؛ لأن طلب الشفعة يدل على اختياره الملك فيها؛ لأنه ما ثبت إلا لدفع ضرر الجوار وذلك بالاستدامة فيتضمن ذلك سقوط الخيار سابقا عليه فيثبت الملك من وقت الشراء فيتبين أن الجوار كان ثابتا، وهذا التقرير يحتاج إليه لمذهب أبي حنيفة خاصة. قال: "وإذا اشترى الرجلان عبدا على أنهما بالخيار فرضي أحدهما فليس للآخر أن يرده" عند أبي حنيفة، وقالا: له أن يرده، وعلى هذا الخلاف خيار العيب وخيار الرؤية، لهما أن إثبات الخيار لهما إثباته لكل واحد منهما فلا يسقط بإسقاط صاحبه لما فيه من إبطال حقه. وله أن المبيع خرج عن ملكه غير معيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما رده معيبا به وفيه إلزام ضرر زائد، وليس من ضرورة إثبات الخيار لهما الرضا برد أحدهما لتصور اجتماعهما على الرد. قال: "ومن باع عبدا على أنه خباز أو كاتب وكان بخلافه فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك"؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه فيستحق في العقد بالشرط، ثم فواته يوجب التخيير؛ لأنه ما رضي به دونه، وهذا يرجع إلى اختلاف النوع لقلة التفاوت في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 الأغراض، فلا يفسد العقد بعدمه بمنزلة وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات وصار كفوات وصف السلامة، وإذا أخذه أخذه بجميع الثمن؛ لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن لكونها تابعة في العقد على ما عرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 باب خيار الرؤية قال: "ومن اشترى شيئا لم يره فالبيع جائز، وله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه بجميع الثمن "وإن شاء رده" وقال الشافعي: لا يصح العقد أصلا؛ لأن المبيع مجهول. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه"؛ ولأن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة، لأنه لو لم يوافقه يرده، فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه. "وكذا إذا قال رضيت ثم رآه له أن يرده" لأن الخيار معلق بالرؤية لما روينا فلا يثبت قبلها، وحق الفسخ قبل الرؤية بحكم أنه عقد غير لازم لا بمقتضى الحديث، ولأن الرضا بالشيء قبل العلم بأوصافه لا يتحقق فلا يعتبر قوله رضيت قبل الرؤية بخلاف قوله رددت. قال: "ومن باع ما لم يره فلا خيار له" وكان أبو حنيفة يقول: أولا له الخيار اعتبارا بخيار العيب وخيار الشرط وهذا؛ لأن لزوم العقد بتمام الرضا زوالا وثبوتا ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم بأوصاف المبيع، وذلك بالرؤية فلم يكن البائع راضيا بالزوال. ووجه القول المرجوع إليه أنه معلق بالشراء لما روينا فلا يثبت دونه. وروي أن عثمان بن عفان باع أرضا له بالبصرة من طلحة بن عبيد الله فقيل لطلحة: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره. وقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره. فحكما بينهما جبير بن مطعم. فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم. ثم خيار الرؤية غير مؤقت بل يبقى إلى أن يوجد ما يبطله، وما يبطل خيار الشرط من تعيب أو تصرف يبطل خيار الرؤية، ثم إن كان تصرفا لا يمكن رفعه كالإعتاق والتدبير أو تصرفا يوجب حقا للغير كالبيع المطلق والرهن والإجارة يبطله قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم تعذر الفسخ فبطل الخيار وإن كان تصرفا لا يوجب حقا للغير كالبيع بشرط الخيار، والمساومة والهبة من غير تسليم لا يبطله قبل الرؤية؛ لأنه لا يربو على صريح الرضا ويبطله بعد الرؤية لوجود دلالة الرضى. قال: "ومن نظر إلى وجه الصبرة، أو إلى ظاهر الثوب مطويا أو إلى وجه الجارية أو إلى وجه الدابة وكفلها فلا خيار له" والأصل في هذا أن رؤية جميع المبيع غير مشروط لتعذره فيكتفي برؤية ما يدل على العلم بالمقصود. ولو دخل في البيع أشياء، فإن كان لا تتفاوت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 آحادها كالمكيل والموزون، وعلامته أن يعرض بالنموذج يكتفي برؤية واحد منها إلا إذا كان الباقي أردأ مما رأى فحينئذ يكون له الخيار. وإن كان تتفاوت آحادها كالثياب والدواب لا بد من رؤية كل واحد منها، والجوز والبيض من هذا القبيل فيما ذكره الكرخي، وكان ينبغي أن يكون مثل الحنطة والشعير لكونها متقاربة. إذا ثبت هذا فنقول: النظر إلى وجه الصبرة كاف؛ لأنه يعرف وصف البقية؛ لأنه مكيل يعرض بالنموذج، وكذا النظر إلى ظاهر الثوب مما يعلم به البقية إلا إذا كان في طيه ما يكون مقصودا كموضع العلم، والوجه هو المقصود في الآدمي، وهو والكفل في الدواب فيعتبر رؤية المقصود ولا يعتبر رؤية غيره. وشرط بعضهم رؤية القوائم. والأول هو المروي عن أبي يوسف رحمه الله. وفي شاة اللحم لا بد من الجس لأن المقصود وهو اللحم يعرف به. وفي شاة القنية لا بد من رؤية الضرع. وفيما يطعم لا بد من الذوق لأن ذلك هو المعرف للمقصود. قال: "وإن رأى صحن الدار فلا خيار له وإن لم يشاهد بيوتها" وكذلك إذا رأى خارج الدار أو رأى أشجار البستان من خارج. وعند زفر لا بد من دخول داخل البيوت، والأصح أن جواب الكتاب على وفاق عادتهم في الأبنية، فإن دورهم لم تكن متفاوتة يومئذ، فأما اليوم فلا بد من الدخول في داخل الدار للتفاوت، والنظر إلى الظاهر لا يوقع العلم بالداخل. قال: "ونظر الوكيل كنظر المشتري حتى لا يرده إلا من عيب، ولا يكون نظر الرسول كنظر المشتري، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: هما سواء، وله أن يرده" قال معناه الوكيل بالقبض، فأما الوكيل بالشراء فرؤيته تسقط الخيار بالإجماع. لهما أنه توكل بالقبض دون إسقاط الخيار فلا يملك ما لم يتوكل به وصار كخيار العيب والشرط والإسقاط قصدا. وله أن القبض نوعان: تام وهو أن يقبضه وهو يراه. وناقص، وهو أن يقبضه مستورا وهذا؛ لأن تمامه بتمام الصفقة ولا تتم مع بقاء خيار الرؤية والموكل ملكه بنوعيه، فكذا الوكيل. ومتى قبض الموكل وهو يراه سقط الخيار فكذا الوكيل لإطلاق التوكيل. وإذا قبضه مستورا انتهى التوكيل بالناقص منه فلا يملك إسقاطه قصدا بعد ذلك، بخلاف خيار العيب؛ لأنه لا يمنع تمام الصفقة فيتم القبض مع بقائه، وخيار الشرط على هذا الخلاف. ولو سلم فالموكل لا يملك التام منه فإنه لا يسقط بقبضه؛ لأن الاختيار وهو المقصود بالخيار يكون بعده، فكذا لا يملكه وكيله، وبخلاف الرسول؛ لأنه لا يملك شيئا وإنما إليه تبليغ الرسالة ولهذا لا يملك القبض، والتسليم إذا كان رسولا في البيع. قال: "وبيع الأعمى وشراؤه جائز وله الخيار إذا اشترى" لأنه اشترى ما لم يره وقد قررناه من قبل "ثم يسقط خياره بجسه المبيع إذا كان يعرف بالجس، ويشمه إذا كان يعرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 بالشم ويذوقه إذا كان يعرف بالذوق" كما في البصير "ولا يسقط خياره في العقار حتى يوصف له" لأن الوصف يقام مقام الرؤية كما في السلم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وقف في مكان لو كان بصيرا لرآه وقال: قد رضيت سقط خياره، لأن التشبه يقام مقام الحقيقة في موضع العجز كتحريك الشفتين يقام مقام القراءة في حق الأخرس في الصلاة، وإجراء الموسى مقام الحلق في حق من لا شعر له في الحج. وقال الحسن: يوكل وكيلا بقبضه وهو يراه وهذا أشبه بقول أبي حنيفة لأن رؤية الوكيل كرؤية الموكل على ما مر آنفا. قال: "ومن رأى أحد الثوبين فاشتراهما ثم رأى الآخر جاز له أن يردهما" لأن رؤية أحدهما لا تكون رؤية الآخر للتفاوت في الثياب فبقي الخيار فيما لم يره، ثم لا يرده وحده بل يردهما كي لا يكون تفريقا للصفقة قبل التمام، وهذا؛ لأن الصفقة لا تتم مع خيار الرؤية قبل القبض وبعده، ولهذا يتمكن من الرد بغير قضاء ولا رضا ويكون فسخا من الأصل. "ومن مات وله خيار الرؤية بطل خياره" لأنه لا يجري فيه الإرث عندنا، وقد ذكرناه في خيار الشرط. "ومن رأى شيئا ثم اشتراه بعد مدة، فإن كان على الصفة التي رآه فلا خيار له" لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة، وبفواته يثبت الخيار إلا إذا كان لا يعلمه مرئيه لعدم الرضا به "وإن وجده متغيرا فله الخيار" لأن تلك الرؤية لم تقع معلمة بأوصافه فكأنه لم يره، وإن اختلفا في التغير فالقول للبائع لأن التغير حادث وسبب اللزوم ظاهر، إلا إذا بعدت المدة على ما قالوا لأن الظاهر شاهد للمشتري، بخلاف ما إذا اختلفا في الرؤية لأنها أمر حادث والمشتري ينكره فيكون القول قوله. قال: "ومن اشترى عدل زطي ولم يره فباع منه ثوبا أو وهبه وسلمه لم يرد شيئا منها إلا من عيب، وكذلك خيار الشرط"؛ لأنه تعذر الرد فيما خرج عن ملكه، وفي رد ما بقي تفريق الصفقة قبل التمام؛ لأن خيار الرؤية والشرط يمنعان تمامها، بخلاف خيار العيب لأن الصفقة تتم مع خيار العيب بعد القبض وإن كانت لا تتم قبله وفيه وضع المسألة. فلو عاد إليه بسبب هو فسخ فهو على خيار الرؤية، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي. وعن أبي يوسف أنه لا يعود بعد سقوطه كخيار الشرط، وعليه اعتمد القدوري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 باب خيار العيب "وإذا اطلع المشتري على عيب في المبيع فهو بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 شاء رده" لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة، فعند فوته يتخير كي لا يتضرر بلزوم ما لا يرضى به، "وليس له أن يمسكه ويأخذ النقصان" لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن في مجرد العقد؛ ولأنه لم يرض بزواله عن ملكه بأقل من المسمى فيتضرر به، ودفع الضرر عن المشتري ممكن بالرد بدون تضرره، والمراد عيب كان عند البائع ولم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض؛ لأن ذلك رضا به. قال: "وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب"؛ لأن التضرر بنقصان المالية، وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله. "والإباق والبول في الفراش والسرقة في الصغير عيب ما لم يبلغ، فإذا بلغ فليس ذلك بعيب حتى يعاوده بعد البلوغ" ومعناه: إذا ظهرت عند البائع في صغره ثم حدثت عند المشتري في صغره فله أن يرده؛ لأنه عين ذلك، وإن حدثت بعد بلوغه لم يرده؛ لأنه غيره، وهذا؛ لأن سبب هذه الأشياء يختلف بالصغر والكبر، فالبول في الفراش في الصغر لضعف المثانة، وبعد الكبر لداء في باطنه، والإباق في الصغر لحب اللعب والسرقة لقلة المبالاة، وهما بعد الكبر لخبث في الباطن، والمراد من الصغير من يعقل، فأما الذي لا يعقل فهو ضال لا آبق فلا يتحقق عيبا. قال: "والجنون في الصغر عيب أبدا" ومعناه: إذا جن في الصغر في يد البائع ثم عاوده في يد المشتري فيه أو في الكبر يرده؛ لأنه عين الأول، إذ السبب في الحالين متحد وهو فساد الباطن، وليس معناه أنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري؛ لأن الله تعالى قادر على إزالته وإن كان قلما يزول فلا بد من المعاودة للرد. "قال: "والبخر والدفر عيب في الجارية"؛ لأن المقصود قد يكون الاستفراش وطلب الولد وهما يخلان به، وليس بعيب في الغلام؛ لأن المقصود الاستخدام ولا يخلان به، إلا أن يكون من داء؛ لأن الداء عيب. "والزنا وولد الزنا عيب في الجارية دون الغلام"؛ لأنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش وطلب الولد، ولا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام، إلا أن يكون الزنا عادة له على ما قالوا؛ لأن اتباعهن يخل بالخدمة. قال: "والكفر عيب فيهما"؛ لأن طبع المسلم ينفر عن صحبته؛ ولأنه يمتنع صرفه في بعض الكفارات فتختل الرغبة، فلو اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما لا يرده؛ لأنه زوال العيب. وعند الشافعي يرده؛ لأن الكافر يستعمل فيما لا يستعمل فيه المسلم، وفوات الشرط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 بمنزلة العيب. قال: "فلو كانت الجارية بالغة لا تحيض أو هي مستحاضة فهو عيب"؛ لأن ارتفاع الدم واستمراره علامة الداء، ويعتبر في الارتفاع أقصى غاية البلوغ وهو سبع عشرة سنة فيها عند أبي حنيفة رحمه الله ويعرف ذلك بقول الأمة فترد إذا انضم إليه نكول البائع قبل القبض وبعده وهو الصحيح. قال: "وإذا حدث عند المشتري عيب فاطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان ولا يرد المبيع"؛ لأن في الرد إضرارا بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما، ويعود معيبا فامتنع، ولا بد من دفع الضرر عنه فتعين الرجوع بالنقصان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه؛ لأنه رضي بالضرر. قال: "ومن اشترى ثوبا فقطعه فوجد به عيبا رجع بالعيب"؛ لأنه امتنع الرد بالقطع فإنه عيب حادث "فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له ذلك"؛ لأن الامتناع لحقه وقد رضي به "فإن باعه المشتري لم يرجع بشيء"؛ لأن الرد غير ممتنع برضا البائع فيصير هو بالبيع حابسا للمبيع فلا يرجع بالنقصان "فإن قطع الثوب وخاطه أو صبغه أحمر، أو لت السويق بسمن ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه" لامتناع الرد بسبب الزيادة؛ لأنه لا وجه إلى الفسخ في الأصل بدونها؛ لأنها لا تنفك عنه، ولا وجه إليه معها؛ لأن الزيادة ليست بمبيعة فامتنع أصلا "وليس للبائع أن يأخذه"؛ لأن الامتناع لحق الشرع لا لحقه "فإن باعه المشتري بعدما رأى العيب رجع بالنقصان" لأن الرد ممتنع أصلا قبله فلا يكون بالبيع حابسا للمبيع. وعن هذا قلنا: إن من اشترى ثوبا فقطعه لباسا لولده الصغير وخاطه ثم اطلع على عيب لا يرجع بالنقصان، ولو كان الولد كبيرا يرجع؛ لأن التمليك حصل في الأول قبل الخياطة، وفي الثاني بعدها بالتسليم إليه. قال: "ومن اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه" أما الموت؛ فلأن الملك ينتهي به والامتناع حكمي لا يفعله، وأما الإعتاق فالقياس فيه أن لا يرجع؛ لأن الامتناع بفعله فصار كالقتل، وفي الاستحسان: يرجع؛ لأن العتق إنهاء الملك؛ لأن الآدمي ما خلق في الأصل محلا للملك، وإنما يثبت الملك فيه موقتا إلى الإعتاق فكان إنهاء فصارت كالموت، وهذا؛ لأن الشيء يتقرر بانتهائه فيجعل كأن الملك باق والرد متعذر. والتدبير والاستيلاد بمنزلته؛ لأنه تعذر النقل مع بقاء المحل بالأمر الحكمي "وإن أعتقه على مال لم يرجع بشيء" لأنه حبس بدله وحبس البدل كحبس المبدل. وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يرجع؛ لأنه إنهاء للملك وإن كان بعوض. "فإن قتل المشتري العبد أو كان طعاما فأكله لم يرجع بشيء عند أبي حنيفة رحمه الله أما القتل فالمذكور ظاهر الرواية وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يرجع" لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 قتل المولى عبده لا يتعلق به حكم دنياوي فصار كالموت حتف أنفه فيكون إنهاء. ووجه الظاهر أن القتل لا يوجد إلا مضمونا، وإنما يسقط الضمان هاهنا باعتبار الملك فيصير كالمستفيد به عوضا، بخلاف الإعتاق؛ لأنه لا يوجب الضمان لا محالة كإعتاق المعسر عبدا مشتركا، وأما الأكل فعلى الخلاف، فعندهما يرجع وعنده لا يرجع استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرق لهما أنه صنع في المبيع ما يقصد بشرائه ويعتاد فعله فيه فأشبه الإعتاق. وله أنه تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فأشبه البيع والقتل، ولا معتبر بكونه مقصودا؛ ألا يرى أن البيع مما يقصد بالشراء ثم هو يمنع الرجوع، فإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الطعام كشيء واحد فصار كبيع البعض، وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل، وعنهما أنه يرد ما بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض. قال: "ومن اشترى بيضا أو بطيخا أو قثاء أو خيارا أو جوزا فكسره فوجده فاسدا فإن لم ينتفع به رجع بالثمن كله"؛ لأنه ليس بمال فكان البيع باطلا، ولا يعتبر في الجوز صلاح قشره على ما قيل لأن ماليته باعتبار اللب "وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده"؛ لأن الكسر عيب حادث "و" لكنه "يرجع بنقصان العيب" دفعا للضرر بقدر الإمكان. وقال الشافعي رحمه الله: يرده؛ لأن الكسر بتسليطه. قلنا: التسليط على الكسر في ملك المشتري لا في ملكه فصار كما إذا كان ثوبا فقطعه، ولو وجد البعض فاسدا وهو قليل جاز البيع استحسانا؛ لأنه لا يخلو عن قليل فاسد. والقليل ما لا يخلو عنه الجوز عادة كالواحد والاثنين في المائة، وإن كان الفاسد كثيرا لا يجوز ويرجع بكل الثمن؛ لأنه جمع بين المال وغيره فصار كالجمع بين الحر والعبد. قال: "ومن باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب فإن قبل بقضاء القاضي بإقرار أو بينة أو بإباء يمين له أن يرده على بائعه"؛ لأنه فسخ من الأصل فجعل البيع كأن لم يكن غاية الأمر أنه أنكر قيام العيب لكنه صار مكذبا شرعا بالقضاء، ومعنى القضاء بالإقرار أنه أنكر الإقرار فأثبت بالبينة، وهذا بخلاف الوكيل بالبيع إذا رد عليه بعيب بالبينة حيث يكون ردا على الموكل؛ لأن البيع هناك واحد والموجود هاهنا بيعان، فيفسخ الثاني والأول لا ينفسخ "وإن قبل بغير قضاء القاضي ليس له أن يرده"؛ لأنه بيع جديد في حق ثالث وإن كان فسخا في حقهما والأول ثالثهما. "وفي الجامع الصغير: وإن رد عليه بإقراره بغير قضاء بعيب لا يحدث مثله لم يكن له أن يخاصم الذي باعه" وبهذا يتبين أن الجواب فيما يحدث مثله وفيما لا يحدث سواء وفي بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 روايات البيوع: إن كان فيما لا يحدث مثله يرجع بالنقصان للتيقن بقيام العيب عند البائع الأول. قال: "ومن اشترى عبدا فقبضه فادعى عيبا لم يجبر على دفع الثمن حتى يحلف البائع أو يقيم المشتري بينة" لأنه أنكر وجوب دفع الثمن حيث أنكر تعين حقه بدعوى العيب، ودفع الثمن أولا ليتعين حقه بإزاء تعين المبيع؛ ولأنه لو قضي بالدفع فلعله يظهر العيب فينتقض القضاء فلا يقضي به صونا لقضائه "فإن قال المشتري شهودي بالشام استحلف البائع ودفع الثمن" يعني إذا حلف ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأن في الانتظار ضررا بالبائع، وليس في الدفع كثير ضرر به؛ لأنه على حجته، أما إذا نكل ألزم العيب؛ لأنه حجة فيه. قال: "ومن اشترى عبدا فادعى إباقا لم يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده" والمراد التحليف على أنه لم يأبق عنده؛ لأن القول وإن كان قوله ولكن إنكاره إنما يعتبر بعد قيام العيب به في يد المشتري ومعرفته بالحجة "فإذا أقامها حلف بالله لقد باعه وسلمه إليه وما أبق عنده قط" كذا قال في الكتاب، وإن شاء حلفه بالله ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي أو بالله ما أبق عندك قط أما لا يحلفه بالله لقد باعه وما به هذا العيب ولا بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب؛ لأن فيه ترك النظر للمشتري؛ لأن العيب قد يحدث بعد البيع قبل التسليم وهو موجب للرد، والأول ذهول عنه والثاني يوهم تعلقه بالشرطين فيتأوله في اليمين عند قيامه وقت التسليم دون البيع، ولو لم يجد المشتري بينة على قيام العيب عنده وأراد تحليف البائع ما يعلم أنه أبق عنده يحلف على قولهما. واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله لهما أن الدعوى معتبرة حتى يترتب عليها البينة فكذا يترتب التحليف. وله على ما قاله البعض أن الحلف يترتب على دعوى صحيحة، وليست تصح إلا من خصم ولا يصير خصما فيه إلا بعد قيام العيب. وإذا نكل عن اليمين عندهما يحلف ثانيا للرد على الوجه الذي قدمناه. قال رضي الله عنه: إذا كانت الدعوى في إباق الكبير يحلف ما أبق منذ بلغ مبلغ الرجال؛ لأن الإباق في الصغر لا يوجب رده بعد البلوغ. قال: "ومن اشترى جارية وتقابضا فوجد بها عيبا فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها وقال المشتري: بعتنيها وحدها فالقول قول المشتري"؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض كما في الغصب "وكذا إذا اتفقا على مقدار المبيع واختلفا في المقبوض" لما بينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 قال: "ومن اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يأخذهما أو يدعهما"؛ لأن الصفقة تتم بقبضهما فيكون تفريقها قبل التمام وقد ذكرناه، وهذا؛ لأن القبض له شبه بالعقد فالتفريق فيه كالتفريق في العقد. ولو وجد بالمقبوض عيبا اختلفوا فيه. ويروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه يرده خاصة، والأصح أنه يأخذهما أو يردهما؛ لأن تمام الصفقة تعلق بقبض المبيع وهو اسم للكل فصار كحبس المبيع لما تعلق زواله باستيفاء الثمن لا يزول دون قبض جميعه ولو قبضهما ثم وجد بأحدهما عيبا يرده خاصة خلافا لزفر. هو يقول: فيه تفريق الصفقة ولا يعرى عن ضرر؛ لأن العادة جرت بضم الجيد إلى الرديء فأشبه ما قبل القبض وخيار الرؤية والشرط. ولنا أنه تفريق الصفقة بعد التمام؛ لأن بالقبض تتم الصفقة في خيار العيب وفي خيار الرؤية والشرط لا تتم به على ما مر، ولهذا لو استحق أحدهما ليس له أن يرد الآخر. قال: "ومن اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا رده كله أو أخذه كله" ومراده بعد القبض؛ لأن المكيل إذا كان من جنس واحد فهو كشيء واحد؛ ألا يرى أنه يسمى باسم واحد وهو الكر ونحوه. وقيل هذا إذا كان في وعاء واحد، فإذا كان في وعاءين فهو بمنزلة عبدين حتى يرد الوعاء الذي وجد فيه العيب دون الآخر. "ولو استحق بعضه فلا خيار له في رد ما بقي"؛ لأنه لا يضره التبعيض، والاستحقاق لا يمنع تمام الصفقة؛ لأن تمامها برضا العاقد لا برضا المالك، وهذا إذا كان بعد القبض، أما لو كان قبل القبض فله أن يرد ما بقي لتفرق الصفقة قبل التمام. قال "وإن كان ثوبا فله الخيار"؛ لأن التشقيص فيه عيب وقد كان وقت البيع حيث ظهر الاستحقاق، بخلاف المكيل والموزون. قال: "ومن اشترى جارية فوجد بها قرحا فداواه أو كانت دابة فركبها في حاجة فهو رضا"؛ لأن ذلك دليل قصده الاستبقاء بخلاف خيار الشرط؛ لأن الخيار هناك للاختبار وأنه بالاستعمال فلا يكون الركوب مسقطا "وإن ركبها ليردها على بائعها أو ليسقيها أو ليشتري لها علفا فليس برضا" أما الركوب للرد؛ فلأنه سبب الرد والجواب في السقي واشتراء العلف محمول على ما إذا كان لا يجد بدا منه، إما لصعوبتها أو لعجزه أو لكون العلف في عدل واحد، وأما إذا كان يجد بدا منه لانعدام ما ذكرناه يكون رضا. قال: "ومن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به فقطع عند المشتري له أن يرده ويأخذ الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: يرجع بما بين قيمته سارقا إلى غير سارق" وعلى هذا الخلاف إذا قتل بسبب وجد في يد البائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 والحاصل أنه بمنزلة الاستحقاق عنده وبمنزلة العيب عندهما. لهما أن الموجود في يد البائع سبب القطع والقتل وأنه لا ينافي المالية فنفذ العقد فيه لكنه متعيب فيرجع بنقصانه عند تعذر رده وصار كما إذا اشترى جارية حاملا فماتت في يده بالولادة فإنه يرجع بفضل ما بين قيمتها حاملا إلى غير حامل. وله أن سبب الوجوب في يد البائع والوجوب يفضي إلى الوجود فيكون الوجود مضافا إلى السبب السابق، وصار كما إذا قتل المغصوب أو قطع بعد الرد بجناية وجدت في يد الغاصب، وما ذكر من المسألة ممنوع. ولو سرق في يد البائع ثم في يد المشتري فقطع بهما عندهما يرجع بالنقصان كما ذكرنا. وعنده لا يرده بدون رضا البائع للعيب الحادث ويرجع بربع الثمن، وإن قبله البائع فبثلاثة الأرباع؛ لأن اليد من الآدمي نصفه وقد تلفت بالجنايتين وفي إحداهما رجوع فيتنصف؛ ولو تداولته الأيدي ثم قطع في يد الأخير رجع الباعة بعضهم على بعض عنده كما في الاستحقاق، وعندهما يرجع الأخير على بائعه ولا يرجع بائعه على بائعه؛ لأنه بمنزلة العيب. وقوله "في الكتاب ولم يعلم المشتري" يفيد على مذهبهما؛ لأن العلم بالعيب رضا به، ولا يفيد على قوله في الصحيح؛ لأن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع. قال: "ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له أن يرده بعيب وإن لم يسم العيوب بعددها" وقال الشافعي: لا تصح البراءة بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح. هو يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد، وتمليك المجهول لا يصح. ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة وإن كان في ضمنه التمليك لعدم الحاجة إلى التسليم فلا تكون مفسدة، ويدخل في هذه البراءة العيب الموجود والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يدخل فيه الحادث وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن البراءة تتناول الثابت. ولأبي يوسف أن الغرض إلزام العقد بإسقاط حقه عن صفة السلامة وذلك بالبراءة عن الموجود والحادث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 باب البيع الفاسد مدخل ... باب البيع الفاسد "وإذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرما فالبيع فاسد كالبيع بالميتة والدم والخنزير والخمر، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر" قال رضي الله عنه: هذه فصول جمعها، وفيها تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى فنقول: البيع بالميتة والدم باطل، وكذا بالحر لانعدام ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، فإن هذه الأشياء لا تعد مالا عند أحد والبيع بالخمر والخنزير فاسد لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة المال بالمال فإنه مال عند البعض والباطل لا يفيد ملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 التصرف، ولو هلك المبيع في يد المشتري فيه يكون أمانة عند بعض المشايخ لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك وعند البعض يكون مضمونا لأنه لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء. وقيل الأول قول أبي حنيفة رحمه الله والثاني قولهما كما في بيع أم الولد والمدبر على ما نبينه إن شاء الله تعالى، والفاسد يفيد الملك عند اتصال القبض به ويكون المبيع مضمونا في يد المشتري فيه. وفيه خلاف الشافعي رحمه الله وسنبينه بعد هذا. وكذا بيع الميتة والدم والحر باطل لأنها ليست أموالا فلا تكون محلا للبيع. وأما بيع الخمر والخنزير إن كان قوبل بالدين كالدراهم والدنانير فالبيع باطل، وغن كان قوبل بعين فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله وإن كان لا يملك عين الخمر والخنزير. ووجه الفرق أن الخمر مال، وكذا الخنزير مال عند أهل الذمة إلا أنه غير متقوم لما أن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه وفي تملكه بالعقد مقصودا إعزاز له، وهذا لأنه متى اشتراهما بالدراهم فالدراهم غير مقصودة لكونها وسيلة لما أنها تجب في الذمة، وإنما المقصود الخمر فسقط التقوم أصلا بخلاف ما إذا اشترى الثوب بالخمر لأن المشتري للثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر وفيه إعزاز للثوب دون الخمر فبقي ذكر الخمر معتبرا في تملك الثوب لا في حق نفس الخمر حتى فسدت التسمية ووجبت قيمة الثوب دون الخمر، وكذا إذا باع الخمر بالثوب لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر لكونه مقايضة. قال: "وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد" ومعناه باطل لأن استحقاق العتق قد ثبت لأم الولد لقوله عليه الصلاة والسلام: "أعتقها ولدها" وسبب الحرية انعقد في المدبر في الحال لبطلان الأهلية بعد الموت، والمكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى، ولو ثبت الملك بالبيع لبطل ذلك كله فلا يجوز، ولو رضي المكاتب بالبيع ففيه روايتان، والأظهر الجواز، والمراد المدبر المطلق دون المقيد، وفي المطلق خلاف الشافعي رحمه الله وقد ذكرناه في العتاق. قال: "وإن ماتت أم الولد أو المدبر في يد المشتري فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة، وقالا: عليه قيمتهما" وهو رواية عنه لهما أنه مقبوض بجهة البيع فيكون مضمونا عليه كسائر الأموال، وهذا لأن المدبر وأم الولد يدخلان تحت البيع حتى يملك ما يضم إليهما في البيع، بخلاف المكاتب لأنه في يد نفسه فلا يتحقق في حقه القبض وهذا الضمان به وله أن جهة البيع إنما تلحق بحقيقة في محل يقبل الحقيقة وهما لا يقبلان حقيقة البيع فصارا كالمكاتب، وليس دخولهما في البيع في حق أنفسهما، وإنما ذلك ليثبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 حكم البيع فيما ضم إليهما فصار كمال المشتري لا يدخل في حكم عقده بانفراده، وإنما يثبت حكم الدخول فيما ضمه إليه، كذا هذا. قال: "ولا يجوز بيع السمك قبل أن يصطاد" لأنه باع مالا يملكه "ولا في حظيرة إذا كان لا يؤخذ إلا بصيد"؛ لأنه غير مقدور التسليم، ومعناه إذا أخذه ثم ألقاه فيها لو كان يؤخذ من غير حيلة جاز، إلا إذا اجتمعت فيها بأنفسها ولم يسد عليها المدخل لعدم الملك. قال: "ولا بيع الطير في الهواء" لأنه غير مملوك قبل الأخذ، وكذا لو أرسله من يده لأنه غير مقدور التسليم "ولا بيع الحمل ولا النتاج" لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الحبل وحبل الحبلة ولأن فيه غررا. قال: "ولا اللبن في الضرع" للغرر فعساه انتفاخ، ولأنه ينازع في كيفية الحلب، وربما يزداد فيختلط المبيع بغيره. قال: "ولا الصوف على ظهر الغنم" لأنه من أوصاف الحيوان، ولأنه ينبت من أسفل فيختلط المبيع بغيره، بخلاف القوائم؛ لأنها تزيد من أعلى، وبخلاف القصيل لأنه يمكن قلعه، والقطع في الصوف متعين فيقع التنازع في موضع القطع، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم، وعن لبن في ضرع، وعن سمن في لبن" وهو حجة على أبي يوسف رحمه الله في هذا الصوف حيث جوز بيعه فيما يروى عنه. قال: "وجذع في سقف وذراع من ثوب ذكرا القطع أو لم يذكراه" لأنه لا يمكن التسليم إلا بضرر، بخلاف ما إذا باع عشرة دراهم من نقرة فضة لأنه لا ضرر في تبعيضه، ولو لم يكن معينا لا يجوز لما ذكرنا وللجهالة أيضا، ولو قطع البائع الذراع أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري يعود صحيحا لزوال المفسد، بخلاف ما إذا باع النوى في التمر أو البذر في البطيخ حيث لا يكون صحيحا. وإن شقهما وأخرج المبيع لأن في وجودهما احتمالا، أما الجذع فعين موجود. قال: "وضربة القانص" وهو ما يخرج من الصيد بضرب الشبكة مرة لأنه مجهول ولأن فيه غررا. قال: "وبيع المزابنة، وهو بيع الثمر على النخيل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصا" لأنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن المزابنة والمحاقلة" فالمزابنة ما ذكرنا، والمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصا؛ ولأنه باع مكيلا بمكيل من جنسه فلا تجوز بطريق الخرص كما إذا كانا موضوعين على الأرض، وكذا العنب بالزبيب على هذا. وقال الشافعي رحمه الله: يجوز فيما دون خمسة أوسق لأنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 المزابنة ورخص في العرايا", وهو أن يباع بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق". قلنا: العرية: العطية لغة، وتأويله أن يبيع المعرى له ما على النخيل من المعري بتمر مجذوذ، وهو بيع مجازا لأنه لم يملكه فيكون برا مبتدأ. قال: "ولا يجوز البيع بإلقاء الحجر والملامسة والمنابزة". وهذه بيوع كانت في الجاهلية، وهو أن يتراوض الرجلان على سلعة: أي يتساومان، فإذا لمسها المشتري أو نبذها إليه البائع أو وضع المشتري عليها حصاة لزم البيع؛ فالأول بيع الملامسة والثاني المنابذة، والثالث إلقاء الحجر، وقد "نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الملامسة والمنابذة" ولأن فيه تعليقا بالخطر. قال: "ولا يجوز بيع ثوب من ثوبين" لجهالة المبيع؛ ولو قال: على أنه بالخيار في أن يأخذ أيهما شاء جاز البيع استحسانا، وقد ذكرناه بفروعه. قال: "ولا يجوز بيع المراعي ولا إجارتها" المراد الكلأ، أما البيع فلأنه ورد على ما لا يملكه لاشتراك الناس فيه بالحديث، وأما الإجارة فلأنها عقدت على استهلاك عين مباح، ولو عقد على استهلاك عين مملوك بأن استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يجوز فهذا أولى. قال: "ولا يجوز بيع النحل" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله: يجوز إذا كان محرزا، وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه حيوان منتفع به حقيقة وشرعا فيجوز بيعه وإن كان لا يؤكل كالبغل والحمار. ولهما أنهما من الهوام فلا يجوز بيعه كالزنابير والانتفاع بما يخرج منه لا بعينه فلا يكون منتفعا به قبل الخروج، حتى لو باع كوارة فيها عسل بما فيها من النحل يجوز تبعا له، كذا ذكره الكرخي رحمه الله. "ولا يجوز بيع دود القز عند أبي حنيفة" لأنه من الهوام، وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز إذا ظهر فيه القز تبعا له. وعند محمد رحمه الله يجوز كيفما كان لكونه منتفعا به "ولا يجوز بيع بيضة عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يجوز" لمكان الضرورة. وقيل أبو يوسف مع أبي حنيفة رحمه الله كما في دود القز والحمام إذا علم عددها وأمكن تسليمها جاز بيعها لأنه مال مقدور التسليم. "ولا يجوز بيع الآبق" لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عنه ولأنه لا يقدر على تسليمه "إلا أن يبيعه من رجل زعم أنه عنده" لأن المنهي عنه بيع آبق مطلق وهو أن يكون آبقا في حق المتعاقدين وهذا غير آبق في حق المشتري؛ ولأنه إذا كان عند المشتري انتفى العجز عن التسليم وهو المانع، ثم لا يصير قابضا بمجرد العقد إذا كان في يده وكان أشهد عنده أخذه لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 أمانة عنده وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض البيع، ولو كان لم يشهد يجب أن يصير قابضا لأنه قبض غصب، لو قال هو عند فلان فبعه مني فباعه لا يجوز لأنه آبق في حق المتعاقدين ولأنه لا يقدر على تسليمه. ولو باع الآبق ثم عاد من الإباق لا يتم ذلك العقد؛ لأنه وقع باطلا لانعدام المحلية كبيع الطير في الهواء. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يتم العقد إذا لم يفسخ لأن العقد انعقد لقيام المالية والمانع قد ارتفع وهو العجز عن التسليم، كما إذا أبق بعد البيع، وهكذا يروى عن محمد رحمه الله. قال: "ولا بيع لبن امرأة في قدح" وقال الشافعي رحمه الله يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر، ولنا أنه جزء الآدمي وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع، ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحرة والأمة. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز إيراد العقد على نفسها فكذا على جزئها. قلنا: الرق قد حل نفسها، فأما اللبن فلا رق فيه لأنه يختص بمحل يتحقق فيه القوة التي هي ضده وهو الحي ولا حياة في اللبن. قال: "ولا يجوز بيع شعر الخنزير" لأنه نجس العين فلا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه، ويوجد مباح الأصل فلا ضرورة إلى البيع، ولو وقع في الماء القليل أفسده عند أبي يوسف. وعند محمد رحمه الله لا يفسده لأن إطلاق الانتفاع به دليل طهارته ولأبي يوسف رحمه الله أن الإطلاق للضرورة فلا يظهر إلا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع تغايرها. قال: "ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها" لأن الآدمي مكرم لا مبتذل فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهانا ومبتذلا وقد قال: عليه الصلاة والسلام: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" الحديث، وإنما يرخص فيما يتخذ من الوبر فيزيد في قرون النساء وذوائبهن. قال "ولا بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ" لأنه غير منتفع به، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" وهو اسم لغير المدبوغ على ما عرف في كتاب الصلاة "ولا بأس ببيعها والانتفاع بها بعد الدباغ" لأنها قد طهرت بالدباغ، وقد ذكرناه في كتاب الصلاة "ولا بأس ببيع عظام الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها والانتفاع بذلك كله"؛ لأنها طاهرة لا يحلها الموت؛ لعدم الحياة وقد قررناه من قبل. والفيل كالخنزير نجس العين عند محمد رحمه الله وعندهما بمنزلة السباع حتى يباع عظمه وينتفع به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 قال: "وإذا كان السفل لرجل وعلوه لآخر فسقطا أو سقط العلو وحده فباع صاحب العلو علوه لم يجز" لأن حق التعلي ليس بمال لأن المال ما يمكن إحرازه والمال هو المحل للبيع، بخلاف الشرب حيث يجوز بيعه تبعا للأرض باتفاق الروايات ومفردا في رواية، وهو اختيار مشايخ بلخي رحمهم الله لأنه حظ من الماء ولهذا يضمن بالإتلاف وله قسط من الثمن على ما نذكره في كتاب الشرب. قال: "وبيع الطريق وهبته جائز وبيع مسيل الماء وهبته باطل" والمسألة تحتمل وجهين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسييل. فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم لأن له طولا وعرضا معلوما، وأما المسيل فمجهول لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء وإن كان الثاني ففي بيع حق المرور روايتان ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق التسييل أن حق المرور معلوم لتعلقه بمحل معلوم وهو الطريق، أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي وعلى الأرض مجهول لجهالة محله. ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي على إحدى الروايتين أن حق التعلي يتعلق بعين لا تبقى وهو البناء فأشبه المنافع، أما حق المرور يتعلق بعين تبقى وهو الأرض فأشبه الأعيان. قال: "ومن باع جارية فإذا هو غلام" فلا بيع بينهما، بخلاف ما إذا باع كبشا فإذا هو نعجة حيث ينعقد البيع ويتخير. والفرق ينبني على الأصل الذي ذكرناه في النكاح لمحمد رحمه الله وهو أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا ففي مختلفي الجنس يتعلق العقد بالمسمى ويبطل لانعدامه، وفي متحدي الجنس يتعلق بالمشار إليه وينعقد لوجوده ويتخير لفوات الوصف كمن اشترى عبدا على أنه خباز فإذا هو كاتب، وفي مسألتنا الذكر والأنثى من بني آدم جنسان للتفاوت في الأغراض، وفي الحيوانات جنس واحد للتقارب فيها وهو المعتبر في هذا دون الأصل كالخل والدبس جنسان. والوذاري والزندنيجي على ما قالوا جنسان مع اتحاد أصلهما. قال: "ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لأن الملك قد تم فيها بالقبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء وصار كما لو باع بمثل الثمن الأول أو بالزيادة أو بالعرض. ولنا قول عائشة رضي الله عنها: لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعدما اشترت بثمانمائة: بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب؛ ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض، بخلاف ما إذا باع بالعرض لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة. قال: "ومن اشترى جارية بخمسمائة ثم باعها وأخرى معها من البائع قبل أن ينقد الثمن بخمسمائة فالبيع جائز في التي لم يشترها من البائع ويبطل في الأخرى" لأنه لا بد أن يجعل بعض الثمن بمقابلة التي لم يشترها منه فيكون مشتريا للأخرى بأقل مما باع وهو فاسد عندنا، ولم يوجد هذا المعنى في صاحبتها ولا يشيع الفساد لأنه ضعيف فيها لكونه مجتهدا فيه أو؛ لأنه باعتبار شبهة الربا، أو؛ لأنه طارئ؛ لأنه يظهر بانقسام الثمن أو المقاصة فلا يسري إلى غيرها. قال: "ومن اشترى زيتا على أن يزنه بظرفه فيطرح عنه مكان كل ظرف خمسين رطلا فهو فاسد، ولو اشترى على أن يطرح عنه بوزن الظرف جاز"؛ لأن الشرط الأول لا يقتضيه العقد والثاني يقتضيه. قال: "ومن اشترى سمنا في زق فرد الظرف وهو عشرة أرطال فقال البائع الزق غير هذا وهو خمسة أرطال فالقول قول المشتري"، لأنه إن اعتبر اختلافا في تعيين الزق المقبوض فالقول قول القابض ضمينا كان أو أمينا، وإن اعتبر اختلافا في السمن فهو في الحقيقة اختلاف في الثمن فيكون القول قول المشتري؛ لأنه ينكر الزيادة. قال: "وإذا أمر المسلم نصرانيا ببيع خمر أو شرائها ففعل جاز عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يجوز: على المسلم" وعلى هذا الخلاف الخنزير، وعلى هذا توكيل المحرم غيره ببيع صيده. لهما أن الموكل لا يليه فلا يوليه غيره؛ ولأن ما يثبت للوكيل ينتقل إلى الموكل فصار كأنه باشره بنفسه فلا يجوز. ولأبي حنيفة رحمه الله أن العاقد هو الوكيل بأهليته وولايته، وانتقال الملك إلى الآمر أمر حكمي فلا يمتنع بسبب الإسلام كما إذا ورثهما، ثم إن كان خمرا يخللها وإن كان خنزيرا يسيبه. قال: "ومن باع عبدا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها فالبيع فاسد"؛ لأن هذا بيع وشرط وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط. ثم جملة المذهب فيه أن يقال: كل شرط يقتضيه العقد كشرط الملك للمشتري لا يفسد العقد لثبوته بدون الشرط، وكل شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق يفسده كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع؛ لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا، أو؛ لأنه يقع بسببه المنازعة فيعرى العقد عن مقصوده إلا أن يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 متعارفا؛ لأن العرف قاض على القياس، ولو كان لا يقتضيه العقد ولا منفعة فيه لأحد لا يفسده وهو الظاهر من المذهب كشرط أن لا يبيع المشتري الدابة المبيعة لأنه انعدمت المطالبة فلا يؤدي إلى الربا، ولا إلى المنازعة. إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه الشروط لا يقتضيها العقد؛ لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخيير لا الإلزام حتما، والشرط يقتضي ذلك وفيه منفعة للمعقود عليه، والشافعي رحمه الله وإن كان يخالفنا في العتق ويقيسه على بيع العبد نسمة فالحجة عليه ما ذكرناه، وتفسير المبيع نسمة أن يباع ممن يعلم أنه يعتقه لا أن يشترط فيه، فلو أعتقه المشتري بعدما اشتراه بشرط العتق صح البيع حتى يجب عليه الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يبقى فاسدا حتى يجب عليه القيمة؛ لأن البيع قد وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا كما إذا تلف بوجه آخر. ولأبي حنيفة رحمه الله أن شرط العتق من حيث ذاته لا يلائم العقد على ما ذكرناه، ولكن من حيث حكمه يلائمه؛ لأنه منه للملك والشيء بانتهائه يتقرر، ولهذا لا يمنع العتق الرجوع بنقصان العيب، فإذا تلف من وجه آخر لم تتحقق الملاءمة فيتقرر الفساد، وإذا وجد العتق تحققت الملاءمة فيرجح جانب الجواز فكان الحال قبل ذلك موقوفا. قال: "وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها أو على أن يقرضه المشتري درهما أو على أن يهدي له هدية"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وسلف؛ ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع. وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن صفقتين في صفقة قال: "ومن باع عينا على أن لا يسلمه إلى رأس الشهر فالبيع فاسد"؛ لأن الأجل في المبيع العين باطل فيكون شرطا فاسدا، وهذا؛ لأن الأجل شرع ترفيها فيليق بالديون دون الأعيان. قال: "ومن اشترى جارية إلا حملها فالبيع فاسد" والأصل أن ما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه من العقد، والحمل من هذا القبيل، وهذا؛ لأنه بمنزلة أطراف الحيوان لاتصاله به خلقة وبيع الأصل يتناولهما فالاستثناء يكون على خلاف الموجب فلا يصح فيصير شرطا فاسدا، والبيع يبطل به والكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع؛ لأنها تبطل الشروط الفاسدة، غير أن المفسد في الكتابة ما يتمكن في صلب العقد منها، والهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد لا تبطل باستثناء الحمل، بل يبطل الاستثناء؛ لأن هذه العقود لا تبطل الشروط الفاسدة، وكذا الوصية لا تبطل به، لكن يصح الاستثناء حتى يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 الحمل ميراثا والجارية وصية؛ لأن الوصية أخت الميراث والميراث يجري فيما في البطن، بخلاف ما إذا استثنى خدمتها؛ لأن الميراث لا يجري فيها. قال: "ومن اشترى ثوبا على أن يقطعه البائع ويخيطه قميصا أو قباء فالبيع فاسد"؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ ولأنه يصير صفقة في صفقة على ما مر. قال: "ومن اشترى نعلا على أن يحذوها البائع قال أو يشركها فالبيع فاسد" قال رضي الله عنه: ما ذكره جواب القياس، ووجهه ما بينا، وفي الاستحسان: يجوز للتعامل فيه فصار كصبغ الثوب، وللتعامل جوزنا الاستصناع. قال: "والبيع إلى النيروز والمهرجان وصوم النصارى وفطر اليهود إذا لم يعرف المتبايعان ذلك فاسد لجهالة الأجل" وهي مفضية إلى المنازعة في البيع لابتنائها على المماكسة إلا إذا كانا يعرفانه لكونه معلوما عندهما، أو كان التأجيل إلى فطر النصارى بعدما شرعوا في صومهم؛ لأن مدة صومهم معلومة بالأيام فلا جهالة فيه. قال: "ولا يجوز البيع إلى قدوم الحاج"، وكذلك إلى الحصاد والدياس والقطاف والجزاز؛ لأنها تتقدم وتتأخر، ولو كفل إلى هذه الأوقات جاز؛ لأن الجهالة اليسيرة متحملة في الكفالة وهذه الجهالة يسيرة مستدركة لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها ولأنه معلوم الأصل؛ ألا يرى أنها تحتمل الجهالة في أصل الدين بأن تكفل بما ذاب على فلان ففي الوصف أولى، بخلاف البيع فإنه لا يحتملها في أصل الثمن، فكذا في وصفه، بخلاف ما إذا باع مطلقا ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات حيث جاز؛ لأن هذا تأجيل في الدين وهذه الجهالة فيه متحملة بمنزلة الكفالة، ولا كذلك اشتراطه في أصل العقد؛ لأنه يبطل بالشرط الفاسد. "ولو باع إلى هذه الآجال ثم تراضيا بإسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج جاز البيع أيضا. وقال زفر رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا وصار كإسقاط الأجل في النكاح إلى أجل" ولنا أن الفساد للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره وهذه الجهالة في شرط زائد لا في صلب العقد فيمكن إسقاطه، بخلاف ما إذا باع الدرهم بالدرهمين ثم أسقطا الدرهم الزائد؛ لأن الفساد في صلب العقد، وبخلاف النكاح إلى أجل؛ لأنه متعة وهو عقد غير عقد النكاح، وقوله في الكتاب ثم تراضيا خرج وفاقا؛ لأن من له الأجل يستبد بإسقاطه؛ لأنه خالص حقه. قال: "ومن جمع بين حر وعبد أو شاة ذكية وميتة بطل البيع فيهما" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن سمى لكل واحد منهما ثمنا جاز في العبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 والشاة الذكية "وإن جمع بين عبد ومدبر أو بين عبده وعبد غيره صح البيع في العبد بحصته من الثمن" عند علمائنا الثلاثة، وقال زفر رحمه الله: فسد فيهما، ومتروك التسمية عامدا كالميتة، والمكاتب وأم الولد كالمدبر له الاعتبار بالفصل الأول، إذ محلية البيع منتفية بالإضافة إلى الكل ولهما أن الفساد بقدر المفسد فلا يتعدى إلى القن، كمن جمع بين الأجنبية وأخته في النكاح، بخلاف ما إذا لم يسم ثمن كل واحد منهما؛ لأنه مجهول ولأبي حنيفة رحمه الله وهو الفرق بين الفصلين أن الحر لا يدخل تحت العقد أصلا؛ لأنه ليس بمال والبيع صفقة واحدة فكان القبول في الحر شرطا للبيع في العبد وهذا شرط فاسد، بخلاف النكاح؛ لأنه لا يبطل بالشروط الفاسدة. وأما البيع في هؤلاء موقوف وقد دخلوا تحت العقد لقيام المالية ولهذا ينفذ في عبد الغير بإجازته، وفي المكاتب برضاه في الأصح، وفي المدبر بقضاء القاضي، وكذا في أم الولد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله، إلا أن المالك باستحقاقه المبيع وهؤلاء باستحقاقهم أنفسهم ردوا البيع فكان هذا إشارة إلى البقاء، كما إذا اشترى عبدين وهلك أحدهما قبل القبض، وهذا لا يكون شرط القبول في غير المبيع ولا بيعا بالحصة ابتداء ولهذا لا يشترط بيان ثمن كل واحد فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 فصل: في أحكامه "وإذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد بأمر البائع وفي العقد عوضان كل واحد منهما مال ملك المبيع ولزمته قيمته" وقال الشافعي رحمه الله: لا يملكه وإن قبضه؛ لأنه محظور فلا ينال به نعمة الملك؛ ولأن النهي نسخ للمشروعية للتضاد، ولهذا لا يفيده قبض القبض، وصار كما إذا باع بالميتة أو باع الخمر بالدراهم. ولنا أن ركن البيع صدر من أهله. مضافا إلى محله فوجب القول بانعقاده، ولا خفاء في الأهلية والمحلية. وركنه: مبادلة المال بالمال، وفيه الكلام والنهي يقرر المشروعية عندنا لاقتضائه التصور فنفس البيع مشروع، وبه تنال نعمة الملك وإنما المحظور ما يجاوره كما في البيع وقت النداء، وإنما لا يثبت الملك قبل القبض كي لا يؤدي إلى تقرير الفساد المجاور إذ هو واجب الرفع بالاسترداد فبالامتناع عن المطالبة أولى؛ ولأن السبب قد ضعف لمكان اقترانه بالقبيح فيشترط اعتضاده بالقبض في إفادة الحكم بمنزلة الهبة، والميتة ليست بمال فانعدم الركن، ولو كان الخمر مثمنا فقد خرجناه وشيء آخر وهو أن في الخمر الواجب هو القيمة وهي تصلح ثمنا لا مثمنا. ثم شرط أن يكون القبض بإذن البائع وهو الظاهر، إلا أنه يكتفي به دلالة كما إذا قبضه في مجلس العقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 استحسانا، وهو الصحيح؛ لأن البيع تسليط منه على القبض، فإذا قبضه بحضرته قبل الافتراق ولم ينهه كان بحكم التسليط السابق، وكذا القبض في الهبة في مجلس العقد يصح استحسانا، وشرط أن يكون في العقد عوضان كل واحد منهما مال ليتحقق ركن البيع وهو مبادلة المال فيخرج عليه البيع بالميتة والدم والحر والريح والبيع مع نفي الثمن، وقوله لزمته قيمته، في ذوات القيم، فأما في ذوات الأمثال فيلزمه المثل؛ لأنه مضمون بنفسه بالقبض فشابه الغصب، وهذا؛ لأن المثل صورة ومعنى أعدل من المثل معنى. قال: "ولكل واحد من المتعاقدين فسخه" رفعا للفساد، وهذا قبل القبض ظاهر؛ لأنه لم يفد حكمه فيكون الفسخ امتناعا منه، وكذا بعد القبض إذا كان الفساد في صلب العقد لقوته، وإن كان الفساد بشرط زائد فلمن له الشرط ذلك دون من عليه لقوة العقد، إلا أنه لم تتحقق المراضاة في حق من له الشرط. قال: "فإن باعه المشتري نفذ بيعه"؛ لأنه ملكه فملك التصرف فيه وسقط حق الاسترداد لتعلق حق العبد بالثاني ونقض الأول لحق الشرع وحق العبد مقدم لحاجته ولأن الأول مشروع بأصله دون وصفه، والثاني مشروع بأصله ووصفه فلا يعارضه مجرد الوصف؛ ولأنه حصل بتسليط من جهة البائع، بخلاف تصرف المشتري في الدار المشفوعة؛ لأن كل واحد منهما حق العبد ويستويان في المشروعية وما حصل بتسليط من الشفيع. قال: "ومن اشترى عبدا بخمر أو خنزير فقبضه وأعتقه أو باعه أو وهبه وسلمه فهو جائز وعليه القيمة" لما ذكرنا أنه ملكه بالقبض فتنفذ تصرفاته، وبالإعتاق قد هلك فتلزمه القيمة، وبالبيع والهبة انقطع الاسترداد على ما مر، والكتابة والرهن نظير البيع؛ لأنهما لازمان. إلا أنه يعود حق الاسترداد بعجز المكاتب وفك الرهن لزوال المانع. وهذا بخلاف الإجارة؛ لأنها تفسخ بالأعذار، ورفع الفساد عذر؛ ولأنها تنعقد شيئا فشيئا فيكون الرد امتناعا. قال: "وليس للبائع في البيع الفاسد أن يأخذ المبيع حتى يرد الثمن"؛ لأن المبيع مقابل به فيصير محبوسا به كالرهن "وإن مات البائع فالمشتري أحق به حتى يستوفي الثمن"؛ لأنه يقدم عليه في حياته، فكذا على ورثته وغرمائه بعد وفاته كالراهن ثم إن كانت دراهم الثمن قائمة يأخذها بعينها؛ لأنها تتعين في البيع الفاسد، وهو الأصح؛ لأنه بمنزلة الغصب، وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها لما بينا. قال: "ومن باع دارا بيعا فاسدا فبناها المشتري فعليه قيمتها" عند أبي حنيفة رحمه الله ورواه يعقوب عنه في الجامع الصغير ثم شك بعد ذلك في الرواية. "وقالا: ينقض البناء وترد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الدار" والغرس على هذا الاختلاف. لهما أن حق الشفيع أضعف من حق البائع حتى يحتاج فيه إلى القضاء ويبطل بالتأخير، بخلاف حق البائع، ثم أضعف الحقين لا يبطل بالبناء فأقواهما أولى، وله أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام وقد حصل بتسليط من جهة البائع فينقطع حق الاسترداد كالبيع، بخلاف حق الشفيع؛ لأنه لم يوجد منه التسليط ولهذا لا يبطل بهبة المشتري وبيعه فكذا ببنائه وشك يعقوب في حفظ الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقد نص محمد على الاختلاف في كتاب الشفعة فإن حق الشفعة مبني على انقطاع حق البائع بالبناء وثبوته على الاختلاف. قال: "ومن اشترى جارية بيعا فاسدا وتقابضا فباعها وربح فيها تصدق بالربح ويطيب للبائع ما ربح في الثمن" والفرق أن الجارية مما يتعين فيتعلق العقد بها فيتمكن الخبث في الربح، والدراهم والدنانير لا يتعينان على العقود فلم يتعلق العقد الثاني بعينها فلم يتمكن الخبث فلا يجب التصدق، وهذا في الخبث الذي سببه فساد الملك. أما الخبث لعدم الملك فعند أبي حنيفة ومحمد يشمل النوعين لتعلق العقد فيما يتعين حقيقة، وفيما لا يتعين شبهة من حيث إنه يتعلق به سلامة المبيع أو تقدير الثمن، وعند فساد الملك تنقلب الحقيقة شبهة والشبهة تنزل إلى شبهة الشبهة، والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها. قال: "وكذلك إذا ادعى على آخر مالا فقضاه إياه، ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شيء وقد ربح المدعي في الدراهم يطيب له الربح"؛ لأن الخبث لفساد الملك هاهنا؛ لأن الدين وجب بالتسمية ثم استحق بالتصادق، وبدل المستحق مملوك فلا يعمل فيما لا يتعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 فصل: فيما يكره قال: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش" وهو أن يزيد في الثمن ولا يريد الشراء ليرغب غيره وقال: "لا تناجشوا". قال: "وعن السوم على سوم غيره" قال عليه الصلاة والسلام: "لا يستم الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه"؛ ولأن في ذلك إيحاشا وإضرارا، وهذا إذا تراضى المتعاقدان على مبلغ ثمنا في المساومة، فأما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر فهو بيع من يزيد ولا بأس به على ما نذكره، وما ذكرناه محمل النهي في النكاح أيضا. قال: "وعن تلقي الجلب" وهذا إذا كان يضر بأهل البلد فإن كان لا يضر فلا بأس به، إلا إذا لبس السعر على الواردين فحينئذ يكره لما فيه من الغرور والضرر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 قال: "وعن بيع الحاضر للبادي" فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يبع الحاضر للبادي" وهذا إذا كان أهل البلد في قحط وعوز، وهو أن يبيع من أهل البدو طمعا في الثمن الغالي لما فيه من الإضرار بهم أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به لانعدام الضرر. قال: "والبيع عند أذان الجمعة" قال الله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ثم فيه إخلال بواجب السعي على بعض الوجوه، وقد ذكرنا الأذان المعتبر فيه في كتاب الصلاة. قال: "وكل ذلك يكره" لما ذكرنا، "ولا يفسد به البيع"؛ لأن الفساد في معنى خارج زائد لا في صلب العقد ولا في شرائط الصحة. قال "ولا بأس ببيع من يزيد" وتفسيره ما ذكرنا. وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام باع قدحا وحلسا ببيع من يزيد؛ ولأنه بيع الفقراء والحاجة ماسة إلى "نوع منه". قال: "ومن ملك مملوكين صغيرين أحدهما ذو رحم محرم من الآخر لم يفرق بينهما، وكذلك إن كان أحدهما كبيرا" والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". ووهب النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه غلامين أخوين صغيرين ثم قال له: "ما فعل الغلامان؟ " فقال: بعت أحدهما، فقال: "أدرك أدرك"، ويروى: "رده رده"؛ ولأن الصغير يستأنس بالصغير وبالكبير والكبير يتعاهده فكان في بيع أحدهما قطع الاستئناس، والمنع من التعاهد وفيه ترك المرحمة على الصغار، وقد أوعد عليه ثم المنع معلول بالقرابة المحرمة للنكاح حتى لا يدخل فيه محرم غير قريب ولا قريب غير محرم، ولا يدخل فيه الزوجان حتى جاز التفريق بينهما؛ لأن النص ورد بخلاف القياس فيقتصر على مورده، ولا بد من اجتماعهما في ملكه لما ذكرنا، حتى لو كان أحد الصغيرين له والآخر لغيره لا بأس ببيع واحد منهما، ولو كان التفريق بحق مستحق لا بأس به كدفع أحدهما بالجناية وبيعه بالدين ورده بالعيب؛ لأن المنظور إليه دفع الضرر عن غيره لا الإضرار به. قال: "فإن فرق كره له ذلك وجاز العقد" وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز في قرابة الولاد ويجوز في غيرها. وعنه أنه لا يجوز في جميع ذلك لما روينا، فإن الأمر بالإدراك والرد لا يكون إلا في البيع الفاسد. ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، وإنما الكراهة لمعنى مجاور فشابه كراهة الاستيام "وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما"؛ لأنه ليس في معنى ما ورد به النص، وقد صح "أنه عليه الصلاة والسلام فرق بين مارية وسيرين وكانتا أمتين أختين" والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 باب الإقالة "الإقالة جائزة في البيع بمثل الثمن الأول" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة" ولأن العقد حقهما فيملكان رفعه دفعا لحاجتهما "فإن شرطا أكثر منه أو أقل فالشرط باطل ويرد مثل الثمن الأول". والأصل أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما إلا أن لا يمكن جعله فسخا فتبطل، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف رحمه الله هو بيع إلا أن لا يمكن جعله بيعا فيجعل فسخا إلا أن لا يمكن فتبطل. وعند محمد رحمه الله هو فسخ إلا إذا تعذر جعله فسخا فيجعل بيعا إلا أن لا يمكن فتبطل. لمحمد رحمه الله أن اللفظ للفسخ والرفع. ومنه يقال: أقلني عثراتي فتوفر عليه قضيته. وإذا تعذر يحمل على محتمله وهو البيع؛ ألا ترى أنه بيع في حق الثالث: ولأبي يوسف رحمه الله أنه مبادلة المال بالمال بالتراضي. وهذا هو حد البيع ولهذا يبطل بهلاك السلعة ويرد بالعيب وتثبت به الشفعة وهذه أحكام البيع. ولأبي حنيفة رحمه الله أن اللفظ ينبئ عن الرفع والفسخ كما قلنا، والأصل إعمال الألفاظ في مقتضياتها الحقيقية، ولا يحتمل ابتداء العقد ليحمل عليه عند تعذره؛ لأنه ضده واللفظ لا يحتمل ضده فتعين البطلان، وكونه بيعا في حق الثالث أمر ضروري؛ لأنه يثبت به مثل حكم البيع وهو الملك لا مقتضى الصيغة، إذ لا ولاية لهما على غيرهما، إذا ثبت هذا نقول: إذا شرط الأكثر فالإقالة على الثمن الأول لتعذر الفسخ على الزيادة، إذ رفع ما لم يكن ثابتا محال فيبطل الشرط؛ لأن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع؛ لأن الزيادة يمكن إثباتها في العقد فيتحقق الربا أو لا يمكن إثباتها في الرفع، وكذا إذا شرط الأقل لما بيناه إلا أن يحدث في المبيع عيب فحينئذ جازت الإقالة بالأقل؛ لأن الحط يجعل بإزاء ما فات بالعيب، وعندهما في شرط الزيادة يكون بيعا؛ لأن الأصل هو البيع عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله جعله بيعا ممكن فإذا زاد كان قاصدا بهذا ابتداء البيع، وكذا في شرط الأقل عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه هو الأصل عنده، وعند محمد رحمه الله هو فسخ بالثمن الأول لا سكوت عن بعض الثمن الأول، ولو سكت عن الكل وأقال يكون فسخا فهذا أولى، بخلاف ما إذا زاد، وإذا دخله عيب فهو فسخ بالأقل لما بيناه. ولو أقال بغير جنس الثمن الأول فهو فسخ بالثمن الأول عند أبي حنيفة رحمه الله ويجعل التسمية لغوا عندهما بيع لما بينا، ولو ولدت المبيعة ولدا ثم تقايلا فالإقالة باطلة عنده لأن الولد مانع من الفسخ، وعندهما تكون بيعا والإقالة قبل القبض في المنقول، وغيره فسخ عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وكذا عند أبي يوسف رحمه الله في المنقول لتعذر البيع، وفي العقار يكون بيعا عنده لإمكان البيع، فإن بيع العقار قبل القبض جائز عنده. قال: "وهلاك الثمن لا يمنع صحة الإقالة وهلاك المبيع يمنع منها" لأن رفع البيع يستدعي قيامه وهو قائم بالبيع دون الثمن "فإن هلك بعض المبيع جازت الإقالة في الباقي"؛ لقيام البيع فيه، وإن تقايضا تجوز الإقالة بعد هلاك أحدهما ولا تبطل بهلاك أحدهما لأن كل واحد منهما مبيع فكان المبيع باقيا، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 باب المرابحة والتولية مدخل ... باب المرابحة والتولية قال: "المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح، والتولية نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح" والبيعان جائزان؛ لاستجماع شرائط الجواز، والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع؛ لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح فوجب القول بجوازهما، ولهذا كان مبناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ولني أحدهما"، فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: "أما بغير ثمن فلا". قال: "ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض مما له مثل"؛ لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهي مجهولة "ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز" لأنه يقدر على الوفاء بما التزم "وإن باعه بربح الإل يازده لا يجوز" لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال. "ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ والقتل وأجرة حمل الطعام" لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار؛ ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة؛ لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين والحمل يزيد في القيمة إذ القيمة تختلف باختلاف المكان "ويقول قام علي بكذا ولم يقل اشتريته بكذا" كي لا يكون كاذبا وسوق الغنم بمنزلة الحمل، بخلاف أجرة الراعي وكراء بيت الحفظ؛ لأنه لا يزيد في العين والمعنى، وبخلاف أجرة التعليم لأن ثبوت الزيادة لمعنى فيه وهو حذاقته "فإن اطلع المشتري على خيانة في المرابحة فهو بالخيار" عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 أبي حنيفة رحمه الله إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه "وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن، وقال أبو يوسف رحمه الله: يحط فيهما، وقال محمد رحمه الله: يخير فيهما" لمحمد رحمه الله أن الاعتبار للتسمية؛ لكونه معلوما، والتولية والمرابحة ترويج وترغيب فيكون وصفا مرغوبا فيه كوصف السلامة فيتخير بفواته، ولأبي يوسف رحمه الله أن الأصل فيه كونه تولية ومرابحة ولهذا ينعقد بقوله وليتك بالثمن الأول أو بعتك مرابحة على الثمن الأول إذا كان ذلك معلوما فلا بد من البناء على الأول وذلك بالحط، غير أنه يحط في التولية قدر الخيانة من رأس المال وفي المرابحة منه ومن الربح، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لو لم يحط في التولية لا تبقى تولية؛ لأنه يزيد على الثمن الأول فيتغير التصرف فتعين الحط وفي المرابحة لو لم يحط تبقى مرابحة وإن كان يتفاوت الربح فلا يتغير التصرف فأمكن القول بالتخيير، فلو هلك قبل أن يرده أو حدث فيه ما يمنع الفسخ يلزمه جميع الثمن في الروايات الظاهرة؛ لأنه مجرد خيار لا يقابله شيء من الثمن كخيار الرؤية والشرط، بخلاف خيار العيب؛ لأنه المطالبة بتسليم الفائت فيسقط ما يقابله عند عجزه. قال: "ومن اشترى ثوبا فباعه بربح ثم اشتراه، فإن باعه مرابحة طرح عنه كل ربح كان قبل ذلك، فإن كان استغرق الثمن لم يبعه مرابحة، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يبيعه مرابحة على الثمن الأخير". صورته: إذا اشترى ثوبا بعشرة وباعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة فإنه يبيعه مرابحة بخمسة ويقول قام علي بخمسة، ولو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين مرابحة ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلا، وعندهما يبيعه مرابحة على العشرة في الفصلين، لهما أن العقد الثاني عقد متجدد منقطع الأحكام عن الأول فيجوز بناء المرابحة عليه، كما إذا تخلل ثالث، ولأبي حنيفة رحمه الله أن شبهة حصول الربح بالعقد الثاني ثابتة؛ لأنه يتأكد به بعدما كان على شرف السقوط بالظهور على عيب الشبهة كالحقيقة في بيع المرابحة احتياطا ولهذا لم تجز المرابحة فيما أخذ بالصلح لشبهة الحطيطة فيصير كأنه اشترى خمسة وثوبا بعشرة فيطرح عنه خمسة، بخلاف ما إذا تخلل ثالث؛ لأن التأكيد حصل بغيره. قال: "وإذا اشترى العبد المأذون له في التجارة ثوبا بعشرة وعليه دين يحيط برقبته فباعه من المولى بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة على عشرة، وكذلك إن كان المولى اشتراه فباعه من العبد" لأن في هذا العقد شبهة العدم بجوازه مع المنافي فاعتبر عدما في حكم المرابحة وبقي الاعتبار للأول فيصير كأن العبد اشتراه للمولى بعشرة في الفصل الأول، وكأنه يبيعه للمولى في الفصل الثاني فيعتبر الثمن الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 قال: "وإذا كان مع المضارب عشرة دراهم بالنصف فاشترى ثوبا بعشرة وباعه من رب المال بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة باثني عشر ونصف" لأن هذا البيع وإن قضي بجوازه عندنا عند عدم الربح خلافا لزفر رحمه الله مع أنه اشترى ماله بماله لما فيه من استفادة ولاية التصرف وهو مقصود والانعقاد يتبع الفائدة ففيه شبهة العدم؛ ألا ترى أنه وكيل عنه في البيع الأول من وجه فاعتبر البيع الثاني عدما في حق نصف الربح. قال: "ومن اشترى جارية فاعورت أو وطئها وهي ثيب يبيعها مرابحة ولا يبين" لأنه لم يحتبس عنده شيئا يقابله الثمن؛ لأن الأوصاف تابعة لا يقابلها الثمن، ولهذا لو فاتت قبل التسليم لا يسقط شيء من الثمن، وكذا منافع البضع لا يقابلها الثمن، والمسألة فيما إذا لم ينقصها الوطء، وعن أبي يوسف رحمه الله في الفصل الأول أنه لا يبيع من غير بيان، كما إذا احتبس بفعله وهو قول الشافعي رحمه الله "فأما إذا فقأ عينها بنفسه أو فقأها أجنبي فأخذ أرشها لم يبعها مرابحة حتى يبين" لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابلها شيء من الثمن، وكذا إذا وطئها وهي بكر لأن العذرة جزء من العين يقابلها الثمن وقد حبسها. "ولو اشترى ثوبا فأصابه قرض فأر أو حرق نار يبيعه مرابحة من غير بيان، ولو تكسر بنشره وطيه لا يبيعه مرابحة حتى يبين" والمعنى ما بيناه. قال: "ومن اشترى غلاما بألف درهم نسيئة فباعه بربح مائة ولم يبين فعلم المشتري، فإن شاء رده، وإن شاء قبل"؛ لأن للأجل شبها بالمبيع؛ ألا يرى أنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، والشبهة في هذا ملحقة بالحقيقة فصار كأنه اشترى شيئين وباع أحدهما مرابحة بثمنهما، والإقدام على المرابحة يوجب السلامة عن مثل هذه الخيانة، فإذا ظهرت يخير كما في العيب "وإن استهلكه ثم علم لزمه بألف ومائة"؛ لأن الأجل لا يقابله شيء من الثمن. قال: "فإن كان ولاه إياه ولم يبين رده إن شاء "؛ لأن الخيانة في التولية مثلها في المرابحة؛ لأنه بناء على الثمن الأول "وإن كان استهلكه ثم علم لزمه بألف حالة" لما ذكرناه، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يرد القيمة ويسترد كل الثمن، وهو نظير ما إذا استوفى الزيوف مكان الجياد وعلم بعد الاتفاق، وسيأتيك من بعد إن شاء الله تعالى، وقيل يقوم بثمن حال وبثمن مؤجل فيرجع بفضل ما بينهما، ولو لم يكن الأجل مشروطا في العقد ولكنه منجم معتاد قيل لا بد من بيانه؛ لأن المعروف كالمشروط، وقيل يبيعه ولا يبينه؛ لأن الثمن حال. قال: "ومن ولى رجلا شيئا بما قام عليه ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد" لجهالة الثمن "فإن أعلمه البائع، يعني في المجلس فهو بالخيار، إن شاء أخذه وإن شاء تركه" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 لأن الفساد لم يتقرر، فإذا حصل العلم في المجلس جعل كابتداء العقد وصار كتأخير القبول إلى آخر المجلس وبعد الافتراق قد تقرر فلا يقبل الإصلاح، ونظيره بيع الشيء برقمه إذا علم في المجلس، وإنما يتخير؛ لأن الرضا لم يتم قبله لعدم العلم فيتخير كما في خيار الرؤية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 فصل: "ومن اشترى شيئا مما ينقل ويحول لم يجز له بيعه حتى يقبضه" لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض ولأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك. "ويجوز بيع العقار قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز" رجوعا إلى إطلاق الحديث واعتبارا بالمنقول وصار كالإجارة، ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، ولا غرر فيه؛ لأن الهلاك في العقار نادر، بخلاف المنقول، والغرر المنهي عنه غرر انفساخ العقد، والحديث معلول به عملا بدلائل الجواز والإجارة، قيل على هذا الخلاف؛ ولو سلم فالمعقود عليه في الإجارة المنافع وهلاكها غير نادر. قال: "ومن اشترى مكيلا مكايلة أو موزونا موازنة فاكتاله أو اتزنه ثم باعه مكايلة أو موازنة لم يجز للمشترى منه أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل والوزن" لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان: صاع البائع، وصاع المشتري؛ ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط وذلك للبائع والتصرف في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه، بخلاف ما إذا باعه مجازفة؛ لأن الزيادة له، وبخلاف ما إذا باع الثوب مذارعة؛ لأن الزيادة له إذ الذرع وصف في الثوب، بخلاف القدر، ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وإن كان بحضرة المشتري؛ لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو الشرط، ولا بكيله بعد البيع بغيبة المشتري؛ لأن الكيل من باب التسليم؛ لأن به يصير المبيع معلوما ولا تسليم إلا بحضرته، ولو كاله البائع بعد البيع بحضرة المشتري فقد قيل لا يكتفى به لظاهر الحديث، فإنه اعتبر صاعين والصحيح أنه يكتفى به؛ لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد وتحقق معنى التسليم، ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين في باب السلم إن شاء الله تعالى، ولو اشترى المعدود عدا فهو كالمذروع فيما يروى عنهما لأنه ليس بمال الربا، وكالموزون فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا تحل له الزيادة على المشروط. قال: "والتصرف في الثمن قبل القبض جائز" لقيام المطلق وهو الملك وليس فيه غرر الانفساخ بالهلاك لعدم تعينها بالتعيين، بخلاف المبيع. قال: "ويجوز للمشتري أن يزيد للبائع في الثمن ويجوز للبائع أن يزيد للمشتري في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 المبيع، ويجوز أن يحط من الثمن ويتعلق الاستحقاق بجميع ذلك" فالزيادة والحط يلتحقان بأصل العقد عندنا، وعند زفر والشافعي رحمه الله لا يصحان على اعتبار الالتحاق، بل على اعتبار ابتداء الصلة، لهما أنه لا يمكن تصحيح الزيادة ثمنا؛ لأنه يصير ملكه عوض ملكه فلا يلتحق بأصل العقد، وكذا الحط؛ لأن كل الثمن صار مقابلا بكل المبيع فلا يمكن إخراجه فصار برا مبتدأ، ولنا أنهما بالحط والزيادة يغيران العقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو كونه رابحا أو خاسرا أو عدلا، ولهما ولاية الرفع فأولى أن يكون لهما ولاية التغير، وصار كما إذا أسقطا الخيار أو شرطاه بعد العقد، ثم إذا صح يلتحق بأصل العقد؛ لأن وصف الشيء يقوم به لا بنفسه، بخلاف حط الكل؛ لأنه تبديل لأصله لا تغيير لوصفه فلا يلتحق به، وعلى اعتبار الالتحاق لا تكون الزيادة عوضا عن ملكه، ويظهر حكم الالتحاق في التولية والمرابحة حتى يجوز على الكل في الزيادة ويباشر على الباقي في الحط وفي الشفعة حتى يأخذ بما بقي في الحط، وإنما كان للشفيع أن يأخذ بدون الزيادة لما في الزيادة من إبطال حقه الثابت فلا يملكانه، ثم الزيادة لا تصح بعد هلاك المبيع على ظاهر الرواية؛ لأن المبيع لم يبق على حالة يصح الاعتياض عنه والشيء يثبت ثم يستند، بخلاف الحط لأنه بحال يمكن إخراج البدل عما يقابله فيلتحق بأصل العقد استنادا. قال: "ومن باع بثمن حال ثم أجله أجلا معلوما صار مؤجلا"؛ لأن الثمن حقه فله أن يؤخره تيسيرا على من عليه، ألا ترى أنه يملك إبراءه مطلقا فكذا مؤقتا، ولو أجله إلى أجل مجهول إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الريح لا يجوز، وإن كانت متقاربة كالحصاد والدياس يجوز؛ لأنه بمنزلة الكفالة وقد ذكرناه من قبل. قال: "وكل دين حال إذا أجله صاحبه صار مؤجلا"؛ لما ذكرنا "إلا القرض" فإن تأجيله لا يصح؛ لأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصح بلفظة الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي ومعاوضة في الانتهاء، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة، إذ لا جبر في التبرع، وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح؛ لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئة وهو ربا، وهذا بخلاف ما إذا أوصى أن يقرض من ماله ألف درهم فلانا إلى سنة حيث يلزم الورثة من ثلثه أن يقرضوه ولا يطالبوه قبل المدة؛ لأنه وصية بالتبرع بمنزلة الوصية بالخدمة والسكنى فيلزم حقا للموصي، والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 باب الربا قال: "الربا محرم في كل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلا" فالعلة عندنا الكيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 مع الجنس والوزن مع الجنس. قال رضي الله عنه: ويقال القدر مع الجنس وهو أشمل. والأصل فيه الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد، والفضل ربا" وعد الأشياء الستة: الحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة على هذا المثال. ويروى بروايتين بالرفع مثل وبالنصب مثلا. ومعنى الأول بيع التمر، ومعنى الثاني بيعوا التمر، والحكم معلوم بإجماع القائسين لكن العلة عندنا ما ذكرناه. وعند الشافعي رحمه الله: الطعم في المطعومات والثمنية في الأثمان، والجنسية شرط، والمساواة مخلص. والأصل هو الحرمة عنده لأنه نص على شرطين التقابض والمماثلة وكل ذلك يشعر بالعزة والخطر كاشتراط الشهادة في النكاح، فيعلل بعلة تناسب إظهار الخطر والعزة وهو الطعم لبقاء الإنسان به والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط المصالح بها، ولا أثر للجنسية في ذلك فجعلناه شرطا والحكم قد يدور مع الشرط. ولنا أنه أوجب المماثلة شرطا في البيع وهو المقصود بسوقه تحقيقا لمعنى البيع، إذ هو ينبئ عن التقابل وذلك بالتماثل، أو صيانة لأموال الناس عن التوى، أو تتميما للفائدة باتصال التسليم به، ثم يلزم عند فوته حرمة الربا والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى، والمعيار يسوى الذات، والجنسية تسوى المعنى فيظهر الفضل على ذلك فيتحقق الربا، لأن الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه، ولا يعتبر الوصف لأنه لا يعد تفاوتا عرفا، أو لأن في اعتباره سد باب البياعات، أو لقوله عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء" والطعم والثمنية من أعظم وجوه المنافع، والسبيل في مثلها الإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليها دون التضييق فيه فلا معتبر بما ذكره. إذا ثبت هذا نقول إذا: بيع المكيل أو الموزون بجنسه مثلا بمثل جاز البيع فيه لوجوب شرط الجواز، وهو المماثلة في المعيار؛ ألا ترى إلى ما يروى مكان قوله، مثلا بمثل كيلا بكيل، وفي الذهب بالذهب وزنا بوزن "وإن تفاضلا لم يجز" لتحقق الربا "ولا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا إلا مثلا بمثل" لإهدار التفاوت في الوصف "ويجوز بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين" لأن المساواة بالمعيار ولم يوجد فلم يتحقق الفضل، ولهذا كان مضمونا بالقيمة عند الإتلاف. وعند الشافعي رحمه الله العلة هي الطعم ولا مخلص وهو المساواة فيحرم، وما دون نصف الصاع فهو في حكم الحفنة لأنه لا تقدير في الشرع بما دونه، ولو تبايعا مكيلا أو موزونا غير مطعوم بجنسه متفاضلا كالجص والحديد لا يجوز عندنا لوجود القدر والجنس. وعنده يجوز لعدم الطعم والثمنية. قال: "وإذا عدم الوصفان الجنس والمعنى المضموم إليه حل التفاضل والنساء" لعدم العلة المحرمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 والأصل فيه الإباحة. وإذا وجدا. حرم التفاضل والنساء لوجود العلة. وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء مثل أن يسلم هرويا في هروي أو حنطة في شعير، فحرمة ربا الفضل بالوصفين وحرمة النساء بأحدهما. وقال الشافعي: الجنس بانفراده لا يحرم النساء لأن بالنقدية وعدمها لا يثبت إلا شبهة الفضل، وحقيقة الفضل غير مانع فيه حتى يجوز بيع الواحد بالاثنين فالشبهة أولى. ولنا أنه مال الربا من وجه نظرا إلى القدر أو الجنس والنقدية أوجبت فضلا في المالية فتتحقق شبهة الربا وهي مانعة كالحقيقة، إلا أنه إذا أسلم النقود في الزعفران ونحوه يجوز، وإن جمعهما الوزن لأنهما لا يتفقان في صفة الوزن، فإن الزعفران يوزن بالأمناء وهو مثمن يتعين بالتعيين، والنقود توزن بالسنجات وهو ثمن لا يتعين بالتعيين. ولو باع بالنقود موازنة وقبضها صح التصرف فيها قبل الوزن، وفي الزعفران وأشباهه لا يجوز، فإذا اختلفا فيه صورة ومعنى وحكما لم يجمعهما القدر من كل وجه فتنزل الشبهة فيه إلى شبهة الشبهة وهي غير معتبرة. قال: "وكل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل أبدا، وإن ترك الناس الكيل فيه مثل الحنطة والشعير والتمر والملح وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا، وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة" لأن النص أقوى من العرف والأقوى لا يترك بالأدنى "وما لم ينص عليه فهو محمول على عادات الناس" لأنها دلالة. وعن أبي يوسف أنه يعتبر العرف على خلاف المنصوص عليه أيضا لأن النص على ذلك لمكان العادة فكانت هي المنظور إليها وقد تبدلت، فعلى هذا لو باع الحنطة بجنسها متساويا وزنا، أو الذهب بجنسه متماثلا كيلا لا يجوز عندهما، وإن تعارفوا ذلك لتوهم الفضل على ما هو المعيار فيه، كما إذا باع مجازفة إلا أنه يجوز الإسلام في الحنطة ونحوها وزنا لوجود الإسلام في معلوم. قال: "وكل ما ينسب إلى الرطل فهو وزني" معناه ما يباع بالأواقي لأنها قدرت بطريق الوزن حتى يحتسب ما يباع بها وزنا، بخلاف سائر المكاييل، وإذا كان موزونا فلو بيع بمكيال لا يعرف وزنه بمكيال مثله لا يجوز لتوهم الفضل في الوزن بمنزلة المجازفة. قال: "وعقد الصرف ما وقع على جنس الأثمان يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس" لقوله عليه الصلاة والسلام: "والفضة بالفضة هاء وهاء" معناه يدا بيد، وسنبين الفقه في الصرف إن شاء الله تعالى. قال: "وما سواه مما فيه الربا يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض خلافا للشافعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 في بيع الطعام". له قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف "يدا بيد" ولأنه إذا لم يقبض في المجلس فيتعاقب القبض وللنقد مزية فتثبت شبهة الربا. ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب، وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين، بخلاف الصرف لأن القبض فيه ليتعين به؛ ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام "يدا بيد" عينا بعين، وكذا رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وتعاقب القبض لا يعتبر تفاوتا في المال عرفا، بخلاف النقد والمؤجل. قال: "ويجوز بيع البيضة بالبيضتين والتمرة بالتمرتين والجوزة بالجوزتين" لانعدام المعيار فلا يتحقق الربا. والشافعي يخالفنا فيه لوجود الطعم على ما مر. قال: "ويجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما" عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز لأن الثمنية تثبت باصطلاح الكل فلا تبطل باصطلاحهما، وإذا بقيت أثمانا لا تتعين فصار كما إذا كانا بغير أعيانهما وكبيع الدرهم بالدرهمين. ولهما أن الثمنية في حقهما تثبت باصطلاحهما إذ لا ولاية للغير عليهما فتبطل باصطلاحهما وإذا بطلت الثمنية تتعين بالتعيين ولا يعود وزنيا لبقاء الاصطلاح على العد إذ في نقضه في حق العد فساد العقد فصار كالجوزة بالجوزتين بخلاف النقود لأنها للثمنية خلقة، وبخلاف ما إذا كانا بغير أعيانهما لأنه كالئ بالكالئ وقد نهي عنه، وبخلاف ما إذا كان أحدهما بغير عينه لأن الجنس بانفراده يحرم النساء. قال: "ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق" لأن المجانسة باقية من وجه لأنهما من أجزاء الحنطة والمعيار فيهما الكيل، لكن الكيل غير مسو بينهما وبين الحنطة لاكتنازهما فيه وتخلخل حبات الحنطة فلا يجوز وإن كان كيلا بكيل "ويجوز بيع الدقيق بالدقيق متساويا كيلا" لتحقق الشرط "وبيع الدقيق بالسويق لا يجوز " عند أبي حنيفة متفاضلا، ولا متساويا لأنه لا يجوز بيع الدقيق بالمقلية ولا بيع السويق بالحنطة، فكذا بيع أجزائهما لقيام المجانسة من وجه. وعندهما يجوز لأنهما جنسان مختلفان لاختلاف المقصود. قلنا: معظم المقصود وهو التغذي يشملهما فلا يبالى بفوات البعض كالمقلية مع غير المقلية والعلكة بالمسوسة. قال: "ويجوز بيع اللحم بالحيوان" عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: إذا باعه بلحم من جنسه لا يجوز إلا إذا كان اللحم المفرز أكثر ليكون اللحم بمقابلة ما فيه من اللحم والباقي بمقابلة السقط، إذ لو لم يكن كذلك يتحقق الربا من حيث زيادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 السقط أو من حيث زيادة اللحم فصار كالخل بالسمسم. ولهما أنه باع الموزون بما ليس بموزون، لأن الحيوان لا يوزن عادة ولا يمكن معرفة ثقله بالوزن لأنه يخفف نفسه مرة بصلابته ويثقل أخرى، بخلاف تلك المسألة لأن الوزن في الحال يعرف قدر الدهن إذا ميز بينه وبين الثجير، ويوزن الثجير. قال: "ويجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل عند أبي حنيفة" وقالا: لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام حين سأل عنه "أو ينقص إذا جف؟ فقيل نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا إذا" وله أن الرطب تمر لقوله عليه الصلاة والسلام حين أهدى إليه رطب: "أوكل تمر خيبر هكذا؟ " سماه تمرا. وبيع التمر بمثله جائز لما روينا، ولأنه لو كان تمرا جاز البيع بأول الحديث، وإن كان غير تمر فبآخره، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم" ومدار ما روياه على زيد بن عياش وهو ضعيف عند النقلة. قال: "وكذا العنب بالزبيب" يعني على الخلاف والوجه ما بيناه. وقيل لا يجوز بالاتفاق اعتبارا بالحنطة المقلية بغير المقلية، والرطب بالرطب يجوز متماثلا كيلا عندنا لأنه بيع التمر بالتمر، وكذا بيع الحنطة الرطبة أو المبلولة بمثلها أو باليابسة، أو التمر أو الزبيب المنقع بالمنقع منهما متماثلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله لا يجوز جميع ذلك لأنه يعتبر المساواة في أعدل الأحوال وهو المال، وأبو حنيفة رحمه الله يعتبره في الحال، وكذا أبو يوسف رحمه الله عملا بإطلاق الحديث إلا أنه ترك هذا الأصل في بيع الرطب بالتمر لما رويناه لهما. ووجه الفرق لمحمد رحمه الله بين هذه الفصول وبين الرطب بالرطب أن التفاوت فيما يظهر مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد عليه العقد، وفي الرطب بالتمر مع بقاء أحدهما على ذلك فيكون تفاوتا في عين المعقود عليه، وفي الرطب بالرطب التفاوت بعد زوال ذلك الاسم فلم يكن تفاوتا في المعقود عليه فلا يعتبر. ولو باع البسر بالتمر متفاضلا لا يجوز لأن البسر تمر، بخلاف الكفرى حيث يجوز بيعه بما شاء من التمر اثنان بواحد لأنه ليس بتمر، فإن هذا الاسم له من أول ما تنعقد صورته لا قبله، والكفرى عددي متفاوت، حتى لو باع التمر به نسيئة لا يجوز للجهالة. قال: "ولا يجوز بيع الزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج حتى يكون الزيت والشيرج أكثر مما في الزيتون والسمسم فيكون الدهن بمثله والزيادة بالثجير" لأن عند ذلك يعرى عن الربا إذ ما فيه من الدهن موزون، وهذا لأن ما فيه لو كان أكثر أو مساويا له، فالثجير وبعض الدهن أو الثجير وحده فضل، ولو لم يعلم مقدار ما فيه لا يجوز لاحتمال الربا، والشبهة فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 كالحقيقة، والجوز بدهنه واللبن بسمنه والعنب بعصيره والتمر بدبسه على هذا الاعتبار. واختلفوا في القطن بغزله، والكرباس بالقطن يجوز كيفما كان بالإجماع. قال: "ويجوز بيع اللحمان المختلفة بعضها ببعض متفاضلا" ومراده لحم الإبل والبقر والغنم؛ فأما البقر والجواميس جنس واحد، وكذا المعز مع الضأن وكذا العراب مع البخاتي. قال: "وكذلك ألبان البقر والغنم" وعن الشافعي رحمه الله لا يجوز لأنها جنس واحد لاتحاد المقصود. ولنا أن الأصول مختلفة حتى لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة، فكذا أجزاؤها إذا لم تتبدل بالصنعة. قال: "وكذا خل الدقل بخل العنب" للاختلاف بين أصليهما، فكذا بين ماءيهما ولهذا كان عصيراهما جنسين. وشعر المعز وصوف الغنم جنسان لاختلاف المقاصد. قال: "وكذا شحم البطن بالألية أو باللحم" لأنها أجناس مختلفة لاختلاف الصور والمعاني والمنافع اختلافا فاحشا. قال: "ويجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلا" لأن الخبز صار عدديا أو موزونا فخرج من أن يكون مكيلا من كل وجه والحنطة مكيلة. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا خير فيه، والفتوى على الأول، وهذا إذا كانا نقدين؛ فإن كانت الحنطة نسيئة جاز أيضا، وإن كان الخبز نسيئة يجوز عند أبي يوسف رحمه الله وعليه الفتوى، وكذا السلم في الخبز جائز في الصحيح، ولا خير في استقراضه عددا أو وزنا عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يتفاوت بالخبز والخباز والتنور والتقدم والتأخر. وعند محمد رحمه الله يجوز بهما للتعامل، وعند أبي يوسف رحمه الله يجوز وزنا ولا يجوز عددا للتفاوت في آحاده. قال: "ولا ربا بين المولى وعبده" لأن العبد وما في يده ملك لمولاه فلا يتحقق الربا، وهذا إذا كان مأذونا له ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لا يجوز لأن ما في يده ليس ملك المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تعلق به حق الغرماء فصار كالأجنبي فيتحقق الربا كما يتحقق بينه وبين مكاتبه. قال: "ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب" خلافا لأبي يوسف والشافعي رحمهما الله. لهما الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب" ولأن مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 المسلم أخذ مالا مباحا إذا لم يكن فيه غدر، بخلاف المستأمن منهم لأن ماله صار محظورا بعقد الأمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 باب الحقوق "ومن اشترى منزلا فوقه منزل فليس له الأعلى إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه أو بكل قليل وكثير هو فيه أو منه. ومن اشترى بيتا فوقه بيت بكل حق لم يكن له الأعلى، ومن اشترى دارا بحدودها فله العلو والكنيف" جمع بين المنزل والبيت والدار، فاسم الدار ينتظم العلو لأنه اسم لما أدير عليه الحدود، والعلو من توابع الأصل وأجزائه فيدخل فيه. والبيت اسم لما يبات فيه، والعلو مثله، والشيء لا يكون تبعا لمثله فلا يدخل فيه إلا بالتنصيص عليه، والمنزل بين الدار والبيت لأنه يتأتى فيه مرافق السكنى مع ضرب قصور إذ لا يكون فيه منزل الدواب، فلشبهه بالدار يدخل العلو فيه تبعا عند ذكر التوابع، ولشبهه بالبيت لا يدخل فيه بدونه. وقيل في عرفنا يدخل العلو في جميع ذلك لأن كل مسكن يسمى بالفارسية خانه ولا يخلو عن علو، وكما يدخل العلو في اسم الدار يدخل الكنيف لأنه من توابعه، ولا تدخل الظلة إلا بذكر ما ذكرنا عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه مبني على هواء الطريق فأخذ حكمه. وعندهما إن كان مفتحه في الدار يدخل من غير ذكر شيء مما ذكرنا لأنه من توابعه فشابه الكنيف. قال: "ومن اشترى بيتا في دار أو منزلا أو مسكنا لم يكن له الطريق إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه أو بكل قليل وكثير، وكذا الشرب والمسيل" لأنه خارج الحدود إلا أنه من التوابع فيدخل بذكر التوابع، بخلاف الإجارة لأنها تعقد للانتفاع فلا يتحقق إلا به، إذ المستأجر لا يشتري الطريق عادة ولا يستأجره فيدخل تحصيلا للفائدة المطلوبة منه، أما الانتفاع بالمبيع ممكن بدونه لأن المشتري عادة يشتريه، وقد يتجر فيه فيبيعه من غيره فحصلت الفائدة، والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 باب الاستحقاق مدخل ... باب الاستحقاق "ومن اشترى جارية فولدت عنده فاستحقها رجل ببينة فإنه يأخذها وولدها، وإن أقر بها لرجل لم يتبعها ولدها" ووجه الفرق أن البينة حجة مطلقة فإنها كاسمها مبينة فيظهر بها ملكه من الأصل والولد كان متصلا بها فيكون له. أما الإقرار حجة قاصرة يثبت الملك في المخبر به ضرورة صحة الإخبار، وقد اندفعت بإثباته بعد الانفصال فلا يكون الولد له. ثم قيل: يدخل الولد في القضاء بالأم تبعا، وقيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 يشترط القضاء بالولد وإليه تشير المسائل، فإن القاضي إذا لم يعلم بالزوائد. قال محمد رحمه الله: لا تدخل الزوائد في الحكم، فكذا الولد إذا كان في يد غيره لا يدخل تحت الحكم بالأم تبعا. قال: "ومن اشترى عبدا فإذا هو حر وقد قال العبد للمشتري اشترني فإني عبد له، فإن كان البائع حاضرا أو غائبا غيبة معروفة لم يكن على العبد شيء، وإن كان البائع لا يدرى أين هو رجع المشتري على العبد ورجع هو على البائع وإن ارتهن عبدا مقرا بالعبودية فوجده حرا لم يرجع عليه على كل حال". وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يرجع فيهما لأن الرجوع بالمعاوضة أو بالكفالة والموجود ليس إلا الإخبار كاذبا فصار كما إذا قال الأجنبي ذلك أو قال العبد ارتهني فإني عبد وهي المسألة الثانية. ولهما أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على ما أمره وإقراره أني عبد، إذ القول له في الحرية فيجعل العبد بالأمر بالشراء ضامنا للثمن له عند تعذر رجوعه على البائع دفعا للغرور والضرر، ولا تعذر إلا فيما لا يعرف مكانه، والبيع عقد معاوضة فأمكن أن يجعل الآمر به ضامنا للسلامة كما هو موجبه، بخلاف الرهن لأنه ليس بمعاوضة بل هو وثيقة لاستيفاء عين حقه حتى يجوز الرهن ببدل الصرف والمسلم فيه مع حرمة الاستبدال فلا يجعل الأمر به ضمانا للسلامة، وبخلاف الأجنبي لأنه لا يعبأ بقوله فلا يتحقق الغرور. ونظير مسألتنا قول المولى بايعوا عبدي هذا فإني قد أذنت له ثم ظهر الاستحقاق فإنهم يرجعون عليه بقيمته، ثم في وضع المسألة ضرب إشكال على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن الدعوى شرط في حرية العبد عنده، والتناقض يفسد الدعوى. وقيل إذا كان الوضع في حرية الأصل فالدعوى فيها ليس بشرط عنده لتضمنه تحريم فرج الأم. وقيل هو شرط لكن التناقض غير مانع لخفاء العلوق وإن كان الوضع في الإعتاق فالتناقض لا يمنع لاستبداد المولى به فصار كالمختلعة تقيم البينة على الطلقات الثلاث قبل الخلع والمكاتب يقيمها على الإعتاق قبل الكتابة. قال: "ومن ادعى حقا في دار" معناه حقا مجهولا "فصالحه الذي في يده على مائة درهم فاستحقت الدار إلا ذراعا منها لم يرجع بشيء" لأن للمدعي أن يقول دعواي في هذا الباقي. قال: "وإن ادعاها كلها فصالحه على مائة درهم فاستحق منها شيء رجع بحسابه" لأن التوفيق غير ممكن فوجب الرجوع ببدله عند فوات سلامة المبدل، ودلت المسألة على أن الصلح عن المجهول على معلوم جائز لأن الجهالة فيما يسقط لا تفضي إلى المنازعة. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 فصل: في بيع الفضولي قال: "ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار، إن شاء أجاز البيع؛ وإن شاء فسخ" وقال الشافعي رحمه الله: لا ينعقد لأنه لم يصدر عن ولاية شرعية لأنها بالملك أو بإذن المالك وقد فقدا، ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية. ولنا أنه تصرف تمليك وقد صدر من أهله في محله فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري فثبت للقدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه، كيف وإن الإذن ثابت دلالة لأن العاقل يأذن في التصرف النافع. قال: "وله الإجازة إذا كان المعقود عليه باقيا والمتعاقدان بحالهما" لأن الإجازة تصرف في العقد فلا بد من قيامه وذلك بقيام العاقدين والمعقود عليه. وإذا أجاز المالك كان الثمن مملوكا له أمانة في يده بمنزلة الوكيل، لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة، وللفضولي أن يفسخ قبل الإجازة دفعا للحقوق عن نفسه، بخلاف الفضولي في النكاح لأنه معبر محض، هذا إذا كان الثمن دينا، فإن كان عرضا معينا إنما تصح الإجازة إذا كان العرض باقيا أيضا. ثم الإجازة إجازة نقد لا إجازة عقد حتى يكون العرض الثمن مملوكا للفضولي، وعليه مثل المبيع إن كان مثليا أو قيمته إن لم يكن مثليا، لأنه شراء من وجه والشراء لا يتوقف على الإجازة. ولو هلك المالك لا ينفذ بإجازة الوارث في الفصلين لأنه توقف على إجازة المورث لنفسه فلا يجوز بإجازة غيره. ولو أجاز المالك في حياته ولا يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف رحمه الله أولا، وهو قول محمد رحمه الله لأن الأصل بقاؤه، ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال: لا يصح حتى يعلم قيامه عند الإجازة لأن الشك وقع في شرط الإجازة فلا يثبت مع الشك. قال: "ومن غصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري ثم أجاز المولى البيع فالعتق جائز" استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمهم الله: لا يجوز لأنه لا عتق بدون الملك، قال عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" والموقوف لا يفيد الملك، ولو ثبت في الآخرة يثبت مستندا وهو ثابت من وجه دون وجه، والمصحح للإعتاق الملك الكامل لما روينا، ولهذا لا يصح أن يعتق الغاصب ثم يؤدي الضمان، ولا أن يعتق المشتري والخيار للبائع ثم يجيز البائع ذلك، وكذا لا يصح بيع المشتري من الغاصب فيما نحن فيه مع أنه أسرع نفاذا حتى نفذ من الغاصب إذا أدى الضمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وكذا لا يصح إعتاق المشتري من الغاصب إذا أدى الغاصب الضمان. ولهما أن الملك ثبت موقوفا بتصرف مطلق موضوع لإفادة الملك، ولا ضرر فيه على ما مر فتوقف الإعتاق مرتبا عليه وينفذ بنفاذه فصار كإعتاق المشتري من الراهن وكإعتاق الوارث عبدا من التركة وهي مستغرقة بالديون يصح، وينفذ إذا قضى الديون بعد ذلك، بخلاف إعتاق الغاصب بنفسه لأن الغصب غير موضوع لإفادة الملك، وبخلاف ما إذا كان في البيع خيار البائع لأنه ليس بمطلق، وقران الشرط به يمنع انعقاده في حق الحكم أصلا، وبخلاف بيع المشتري من الغاصب إذا باع لأن بالإجازة يثبت للبائع ملك بات، فإذا طرأ على ملك موقوف لغيره أبطله، وأما إذا أدى الغاصب الضمان ينفذ إعتاق المشتري منه كذا ذكره هلال رحمه الله وهو الأصح. قال: "فإن قطعت يد العبد فأخذ أرشها ثم أجاز المولى البيع فالأرش للمشتري" لأن الملك قد تم له من وقت الشراء، فتبين أن القطع حصل على ملكه وهذه حجة على محمد، والعذر له أن الملك من وجه يكفي لاستحقاق الأرش كالمكاتب إذا قطعت يده وأخذ الأرش ثم رد في الرق يكون الأرش للمولى، فكذا إذا قطعت يد المشترى في يد المشتري والخيار للبائع ثم أجيز البيع فالأرش للمشتري، بخلاف الإعتاق على ما مر. "ويتصدق بما زاد على نصف الثمن" لأنه لم يدخل في ضمانه أو فيه شبهة عدم الملك. قال: "فإن باعه المشتري من آخر ثم أجاز المولى البيع الأول لم يجز البيع الثاني" لما ذكرنا، ولأن فيه غرر الانفساخ على اعتبار عدم الإجازة في البيع الأول والبيع يفسد به، بخلاف الإعتاق عندهما لأنه لا يؤثر فيه الغرر. قال: "فإن لم يبعه المشتري فمات في يده أو قتل ثم أجاز البيع لم يجز" لما ذكرنا أن الإجازة من شروطها قيام المعقود عليه وقد فات بالموت وكذا بالقتل، إذ لا يمكن إيجاب البدل للمشتري بالقتل حتى يعد باقيا ببقاء البدل لأنه لا ملك للمشتري عند القتل ملكا يقابل بالبدل فتحقق الفوات، بخلاف البيع الصحيح لأن ملك المشتري ثابت فأمكن إيجاب البدل له فيكون المبيع قائما بقيام خلفه. قال: "ومن باع عبد غيره بغير أمره وأقام المشتري البينة على إقرار البائع أو رب العبد أنه لم يأمره بالبيع وأراد رد المبيع لم تقبل بينته" للتناقض في الدعوى، إذ الإقدام على الشراء إقرار منه بصحته، والبينة مبنية على صحة الدعوى "وإن أقر البائع بذلك عند القاضي بطل البيع " إن طلب المشتري ذلك، لأن التناقض لا يمنع صحة الإقرار، وللمشتري أن يساعده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 على ذلك فيتحقق الاتفاق بينهما، فلهذا شرط طلب المشتري. قال رحمه الله: وذكر في الزيادات أن المشتري إذا صدق مدعيه ثم أقام البينة على إقرار البائع أنه للمستحق تقبل. وفرقوا أن العبد في هذه المسألة في يد المشتري. وفي تلك المسألة في يد غيره وهو المستحق، وشرط الرجوع بالثمن أن لا يكون العين سالما للمشتري. قال: "ومن باع دارا لرجل وأدخلها المشتري في بنائه لم يضمن البائع" عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخرا، وكان يقول أولا: يضمن البائع، وهو قول محمد رحمه الله وهي مسألة غصب العقار وسنبينه إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 باب السلم السلم: عقد مشروع بالكتاب وهو آية المداينة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون وأنزل فيها أطول آية في كتابه، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . وبالسنة وهو ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم", والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه. ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه. قال: "وهو جائز في المكيلات والموزونات" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" والمراد بالموزونات غير الدراهم والدنانير لأنهما أثمان، والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا فلا يصح السلم فيهما ثم قيل يكون باطلا، وقيل ينعقد بيعا بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان، والعبرة في العقود للمعاني والأول أصح لأن التصحيح إنما يجب في محل أوجبا العقد فيه ولا يمكن ذلك. قال: "وكذا في المذروعات" لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع والصفة والصنعة، ولا بد منها لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم، وكذا في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض، لأن العددي المتقارب معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم فيجوز السلم فيه، والصغير والكبير فيه سواء لاصطلاح الناس على إهدار التفاوت، بخلاف البطيخ والرمان لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا، وبتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 المتقارب. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز في بيض النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية، ثم كما يجوز السلم فيها عددا يجوز كيلا. وقال زفر رحمه الله: لا يجوز كيلا لأنه عددي وليس بمكيل. وعنه أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت. ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل، وإنما صار معدودا بالاصطلاح فيصير مكيلا باصطلاحهما وكذا في الفلوس عددا. وقيل هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله. وعند محمد رحمه الله لا يجوز لأنها أثمان. ولهما أن الثمنية في حقهما باصطلاحهما فتبطل باصطلاحهما ولا تعود وزنيا وقد ذكرناه من قبل. "ولا يجوز السلم في الحيوان" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لأنه يصير معلوما ببيان الجنس والسن والنوع والصفة، والتفاوت بعد ذلك يسير فأشبه الثياب. ولنا أنه بعد ذكر ما ذكر يبقى فيه تفاوت فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنة فيفضي إلى المنازعة، بخلاف الثياب لأنه مصنوع العباد فقلما يتفاوت الثوبان إذا نسجا على منوال واحد. وقد صح "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن السلم في الحيوان" ويدخل فيه جميع أجناسه حتى العصافير. قال: "ولا في أطرافه كالرءوس والأكارع" للتفاوت فيها إذ هو عددي متفاوت لا مقدر لها. قال: "ولا في الجلود عددا ولا في الحطب حزما ولا في الرطبة جرزا" للتفاوت فيها، إلا إذا عرف ذلك بأن بين له طول ما يشد به الحزمة أنه شبر أو ذراع فحينئذ يجوز إذا كان على وجه لا يتفاوت. قال: "ولا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موجودا من حين العقد إلى حين المحل، حتى لو كان منقطعا عند العقد موجودا عند المحل أو على العكس أو منقطعا فيما بين ذلك لا يجوز" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز إذا كان موجودا وقت المحل لوجود القدرة على التسليم حال وجوبه. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها" ولأن القدرة على التسليم بالتحصيل فلا بد من استمرار الوجود في مدة الأجل ليتمكن من التحصيل. "ولو انقطع بعد المحل فرب السلم بالخيار، إن شاء فسخ السلم، وإن شاء انتظر وجوده" لأن السلم قد صح والعجز الطارئ على شرف الزوال فصار كإباق المبيع قبل القبض. قال: "ويجوز السلم في السمك المالح وزنا معلوما وضربا معلوما" لأنه معلوم القدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 مضبوط الوصف مقدور التسليم إذ هو غير منقطع "ولا يجوز السلم فيه عددا" للتفاوت. قال: "ولا خير في السلم في السمك الطري إلا في حينه وزنا معلوما وضربا معلوما" لأنه ينقطع في زمان الشتاء، حتى لو كان في بلد لا ينقطع يجوز مطلقا، وإنما يجوز وزنا لا عددا لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز في لحم الكبار منها وهي التي تقطع اعتبارا بالسلم في اللحم عنده. قال: "ولا خير في السلم في اللحم عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز" لأنه موزون مضبوط الوصف ولهذا يضمن بالمثل. ويجوز استقراضه وزنا ويجري فيه ربا الفضل، بخلاف لحم الطيور لأنه لا يمكن وصف موضع منه. وله أنه مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته أو في سمنه وهزاله على اختلاف فصول السنة، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة. وفي مخلوع العظم لا يجوز على الوجه الثاني وهو الأصح، والتضمين بالمثل ممنوع. وكذا الاستقراض، وبعد التسليم فالمثل أعدل من القيمة، ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته، أما الوصف فلا يكتفى به. قال: "ولا يجوز السلم إلا مؤجلا" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز حالا لإطلاق الحديث ورخص في السلم. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إلى أجل معلوم" فيما روينا، ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلا بد من الأجل ليقدر على التحصيل فيه فيسلم، ولو كان قادرا على التسليم لم يوجد المرخص فبقي على النافي. قال: "ولا يجوز إلا بأجل معلوم" لما روينا، ولأن الجهالة فيه مفضية إلى المنازعة كما في البيع، والأجل أدناه شهر وقيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر من نصف يوم. والأول أصح "ولا يجوز السلم بمكيال رجل بعينه ولا بذراع رجل بعينه" معناه إذا لم يعرف مقداره لأنه تأخر فيه التسليم فربما يضيع فيؤدي إلى المنازعة وقد مر من قبل، ولا بد أن يكون المكيال مما لا ينقبض ولا ينبسط كالقصاع مثلا، فإن كان مما ينكبس بالكبس كالزنبيل والجراب لا يجوز للمنازعة إلا في قرب الماء للتعامل فيه، كذا روي عن أبي يوسف رحمه الله. قال: "ولا في طعام قرية بعينها" أو ثمرة نخلة بعينها لأنه قد يعتريه آفة فلا يقدر على التسليم وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حيث قال "أرأيت لو أذهب الله تعالى الثمر بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ " ولو كانت النسبة إلى قرية لبيان الصفة لا بأس به على ما قالوا كالخشمراني ببخارى والبساخي بفرغانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 قال: "ولا يصح السلم عند أبي حنيفة رحمه الله إلا بسبع شرائط: جنس معلوم" كقولنا حنطة أو شعير "ونوع معلوم" كقولنا سقية أو بخسية "وصفة معلومة" كقولنا جيد أو رديء "ومقدار معلوم" كقولنا كذا كيلا بمكيال معروف وكذا وزنا "وأجل معلوم" والأصل فيه ما روينا والفقه فيه ما بينا "ومعرفة مقدار رأس المال إذا كان يتعلق العقد على مقداره" كالمكيل والموزون والمعدود "وتسمية المكان الذي يوفيه فيه إذا كان له حمل ومؤنة" وقالا: لا يحتاج إلى تسمية رأس المال إذا كان معينا ولا إلى مكان التسليم ويسلمه في موضع العقد، فهاتان مسألتان. ولهما في الأولى أن المقصود يحصل بالإشارة فأشبه الثمن والأجرة وصار كالثوب. ولأبي حنيفة أنه ربما يوجد بعضها زيوفا ولا يستبدل في المجلس، فلو لم يعلم قدره لا يدري في كم بقي أو ربما لا يقدر على تحصيل المسلم فيه فيحتاج إلى رد رأس المال، والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع المنافي، بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا لأن الذرع وصف فيه لا يتعلق العقد على مقداره. ومن فروعه إذا أسلم في جنسين ولم يبين رأس مال كل واحد منهما، أو أسلم جنسين ولم يبين مقدار أحدهما. ولهما في الثانية أن مكان العقد يتعين لوجود العقد الموجب للتسليم، ولأنه لا يزاحمه مكان آخر فيه فيصير نظير أول أوقات الإمكان في الأوامر فصار كالقرض والغصب. ولأبي حنيفة رحمه الله أن التسليم غير واجب في الحال فلا يتعين، بخلاف القرض والغصب، وإذا لم يتعين فالجهالة فيه تفضي إلى المنازعة، لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان فلا بد من البيان، وصار كجهالة الصفة، وعن هذا قال من قال من المشايخ رحمهم الله إن الاختلاف فيه عنده يوجب التخالف كما في الصفة. وقيل على عكسه لأن تعين المكان قضية العقد عندهما، وعلى هذا الخلاف الثمن والأجرة والقسمة. وصورتها: إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة. وقيل لا يشترط ذلك في الثمن. والصحيح أنه يشترط إذا كان مؤجلا، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وعندهما يتعين مكان الدار ومكان تسليم الدابة للإيفاء. قال: "وما لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء بالإجماع" لأنه لا تختلف قيمته "ويوفيه في المكان الذي أسلم فيه" قال رضي الله عنه: وهذه رواية الجامع الصغير والبيوع. وذكر في الإجارات أنه يوفيه في أي مكان شاء، وهو الأصح لأن الأماكن كلها سواء، ولا وجوب في الحال. ولو عينا مكانا، قيل لا يتعين لأنه لا يفيد، وقيل يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق، ولو عين المصر فيما له حمل ومؤنة يكتفى به لأنه مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فيما ذكرنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 قال: "ولا يصح السلم حتى يقبض رأس المال قبل أن يفارقه فيه" أما إذا كان من النقود فلأنه افتراق عن دين بدين، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ وإن كان عينا"، فلأن السلم أخذ عاجل بآجل، إذ الإسلام والإسلاف ينبئان عن التعجيل فلا بد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى الاسم، ولأنه لا بد من تسليم رأس المال ليتقلب المسلم إليه فيه فيقدر على التسليم، ولهذا قلنا: لا يصح السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما أو لأحدهما لأنه يمنع تمام القبض لكونه مانعا من الانعقاد في حق الحكم، وكذا لا يثبت فيه خيار الرؤية لأنه غير مفيد، بخلاف خيار العيب لأنه لا يمنع تمام القبض ولو أسقط خيار الشرط قبل الافتراق ورأس المال قائم جاز خلافا لزفر، وقد مر نظيره "وجملة الشروط جمعوها في قولهم إعلام رأس المال وتعجيله وإعلام المسلم فيه وتأجيله وبيان مكان الإيفاء والقدرة على تحصيله، فإن أسلم مائتي درهم في كر حنطة مائة منها دين على المسلم إليه ومائة نقد فالسلم في حصة الدين باطل" لفوات القبض "ويجوز في حصة النقد" لاستجماع شرائطه ولا يشيع الفساد لأن الفساد طارئ، إذ السلم وقع صحيحا، ولهذا لو نقد رأس المال قبل الافتراق صح إلا أنه يبطل بالافتراق لما بينا، وهذا لأن الدين لا يتعين في البيع، ألا ترى أنهما لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل البيع فينعقد صحيحا. قال: "ولا يجوز التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه قبل القبض" أما الأول فلما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد. وأما الثاني فلأن المسلم فيه مبيع والتصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز. قال: "ولا تجوز الشركة والتولية في المسلم فيه" لأنه تصرف فيه "فإن تقايلا السلم لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئا حتى يقبضه كله" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك" أي عند الفسخ، ولأنه أخذ شبها بالمبيع فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه، وهذا لأن الإقالة بيع جديد في حق ثالث، ولا يمكن جعل المسلم فيه مبيعا لسقوطه فجعل رأس المال مبيعا لأنه دين مثله، إلا أنه لا يجب قبضه في المجلس لأنه ليس في حكم الابتداء من كل وجه، وفيه خلاف زفر رحمه الله، والحجة عليه ما ذكرناه. قال: "ومن أسلم في كر حنطة فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا وأمر رب السلم بقبضه قضاء لم يكن قضاء، وإن أمره أن يقبضه له ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له ثم اكتاله لنفسه جاز" لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان، وهذا هو محمل الحديث على ما مر والسلم وإن كان سابقا لكن قبض المسلم فيه لاحق وأنه بمنزلة ابتداء البيع لأن العين غير الدين حقيقة. وإن جعل عينه في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال فيتحقق البيع بعد الشراء، وإن لم يكن سلما وكان قرضا فأمره بقبض الكر جاز لأن القرض إعارة ولهذا ينعقد بلفظ الإعارة فكان المردود عين المأخوذ مطلقا حكما فلا تجتمع الصفقتان. قال: "ومن أسلم في كر فأمر رب السلم أن يكيله المسلم إليه في غرائر رب السلم ففعل وهو غائب لم يكن قضاء" لأن الأمر بالكيل لم يصح لأنه لم يصادف ملك الآمر، [لأن] حقه في الدين دون العين فصار المسلم إليه مستعيرا للغرائر منه وقد جعل ملك نفسه فيها فصار كما لو كان عليه دراهم دين فدفع إليه كيسا ليزنها المديون فيه لم يصر قابضا. ولو كانت الحنطة مشتراة والمسألة بحالها صار قابضا لأن الأمر قد صح حيث صادف ملكه لأنه ملك العين بالبيع، ألا ترى أنه لو أمره بالطحن كان الطحين في السلم للمسلم إليه وفي الشراء للمشتري لصحة الأمر، وكذا إذا أمره أن يصبه في البحر في السلم يهلك من مال المسلم إليه وفي الشراء من مال المشتري، ويتقرر الثمن عليه لما قلنا، ولهذا يكتفى بذلك الكيل في الشراء في الصحيح لأنه نائب عنه في الكيل والقبض بالوقوع في غرائر المشتري، ولو أمره في الشراء أن يكيله في غرائر البائع ففعل لم يصر قابضا لأنه استعار غرائره ولم يقبضها فلا تصير الغرائر في يده، فكذا ما يقع فيها، وصار كما لو أمره أن يكيله ويعزله في ناحية من بيت البائع لأن البيت بنواحيه في يده فلم يصر المشتري قابضا. ولو اجتمع الدين والعين والغرائر للمشتري، إن بدأ بالعين صار قابضا، أما العين فلصحة الأمر فيه، وأما الدين فلاتصاله بملكه وبمثله يصير قابضا، كمن استقرض حنطة وأمره أن يزرعها في أرضه، وكمن دفع إلى صائغ خاتما وأمره أن يزيده من عنده نصف دينار، وإن بدأ بالدين لم يصر قابضا، أما الدين فلعدم صحة الأمر، وأما العين فلأنه خلطه بملكه قبل التسليم فصار مستهلكا عند أبي حنيفة رحمه الله فينتقض البيع، وهذا الخلط غير مرضي به من جهته لجواز أن يكون مراده البداءة بالعين وعندهما هو بالخيار إن شاء نقض البيع وإن شاء شاركه في المخلوط لأن الخلط ليس باستهلاك عندهما. قال: "ومن أسلم جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا فماتت في يد المشتري فعليه قيمتها يوم قبضها، ولو تقايلا بعد هلاك الجارية جاز" لأن صحة الإقالة تعتمد بقاء العقد وذلك بقيام المعقود عليه، وفي السلم المعقود عليه إنما هو المسلم فيه فصحت الإقالة حال بقائه، وإذا جاز ابتداء فأولى أن يبقى انتهاء، لأن البقاء أسهل، وإذا انفسخ العقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 في المسلم فيه انفسخ في الجارية تبعا فيجب عليه ردها وقد عجز فيجب عليه رد قيمتها "ولو اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري بطلت الإقالة، ولو تقايلا بعد موتها فالإقالة باطلة" لأن المعقود عليه في البيع إنما هو الجارية فلا يبقى العقد بعد هلاكها فلا تصح الإقالة ابتداء ولا تبقى انتهاء لانعدام محله، وهذا بخلاف بيع المقايضة حيث تصح الإقالة وتبقى بعد هلاك أحد العوضين لأن كل واحد منهما مبيع فيه. قال: "ومن أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة فقال المسلم إليه شرطت رديئا وقال رب السلم لم تشترط شيئا فالقول قول المسلم إليه" لأن رب السلم متعنت في إنكاره الصحة لأن المسلم فيه يربو على رأس المال في العادة، وفي عكسه قالوا: يجب أن يكون القول لرب السلم عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يدعي الصحة وإن كان صاحبه منكرا. وعندهما القول للمسلم إليه لأنه منكر وإن أنكر الصحة، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى "ولو قال المسلم إليه لم يكن له أجل وقال رب السلم بل كان له أجل فالقول قول رب السلم" لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له وهو الأجل، والفساد لعدم الأجل غير متيقن لمكان الاجتهاد فلا يعتبر النفع في رد رأس المال، بخلاف عدم الوصف، وفي عكسه القول لرب السلم عندهما لأنه ينكر حقا له عليه فيكون القول قوله وإن أنكر الصحة كرب المال إذا قال للمضارب شرطت لك نصف الربح إلا عشرة وقال المضارب لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال لأنه ينكر استحقاق الربح وإن أنكر الصحة. وعند أبي حنيفة رحمه الله القول للمسلم إليه لأنه يدعي الصحة وقد اتفقا على عقد واحد فكانا متفقين على الصحة ظاهرا، بخلاف مسألة المضاربة لأنه ليس بلازم فلا يعتبر الاختلاف فيه فيبقى مجرد دعوى استحقاق الربح، أما السلم فلازم فصار الأصل أن من خرج كلامه تعنتا فالقول لصاحبه بالاتفاق، وإن خرج خصومة ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي الصحة عنده، وعندهما للمنكر وإن أنكر الصحة. قال: "ويجوز السلم في الثياب إذا بين طولا وعرضا ورقعة" لأنه أسلم في معلوم مقدور التسليم على ما ذكرنا، وإن كان ثوب حرير لا بد من بيان وزنه أيضا لأنه مقصود فيه. "ولا يجوز السلم في الجواهر ولا في الخرز" لأن آحادها متفاوتة تفاوتا فاحشا وفي صغار اللؤلؤ التي تباع وزنا يجوز السلم لأنه مما يعلم بالوزن "ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا سمى ملبنا معلوما" لأنه عددي متقارب لا سيما إذا سمي الملبن. قال: "وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه" لأنه لا يفضي إلى المنازعة "وما لا يضبط صفته ولا يعرف مقداره لا يجوز السلم فيه" لأنه دين، وبدون الوصف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 يبقى مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة "ولا بأس بالسلم في طست أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك إذا كان يعرف" لاستجماع شرائط السلم "وإن كان لا يعرف فلا خير فيه" لأنه دين مجهول. قال: "وإن استصنع شيئا من ذلك بغير أجل جاز استحسانا" للإجماع الثابت بالتعامل. وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم، والصحيح أنه يجوز بيعا لا عدة، والمعدوم قد يعتبر موجودا حكما، والمعقود عليه العين دون العمل، حتى لو جاء به مفروغا لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه جاز، ولا يتعين إلا بالاختيار، حتى لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز، وهذا كله هو الصحيح. قال: "وهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه" لأنه اشترى شيئا لم يره ولا خيار للصانع، كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح، لأنه باع ما لم يره. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن له الخيار أيضا لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر وهو قطع الصرم وغيره. وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما. أما الصانع فلما ذكرنا. وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرارا بالصانع لأنه ربما لا يشتريه غيره بمثله ولا يجوز فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب لعدم المجوز وفيما فيه تعامل إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن التسليم، وإنما قال بغير أجل لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة خلافا لهما، ولو ضربه فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق. لهما أن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته ويحمل الأجل على التعجيل، بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح. ولأبي حنيفة أنه دين يحتمل السلم، وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه وفي تعاملهم الاستصناع نوع شبهة فكان الحمل على السلم أولى، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 مسائل منثورة قال: "ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع، المعلم وغير المعلم في ذلك سواء" وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور لأنه غير منتفع به. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السحت مهر البغي وثمن الكلب" ولأنه نجس العين والنجاسة تشعر بهوان المحل وجواز البيع يشعر بإعزازه فكان منتفيا. ولنا "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية" ولأنه منتفع به حراسة واصطيادا فكان ما لا يجوز بيعه، بخلاف الهوام المؤذية؛ لأنه لا ينتفع بها، والحديث محمول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 على الابتداء قلعا لهم عن الاقتناء ولا نسلم نجاسة العين، ولو سلم فيحرم التناول دون البيع. وقال: "ولا يجوز بيع الخمر والخنزير" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها" ولأنه ليس بمال في حقنا، وقد ذكرناه. قال: "وأهل الذمة في البياعات كالمسلمين" لقوله عليه الصلاة والسلام في ذلك الحديث: "فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" ولأنهم مكلفون محتاجون كالمسلمين. قال: "إلا في الخمر والخنزير خاصة" فإن عقدهم على الخمر كعقد المسلم على العصير، وعقدهم على الخنزير كعقد المسلم على الشاة؛ لأنها أموال في اعتقادهم، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يعتقدون. دل عليه قول عمر: ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها. قال: "ومن قال لغيره بع عبدك من فلان بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف ففعل فهو جائز ويأخذ الألف من المشتري والخمسمائة من الضامن، وإن كان لم يقل من الثمن جاز البيع بألف ولا شيء على الضمين" وأصله أن الزيادة في الثمن والمثمن جائز عندنا، وتلتحق بأصل العقد خلافا لزفر والشافعي لأنه تغيير للعقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو كونه عدلا أو خاسرا أو رابحا، ثم قد لا يستفيد المشتري بها شيئا بأن زاد في الثمن وهو يساوي المبيع بدونها فيصح اشتراطها على الأجنبي كبدل الخلع لكن من شرطها المقابلة تسمية وصورة، فإذا قال من الثمن وجد شرطها فيصح، وإذا لم يقل لم يوجد فلم يصح. قال: "ومن اشترى جارية ولم يقبضها حتى زوجها فوطئها الزوج فالنكاح جائز" لوجود سبب الولاية، وهو الملك في الرقبة على الكمال وعليه المهر. "وهذا قبض" لأن وطء الزوج حصل بتسليط من جهته فصار فعله كفعله "إن لم يطأها فليس بقبض" والقياس أن يصير قابضا؛ لأنه تعييب حكمي فيعتبر بالتعييب الحقيقي. وجه الاستحسان أن في الحقيقي استيلاء على المحل وبه يصير قابضا ولا كذلك الحكمي فافترقا. قال: "ومن اشترى عبدا فغاب فأقام البائع البينة أنه باعها إياه، فإن كانت غيبته معروفة لم يبع في دين البائع" لأنه يمكن إيصال البائع إلى حقه بدون البيع، وفيه إبطال حق المشتري "وإن لم يدر أين هو بيع العبد وأوفى الثمن" لأن ملك المشتري ظهر بإقراره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 فيظهر على الوجه الذي أقر به مشغولا بحقه، وإذا تعذر استيفاؤه من المشتري يبيعه القاضي فيه كالراهن إذا مات والمشتري إذا مات مفلسا والمبيع لم يقبض، بخلاف ما بعد القبض؛ لأن حقه لم يبق متعلقا به، ثم إن فضل شيء يمسك للمشتري؛ لأنه بدل حقه وإن نقص يتبع هو أيضا. قال: "فإن كان المشتري اثنين فغاب أحدهما فللحاضر أن يدفع الثمن كله ويقبضه، وإذا حضر الآخر لم يأخذ نصيبه حتى ينقد شريكه الثمن كله وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: إذا دفع الحاضر الثمن كله لم يقبض إلا نصيبه وكان متطوعا بما أدى عن صاحبه" لأنه قضى دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه وهو أجنبي عن نصيب صاحبه فلا يقبضه. ولهما أنه مضطر فيه لأنه لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إلا بأداء جميع الثمن؛ لأن البيع صفقة واحدة، وله حق الحبس ما بقي شيء منه، والمضطر يرجع كمعير الرهن، وإذا كان له أن يرجع عليه كان له حق الحبس عنه إلى أن يستوفي حقه كالوكيل بالشراء إذا قضى الثمن من مال نفسه. قال: "ومن اشترى جارية بألف مثقال ذهب وفضة فهما نصفان" لأنه أضاف المثقال إليهما على السواء فيجب من كل واحد منهما خمسمائة مثقال لعدم الأولوية، وبمثله لو اشترى جارية بألف من الذهب والفضة يجب من الذهب مثاقيل ومن الفضة دراهم وزن سبعة لأنه أضاف الألف إليهما فينصرف إلى الوزن المعهود في كل واحد منهما. قال: "ومن له على آخر عشرة دراهم جياد فقضاه زيوفا وهو لا يعلم فأنفقها أو هلكت فهو قضاء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: يرد مثل زيوفه ويرجع بدراهمه" لأن حقه في الوصف مرعي كهو في الأصل، ولا يمكن رعايته بإيجاب ضمان الوصف لأنه لا قيمة له عند المقابلة بجنسه فوجب المصير إلى ما قلنا. ولهما أنه من جنس حقه. حتى لو تجوز به فيما لا يجوز الاستبدال جاز فيقع به الاستيفاء ولا يبقى حقه إلا في الجودة، ولا يمكن تداركها بإيجاب ضمانها لما ذكرنا، وكذا بإيجاب ضمان الأصل لأنه إيجاب له عليه ولا نظير له. قال: "وإذا أفرخ طير في أرض رجل فهو لمن أخذه" وكذا إذا باض فيها "وكذا إذا تكنس فيها ظبي" لأنه مباح سبقت يده إليه ولأنه صيد وإن كان يؤخذ بغير حيلة والصيد لمن أخذه، وكذا البيض؛ لأنه أصل الصيد ولهذا يجب الجزاء على المحرم بكسره أو شيه، وصاحب الأرض لم يعد أرضه فصار كنصب شبكة للجفاف وكذا إذا دخل الصيد داره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 أو وقع ما نثر من السكر والدراهم في ثيابه ما لم يكفه أو كان مستعدا له، بخلاف ما إذا عسل النحل في أرضه لأنه عد من أنزاله فيملكه تبعا لأرضه كالشجر النابت فيها والتراب المجتمع في أرضه بجريان الماء، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 كتاب الصرف تعريفه ... كتاب الصرف قال: "الصرف هو البيع إذا كان كل واحد من عوضيه من جنس الأثمان" سمي به للحاجة إلى النقل في بدليه من يد إلى يد. والصرف هو النقل والرد لغة، أو لأنه لا يطلب منه إلا الزيادة إذ لا ينتفع بعينه، والصرف هو الزيادة لغة كذا قاله الخليل ومنه سميت العبادة النافلة صرفا. قال: "فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لا يجوز إلا مثلا بمثل وإن اختلفا في الجودة والصياغة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد والفضل ربا" الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء" وقد ذكرناه في البيوع. قال: "ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق" لما روينا، ولقول عمر رضي الله عنه: وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره، ولأنه لا بد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن الكالئ بالكالئ ثم لا بد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق الربا، ولأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فوجب قبضهما سواء كانا يتعينان كالمصوغ أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر لإطلاق ما روينا، ولأنه إن كان يتعين ففيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة فيشترط قبضه اعتبارا للشبهة في الربا، والمراد منه الافتراق بالأبدان، حتى لو ذهبا عن المجلس يمشيان معا في جهة واحدة أو ناما في المجلس أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف لقول ابن عمر رضي الله عنه وإن وثب من سطح فثب معه، وكذا المعتبر ما ذكرناه في قبض رأس مال السلم، بخلاف خيار المخيرة لأنه يبطل بالإعراض فيه. "وإن باع الذهب بالفضة جاز التفاضل" لعدم المجانسة "ووجب التقابض" لقوله عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء" "فإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين أو أحدهما بطل العقد" لفوات الشرط وهو القبض ولهذا لا يصح شرط الخيار فيه ولا الأجل لأن بأحدهما لا يبقى القبض مستحقا وبالثاني يفوت القبض المستحق، إلا إذا أسقط الخيار في المجلس فيعود إلى الجواز لارتفاعه قبل تقرره وفيه خلاف زفر رحمه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 قال: "ولا يجوز التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه، حتى لو باع دينارا بعشرة دراهم ولم يقبض العشرة حتى اشترى بها ثوبا فالبيع في الثوب فاسد" لأن القبض مستحق بالعقد حقا لله تعالى، وفي تجويزه فواته، وكان ينبغي أن يجوز العقد في الثوب كما نقل عن زفر، لأن الدراهم لا تتعين فينصرف العقد إلى مطلقها، ولكنا نقول: الثمن في باب الصرف مبيع لأن البيع لا بد له منه ولا شيء سوى الثمنين فيجعل كل واحد منهما مبيعا لعدم الأولوية وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز، وليس من ضرورة كونه مبيعا أن يكون متعينا كما في المسلم فيه. قال: "ويجوز بيع الذهب بالفضة مجازفة" لأن المساواة غير مشروطة فيه ولكن يشترط القبض في المجلس لما ذكرنا، بخلاف بيعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا. قال: "ومن باع جارية قيمتها ألف مثقال فضة وفي عنقها طوق فضة قيمته ألف مثقال بألفي مثقال فضة ونقد من الثمن ألف مثقال ثم افترقا فالذي نقد ثمن الفضة" لأن قبض حصة الطوق واجب في المجلس لكونه بدل الصرف، والظاهر منه الإتيان بالواجب "وكذا لو اشتراها بألفي مثقال ألف نسيئة وألف نقدا فالنقد ثمن الطوق" لأن الأجل باطل في الصرف جائز في بيع الجارية، والمباشرة على وجه الجواز وهو الظاهر منهما "وكذلك إن باع سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون فدفع من الثمن خمسين جاز البيع وكان المقبوض حصة الفضة وإن لم يبين ذلك لما بينا، وكذلك إن قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما" لأن الاثنين قد يراد بذكرهما الواحد، قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] والمراد أحدهما فيحمل عليه لظاهر حاله "فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية" لأنه صرف فيها "وكذا في السيف إن كان لا يتخلص إلا بضرر" لأنه لا يمكن تسليمه بدون الضرر ولهذا لا يجوز إفراده بالبيع كالجذع في السقف "وإن كان يتخلص بغير ضرر جاز البيع في السيف وبطل في الحلية" لأنه أمكن إفراده بالبيع فصار كالطوق والجارية، وهذا إذا كانت الفضة المفردة أزيد مما فيه، فإن كانت مثله أو أقل منه أو لا يدري لا يجوز البيع للربا أو لاحتماله، وجهة الصحة من وجه وجهة الفساد من وجهين فترجحت. قال: "ومن باع إناء فضة ثم افترقا وقد قبض بعض ثمنه بطل البيع فيما لم يقبض وصح فيما قبض وكان الإناء مشتركا بينهما" لأنه صرف كله فصح فيما وجد شرطه وبطل فيما لم يوجد والفساد طارئ لأنه يصح ثم يبطل بالافتراق فلا يشيع. قال: "ولو استحق بعض الإناء فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بحصته وإن شاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 رده" لأن الشركة عيب في الإناء. "ومن باع قطعة نقرة ثم استحق بعضها أخذ ما بقي بحصتها ولا خيار له" لأنه لا يضره التبعيض. قال: "ومن باع درهمين ودينارا بدرهم ودينارين جاز البيع وجعل كل جنس بخلافه" وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجوز وعلى هذا الخلاف إذا باع كر شعير وكر حنطة بكري شعير وكري حنطة: ولهما أن في الصرف إلى خلاف الجنس تغيير تصرفه لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين، والتغيير لا يجوز وإن كان فيه تصحيح التصرف، كما إذا اشترى قلبا بعشرة وثوبا بعشرة ثم باعهما مرابحة لا يجوز وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب، وكذا إذا اشترى عبدا بألف درهم ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز في المشترى بألف وإن أمكن تصحيحه بصرف الألف إليه. وكذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره وقال بعتك أحدهما لا يجوز وإن أمكن تصحيحه بصرفه إلى عبده. وكذا إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض فسد العقد في الدرهمين ولا يصرف الدرهم إلى الثوب لما ذكرنا. ولنا أن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الفرد بالفرد كما في مقابلة الجنس بالجنس، وأنه طريق متعين لتصحيحه فيحمل عليه تصحيحا لتصرفه، وفيه تغيير وصفه لا أصله لأنه يبقى موجبه الأصلي وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل، وصار هذا كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه بخلاف ما عد من المسائل. أما مسألة المرابحة فلأنه يصير تولية في القلب بصرف الربح كله إلى الثوب. والطريق في المسألة الثانية غير متعين لأنه يمكن صرف الزيادة على الألف إلى المشتري. وفي الثالثة أضيف البيع إلى المنكر وهو ليس بمحل للبيع والمعين ضده. وفي الأخيرة العقد انعقد صحيحا والفساد في حالة البقاء وكلامنا في الابتداء. قال: "ومن باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم ودينار جاز البيع وتكون العشرة بمثلها والدينار بدرهم" لأن شرط البيع في الدراهم التماثل على ما روينا، فالظاهر أنه أراد به ذلك فبقي الدرهم بالدينار وهما جنسان ولا يعتبر التساوي فيهما. "ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهبا بذهب وأحدهما أقل ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية، وإن لم تبلغ فمع الكراهة، وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع" لتحقق الربا إذ الزيادة لا يقابلها عوض فيكون ربا. قال: "ومن كان له على آخر عشرة دراهم فباعه الذي عليه العشرة دينارا بعشرة دراهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 ودفع الدينار وتقاصا العشرة بالعشرة فهو جائز" ومعنى المسألة إذا باع بعشرة مطلقة. ووجهه أنه يجب بهذا العقد ثمن يجب عليه تعيينه بالقبض لما ذكرنا، والدين ليس بهذه الصفة فلا تقع المقاصة بنفس المبيع لعدم المجانسة، فإذا تقاصا يتضمن ذلك فسخ الأول والإضافة إلى الدين، إذ لولا ذلك يكون استبدالا ببدل الصرف، وفي الإضافة إلى الدين تقع المقاصة بنفس العقد على ما نبينه، والفسخ قد يثبت بطريق الاقتضاء كما إذا تبايعا بألف ثم بألف وخمسمائة، وزفر يخالفنا فيه لأنه لا يقول بالاقتضاء، وهذا إذا كان الدين سابقا. فإن كان لاحقا فكذلك في أصح الروايتين لتضمنه انفساخ الأول والإضافة إلى دين قائم وقت تحويل العقد فكفى ذلك للجواز. قال: "ويجوز بيع درهم صحيح ودرهمي غلة بدرهمين صحيحين ودرهم غلة" والغلة ما يرده بيت المال ويأخذه التجار. ووجهه تحقق المساواة في الوزن وما عرف من سقوط اعتبار الجودة. قال: "وإذا كان الغالب على الدراهم الفضة فهي فضة، وإذا كان الغالب على الدنانير الذهب فهي ذهب، ويعتبر فيهما من تحريم التفاضل ما يعتبر في الجياد حتى لا يجوز بيع الخالصة بها ولا بيع بعضها ببعض إلا متساويا في الوزن. وكذا لا يجوز الاستقراض بها إلا وزنا" لأن النقود لا تخلو عن قليل غش عادة لأنها لا تنطبع إلا مع الغش، وقد يكون الغش خلقيا كما في الرديء منه فيلحق القليل بالرداءة، والجيد والرديء سواء "وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير" اعتبارا للغالب، فإن اشترى بها فضة خالصة فهو على الوجوه التي ذكرناها في حلية السيف. "وإن بيعت بجنسها متفاضلا جاز صرفا للجنس إلى خلاف الجنس" فهي في حكم شيئين فضة وصفر ولكنه صرف حتى يشترط القبض في المجلس لوجود الفضة من الجانبين، فإذا شرط القبض في الفضة يشترط في الصفر لأنه لا يتميز عنه إلا بضرر. قال رضي الله عنه: ومشايخنا رحمهم الله لم يفتوا بجواز ذلك في العدالى والغطارفة لأنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا، ثم إن كانت تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيها بالوزن، وإن كانت تروج بالعد فبالعد، وإن كانت تروج بهما فبكل واحد منهما لأن المعتبر هو المعتاد فيهما إذا لم يكن فيهما نص، ثم هي ما دامت تروج تكون أثمانا لا تتعين بالتعيين، وإذا كانت لا تروج فهي سلعة تتعين بالتعيين، وإذا كانت يتقبلها البعض دون البعض فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها بل بجنسها زيوفا إن كان البائع يعلم بحالها لتحقق الرضا منه، وبجنسها من الجياد إن كان لا يعلم لعدم الرضا منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 "وإذا اشترى بها سلعة فكسدت وترك الناس المعاملة بها بطل البيع عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف رحمهما الله: عليه قيمتها يوم البيع. وقال محمد رحمه الله: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها" لهما أن العقد قد صح إلا أنه تعذر التسليم بالكساد وأنه لا يوجب الفساد، كما إذا اشترى بالرطب فانقطع أوانه. وإذا بقي العقد وجبت القيمة، لكن عند أبي يوسف رحمه الله وقت البيع لأنه مضمون به، وعند محمد رحمه الله يوم الانقطاع لأنه أوان الانتقال إلى القيمة. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الثمنية بالاصطلاح وما بقي فيبقى بيعا بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل البيع يجب رد المبيع إن كان قائما وقيمته إن كان هالكا كما في البيع الفاسد. قال: "ويجوز البيع بالفلوس" لأنها مال معلوم، فإن كانت نافقة جاز البيع بها وإن لم تتعين لأنها أثمان بالاصطلاح، وإن كانت كاسدة لم يجز البيع بها حتى يعينها لأنها سلع فلا بد من تعيينها "وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما" وهو نظير الاختلاف الذي بيناه. "ولو استقرض فلوسا نافقة فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يجب عليه مثلها" لأنه إعارة، وموجبه رد العين معنى والثمنية فضل فيه إذ القرض لا يختص به. وعندهما تجب قيمتها لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها، كما إذا استقرض مثليا فانقطع، لكن عند أبي يوسف رحمه الله يوم القبض، وعند محمد رحمه الله يوم الكساد على ما مر من قبل، وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع، وقول محمد رحمه الله أنظر للجانبين، وقول أبي يوسف أيسر. قال: "ومن اشترى شيئا بنصف درهم فلوس جاز وعليه ما يباع بنصف درهم من الفلوس وكذا إذا قال بدانق فلوس أو بقيراط فلوس جاز". وقال زفر: لا يجوز في جميع ذلك لأنه اشترى بالفلوس وأنها تقدر بالعدد لا بالدانق والدرهم فلا بد من بيان عددها، ونحن نقول: ما يباع بالدانق ونصف الدرهم من الفلوس معلوم عند الناس والكلام فيه فأغنى عن بيان العدد. ولو قال بدرهم فلوس أو بدرهمي فلوس فكذا عند أبي يوسف رحمه الله لأن ما يباع بالدرهم من الفلوس معلوم وهو المراد لا وزن الدرهم من الفلوس. وعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز بالدرهم ويجوز فيما دون الدرهم، لأن في العادة المبايعة بالفلوس فيما دون الدرهم فصار معلوما بحكم العادة، ولا كذلك الدرهم قالوا: وقول أبي يوسف رحمه الله أصح لا سيما في ديارنا. قال: "ومن أعطى صيرفيا درهما وقال أعطني بنصفه فلوسا وبنصفه نصفا إلا حبة جاز البيع في الفلوس وبطل فيما بقي عندهما" لأن بيع نصف درهم بالفلوس جائز وبيع النصف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 بنصف إلا حبة ربا فلا يجوز "وعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بطل في الكل" لأن الصفقة متحدة والفساد قوي فيشيع وقد مر نظيره، ولو كرر لفظ الإعطاء كان جوابه كجوابهما هو الصحيح لأنهما بيعان "ولو قال أعطني نصف درهم فلوسا ونصفا إلا حبة جاز" لأنه قابل الدرهم بما يباع من الفلوس بنصف درهم وبنصف درهم إلا حبة فيكون نصف درهم إلا حبة بمثله وما وراءه بإزاء الفلوس. قال رضي الله عنه: وفي أكثر نسخ المختصر ذكر المسألة الثانية، والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 كتاب الكفالة ضروب الكفالة مدخل ... كتاب الكفالة الكفالة: هي الضم لغة، قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37] ثم قيل: هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين، والأول أصح. قال: "الكفالة ضربان: كفالة بالنفس، وكفالة بالمال. فالكفالة بالنفس جائزة والمضمون بها إحضار المكفول به" وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز لأنه كفل بما لا يقدر على تسليمه، إذ لا قدرة له على نفس المكفول به، بخلاف الكفالة بالمال لأن له ولاية على مال نفسه. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الزعيم غارم" وهذا يفيد مشروعية الكفالة بنوعيه، ولأنه يقدر على تسليمه بطريقه بأن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه وبينه أو يستعين بأعوان القاضي في ذلك والحاجة ماسة إليه، وقد أمكن تحقق معنى الكفالة وهو الضم في المطالبة فيه. قال: "وتنعقد إذا قال تكفلت بنفس فلان أو برقبته أو بروحه أو بجسده أو برأسه وكذا ببدنه وبوجهه" لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن البدن إما حقيقة أو عرفا على ما مر في الطلاق، كذا إذا قال بنصفه أو بثلثه أو بجزء منه لأن النفس الواحدة في حق الكفالة لا تتجزأ فكان ذكر بعضها شائعا كذكر كلها، بخلاف ما إذا قال تكفلت بيد فلان أو برجله لأنه لا يعبر بهما عن البدن حتى لا تصح إضافة الطلاق إليهما وفيما تقدم تصح "وكذا إذا قال ضمنته" لأنه تصريح بموجبه "أو قال" هو "علي" لأنه صيغة الالتزام "أو قال إلي" لأنه في معنى علي في هذا المقام. قال عليه الصلاة والسلام: "ومن ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فإلي" "وكذا إذا قال أنا زعيم به أو قبيل به" لأن الزعامة هي الكفالة وقد روينا فيه. والقبيل هو الكفيل، ولهذا سمي الصك قبالة، بخلاف ما إذا قال أنا ضامن لمعرفته لأنه التزم المعرفة دون المطالبة. قال: "فإن شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه لزمه إحضاره إذا طالبه في ذلك الوقت" وفاء بما التزمه، "فإن أحضره وإلا حبسه الحاكم", لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه، ولكن لا يحبسه أول مرة لعله ما درى لماذا يدعي. ولو غاب المكفول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 بنفسه أمهله الحاكم مدة ذهابه ومجيئه، فإن مضت ولم يحضره يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق. قال: "وكذا إذا ارتد والعياذ بالله ولحق بدار الحرب" وهذا لأنه عاجز في المدة فينظر كالذي أعسر، ولو سلمه قبل ذلك برئ لأن الأجل حقه فيملك إسقاطه كما في الدين المؤجل. قال: "وإذا أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له أن يخاصمه فيه مثل أن يكون في مصر برئ الكفيل من الكفالة" لأنه أتى بما التزمه وحصل المقصود به، وهذا لأنه ما التزم التسليم إلا مرة. قال: "وإذا كفل على أن يسلمه في مجلس القاضي فسلمه في السوق برئ" لحصول المقصود، وقيل في زماننا: لا يبرأ لأن الظاهر المعاونة على الامتناع لا على الإحضار فكان التقييد مفيدا "وإن سلمه في برية لم يبرأ" لأنه لا يقدر على المخاصمة فيها فلم يحصل المقصود، وكذا إذا سلمه في سواد لعدم قاض يفصل الحكم فيه، ولو سلم في مصر آخر غير المصر الذي كفل فيه برئ عند أبي حنيفة للقدرة على المخاصمة فيه. وعندهما لا يبرأ لأنه قد تكون شهوده فيما عينه. ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيه. قال: "وإذا مات المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة" لأنه عجز عن إحضاره، ولأنه سقط الحضور عن الأصيل فيسقط الإحضار عن الكفيل، وكذا إذا مات الكفيل لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول بنفسه وماله لا يصلح لإيفاء هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال. ولو مات المكفول له فللوصي أن يطالب الكفيل، فإن لم يكن فلوارثه لقيامه مقام الميت. قال: "ومن كفل بنفس آخر ولم يقل إذا دفعت إليك فأنا بريء فدفعه إليه فهو بريء" لأنه موجب التصرف فيثبت بدون التنصيص عليه، ولا يشترط قبول الطالب التسليم كما في قضاء الدين، ولو سلم المكفول به نفسه من كفالته صح لأنه مطالب بالخصومة فكان له ولاية الدفع، وكذا إذا سلمه إليه وكيل الكفيل أو رسوله لقيامهما مقامه. قال: "فإن تكفل بنفسه على أنه إن لم يواف به إلى وقت كذا فهو ضامن لما عليه وهو ألف فلم يحضره إلى ذلك الوقت لزمه ضمان المال" لأن الكفالة بالمال معلقة بشرط عدم الموافاة، وهذا التعليق صحيح، فإذا وجد الشرط لزمه المال "ولا يبرأ عن الكفالة بالنفس" لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وجوب المال عليه بالكفالة لا ينافي الكفالة بنفسه إذ كل واحد منهما للتوثق. وقال الشافعي: لا تصح هذه الكفالة لأنه تعليق سبب وجوب المال بالخطر فأشبه البيع. ولنا أنه يشبه البيع ويشبه النذر من حيث إنه التزام. فقلنا: لا يصح تعليقه بمطلق الشرط كهبوب الريح ونحوه. ويصح بشرط متعارف عملا بالشبهين والتعليق بعدم الموافاة متعارف. قال: "ومن كفل بنفس رجل وقال إن لم يواف به غدا فعليه المال، فإن مات المكفول عنه ضمن المال" لتحقق الشرط وهو عدم الموافاة. قال: "ومن ادعى على آخر مائة دينار بينها أو لم يبينها حتى تكفل بنفسه رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه المائة فلم يواف به غدا فعليه المائة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: إن لم يبينها حتى تكفل به رجل ثم ادعى بعد ذلك لم يلتفت إلى دعواه" لأنه علق مالا مطلقا بخطر؛ ألا يرى أنه لم ينسبه إلى ما عليه، ولا تصح الكفالة على هذا الوجه وإن بينها ولأنه لم تصح الدعوى من غير بيان فلا يجب إحضار النفس، وإذا لم يجب لا تصح الكفالة بالنفس فلا تصح بالمال لأنه بناء عليه، بخلاف ما إذا بين. ولهما أن المال ذكر معرفا فينصرف إلى ما عليه، والعادة جرت بالإجمال في الدعاوى فتصح الدعوى على اعتبار البيان، فإذا بين التحق البيان بأصل الدعوى فتبين صحة الكفالة الأولى فيترتب عليها الثانية. قال: "ولا تجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة رحمه الله" معناه: لا يجبر عليها عنده، وقالا: يجبر في حد القذف لأن فيه حق العبد وفي القصاص لأنه خالص حق العبد فيليق بهما الاستيثاق كما في التعزير، بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى. ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: "لا كفالة في حد من غير فصل" ولأن مبنى الكل على الدرء فلا يجب فيها الاستيثاق، بخلاف سائر الحقوق لأنها لا تندرئ بالشبهات فيليق بها الاستيثاق كما في التعزير "ولو سمحت نفسه به يصح بالإجماع" لأنه أمكن ترتيب موجبه عليه لأن تسليم النفس فيها واجب فيطالب به الكفيل فيتحقق الضم. قال: "ولا يحبس فيها حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي" لأن الحبس للتهمة هاهنا، والتهمة تثبت بأحد شطري الشهادة: إما العدد أو العدالة، بخلاف الحبس في باب الأموال لأنه أقصى عقوبة فيه فلا يثبت إلا بحجة كاملة. وذكر في كتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 أدب القاضي أن على قولهما لا يحبس في الحدود والقصاص بشهادة الواحد لحصول الاستيثاق بالكفالة. قال: "والرهن والكفالة جائزان في الخراج" لأنه دين مطالب به ممكن الاستيفاء فيمكن ترتيب موجب العقد عليه فيهما. قال: "ومن أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب فأخذ منه كفيلا آخر فهما كفيلان" لأن موجبه التزام المطالبة وهي متعددة والمقصود التوثق، وبالثانية يزداد التوثق فلا يتنافيان "وأما الكفالة بالمال فجائزة معلوما كان المكفول به أو مجهولا إذا كان دينا صحيحا مثل أن يقول تكفلت عنه بألف أو بما لك عليه أو بما يدركك في هذا البيع" لأن مبنى الكفالة على التوسع فيتحمل فيها الجهالة، وعلى الكفالة بالدرك إجماع وكفى به حجة، وصار كما إذا كفل لشجة صحت الكفالة وإن احتملت السراية والاقتصار، وشرط أن يكون دينا صحيحا ومراده أن لا يكون بدل الكتابة، وسيأتيك في موضعه إن شاء الله تعالى. قال: "والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل وإن شاء طالب كفيله" لأن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة وذلك يقتضي قيام الأول لا البراءة عنه، إلا إذا شرط فيه البراءة فحينئذ تنعقد حوالة اعتبارا للمعنى، كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها المحيل تكون كفالة "ولو طالب أحدهما له أن يطالب الآخر وله أن يطالبهما" لأن مقتضاه الضم، بخلاف المالك إذا اختار تضمين أحد الغاصبين لأن اختياره أحدهما يتضمن التمليك منه فلا يمكنه التمليك من الثاني، أما المطالبة بالكفالة لا تتضمن التمليك فوضح الفرق. قال: "ويجوز تعليق الكفالة بالشروط" مثل أن يقول ما بايعت فلانا فعلي أو ما ذاب لك عليه فعلي أو ما غصبك فعلي. والأصل فيه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] والإجماع منعقد على صحة ضمان الدرك، ثم الأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم لها مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله إذا استحق المبيع، أو لإمكان الاستيفاء مثل قوله إذا قدم زيد وهو مكفول عنه، أو لتعذر الاستيفاء مثل قوله إذا غاب عن البلدة، وما ذكر من الشروط في معنى ما ذكرناه، فأما لا يصح التعليق بمجرد الشرط كقوله إن هبت الريح أو جاء المطر وكذا إذا جعل واحد منهما أجلا، إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالا لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة كالطلاق والعتاق. "فإن قال تكفلت بما لك عليه فقامت البينة بألف عليه ضمنه الكفيل" لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيتحقق ما عليه فيصح الضمان به "وإن لم تقم البينة فالقول قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 الكفيل مع يمينه في مقدار ما يعترف به" لأنه منكر للزيادة "فإن اعترف المكفول عنه بأكثر من ذلك لم يصدق على كفيله" لأنه إقرار على الغير ولا ولاية له عليه "ويصدق في حق نفسه" لولايته عليها. قال: "وتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره" لإطلاق ما روينا ولأنه التزام المطالبة وهو تصرف في حق نفسه وفيه نفع للطالب ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع إذ هو عند أمره وقد رضي به "فإن كفل بأمره رجع بما أدى عليه" لأنه قضى دينه بأمره "وإن كفل بغير أمره لم يرجع بما يؤديه" لأنه متبرع بأدائه، وقوله رجع بما أدى معناه إذا أدى ما ضمنه، أما إذا أدى خلافه رجع بما ضمن لأنه ملك الدين بالأداء فنزل منزلة الطالب، كما إذا ملكه بالهبة أو بالإرث، وكما إذا ملكه المحتال عليه بما ذكرنا في الحوالة، بخلاف المأمور بقضاء الدين حيث يرجع بما أدى؛ لأنه لم يجب عليه شيء حتى يملك الدين بالأداء، وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف على خمسمائة لأنه إسقاط فصار كما إذا أبرأ الكفيل. قال: "وليس للكفيل أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن يؤدي عنه" لأنه لا يملكه قبل الأداء، بخلاف الوكيل بالشراء حيث يرجع قبل الأداء لأنه انعقد بينهما مبادلة حكمية. قال: "فإن لوزم بالمال كان له أن يلازم المكفول عنه حتى يخلصه" وكذا إذا حبس كان له أن يحبسه لأنه لحقه ما لحقه من جهته فيعامله بمثله "وإذا أبرأ الطالب المكفول عنه أو استوفى منه برئ الكفيل" لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل لأن الدين عليه في الصحيح "وإن أبرأ الكفيل لم يبرأ الأصيل عنه" لأنه تبع، ولأن عليه المطالبة وبقاء الدين على الأصيل بدونه جائز "وكذا إذا أخر الطالب عن الأصيل فهو تأخير عن الكفيل، ولو أخر عن الكفيل لم يكن تأخيرا عن الذي عليه الأصل" لأن التأخير إبراء موقت فيعتبر بالإبراء المؤبد، بخلاف ما إذا كفل بالمال الحال مؤجلا إلى شهر فإنه يتأجل عن الأصيل لأنه لا حق له إلا الدين حال وجود الكفالة فصار الأجل داخلا فيه، أما هاهنا فبخلافه. قال: "فإن صالح الكفيل رب المال عن الألف على خمسمائة فقد برئ الكفيل والذي عليه الأصل" لأنه أضاف الصلح إلى الألف الدين وهي على الأصيل فبرئ عن خمسمائة لأنه إسقاط وبراءته توجب براءة الكفيل، ثم برئا جميعا عن خمسمائة بأداء الكفيل، ويرجع الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره، بخلاف ما إذا صالح على جنس آخر لأنه مبادلة حكمية فملكه فيرجع بجميع الألف، ولو كان صالحه عما استوجب بالكفالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 لا يبرأ الأصيل؛ لأن هذا إبراء الكفيل عن المطالبة. قال: "ومن قال لكفيل ضمن له مالا قد برئت إلي من المال رجع الكفيل على المكفول عنه" معناه بما ضمن له بأمره لأن البراءة التي ابتداؤها من المطلوب وانتهاؤها إلى الطالب لا تكون إلا بالإيفاء، فيكون هذا إقرارا بالأداء فيرجع "وإن قال أبرأتك لم يرجع الكفيل على المكفول عنه" لأنه براءة لا تنتهي إلى غيره وذلك بالإسقاط فلم يكن إقرارا بالإيفاء. ولو قال برئت قال محمد رحمه الله هو مثل الثاني لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه والإبراء فيثبت الأدنى إذ لا يرجع الكفيل بالشك. وقال أبو يوسف رحمه الله: هو مثل الأول لأنه أقر ببراءة ابتداؤها من المطلوب وإليه الإيفاء دون الإبراء. وقيل في جميع ما ذكرنا إذا كان الطالب حاضرا يرجع في البيان إليه لأنه هو المجمل. قال: "ولا يجوز تعليق البراءة من الكفالة بالشرط" لما فيه من معنى التمليك كما في سائر البراءات. ويروى أنه يصح لأن عليه المطالبة دون الدين في الصحيح فكان إسقاطا محضا كالطلاق، ولهذا لا يرتد الإبراء عن الكفيل بالرد بخلاف إبراء الأصيل. قال: "وكل حق لا يمكن استيفاؤه من الكفيل لا تصح الكفالة به كالحدود والقصاص" معناه بنفس الحد لا بنفس من عليه الحد لأنه يتعذر إيجابه عليه، وهذا لأن العقوبة لا تجري فيها النيابة. قال: "وإذا تكفل عن المشتري بالثمن جاز" لأنه دين كسائر الديون "وإن تكفل عن البائع بالمبيع لم تصح" لأنه عين مضمون بغيره وهو الثمن والكفالة بالأعيان المضمونة وإن كانت تصح عندنا خلافا للشافعي رحمه الله، لكن بالأعيان المضمونة بنفسها كالمبيع بيعا فاسدا والمقبوض على سوم الشراء والمغصوب، لا بما كان مضمونا بغيره كالمبيع والمرهون، ولا بما كان أمانة كالوديعة والمستعار والمستأجر ومال المضاربة والشركة. ولو كفل بتسليم المبيع قبل القبض أو بتسليم الرهن بعد القبض إلى الراهن أو بتسليم المستأجر إلى المستأجر جاز لأنه التزم فعلا واجبا. قال: "ومن استأجر دابة للحمل عليها، فإن كانت بعينها لا تصح الكفالة بالحمل" لأنه عاجز عنه "وإن كانت بغير عينها جازت الكفالة" لأنه يمكنه الحمل على دابة نفسه والحمل هو المستحق "وكذا من استأجر عبدا للخدمة فكفل له رجل بخدمته فهو باطل" لما بينا. قال: "ولا تصح الكفالة إلا بقبول المكفول له في المجلس" وهذا عند أبي حنيفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله آخرا: يجوز إذا بلغه أجاز، ولم يشترط في بعض النسخ الإجازة، والخلاف في الكفالة بالنفس والمال جميعا. له أنه تصرف التزام فيستبد به الملتزم، وهذا وجه هذه الرواية عنه. ووجه التوقف ما ذكرناه في الفضولي في النكاح. ولهما أن فيه معنى التمليك وهو تمليك المطالبة منه فيقوم بهما جميعا والموجود شطره فلا يتوقف على ما وراء المجلس "إلا في مسألة واحدة وهي أن يقول المريض لوارثه تكفل عني بما علي من الدين فكفل به مع غيبة الغرماء جاز" لأن ذلك وصية في الحقيقة ولهذا تصح وإن لم يسم المكفول لهم، ولهذا قالوا: إنما تصح إذا كان له مال أو يقال إنه قائم مقام الطالب لحاجته إليه تفريغا لذمته وفيه نفع الطالب فصار كما إذا حضر بنفسه، وإنما يصح بهذا اللفظ، ولا يشترط القبول لأنه يراد به التحقيق دون المساومة ظاهرا في هذه الحالة فصار كالأمر بالنكاح، ولو قال المريض ذلك لأجنبي اختلف المشايخ فيه. قال: "وإذا مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء لم تصح عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: تصح" لأنه كفل بدين ثابت لأنه وجب لحق الطالب، ولم يوجد المسقط ولهذا يبقى في حق أحكام الآخرة، ولو تبرع به إنسان يصح، وكذا يبقى إذا كان به كفيل أو مال. وله أنه كفل بدين ساقط لأن الدين هو الفعل حقيقة ولهذا يوصف بالوجوب. لكنه في الحكم مال لأنه يئول إليه في المآل وقد عجز بنفسه وبخلفه ففات عاقبة الاستيفاء فيسقط ضرورة، والتبرع لا يعتمد قيام الدين، وإذا كان به كفيل أو له مال فخلفه أو الإفضاء إلى الأداء باق. قال: "ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها" لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين فلا يجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال، كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، ولأنه ملكه بالقبض على ما نذكر، بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة لأنه تمحض أمانة في يده "وإن ربح الكفيل فيه فهو لا يتصدق به" لأنه ملكه حين قبضه، أما إذا قضى الدين فظاهر، وكذا إذا قضى المطلوب بنفسه وثبت له حق الاسترداد لأنه وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه، إلا أنه أخرت المطالبة إلى وقت الأداء فنزل منزلة الدين المؤجل، ولهذا لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه يصح، فكذا إذا قبضه يملكه إلا أن فيه نوع خبث نبينه فلا يعمل مع الملك فيما لا يتعين وقد قررناه في البيوع "ولو كانت الكفالة بكر حنطة فقبضها الكفيل فباعها وربح فيها فالربح له في الحكم" لما بينا أنه ملكه. "وأحب إلي أن يرده على الذي قضاه الكر ولا يجب عليه في الحكم" وهذا عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 أبي حنيفة رحمه الله في رواية الجامع الصغير، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: هو له ولا يرده على الذي قضاه وهو رواية عنه، وعنه أنه يتصدق به. لهما أنه ربح في ملكه على الوجه الذي بيناه فيسلم له. وله أنه تمكن الخبث مع الملك، إما لأنه بسبيل من الاسترداد بأن يقضيه بنفسه، أو لأنه رضي به على اعتبار قضاء الكفيل، فإذا قضاه بنفسه لم يكن راضيا به وهذا الخبث يعمل فيما يتعين فيكون سبيله التصدق في رواية، ويرده عليه في رواية لأن الخبث لحقه، وهذا أصح لكنه استحباب لا جبر لأن الحق له. قال: "ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فأمره الأصيل أن يتعين عليه حريرا ففعل فالشراء للكفيل والربح الذي ربحه البائع فهو عليه" ومعناه الأمر ببيع العينة مثل أن يستقرض من تاجر عشرة فيتأبى عليه ويبيع منه ثوبا يساوي عشرة بخمسة عشر مثلا رغبة في نيل الزيادة ليبيعه المستقرض بعشرة ويتحمل عليه خمسة؛ سمي به لما فيه من الإعراض عن الدين إلى العين، وهو مكروه لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض مطاوعة لمذموم البخل. ثم قيل: هذا ضمان لما يخسر المشتري نظرا إلى قوله علي وهو فاسد وليس بتوكيل وقيل هو توكيل فاسد؛ لأن الحرير غير متعين، وكذا الثمن غير متعين لجهالة ما زاد على الدين، وكيفما كان فالشراء للمشتري وهو الكفيل والربح: أي الزيادة عليه لأنه العاقد. قال: "ومن كفل عن رجل بما ذاب له عليه أو بما قضى له عليه فغاب المكفول عنه فأقام المدعي البينة على الكفيل بأن له على المكفول عنه ألف درهم لم تقبل بينته" لأن المكفول به مال مقضي به وهذا في لفظة القضاء ظاهر، وكذا في الأخرى لأن معنى ذاب تقرر وهو بالقضاء أو مال يقضى به وهذا ماض أريد به المستأنف كقوله: أطال الله بقاءك فالدعوى مطلق عن ذلك فلا تصح. "ومن أقام البينة أن له على فلان كذا وأن هذا كفيل عنه بأمره فإنه يقضى به على الكفيل وعلى المكفول عنه، وإن كانت الكفالة بغير أمره يقضى على الكفيل خاصة" وإنما تقبل لأن المكفول به مال مطلق، بخلاف ما تقدم، وإنما يختلف بالأمر وعدمه لأنهما يتغايران، لأن الكفالة بأمر تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء، وبغير أمر تبرع ابتداء وانتهاء، فبدعواه أحدهما لا يقضى له بالآخر، وإذا قضي بها بالأمر ثبت أمره، وهو يتضمن الإقرار بالمال فيصير مقضيا عليه، والكفالة بغير أمره لا تمس جانبه لأنه تعتمد صحتها قيام الدين في زعم الكفيل فلا يتعدى إليه، وفي الكفالة بأمره يرجع الكفيل بما أدى على الآمر. وقال زفر رحمه الله: لا يرجع؛ لأنه لما أنكر فقد ظلم في زعمه فلا يظلم غيره ونحن نقول صار مكذبا شرعا فبطل ما زعمه. قال: "ومن باع دارا وكفل رجل عنه بالدرك فهو تسليم" لأن الكفالة لو كانت مشروطة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 في البيع فتمامه بقبوله، ثم بالدعوى يسعى في نقض ما تم من جهته، وإن لم تكن مشروطة فيه فالمراد بها أحكام البيع وترغيب المشتري فيه إذ لا يرغب فيه دون الكفالة فنزل منزلة الإقرار بملك البائع. قال: "ولو شهد وختم ولم يكفل لم يكن تسليما وهو على دعواه" لأن الشهادة لا تكون مشروطة في البيع ولا هي بإقرار بالملك لأن البيع مرة يوجد من المالك وتارة من غيره، ولعله كتب الشهادة ليحفظ الحادثة بخلاف ما تقدم، قالوا: إذا كتب في الصك باع وهو يملكه أو بيعا باتا نافذا وهو كتب شهد بذلك فهو تسليم، إلا إذا كتب الشهادة على إقرار المتعاقدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 فصل: في الضمان قال: "ومن باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن أو مضارب ضمن ثمن متاع رب المال فالضمان باطل" لأن الكفالة التزام المطالبة وهي إليهما فيصير كل واحد منهما ضامنا لنفسه، ولأن المال أمانة في أيديهما والضمان تغيير لحكم الشرع فيرد عليه كاشتراطه على المودع والمستعير "وكذا رجلان باعا عبدا صفقة واحدة وضمن أحدهما لصاحبه حصته من الثمن" لأنه لو صح الضمان مع الشركة يصير ضامنا لنفسه، ولو صح في نصيب صاحبه خاصة يؤدي إلى قسمة الدين قبل قبضه ولا يجوز ذلك، بخلاف ما إذا باعا بصفقتين لأنه لا شركة؛ ألا ترى أن للمشتري أن يقبل نصيب أحدهما ويقبض إذا نقد ثمن حصته وإن قبل الكل. قال: "ومن ضمن عن آخر خراجه ونوائبه وقسمته فهو جائز. أما الخراج فقد ذكرناه وهو" يخالف الزكاة، لأنها مجرد فعل ولهذا لا تؤدى بعد موته من تركته إلا بوصية. وأما النوائب، فإن أريد بها ما يكون بحق ككري النهر المشترك وأجر الحارس والموظف لتجهيز الجيش وفداء الأسارى وغيرها جازت الكفالة بها على الاتفاق، وإن أريد بها ما ليس بحق كالجبايات في زماننا ففيه اختلاف المشايخ رحمهم الله، وممن يميل إلى الصحة الإمام علي البزدوي، وأما القسمة فقد قيل: هي النوائب بعينها أو حصة منها والرواية بأو، وقيل هي النائبة الموظفة الراتبة، والمراد بالنوائب ما ينوبه غير راتب والحكم ما بيناه. "ومن قال لآخر لك علي مائة إلى شهر وقال المقر له هي حالة"، فالقول قول المدعي، ومن قال ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر وقال المقر له هي حالة فالقول قول الضامن". ووجه الفرق أن المقر أقر بالدين. ثم ادعى حقا لنفسه وهو تأخير المطالبة إلى أجل وفي الكفالة ما أقر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 بالدين لأنه لا دين عليه في الصحيح، وإنما أقر بمجرد المطالبة بعد الشهر، ولأن الأجل في الديون عارض حتى لا يثبت إلا بشرط فكان القول قول من أنكر الشرط كما في الخيار، أما الأجل في الكفالة فنوع منها حتى يثبت من غير شرط بأن كان مؤجلا على الأصيل، والشافعي رحمه الله ألحق الثاني بالأول، وأبو يوسف رحمه الله فيما يروى عنه ألحق الأول بالثاني والفرق قد أوضحناه. قال: "ومن اشترى جارية فكفل له رجل بالدرك فاستحقت لم يأخذ الكفيل حتى يقضى له بالثمن على البائع" لأن بمجرد الاستحقاق لا ينتقض البيع على ظاهر الرواية ما لم يقض له بالثمن على البائع فلم يجب له على الأصيل رد الثمن فلا يجب على الكفيل، بخلاف القضاء بالحرية لأن البيع يبطل بها لعدم المحلية فيرجع على البائع والكفيل. وعن أبي يوسف أنه يبطل البيع بالاستحقاق، فعلى قياس قوله يرجع بمجرد الاستحقاق وموضعه أوائل الزيادات في ترتيب الأصل. "ومن اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة فالضمان باطل" لأن هذه اللفظة مشتبهة قد تقع على الصك القديم وهو ملك البائع فلا يصح ضمانه، وقد تقع على العقد وعلى حقوقه وعلى الدرك وعلى الخيار، ولكل ذلك وجه فتعذر العمل بها، بخلاف الدرك لأنه استعمل في ضمان الاستحقاق عرفا، ولو ضمن الخلاص لا يصح عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه عبارة عن تخليص المبيع وتسليمه لا محالة وهو غير قادر عليه، وعندهما هو بمنزلة الدرك وهو تسليم البيع أو قيمته فصح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 باب كفالة الرجلين "وإذا كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه كما إذا اشتريا عبدا بألف درهم وكفل كل واحد منهما عن صاحبه فما أدى أحدهما لم يرجع على شريكه حتى يزيد ما يؤديه على النصف فيرجع بالزيادة" لأن كل واحد منهما في النصف أصيل وفي النصف الآخر كفيل، ولا معارضة بين ما عليه بحق الأصالة وبحق الكفالة، لأن الأول دين والثاني مطالبة، ثم هو تابع للأول فيقع عن الأول، وفي الزيادة لا معارضة فيقع عن الكفالة، ولأنه لو وقع في النصف عن صاحبه فيرجع عليه فلصاحبه أن يرجع لأن أداء نائبه كأدائه فيؤدي إلى الدور "وإذا كفل رجلان عن رجل بمال على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على شريكه بنصفه قليلا كان أو كثيرا" ومعنى المسألة في الصحيح أن تكون الكفالة بالكل عن الأصيل وبالكل عن الشريك والمطالبة متعددة فتجتمع الكفالتان على ما مر وموجبها التزام المطالبة فتصح الكفالة عن الكفيل كما تصح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 الكفالة عن الأصيل وكما تصح الحوالة من المحتال عليه. وإذا عرف هذا فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما إذ الكل كفالة فلا ترجيح للبعض على البعض بخلاف ما تقدم فيرجع على شريكه بنصفه ولا يؤدي إلى الدور لأن قضيته الاستواء، وقد حصل برجوع أحدهما بنصف ما أدى فلا ينتقض برجوع الآخر عليه، بخلاف ما تقدم، ثم يرجعان على الأصيل لأنهما أديا عنه أحدهما بنفسه والآخر بنائبه "وإن شاء رجع بالجميع على المكفول عنه" لأنه كفل بجميع المال عنه بأمره. قال: "وإذا أبرأ رب المال أحدهما أخذ الآخر بالجميع لأن إبراء الكفيل لا يوجب" براءة الأصيل فبقي المال كله على الأصيل والآخر كفيل عنه بكله على ما بيناه ولهذا يأخذه به. قال: "وإذا افترق المتفاوضان فلأصحاب الديون أن يأخذوا أيهما شاءوا بجميع الدين" لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه على ما عرف في الشركة "ولا يرجع أحدهما على صاحبه حتى يؤدي أكثر من النصف" لما مر من الوجهين في كفالة الرجلين. قال: "وإذا كوتب العبدان كتابة واحدة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه" ووجهه أن هذا العقد جائز استحسانا، وطريقه أن يجعل كل واحد منهما أصيلا في حق وجوب الألف عليه فيكون عتقهما معلقا بأدائه ويجعل كفيلا بالألف في حق صاحبه، وسنذكره في المكاتب إن شاء الله تعالى، وإذا عرف ذلك فما أداه أحدهما رجع بنصفه على صاحبه لاستوائهما، ولو رجع بالكل لا تتحقق المساواة. قال: "ولو لم يؤديا شيئا حتى أعتق المولى أحدهما جاز العتق" لمصادفته ملكه وبرئ عن النصف لأنه ما رضي بالتزام المال إلا ليكون المال وسيلة إلى العتق وما بقي وسيلة فيسقط ويبقى النصف على الآخر؛ لأن المال في الحقيقة مقابل برقبتهما. وإنما جعل على كل واحد منهما احتيالا لتصحيح الضمان، وإذا جاء العتق استغنى عنه فاعتبر مقابلا برقبتهما فلهذا يتنصف، وللمولى أن يأخذ بحصة الذي لم يعتق أيهما شاء المعتق بالكفالة وصاحبه بالأصالة، وإن أخذ الذي أعتق رجع على صاحبه بما يؤدي لأنه مؤد عنه بأمره، وإن أخذ الآخر لم يرجع على المعتق بشيء لأنه أدى عن نفسه والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 باب كفالة العبد وعنه "ومن ضمن عن عبد مالا لا يجب عليه حتى يعتق ولم يسم حالا ولا غيره فهو حال" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 لأن المال حال عليه لوجود السبب وقبول الذمة، إلا أنه لا يطالب لعسرته، إذ جميع ما في يده ملك المولى ولم يرض بتعلقه به والكفيل غير معسر، فصار كما إذا كفل عن غائب أو مفلس، بخلاف الدين المؤجل لأنه متأخر بمؤخر، ثم إذا أدى رجع على العبد بعد العتق لأن الطالب لا يرجع عليه إلا بعد العتق، فكذا الكفيل لقيامه مقامه. "ومن ادعى على عبد مالا وكفل له رجل بنفسه فمات العبد برئ الكفيل" لبراءة الأصيل كما إذا كان المكفول عنه بنفسه حرا. قال: "فإن ادعى رقبة العبد فكفل به رجل فمات العبد فأقام المدعي البينة أنه كان له ضمن الكفيل قيمته" لأن على المولى ردها على وجه يخلفها قيمتها، وقد التزم الكفيل ذلك وبعد الموت تبقى القيمة واجبة على الأصيل فكذا على الكفيل، بخلاف الأول. قال: "وإذا كفل العبد عن مولاه بأمره فعتق فأداه أو كان المولى كفل عنه فأداه بعد العتق لم يرجع واحد منهما على صاحبه" وقال زفر: يرجع، ومعنى الوجه الأول أن لا يكون على العبد دين حتى تصح كفالته بالمال عن المولى إذا كان بأمره، أما كفالته عن العبد فتصح على كل حال. له أنه تحقق الموجب للرجوع وهو الكفالة بأمره والمانع وهو الرق قد زال. ولنا أنها وقعت غير موجبة للرجوع لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا وكذا العبد على مولاه، فلا تنقلب موجبة أبدا كمن كفل عن غيره بغير أمره فأجازه. "ولا تجوز الكفالة بمال الكتابة حر تكفل به أو عبد" لأنه دين ثبت مع المنافي فلا يظهر في حق صحة الكفالة، ولأنه لو عجز نفسه سقط، ولا يمكن إثباته على هذا الوجه في ذمة الكفيل، وإثباته مطلقا ينافي معنى الضم لأن من شرطه الاتحاد، وبدل السعاية كمال الكتابة في قول أبي حنيفة لأنه كالمكاتب عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 كتاب الحوالة حكمها وشروطها ... كتاب الحوالة قال: "وهي جائزة بالديون" قال عليه الصلاة والسلام: "من أحيل على مليء فليتبع" ولأنه التزم ما يقدر على تسليمه فتصح كالكفالة، وإنما اختصت بالديون لأنها تنبئ عن النقل والتحويل، والتحويل في الدين لا في العين. قال: "وتصح الحوالة برضا المحيل والمحتال والمحتال عليه" أما المحتال فلأن الدين حقه وهو الذي ينتقل بها والذمم متفاوتة فلا بد من رضاه، وأما المحتال عليه فلأنه يلزمه الدين ولا لزوم بدون التزامه، وأما المحيل فالحوالة تصح بدون رضاه ذكره في الزيادات لأن التزام الدين من المحتال عليه تصرف في حق نفسه وهو لا يتضرر به بل فيه نفعه لأنه لا يرجع عليه إذا لم يكن بأمره. قال: "وإذا تمت الحوالة برئ المحيل من الدين بالقبول" وقال زفر: لا يبرأ اعتبارا بالكفالة، إذ كل واحد منهما عقد توثق، ولنا أن الحوالة للنقل لغة، ومنه حوالة الغراس والدين متى انتقل عن الذمة لا يبقى فيها. أما الكفالة فللضم والأحكام الشرعية على وفاق المعاني اللغوية والتوثق باختيار الأملإ والأحسن في القضاء، وإنما يجبر على القبول إذا نقد المحيل لأنه يحتمل عود المطالبة إليه بالتوى فلم يكن متبرعا. قال: "ولا يرجع المحتال على المحيل إلا أن يتوى حقه" وقال الشافعي رحمه الله: لا يرجع وإن توي لأن البراءة حصلت مطلقة فلا تعود إلا بسبب جديد. ولنا أنها مقيدة بسلامة حقه له إذ هو المقصود، أو تنفسخ الحوالة لفواته لأنه قابل للفسخ فصار كوصف السلامة في المبيع. قال: "والتوى عند أبي حنيفة رحمه الله أحد الأمرين: إما أن يجحد الحوالة ويحلف ولا بينة له عليه، أو يموت مفلسا" لأن العجز عن الوصول يتحقق بكل واحد منهما وهو التوى في الحقيقة "وقالا هذان الوجهان. ووجه ثالث وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه حال حياته" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وهذا بناء على أن الإفلاس لا يتحقق بحكم القاضي عنده خلافا لهما، لأن مال الله غاد ورائح. قال: "وإذا طالب المحتال عليه المحيل بمثل مال الحوالة فقال المحيل أحلت بدين لي عليك لك يقبل قوله وكان عليه مثل الدين" لأن سبب الرجوع قد تحقق وهو قضاء دينه بأمره إلا أن المحيل يدعي عليه دينا وهو ينكر والقول للمنكر، ولا تكون الحوالة إقرارا منه بالدين عليه لأنها قد تكون بدونه. قال: "وإذا طالب المحيل المحتال بما أحاله به فقال إنما أحلتك لتقبضه لي وقال المحتال لا بل أحلتني بدين كان لي عليك فالقول قول المحيل" لأن المحتال يدعي عليه الدين وهو ينكر ولفظة الحوالة مستعملة في الوكالة فيكون القول قوله مع يمينه. قال: "ومن أودع رجلا ألف درهم وأحال بها عليه آخر فهو جائز لأنه أقدر على القضاء، فإن هلكت برئ" لتقيدها بها، فإنه ما التزم الأداء إلا منها، بخلاف ما إذا كانت مقيدة بالمغصوب لأن الفوات إلى خلف كلا فوات، وقد تكون الحوالة مقيدة بالدين أيضا، وحكم المقيدة في هذه الجملة أن لا يملك المحيل مطالبة المحتال عليه لأنه تعلق به حق المحتال على مثال الرهن وإن كان أسوة للغرماء بعد موت المحيل، وهذا لأنه لو بقي له مطالبته فيأخذه منه لبطلت الحوالة وهي حق المحتال. بخلاف المطلقة لأنه لا تعلق لحقه به بل بذمته فلا تبطل الحوالة بأخذ ما عليه أو عنده. قال: "ويكره السفاتج وهي قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق" وهذا نوع نفع استفيد به وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 كتاب أدب القاضي شروط صحة ولاية القاضي مدخل ... كتاب أدب القاضي قال: "ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل الاجتهاد" أما الأول فلأن حكم القضاء يستقى من حكم الشهادة لأن كل واحد منهما من باب الولاية، فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء. والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا. ولو كان القاضي عدلا ففسق بأخذ الرشوة أو غيره لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب وعليه مشايخنا رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه الله: الفاسق لا يجوز قضاؤه كما لا تقبل شهادته عنده، وعن علمائنا الثلاثة رحمهم الله في النوادر أنه لا يجوز قضاؤه. وقال بعض المشايخ رحمهم الله: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها. وهل يصلح الفاسق مفتيا؟ قيل لا لأنه من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات، وقيل يصلح لأنه يجتهد كل الجهد في إصابة الحق حذار النسبة إلى الخطإ، وأما الثاني فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية. فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا خلافا للشافعي رحمه الله، وهو يقول: إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة دون العلم. ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه. وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين". وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه. وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس لأن من الأحكام ما يبتني عليها. قال: "ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أن يؤدي فرضه" لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه وكفى بهم قدوة، ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 قال: "ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه ولا بأس على نفسه الحيف فيه" كي لا يصير شرطا لمباشرته القبيح، وكره بعضهم الدخول فيه مختارا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين" والصحيح أن الدخول فيه رخصة طمعا في إقامة العدل والترك عزيمة فلعله يخطئ ظنه ولا يوفق له أو لا يعينه عليه غيره، ولا بد من الإعانة إلا إذا كان هو أهلا للقضاء دون غيره فحينئذ يفترض عليه التقلد صيانة لحقوق العباد وإخلاء للعالم عن الفساد. قال: "وينبغي أن لا يطلب الولاية ولا يسألها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده" ولأن من طلبه يعتمد على نفسه فيحرم، ومن أجبر عليه يتوكل على ربه فيلهم. "ثم يجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز من العادل" لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه من معاوية رضي الله عنه والحق كان بيد علي رضي الله عنه في نوبته، والتابعين تقلدوه من الحجاج وكان جائزا إلا إذا كان لا يمكنه من القضاء بحق لأن المقصود لا يحصل بالتقلد، بخلاف ما إذا كان يمكنه. قال: "ومن قلد القضاء يسلم إليه ديوان القاضي الذي كان قبله" وهو الخرائط التي فيها السجلات وغيرها، لأنها وضعت فيها لتكون حجة عند الحاجة فتجعل في يد من له ولاية القضاء. ثم إن كان البياض من بيت المال فظاهر، وكذا إذا كان من مال الخصوم في الصحيح لأنهم وضعوها في يده لعمله وقد انتقل إلى المولى، وكذا إذا كان من مال القاضي هو الصحيح لأنه اتخذه تدينا لا تمولا، ويبعث أمينين ليقبضاها بحضرة المعزول أو أمينه ويسألانه شيئا فشيئا، ويجعلان كل نوع منها في خريطة كي لا يشتبه على المولى، وهذا السؤال لكشف الحال لا للإلزام. قال: "وينظر في حال المحبوسين" لأنه نصب ناظرا "فمن اعترف بحق ألزمه إياه" لأن الإقرار ملزم "ومن أنكر لم يقبل قول المعزول عليه إلا ببينة" لأنه بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة لا سيما إذا كانت على فعل نفسه "فإن لم تقم بينة لم يعجل بتخليته حتى ينادى عليه وينظر في أمره" لأن فعل القاضي المعزول حق ظاهر فلا يعجل كي لا يؤدي إلى إبطال حق الغير. "وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف فيعمل فيه على ما تقوم به البينة أو يعترف به من هو في يده" لأن كل ذلك حجة. "ولا يقبل قول المعزول" لما بينا "إلا أن يعترف الذي هو في يده أن المعزول سلمها إليه فيقبل قوله فيها" لأنه ثبت بإقراره أن اليد كانت للقاضي فيصح إقرار القاضي كأنه في يده في الحال، إلا إذا بدأ بالإقرار لغيره ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 أقر بتسليم القاضي فيسلم ما في يده إلى المقر له الأول لسبق حقه ويضمن قيمته للقاضي بإقراره الثاني ويسلم إلى المقر له من جهة القاضي. قال: "ويجلس للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد" كي لا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين، والمسجد الجامع أولى لأنه أشهر. وقال الشافعي رحمه الله: يكره الجلوس في المسجد للقضاء لأنه يحضره المشرك وهو نجس بالنص والحائض وهي ممنوعة عن دخوله. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل الخصومة في معتكفه وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات، ولأن القضاء عبادة فيجوز إقامتها في المسجد كالصلاة. ونجاسة المشرك في اعتقاده لا في ظاهره فلا يمنع من دخوله، والحائض تخبر بحالها فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد أو يبعث من يفصل بينها وبين خصمها كما إذا كانت الخصومة في الدابة. ولو جلس في داره لا بأس به ويأذن للناس بالدخول فيها، ويجلس معه من كان يجلس قبل ذلك لأن في جلوسه وحده تهمة. قال: "ولا يقبل هدية إلا من ذي رحم محرم أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته" لأن الأول صلة الرحم والثاني ليس للقضاء بل جرى على العادة، وفيما وراء ذلك يصير آكلا بقضائه، حتى لو كانت للقريب خصومة لا يقبل هديته، وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد أو كانت له خصومة لأنه لأجل القضاء فيتحاماه. ولا يحضر دعوة إلا أن تكون عامة لأن الخاصة لأجل القضاء فيتهم بالإجابة، بخلاف العامة، ويدخل في هذا الجواب قريبه وهو قولهما. وعن محمد رحمه الله أنه يجيبه وإن كانت خاصة كالهدية، والخاصة ما لو علم المضيف أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها. قال: "ويشهد الجنازة ويعود المريض" لأن ذلك من حقوق المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: "للمسلم على المسلم ستة حقوق" وعد منها هذين. "ولا يضيف أحد الخصمين دون خصمه" لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولأن فيه تهمة. قال: "وإذا حضرا سوى بينهما في الجلوس والإقبال" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة والنظر" "ولا يسار أحدهما ولا يشير إليه ولا يلقنه حجة" للتهمة ولأن فيه مكسرة لقلب الآخر فيترك حقه "ولا يضحك في وجه أحدهما" لأنه يجترئ على خصمه "ولا يمازحهم ولا واحدا منهم" لأنه يذهب بمهابة القضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 قال: "ويكره تلقين الشاهد" ومعناه أن يقول له أتشهد بكذا وكذا، وهذا لأنه إعانة لأحد الخصمين فيكره كتلقين الخصم. واستحسنه أبو يوسف رحمه الله في غير موضع التهمة لأن الشاهد قد يحصر لمهابة المجلس فكان تلقينه إحياء للحق بمنزلة الإشخاص والتكفيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فصل: في الحبس قال: "وإذا ثبت الحق عند القاضي وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه وأمره بدفع ما عليه" لأن الحبس جزاء المماطلة فلا بد من ظهورها، وهذا إذا ثبت الحق بإقراره لأنه لم يعرف كونه مماطلا في أول الوهلة فلعله طمع في الإمهال فلم يستصحب المال، فإذا امتنع بعد ذلك حبسه لظهور مطله، أما إذا ثبت بالبينة حبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره. قال: "فإن امتنع حبسه في كل دين لزمه بدلا عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة" لأنه إذا حصل المال في يده ثبت غناه به، وإقدامه على التزامه باختياره دليل يساره إذ هو لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه، والمراد بالمهر معجله دون مؤجله. قال: "ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا قال إني فقير إلا أن يثبت غريمه أن له مالا فيحبسه" لأنه لم توجد دلالة اليسار فيكون القول قول من عليه الدين، وعلى المدعي إثبات غناه، ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك لأن الأصل هو العسرة. ويروى أن القول له إلا فيما بدله مال. وفي النفقة القول قول الزوج إنه معسر، وفي إعتاق العبد المشترك القول للمعتق، والمسألتان تؤديان القولين الأخيرين، والتخريج على ما قال في الكتاب أنه ليس بدين مطلق بل هو صلة حتى تسقط النفقة بالموت على الاتفاق، وكذا عند أبي حنيفة رحمه الله ضمان الإعتاق، ثم فيما كان القول قول المدعي إن له مالا، أو ثبت ذلك بالبينة فيما كان القول قول من عليه يحبسه شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه فالحبس لظهور ظلمه في الحال، وإنما يحبسه مدة ليظهر ماله لو كان يخفيه فلا بد من أن تمتد المدة ليفيد هذه الفائدة فقدره بما ذكره، ويروى غير ذلك من التقدير بشهر أو أربعة إلى ستة أشهر. والصحيح أن التقدير مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص فيه. قال: "فإن لم يظهر له مال خلي سبيله" يعني بعد مضي المدة لأنه استحق النظرة إلى الميسرة فيكون حبسه بعد ذلك ظلما ; ولو قامت البينة على إفلاسه قبل المدة تقبل في رواية، ولا تقبل في رواية، وعلى الثانية عامة المشايخ رحمهم الله. قال في الكتاب خلي سبيله ولا يحول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 بينه وبين غرمائه، وهذا كلام في الملازمة وسنذكره في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى. وفي الجامع الصغير: رجل أقر عند القاضي بدين فإنه يحبسه ثم يسأل عنه، فإن كان موسرا أبد حبسه، وإن كان معسرا خلى سبيله، ومراده إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة وظهرت مماطلته والحبس أولا ومدته قد بيناه فلا نعيده. قال: "ويحبس الرجل في نفقة زوجته" لأنه ظالم بالامتناع "ولا يحبس والد في دين ولده" لأنه نوع عقوبة فلا يستحقه الولد على الوالد كالحدود والقصاص "إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه" لأن فيه إحياء لولده، ولأنه لا يتدارك لسقوطها بمضي الزمان، والله أعلم الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 باب كتاب القاضي إلى القاضي مدخل ... باب كتاب القاضي إلى القاضي قال: "ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق إذا شهد به عنده" للحاجة على ما نبين "فإن شهدوا على خصم حاضر حكم بالشهادة" لوجود الحجة "وكتب بحكمه" وهو المدعو سجلا "وإن شهدوا به بغير حضرة الخصم لم يحكم" لأن القضاء على الغائب لا يجوز "وكتب بالشهادة" ليحكم المكتوب إليه بها وهذا هو الكتاب الحكمي، وهو نقل الشهادة في الحقيقة، ويختص بشرائط نذكرها إن شاء الله تعالى، وجوازه لمساس الحاجة لأن المدعي قد يتعذر عليه الجمع بين شهوده وخصمه فأشبه الشهادة على الشهادة. وقوله في الحقوق يندرج تحته الدين والنكاح والنسب والمغصوب والأمانة المجحودة والمضاربة المجحودة لأن كل ذلك بمنزلة الدين، وهو يعرف بالوصف لا يحتاج فيه إلى الإشارة، ويقبل في العقار أيضا لأن التعريف فيه بالتحديد. ولا يقبل في الأعيان المنقولة للحاجة إلى الإشارة. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقبل في العبد دون الأمة لغلبة الإباق فيه دونها. وعنه أنه يقبل فيهما بشرائط تعرف في موضعها. وعن محمد رحمه الله أنه يقبل في جميع ما ينقل ويحول وعليه المتأخرون رحمهم الله. قال: "ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين" لأن الكتاب يشبه الكتاب فلا يثبت إلا بحجة تامة وهذا لأنه ملزم فلا بد من الحجة، بخلاف كتاب الاستئمان من أهل الحرب لأنه ليس بملزم، وبخلاف رسول القاضي إلى المزكى ورسوله إلى القاضي لأن الإلزام بالشهادة لا بالتزكية. قال: "ويجب أن يقرأ الكتاب عليهم ليعرفوا ما فيه أو يعلمهم به" لأنه لا شهادة بدون العلم "ثم يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم" كي لا يتوهم التغيير، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 رحمهما الله، لأن علم ما في الكتاب والختم بحضرتهم شرط، وكذا حفظ ما في الكتاب عندهما ولهذا يدفع إليهم كتاب آخر غير مختوم ليكون معهم معاونة على حفظهم. وقال أبو يوسف رحمه الله آخرا: شيء من ذلك ليس بشرط، والشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه وعن أبي يوسف أن الختم ليس بشرط أيضا فسهل في ذلك لما ابتلي بالقضاء وليس الخبر كالمعاينة. واختار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله. قال: "وإذا وصل إلى القاضي لم يقبله إلا بحضرة الخصم" لأنه بمنزلة أداء الشهادة فلا بد من حضوره، بخلاف سماع القاضي الكاتب لأنه للنقل لا للحكم. قال: "فإذا سلمه الشهود إليه نظر إلى ختمه، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه فتحه القاضي وقرأه على الخصم وألزمه ما فيه" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبله على ما مر، ولم يشترط في الكتاب ظهور العدالة للفتح، والصحيح أنه يفض الكتاب بعد ثبوت العدالة، كذا ذكره الخصاف رحمه الله لأنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود وإنما يمكنهم أداء الشهادة بعد قيام الختم، وإنما يقبله المكتوب إليه إذا كان الكاتب على القضاء، حتى لو مات أو عزل أو لم يبق أهلا للقضاء قبل وصول الكتاب لا يقبله لأنه التحق بواحد من الرعايا، ولهذا لا يقبل إخباره قاضيا آخر في غير عمله أو في غير عملهما، وكذا لو مات المكتوب إليه إلا إذا كتب إلى فلان بن فلان قاضي بلدة كذا وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين لأن غيره صار تبعا له وهو معرف، بخلاف ما إذا كتب ابتداء إلى كل من يصل إليه على ما عليه مشايخنا رحمهم الله لأنه غير معرف، ولو كان مات الخصم ينفذ الكتاب على وارثه لقيامه مقامه. "ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص" لأن فيه شبهة البدلية فصار كالشهادة على الشهادة، ولأن مبناهما على الإسقاط وفي قبوله سعي في إثباتهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 فصل: ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص ... فصل آخر: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص" اعتبارا بشهادتها. وقد مر الوجه. "وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك" لأنه قلد القضاء دون التقليد به فصار كتوكيل الوكيل، بخلاف المأمور بإقامة الجمعة حيث يستخلف لأنه على شرف الفوات لتوقته فكان الأمر به إذنا بالاستخلاف دلالة ولا كذلك القضاء. ولو قضى الثاني بمحضر من الأول أو قضى الثاني فأجاز الأول جاز كما في الوكالة، وهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 لأنه حضره رأي الأول وهو الشرط، وإذا فوض إليه يملكه فيصير الثاني نائبا عن الأصيل حتى لا يملك الأول عزله إلا إذا فوض إليه العزل هو الصحيح. قال: "وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولا لا دليل عليه. وفي الجامع الصغير: وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاض آخر يرى غير ذلك أمضاه" والأصل أن القضاء متى لاقى فصلا مجتهدا فيه ينفذه ولا يرده غيره، لأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، وقد يرجح الأول باتصال القضاء به فلا ينقض بما هو دونه. "ولو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه ناسيا لمذهبه نفذ عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان عامدا ففيه روايتان" ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين، وعندهما لا ينفذ في الوجهين لأنه قضى بما هو خطأ عنده وعليه الفتوى، ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفا لما ذكرنا. والمراد بالسنة المشهورة منها وفيما اجتمع عليه الجمهور لا يعتبر مخالفة البعض وذلك خلاف وليس باختلاف والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول. قال: "وكل شيء قضى به القاضي في الظاهر بتحريم فهو في الباطن كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله" وكذا إذا قضى بإحلال، وهذا إذا كانت الدعوى بسبب معين وهي مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور وقد مرت في النكاح. قال: "ولا يقضي القاضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لوجود الحجة وهي البينة فظهر الحق. ولنا أن العمل بالشهادة لقطع المنازعة، ولا منازعة دون الإنكار ولم يوجد، ولأنه يحتمل الإقرار والإنكار من الخصم فيشتبه وجه القضاء لأن أحكامهما مختلفة، ولو أنكر ثم غاب فكذلك لأن الشرط قيام الإنكار وقت القضاء، وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله، ومن يقوم مقامه قد يكون نائبا بإنابته كالوكيل أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي، وقد يكون حكما بأن كان ما يدعي على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر وهذا في غير صورة في الكتب، أما إذا كان شرطا لحقه فلا معتبر به في جعله خصما عن الغائب وقد عرف تمامه في الجامع. قال: "ويقرض القاضي أموال اليتامى ويكتب ذكر الحق" لأن في الإقراض مصلحتهم لبقاء الأموال محفوظة مضمونة، والقاضي يقدر على الاستخراج والكتابة ليحفظه "وإن أقرض الوصي ضمن" لأنه لا يقدر على الاستخراج، والأب بمنزلة الوصي في أصح الروايتين لعجزه عن الاستخراج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 باب التحكيم مدخل ... باب التحكيم "وإذا حكم رجلان رجلا فحكم بينهما ورضيا بحكمه جاز" لأن لهما ولاية على أنفسهما فصح تحكيمهما وينفذ حكمه عليهما، وهذا إذا كان المحكم بصفة الحاكم لأنه بمنزلة القاضي فيما بينهما فيشترط أهلية القضاء، ولا يجوز تحكيم الكافر والعبد والذمي والمحدود في القذف والفاسق والصبي لانعدام أهلية القضاء اعتبارا بأهلية الشهادة والفاسق إذا حكم يجب أن يجوز عندنا كما مر في المولى "ولكل واحد من المحكمين أن يرجع ما لم يحكم عليهما" لأنه مقلد من جهتهما فلا يحكم إلا برضاهما جميعا "وإذا حكم لزمهما" لصدور حكمه عن ولاية عليهما "وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه" لأنه لا فائدة في نقضه ثم في إبرامه على ذلك الوجه "وإن خالفه أبطله" لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم منه. "ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص" لأنه لا ولاية لهما على دمهما ولهذا لا يملكان الإباحة فلا يستباح برضاهما قالوا: وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات كالطلاق والنكاح وغيرهما، وهو صحيح إلا أنه لا يفتى به، ويقال يحتاج إلى حكم المولى دفعا لتجاسر العوام وإن حكماه في دم خطإ فقضى بالدية على العاقلة لم ينفذ حكمه لأنه لا ولاية له عليهم إذ لا تحكيم من جهتهم. ولو حكم على القاتل بالدية في ماله رده القاضي ويقضي بالدية على العاقلة لأنه مخالف لرأيه ومخالف للنص أيضا إلا إذا ثبت القتل بإقراره لأن العاقلة لا تعقله. "ويجوز أن يسمع البينة ويقضي بالنكول وكذا بالإقرار" لأنه حكم موافق للشرع، ولو أخبر بإقرار أحد الخصمين أو بعدالة الشهود وهما على تحكيمهما يقبل قوله لأن الولاية قائمة ولو أخبر بالحكم لا يقبل قوله لانقضاء الولاية كقول المولى بعد العزل. "وحكم الحاكم لأبويه وزوجته وولده باطل والمولى والمحكم فيه سواء" وهذا لأنه لا تقبل شهادته لهؤلاء لمكان التهمة فكذلك لا يصح القضاء لهم، بخلاف ما إذا حكم عليهم لأنه تقبل شهادته عليهم لانتفاء التهمة فكذا القضاء، ولو حكما رجلين لا بد من اجتماعهما لأنه أمر يحتاج فيه إلى الرأي، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 مسائل شتى من كتاب القضاء قال: "وإذا كان علو لرجل وسفل لآخر فليس لصاحب السفل أن يتد فيه وتدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 ولا ينقب فيه كوة عند أبي حنيفة رحمه الله" معناه بغير رضا صاحب العلو "وقالا: يصنع ما لا يضر بالعلو" وعلى هذا الخلاف إذا أراد صاحب العلو أن يبني على علوه. قيل ما حكي عنهما تفسير لقول أبي حنيفة رحمه الله فلا خلاف. وقيل الأصل عندهما الإباحة لأنه تصرف في ملكه والملك يقتضي الإطلاق والحرمة بعارض الضرر فإذا أشكل لم يجز المنع والأصل عنده الحظر لأنه تصرف في محل تعلق به حق محترم للغير كحق المرتهن والمستأجر والإطلاق بعارض فإذا أشكل لا يزول المنع على أنه لا يعرى عن نوع ضرر بالعلو من توهين بناء أو نقضه فيمنع عنه. قال: "وإذا كانت زائغة مستطيلة تنشعب منها زائعة مستطيلة وهي غير نافذة فليس لأهل الزائغة الأولى أن يفتحوا بابا في الزائغة القصوى" لأن فتحه للمرور ولا حق لهم في المرور إذ هو لأهلها خصوصا حتى لا يكون لأهل الأولى فيما بيع فيها حق الشفعة، بخلاف النافذة لأن المرور فيها حق العامة. قيل المنع من المرور لا من فتح الباب لأنه رفع بعض جداره. والأصح أن المنع من الفتح لأن بعد الفتح لا يمكنه المنع من المرور في كل ساعة. ولأنه عساه يدعي الحق في القصوى بتركيب الباب "وإن كانت مستديرة قد لزق طرفاها فلهم أن يفتحوا" بابا لأن لكل واحد منهم حق المرور في كلها إذ هي ساحة مشتركة ولهذا يشتركون في الشفعة إذا بيعت دار منها. قال: "ومن ادعى في دار دعوى وأنكرها الذي هي في يده ثم صالحه منها فهو جائز وهي مسألة الصلح على الإنكار" وسنذكرها في الصلح إن شاء الله تعالى، والمدعي وإن كان مجهولا فالصلح على معلوم عن مجهول جائز عندنا لأنه جهالة في الساقط فلا تفضي إلى المنازعة على ما عرف. قال: "ومن ادعى دارا في يد رجل أنه وهبها له في وقت كذا فسئل البينة فقال جحدني الهبة فاشتريتها منه وأقام المدعي البينة على الشراء قبل الوقت الذي يدعي فيه الهبة لا تقبل بينته" لظهور التناقض إذ هو يدعي الشراء بعد الهبة وهم يشهدون به قبلها، ولو شهدوا به بعدها تقبل لوضوح التوفيق، ولو كان ادعى الهبة ثم أقام البينة على الشراء قبلها ولم يقل جحدني الهبة فاشتريتها لم تقبل أيضا ذكره في بعض النسخ لأن دعوى الهبة إقرار منه بالملك للواهب عندها، ودعوى الشراء رجوع عنه فعد مناقضا، بخلاف ما إذا ادعى الشراء بعد الهبة لأنه تقرر ملكه عندها. "ومن قال لآخر: اشتريت مني هذه الجارية فأنكر الآخر إن أجمع البائع على ترك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 الخصومة وسعه أن يطأها" لأن المشتري لما جحده كان فسخا من جهته، إذ الفسخ يثبت به كما إذا تجاحدا فإذا عزم البائع على ترك الخصومة ثم الفسخ، وبمجرد العزم إن كان لا يثبت الفسخ فقد اقترن بالفعل وهو إمساك الجارية ونقلها وما يضاهيه، ولأنه لما تعذر استيفاء الثمن من المشتري فات رضا البائع فيستبد بفسخه. قال: "ومن أقر أنه قبض من فلان عشرة دراهم ثم ادعى أنها زيوف صدق" وفي بعض النسخ اقتضى، وهو عبارة عن القبض أيضا. ووجهه أن الزيوف من جنس الدراهم إلا أنها معيبة، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم جاز، والقبض لا يختص بالجياد فيصدق لأنه أنكر قبض حقه، بخلاف ما إذا أقر أنه قبض الجياد أو حقه أو الثمن أو استوفى لإقراره بقبض الجياد صريحا أو دلالة فلا يصدق والنبهرجة كالزيوف وفي الستوقة لا يصدق لأنه ليس من جنس الدراهم، حتى لو تجوز به فيما ذكرنا لا يجوز. والزيف ما زيفه بيت المال، والنبهرجة ما يرده التجار، والستوقة ما يغلب عليه الغش. قال: "ومن قال لآخر لك علي ألف درهم فقال ليس لي عليك شيء ثم قال في مكانه بل لي عليك ألف درهم فليس عليه شيء" لأن إقراره هو الأول وقد ارتد برد المقر له، والثاني دعوى فلا بد من الحجة أو تصديق خصمه، بخلاف ما إذا قال لغيره اشتريت وأنكر الآخر له أن يصدقه، لأن أحد المتعاقدين لا يتفرد بالفسخ كما لا يتفرد بالعقد، والمعنى أنه حقهما فبقي العقد فعمل التصديق، أما المقر له يتفرد برد الإقرار فافترقا. قال: "ومن ادعى على آخر مالا فقال ما كان لك علي شيء قط فأقام المدعي البينة على ألف وأقام هو البينة على القضاء قبلت بينته" وكذلك على الإبراء. وقال زفر رحمه الله: لا تقبل لأن القضاء يتلو الوجوب وقد أنكره فيكون مناقضا. ولنا أن التوفيق ممكن لأن غير الحق قد يقضى ويبرأ منه دفعا للخصومة والشغب؛ ألا ترى أنه يقال قضى بباطل وقد يصالح على شيء فيثبت ثم يقضى، وكذا إذا قال ليس لك علي شيء قط لأن التوفيق أظهر "ولو قال ما كان لك علي شيء قط ولا أعرفك لم تقبل بينته على القضاء" وكذا على الإبراء لتعذر التوفيق لأنه لا يكون بين اثنين، أخذ وإعطاء وقضاء واقتضاء ومعاملة بدون المعرفة. وذكر القدوري رحمه الله أنه تقبل أيضا لأن المحتجب أو المخدرة قد يؤذى بالشغب على بابه فيأمر بعض وكلائه بإرضائه ولا يعرفه ثم يعرفه بعد ذلك فأمكن التوفيق. قال: "ومن ادعى على آخر أنه باعه جاريته فقال لم أبعها منك قط فأقام المشتري البينة على الشراء فوجد بها أصبعا زائدة فأقام البائع البينة أنه برئ إليه من كل عيب لم تقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 بينة البائع" وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تقبل اعتبارا بما ذكرنا. ووجه الظاهر أن شرط البراءة تغيير للعقد من اقتضاء وصف السلامة إلى غيره فيستدعي وجود البيع وقد أنكره فكان مناقضا، بخلاف الدين لأنه قد يقضى وإن كان باطلا على ما مر. قال: "ذكر حق كتب في أسفله ومن قام بهذا الذكر الحق فهو ولي ما فيه إن شاء الله تعالى، أو كتب في شراء فعلى فلان خلاص ذلك وتسليمه إن شاء الله تعالى بطل الذكر كله، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: إن شاء الله تعالى هو على الخلاص وعلى من قام بذكر الحق، وقولهما استحسان ذكره في الإقرار" لأن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه لأن الذكر للاستيثاق، وكذا الأصل في الكلام الاستبداد وله أن الكل كشيء واحد بحكم العطف فيصرف إلى الكل كما في الكلمات المعطوفة مثل قوله عبده حر وامرأته طالق وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن شاء الله تعالى؛ ولو ترك فرجة قالوا: لا يلتحق به ويصير كفاصل السكوت، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فصل: في القضاء بالمواريث قال: "وإذا مات نصراني فجاءت امرأته مسلمة وقالت أسلمت بعد موته وقالت الورثة أسلمت قبل موته فالقول قول الورثة" وقال زفر رحمه الله: القول قولها لأن الإسلام حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات. ولنا أن سبب الحرمان ثابت في الحال فيثبت فيما مضى تحكيما للحال كما في جريان ماء الطاحونة؛ وهذا ظاهر نعتبره للدفع؛ وما ذكره يعتبره للاستحقاق؛ "ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت أسلمت قبل موته وقالت الورثة أسلمت بعد موته فالقول قولهم أيضا"، ولا يحكم الحال لأن الظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق وهي محتاجة إليه، أما الورثة فهم الدافعون ويشهد لهم ظاهر الحدوث أيضا. قال: "ومن مات وله في يد رجل أربعة آلاف درهم وديعة فقال المستودع هذا ابن الميت لا وارث له غيره فإنه يدفع المال إليه" لأنه أقر أن ما في يده حق الوارث خلافة فصار كما إذا أقر أنه حق المورث وهو حي أصالة، بخلاف ما إذا أقر لرجل أنه وكيل المودع بالقبض أو أنه اشتراه منه حيث لا يؤمر بالدفع إليه لأنه أقر بقيام حق المودع إذ هو حي فيكون إقرارا على مال الغير، ولا كذلك بعد موته، بخلاف المديون إذا أقر بتوكيل غيره بالقبض لأن الديون تقضى بأمثالها فيكون إقرارا على نفسه فيؤمر بالدفع إليه "فلو قال المودع لآخر هذا ابنه أيضا وقال الأول ليس له ابن غيري قضى بالمال للأول" لأنه لما صح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 إقراره للأول انقطع يده عن المال فيكون هذا إقرارا على الأول فلا يصح إقراره للثاني، كما إذا كان الأول ابنا معروفا، ولأنه حين أقر للأول لا مكذب له فصح، وحين أقر للثاني له مكذب فلم يصح. قال: "وإذا قسم الميراث بين الغرماء والورثة فإنه لا يؤخذ منهم كفيل ولا من وارث وهذا شيء احتاط به بعض القضاة وهو ظلم" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: يؤخذ الكفيل، والمسألة فيما إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة ولم يقل الشهود لا نعلم له وارثا غيره. لهما أن القاضي ناظر للغيب، والظاهر أن في التركة وارثا غائبا أو غريما غائبا، لأن الموت قد يقع بغتة فيحتاط بالكفالة. كما إذا دفع الآبق واللقطة إلى صاحبه وأعطى امرأة الغائب النفقة من ماله. ولأبي حنيفة رحمه الله أن حق الحاضر ثابت قطعا، أو ظاهرا فلا يؤخر لحق موهوم إلى زمان التكفيل كمن أثبت الشراء ممن في يده أو أثبت الدين على العبد حتى بيع في دينه لا يكفل، ولأن المكفول له مجهول فصار كما إذا كفل لأحد الغرماء بخلاف النفقة لأن حق الزوج ثابت وهو معلوم. وأما الآبق واللقطة ففيه روايتان، والأصح أنه على الخلاف. وقيل إن دفع بعلامة اللقطة أو إقرار العبد يكفل بالإجماع لأن الحق غير ثابت، ولهذا كان له أن يمنع. وقوله ظلم: أي ميل عن سواء السبيل، وهذا يكشف عن مذهبه رحمه الله أن المجتهد يخطئ ويصيب لا كما ظنه البعض. قال: "وإذا كانت الدار في يد رجل وأقام الآخر البينة أن أبوه مات وتركها ميراثا بينه وبين أخوه فلان الغائب قضي له بالنصف وترك النصف الآخر في يد الذي هي في يده ولا يستوثق منه بكفيل، وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: إن كان الذي هي في يده جاحدا أخذ منه وجعل في يد أمين، وإن لم يجحد ترك في يده" لهما أن الجاحد خائن فلا يترك المال في يده، بخلاف المقر لأنه أمين. وله أن القضاء وقع للميت مقصودا واحتمال كونه مختار الميت ثابت فلا تنقض يده كما إذا كان مقرا وجحوده قد ارتفع بقضاء القاضي، والظاهر عدم الجحود في المستقبل لصيرورة الحادثة معلومة له وللقاضي، ولو كانت الدعوى في منقول فقد قيل يؤخذ منه بالاتفاق لأنه يحتاج فيه إلى الحفظ والنزع أبلغ فيه، بخلاف العقار لأنها محصنة بنفسها ولهذا يملك الوصي بيع المنقول على الكبير الغائب دون العقار، وكذا حكم وصي الأم والأخ والعم على الصغير. وقيل المنقول على الخلاف أيضا، وقول أبي حنيفة رحمه الله فيه أظهر لحاجته إلى الحفظ، وإنما لا يؤخذ الكفيل لأنه إنشاء خصومة والقاضي إنما نصب لقطعها لا لإنشائها، وإذا حضر الغائب لا يحتاج إلى إعادة البينة ويسلم النصف إليه بذلك القضاء لأن أحد الورثة ينتصب خصما عن الباقين فيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 يستحق له وعليه دينا كان أو عينا لأن المقضي له وعليه إنما هو الميت في الحقيقة وواحد من الورثة يصلح خليفة عنه في ذلك، بخلاف الاستيفاء لنفسه لأنه عامل فيه لنفسه فلا يصلح نائبا عن غيره، ولهذا لا يستوفي إلا نصيبه وصار كما إذا قامت البينة بدين الميت، إلا أنه إنما يثبت استحقاق، الكل على أحد الورثة إذا كان الكل في يده. ذكره في الجامع لأنه لا يكون خصما بدون اليد فيقتصر القضاء على ما في يده. قال: "ومن قال مالي في المساكين صدقة فهو على ما فيه الزكاة، وإن أوصى بثلث ماله فهو على كل شيء" والقياس أن يلزمه التصدق بالكل، وبه قال زفر رحمه الله لعموم اسم المال كما في الوصية. وجه الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فينصرف إيجابه إلى ما أوجب الشارع فيه الصدقة من المال. أما الوصية فأخت الميراث لأنها خلافة كهي فلا يختص بمال دون مال، ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله وهو مال الزكاة، أما الوصية تقع في حال الاستغناء فينصرف إلى الكل وتدخل فيه الأرض العشرية عند أبي يوسف رحمه الله لأنها سبب الصدقة، إذ جهة الصدقة في العشرية راجحة عنده، وعند محمد رحمه الله لا تدخل لأنها سبب المؤنة، إذ جهة المؤنة راجحة عنده، ولا تدخل أرض الخراج بالإجماع لأنه يتمحض مؤنة. ولو قال ما أملكه صدقة في المساكين فقد قيل يتناول كل مال لأنه أعم من لفظ المال. والمقيد إيجاب الشرع وهو مختص بلفظ المال فلا مخصص في لفظ الملك فبقي على العموم، والصحيح أنهما سواء لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة على ما مر، "ثم إذا لم يكن له مال سوى ما دخل تحت الإيجاب يمسك من ذلك قوته، ثم إذا أصاب شيئا تصدق بمثل ما أمسك" لأن حاجته هذه مقدمة ولم يقدر محمد بشيء لاختلاف أحوال الناس فيه. وقيل المحترف يمسك قوته ليوم وصاحب الغلة لشهر وصاحب الضياع لسنة على حسب التفاوت في مدة وصولهم إلى المال، وعلى هذا صاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله. قال: "ومن أوصى إليه ولم يعلم الوصية حتى باع شيئا من التركة فهو وصي والبيع جائز، ولا يجوز بيع الوكيل حتى يعلم". وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز في الفصل الأول أيضا لأن الوصاية إنابة بعد الموت فتعتبر بالإنابة قبله وهي الوكالة. ووجه الفرق على الظاهر أن الوصاية خلافة لإضافتها إلى زمان بطلان الإنابة فلا يتوقف على العلم كما في تصرف الوارث. أما الوكالة فإنابة لقيام ولاية المنوب عنه فيتوقف على العلم، وهذا لأنه لو توقف لا يفوت النظر لقدرة الموكل، وفي الأول يفوت لعجز الموصي "ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 أعلمه من الناس بالوكالة يجوز تصرفه" لأنه إثبات حق لا إلزام أمر. قال: "ولا يكون النهي عن الوكالة حتى يشهد عنده شاهدان أو رجل عدل" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: هو والأول سواء لأنه من المعاملات وبالواحد فيها كفاية. وله أنه خبر ملزم فيكون شهادة من وجه فيشترط أحد شطريها وهو العدد أو العدالة، بخلاف الأول، وبخلاف رسول الموكل لأن عبارته كعبارة المرسل للحاجة إلى الإرسال، وعلى هذا الخلاف إذا أخبر المولى بجناية عبده والشفيع والبكر والمسلم الذي لم يهاجر إلينا. قال: "وإذا باع القاضي أو أمينه عبدا للغرماء وأخذ المال فضاع واستحق العبد لم يضمن" لأن أمين القاضي قائم مقام القاضي والقاضي مقام الإمام وكل واحد منهم لا يلحقه ضمان كي لا يتقاعد عن قبول هذه الأمانة فيضيع الحقوق ويرجع المشتري على الغرماء، لأن البيع واقع لهم فيرجع عليهم عند تعذر الرجوع على العاقد، كما إذا كان العاقد محجورا عليه ولهذا يباع بطلبهم "وإن أمر القاضي الوصي ببيعه للغرماء ثم استحق أو مات قبل القبض وضاع المال رجع المشتري على الوصي" لأنه عاقد نيابة عن الميت وإن كان بإقامة القاضي عنه فصار كما إذا باعه بنفسه. قال: "ورجع الوصي على الغرماء" لأنه عامل لهم، وإن ظهر للميت مال يرجع الغريم فيه بدينه. قالوا: ويجوز أن يقال يرجع بالمائة التي غرمها أيضا لأنه لحقه في أمر الميت، والوارث إذا بيع له بمنزلة الغريم لأنه إذا لم يكن في التركة دين كان العاقد عاملا له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 فصل: وإذا قال القاضي قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه الخ ... فصل آخر: "وإذا قال القاضي قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه أو بالقطع فاقطعه أو بالضرب فاضربه وسعك أن تفعل" وعن محمد رحمه الله أنه رجع عن هذا وقال: لا تأخذ بقوله حتى تعاين الحجة، لأن قوله يحتمل الغلط والخطأ والتدارك غير ممكن، وعلى هذه الرواية لا يقبل كتابه. واستحسن المشايخ هذه الرواية لفساد حال أكثر القضاة في زماننا إلا في كتاب القاضي للحاجة إليه. وجه ظاهر الرواية أنه أخبر عن أمر يملك إنشاءه فيقبل لخلوه عن التهمة، ولأن طاعة أولي الأمر واجبة، وفي تصديقه طاعة. وقال الإمام أبو منصور رحمه الله: إن كان عدلا عالما يقبل قوله لانعدام تهمة الخطإ والخيانة، وإن كان عدلا جاهلا يستفسر، فإن أحسن التفسير وجب تصديقه وإلا فلا، وإن كان جاهلا فاسقا أو عالما فاسقا لا يقبل إلا أن يعاين سبب الحكم لتهمة الخطإ والخيانة. قال: "وإذا عزل القاضي فقال لرجل أخذت منك ألفا ودفعتها إلى فلان قضيت بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 عليك فقال الرجل أخذتها ظلما فالقول قول القاضي، وكذا لو قال قضيت بقطع يدك في حق، هذا إذا كان الذي قطعت يده والذي أخذ منه المال مقرين أنه فعل ذلك وهو قاض" ووجهه أنهما لما توافقا أنه فعل ذلك في قضائه كان الظاهر شاهدا له. إذ القاضي لا يقضي بالجور ظاهرا "ولا يمين عليه" لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق ولا يمين على القاضي. "ولو أقر القاطع والآخذ بما أقر به القاضي لا يضمن أيضا" لأنه فعله في حال القضاء ودفع القاضي صحيح كما إذا كان معاينا. "ولو زعم المقطوع يده أو المأخوذ ماله أنه فعل قبل التقليد أو بعد العزل فالقول للقاضي أيضا" هو الصحيح لأنه أسند فعله إلى حالة معهودة منافية للضمان فصار كما إذا قال طلقت أو أعتقت وأنا مجنون والجنون منه كان معهودا. "ولو أقر القاطع أو الآخذ في هذا الفصل بما أقر به القاضي بضمان" لأنهما أقرا بسبب الضمان، وقول القاضي مقبول في دفع الضمان عن نفسه لا في إبطال سبب الضمان على غيره، بخلاف الأول لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق "ولو كان المال في يد الآخذ قائما وقد أقر بما أقر به القاضي والمأخوذ منه المال صدق القاضي في أنه فعله في قضائه أو ادعى أنه فعله في غير قضائه يؤخذ منه" لأنه أقر أن اليد كانت له فلا يصدق في دعوى تملكه إلا بحجة، وقول المعزول فيه ليس بحجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 كتاب الشهادات مراتب الشهادات مدخل ... كتاب الشهادات قال: "الشهادة فرض تلزم الشهود ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي" لقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282] وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] وإنما يشترط طلب المدعي لأنها حقه فيتوقف على طلبه كسائر الحقوق. "والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار" لأنه بين حسبتين إقامة الحد والتوقي عن الهتك "والستر أفضل" لقوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده "لو سترته بثوبك لكان خيرا لك" وقال عليه الصلاة والسلام "من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم دلالة ظاهرة على أفضلية الستر "إلا أنه يجب أن يشهد بالمال في السرقة فيقول: أخذ" إحياء لحق المسروق منه "ولا يقول سرق" محافظة على الستر، ولأنه لو ظهرت السرقة لوجب القطع والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه. "والشهادة على مراتب: منها الشهادة في الزنا يعتبر فيها أربعة من الرجال" لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] "ولا تقبل فيها شهادة النساء" لحديث الزهري رضي الله عنه: مضت السنة من لدن رسول الله عليه الصلاة والسلام والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص، ولأن فيها شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات "ومنها الشهادة ببقية الحدود والقصاص تقبل فيها شهادة رجلين" لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] "ولا تقبل فيها شهادة النساء" لما ذكرنا. قال: "وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان الحق مالا أو غير مال" مثل: النكاح والطلاق والعتاق والعدة والحوالة والوقف والصلح "والوكالة والوصية" والهبة والإقرار والإبراء والولد والولاد والنسب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 ونحو ذلك. وقال الشافعي رحمه الله: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها لأن الأصل فيها عدم القبول لنقصان العقل واختلال الضبط وقصور الولاية فإنها لا تصلح للإمارة ولهذا لا تقبل في الحدود، ولا تقبل شهادة الأربع منهن وحدهن إلا أنها قبلت في الأموال ضرورة، والنكاح أعظم خطرا وأقل وقوعا فلا يلحق بما هو أدنى خطرا وأكثر وجودا. ولنا أن الأصل فيها القبول لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة وهو المشاهدة والضبط والأداء، إذ بالأول يحصل العلم للشاهد، وبالثاني يبقى، وبالثالث يحصل العلم للقاضي ولهذا يقبل إخبارها في الأخبار، ونقصان الضبط بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى إليها فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة فلهذا لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات وعدم قبول الأربع على خلاف القياس كي لا يكثر خروجهن. قال: "وتقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" والجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس فيتناول الأقل. وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اشتراط الأربع، ولأنه إنما سقطت الذكورة ليخف النظر لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف فكذا يسقط اعتبار العدد إلا أن المثنى والثلاث أحوط لما فيه من معنى الإلزام "ثم حكمها في الولادة شرحناه في الطلاق" وأما حكم البكارة فإن شهدن أنها بكر يؤجل في العنين سنة ويفرق بعدها لأنها تأيدت بمؤيد إذ البكارة أصل، وكذا في رد المبيعة إذا اشتراها بشرط البكارة، فإن قلن إنها ثيب يحلف البائع لينضم نكوله إلى قولهن والعيب يثبت بقولهن فيحلف البائع، وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله في حق الإرث لأنه مما يطلع عليه الرجال إلا في حق الصلاة لأنها من أمور الدين. وعندهما تقبل في حق الإرث أيضا لأنه صوت عند الولادة ولا يحضرها الرجال عادة فصار كشهادتهن على نفس الولادة. قال: "ولا بد في ذلك كله من العدالة ولفظة الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة الشهادة وقال أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته" أما العدالة فلقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولأن العدالة هي المعينة للصدق، لأن من يتعاطى غير الكذب قد يتعاطاه. وعن أبي يوسف رحمه الله أن الفاسق إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة تقبل شهادته لأنه لا يستأجر لوجاهته ويمتنع عن الكذب لمروءته، والأول أصح، إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق يصح عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا يصح، والمسألة معروفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وأما لفظة الشهادة فلأن النصوص نطقت باشتراطها إذ الأمر فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة توحيد، فإن قوله أشهد من ألفاظ اليمين كقوله أشهد بالله فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة أشد. وقوله في ذلك كله إشارة إلى جميع ما تقدم حتى يشترط العدالة، ولفظة الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها هو الصحيح لأنها شهادة لما فيه من معنى الإلزام حتى اختص بمجلس القضاء ولهذا يشترط فيه الحرية والإسلام. "قال أبو حنيفة رحمه الله: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم" لقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدودا في قذف" ومثل ذلك مروي عن عمر رضي الله عنه، ولأن الظاهر هو الانزجار عما هو محرم دينه، وبالظاهر كفاية إذ لا وصول إلى القطع. "إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن الشهود" لأنه يحتال لإسقاطها فيشترط الاستقصاء فيها، ولأن الشبهة فيها دارئة، وإن طعن الخصم فيهم سأل عنهم لأنه تقابل الظاهران فيسأل طلبا للترجيح "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق" لأن القضاء مبناه على الحجة وهي شهادة العدول فيتعرف عن العدالة، وفيه صون قضائه عن البطلان. وقيل هذا اختلاف عصر وزمان والفتوى على قولهما في هذا الزمان. قال: "ثم التزكية في السر أن يبعث المستورة إلى المعدل فيها النسب والحلي والمصلى ويردها المعدل" كل ذلك في السر كي لا يظهر فيخدع أو يقصد "وفي العلانية لا بد أن يجمع بين المعدل والشاهد" لتنتفي شبهة تعديل غيره، وقد كانت العلانية وحدها في الصدر الأول، ووقع الاكتفاء بالسر في زماننا تحرزا عن الفتنة. ويروى عن محمد رحمه الله: تزكية العلانية بلاء وفتنة. ثم قيل: لا بد أن يقول المعدل هو عدل جائز الشهادة لأن العبد قد يعدل، وقيل يكتفي بقوله هو عدل لأن الحرية ثابتة بالدار وهذا أصح. قال: "وفي قول من رأى أن يسأل عن الشهود لم يقبل قول الخصم إنه عدل" معناه قول المدعى عليه وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه يجوز تزكيته، لكن عند محمد يضم تزكية الآخر إلى تزكيته لأن العدد عنده شرط. ووجه الظاهر أن في زعم المدعي وشهوده أن الخصم كاذب في إنكاره مبطل في إصراره فلا يصلح معدلا، وموضوع المسألة إذا قال هم عدول إلا أنهم أخطئوا أو نسوا، أما إذا قال صدقوا أو هم عدول صدقة فقد اعترف بالحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 قال: "وإذا كان رسول القاضي الذي يسأل عن الشهود واحدا جاز والاثنان أفضل" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز إلا اثنان، والمراد منه المزكي، وعلى هذا الخلاف رسول القاضي إلى المزكي والمترجم عن الشاهد له أن التزكية في معنى الشهادة لأن ولاية القضاء تنبني على ظهور العدالة وهو بالتزكية فيشترط فيه العدد كما تشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي والحدود والقصاص. ولهما أنه ليس في معنى الشهادة ولهذا لا يشترط فيه لفظة الشهادة ومجلس القضاء، واشتراط العدد أمر حكمي في الشهادة فلا يتعداها "ولا يشترط أهلية الشهادة في المزكي في تزكية السر" حتى صلح العبد مزكيا، فأما في تزكية العلانية فهو شرط، وكذا العدد بالإجماع على ما قاله الخصاف رحمه الله لاختصاصها بمجلس القضاء. قالوا: يشترط الأربعة في تزكية شهود الزنا عند محمد رحمه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 فصل: وما يتحمله الشاهد على ضربين الخ ... فصل: وما يتحمله الشاهد على ضربين: أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه مثل البيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع ذلك الشاهد أو رآه وسعه أن يشهد به وإن لم يشهد عليه" لأنه علم ما هو الموجب بنفسه وهو الركن في إطلاق الأداء. قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع" قال: "ويقول أشهد أنه باع ولا يقول أشهدني" لأنه كذب، "ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد، ولو فسر للقاضي لا يقبله" لأن النغمة تشبه النغمة فلم يحصل العلم "إلا إذا كان دخل البيت وعلم أنه ليس فيه أحد سواه ثم جلس على الباب وليس في البيت مسلك غيره فسمع إقرار الداخل ولا يراه له أن يشهد" لأنه حصل العلم في هذه الصورة. "ومنه ما لا يثبت الحكم فيه بنفسه مثل الشهادة على الشهادة، فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهد عليها" لأن الشهادة غير موجبة بنفسها، وإنما تصير موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء فلا بد من الإنابة والتحميل ولم يوجد "وكذا لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته لم يسع للسامع أن يشهد" لأنه ما حمله وإنما حمل غيره. "ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يتذكر الشهادة" لأن الخط يشبه الخط فلم يحصل العلم. قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله. وعندهما يحل له أن يشهد. وقيل هذا بالاتفاق، وإنما الخلاف فيما إذا وجد القاضي شهادته في ديوانه أو قضيته، لأن ما يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 في قمطره فهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان فحصل له العلم بذلك ولا كذلك الشهادة في الصك لأنه في يد غيره، وعلى هذا إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة أو أخبره قوم ممن يثق به أنا شهدنا نحن وأنت. قال: "ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به" وهذا استحسان. والقياس أن لا تجوز لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة وذلك بالعلم ولم يحصل فصار كالبيع. وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس، ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون، فلو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام، بخلاف البيع لأنه يسمعه كل أحد، وإنما يجوز للشاهد أن يشهد بالاشتهار وذلك بالتواتر أو بإخبار من يثق به كما قال في الكتاب. ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم. وقيل في الموت يكتفي بإخبار واحد أو واحدة لأنه قلما يشاهد غير الواحد إذ الإنسان يهابه ويكرهه فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج، ولا كذلك النسب والنكاح، وينبغي أن يطلق أداء الشهادة. أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته كما أن معاينة اليد في الأملاك تطلق الشهادة، ثم إذا فسر لا تقبل كذا هذا. ولو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم حل له أن يشهد على كونه قاضيا وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج كما إذا رأى عينا في يد غيره. ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته فهو معاينة، حتى لو فسر للقاضي قبله ثم قصر الاستثناء في الكتاب على هذه الأشياء الخمسة ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف. وعن أبي يوسف رحمه الله آخرا أنه يجوز في الولاء لأنه بمنزلة النسب لقوله عليه الصلاة والسلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب". وعن محمد رحمه الله أنه يجوز في الوقف لأنه يبقى على مر الأعصار، إلا أنا نقول الولاء يبتنى على زوال الملك ولا بد فيه من المعاينة فكذا فيما يبتنى عليه. وأما الوقف فالصحيح أنه تقبل الشهادة بالتسامع في أصله دون شرائطه، لأن أصله هو الذي يشتهر. قال: "ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له" لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك إذ هي مرجع الدلالة في الأسباب كلها فيكتفي بها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط مع ذلك أن يقع في قلبه أنه له. قالوا: ويحتمل أن يكون هذا تفسيرا لإطلاق محمد رحمه الله في الرواية فيكون شرطا على الاتفاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وقال الشافعي رحمه الله: دليل الملك اليد مع التصرف، وبه قال بعض مشايخنا رحمهم الله لأن اليد متنوعة إلى إنابة وملك. قلنا: والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة. ثم المسألة على وجوه: إن عاين المالك الملك حل له أن يشهد، وكذا إذا عاين الملك بحدوده دون المالك استحسانا لأن النسب يثبت بالتسامع فيحصل معرفته، وإن لم يعاينها أو عاين المالك دون الملك لا يحل له. وأما العبد والأمة، فإن كان يعرف أنهما رقيقان فكذلك لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، وإن كان لا يعرف أنهما رقيقان إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك لأنه لا يد لهما، وإن كانا كبيرين فذلك مصرف الاستثناء لأن لهما يدا على أنفسهما فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يحل له أن يشهد فيهما أيضا اعتبارا بالثياب، والفرق ما بيناه، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل قال: "ولا تقبل شهادة الأعمى". وقال زفر رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله: تقبل فيما يجري فيه التسامع لأن الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه. وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: يجوز إذا كان بصيرا وقت التحمل لحصول العلم بالمعاينة، والأداء يختص بالقول ولسانه غير موف والتعريف يحصل بالنسبة كما في الشهادة على الميت. ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة، وفيه شبهة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر فصار كالحدود والقصاص. ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن قيام أهلية الشهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها حجة عنده وقد بطلت وصار كما إذا خرس أو جن أو فسق، بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا، لأن الأهلية بالموت قد انتهت وبالغيبة ما بطلت. قال: "ولا المملوك" لأن الشهادة من باب الولاية وهو لا يلي نفسه فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره "ولا المحدود في قذف وإن تاب" لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] ولأنه من تمام الحد لكونه مانعا فيبقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المحدود في غير القذف لأن الرد للفسق وقد ارتفع بالتوبة. وقال الشافعي رحمه الله تقبل إذا تاب لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] استثنى التائب. قلنا: الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 [النور:4] أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن. "ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم تقبل شهادته" لأن للكافر شهادة فكان ردها من تمام الحد، وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى، بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق لأنه لا شهادة للعبد أصلا فتمام حده يرد شهادته بعد العتق. قال: "ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقبل شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته ولا العبد لسيده ولا المولى لعبده ولا الأجير لمن استأجره" ولأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة ولهذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم فتكون شهادة لنفسه من وجه أو تتمكن فيه التهمة. قال العبد الضعيف: والمراد بالأجير على ما قالوا التلميذ الخاص الذي يعد ضرر أستاذه ضرر نفسه ونفعه نفع نفسه، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا شهادة للقانع بأهل البيت" وقيل المراد الأجير مسانهة أو مشاهرة أو مياومة فيستوجب الأجر بمنافعه عند أداء الشهادة فيصير كالمستأجر عليها. قال: "ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر" وقال الشافعي رحمه الله: تقبل لأن الأملاك بينهما متميزة والأيدي متحيزة ولهذا يجري القصاص والحبس بالدين بينهما، ولا معتبر بما فيه من النفع لثبوته ضمنا كما في الغريم إذا شهد لمديونه المفلس. ولنا ما روينا، ولأن الانتفاع متصل عادة وهو المقصود فيصير شاهدا لنفسه من وجه أو يصير متهما، بخلاف شهادة الغريم لأنه لا ولاية على المشهود به. "ولا شهادة المولى لعبده" لأنه شهادة لنفسه من كل جهة إذا لم يكن على العبد دين أو من وجه إن كان عليه دين لأن الحال موقوف مراعى "ولا لمكاتبه" لما قلنا. "ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما" لأنه شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما، ولو شهد بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة. "وتقبل شهادة الأخ لأخيه وعمه" لانعدام التهمة لأن الأملاك ومنافعها متباينة ولا بسوطة لبعضهم في مال البعض. قال: "ولا تقبل شهادة المخنث" ومراده المخنث في الرديء من الأفعال لأنه فاسق، فأما الذي في كلامه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة. "ولا نائحة ولا مغنية" لأنهما يرتكبان محرما فإنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية". قال: "ولا مدمن الشرب على اللهو" لأنه ارتكب محرم دينه. "ولا من يلعب بالطيور" لأنه يورث غفلة ولأنه قد يقف على عورات النساء بصعوده على سطحه ليطير طيره وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 بعض النسخ: ولا من يلعب بالطنبور وهو المغني. قال: "ولا من يغني للناس" لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة. قال: "ولا من يأتي بابا من الكبائر التي يتعلق بها الحد" للفسق. قال: "ولا من يدخل الحمام من غير مئزر" لأن كشف العورة حرام. "أو يأكل الربا أو يقامر بالنرد والشطرنج". لأن كل ذلك من الكبائر، وكذلك من تفوته الصلاة للاشتغال بهما، فأما مجرد اللعب بالشطرنج فليس بفسق مانع من الشهادة، لأن للاجتهاد فيه مساغا. وشرط في الأصل أن يكون آكل الربا مشهورا به لأن الإنسان قلما ينجو عن مباشرة العقود الفاسدة وكل ذلك ربا. قال: "ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق" لأنه تارك للمروءة، وإذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب فيتهم. "ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف" لظهور فسقه بخلاف من يكتمه. "وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية" وقال الشافعي رحمه الله: لا تقبل لأنه أغلظ وجوه الفسق. ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد وما أوقعه فيه إلا تدينه به وصار كمن يشرب المثلث أو يأكل متروك التسمية عامدا مستبيحا لذلك، بخلاف الفسق من حيث التعاطي. أما الخطابية فهم من غلاة الروافض يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم. وقيل يرون الشهادة لشيعتهم واجبة فتمكنت التهمة في شهادتهم لظهور فسقهم. قال: "وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم". وقال مالك والشافعي رحمهما الله: لا تقبل لأنه فاسق، قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فيجب التوقف في خبره، ولهذا لا تقبل شهادته على المسلم فصار كالمرتد. ولنا ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض، ولأنه من أهل الولاية على نفسه وأولاده الصغار فيكون من أهل الشهادة على جنسه، والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان، بخلاف المرتد لأنه لا ولاية له، وبخلاف شهادة الذمي على المسلم لأنه لا ولاية له بالإضافة إليه، ولأنه يتقول عليه لأنه يغيظه قهره إياه، وملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر فلا يحملهم الغيظ على التقول. قال: "ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي" أراد به والله أعلم المستأمن لأنه لا ولاية له عليه لأن الذمي من أهل دارنا وهو أعلى حالا منه، وتقبل شهادة الذمي عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 كشهادة المسلم عليه وعلى الذمي "وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة، فإن كانوا من دارين كالروم والترك لا تقبل" لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية ولهذا يمنع التوارث، بخلاف الذمي لأنه من أهل دارنا، ولا كذلك المستأمن. "وإن كانت الحسنات أغلب من السيئات والرجل ممن يجتنب الكبائر قبلت شهادته وإن ألم بمعصية" هذا هو الصحيح في حد العدالة المعتبرة، إذ لا بد من توقي الكبائر كلها وبعد ذلك يعتبر الغالب كما ذكرنا، فأما الإلمام بمعصية لا تنقدح به العدالة المشروطة فلا ترد به الشهادة المشروعة لأن في اعتبار اجتنابه الكل سد بابه وهو مفتوح إحياء للحقوق. قال: "وتقبل شهادة الأقلف" لأنه لا يخل بالعدالة إلا إذا تركه استخفافا بالدين لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلا "والخصي" لأن عمر رضي الله عنه قبل شهادة علقمة الخصي، ولأنه قطع عضو منه ظلما فصار كما إذا قطعت يده. "وولد الزنا" لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد ككفرهما وهو مسلم. وقال مالك رحمه الله: لا تقبل في الزنا لأنه يجب أن يكون غيره كمثله فيتهم. قلنا: العدل لا يختار ذلك ولا يستحبه، والكلام في العدل. قال: "وشهادة الخنثى جائزة" لأنه رجل أو امرأة وشهادة الجنسين مقبولة بالنص. "وشهادة العمال جائزة" والمراد عمال السلطان عند عامة المشايخ، لأن نفس العمل ليس بفسق إلا إذا كانوا أعوانا على الظلم. وقيل العامل إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة لا يجازف في كلامه تقبل شهادته كما مر عن أبي يوسف رحمه الله في الفاسق، لأنه لوجاهته لا يقدم على الكذب حفظا للمروءة ولمهابته لا يستأجر على الشهادة الكاذبة. قال: "وإذا شهد الرجلان أن أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي ذلك فهو جائز استحسانا، وإن أنكر الوصي لم يجز" وفي القياس: لا يجوز إن ادعى، وعلى هذا إذا شهد الموصي لهما بذلك أو غريمان لهما على الميت دين أو للميت عليهما دين أو شهد الوصيان أنه أوصى إلى هذا الرجل معهما. وجه القياس أنها شهادة للشاهد لعود المنفعة إليه. وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان طالبا والموت معروف، فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التعيين لا أن يثبت بها شيء فصار كالقرعة والوصيان إذا أقرا أن معهما ثالثا يملك القاضي نصب ثالث معهما لعجزهما عن التصرف باعترافهما، بخلاف ما إذا أنكرا ولم يعرف الموت لأنه ليس له ولاية نصب الوصي فتكون الشهادة هي الموجبة، وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشهادة وإن لم يكن الموت معروفا لأنهما يقران على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 أنفسهما فيثبت الموت باعترافهما في حقهما "وإن شهدا أن أباهما الغائب وكله بقبض ديونه بالكوفة فادعى الوكيل أو أنكره لا تقبل شهادتهما" لأن القاضي لا يملك نصب الوكيل عن الغائب، فلو ثبت إنما يثبت بشهادتهما وهي غير موجبة لمكان التهمة. قال: "ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح ولا يحكم بذلك" لأن الفسق مما لا يدخل تحت الحكم لأن له الدفع بالتوبة فلا يتحقق الإلزام، ولأنه هتك السر والستر واجب والإشاعة حرام، وإنما يرخص ضرورة إحياء الحقوق وذلك فيما يدخل تحت الحكم "إلا إذا شهدوا على إقرار المدعي بذلك تقبل" لأن الإقرار مما يدخل تحت الحكم. قال: "ولو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود لم تقبل" لأنه شهادة على جرح مجرد، والاستئجار وإن كان أمرا زائدا عليه فلا خصم في إثباته لأن المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه، حتى لو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود بعشرة دراهم ليؤدوا الشهادة وأعطاهم العشرة من مالي الذي كان في يده تقبل لأنه خصم في ذلك ثم يثبت الجرح بناء عليه، وكذا إذا أقامها على أني صالحت الشهود على كذا من المال. ودفعته إليهم على أن لا يشهدوا علي بهذا الباطل وقد شهدوا وطالبهم برد ذلك المال، ولهذا قلنا إنه لو أقام البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف أو شارب خمر أو قاذف أو شريك المدعي تقبل. قال: "ومن شهد ولم يبرح حتى قال أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلا جازت شهادته" ومعنى قوله أوهمت أي أخطأت بنسيان ما كان يحق علي ذكره أو بزيادة كانت باطلة. ووجهه أن الشاهد قد يبتلى بمثله لمهابة مجلس القضاء فكان العذر واضحا فتقبل إذا تداركه في أوانه وهو عدل، بخلاف ما إذا قام عن المجلس ثم عاد وقال أوهمت، لأنه يوهم الزيادة من المدعي بتلبيس وخيانة فوجب الاحتياط، ولأن المجلس إذا اتحد لحق الملحق بأصل الشهادة فصار ككلام واحد، ولا كذلك إذا اختلف. وعلى هذا إذا وقع الغلط في بعض الحدود أو في بعض النسب وهذا إذا كان موضع شبهة، فأما إذا لم يكن فلا بأس بإعادة الكلام أصلا مثل أن يدع لفظة الشهادة وما يجري مجرى ذلك وإن قام عن المجلس بعد أن يكون عدلا. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يقبل قوله في غير المجلس إذا كان عدلا، والظاهر ما ذكرناه والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 باب الاختلاف في الشهادة مدخل ... باب الاختلاف في الشهادة قال: "الشهادة إذا وافقت الدعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل" لأن تقدم الدعوى في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 حقوق العباد شرط قبول الشهادة، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها. قال: "ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى عند أبي حنيفة، فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل الشهادة عنده وعندهما تقبل على الألف إذا كان المدعي يدعي الألفين". وعلى هذا المائة والمائتان والطلقة والطلقتان والطلقة والثلاث. لهما أنهما اتفقا على الألف أو الطلقة وتفرد أحدهما بالزيادة فيثبت ما اجتمعا عليه دون ما تفرد به أحدهما فصار كالألف والألف والخمسمائة. ولأبي حنيفة رحمه الله أنهما اختلفا لفظا، وذلك يدل على اختلاف المعنى لأنه يستفاد باللفظ، وهذا لأن الألف لا يعبر به عن الألفين بل هما جملتان متباينتان فحصل على كل واحد منهما شاهد واحد فصار كما إذا اختلف جنس المال. قال: "وإذا شهد أحدهما بالألف والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي ألفا وخمسمائة قبلت الشهادة على الألف" لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى، لأن الألف والخمسمائة جملتان عطف إحداهما على الأخرى والعطف يقرر الأول ونظيره الطلقة والطلقة والنصف والمائة والمائة والخمسون، بخلاف العشرة والخمسة عشر لأنه ليس بينهما حرف العطف فهو نظير الألف والألفين "وإن قال المدعي لم يكن لي عليه إلا الألف فشهادة الذي شهد بالألف وخمسمائة باطلة" لأنه كذبه المدعي في المشهود به، وكذا إذا سكت إلا عن دعوى الألف لأن التكذيب ظاهر فلا بد من التوفيق، ولو قال كان أصل حقي ألف وخمسمائة ولكني استوفيت خمسمائة أو أبرأته عنها قبلت لتوفيقه. قال: "وإذا شهدا بألف وقال أحدهما قضاه منها خمسمائة قبلت شهادتهما بالألف" لاتفاقهما عليه "ولم يسمع قوله إنه قضاه" لأنه شهادة فرد "إلا أن يشهد معه آخر" وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضي بخمسمائة، لأن شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة. وجوابه ما قلنا. قال: "وينبغي للشاهد" إذا علم بذلك "أن لا يشهد بألف حتى يقر المدعي أنه قبض خمسمائة" كي لا يصير معينا على الظلم. "وفي الجامع الصغير: رجلان شهدا على رجل بقرض ألف درهم فشهد أحدهما أنه قد قضاها، فالشهادة جائزة على القرض" لاتفاقهما عليه، وتفرد أحدهما بالقضاء على ما بينا. وذكر الطحاوي عن أصحابنا أنه لا تقبل، وهو قول زفر رحمه الله لأن المدعي أكذب شاهد القضاء. قلنا: هذا إكذاب في غير المشهود به الأول وهو القرض ومثله لا يمنع القبول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 قال: "وإذا شهد شاهدان أنه قتل زيدا يوم النحر بمكة وشهد آخران أنه قتله يوم النحر بالكوفة واجتمعوا عند الحاكم لم يقبل الشهادتين" لأن إحداهما كاذبة بيقين وليست إحداهما بأولى من الأخرى "فإن سبقت إحداهما وقضى بها ثم حضرت الأخرى لم تقبل" لأن الأولى ترجحت باتصال القضاء بها فلا تنتقض بالثانية. "وإذا شهدا على رجل أنه سرق بقرة واختلفا في لونها قطع، وإن قال أحدهما بقرة وقال الآخر ثورا لم يقطع" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله "وقالا: لا يقطع في الوجهين" جميعا، وقيل الاختلاف في لونين يتشابهان كالسواد والحمرة لا في السواد والبياض، وقيل هو في جميع الألوان. لهما أن السرقة في السوداء غيرها في البيضاء فلم يتم على كل فعل نصاب الشهادة وصار كالغصب بل أولى، لأن أمر الحد أهم وصار كالذكورة والأنوثة. وله أن التوفيق ممكن لأن التحمل في الليالي من بعيد واللونان يتشابهان أو يجتمعان في واحد فيكون السواد من جانب وهذا يبصره والبياض من جانب آخر وهذا الآخر يشاهده، بخلاف الغصب لأن التحمل فيه بالنهار على قرب منه، والذكورة والأنوثة لا يجتمعان في واحدة، وكذا الوقوف على ذلك بالقرب منه فلا يشتبه. قال: "ومن شهد لرجل أنه اشترى عبدا من فلان بألف وشهد آخر أنه اشتراه بألف وخمسمائة فالشهادة باطلة" لأن المقصود إثبات السبب وهو العقد ويختلف باختلاف الثمن فاختلف المشهود به ولم يتم العدد على كل واحد، ولأن المدعي يكذب أحد شاهديه وكذلك إذا كان المدعي هو البائع ولا فرق بين أن يدعي المدعي أقل المالين أو أكثرهما لما بينا "وكذلك الكتابة" لأن المقصود هو العقد إن كان المدعي هو العبد فظاهر، وكذا إذا كان هو المولى لأن العتق لا يثبت قبل الأداء فكان المقصود إثبات السبب "وكذا الخلع والإعتاق على مال والصلح عن دم العمد إذا كان المدعي هو المرأة أو العبد أو القاتل" لأن المقصود إثبات العقد والحاجة ماسة إليه، وإن كانت الدعوى من جانب آخر فهو بمنزلة دعوى الدين فيما ذكرنا من الوجوه لأنه ثبت العفو والعتق والطلاق باعتراف صاحب الحق فبقي الدعوى في الدين وفي الرهن، إن كان المدعى هو الرهن لا يقبل لأنه لا حظ له في الرهن فعريت الشهادة عن الدعوى، وإن كان المرتهن فهو بمنزلة دعوى الدين. وفي الإجارة إن كان ذلك في أول المدة فهو نظير البيع، وإن كان بعد مضي المدة والمدعي هو الآجر فهو دعوى الدين. قال: "فأما النكاح فإنه يجوز بألف استحسانا، وقالا: هذا باطل في النكاح أيضا" وذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 في الأمالي قول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة رحمهما الله. لهما أن هذا اختلاف في العقد، لأن المقصود من الجانبين السبب فأشبه البيع. ولأبي حنيفة رحمه الله أن المال في النكاح تابع، والأصل فيه الحل والازدواج والملك ولا اختلاف في ما هو الأصل فيثبت، ثم إذا وقع الاختلاف في التبع يقضي بالأقل لاتفاقهما عليه، ويستوي دعوى أقل المالين أو أكثرهما في الصحيح. ثم قيل: لاختلاف فيما إذا كانت المرأة هي المدعية وفيما إذا كان المدعي هو الزوج إجماع على أنه لا تقبل، لأن مقصودها قد يكون المال ومقصوده ليس إلا العقد. وقيل الاختلاف في الفصلين وهذا أصح والوجه ما ذكرنا، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 فصل: في الشهادة على الإرث قال: "ومن أقام بينة على دار أنها كانت لأبيه أعارها أو أودعها الذي هي في يده فإنه يأخذها ولا يكلف البينة أنه مات وتركها ميراثا له" وأصله أنه متى ثبت ملك المورث لا يقضي به للوارث حتى يشهد الشهود أنه مات وتركها ميراثا له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافا لأبي يوسف رحمه الله. هو يقول: إن ملك الوارث ملك المورث فصارت الشهادة بالملك للمورث شهادة به للوارث، وهما يقولان: إن ملك الوارث متجدد في حق العين حتى يجب عليه الاستبراء في الجارية الموروثة، ويحل للوارث الغني ما كان صدقة على المورث الفقير فلا بد من النقل، إلا أنه يكتفي بالشهادة على قيام ملك المورث وقت الموت لثبوت الانتقال ضرورة، وكذا على قيام يده على ما نذكره، وقد وجدت الشهادة على اليد في مسألة الكتاب لأن يد المستعير والمودع والمستأجر قائمة مقام يده فأغنى ذلك عن الجر والنقل "وإن شهدوا أنها كانت في يد فلان مات وهي في يده جازت الشهادة" لأن الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك بواسطة الضمان والأمانة تصير مضمونة بالتجهيل فصار بمنزلة الشهادة على قيام ملكه وقت الموت. "وإن قالوا لرجل حي نشهد أنها كانت في يد المدعي منذ شهر لم تقبل" وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تقبل لأن اليد مقصودة كالملك؛ ولو شهدوا أنها كانت ملكه تقبل فكذا هذا صار كما إذا شهدوا بالأخذ من المدعي. وجه الظاهر وهو قولهما أن الشهادة قامت بمجهول لأن اليد منقضية وهي متنوعة إلى ملك وأمانة وضمان فتعذر القضاء بإعادة المجهول، بخلاف الملك لأنه معلوم غير مختلف، وبخلاف الآخذ لأنه معلوم وحكمه معلوم وهو وجوب الرد، ولأن يد ذي اليد معاين ويد المدعي مشهود به، وليس الخبر كالمعاينة. "وإن أقر بذلك المدعى عليه دفعت إلى المدعي" لأن الجهالة في المقر به لا تمنع صحة الإقرار "وإن شهد شاهدان أنه أقر أنها كانت في يد المدعي دفعت إليه" لأن المشهود به هاهنا الإقرار وهو معلوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 باب الشهادة على الشهادة مدخل ... باب الشهادة على الشهادة قال: "الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة" وهذا استحسان لشدة الحاجة إليها، إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة أدى إلى إتواء الحقوق، ولهذا جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت، إلا أن فيها شبهة من حيث البدلية أو من حيث إن فيها زيادة احتمال، وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود فلا تقبل فيما تندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص. "وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين". وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا الأربع على كل أصل اثنان لأن كل شاهدين قائمان مقام شاهد واحد فصارا كالمرأتين. ولنا قول علي رضي الله عنه: لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين، ولأن نقل شهادة الأصل من الحقوق فهما شهدا بحق ثم شهدا بحق آخر فتقبل. "ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد" لما روينا، وهو حجة على مالك رحمه الله، ولأنه حق من الحقوق فلا بد من نصاب الشهادة. "وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان أقر عندي بكذا وأشهدني على نفسه" لأن الفرع كالنائب عنه فلا بد من التحميل والتوكيل على ما مر، ولا بد أن يشهد كما يشهد عند القاضي لينقله إلى مجلس القضاء "وإن لم يقل أشهدني على نفسه جاز" لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة وإن لم يقل له اشهد "ويقول شاهد الفرع عند الأداء أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا وقال لي اشهد على شهادتي بذلك" لأنه لا بد من شهادته، وذكر شهادة الأصل وذكر التحميل، ولها لفظ أطول من هذا وأقصر منه، وخير الأمور أوسطها. "ومن قال أشهدني: فلان على نفسه لم يشهد السامع على شهادته حتى يقول له اشهد على شهادتي" لأنه لا بد من التحميل، وهذا ظاهر عند محمد رحمه الله لأن القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعا حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع، وكذا عندهما لأنه لا بد من نقل شهادة الأصول ليصير حجة فيظهر تحميل ما هو حجة. قال: "ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم" لأن جوازها للحاجة، وإنما تمس عند عجز الأصل وبهذه الأشياء يتحقق العجز. وإنما اعتبرنا السفر لأن المعجز بعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكما حتى أدير عليها عدة من الأحكام فكذا سبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 هذا الحكم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إن كان في مكان لو غدا لأداء الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس، قالوا: الأول أحسن والثاني أرفق وبه أخذ الفقيه أبو الليث. قال: "فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز" لأنهم من أهل التزكية "وكذا إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح" لما قلنا، غاية الأمر أن فيه منفعة من حيث القضاء بشهادته لكن العدل لا يتهم بمثله كما لا يتهم في شهادة نفسه، كيف وأن قوله في حق نفسه وإن ردت شهادة صاحبه فلا تهمة. قال: "وإن سكتوا عن تعديلهم جاز ونظر القاضي في حالهم" وهذا عند أبي يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله: لا تقبل لأنه لا شهادة إلا بالعدالة، فإذا لم يعرفوها لم ينقلوا الشهادة فلا يقبل. ولأبي يوسف رحمه الله أن المأخوذ عليهم النقل دون التعديل، لأنه قد يخفى عليهم، وإذا نقلوا يتعرف القاضي العدالة كما إذا حضروا بأنفسهم وشهدوا. قال: "وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة الشهود الفرع" لأن التحميل لم يثبت للتعارض بين الخبرين وهو شرط. "وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين على فلانة بنت فلان الفلانية بألف درهم، وقالا أخبرانا أنهما يعرفانها فجاء بامرأة وقالا: لا ندري أهي هذه أم لا فإنه يقال للمدعي هات شاهدين يشهدان أنها فلانة" لأن الشهادة على المعرفة بالنسبة قد تحققت والمدعي يدعي الحق على الحاضرة ولعلها غيرها فلا بد من تعريفها بتلك النسبة، ونظير هذا إذا تحملوا الشهادة ببيع محدودة بذكر حدودها وشهدوا على المشتري لا بد من آخرين يشهدان على أن المحدود بها في يد المدعى عليه، وكذا إذا أنكر المدعى عليه أن الحدود المذكورة في الشهادة حدود ما في يده. قال: "وكذا كتاب القاضي إلى القاضي" لأنه في معنى الشهادة على الشهادة إلا أن القاضي لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل "ولو قالوا في هذين البابين التميمية لم يجز حتى ينسبوها إلى فخذها" وهي القبيلة الخاصة، وهذا لأن التعريف لا بد منه في هذا، ولا يحصل بالنسبة إلى العامة وهي عامة إلى بني تميم لأنهم قوم لا يحصون، ويحصل بالنسبة إلى الفخذ لأنها خاصة. وقيل الفرغانية نسبة عامة والأوزجندية خاصة، "وقيل السمرقندية والبخارية عامة" وقيل إلى السكة الصغيرة خاصة، وإلى المحلة الكبيرة والمصر عامة. ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 خلافا لأبي يوسف رحمه الله على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد لأنه اسم الجد الأعلى فنزل منزلة الجد الأدنى، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 فصل: "قال أبو حنيفة رحمه الله: شاهد الزور أشهره في السوق ولا أعزره. وقالا: نوجعه ضربا ونحبسه" وهو قول الشافعي رحمه الله. لهما ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه، ولأن هذه كبيرة يتعدى ضررها إلى العباد وليس فيها حد مقدر فيعزر. وله أن شريحا كان يشهر ولا يضرب، ولأن الانزجار يحصل بالتشهير فيكتفي به، والضرب وإن كان مبالغة في الزجر ولكنه يقع مانعا عن الرجوع فوجب التخفيف نظرا إلى هذا الوجه. وحديث عمر رضي الله عنه محمول على السياسة بدلالة التبليغ إلى الأربعين والتسخيم ثم تفسير التشهير منقول عن شريح رحمه الله فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا، ويقول: إن شريحا يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروا الناس منه. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه يشهر عندهما أيضا. والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي عندهما، وكيفية التعزير ذكرناه في الحدود. "وفي الجامع الصغير: شاهدان أقرا أنهما شهدا بزور لم يضربا وقالا يعزران" وفائدته أن شاهد الزور في حق ما ذكرنا من الحكم هو المقر على نفسه بذلك، فأما لا طريق إلى إثبات ذلك بالبينة لأنه نفي للشهادة والبينات للإثبات، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 كتاب الرجوع عن الشهادة شروط صحة الرجوع ... كتاب الرجوع عن الشهادة قال: "إذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت" لأن الحق إنما يثبت بالقضاء والقاضي لا يقضي بكلام متناقض ولا ضمان عليهما لأنهما ما أتلفا شيئا لا على المدعي ولا على المشهود عليه "فإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا لم يفسخ الحكم" لأن آخر كلامهم يناقض أوله فلا ينقض الحكم بالتناقض ولأنه في الدلالة على الصدق مثل الأول، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به "وعليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم" لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، والتناقض لا يمنع صحة الإقرار، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى. "ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم" لأنه فسخ للشهادة فيختص بما تختص به الشهادة من المجلس وهو مجلس القاضي أي قاض كان، ولأن الرجوع توبة والتوبة على حسب الجناية، فالسر بالسر والإعلان بالإعلان. وإذا لم يصح الرجوع في غير مجلس القاضي، فلو ادعى المشهود عليه رجوعهما وأراد يمينهما لا يحلفان، وكذا لا تقبل بينته عليهما لأنه ادعى رجوعا باطلا، حتى لو أقام البينة أنه رجع عند قاضي كذا وضمنه المال تقبل لأن السبب صحيح. "وإذا شهد شاهدان بمال فحكم الحاكم به ثم رجعا ضمنا المال المشهود عليه" لأن التسبيب على وجه التعدي سبب الضمان كحافر البئر وقد سببا للإتلاف تعديا. وقال الشافعي رحمه الله: لا يضمنان لأنه لا عبرة للتسبيب عند وجود المباشرة. قلنا: تعذر إيجاب الضمان على المباشر وهو القاضي لأنه كالملجإ إلى القضاء، وفي إيجابه صرف الناس عن تقلده وتعذر استيفائه من المدعي لأن الحكم ماض فاعتبر التسبيب، وإنما يضمنان إذا قبض المدعي المال دينا كان أو عينا، لأن الإتلاف به يتحقق، ولأنه لا مماثلة بين أخذ العين وإلزام الدين. قال: "فإن رجع أحدهما ضمن النصف" والأصل أن المعتبر في هذا بقاء من بقي لا رجوع من رجع وقد بقي من يبقى بشهادته نصف الحق "وإن شهدا بالمال ثلاثة فرجع أحدهم فلا ضمان عليه" لأنه بقي من بقي بشهادته كل الحق، وهذا لأن الاستحقاق باق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 بالحجة، والمتلف متى استحق سقط الضمان فأولى أن يمتنع "فإن رجع الآخر ضمن الراجعان نصف الحق" لأن ببقاء أحدهم يبقى نصف الحق "وإن شهد رجل وامرأتان فرجعت امرأة ضمنت ربع الحق" لبقاء ثلاثة الأرباع ببقاء من بقي "وإن رجعتا ضمنتا نصف الحق" لأن بشهادة الرجل بقي نصف الحق "وإن شهد رجل وعشرة نسوة ثم رجع ثمان فلا ضمان عليهن" لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق "فإن رجعت أخرى كان عليهن ربع الحق" لأنه بقي النصف بشهادة الرجل والربع بشهادة الباقية فبقي ثلاثة الأرباع "وإن رجع الرجل والنساء فعلى الرجل سدس الحق وعلى النسوة خمسة أسداسه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما على الرجل النصف وعلى النسوة النصف" لأنهن وإن كثرن يقمن مقام رجل واحد ولهذا لا تقبل شهادتهن إلا بانضمام رجل واحد. ولأبي حنيفة رحمه الله أن كل امرأتين قامتا مقام رجل واحد، قال عليه الصلاة والسلام في نقصان عقلهن: "عدلت شهادة اثنتين منهن بشهادة رجل واحد" فصار كما إذا شهد بذلك ستة رجال ثم رجعوا "وإن رجع النسوة العشرة دون الرجل كان عليهن نصف الحق على القولين" لما قلنا. "ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا فالضمان عليهما دون المرأة" لأن الواحدة ليست بشاهدة بل هي بعض الشاهد فلا يضاف إليه الحكم. قال: "وإن شهد شاهدان على امرأة بالنكاح بمقدار مهر مثلها ثم رجعا فلا ضمان عليهما، وكذلك إذا شهدا بأقل من مهر مثلها" لأن منافع البضع غير متقومة عند الإتلاف لأن التضمين يستدعي المماثلة على ما عرف، وإنما تضمن وتتقوم بالتملك لأنها تصير متقومة ضرورة الملك إبانة لخطر المحل "وكذا إذا شهدا على رجل يتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها" لأنه إتلاف بعوض لما أن البضع متقوم حال الدخول في الملك والإتلاف بعوض كلا إتلاف، وهذا لأن مبنى الضمان على المماثلة ولا مماثلة بين الإتلاف بعوض وبينه بغير عوض "وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ضمنا الزيادة" لأنهما أتلفاها من غير عوض. قال: "وإن شهدا ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر ثم رجعا لم يضمنا" لأنه ليس بإتلاف معنى. نظرا إلى العوض "وإن كان بأقل من القيمة ضمنا النقصان" لأنهما أتلفا هذا الجزء بلا عوض. ولا فرق بين أن يكون البيع باتا أو فيه خيار البائع، لأن السبب هو البيع السابق فيضاف الحكم عند سقوط الخيار إليه فيضاف التلف إليهم "وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول بها ثم رجعا ضمنا نصف المهر" لأنهما أكدا ضمانا على شرف السقوط، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 ألا ترى أنها لو طاوعت ابن الزوج أو ارتدت سقط المهر أصلا ولأن الفرقة قبل الدخول في معنى الفسخ فيوجب سقوط جميع المهر كما مر في النكاح، ثم يجب نصف المهر ابتداء بطريق المتعة فكان واجبا بشهادتهما. قال: "وإن شهدا أنه أعتق عبده ثم رجعا ضمنا قيمته" لأنهما أتلفا مالية العبد عليه من غير عوض والولاء للمعتق لأن العتق لا يتحول إليهما بهذا الضمان فلا يتحول الولاء "وإن شهدوا بقصاص ثم رجعوا بعد القتل ضمنوا الدية ولا يقتص منهم" وقال الشافعي رحمه الله: يقتص منهم لوجود القتل منهم تسبيبا فأشبه المكره بل أولى، لأن الولي يعان والمكره يمنع. ولنا أن القتل مباشرة لم يوجد، وكذا تسبيبا لأن التسبيب ما يفضي إليه غالبا، وهاهنا لا يفضي لأن العفو مندوب، بخلاف المكره لأنه يؤثر حياته ظاهرا، ولأن الفعل الاختياري مما يقطع النسبة، ثم لا أقل من الشبهة وهي دارئة للقصاص، بخلاف المال لأنه يثبت مع الشبهات والباقي يعرف في المختلف. قال: "وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا" لأن الشهادة في مجلس القضاء صدرت منهم فكان التلف مضافا إليهم "ولو رجع شهود الأصل وقالوا لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا فلا ضمان عليهم" لأنهم أنكروا السبب وهو الإشهاد فلا يبطل القضاء لأنه خبر محتمل فصار كرجوع الشاهد، بخلاف ما قبل القضاء "وإن قالوا أشهدناهم وغلطنا ضمنوا وهذا عند محمد رحمه الله. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا ضمان عليهم" لأن القضاء وقع بشهادة الفروع لأن القاضي يقضي بما يعاين من الحجة وهي شهادتهم. وله أن الفروع نقلوا شهادة الأصول فصار كأنهم حضروا "ولو رجع الأصول والفروع جميعا يجب الضمان عندهما على الفروع لا غير" لأن القضاء وقع بشهادتهم: وعند محمد رحمه الله المشهود عليه بالخيار، إن شاء ضمن الأصول وإن شاء ضمن الفروع، لأن القضاء وقع بشهادة الفروع من الوجه الذي ذكرا وبشهادة الأصول من الوجه الذي ذكر فيتخير بينهما، والجهتان متغايرتان فلا يجمع بينهما في التضمين "وإن قال شهود الفرع كذب شهود الأصل أو غلطوا في شهادتهم لم يلتفت إلى ذلك" لأن ما أمضي من القضاء لا ينتقض بقولهم، ولا يجب الضمان عليهم لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم إنما شهدوا على غيرهم بالرجوع. قال: "وإن رجع المزكون عن التزكية ضمنوا وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يضمنون" لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فصاروا كشهود الإحصان. وله أن التزكية إعمال للشهادة، إذ القاضي لا يعمل بها إلا بالتزكية فصارت بمعنى علة العلة، بخلاف شهود الإحصان لأنه شرط محض "وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان بوجود الشرط ثم رجعوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فالضمان على شهود اليمين خاصة" لأنه هو السبب، والتلف يضاف إلى مثبتي السبب دون الشرط المحض: ألا ترى أن القاضي يقضي بشهادة اليمين دون شهود الشرط، ولو رجع شهود الشرط وحدهم اختلف المشايخ فيه. ومعنى المسألة يمين العتاق والطلاق قبل الدخول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 كتاب الوكالة مدخل ... كتاب الوكالة قال: "كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره" لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال فيحتاج إلى أن يوكل غيره فيكون بسبيل منه دفعا للحاجة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل بالشراء حكيم بن حزام وبالتزويج عمر بن أم سلمة رضي الله عنهما. قال: "وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق" لما قدمنا من الحاجة إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات. وقد صح أن عليا رضي الله عنه وكل عقيلا، وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه "وكذا بإيفائها واستيفائها إلا في الحدود والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس" لأنها تندرئ بالشبهات وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل، بل هو الظاهر للندب الشرعي، بخلاف غيبة الشاهد لأن الظاهر عدم الرجوع، وبخلاف حالة الحضرة لانتفاء هذه الشبهة، وليس كل أحد يحسن الاستيفاء. فلو منع عنه ينسد باب الاستيفاء أصلا، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله. "وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضا" ومحمد مع أبي حنيفة، وقيل مع أبي يوسف رحمهم الله، وقيل هذا الاختلاف في غيبته دون حضرته لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره فصار كأنه متكلم بنفسه. له أن التوكيل إنابة وشبهة النيابة يتحرز عنها في هذا الباب "كما في الشهادة على الشهادة وكما في الاستيفاء" ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخصومة شرط محض لأن الوجوب مضاف إلى الجناية والظهور إلى الشهادة فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق، وعلى هذا الخلاف التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص. وكلام أبي حنيفة رحمه الله فيه أظهر لأن الشبهة لا تمنع الدفع، غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه لما فيه من شبهة عدم الأمر به. "وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا من غير رضا الخصم إلا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا. وقالا: يجوز التوكيل بغير رضا الخصم" وهو قول الشافعي رحمه الله. ولا خلاف في الجواز إنما الخلاف في اللزوم. لهما أن التوكيل تصرف في خالص حقه فلا يتوقف على رضا غيره كالتوكيل بتقاضي الديون. وله أن الجواب مستحق على الخصم ولهذا يستحضره، والناس متفاوتون في الخصومة، فلو قلنا بلزومه يتضرر به فيتوقف على رضاه كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما يتخير الآخر، بخلاف المريض والمسافر لأن الجواب غير مستحق عليهما هنالك، ثم كما يلزم التوكيل عنده من المسافر يلزم إذا أراد السفر لتحقق الضرورة، ولو كانت المرأة مخدرة لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم قال الرازي رحمه الله: يلزم التوكيل لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها. قال: وهذا شيء استحسنه المتأخرون. قال: "ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام" لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل فلا بد أن يكون الموكل مالكا ليملكه من غيره. "و" يشترط أن يكون "الوكيل ممن يعقل العقد ويقصده" لأنه يقوم مقام الموكل في العبارة فيشترط أن يكون من أهل العبارة حتى لو كان صبيا لا يعقل أو مجنونا كان التوكيل باطلا. "وإذا وكل الحر العاقل البالغ أو المأذون مثلهما جاز" لأن الموكل مالك للتصرف والوكيل من أهل العبارة "وإن وكلا صبيا محجورا يعقل البيع والشراء أو عبدا محجورا جاز، ولا يتعلق بهما الحقوق ويتعلق بموكلهما" لأن الصبي من أهل العبارة؛ ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه، والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له وإنما لا يملكه في حق المولى، والتوكيل ليس تصرفا في حقه إلا أنه لا يصح منهما التزام العهدة. أما الصبي لقصور أهليته والعبد لحق سيده فتلزم الموكل. وعن أبي يوسف رحمه الله أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو مجنون له خيار الفسخ لأنه دخل في العقد على أن حقوقه تتعلق بالعاقد، فإذا ظهر خلافه يتخير كما إذا عثر على عيب. قال: "والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين: كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل". وقال الشافعي رحمه الله: تتعلق بالموكل؛ لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف، والحكم وهو الملك يتعلق بالموكل، فكذا توابعه وصار كالرسول والوكيل بالنكاح. ولنا أن الوكيل هو العاقد حقيقة؛ لأن العقد يقوم بالكلام، وصحة عبارته لكونه آدميا وكذا حكما؛ لأنه يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو كان سفيرا عنه لما استغنى عن ذلك كالرسول، وإذا كان كذلك كان أصيلا في الحقوق فتتعلق به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 ولهذا قال في الكتاب "يسلم المبيع ويقبض الثمن ويطالب بالثمن إذا اشترى، ويقبض المبيع ويخاصم في العيب ويخاصم فيه"؛ لأن كل ذلك من الحقوق والملك يثبت للموكل خلافة عنه، اعتبارا للتوكيل السابق كالعبد يتهب ويصطاد هو الصحيح. قال العبد الضعيف: وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى. قال: "وكل عقد يضيفه إلى موكله كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد فإن حقوقه تتعلق بالموكل دون الوكيل فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها"؛ لأن الوكيل فيها سفير محض؛ ألا يرى أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو أضافه إلى نفسه كان النكاح له فصار كالرسول، وهذا؛ لأن الحكم فيها لا يقبل الفصل عن السبب؛ لأنه إسقاط فيتلاشى فلا يتصور صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره فكان سفيرا. والضرب الثاني من أخواته العتق على مال والكتابة والصلح على الإنكار. فأما الصلح الذي هو جار مجرى البيع فهو من الضرب الأول، والوكيل بالهبة والتصدق والإعارة والإيداع والرهن والإقراض سفير أيضا؛ لأن الحكم فيما يثبت بالقبض، وأنه يلاقي محلا مملوكا للغير فلا يجعل أصيلا، وكذا إذا كان الوكيل من جانب الملتمس، وكذا الشركة والمضاربة، إلا أن التوكيل بالاستقراض باطل حتى لا يثبت الملك للموكل بخلاف الرسالة فيه. قال: "وإذا طالب الموكل المشتري بالثمن" "فله أن يمنعه إياه"؛ لأنه أجنبي عن العقد وحقوقه لما أن الحقوق إلى العاقد "فإن دفعه إليه جاز ولم يكن للوكيل أن يطالبه به ثانيا"؛ لأن نفس الثمن المقبوض حقه وقد وصل إليه، ولا فائدة في الأخذ منه ثم الدفع إليه، ولهذا لو كان للمشتري على الموكل دين يقع المقاصة، ولو كان له عليهما دين يقع المقاصة بدين الموكل أيضا دون دين الوكيل وبدين الوكيل إذا كان وحده إن كان يقع المقاصة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لما أنه يملك الإبراء عنه عندهما ولكنه يضمنه للموكل في الفصلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 باب الوكالة في البيع والشراء فصل: في الشراء قال: "ومن وكل رجلا بشراء شيء فلا بد من تسمية جنسه وصفته أو جنسه ومبلغ ثمنه" ليصير الفعل الموكل به معلوما فيمكنه الائتمار، "إلا أن يوكله وكالة عامة فيقول: ابتع لي ما رأيت"؛ لأنه فوض الأمر إلى رأيه، فأي شيء يشتريه يكون ممتثلا. والأصل فيه أن الجهالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 اليسيرة تتحمل في الوكالة كجهالة الوصف استحسانا، لأن مبنى التوكيل على التوسعة؛ لأنه استعانة. وفي اعتبار هذا الشرط بعض الحرج وهو مدفوع "ثم إن كان اللفظ يجمع أجناسا أو ما هو في معنى الأجناس لا يصح التوكيل وإن بين الثمن"؛ لأن بذلك الثمن يوجد من كل جنس فلا يدرى مراد الآمر لتفاحش الجهالة "وإن كان جنسا يجمع أنواعا لا يصح إلا ببيان الثمن أو النوع"؛ لأنه بتقدير الثمن يصير النوع معلوما، وبذكر النوع تقل الجهالة فلا تمنع الامتثال. مثاله: إذا وكله بشراء عبد أو جارية لا يصح؛ لأنه يشمل أنواعا فإن بين النوع كالتركي والحبشي أو الهندي أو السندي أو المولد جاز، وكذا إذا بين الثمن لما ذكرناه، ولو بين النوع أو الثمن ولم يبين الصفة والجودة والرداءة والسطة جاز؛ لأنه جهالة مستدركة، ومراده من الصفة المذكورة في الكتاب النوع. "وفي الجامع الصغير: ومن قال لآخر اشتر لي ثوبا أو دابة أو دارا فالوكالة باطلة" للجهالة الفاحشة، فإن الدابة في حقيقة اللغة اسم لما يدب على وجه الأرض. وفي العرف يطلق على الخيل والحمار والبغل فقد جمع أجناسا، وكذا الثوب؛ لأنه يتناول الملبوس من الأطلس إلى الكساء ولهذا لا يصح تسميته مهرا وكذا الدار تشمل ما هو في معنى الأجناس؛ لأنها تختلف اختلافا فاحشا باختلاف الأغراض والجيران والمرافق والمحال والبلدان فيتعذر الامتثال. قال: "وإن سمى ثمن الدار ووصف جنس الدار والثوب جاز" معناه نوعه، وكذا إذا سمى نوع الدابة بأن قال حمارا أو نحوه. قال: "ومن دفع إلى آخر دراهم وقال اشتر لي بها طعاما فهو على الحنطة ودقيقها" استحسانا. والقياس أن يكون على كل مطعوم اعتبارا للحقيقة كما في اليمين على الأكل إذ الطعام اسم لما يطعم. وجه الاستحسان أن العرف أملك وهو على ما ذكرناه إذا ذكر مقرونا بالبيع والشراء ولا عرف في الأكل فبقي على الوضع، وقيل إن كثرت الدراهم فعلى الحنطة، وإن قلت فعلى الخبز، وإن كان فيما بين ذلك فعلى الدقيق. قال: "وإذا اشترى الوكيل وقبض ثم اطلع على عيب فله أن يرده بالعيب ما دام المبيع في يده"؛ لأنه من حقوق العقد وهي كلها إليه "فإن سلمه إلى الموكل لم يرده إلا بإذنه"؛ لأنه انتهى حكم الوكالة، ولأن فيه إبطال يده الحقيقية فلا يتمكن منه إلا بإذنه، ولهذا كان خصما لمن يدعي في المشتري دعوى كالشفيع وغيره قبل التسليم إلى الموكل لا بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 قال: "ويجوز التوكيل بعقد الصرف والسلم"؛ لأنه عقد يملكه بنفسه فيملك التوكيل به على ما مر، ومراده التوكيل بالإسلام دون قبول السلم؛ لأن ذلك لا يجوز، فإن الوكيل يبيع طعاما في ذمته على أن يكون الثمن لغيره، وهذا لا يجوز. "فإن فارق الوكيل صاحبه قبل القبض بطل العقد" لوجود الافتراق من غير قبض "ولا يعتبر مفارقة الموكل"؛ لأنه ليس بعاقد والمستحق بالعقد قبض العاقد وهو الوكيل فيصح قبضه وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي والعبد المحجور عليه، بخلاف الرسول؛ لأن الرسالة في العقد لا في القبض، وينتقل كلامه إلى المرسل فصار قبض الرسول قبض غير العاقد فلم يصح. قال: "وإذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله وقبض المبيع فله أن يرجع به على الموكل"؛ لأنه انعقدت بينهما مبادلة حكمية ولهذا إذا اختلفا في الثمن يتحالفان ويرد الموكل بالعيب على الوكيل وقد سلم المشتري للموكل من جهة الوكيل فيرجع عليه ولأن الحقوق لما كانت راجعة إليه وقد علمه الموكل يكون راضيا بدفعه من ماله "فإن هلك المبيع في يده قبل حبسه هلك من مال الموكل ولم يسقط الثمن"؛ لأن يده كيد الموكل، فإذا لم يحبسه يصير الموكل قابضا بيده. "وله أن يحبسه حتى يستوفي الثمن" لما بينا أنه بمنزلة البائع من الموكل. وقال زفر: ليس له ذلك؛ لأن الموكل صار قابضا بيده فكأنه سلمه إليه فيسقط حق الحبس. قلنا: هذا لا يمكن التحرز عنه فلا يكون راضيا بسقوط حقه في الحبس، على أن قبضه موقوف فيقع للموكل إن لم يحبسه ولنفسه عند حبسه "فإن حبسه فهلك كان مضمونا ضمان الرهن عند أبي يوسف وضمان المبيع عند محمد" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وضمان الغصب عند زفر رحمه الله؛ لأنه منع بغير حق، لهما أنه بمنزلة البائع منه فكان حبسه لاستيفاء الثمن فيسقط بهلاكه ولأبي يوسف أنه مضمون بالحبس للاستيفاء بعد أن لم يكن وهو الرهن بعينه بخلاف المبيع؛ لأن البيع ينفسخ بهلاكه وها هنا لا ينفسخ أصل العقد. قلنا: ينفسخ في حق الموكل والوكيل، كما إذا رده الموكل بعيب ورضي الوكيل به. قال: "وإذا وكله بشراء عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى عشرين رطلا بدرهم من لحم يباع منه عشرة أرطال بدرهم لزم الموكل منه عشرة بنصف درهم عند أبي حنيفة، وقالا: يلزمه العشرون بدرهم" وذكر في بعض النسخ قول محمد مع قول أبي حنيفة ومحمد لم يذكر الخلاف في الأصل. لأبي يوسف أنه أمره بصرف الدرهم في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 اللحم وظن أن سعره عشرة أرطال، فإذا اشترى به عشرين فقد زاده خيرا وصار كما إذا وكله ببيع عبده بألف فباعه بألفين. ولأبي حنيفة أنه أمره بشراء عشرة أرطال ولم يأمره بشراء الزيادة فينفذ شراؤها عليه وشراء العشرة على الموكل بخلاف ما استشهد به؛ لأن الزيادة هناك بدل ملك الموكل فيكون له، بخلاف ما إذا اشترى ما يساوي عشرين رطلا بدرهم حيث يصير مشتريا لنفسه بالإجماع؛ لأن الآمر يتناول السمين وهذا مهزول فلم يحصل مقصود الآمر. قال: "ولو وكله بشراء شيء بعينه فليس له أن يشتريه لنفسه" لأنه يؤدي إلى تغرير الآمر حيث اعتمد عليه ولأن فيه عزل نفسه ولا يملكه على ما قيل إلا بمحضر من الموكل، فلو كان الثمن مسمى فاشترى بخلاف جنسه أو لم يكن مسمى فاشترى بغير النقود أو وكل وكيلا بشرائه فاشترى الثاني وهو غائب يثبت الملك للوكيل الأول في هذه الوجوه؛ لأنه خالف أمر الآمر فينفذ عليه. ولو اشترى الثاني بحضرة الوكيل الأول نفذ على الموكل الأول؛ لأنه حضره رأيه فلم يكن مخالفا. قال: "وإن وكله بشراء عبد بغير عينه: فاشترى عبدا فهو للوكيل إلا أن يقول نويت الشراء للموكل أو يشتريه بمال الموكل". قال: هذه المسألة على وجوه: إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر كان للآمر وهو المراد عندي بقوله أو يشتريه بمال الموكل دون النقد من ماله؛ لأن فيه تفصيلا وخلافا، وهذا بالإجماع وهو مطلق. وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان لنفسه حملا لحاله على ما يحل له شرعا أو يفعله عادة إذ الشراء لنفسه بإضافة العقد إلى دراهم غيره مستنكر شرعا وعرفا. وإن أضافه إلى دراهم مطلقة، فإن نواها للآمر فهو للآمر، وإن نواها لنفسه فلنفسه؛ لأن له أن يعمل لنفسه ويعمل للآمر في هذا التوكيل، وإن تكاذبا في النية يحكم النقد بالإجماع؛ لأنه دلالة ظاهرة على ما ذكرنا، وإن توافقا على أنه لم تحضره النية قال محمد رحمه الله: هو للعاقد؛ لأن الأصل أن كل أحد يعمل لنفسه إلا إذا ثبت جعله لغيره ولم يثبت. وعند أبي يوسف رحمه الله: يحكم النقد؛ لأن ما أوقعه مطلقا يحتمل الوجهين فيبقى موقوفا، فمن أي المالين نقد فقد فعل ذلك المحتمل لصاحبه ولأن مع تصادقهما يحتمل النية للآمر، وفيما قلنا حمل حاله على الصلاح كما في حالة التكاذب. والتوكيل بالإسلام في الطعام على هذه الوجوه. قال: "ومن أمر رجلا بشراء عبد بألف فقال قد فعلت ومات عندي وقال الآمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 اشتريته لنفسك فالقول قول الآمر، فإن كان دفع إليه الألف فالقول قول المأمور"؛ لأن في الوجه الأول أخبر عما لا يملك استئنافه وهو الرجوع بالثمن على الآمر وهو ينكر والقول للمنكر. وفي الوجه الثاني هو أمين يريد الخروج عن عهدة الأمانة فيقبل قوله. ولو كان العبد حيا حين اختلفا، إن كان الثمن منقودا فالقول للمأمور؛ لأنه أمين، وإن لم يكن منقودا فكذلك عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله؛ لأنه يملك استئناف الشراء فلا يتهم في الإخبار عنه. وعن أبي حنيفة رحمه الله: القول للأمر؛ لأنه موضع تهمة بأن اشتراه لنفسه، فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر، بخلاف ما إذا كان الثمن منقودا؛ لأنه أمين فيه فيقبل قوله تبعا لذلك ولا ثمن في يده هاهنا، وإن كان أمره بشراء عبد بعينه ثم اختلفا والعبد حي فالقول للمأمور سواء كان الثمن منقودا أو غير منقود، وهذا بالإجماع؛ لأنه أخبر عما يملك استئنافه، ولا تهمة فيه؛ لأن الوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك شراءه لنفسه بمثل ذلك الثمن في حال غيبته على ما مر، بخلاف غير المعين على ما ذكرناه لأبي حنيفة رحمه الله. "ومن قال لآخر بعني هذا العبد لفلان فباعه ثم أنكر أن يكون فلان أمره ثم جاء فلان وقال أنا أمرته بذلك فإن فلانا يأخذه"؛ لأن قوله السابق إقرار منه بالوكالة عنه فلا ينفعه الإنكار اللاحق. "فإن قال فلان لم آمره لم يكن له"؛ لأن الإقرار يرتد برده "إلا أن يسلمه المشترى له فيكون بيعا عنه وعليه العهدة"؛ لأنه صار مشتريا بالتعاطي، كمن اشترى لغيره بغير أمره حتى لزمه ثم سلمه المشترى له، ودلت المسألة على أن التسليم على وجه البيع يكفي للتعاطي وإن لم يوجد نقد الثمن، وهو يتحقق في النفيس والخسيس لاستتمام التراضي وهو المعتبر في الباب. قال: "ومن أمر رجلا أن يشتري له عبدين بأعيانهما ولم يسم له ثمنا فاشترى له أحدهما جاز"؛ لأن التوكيل مطلق، وقد لا يتفق الجمع بينهما في البيع "إلا فيما لا يتغابن الناس فيه"؛ لأنه توكيل بالشراء، وهذا كله بالإجماع "ولو أمره بأن يشتريهما بألف وقيمتهما سواء، فعند أبي حنيفة رحمه الله إن اشترى أحدهما بخمسمائة أو أقل جاز، وإن اشترى بأكثر لم يلزم الآمر"؛ لأنه قابل الألف بهما وقيمتهما سواء فيقسم بينهما نصفين دلالة، فكان آمرا بشراء كل واحد منهما بخمسمائة ثم الشراء بها موافقة وبأقل منها مخالفة إلى خير والزيادة إلى شر قلت الزيادة أو كثرت فلا يجوز "إلا أن يشتري الباقي ببقية الألف قبل أن يختصما استحسانا"؛ لأن شراء الأول قائم وقد حصل غرضه المصرح به وهو تحصيل العبدين بالألف وما ثبت الانقسام إلا دلالة والصريح يفوقها "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن اشترى أحدهما بأكثر من نصف الألف بما يتغابن الناس فيه وقد بقي من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 الألف ما يشترى بمثله الباقي جاز"؛ لأن التوكيل مطلق لكنه يتقيد بالمتعارف وهو فيما قلنا، ولكن لا بد أن يبقى من الألف باقية يشترى بمثلها الباقي ليمكنه تحصيل غرض الآمر. قال: "ومن له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بها هذا العبد فاشتراه جاز"؛ لأن في تعيين المبيع تعيين البائع؛ ولو عين البائع يجوز على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: "وإن أمره أن يشتري بها عبدا بغير عينه فاشتراه فمات في يده قبل أن يقبضه الآمر مات من مال المشتري، وإن قبضه الآمر فهو له" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله "وقالا: هو لازم للآمر إذا قبضه المأمور" وعلى هذا إذا أمره أن يسلم ما عليه أو يصرف ما عليه. لهما أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في المعاوضات دينا كانت أو عينا، ألا يرى أنه لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل العقد فصار الإطلاق والتقييد فيه سواء فيصح التوكيل ويلزم الآمر؛ لأن يد الوكيل كيده. ولأبي حنيفة رحمه الله أنها تتعين في الوكالات؛ ألا ترى أنه لو قيد الوكالة بالعين منها أو بالدين منها ثم استهلك العين أو أسقط الدين بطلت الوكالة، وإذا تعينت كان هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين من دون أن يوكله بقبضه وذلك لا يجوز، كما إذا اشترى بدين على غير المشتري أو يكون أمرا بصرف ما لا يملكه إلا بالقبض قبله وذلك باطل كما إذا قال أعط مالي عليك من شئت، بخلاف ما إذا عين البائع؛ لأنه يصير وكيلا عنه في القبض ثم يتملكه، وبخلاف ما إذا أمره بالتصدق؛ لأنه جعل المال لله وهو معلوم. وإذا لم يصح التوكيل نفذ الشراء على المأمور فيهلك من ماله إلا إذا قبضه الآمر منه لانعقاد البيع تعاطيا. قال: "ومن دفع إلى آخر ألفا وأمره أن يشتري بها جارية فاشتراها فقال الآمر اشتريتها بخمسمائة. وقال المأمور اشتريتها بألف فالقول قول المأمور" ومراده إذا كانت تساوي ألفا؛ لأنه أمين فيه وقد ادعى الخروج عن عهدة الأمانة والآمر يدعي عليه ضمان خمسمائة وهو ينكر، فإن كانت تساوي خمسمائة فالقول قول الآمر؛ لأنه خالف حيث اشترى جارية تساوي خمسمائة والأمر تناول ما يساوي ألفا فيضمن. قال: "وإن لم يكن دفع إليه الألف فالقول قول الآمر" أما إذا كانت قيمتها خمسمائة فللمخالفة وإن كانت قيمتها ألفا فمعناه أنهما يتحالفان؛ لأن الموكل والوكيل في هذا ينزلان منزلة البائع والمشتري وقد وقع الاختلاف في الثمن وموجبه التحالف. ثم يفسخ العقد الذي جرى بينهما فتلزم الجارية المأمور. قال: "ولو أمره أن يشتري له هذا العبد ولم يسم له ثمنا فاشتراه فقال الآمر اشتريته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 بخمسمائة وقال المأمور بألف وصدق البائع المأمور فالقول قول المأمور مع يمينه" قيل لا تحالف هاهنا؛ لأنه ارتفع الخلاف بتصديق البائع، إذ هو حاضر وفي المسألة الأولى هو غائب، فاعتبر الاختلاف، وقيل يتحالفان كما ذكرنا، وقد ذكر معظم يمين التحالف وهو يمين البائع والبائع بعد استيفاء الثمن أجنبي عنهما وقبله أجنبي عن الموكل إذ لم يجر بينهما بيع فلا يصدق عليه فيبقى الخلاف، وهذا قول الإمام أبي منصور رحمه الله وهو أظهر. والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 فصل: في التوكيل بشراء نفس العبد قال: "وإذا قال العبد لرجل: اشتر لي نفسي من المولى بألف ودفعها إليه، فإن قال الرجل للمولى: اشتريته لنفسه فباعه على هذا فهو حر والولاء للمولى"؛ لأن بيع نفس العبد منه إعتاق وشراء العبد نفسه قبول الإعتاق ببدل والمأمور سفير عنه إذ لا يرجع عليه الحقوق فصار كأنه اشترى بنفسه، وإذا كان إعتاقا أعقب الولاء "وإن لم يعين للمولى فهو عبد للمشتري" لأن اللفظ حقيقة للمعاوضة وأمكن العمل بها إذا لم يعين فيحافظ عليها. بخلاف شراء العبد نفسه؛ لأن المجاز فيه متعين، وإذا كان معاوضة يثبت الملك له "والألف للمولى"؛ لأنه كسب عبده "وعلى المشتري ألف مثله" ثمنا للعبد فإنه في ذمته حيث لم يصح الأداء، بخلاف الوكيل بشراء العبد من غيره حيث لا يشترط بيانه؛ لأن العقدين هناك على نمط واحد، وفي الحالين المطالبة تتوجه نحو العاقد، أما هاهنا فأحدهما إعتاق معقب للولاء ولا مطالبة على الوكيل والمولى عساه لا يرضاه ويرغب في المعارضة المحضة فلا بد من البيان. "ومن قال لعبد اشتر لي نفسك من مولاك فقال لمولاه بعني نفسي لفلان بكذا ففعل فهو للآمر"؛ لأن العبد يصلح وكيلا عن غيره في شراء نفسه؛ لأنه أجنبي عن ماليته، والبيع يرد عليه من حيث إنه مال إلا أن ماليته في يده حتى لا يملك البائع الحبس بعد البيع فإذا أضافه إلى الآمر صلح فعله امتثالا فيقع. العقد للآمر. "وإن عقد لنفسه فهو حر"؛ لأنه إعتاق وقد رضي به المولى دون المعاوضة، والعبد وإن كان وكيلا بشراء شيء معين ولكنه أتى بجنس تصرف آخر وفي مثله ينفذ على الوكيل "وكذا لو قال بعني نفسي ولم يقل لفلان فهو حر"؛ لأن المطلق يحتمل الوجهين فلا يقع امتثالا بالشك فيبقى التصرف واقعا لنفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 فصل: في البيع قال: "والوكيل بالبيع والشراء لا يجوز له أن يعقد مع أبيه وجده ومن لا تقبل شهادته له عند أبي حنيفة. وقالا: يجوز بيعه منهم بمثل القيمة إلا من عبده أو مكاتبه" لأن التوكيل مطلق ولا تهمة إذ الأملاك متباينة والمنافع منقطعة، بخلاف العبد؛ لأنه بيع من نفسه؛ لأن ما في يد العبد للمولى وكذا للمولى حق في كسب المكاتب وينقلب حقيقة بالعجز. وله أن مواضع التهمة مستثناة عن الوكالات، وهذا موضع التهمة بدليل عدم قبول الشهادة ولأن المنافع بينهم متصلة فصار بيعا من نفسه من وجه، والإجارة والصرف على هذا الخلاف. قال: "والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير والعرض عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يجوز بيعه بنقصان لا يتغابن الناس فيه، ولا يجوز إلا بالدراهم والدنانير"؛ لأن مطلق الأمر يتقيد بالمتعارف؛ لأن التصرفات لدفع الحاجات فتتقيد بمواقعها، والمتعارف البيع بثمن المثل وبالنقود ولهذا يتقيد التوكيل بشراء الفحم والجمد والأضحية بزمان الحاجة، ولأن البيع بغبن فاحش بيع من وجه هبة من وجه، وكذا المقايضة بيع من وجه شراء من وجه فلا يتناوله مطلق اسم البيع ولهذا لا يملكه الأب والوصي. وله أن التوكيل بالبيع مطلق فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة، والبيع بالغبن أو بالعين متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن والتبرم من العين، والمسائل ممنوعة على قول أبي حنيفة رحمه الله على ما هو المروي عنه وأنه بيع من كل وجه، حتى أن من حلف لا يبيع يحنث به، غير أن الأب والوصي لا يملكانه مع أنه بيع؛ لأن ولايتهما نظرية ولا نظر فيه، والمقايضة شراء من كل وجه وبيع من كل وجه لوجود حد كل واحد منهما. قال: "والوكيل بالشراء يجوز عقده بمثل القيمة وزيادة يتغابن الناس في مثلها، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله" لأن التهمة فيه متحققة فلعله اشتراه لنفسه، فإذا لم يوافقه ألحقه بغيره على ما مر، حتى لو كان وكيلا بشراء شيء بعينه قالوا ينفذ على الآمر؛ لأنه لا يملك شراءه لنفسه، وكذا الوكيل بالنكاح إذا زوجه امرأة بأكثر من مهر مثلها جاز عنده؛ لأنه لا بد من الإضافة إلى الموكل في العقد فلا تتمكن هذه التهمة، ولا كذلك الوكيل بالشراء؛ لأنه يطلق العقد. قال: "والذي لا يتغابن الناس فيه ما لا يدخل تحت تقويم المقومين، وقيل في العروض الإل نيم وفي الحيوانات الإل يازده وفي العقارات الإل دوازده" لأن التصرف يكثر وجوده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 في الأول ويقل في الأخير ويتوسط في الأوسط وكثرة الغبن لقلة التصرف. قال: "وإذا وكله ببيع عبد فباع نصفه جاز عند أبي حنيفة رحمه الله"؛ لأن اللفظ مطلق عن قيد الافتراق والاجتماع؛ ألا ترى أنه لو باع الكل بثمن النصف يجوز عنده فإذا باع النصف به أولى "وقالا: لا يجوز"؛ لأنه غير متعارف لما فيه من ضرر الشركة "إلا أن يبيع النصف الآخر قبل أن يختصما"؛ لأن بيع النصف قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن لا يجد من يشتريه جملة فيحتاج إلى أن يفرق، فإذا باع الباقي قبل نقض البيع الأول تبين أنه وقع وسيلة، وإذا لم يبع ظهر أنه لم يقع وسيلة فلا يجوز، وهذا استحسان عندهما. "وإن وكله بشراء عبد فاشترى نصفه فالشراء موقوف، فإن اشترى باقيه لزم الموكل"؛ لأن شراء البعض قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن كان موروثا بين جماعة فيحتاج إلى شرائه شقصا شقصا، فإذا اشترى الباقي قبل رد الآمر البيع تبين أنه وقع وسيلة فينفذ على الآمر، وهذا بالاتفاق. والفرق لأبي حنيفة أن في الشراء تتحقق التهمة على ما مر. وآخر أن الأمر بالبيع يصادف ملكه فيصح فيعتبر فيه إطلاقه والأمر بالشراء صادف ملك الغير فلم يصح فلا يعتبر فيه التقييد والإطلاق. قال: "ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو لم يقبض فرده المشتري عليه بعيب لا يحدث مثله بقضاء القاضي ببينة أو بإباء يمين أو بإقرار فإنه يرده على الآمر" لأن القاضي تيقن بحدوث العيب في يد البائع فلم يكن قضاؤه مستندا إلى هذه الحجج. وتأويل اشتراطها في الكتاب أن القاضي يعلم أنه لا يحدث مثله في مدة شهر مثلا لكنه اشتبه عليه تاريخ البيع فيحتاج إلى هذه الحجج لظهور التاريخ، أو كان عيبا لا يعرفه إلا النساء أو الأطباء، وقولهن وقول الطبيب حجة في توجه الخصومة لا في الرد فيفتقر إليها في الرد، حتى لو كان القاضي عاين البيع والعيب ظاهر لا يحتاج إلى شيء منها وهو رد على الموكل فلا يحتاج الوكيل إلى رد وخصومة. قال: "وكذلك إن رده عليه بعيب يحدث مثله ببينة أو بإباء يمين"؛ لأن البينة حجة مطلقة، والوكيل مضطر في النكول لبعد العيب عن علمه باعتبار عدم ممارسته المبيع فلزم الآمر. قال: "فإن كان ذلك بإقراره لزم المأمور"؛ لأن الإقرار حجة قاصرة وهو غير مضطر إليه لإمكانه السكوت والنكول، إلا أن له أن يخاصم الموكل فيلزمه ببينة أو بنكوله، بخلاف ما إذا كان الرد بغير قضاء والعيب يحدث مثله حيث لا يكون له أن يخاصم بائعه؛ لأنه بيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 جديد في حق ثالث والبائع ثالثهما، والرد بالقضاء فسخ لعموم ولاية القاضي، غير أن الحجة قاصرة وهي الإقرار، فمن حيث الفسخ كان له أن يخاصمه، ومن حيث القصور لا يلزم الموكل إلا بحجة، ولو كان العيب لا يحدث مثله والرد بغير قضاء بإقراره يلزم الموكل من غير خصومة في رواية؛ لأن الرد متعين وفي عامة الروايات ليس له أن يخاصمه لما ذكرنا والحق في وصف السلامة ثم ينتقل إلى الرد ثم إلى الرجوع بالنقصان فلم يتعين الرد، وقد بيناه في الكفاية بأطول من هذا. قال: "ومن قال لآخر أمرتك ببيع عبدي بنقد فبعته بنسيئة وقال المأمور أمرتني ببيعه ولم تقل شيئا فالقول قول الآمر"؛ لأن الآمر يستفاد من جهته ولا دلالة على الإطلاق. قال: "وإن اختلف في ذلك المضارب ورب المال فالقول قول المضارب" لأن الأصل في المضاربة العموم، ألا ترى أنه يملك التصرف بذكر لفظ المضاربة فقامت دلالة الإطلاق، بخلاف ما إذا ادعى رب المال المضاربة في نوع والمضارب في نوع آخر حيث يكون القول لرب المال؛ لأنه سقط الإطلاق بتصادقهما فنزل إلى الوكالة المحضة ثم مطلق الأمر بالبيع ينتظمه نقدا ونسيئة إلى أي أجل كان عند أبي حنيفة، وعندهما يتقيد بأجل متعارف والوجه قد تقدم. قال: "ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وأخذ بالثمن رهنا فضاع في يده أو أخذ به كفيلا فتوي المال عليه فلا ضمان عليه" لأن الوكيل أصيل في الحقوق وقبض الثمن منها والكفالة توثق به، والارتهان وثيقة لجانب الاستيفاء فيملكهما بخلاف الوكيل بقبض الدين؛ لأنه يفعل نيابة وقد أنابه في قبض الدين دون الكفالة وأخذ الرهن والوكيل بالبيع يقبض أصالة ولهذا لا يملك الموكل حجره عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 فصل: "وإذا وكل وكيلين فليس لأحدهما أن يتصرف فيما وكلا به دون الآخر" وهذا في تصرف يحتاج فيه إلى الرأي كالبيع والخلع وغير ذلك، لأن الموكل رضي برأيهما لا برأي أحدهما، والبدل وإن كان مقدرا ولكن التقدير لا يمنع استعمال الرأي في الزيادة واختيار المشتري. قال: "إلا أن يوكلهما بالخصومة" لأن الاجتماع فيها متعذر للإفضاء إلى الشغب في مجلس القضاء والرأي يحتاج إليه سابقا لتقويم الخصومة. قال: "أو بطلاق زوجته بغير عوض أو بعتق عبده بغير عوض أو برد وديعة عنده أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 قضاء دين عليه" لأن هذه الأشياء لا يحتاج فيها إلى الرأي بل هو تعبير محض، وعبارة المثنى والواحد سواء. وهذا بخلاف ما إذا قال لهما طلقاها إن شئتما أو قال أمرها بأيديكما لأنه تفويض إلى رأيهما؛ ألا ترى أنه تمليك مقتصر على المجلس، ولأنه علق الطلاق بفعلهما فاعتبره بدخولهما. قال: "وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به" لأنه فوض إليه التصرف دون التوكيل به، وهذا لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء. قال: "إلا أن يأذن له الموكل" لوجود الرضا "أو يقول له اعمل برأيك" لإطلاق التفويض إلى رأيه، وإذا جاز في هذا الوجه يكون الثاني وكيلا عن الموكل حتى لا يملك الأول عزله ولا ينعزل بموته وينعزلان بموت الأول، وقد مر نظيره في أدب القاضي. قال: "فإن وكل بغير إذن موكله فعقد وكيله بحضرته جاز" لأن المقصود حضور رأي الأول وقد حضر، وتكلموا في حقوقه. "وإن عقد في حال غيبته لم يجز" لأنه فات رأيه إلا أن يبلغه فيجيزه "وكذا لو باع غير الوكيل فبلغه فأجازه" لأنه حضر رأيه "ولو قدر الأول الثمن للثاني فعقد بغيبته يجوز" لأن الرأي فيه يحتاج إليه لتقدير الثمن ظاهرا وقد حصل، وهذا بخلاف ما إذا وكل وكيلين وقدر الثمن، لأنه لما فوض إليهما مع تقدير الثمن ظهر أن غرضه اجتماع رأيهما في الزيادة واختيار المشتري على ما بيناه، أما إذا لم يقدر الثمن وفوض إلى الأول كان غرضه رأيه في معظم الأمر وهو التقدير في الثمن. قال: "وإذا زوج المكاتب أو العبد أو الذمي ابنته وهي صغيرة حرة مسلمة أو باع أو اشترى لها لم يجز" معناه التصرف في مالها لأن الرق والكفر يقطعان الولاية؛ ألا يرى أن المرقوق لا يملك إنكاح نفسه فكيف يملك إنكاح غيره، وكذا الكافر لا ولاية له على المسلم حتى لا تقبل شهادته عليه، ولأن هذه ولاية نظرية فلا بد من التفويض إلى القادر المشفق ليتحقق معنى النظر، والرق يزيل القدرة والكفر يقطع الشفقة على المسلم فلا تفوض إليهما. "قال أبو يوسف ومحمد: والمرتد إذا قتل على ردته والحربي كذلك" لأن الحربي أبعد من الذمي فأولى بسلب الولاية، وأما المرتد فتصرفه في ماله وإن كان نافذا عندهما لكنه موقوف على ولده ومال ولده بالإجماع لأنها ولاية نظرية وذلك باتفاق الملة وهي مترددة، ثم تستقر جهة الانقطاع إذا قتل على الردة فيبطل وبالإسلام يجعل كأنه لم يزل مسلما فيصح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 باب الوكالة بالخصومة والقبض قال: "الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض" عندنا خلافا لزفر. هو يقول رضي بخصومته والقبض غير الخصومة ولم يرض به. ولنا أن من ملك شيئا ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض، والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال، ونظيره الوكيل بالتقاضي يملك القبض على أصل الرواية لأنه في معناه وضعا، إلا أن العرف بخلافه وهو قاض على الوضع والفتوى على أن لا يملك. قال: "فإن كانا وكيلين بالخصومة لا يقبضان إلا معا" لأنه رضي بأمانتهما لا بأمانة أحدهما، واجتماعهما ممكن بخلاف الخصومة على ما مر. قال: "والوكيل بقبض الدين يكون وكيلا بالخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله" حتى لو أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل أو إبرائه تقبل عنده، وقالا: لا يكون خصما وهو، رواية الحسن عن أبي حنيفة لأن القبض غير الخصومة، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في الخصومات فلم يكن الرضا بالقبض رضا بها. ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وكله بالتملك لأن الديون تقضى بأمثالها، إذ قبض الدين نفسه لا يتصور إلا أنه جعل استيفاء العين حقه من وجه، فأشبه الوكيل بأخذ الشفعة والرجوع في الهبة والوكيل بالشراء والقسمة والرد بالعيب، وهذه أشبه بأخذ الشفعة حتى يكون خصما قبل القبض كما يكون خصما قبل الأخذ هنالك. والوكيل بالشراء لا يكون خصما قبل مباشرة الشراء، وهذا لأن المبادلة تقتضي حقوقا وهو أصيل فيها فيكون خصما فيها. قال: "والوكيل بقبض العين لا يكون وكيلا بالخصومة" بالاتفاق لأنه أمين محض، والقبض ليس بمبادلة فأشبه الرسول "حتى أن من وكل وكيلا بقبض عبد له فأقام الذي هو في يده البينة أن الموكل باعه إياه وقف الأمر حتى يحضر الغائب" وهذا استحسان، والقياس أن يدفع إلى الوكيل لأن البينة قامت لأعلى خصم فلم تعتبر. وجه الاستحسان أنه خصم في قصر يده لقيامه مقام الموكل في القبض فتقصر يده حتى لو حضر البائع تعاد البينة على البيع، فصار كما إذا أقام البينة على أن الموكل عزله عن ذلك فإنها تقبل في قصر يده كذا هذا. قال: "وكذلك العتاق والطلاق وغير ذلك" ومعناه إذا أقامت المرأة البينة على الطلاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 والعبد والأمة على العتاق على الوكيل بنقلهم تقبل في قصر يده حتى يحضر الغائب استحسانا دون العتق والطلاق. قال: "وإذا أقر الوكيل بالخصومة على موكله عند القاضي جاز إقراره عليه، ولا يجوز عند غير القاضي" عند أبي حنيفة ومحمد استحسانا إلا أنه يخرج عن الوكالة. وقال أبو يوسف: يجوز إقراره عليه وإن أقر في غير مجلس القضاء. وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجوز في الوجهين وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا، وهو القياس لأنه مأمور بالخصومة وهي منازعة والإقرار يضاده لأنه مسالمة، والأمر بالشيء لا يتناول ضده ولهذا لا يملك الصلح والإبراء ويصح إذا استثنى الإقرار، وكذا لو وكله بالجواب مطلقا يتقيد بجواب هو خصومة لجريان العادة بذلك ولهذا يختار فيها الأهدى فالأهدى. وجه الاستحسان أن التوكيل صحيح قطعا وصحته بتناوله ما يملكه قطعا وذلك مطلق الجواب دون أحدهما عينا. وطريق المجاز موجود على ما نبينه إن شاء الله تعالى فيصرف إليه تحريا للصحة قطعا؛ ولو استثنى الإقرار، فعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يصح لأنه لا يملكه. وعن محمد رحمه الله أنه يصح لأن للتنصيص زيادة دلالة على ملكه إياه؛ وعند الإطلاق يحمل على الأولى. وعنه أنه فصل بين الطالب والمطلوب ولم يصححه في الثاني لكونه مجبورا عليه ويخير الطالب فيه؛ فبعد ذلك يقول أبو يوسف رحمه الله: إن الوكيل قائم مقام الموكل، وإقراره لا يختص بمجلس القضاء فكذا إقرار نائبه. وهما يقولان: إن التوكيل يتناول جواب يسمى خصومة حقيقة أو مجازا، والإقرار في مجلس القضاء خصومة مجازا، إما لأنه خرج في مقابلة الخصومة، أو لأنه سبب له لأن الظاهر إتيانه بالمستحق وهو الجواب في مجلس القضاء فيختص به، لكن إذا أقيمت البينة على إقراره في غير مجلس القضاء يخرج من الوكالة حتى لا يؤمر بدفع المال إليه لأنه صار مناقضا وصار كالأب أو الوصي إذا أقر في مجلس القضاء لا يصح ولا يدفع المال إليهما. قال: "ومن كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه عن الغريم لم يكن وكيلا في ذلك أبدا" لأن الوكيل من يعمل لغيره، ولو صححناها صار عاملا لنفسه في إبراء ذمته فانعدم الركن، ولأن قبول قوله ملازم للوكالة لكونه أمينا، ولو صححناها لا يقبل لكونه مبرئا نفسه فينعدم بانعدام لازمه، وهو نظير عبد مديون أعتقه مولاه حتى ضمن قيمته للغرماء ويطالب العبد بجميع الدين، فلو وكله الطالب بقبض المال عن العبد كان باطلا لما بيناه. قال: "ومن ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه فصدقه الغريم أمر بتسليم الدين إليه" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 لأنه إقرار على نفسه لأن ما يقضيه خالص ماله "فإن حضر الغائب فصدقه وإلا دفع إليه الغريم الدين ثانيا" لأنه لم يثبت الاستيفاء حيث أنكر الوكالة، والقول في ذلك قوله مع يمينه فيفسد الأداء "ويرجع به على الوكيل إن كان باقيا في يده" لأن غرضه من الدفع براءة ذمته ولم تحصل فله أن ينقض قبضه "وإن كان" ضاع "في يده لم يرجع عليه" لأنه بتصديقه اعترف أنه محق في القبض وهو مظلوم في هذا الأخذ، والمظلوم لا يظلم غيره. قال: "إلا أن يكون ضمنه عند الدفع" لأن المأخوذ ثانيا مضمون عليه في زعمهما، وهذه كفالة أضيفت إلى حالة القبض فتصح بمنزلة الكفالة بما ذاب له على فلان، ولو كان الغريم لم يصدقه على الوكالة ودفعه إليه على ادعائه، فإن رجع صاحب المال على الغريم رجع الغريم على الوكيل لأنه لم يصدقه على الوكالة، وإنما دفعه إليه على رجاء الإجازة، فإذا انقطع رجاؤه رجع عليه، وكذا إذا دفعه إليه على تكذيبه إياه في الوكالة. وهذا أظهر لما قلنا، وفي الوجوه كلها ليس له أن يسترد المدفوع حتى يحضر الغائب لأن المؤدى صار حقا للغائب، إما ظاهرا أو محتملا فصار كما إذا دفعه إلى فضولي على رجاء الإجازة لم يملك الاسترداد لاحتمال الإجازة، ولأن من باشر التصرف لغرض ليس له أن ينقضه ما لم يقع اليأس عن غرضه. "ومن قال إني وكيل بقبض الوديعة فصدقه المودع" لم يؤمر بالتسليم إليه لأنه أقر له بمال الغير، بخلاف الدين. ولو ادعى أنه مات أبوه وترك الوديعة ميراثا له ولا وارث له غيره، وصدقه المودع أمر بالدفع إليه لأنه لا يبقى ماله بعد موته، فقد اتفقا على أنه مال الوارث. ولو ادعى أنه اشترى الوديعة من صاحبها فصدقه المودع لم يؤمر بالدفع إليه لأنه ما دام حيا كان إقرارا بملك الغير لأنه من أهله فلا يصدقان في دعوى البيع عليه. قال: "فإن وكل وكيلا يقبض ماله فادعى الغريم أن صاحب المال قد استوفاه فإنه يدفع المال إليه" لأن الوكالة قد ثبتت والاستيفاء لم يثبت بمجرد دعواه فلا يؤخر الحق. قال: "ويتبع رب المال فيستحلفه" رعاية لجانبه، ولا يستحلف الوكيل لأنه نائب. قال: "وإن وكله بعيب في جارية فادعى البائع رضا المشتري لم يرد عليه حتى يحلف المشتري بخلاف مسألة الدين" لأن التدارك ممكن هنالك باسترداد ما قبضه الوكيل إذا ظهر الخطأ عند نكوله، وهاهنا غير ممكن لأن القضاء بالفسخ ماض على الصحة وإن ظهر الخطأ عند أبي حنيفة رحمه الله كما هو مذهبه، ولا يستحلف المشتري عنده بعد ذلك لأنه لا يفيد، وأما عندهما قالوا: يجب أن يتحد الجواب على هذا في الفصلين ولا يؤخر، لأن التدارك ممكن عندهما لبطلان القضاء. وقيل الأصح عند أبي يوسف رحمه الله أن يؤخر في الفصلين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 لأنه يعتبر النظر حتى يستحلف المشتري لو كان حاضرا من غير دعوى البائع فينتظر للنظر. قال: "ومن دفع إلى رجل عشرة دراهم ينفقها على أهله فأنفق عليهم عشرة من عنده فالعشرة بالعشرة" لأن الوكيل بالإنفاق وكيل بالشراء والحكم فيه ما ذكرناه وقد قررناه فهذا كذلك. وقيل هذا استحسان وفي القياس ليس له ذلك ويصير متبرعا. وقيل القياس والاستحسان في قضاء الدين لأنه ليس بشراء، فأما الإنفاق يتضمن الشراء فلا يدخلانه، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 باب عزل الوكيل قال: "وللموكل أن يعزل الوكيل عن الوكالة" لأن الوكالة حقه فله أن يبطله، إلا إذا تعلق به حق الغير بأن كان وكيلا بالخصومة يطلب من جهة الطالب لما فيه من إبطال حق الغير، وصار كالوكالة التي تضمنها عقد الرهن. قال: "فإن لم يبلغه العزل فهو على وكالته وتصرفه جائز حتى يعلم" لأن في العزل إضرارا به من حيث إبطال ولايته أو من حيث رجوع الحقوق إليه فينقد من مال الموكل ويسلم المبيع فيضمنه فيتضرر به، ويستوي الوكيل بالنكاح وغيره للوجه الأول، وقد ذكرنا اشتراط العدد أو العدالة في المخبر فلا نعيده. قال: "وتبطل الوكالة بموت الموكل وجنونه جنونا مطبقا ولحاقه بدار الحرب مرتدا" لأن التوكيل تصرف غير لازم فيكون لدوامه حكم ابتدائه فلا بد من قيام الأمر وقد بطل بهذه العوارض، وشرط أن يكون الجنون مطبقا لأن قليله بمنزلة الإغماء، وحد المطبق شهر عند أبي يوسف اعتبارا بما يسقط به الصوم. وعنه أكثر من يوم وليلة لأنه تسقط به الصلوات الخمس فصار كالميت. وقال محمد: حول كامل لأنه يسقط به جميع العبادات فقدر به احتياطا. قالوا: الحكم المذكور في اللحاق قول أبي حنيفة لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده فكذا وكالته، فإن أسلم نفذ، وإن قتل أو لحق بدار الحرب بطلت الوكالة، فأما عندهما تصرفاته نافذة فلا تبطل وكالته إلا أن يموت أو يقتل على ردته أو يحكم بلحاقه وقد مر في السير وإن كان الموكل امرأة فارتدت فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب لأن ردتها لا تؤثر في عقودها على ما عرف. قال: "وإذا وكل المكاتب ثم عجز أو المأذون له ثم حجر عليه أو الشريكان فافترقا، فهذه الوجوه تبطل الوكالة على الوكيل، علم أو لم يعلم" لما ذكرنا أن بقاء الوكالة يعتمد قيام الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وقد بطل بالحجر والعجز والافتراق، ولا فرق بين العلم وعدمه لأن هذا عزل حكمي فلا يتوقف على العلم كالوكيل بالبيع إذا باعه الموكل. قال: "وإذا مات الوكيل أو جن جنونا مطبقا بطلت الوكالة" لأنه لا يصح أمره بعد جنونه وموته "وإن لحق بدار الحرب مرتدا لم يجز له التصرف إلا أن يعود مسلما". قال رضي الله عنه: وهذا عند محمد، فأما عند أبي يوسف لا تعود الوكالة. لمحمد أن الوكالة إطلاق لأنه رفع المانع. أما الوكيل يتصرف بمعان قائمة به وإنما عجز بعارض اللحاق لتباين الدارين، فإذا زال العجز والإطلاق باق عاد وكيلا. ولأبي يوسف أنه إثبات ولاية التنفيذ، لأن ولاية أصل التصرف بأهليته وولاية التنفيذ بالملك وباللحاق لحق بالأموات وبطلت الولاية فلا تعود كملكه في أم الولد والمدبر. ولو عاد الموكل مسلما وقد لحق بدار الحرب مرتدا لا تعود الوكالة في الظاهر. وعن محمد أنها تعود كما قال في الوكيل. والفرق له على الظاهر أن مبنى الوكالة في حق الموكل على الملك وقد زال وفي حق الوكيل على معنى قائم به ولم يزل باللحاق. قال: "ومن وكل آخر بشيء ثم تصرف بنفسه فيما وكل به بطلت الوكالة" وهذا اللفظ ينتظم وجوها: مثل أن يوكله بإعتاق عبده أو بكتابته فأعتقه أو كاتبه الموكل بنفسه أو يوكله بتزويج امرأة أو بشراء شيء ففعله بنفسه أو يوكله بطلاق امرأته فطلقها الزوج ثلاثا أو واحدة وانقضت عدتها أو بالخلع فخالعها، بنفسه لأنه لما تصرف بنفسه تعذر على الوكيل التصرف فبطلت الوكالة، حتى لو تزوجها بنفسه وأبانها لم يكن للوكيل أن يزوجها منه لأن الحاجة قد انقضت، بخلاف ما إذا تزوجها الوكيل وأبانها له أن يزوج الموكل لبقاء الحاجة، وكذا لو وكله ببيع عبده فباعه بنفسه، فلو رد عليه بعيب بقضاء قاض؛ فعن أبي يوسف رحمه الله أنه ليس للوكيل أن يبيعه مرة أخرى لأن بيعه بنفسه منع له من التصرف فصار كالعزل. وقال محمد رحمه الله: له أن يبيعه مرة أخرى لأن الوكالة باقية لأنه إطلاق والعجز قد زال، بخلاف ما إذا وكله بالهبة فوهب بنفسه ثم رجع لم يكن للوكيل أن يهب لأنه مختار في الرجوع فكان ذلك دليل عدم الحاجة. أما الرد بقضاء بغير اختياره فلم يكن دليل زوال الحاجة، فإذا عاد إليه قديم ملكه كان له أن يبيعه، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 كتاب الدعوى شروط قبول الدعوى ... كتاب الدعوى قال: "المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها والمدعى عليه من يجبر على الخصومة" ومعرفة الفرق بينهما من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى، وقد اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله فيه، فمنها ما قال في الكتاب وهو حد عام صحيح. وقيل المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج، والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد، وقيل المدعي من يتمسك بغير الظاهر والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر. وقال محمد رحمه الله في الأصل: المدعى عليه هو المنكر، وهذا صحيح لكن الشأن في معرفته والترجيح بالفقه عند الحذاق من أصحابنا رحمهم الله لأن الاعتبار للمعاني دون الصور، فإن المودع إذا قال رددت الوديعة فالقول له مع اليمين وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان معنى. قال: "ولا تقبل الدعوى حتى يذكر شيئا معلوما في جنسه وقدره" لأن فائدة الدعوى الإلزام بواسطة إقامة الحجة، والإلزام في المجهول لا يتحقق. "فإن كان عينا في يد المدعى عليه كلف إحضارها ليشير إليها بالدعوى"، وكذا في الشهادة والاستحلاف، لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط وذلك بالإشارة في المنقول لأن النقل ممكن والإشارة أبلغ في التعريف، ويتعلق بالدعوى وجوب الحضور، وعلى هذا القضاة من آخرهم في كل عصر، ووجوب الجواب إذا حضر ليفيد حضوره ولزوم إحضار العين المدعاة لما قلنا واليمين إذا أنكره، وسنذكره إن شاء الله تعالى. قال: "وإن لم تكن حاضرة ذكر قيمتها ليصير المدعى معلوما" لأن العين لا تعرف بالوصف، والقيمة تعرف به وقد تعذر مشاهدة العين. وقال الفقيه أبو الليث: يشترط مع بيان القيمة ذكر الذكورة والأنوثة. قال: "وإن ادعى عقارا حدده وذكر أنه في يد المدعى عليه وأنه يطالبه به" لأنه تعذر التعريف بالإشارة لتعذر النقل فيصار إلى التجديد فإن العقار يعرف به، ويذكر الحدود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 الأربعة، ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم، ولا بد من ذكر الجد لأن تمام التعريف به عند أبي حنيفة على ما عرف هو الصحيح، ولو كان الرجل مشهورا يكتفي بذكره، فإن ذكر ثلاثة من الحدود يكتفى بها عندنا خلافا لزفر لوجود الأكثر، بخلاف ما إذا غلط في الرابعة لأنه يختلف به المدعى ولا كذلك بتركها، وكما يشترط التحديد في الدعوى يشترط في الشهادة. وقوله في الكتاب وذكر أنه في يد المدعى عليه لا بد منه لأنه إنما ينتصب خصما إذا كان في يده، وفي العقار لا يكتفى بذكر المدعي وتصديق المدعى عليه أنه في يده بل لا تثبت اليد فيه إلا بالبينة، أو علم القاضي هو الصحيح نفيا لتهمة المواضعة إذ العقار عساه في يد غيرهما، بخلاف المنقول لأن اليد فيه مشاهدة. وقوله وأنه يطالبه به لأن المطالبة حقه فلا بد من طلبه، ولأنه يحتمل أن يكون مرهونا في يده أو محبوسا بالثمن في يده، وبالمطالبة يزول هذا الاحتمال، وعن هذا قالوا في المنقول يجب أن يقول في يده بغير حق. قال: "وإن كان حقا في الذمة ذكر أنه يطالبه به" لما قلنا، وهذا لأن صاحب الذمة قد حضر فلم يبق إلا المطالبة لكن لا بد من تعريفه بالوصف لأنه يعرف به قال: "وإذا صحت الدعوى سأل المدعى عليه عنها" لينكشف له وجه الحكم "فإن اعترف قضي عليه بها" لأن الإقرار موجب بنفسه فيأمره بالخروج عنه "وإن أنكر سأل المدعي البينة" لقوله عليه الصلاة والسلام: " ألك بينة؟ " فقال لا، فقال: "لك يمينه" سأل ورتب اليمين على فقد البينة فلا بد من السؤال ليمكنه الاستحلاف. قال: "فإن أحضرها قضي بها" لانتفاء التهمة عنها "وإن عجز عن ذلك وطلب يمين خصمه استحلفه عليها" لما روينا، ولا بد من طلبه لأن اليمين حقه؛ ألا يرى أنه كيف أضيف إليه بحرف اللام فلا بد من طلبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 باب اليمين مدخل ... باب اليمين "وإذا قال المدعي لي بينة حاضرة وطلب اليمين لم يستحلف" عند أبي حنيفة رحمه الله، معناه حاضرة في المصر وقال أبو يوسف: يستحلف لأن اليمين حقه بالحديث المعروف، فإذا طالبه به يجيبه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن ثبوت الحق في العين مرتب على العجز عن إقامة البينة لما روينا فلا يكون حقه دونه، كما إذا كانت البينة حاضرة في المجلس. ومحمد مع أبي يوسف رحمهما الله فيما ذكره الخصاف، ومع أبي حنيفة فيما ذكره الطحاوي رحمه الله. قال: "ولا ترد اليمين على المدعي" لقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 واليمين على من أنكر" قسم والقسمة تنافي الشركة، وجعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء، وفيه خلاف الشافعي رحمه الله. قال: "ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق، وبينة الخارج أولى". وقال الشافعي: يقضى ببينة ذي اليد لاعتضادها باليد فيتقوى الظهور وصار كالنتاج والنكاح ودعوى الملك مع الإعتاق والاستيلاد والتدبير. ولنا أن بينة الخارج أكثر إثباتا أو إظهارا لأن قدر ما أثبته اليد لا يثبته بينة ذي اليد، إذ اليد دليل مطلق الملك، بخلاف النتاج لأن اليد لا تدل عليه، وكذا على الإعتاق وأختيه وعلى الولاء الثابت بها. قال: "وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين قضي عليه بالنكول وألزمه ما ادعى عليه" وقال الشافعي: لا يقضى به بل يرد اليمين على المدعي، فإذا حلف يقضي به لأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الكاذبة والترفع عن الصادقة واشتباه الحال فلا ينتصب حجة مع الاحتمال، ويمين المدعي دليل الظهور فيصار إليه. ولنا أن النكول دل على كونه باذلا أو مقرا، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين إقامة للواجب ودفعا للضرر عن نفسه فترجح هذا الجانب، ولا وجه لرد اليمين على المدعي لما قدمناه. قال: "وينبغي للقاضي أن يقول له إني أعرض عليك اليمين ثلاثا، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه" وهذا الإنذار لإعلامه بالحكم إذ هو موضع الخفاء. قال: "فإذا كرر العرض عليه ثلاث مرات قضي عليه بالنكول" وهذا التكرار ذكره الخصاف رحمه الله لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبلاء العذر، فأما المذهب أنه لو قضي بالنكول بعد العرض مرة جاز لما قدمناه هو الصحيح والأول أولى، ثم النكول قد يكون حقيقيا كقوله لا أحلف، وقد يكون حكميا بأن يسكت، وحكمه حكم الأول إذا علم أنه لا آفة به من طرش أو خرس هو الصحيح. قال: "وإن كانت الدعوى نكاحا لم يستحلف المنكر" عند أبي حنيفة رحمه الله، ولا يستحلف عنده في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود واللعان. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يستحلف في ذلك كله إلا في الحدود واللعان. وصورة الاستيلاد: أن تقول الجارية أنا أم ولد لمولاي وهذا ابني منه وأنكر المولى، لأنه لو ادعى المولى ثبت الاستيلاد بإقراره ولا يلتفت إلى إنكارها. لهما أن النكول إقرار لأنه يدل على كونه كاذبا في الإنكار على ما قدمناه، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين الصادقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 إقامة للواجب فكان إقرارا أو بدلا عنه، والإقرار يجري في هذه الأشياء لكنه إقرار فيه شبهة، والحدود تندرئ بالشبهات، واللعان في معنى الحد. ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه بذل لأن معه لا تبقى اليمين واجبة لحصول المقصود وإنزاله باذلا أولى كي لا يصير كاذبا في الإنكار، والبذل لا يجري في هذه الأشياء. وفائدة الاستحلاف القضاء بالنكول فلا يستحلف، إلا أن هذا بذل لدفع الخصومة فيملكه المكاتب والعبد المأذون بمنزلة الضيافة اليسيرة، وصحته في الدين بناء على زعم المدعي وهو ما يقبضه حقا لنفسه، والبذل معناه هاهنا ترك المنع وأمر المال هين. قال: "ويستحلف السارق، فإن نكل ضمن ولم يقطع" لأن المنوط بفعله شيئان: الضمان ويعمل فيه النكول. والقطع ولا يثبت به فصار كما إذا شهد عليها رجل وامرأتان. قال: "وإذا ادعت المرأة طلاقا قبل الدخول استحلف الزوج، فإن نكل ضمن نصف المهر في قولهم جميعا" لأن الاستحلاف يجري في الطلاق عندهم لا سيما إذا كان المقصود هو المال، وكذا في النكاح إذا ادعت هي الصداق لأن ذلك دعوى المال، ثم يثبت المال بنكوله ولا يثبت النكاح، وكذا في النسب إذا ادعى حقا كالإرث والحجر في اللقيط، والنفقة وامتناع الرجوع في الهبة، لأن المقصود هذه الحقوق، وإنما يستحلف في النسب المجرد عندهما إذا كان يثبت بإقراره كالأب والابن في حق الرجل والأب في حق المرأة، لأن في دعواها الابن تحميل النسب على الغير والمولى والزوج في حقهما. قال: "ومن ادعى قصاصا على غيره فجحده استحلف" بالإجماع "ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: لزمه الأرش فيهما لأن النكول إقرار فيه شبهة عندهما فلا يثبت به القصاص ويجب به المال، خصوصا إذا كان امتناع القصاص لمعنى من جهة من عليه، كما إذا أقر بالخطأ والولي يدعي العمد. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فيجري فيها البذل، بخلاف الأنفس فإنه لو قال اقطع يدي فقطعها لا يجب الضمان، وهذا إعمال للبذل إلا أنه لا يباح لعدم الفائدة، وهذا البذل مفيد لاندفاع الخصومة به فصار كقطع اليد للآكلة وقلع السن للوجع، وإذا امتنع القصاص في النفس واليمين حق مستحق يحبس به كما في القسامة. قال: "وإذا قال المدعي لي بينة حاضرة قيل، لخصمه أعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيام" كي لا يغيب نفسه فيضيع حقه والكفالة بالنفس جائزة عندنا وقد مر من قبل، وأخذ الكفيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 بمجرد الدعوى استحسان عندنا لأن فيه نظرا للمدعي وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه وهذا لأن الحضور مستحق عليه بمجرد الدعوى حتى يعدى عليه ويحال بينه وبين أشغاله فصح التكفيل بإحضاره والتقدير بثلاثة أيام مروي عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو الصحيح، ولا فرق في الظاهر بين الخامل والوجيه والحقير من المال والخطير، ثم لا بد من قوله لي بينة حاضرة للتكفيل ومعناه في المصر، حتى لو قال المدعي لا بينة لي أو شهودي غيب لا يكفل لعدم الفائدة. قال: "فإن فعل وإلا أمر بملازمته" كي لا يذهب حقه "إلا أن يكون غريبا فيلازم مقدار مجلس القاضي" وكذا لا يكفل إلا إلى آخر المجلس، فالاستثناء منصرف إليهما لأن في أخذ الكفيل والملازمة زيادة على ذلك إضرارا به بمنعه عن السفر ولا ضرر في هذا المقدار ظاهرا، وكيفية الملازمة نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 فصل: في كيفية اليمين والاستحلاف قال: "واليمين بالله عز وجل دون غيره" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر" وقال عليه الصلاة والسلام: "من حلف بغير الله فقد أشرك" "وقد تؤكد بذكر أوصافه" وهو التغليظ، وذلك مثل قوله: قل والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ما لفلان هذا عليك ولا قبلك هذا المال الذي ادعاه وهو كذا وكذا ولا شيء منه. وله أن يزيد في التغليظ على هذا وله أن ينقص منه، إلا أنه يحتاط فيه كي لا يتكرر عليه اليمين، لأن المستحق يمين واحدة، والقاضي بالخيار إن شاء غلظ وإن شاء لم يغلظ فيقول: قل بالله أو والله، وقيل: لا يغلظ على المعروف بالصلاح ويغلظ على غيره، وقيل: يغلظ في الخطير من المال دون الحقير. قال: "ولا يستحلف بالطلاق ولا بالعتاق" لما روينا، وقيل في زماننا إذا ألح الخصم ساغ للقاضي أن يحلف بذلك لقلة المبالاة باليمين بالله وكثرة الامتناع بسبب الحلف بالطلاق. قال: "ويستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام" لقوله عليه الصلاة والسلام لابن صوريا الأعور: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أن حكم الزنا في كتابكم هذا" ولأن اليهودي يعتقد نبوة موسى والنصراني نبوة عيسى عليهما السلام فيغلظ على كل واحد منهما بذكر المنزل على نبيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 يستحلف "المجوسي بالله الذي خلق النار" وهكذا ذكر محمد رحمه الله في الأصل. يروى عن أبي حنيفة رحمه الله في النوادر أنه لا يستحلف أحدا إلا بالله خالصا. وذكر الخصاف رحمه الله أنه لا يستحلف غير اليهودي والنصراني إلا بالله، وهو اختيار بعض مشايخنا لأن في ذكر النار مع اسم الله تعالى تعظيما وما ينبغي أن تعظم، بخلاف الكتابين لأن كتب الله معظمة "والوثني لا يحلف إلا بالله" لأن الكفرة بأسرهم يعتقدون الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] . قال: "ولا يحلفون في بيوت عبادتهم" لأن القاضي لا يحضرها بل هو ممنوع عن ذلك. قال: "ولا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمان ولا مكان" لأن المقصود تعظيم المقسم به وهو حاصل بدون ذلك، وفي إيجاب ذلك حرج على القاضي حيث يكلف حضورها وهو مدفوع. قال: "ومن ادعى أنه ابتاع من هذا عبده بألف فجحد استحلف بالله ما بينكما بيع قائم فيه ولا يستحلف بالله ما بعت" لأنه قد يباع العين ثم يقال فيه "ويستحلف في الغصب بالله ما يستحق عليك رده ولا يحلف بالله ما غصبت" لأنه قد يغصب ثم يفسخ بالهبة والبيع "وفي النكاح بالله ما بينكما نكاح قائم في الحال" لأنه قد يطرأ عليه الخلع "وفي دعوى الطلاق بالله ما هي بائن منك الساعة بما ذكرت ولا يستحلف بالله ما طلقها" لأن النكاح قد يجدد بعد الإبانة فيحلف على الحاصل في هذه الوجوه، لأنه لو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. أما على قول أبي يوسف رحمه الله يحلف في جميع ذلك على السبب إلا إذا عرض بما ذكرنا فحينئذ يحلف على الحاصل. وقيل: ينظر إلى إنكار المدعى عليه إن أنكر السبب يحلف عليه، وإن أنكر الحكم يحلف على الحاصل. فالحاصل هو الأصل عندهما إذا كان سببا يرتفع إلا إذا كان فيه ترك النظر في جانب المدعي فحينئذ يحلف على السبب بالإجماع، وذلك أن تدعي مبتوتة نفقة العدة والزوج ممن لا يراها، أو ادعى شفعة بالجوار والمشتري لا يراها، لأنه لو حلف على الحاصل يصدق في يمينه في معتقده فيفوت النظر في حق المدعي، وإن كان سببا لا يرتفع برافع فالتحليف على السبب بالإجماع "كالعبد المسلم إذا ادعى العتق على مولاه، بخلاف الأمة والعبد الكافر" لأنه يكرر الرق عليها بالردة واللحاق وعليه بنقض العهد واللحاق، ولا يكرر على العبد المسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 قال: "ومن ورث عبدا وادعاه آخر يستحلف على علمه" لأنه لا علم له بما صنع المورث فلا يحلف على البتات "وإن وهب له أو اشتراه يحلف على البتات" لوجود المطلق لليمين إذ الشراء سبب لثبوت الملك وضعا وكذا الهبة. قال: "ومن ادعى على آخر مالا فافتدى يمينه أو صالحه منها على عشرة فهو جائز" وهو مأثور عن عثمان رضي الله عنه. "وليس له أن يستحلفه على تلك اليمين أبدا" لأنه أسقط حقه، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 باب التحالف مدخل ... باب التحالف قال: "وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمنا وادعى البائع أكثر منه أو اعترف البائع بقدر من المبيع وادعى المشتري أكثر منه فأقام أحدهما البينة قضى له بها" لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى والبينة أقوى منها "وإن أقام كل واحد منهما بينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى" لأن البينات للإثبات ولا تعارض في الزيادة "ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعا فبينة البائع أولى في الثمن وبينة المشتري أولى في المبيع" نظرا إلى زيادة الإثبات. "وإن لم يكن لكل واحد منهما بينة قيل للمشتري إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع، وقيل للبائع إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع" لأن المقصود قطع المنازعة، وهذه جهة فيه لأنه ربما لا يرضيان بالفسخ فإذا علما به يتراضيان به "فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر" وهذا التحالف قبل القبض على وفاق القياس، لأن البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري ينكره، والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره، فكل واحد منهما منكر فيحلف؛ فأما بعد القبض فمخالف للقياس لأن المشتري لا يدعي شيئا لأن المبيع سالم له فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكرها فيكتفى بحلفه، لكنا عرفناه بالنص وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا". قال: "ويبتدئ بيمين المشتري" وهذا قول محمد وأبي يوسف آخرا، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وهو الصحيح لأن المشتري أشدهما إنكارا لأنه يطالب أولا بالثمن ولأنه يتعجل فائدة النكول وهو إلزام الثمن، ولو بدئ بيمين البائع تتأخر المطالبة بتسليم المبيع إلى زمان استيفاء الثمن. وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا: يبدأ بيمين البائع لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قاله البائع" خصه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 بالذكر، وأقل فائدته التقديم. "وإن كان بيع عين بعين أو ثمن بثمن بدأ القاضي بيمين أيهما شاء" لاستوائهما "وصفة اليمين أن يحلف البائع بالله ما باعه بألف ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين" وقال في الزيادات: يحلف بالله ما باعه بألف ولقد باعه بألفين، يحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين ولقد اشتراه بألف يضمن الإثبات إلى النفي تأكيدا، والأصح الاقتصار على النفي لأن الأيمان على ذلك وضعت، دل عليه حديث القسامة "بالله ما قتلتم ولا علمتم له قاتلا". قال: "فإن حلفا فسخ القاضي البيع بينهما" وهذا يدل على أنه لا ينفسخ بنفس التحالف لأنه لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما فيبقى بيع مجهول فيفسخه القاضي قطعا للمنازعة. أو يقال إذا لم يثبت البدل يبقى بيعا بلا بدل وهو فاسد ولا بد من الفسخ في البيع الفاسد. قال: "وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه دعوى الآخر" لأنه جعل باذلا فلم يبق دعواه معارضا لدعوى الآخر فلزم القول بثبوته. قال: "وإن اختلفا في الأجل أو في شرط الخيار أو في استيفاء بعض الثمن فلا تحالف بينهما" لأن هذا اختلاف في غير المعقود عليه والمعقود به، فأشبه الاختلاف في الحط والإبراء، وهذا لأن بانعدامه لا يختل ما به قوام العقد، بخلاف الاختلاف في وصف الثمن وجنسه حيث يكون بمنزلة الاختلاف في القدر في جريان التحالف لأن ذلك يرجع إلى نفس الثمن فإن الثمن دين وهو يعرف بالوصف، ولا كذلك الأجل لأنه ليس بوصف؛ ألا ترى أن الثمن موجود بعد مضيه. قال: "والقول قول من ينكر الخيار والأجل مع يمينه" لأنهما يثبتان بعارض الشرط والقول لمنكر العوارض. قال: "فإن هلك المبيع ثم اختلفا لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والقول قول المشتري. وقال محمد رحمه الله: يتحالفان ويفسخ البيع على قيمة الهالك" وهو قول الشافعي رحمه الله، وعلى هذا إذا خرج المبيع عن ملكه أو صار بحال لا يقدر على رده بالعيب. لهما أن كل واحد منهما يدعي غير العقد الذي يدعيه صاحبه والآخر ينكره وأنه يفيد دفع زيادة الثمن فيتحالفان؛ كما إذا اختلفا في جنس الثمن بعد هلاك السلعة، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن التحالف بعد القبض على خلاف القياس لأنه سلم للمشتري ما يدعيه وقد ورد الشرع به في حال قيام السلعة، والتحالف فيه يفضي إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 الفسخ، ولا كذلك بعد هلاكها لارتفاع العقد فلم يكن في معناه ولأنه لا يبالي بالاختلاف في السبب بعد حصول المقصود، وإنما يراعى من الفائدة ما يوجبه العقد، وفائدة دفع زيادة الثمن ليست من موجباته وهذا إذا كان الثمن دينا، فإن كان عينا يتحالفان لأن المبيع في أحد الجانبين قائم فتوفر فائدة الفسخ ثم يرد مثل الهالك إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل. قال: "وإن هلك أحد العبدين ثم اختلفا في الثمن لم يتحالفا عند أبي حنيفة إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك من الثمن. وفي الجامع الصغير: القول قول المشتري مع يمينه عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ العبد الحي ولا شيء له. وقال أبو يوسف: يتحالفان في الحي ويفسخ العقد في الحي، والقول قول المشتري في قيمة الهالك. وقال محمد: يتحالفان عليهما ويرد الحي وقيمة الهالك" لأن هلاك كل السلعة لا يمنع التحالف عنده فهلاك البعض أولى. ولأبي يوسف أن امتناع التحالف للهلاك فيتقدر بقدره. ولأبي حنيفة أن التحالف على خلاف القياس في حال قيام السلعة وهي اسم لجميع أجزائها فلا تبقى السلعة بفوات بعضها، ولأنه لا يمكن التحالف في القائم إلا على اعتبار حصته من الثمن فلا بد من القسمة وهي تعرف بالحذر والظن فيؤدي إلى التحالف مع الجهل وذلك لا يجوز إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك أصلا لأنه حينئذ يكون الثمن كله بمقابلة القائم ويخرج الهالك عن العقد فيتحالفان. هذا تخريج بعض المشايخ ويصرف الاستثناء عندهم إلى التحالف كما ذكرنا وقالوا: إن المراد من قوله في الجامع الصغير يأخذ الحي ولا شيء له، معناه: لا يأخذ من ثمن الهالك شيئا أصلا. وقال بعض المشايخ: يأخذ من ثمن الهالك بقدر ما أقر به المشتري، وإنما لا يأخذ الزيادة. وعلى قول هؤلاء ينصرف الاستثناء إلى يمين المشتري لا إلى التحالف، لأنه لما أخذ البائع بقول المشتري فقد صدقه فلا يحلف المشتري، ثم تفسير التحالف على قول محمد ما بيناه في القائم. وإذا حلفا ولم يتفقا على شيء فادعى أحدهما الفسخ أو كلاهما يفسخ العقد بينهما ويأمر القاضي المشتري برد الباقي وقيمة الهالك. واختلفوا في تفسيره على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، والصحيح أنه يحلف المشتري بالله ما اشتريتهما بما يدعيه البائع، فإن نكل لزمه دعوى البائع، وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بالثمن الذي يدعيه المشتري، فإن نكل لزمه دعوى المشتري، وإن حلف يفسخان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 العقد في القائم وتسقط حصته من الثمن ويلزم المشتري حصة الهالك ويعتبر قيمتهما في الانقسام يوم القبض. "وإن اختلفا في قيمة الهالك يوم القبض فالقول قول البائع، وأيهما أقام البينة تقبل بينته. وإن أقاماها فبينة البائع أولى" وهو قياس ما ذكر في بيوع الأصل "اشترى عبدين وقبضهما ثم رد أحدهما بالعيب وهلك الآخر عنده يجب عليه ثمن ما هلك عنده ويسقط عنه ثمن ما رده وينقسم الثمن على قيمتهما. فإن اختلفا في قيمة الهالك فالقول قول البائع" لأن الثمن قد وجب باتفاقهما ثم المشتري يدعي زيادة السقوط بنقصان قيمة الهالك والبائع ينكره والقول للمنكر "وإن أقاما البينة فبينة البائع أولى" لأنها أكثر إثباتا ظاهرا لإثباتها الزيادة في قيمة الهالك وهذا لفقه. وهو أن في الأيمان تعتبر الحقيقة لأنها تتوجه على أحد العاقدين وهما يعرفان حقيقة الحال فبني الأمر عليها والبائع منكر حقيقة فلذا كان القول قوله، وفي البينات يعتبر الظاهر لأن الشاهدين لا يعلمان حقيقة الحال فاعتبر الظاهر في حقهما والبائع مدع ظاهرا فلهذا تقبل بينته أيضا وتترجح بالزيادة الظاهرة على ما مر، وهذا يبين لك معنى ما ذكرناه من قول أبي يوسف رحمه الله. قال: "ومن اشترى جارية وقبضها ثم تقايلا ثم اختلفا في الثمن فإنهما يتحالفان ويعود البيع الأول" ونحن ما أثبتنا التحالف فيه بالنص لأنه ورد في البيع المطلق والإقالة فسخ في حق المتعاقدين، وإنما أثبتناه بالقياس لأن المسألة مفروضة قبل القبض والقياس يوافقه على ما مر ولهذا نقيس الإجارة على البيع قبل القبض والوارث على العاقد والقيمة على العين فيما إذا استهلكه في يد البائع غير المشتري. قال: "ولو قبض البائع المبيع بعد الإقالة فلا تحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد" لأنه يرى النص معلولا بعد القبض أيضا. قال: "ومن أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم تقايلا ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المسلم إليه ولا يعود السلم" لأن الإقالة في باب السلم لا تحتمل النقض لأنه إسقاط فلا يعود السلم، بخلاف الإقالة في البيع؛ ألا ترى أن رأس مال السلم لو كان عرضا فرده بالعيب وهلك قبل التسليم إلى رب السلم لا يعود السلم ولو كان ذلك في بيع العين يعود البيع دل على الفرق بينهما. قال: "وإذا اختلف الزوجان في المهر فادعى الزوج أنه تزوجها بألف وقالت تزوجني بألفين فأيهما أقام البينة تقبل بينته" لأنه نور دعواه بالحجة. "وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 لأنها تثبت الزيادة، معناه إذا كان مهر مثلها أقل مما ادعته "وإن لم يكن لهما بينة تحالفا عند أبي حنيفة ولا يفسخ النكاح" لأن أثر التحالف في انعدام التسمية، وأنه لا يخل بصحة النكاح لأن المهر تابع فيه، بخلاف البيع لأن عدم التسمية يفسده على ما مر فيفسخ، "ولكن يحكم مهر المثل، فإن كان مثل ما اعترف به الزوج أو أقل قضى بما قال الزوج" لأن الظاهر شاهد له "وإن كان مثل ما ادعته المرأة أو أكثر قضى بما ادعته المرأة، وإن كان مهر المثل أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضى لها بمهر المثل" لأنهما لما تحالفا لم تثبت الزيادة على مهر المثل ولا الحط عنه. قال رضي الله عنه: ذكر التحالف أولا ثم التحكيم، وهذا قول الكرخي رحمه الله لأن مهر المثل لا اعتبار له مع وجود التسمية وسقوط اعتبارها بالتحالف ولهذا يقدم في الوجوه كلها، ويبدأ بيمين الزوج عند أبي حنيفة ومحمد تعجيلا لفائدة النكول كما في المشتري، وتخريج الرازي بخلافه وقد استقصيناه في النكاح وذكرنا خلاف أبي يوسف فلا نعيده. "ولو ادعى الزوج النكاح على هذا العبد والمرأة تدعيه على هذه الجارية فهو كالمسألة المتقدمة، إلا أن قيمة الجارية إذا كانت مثل مهر المثل يكون لها قيمتها دون عينها" لأن تملكها لا يكون إلا بالتراضي ولم يوجد فوجبت القيمة "وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا" معناه اختلفا في البدل أو في المبدل لأن التحالف في البيع قبل القبض على وفاق القياس على ما مر، والإجارة قبل القبض المنفعة نظير البيع قبل قبض المبيع وكلامنا قبل استيفاء المنفعة "فإن وقع الاختلاف في الأجرة يبدأ بيمين المستأجر" لأنه منكر لوجوب الأجرة "وإن وقع في المنفعة يبدأ بيمين المؤجر، وأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه، وأيهما أقام البينة قبلت، ولو أقاماها فبينة المؤجر أولى إن كان الاختلاف في الأجرة، وإن كان في المنافع فبينة المستأجر أولى، وإن كان فيهما قبلت بينة كل واحد منهما فيما يدعيه من الفضل" نحو أن يدعي هذا شهرا بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة يقضي بشهرين بعشرة. قال: "وإن اختلفا بعد الاستيفاء لم يتحالفا وكان القول قول المستأجر" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ظاهر، لأن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما، وكذا على أصل محمد لأن الهلاك إنما لا يمنع عنده في المبيع لما أن له قيمة تقوم مقامه فيتحالفان عليها، ولو جرى التحالف هاهنا وفسخ العقد فلا قيمة لأن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد وتبين أنه لا عقد. وإذا امتنع فالقول للمستأجر مع يمينه لأنه هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 المستحق عليه "وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي وكان القول في الماضي قول المستأجر" لأن العقد ينعقد ساعة فساعة فيصير في كل جزء من المنفعة كأن ابتداء العقد عليها، بخلاف البيع لأن العقد فيه دفعة واحدة، فإذا تعذر في البعض تعذر في الكل. قال: "وإذا اختلف المولى والمكاتب في مال الكتابة لم يتحالفا عند أبي حنيفة. وقالا: يتحالفان وتفسخ الكتابة" وهو قول الشافعي لأنه عقد معاوضة يقبل الفسخ فأشبه البيع، والجامع أن المولى يدعي بدلا زائدا ينكره العبد والعبد يدعي استحقاق العتق عليه عند أداء القدر الذي يدعيه والمولى ينكره فيتحالفان كما إذا اختلفا في الثمن. ولأبي حنيفة أن البدل مقابل بفك الحجر في حق اليد والتصرف للحال وهو سالم للعبد وإنما ينقلب مقابلا بالعتق عند الأداء فقبله لا مقابلة فبقي اختلافا في قدر البدل لا غير فلا يتحالفان. قال: "وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت فما يصلح للرجال فهو للرجل كالعمامة" لأن الظاهر شاهد له "وما يصلح للنساء فهو للمرأة كالوقاية" لشهادة الظاهر لها "وما يصلح لهما كالآنية فهو للرجل" لأن المرأة وما في يدها في يد الزوج والقول في الدعاوى لصاحب اليد، بخلاف ما يختص بها لأنه يعارضه ظاهر أقوى منه، ولا فرق بين ما إذا كان الاختلاف في حال قيام النكاح أو بعدما وقعت الفرقة. "فإن مات أحدهما واختلفت ورثته مع الآخر فما يصلح للرجال والنساء فهو للباقي منهما" لأن اليد للحي دون الميت، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: يدفع إلى المرأة ما يجهز به مثلها، والباقي للزوج مع يمينه لأن الظاهر أن المرأة تأتي بالجهاز وهذا أقوى فيبطل به ظاهر يد الزوج، ثم في الباقي لا معارض لظاهر فيعتبر "والطلاق والموت سواء" لقيام الورثة مقام مورثهم "وقال محمد: وما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما يكون لهما فهو للرجل أو لورثته" لما قلنا لأبي حنيفة "والطلاق والموت سواء" لقيام الوارث مقام المورث "وإن كان أحدهما مملوكا فالمتاع للحر في حالة الحياة" لأن يد الحر أقوى "وللحي بعد الممات" لأنه لا يد للميت فخلت يد الحي عن المعارض "وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: العبد المأذون له في التجارة والمكاتب بمنزلة الحر" لأن لهما يدا معتبرة في الخصومات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 فصل: فيمن لا يكون خصما "وإن قال المدعى عليه هذا الشيء أودعنيه فلان الغائب أو رهنه عندي أو غصبته منه وأقام بينة على ذلك فلا خصومة بينه وبين المدعي" وكذا إذا قال: آجرنيه وأقام البينة لأنه أثبت ببينته أن يده ليست بيد خصومة. وقال ابن شبرمة: لا تندفع الخصومة لأنه تعذر إثبات الملك للغائب لعدم الخصم عنه ودفع الخصومة بناء عليه. قلنا: مقتضى البينة شيئان ثبوت الملك للغائب ولا خصم فيه فلم يثبت، ودفع خصومة المدعي وهو خصم فيه فيثبت وهو كالوكيل بنقل المرأة وإقامتها البينة على الطلاق كما بيناه من قبل، ولا تندفع بدون إقامة البينة كما قاله ابن أبي ليلى لأنه صار خصما بظاهر يده، فهو بإقراره يريد أن يحول حقا مستحقا على نفسه فلا يصدق إلا بالحجة، كما إذا ادعى تحول الدين من ذمته إلى ذمة غيره. "وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان الرجل صالحا فالجواب كما قلناه، وإن كان معروفا بالحيل لا تندفع عنه الخصومة" لأن المحتال من الناس قد يدفع ماله إلى مسافر يودعه إياه ويشهد عليه الشهود فيحتال لإبطال حق غيره، فإذا اتهمه القاضي به لا يقبله. "ولو قال الشهود: أودعه رجل لا نعرفه لا تندفع عنه الخصومة" لاحتمال أن يكون المودع هو هذا المدعي، ولأنه ما أحاله إلى معين يمكن للمدعي اتباعه، فلو اندفعت لتضرر به المدعي، ولو قالوا نعرفه بوجهه ولا نعرفه باسمه ونسبه فكذلك الجواب عند محمد للوجه الثاني، وعند أبي حنيفة تندفع لأنه أثبت ببينته أن العين وصل إليه من جهة غيره حيث عرفه الشهود بوجهه، بخلاف الفصل الأول فلم تكن يده يد خصومة وهو المقصود، والمدعي هو الذي أضر بنفسه حيث نسي خصمه أو أضره شهوده، وهذه المسألة مخمسة كتاب الدعوى وقد ذكرنا الأقوال الخمسة. "وإن قال: ابتعته من الغائب فهو خصم" لأنه لما زعم أن يده يد ملك اعترف بكونه خصما "وإن قال المدعي: غصبته مني أو سرقته مني لا تندفع الخصومة وإن أقام ذو اليد البينة على الوديعة" لأنه إنما صار خصما بدعوى الفعل عليه لا بيده، بخلاف دعوى الملك المطلق لأنه خصم فيه باعتبار يده حتى لا يصح دعواه على غير ذي اليد ويصح دعوى الفعل. "وإن قال المدعي: سرق مني وقال صاحب اليد: أودعنيه فلان وأقام البينة لم تندفع الخصومة" وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو استحسان، وقال محمد: تندفع لأنه لم يدع الفعل عليه فصار كما إذا قال: غصب مني على ما لم يسم فاعله. ولهما أن ذكر الفعل يستدعي الفاعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 لا محالة، والظاهر أنه هو الذي في يده إلا أنه لم يعينه درءا للحد شفقة عليه وإقامة لحسبة السر فصار كما إذا قال: سرقت، بخلاف الغصب لأنه لا حد فيه فلا يحترز عن كشفه "وإن قال المدعي: ابتعته من فلان وقال صاحب اليد: أودعنيه فلان ذلك أسقطت الخصومة بغير بينة" لأنهما توافقا على أن أصل الملك فيه لغيره فيكون وصولها إلى يد ذي اليد من جهته فلم تكن يده يد خصومة إلا أن يقيم البينة أن فلانا وكله بقبضه لأنه أثبت ببينته كونه أحق بإمساكها، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 باب ما يدعيه الرجلان مدخل ... باب ما يدعيه الرجلان قال: "وإذا ادعى اثنان عينا في يد آخر كل واحد منهما يزعم أنها له وأقاما البينة بها بينهما" وقال الشافعي في قول: تهاترتا، وفي قول يقرع بينهما؛ لأن إحدى البينتين كاذبة بيقين لاستحالة اجتماع الملكين في الكل في حالة واحدة وقد تعذر التمييز فيتهاتران أو يصار إلى القرعة لأن النبي عليه الصلاة والسلام أقرع فيه وقال: "اللهم أنت الحكم بينهما" ولنا حديث تميم بن طرفة: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام في ناقة وأقام كل واحد منهما البينة فقضى بها بينهما نصفين". وحديث القرعة كان في الابتداء ثم نسخ، ولأن المطلق للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود بل يعتمد أحدهما سبب الملك والآخر اليد فصحت الشهادتان فيجب العمل بهما ما أمكن، وقد أمكن بالتنصيف إذ المحل يقبله، وإنما ينصف لاستوائهما في سبب الاستحقاق. قال: "فإن ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة وأقاما بينة لم يقض بواحدة من البينتين" لتعذر العمل بهما؛ لأن المحل لا يقبل الاشتراك. قال: "ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما" لأن النكاح مما يحكم به بتصادق الزوجين، وهذا إذا لم تؤقت البينتان، فأما إذا وقتا فصاحب الوقت الأول أولى " وإن أقرت لأحدهما قبل إقامة البينة فهي امرأته" لتصادقهما "وإن أقام الآخر البينة قضي بها" لأن البينة أقوى من الإقرار "ولو تفرد أحدهما بالدعوى والمرأة تجحد فأقام البينة وقضى بها القاضي له ثم ادعى الآخر وأقام البينة على مثل ذلك لا يحكم بها" لأن القضاء الأول قد صح فلا ينقض بما هو مثله بل هو دونه "إلا أن يؤقت شهود الثاني سابقا" لأنه ظهر الخطأ في الأول بيقين. وكذا إذا كانت المرأة في يد الزوج ونكاحه ظاهر لا تقبل بينة الخارج إلا على وجه السبق. قال: "ولو ادعى اثنان كل واحد منهما أنه اشترى منه هذا العبد" معناه من صاحب اليد "وأقاما بينة فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن وإن شاء ترك" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 لأن القاضي يقضي بينهما نصفين لاستوائهما في السبب فصار كالفضوليين إذا باع كل واحد منهما من رجل وأجاز المالك البيعين يخير كل واحد منهما لأنه تغير عليه شرط عقده، فلعل رغبته في تملك الكل فيرده ويأخذ كل الثمن. "فإن قضى القاضي به بينهما فقال أحدهما: لا أختار لم يكن للآخر أن يأخذ جميعه" لأنه صار مقضيا عليه في النصف فانفسخ البيع فيه، وهذا لأنه خصم فيه لظهور استحقاقه بالبينة لولا بينة صاحبه بخلاف ما لو قال ذلك قبل تخيير القاضي حيث يكون له أن يأخذ الجميع لأنه يدعي الكل ولم يفسخ سببه، والعود إلى النصف للمزاحمة ولم توجد، ونظيره تسليم أحد الشفيعين قبل القضاء، ونظير الأول تسليمه بعد القضاء ولو ذكر كل واحد منهما تاريخا فهو للأول منهما" لأنه أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد فاندفع الآخر به "ولو وقتت إحداهما ولم تؤقت الأخرى فهو لصاحب الوقت" لثبوت ملكه في ذلك الوقت واحتمل الآخر أن يكون قبله أو بعده فلا يقضي له بالشك "وإن لم يذكرا تاريخا ومع أحدهما قبض فهو أولى" ومعناه أنه في يده لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأنهما استويا في الإثبات فلا تنقض اليد الثابتة بالشك، وكذا لو ذكر الآخر وقتا لما بينا. إلا أن يشهدوا أن شراءه كان قبل شراء صاحب اليد لأن الصريح يفوق الدلالة. قال: "وإن ادعى أحدهما شراء والآخر هبة وقبضا" معناه من واحد "وأقاما بينة ولا تاريخ معهما فالشراء أولى" لأن الشراء أقوى لكونه معاوضة من الجانبين، ولأنه يثبت الملك بنفسه والملك في الهبة يتوقف على القبض، وكذا الشراء والصدقة مع القبض لما بينا "والهبة والقبض والصدقة مع القبض سواء حتى يقضي بينهما" لاستوائهما في وجه التبرع، ولا ترجيح باللزوم لأنه يرجع إلى المآل والترجيح بمعنى قائم في الحال، وهذا فيما لا يحتمل القسمة صحيح، وكذا فيما يحتملها عند البعض لأن الشيوع طارئ. وعند البعض لا يصح لأنه تنفيذ الهبة في الشائع وصار كإقامة البينتين على الارتهان وهذا أصح. قال: "وإذا ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأته أنه تزوجها عليه فهما سواء" لاستوائهما في القوة فإن كل واحد منهما عقد معاوضة يثبت الملك بنفسه وهذا عند أبي يوسف. وقال محمد: الشراء أولى ولها على الزوج القيمة لأنه أمكن العمل بالبينتين بتقديم الشراء، إذ التزوج على عين مملوكة للغير صحيح وتجب قيمته عند تعذر تسليمه "وإن ادعى أحدهما رهنا وقبضا والآخر هبة وقبضا وأقاما بينة فالرهن أولى" وهذا استحسان، وفي القياس الهبة أولى لأنها تثبت الملك والرهن لا يثبته. وجه الاستحسان أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 المقبوض بحكم الرهن مضمون وبحكم الهبة غير مضمون وعقد الضمان أقوى. بخلاف الهبة بشرط العوض لأنه بيع انتهاء والبيع أولى من الرهن لأنه عقد ضمان يثبت الملك صورة ومعنى، والرهن لا يثبته إلا عند الهلاك معنى لا صورة فكذا الهبة بشرط العوض "وإن أقام الخارجان البينة على الملك والتاريخ فصاحب التاريخ الأقدم أولى" لأنه أثبت أنه أول المالكين فلا يتلقى الملك إلا من جهته ولم يتلق الآخر منه. قال: "ولو ادعيا الشراء من واحد" معناه من غير صاحب اليد "وأقاما البينة على تاريخين فالأول أولى" لما بينا أنه أثبته في وقت لا منازع له فيه "وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من آخر وذكرا تاريخا فهما سواء" لأنهما يثبتان الملك لبائعيهما فيصير كأنهما حضرا ثم يخير كل واحد منهما كما ذكرنا من قبل "ولو وقتت إحدى البينتين وقتا ولم تؤقت الأخرى قضى بينهما نصفين" لأن توقيت إحداهما لا يدل على تقدم الملك لجواز أن يكون الآخر أقدم، بخلاف ما إذا كان البائع واحدا لأنهما اتفقا على أن الملك لا يتلقى إلا من جهته، فإذا أثبت أحدهما تاريخا يحكم به حتى يتبين أنه تقدم شراء غيره. "ولو ادعى أحدهما الشراء من رجل والآخر الهبة والقبض من غيره والثالث الميراث من أبيه والرابع الصدقة والقبض من آخر قضى بينهم أرباعا" لأنهم يتلقون الملك من باعتهم فيجعل كأنهم حضروا وأقاموا البينة على الملك المطلق. قال: "وإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ وصاحب اليد بينة على ملك أقدم تاريخا كان أولى" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو رواية عن محمد. وعنه أنه لا تقبل بينة ذي اليد رجع إليه لأن البينتين قامتا على مطلق الملك ولم يتعرضا لجهة الملك فكان التقدم والتأخر سواء. ولهما أن البينة مع التاريخ متضمنة معنى الدفع، فإن الملك إذا ثبت لشخص في وقت فثبوته لغيره بعده لا يكون إلا بالتلقي من جهته وبينة ذي اليد على الدفع مقبولة، وعلى هذا الخلاف لو كانت الدار في أيديهما والمعنى ما بينا، ولو أقام الخارج وذو اليد البينة على ملك مطلق ووقتت إحداهما دون الأخرى فعلى قول أبي حنيفة ومحمد الخارج أولى. وقال أبو يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة: صاحب الوقت أولى لأنه أقدم وصار كما في دعوى الشراء إذا أرخت إحداهما كان صاحب التاريخ أولى. ولهما أن بينة ذي اليد إنما تقبل لتضمنها معنى الدفع، ولا دفع هاهنا حيث وقع الشك في التلقي من جهته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وعلى هذا إذا كانت الدار في أيديهما ولو كانت في يد ثالث، المسألة بحالها فهما سواء عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: الذي وقت أولى. وقال محمد: الذي أطلق أولى لأنه ادعى أولية الملك بدليل استحقاق الزوائد ورجوع الباعة بعضهم على البعض. ولأبي يوسف أن التاريخ يوجب الملك في ذلك الوقت بيقين. والإطلاق يحتمل غير الأولية، والترجيح بالتيقن؛ كما لو ادعيا الشراء. ولأبي حنيفة أن التاريخ يضامه احتمال عدم التقدم فسقط اعتباره فصار كما لو أقاما البينة على ملك مطلق، بخلاف الشراء لأنه أمر حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات فيترجح جانب صاحب التاريخ. قال: "وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة على النتاج فصاحب اليد أولى" لأن البينة قامت على ما لا تدل عليه فاستويا، وترجحت بينة ذي اليد باليد فيقضي له وهذا هو الصحيح خلافا لما يقوله عيسى بن أبان إنه تتهاتر البينتان ويترك في يده لا على طريق القضاء, ولو تلقى كل واحد منهما الملك من رجل أقام البينة على النتاج عنده فهو بمنزلة إقامتها على النتاج في يد نفسه "ولو أقام أحدهما البينة على الملك والآخر على النتاج فصاحب النتاج أولى أيهما كان" لأن بينته قامت على أولية الملك فلا يثبت للآخر إلا بالتلقي من جهته، وكذلك إذا كانت الدعوى بين خارجين فبينة النتاج أولى لما ذكرنا "ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضي له إلا أن يعيدها ذو اليد" لأن الثالث لم يصر مقضيا عليه بتلك القضية، وكذا المقضي عليه بالملك المطلق إذا أقام البينة على النتاج تقبل وينقض القضاء لأنه بمنزلة النص والأول بمنزلة الاجتهاد. قال: "وكذلك النسج في الثياب التي لا تنسج إلا مرة" كغزل القطن "وكذلك كل سبب في الملك لا يتكرر" لأنه في معنى النتاج كحلب اللبن واتخاذ الجبن واللبد والمرعزى وجز الصوف، وإن كان يتكرر قضي به للخارج بمنزلة الملك المطلق وهو مثل الخز والبناء والغرس وزراعة الحنطة والحبوب، فإن أشكل يرجع إلى أهل الخبرة لأنهم أعرف به، فإن أشكل عليهم قضي به للخارج لأن القضاء ببينته هو الأصل والعدول عنه بخبر النتاج، فإذا لم يعلم يرجع إلى الأصل. قال: "وإن أقام الخارج البينة على الملك المطلق وصاحب اليد البينة على الشراء منه كان صاحب اليد أولى" لأن الأول إن كان يدعي أولية الملك فهذا تلقى منه، وفي هذا لا تنافي فصار كما إذا أقر بالملك له ثم ادعى الشراء منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 قال: "وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ معهما تهاترت البينتان وتترك الدار في يد ذي اليد" قال: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعلى قول محمد يقضي بالبينتين ويكون للخارج لأن العمل بهما ممكن فيجعل كأنه اشترى ذو اليد من الآخر وقبض ثم باع الدار لأن القبض دلالة السبق على ما مر، ولا يعكس الأمر لأن البيع قبل القبض لا يجوز وإن كان في العقار عنده. ولهما أن الإقدام على الشراء إقرار منه بالملك للبائع فصار كأنهما قامتا على الإقرارين وفيه التهاتر بالإجماع، كذا هاهنا، ولأن السبب يراد لحكمه وهو الملك ولا يمكن القضاء لذي اليد إلا بملك مستحق فبقي القضاء له بمجرد السبب وأنه لا يفيده. ثم لو شهدت البينتان على نقد الثمن فالألف بالألف قصاص عندهما إذا استويا لوجود قبض مضمون من كل جانب، وإن لم يشهدوا على نقد الثمن فالقصاص مذهب محمد للوجوب عنده. ولو شهد الفريقان بالبيع والقبض تهاترتا بالإجماع، لأن الجمع غير ممكن عند محمد لجواز كل واحد من البيعين بخلاف الأول. وإن وقتت البينتان في العقار ولم تثبتا قبضا ووقت الخارج أسبق يقضى لصاحب اليد عندهما فيجعل كأن الخارج اشترى أولا ثم باع قبل القبض من صاحب اليد، وهو جائز في العقار عندهما. وعند محمد يقضي للخارج لأنه لا يصح له بيعه قبل القبض فبقي على ملكه، وإن أثبتا قبضا يقضي لصاحب اليد لأن البيعين جائزان على القولين، وإن كان وقت صاحب اليد أسبق يقضى للخارج في الوجهين فيجعل كأنه اشتراها ذو اليد وقبض ثم باع ولم يسلم أو سلم ثم وصل إليه بسبب آخر. قال: "وإن أقام أحد المدعيين شاهدين والآخر أربعة فهما سواء" لأن شهادة كل الشاهدين علة تامة كما في حالة الانفراد، والترجيح لا يقع بكثرة العلل بل بقوة فيها على ما عرف. قال: "وإذا كانت دار في يد رجل ادعاها اثنان أحدهما جميعها والآخر نصفها وأقاما البينة فلصاحب الجميع ثلاثة أرباعها ولصاحب النصف ربعها عند أبي حنيفة" اعتبارا بطريق المنازعة، فإن صاحب النصف لا ينازع الآخر في النصف فسلم له بلا منازع واستوت منازعتهما في النصف الآخر فينصف بينهما "وقالا: هي بينهما أثلاثا" فاعتبرا طريق العول والمضاربة، فصاحب الجميع يضرب بكل حقه سهمين وصاحب النصف بسهم واحد فتقسم أثلاثا، ولهذه المسألة نظائر وأضداد لا يحتملها هذا المختصر وقد ذكرنا في الزيادات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 قال: "ولو كانت في أيديهما سلم لصاحب الجميع نصفها على وجه القضاء ونصفها لا على وجه القضاء" لأنه خارج في النصف فيقضي ببينته، والنصف الذي في يديه صاحبه لا يدعيه لأن مدعاه النصف وهو في يده سالم له، ولو لم ينصرف إليه دعواه كان ظالما بإمساكه ولا قضاء بدون الدعوى فيترك في يده. قال: "وإذا تنازعا في دابة وأقام كل واحد منهما بينة أنها نتجت عنده، وذكرا تاريخا وسن الدابة يوافق أحد التاريخين فهو أولى" لأن الحال يشهد له فيترجح "وإن أشكل ذلك كانت بينهما" لأنه سقط التوقيت فصار كأنهما لم يذكرا تاريخا. وإن خالف سن الدابة الوقتين بطلت البينتان، كذا ذكره الحاكم رحمه الله لأنه ظهر كذب الفريقين فيترك في يد من كانت في يده. قال: "وإذا كان عبد في يد رجل أقام رجلان عليه البينة أحدهما بغصب والآخر بوديعة فهو بينهما" لاستوائهما في الاستحقاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 فصل: في التنازع بالأيدي قال: "وإذا تنازعا في دابة أحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى" لأن تصرفه أظهر فإنه يختص بالملك "وكذلك إذا كان أحدهما راكبا في السرج والآخر رديفه فالراكب أولى" بخلاف ما إذا كانا راكبين حيث تكون بينهما لاستوائهما في التصرف "وكذا إذا تنازعا في بعير وعليه حمل لأحدهما فصاحب الحمل أولى" لأنه هو المتصرف "وكذا إذا تنازعا في قميص أحدهما لابسه والآخر متعلق بكمه فاللابس أولى" لأنه أظهرهما تصرفا "ولو تنازعا في بساط أحدهما جالس عليه والآخر متعلق به فهو بينهما" معناه لا على طريق القضاء لأن القعود ليس بيد عليه فاستويا. قال: "وإذا كان ثوب في يد رجل وطرف منه في يد آخر فهو بينهما نصفان" لأن الزيادة من جنس الحجة فلا توجب زيادة في الاستحقاق. قال: "وإذا كان صبي في يد رجل وهو يعبر عن نفسه فقال: أنا حر فالقول قوله" لأنه في يد نفسه "ولو قال أنا عبد لفلان فهو عبد للذي هو في يده" لأنه أقر بأنه لا يد له حيث أقر بالرق "وإن كان لا يعبر عن نفسه فهو عبد للذي هو في يده" لأنه لا يد له على نفسه لما كان لا يعبر عنها وهو بمنزلة المتاع، بخلاف ما إذا كان يعبر، فلو كبر وادعى الحرية لا يكون القول قوله لأنه ظهر الرق عليه في حال صغره. قال: "وإذا كان الحائط لرجل عليه جذوع أو متصل ببنائه ولآخر عليه هرادي فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 لصاحب الجذوع والاتصال، والهرادي ليست بشيء" لأن صاحب الجذوع صاحب استعمال والآخر صاحب تعلق فصار كدابة تنازعا فيها ولأحدهما حمل عليها وللآخر كوز معلق بها، والمراد بالاتصال مداخلة لبن جداره فيه ولبن هذا في جداره وقد يسمى اتصال تربيع، وهذا شاهد ظاهر لصاحبه لأن بعض بنائه على بعض بناء هذا الحائط. وقوله الهرادي ليست بشيء يدل على أنه لا اعتبار للهرادي أصلا، وكذا البواري لأن الحائط لا تبنى لها أصلا حتى لو تنازعا في حائط ولأحدهما عليه هرادي وليس للآخر عليه شيء فهو بينهما "ولو كان لكل واحد منهما عليه جذوع ثلاثة فهو بينهما" لاستوائهما ولا معتبر بالأكثر منها بعد الثلاثة "وإن كان جذوع أحدهما أقل من ثلاثة فهو لصاحب الثلاثة وللآخر موضع جذعه" في رواية، وفي رواية لكل واحد منهما ما تحت خشبته، ثم قيل ما بين الخشب بينهما، وقيل على قدر خشبهما، والقياس أن يكون بينهما نصفين لأنه لا معتبر بالكثرة في نفس الحجة. وجه الثاني أن الاستعمال من كل واحد بقدر خشبته. ووجه الأول أن الحائط يبنى لوضع كثير الجذوع دون الواحد والمثنى فكان الظاهر شاهدا لصاحب الكثير، إلا أنه يبقى له حق الوضع لأن الظاهر ليس بحجة في استحقاق يده "ولو كان لأحدهما جذوع وللآخر اتصال فالأول أولى" ويروى الثاني أولى. وجه الأول أن لصاحب الجذوع التصرف ولصاحب الاتصال اليد والتصرف أقوى. وجه الثاني أن الحائطين بالاتصال يصيران كبناء واحد من ضرورة القضاء له ببعضه القضاء بكله ثم يبقى للآخر حق وضع جذوعه لما قلنا، وهذه رواية الطحاوي وصححها الجرجاني. قال: "وإذا كانت دار منها في يد رجل عشرة أبيات وفي يد آخر بيت فالساحة بينهما نصفان" لاستوائهما في استعمالها وهو المرور فيها. قال: "وإذا ادعى رجلان أرضا" يعني يدعي كل واحد منهما "أنها في يده لم يقض أنها في يد واحد منهما حتى يقيما البينة أنها في أيديهما" لأن اليد فيها غير مشاهدة لتعذر إحضارها وما غاب عن علم القاضي فالبينة تثبته "وإن أقام أحدهما البينة جعلت في يده" لقيام الحجة لأن اليد حق مقصود "وإن أقاما البينة جعلت في أيديهما" لما بينا فلا يستحق لأحدهما من غير حجة "وإن كان أحدهما قد لبن في الأرض أو بني أو حفر فهي في يده" لوجود التصرف والاستعمال فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 باب دعوى النسب قال: "وإذا باع جارية فجاءت بولد فادعاه البائع فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 يوم باع فهو ابن البائع وأمه أم ولد له" وفي القياس هو قول زفر والشافعي رحمهما الله دعوته باطلة" لأن البيع اعتراف منه بأنه عبد فكان في دعواه مناقضا ولا نسب بدون الدعوى. وجه الاستحسان أن اتصال العلوق بملكه شهادة ظاهرة على كونه منه لأن الظاهر عدم الزنا. ومبنى النسب على الخفاء فيعفى فيه التناقض، وإذا صحت الدعوى استندت إلى وقت العلوق فتبين أنه باع أم ولده فيفسخ البيع لأن بيع أم الولد لا يجوز "ويرد الثمن" لأنه قبضه بغير حق "وإن ادعاه المشتري مع دعوة البائع أو بعده فدعوة البائع أولى" لأنها أسبق لاستنادها إلى وقت العلوق وهذه دعوة استيلاد "وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لم تصح دعوة البائع" لأنه لم يوجد اتصال العلوق بملكه تيقنا وهو الشاهد والحجة "إلا إذا صدقه المشتري" فيثبت النسب ويحمل على الاستيلاد بالنكاح، ولا يبطل البيع لأنا تيقنا أن العلوق لم يكن في ملكه فلا يثبت حقيقة العتق ولا حقه، وهذه دعوة تحرير وغير المالك ليس من أهله. "وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع ولأقل من سنتين لم تقبل دعوة البائع فيه إلا أن يصدقه المشتري" لأنه احتمل أن لا يكون العلوق في ملكه فلم توجد الحجة فلا بد من تصديقه، وإذا صدقه يثبت النسب ويبطل البيع والولد حر والأم أم ولد له كما في المسألة الأولى لتصادقهما واحتمال العلوق في ملكه. قال: "فإن مات الولد فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر لم يثبت الاستيلاد في الأم" لأنها تابعة للولد ولم يثبت نسبه بعد الموت لعدم حاجته إلى ذلك فلا يتبعه استيلاد الأم "وإن ماتت الأم فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر يثبت النسب في الولد وأخذه البائع"؛ لأن الولد هو الأصل في النسب فلا يضره فوات التبع، وإنما كان الولد أصلا لأنها تضاف إليه يقال أم الولد، وتستفيد الحرية من جهته لقوله عليه الصلاة والسلام: "أعتقها ولدها" والثابت لها حق الحرية وله حقيقتها، والأدنى يتبع الأعلى "ويرد الثمن كله في قول أبي حنيفة. وقالا: يرد حصة الولد ولا يرد حصة الأم" لأنه تبين أنه باع أم ولده، وماليتها غير متقومة عنده في العقد والغصب فلا يضمنها المشتري، وعندهما متقومة فيضمنها. وفي الجامع الصغير: وإذا حملت الجارية في ملك رجل فباعها فولدت في يد المشتري فادعى البائع الولد وقد أعتق المشتري الأم فهو ابنه يرد عليه بحصته من الثمن. ولو كان المشتري إنما أعتق الولد فدعواه باطلة. ووجه الفرق أن الأصل في هذا الباب الولد، والأم تابعة له على ما مر. وفي الفصل الأول قام المانع من الدعوة والاستيلاد وهو العتق في التبع وهو الأم فلا يمتنع ثبوته في الأصل وهو الولد، وليس من ضروراته. كما في ولد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 المغرور فإنه حر وأمه أمة لمولاها، وكما في المستولدة بالنكاح. وفي الفصل الثاني قام المانع بالأصل وهو الولد فيمتنع ثبوته فيه وفي التبع، وإنما كان الإعتاق مانعا لأنه لا يحتمل النقض كحق استلحاق النسب وحق الاستيلاد فاستويا من هذا الوجه، ثم الثابت من المشتري حقيقة الإعتاق والثابت في الأم حق الحرية، وفي الولد للبائع حق الدعوة والحق لا يعارض الحقيقة، والتدبير بمنزلة الإعتاق لأنه لا يحتمل النقض وقد ثبت به بعض آثار الحرية. وقوله في الفصل الأول يرد عليه بحصته من الثمن قولهما وعنده يرد بكل الثمن هو الصحيح كما ذكرنا في فصل الموت. قال: "ومن باع عبدا ولد عنده وباعه المشتري من آخر ثم ادعاه البائع الأول فهو ابنه ويبطل البيع" لأن البيع يحتمل النقض، وما له من حق الدعوة لا يحتمله فينقض البيع لأجله، وكذا إذا كاتب الولد أو رهنه أو أجره أو كاتب الأم أو رهنها أو زوجها ثم كانت الدعوة لأن هذه العوارض تحتمل النقض فينقض ذلك كله وتصح الدعوة، بخلاف الإعتاق والتدبير على ما مر، وبخلاف ما إذا ادعاه المشتري أولا ثم ادعاه البائع حيث لا يثبت النسب من البائع لأن النسب الثابت من المشتري لا يحتمل النقض فصار كإعتاقه. قال: "ومن ادعى نسب أحد التوأمين ثبت نسبهما منه" لأنهما من ماء واحد، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر، وهذا لأن التوأمين ولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهر فلا يتصور علوق الثاني حادثا لأنه لا حبل لأقل من ستة أشهر. وفي الجامع الصغير: إذا كان في يده غلامان توأمان ولدا عنده فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الذي في يده فهما ابناه وبطل عتق المشتري؛ لأنه لما ثبت نسب الولد الذي عنده لمصادفة العلوق والدعوة ملكه إذ المسألة مفروضة فيه ثبت به حرية الأصل فيه فيثبت نسب الآخر، وحرية الأصل فيه ضرورة لأنهما توأمان، فتبين أن عتق المشتري وشراءه لاقى حرية الأصل فبطل، بخلاف ما إذا كان الولد واحدا لأن هناك يبطل العتق فيه مقصودا لحق دعوة البائع وهنا ثبت تبعا لحريته فيه حرية الأصل فافترقا "ولو لم يكن أصل العلوق في ملكه ثبت نسب الولد الذي عنده، ولا ينقض البيع فيما باع" لأن هذه دعوة تحرير لانعدام شاهد الاتصال فيقتصر على محل ولايته. قال: "وإن كان الصبي في يد رجل فقال: هو ابن عبدي فلان الغائب ثم قال: هو ابني لم يكن ابنه أبدا وإن جحد العبد أن يكون ابنه" وهذا عند أبي حنيفة "وقالا: إذا جحد العبد فهو ابن المولى" وعلى هذا الخلاف إذا قال: هو ابن فلان ولد على فراشه ثم ادعاه لنفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 لهما أن الإقرار ارتد برد العبد فصار كأن لم يكن الإقرار، والإقرار بالنسب يرتد بالرد وإن كان لا يحتمل النقض؛ ألا يرى أنه يعمل فيه الإكراه والهزل فصار كما إذا أقر المشتري على البائع بإعتاق المشترى فكذبه البائع ثم قال أنا أعتقته يتحول الولاء إليه، بخلاف ما إذا صدقه لأنه يدعي بعد ذلك نسبا ثابتا من الغير، وبخلاف ما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه فيصير كولد الملاعنة فإنه لا يثبت نسبه من غير الملاعن؛ لأن له أن يكذب نفسه. ولأبي حنيفة أن النسب مما لا يحتمل النقض بعد ثبوته والإقرار بمثله لا يرتد بالرد فبقي فتمتنع دعوته، كمن شهد على رجل بنسب صغير فردت شهادته لتهمة ثم ادعاه لنفسه، وهذا لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه، حتى لو صدقه بعد التكذيب يثبت النسب منه، وكذا تعلق به حق الولد فلا يرتد برد المقر له. ومسألة الولاء على هذا الخلاف، ولو سلم فالولاء قد يبطل باعتراض الأقوى كجر الولاء من جانب الأم إلى قوم الأب. وقد اعترض على الولاء الموقوف ما هو أقوى وهو دعوى المشتري فيبطل به، بخلاف النسب على ما مر. وهذا يصلح مخرجا على أصله فيمن يبيع الولد ويخاف عليه الدعوة بعد ذلك فيقطع دعواه إقراره بالنسب لغيره. قال: "وإذا كان الصبي في يد مسلم ونصراني فقال النصراني: هو ابني وقال المسلم هو عبدي فهو ابن النصراني وهو حر" لأن الإسلام مرجح فيستدعي تعارضا، ولا تعارض لأن نظر الصبي في هذا أوفر لأنه ينال شرف الحرية حالا وشرف الإسلام مآلا، إذ دلائل الوحدانية ظاهرة، وفي عكسه الحكم بالإسلام تبعا وحرمانه عن الحرية لأنه ليس في وسعه اكتسابها "ولو كانت دعوتهما دعوة البنوة فالمسلم أولى" ترجيحا للإسلام وهو أوفر النظرين. قال: "وإذا ادعت امرأة صبيا أنه ابنها لم تجز دعواها حتى تشهد امرأة على الولادة" ومعنى المسألة أن تكون المرأة ذات زوج لأنها تدعي تحميل النسب على الغير فلا تصدق إلا بحجة، بخلاف الرجل لأنه يحمل نفسه النسب، ثم شهادة القابلة كافية فيها لأن الحاجة إلى تعيين الولد. أما النسب فيثبت بالفراش القائم، وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل شهادة القابلة على الولادة "ولو كانت معتدة فلا بد من حجة تامة" عند أبي حنيفة وقد مر في الطلاق، وإن لم تكن منكوحة ولا معتدة قالوا: يثبت النسب منها بقولها لأن فيه إلزاما على نفسها دون غيرها. "وإن كان لها زوج وزعمت أنه ابنهما منه وصدقها فهو ابنهما وإن لم تشهد امرأة" لأنه التزم نسبه فأغنى ذلك عن الحجة. "وإن كان الصبي في أيديهما وزعم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 الزوج أنه ابنه من غيرها وزعمت أنه ابنها من غيره فهو ابنهما" لأن الظاهر أن الولد منهما لقيام أيديهما أو لقيام الفراش بينهما، ثم كل واحد منهما يريد إبطال حق صاحبه فلا يصدق عليه، وهو نظير ثوب في يد رجلين يقول كل واحد منهما هو بيني وبين رجل آخر غير صاحبه يكون الثوب بينهما إلا أن هناك يدخل المقر له في نصيب المقر لأن المحل يحتمل الشركة، وهاهنا لا يدخل لأن النسب لا يحتملها. قال: "ومن اشترى جارية فولدت ولدا عنده فاستحقها رجل غرم الأب قيمة الولد يوم يخاصم" لأنه ولد المغرور فإن المغرور من يطأ امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح فتلد منه ثم تستحق، وولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولأن النظر من الجانبين واجب فيجعل الولد حر الأصل في حق أبيه رقيقا في حق مدعيه نظرا لهما، ثم الولد حاصل في يده من غير صنعه فلا يضمنه إلا بالمنع كما في ولد المغصوبة، فلهذا تعتبر قيمة الولد يوم الخصومة لأنه يوم المنع. "ولو مات الولد لا شيء على الأب" لانعدام المنع، وكذا لو ترك مالا لأن الإرث ليس ببدل عنه، والمال لأبيه لأنه حر الأصل في حقه فيرثه "ولو قتله الأب يغرم قيمته" لوجود المنع وكذا لو قتله غيره فأخذ ديته، لأن سلامة بدله له كسلامته، ومنع بدله كمنعه فيغرم قيمته كما إذا كان حيا "ويرجع بقيمة الولد على بائعه" لأنه ضمن له سلامته كما يرجع بثمنه، بخلاف العقر لأنه لزمه لاستيفاء منافعها فلا يرجع به على البائع، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 كتاب الإقرار كيفية الإقرار مدخل ... كتاب الإقرار قال: "وإذا أقر الحر البالغ العاقل بحق لزمه إقراره مجهولا كان ما أقر به أو معلوما". اعلم أن الإقرار إخبار عن ثبوت الحق، وأنه ملزم لوقوعه دلالة؛ ألا ترى كيف ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا رضي الله عنه الرجم بإقراره وتلك المرأة باعترافها. وهو حجة قاصرة لقصور ولاية المقر عن غيره فيقتصر عليه. وشرط الحرية ليصح إقراره مطلقا، فإن العبد المأذون له وإن كان ملحقا بالحر في حق الإقرار، لكن المحجور عليه لا يصح إقراره بالمال ويصح بالحدود والقصاص لأن إقراره عهد موجبا لتعلق الدين برقبته وهي مال المولى فلا يصدق عليه، بخلاف المأذون لأنه مسلط عليه من جهته، وبخلاف الحد والدم لأنه مبقى على أصل الحرية في ذلك، حتى لا يصح إقرار المولى على العبد فيه، ولا بد من البلوغ والعقل لأن إقرار الصبي والمجنون غير لازم لانعدام أهلية الالتزام، إلا إذا كان الصبي مأذونا له لأنه ملحق بالبالغ بحكم الإذن، وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الحق قد يلزم مجهولا بأن أتلف مالا لا يدري قيمته أو يجرح جراحة لا يعلم أرشها أو تبقى عليه باقية حساب لا يحيط به علمه، والإقرار إخبار عن ثبوت الحق فيصح به، بخلاف الجهالة في المقر له لأن المجهول لا يصلح مستحقا، "ويقال له: بين المجهول" لأن التجهيل من جهته فصار كما إذا أعتق أحد عبديه "فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان" لأنه لزمه الخروج عما لزمه بصحيح إقراره وذلك بالبيان. قال: "فإن قال: لفلان علي شيء لزمه أن يبين ما له قيمة لأنه أخبر عن الوجوب في ذمته، وما لا قيمة له لا يجب فيها"، فإذا بين غير ذلك يكون رجوعا. قال: "والقول قوله مع يمينه إن ادعى المقر له أكثر من ذلك" لأنه هو المنكر فيه "وكذا إذا قال لفلان علي حق" لما بينا، وكذا لو قال: غصبت منه شيئا ويجب أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع تعويلا على العادة. "ولو قال: لفلان علي مال فالمرجع إليه في بيانه لأنه المجمل ويقبل قوله في القليل والكثير" لأن كل ذلك مال فإنه اسم لما يتمول به "إلا أنه لا يصدق في أقل من درهم" لأنه لا يعد مالا عرفا "ولو قال: مال عظيم لم يصدق في أقل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 مائتي درهم" لأنه أقر بمال موصوف فلا يجوز إلغاء الوصف والنصاب عظيم حتى اعتبر صاحبه غنيا به، والغني عظيم عند الناس. وعن أبي حنيفة أنه لا يصدق في أقل من عشرة دراهم وهي نصاب السرقة لأنه عظيم حيث تقطع به اليد المحترمة، وعنه مثل جواب الكتاب، وهذا إذا قال من الدراهم. أما إذا قال من الدنانير فالتقدير فيها بالعشرين، وفي الإبل بخمس وعشرين لأنه أدنى نصاب يجب فيه من جنسه وفي غير مال الزكاة بقيمة النصاب "ولو قال: أموال عظام فالتقدير بثلاثة نصب من أي فن سماه" اعتبارا لأدنى الجمع "ولو قال: دراهم كثيرة لم يصدق في أقل من عشرة" وهذا عند أبي حنيفة "وعندهما لم يصدق في أقل من مائتين" لأن صاحب النصاب مكثر حتى وجب عليه مواساة غيره، بخلاف ما دونه. وله أن العشرة أقصى ما ينتهي إليه اسم الجمع، يقال عشرة دراهم ثم يقال أحد عشر درهما فيكون هو الأكثر من حيث اللفظ فينصرف إليه "ولو قال دراهم فهي ثلاثة" لأنها أقل الجمع الصحيح "إلا أن يبين أكثر منها" لأن اللفظ يحتمله وينصرف إلى الوزن المعتاد "ولو قال: كذا كذا درهما لم يصدق في أقل من أحد عشر درهما" لأنه ذكر عددين مبهمين ليس بينهما حرف العطف وأقل ذلك من المفسر أحد عشر "ولو قال: كذا وكذا درهما لم يصدق في أقل من أحد وعشرين" لأنه ذكر عددين مبهمين بينهما حرف العطف، وأقل ذلك من المفسر أحد وعشرون فيحمل كل وجه على نظيره "ولو قال كذا درهما فهو درهم" لأنه تفسير للمبهم "ولو ثلث كذا بغير واو فأحد عشر" لأنه لا نظير له سواه "وإن ثلث بالواو فمائة وأحد وعشرون، وإن ربع يزاد عليها ألف" لأن ذلك نظيره. قال: "وإن قال: له علي أو قبلي فقد أقر بالدين" لأن " علي " صيغة إيجاب، وقبلي ينبئ عن الضمان على ما مر في الكفالة. "ولو قال المقر هو وديعة ووصل صدق" لأن اللفظ يحتمله مجازا حيث يكون المضمون عليه حفظه والمال محله فيصدق موصولا لا مفصولا. قال رضي الله تعالى عنه: وفي نسخ المختصر في قوله قبلي إنه إقرار بالأمانة لأن اللفظ ينتظمهما حتى صار قوله: لا حق لي قبل فلان إبراء عن الدين والأمانة جميعا، والأمانة أقلهما والأول أصح. "ولو قال عندي أو معي أو في بيتي أو في كيسي أو في صندوقي فهو إقرار بأمانة في يده" لأن كل ذلك إقرار بكون الشيء في يده وذلك يتنوع إلى مضمون وأمانة فيثبت وأقلها وهو الأمانة. "ولو قال له رجل: لي عليك ألف فقال اتزنها أو انتقدها أو أجلني بها أو قد قضيتكها فهو إقرار" لأن الهاء في الأول والثاني كناية عن المذكور في الدعوى، فكأنه قال: اتزن الألف التي لك علي، حتى لو لم يذكر حرف الكناية لا يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 إقرارا لعدم انصرافه إلى المذكور، والتأجيل إنما يكون في حق واجب، والقضاء يتلو الوجوب ودعوى الإبراء كالقضاء لما بينا، وكذا دعوى الصدقة والهبة لأن التمليك يقتضي سابقة الوجوب، وكذا لو قال أحلتك بها على فلان لأنه تحويل الدين. قال: "ومن أقر بدين مؤجل فصدقه المقر له في الدين وكذبه في التأجيل لزمه الدين حالا" لأنه أقر على نفسه بمال وادعى حقا لنفسه فيه فصار كما إذا أقر بعبد في يده وادعى الإجارة، بخلاف الإقرار بالدراهم السود لأنه صفة فيه وقد مرت المسألة في الكفالة. قال: "ويستحلف المقر له على الأجل" لأنه منكر حقا عليه واليمين على المنكر. "وإن قال: له علي مائة ودرهم لزمه كلها دراهم. ولو قال: مائة وثوب لزمه ثوب واحد، والمرجع في تفسير المائة إليه" وهو القياس في الأول، وبه قال الشافعي لأن المائة مبهمة والدرهم معطوف عليها بالواو العاطفة لا تفسيرا لها فبقيت المائة على إبهامها كما في الفصل الثاني. وجه الاستحسان وهو الفرق أنهم استثقلوا تكرار الدرهم في كل عدد واكتفوا بذكره عقيب العددين. وهذا فيما يكثر استعماله وذلك عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه وذلك في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون، أما الثياب وما لا يكال ولا يوزن فلا يكثر وجوبها فبقي على الحقيقة. "وكذا إذا قال: مائة وثوبان" لما بينا "بخلاف ما إذا قال: مائة وثلاثة أثواب" لأنه ذكر عددين مبهمين وأعقبها تفسيرا إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف فانصرف إليهما لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكانت كلها ثيابا. قال: "ومن أقر بتمر في قوصرة لزمه التمر والقوصرة" وفسره في الأصل بقوله: غصبت تمرا في قوصرة. ووجهه أن القوصرة وعاء له وظرف له، وغصب الشيء وهو مظروف لا يتحقق بدون الظرف فيلزمانه وكذا الطعام في السفينة والحنطة في الجوالق، بخلاف ما إذا قال: غصبت تمرا من قوصرة لأن كلمة من للانتزاع فيكون الإقرار بغصب المنزوع. قال: "ومن أقر بدابة في إصطبل لزمه الدابة خاصة" لأن الإصطبل غير مضمون بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعلى قياس قول محمد يضمنهما ومثله الطعام في البيت. قال: "ومن أقر لغيره بخاتم لزمه الحلقة والفص" لأن اسم الخاتم يشمل الكل. "ومن أقر له بسيف فله النصل والجفن والحمائل" لأن الاسم ينطوي على الكل. "ومن أقر بحجلة فله العيدان والكسوة" لانطلاق الاسم على الكل عرفا. "وإن قال غصبت ثوبا في منديل لزماه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 جميعا" لأنه ظرف لأن الثوب يلف فيه. "وكذا لو قال علي ثوب في ثوب" لأنه ظرف. بخلاف قوله: درهم في درهم حيث يلزمه واحد لأنه ضرب لا ظرف "وإن قال: ثوب في عشرة أثواب لم يلزمه إلا ثوب واحد عند أبي يوسف. وقال محمد: لزمه أحد عشر ثوبا" لأن النفيس من الثياب قد يلف في عشرة أثواب فأمكن حمله على الظرف. ولأبي يوسف أن حرف " في " يستعمل في البين والوسط أيضا، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي بين عبادي، فوقع الشك والأصل براءة الذمم، على أن كل ثوب موعى وليس بوعاء فتعذر حمله على الظرف فتعين الأول محملا. "ولو قال: لفلان علي خمسة في خمسة يريد الضرب والحساب لزمه خمسة" لأن الضرب لا يكثر المال. وقال الحسن: يلزمه خمسة وعشرون وقد ذكرناه في الطلاق "ولو قال أردت خمسة مع خمسة لزمه عشرة" لأن اللفظ يحتمله. "ولو قال له علي من درهم إلى عشرة أو قال ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة عند أبي حنيفة فيلزمه الابتداء وما بعده وتسقط الغاية، وقالا: يلزمه العشرة كلها" فتدخل الغايتان. وقال زفر: يلزمه ثمانية ولا تدخل الغايتان. "ولو قال له من داري ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط فله ما بينهما وليس له من الحائطين شيء" وقد مرت الدلائل في الطلاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 فصل: ومن قال: لحمل فلانة علي ألف درهم الخ ... فصل: "ومن قال: لحمل فلانة علي ألف درهم، فإن قال أوصى له فلان أو مات أبوه فورثه فالإقرار صحيح" لأنه أقر بسبب صالح لثبوت الملك له "ثم إذا جاءت به في مدة يعلم أنه كان قائما وقت الإقرار لزمه، فإن جاءت به ميتا فالمال للموصي والمورث حتى يقسم بين ورثته" لأنه إقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينتقل إلى الجنين بعد الولادة ولم ينتقل "ولو جاءت بولدين حيين فالمال بينهما، ولو قال المقر باعني أو أقرضني لم يلزمه شيء" لأنه بين مستحيلا. قال: "وإن أبهم الإقرار لم يصح عند أبي يوسف، وقال محمد: يصح" لأن الإقرار من الحجج فيجب إعماله وقد أمكن بالحمل على السبب الصالح. ولأبي يوسف أن الإقرار مطلقه ينصرف إلى الإقرار بسبب التجارة، ولهذا حمل إقرار العبد المأذون له وأحد المتفاوضين عليه فيصير كما إذا صرح به. قال: "ومن أقر بحمل جارية أو حمل شاة لرجل صح إقراره ولزمه" لأن له وجها صحيحا وهو الوصية به من جهة غيره فحمل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 قال: "ومن أقر بشرط الخيار بطل الشرط" لأن الخيار للفسخ والإخبار لا يحتمله "ولزمه المال" لوجود الصيغة الملزمة ولم تنعدم بهذا الشرط الباطل، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 باب الاستثناء وما في معناه قال: "ومن استثنى متصلا بإقراره صح الاستثناء ولزمه الباقي" لأن الاستثناء مع الجملة عبارة عن الباقي ولكن لا بد من الاتصال، "وسواء استثنى الأقل أو الأكثر، فإن استثنى الجميع لزمه الإقرار وبطل الاستثناء" لأنه تكلم بالحاصل بعد الثنيا ولا حاصل بعده فيكون رجوعا، وقد مر الوجه في الطلاق. "ولو قال: له علي مائة درهم إلا دينارا أو إلا قفيز حنطة لزمه مائة درهم إلا قيمة الدينار أو القفيز" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف "ولو قال له علي مائة درهم إلا ثوبا لم يصح الاستثناء وقال محمد: لا يصح فيهما" وقال الشافعي: يصح فيهما. ولمحمد أن الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ، وهذا لا يتحقق في خلاف الجنس. وللشافعي أنهما اتحدا جنسا من حيث المالية. ولهما أن المجانسة في الأول ثابتة من حيث الثمنية، وهذا في الدينار ظاهر. والمكيل والموزون أوصافها أثمان. أما الثوب فليس بثمن أصلا ولهذا لا يجب بمطلق عقد المعاوضة وما يكون ثمنا صلح مقدرا بالدراهم فصار مستثنى من الدراهم، وما لا يكون ثمنا لا يصلح مقدرا فبقي المستثنى من الدراهم مجهولا فلا يصح. قال: "ومن أقر بحق وقال إن شاء الله متصلا" بإقراره "لم يلزمه الإقرار" لأن الاستثناء بمشيئة الله إما إبطال أو تعليق؛ فإن كان الأول فقد بطل، وإن كان الثاني فكذلك، إما لأن الإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط، أو لأنه شرط لا يوقف عليه كما ذكرنا في الطلاق، بخلاف ما إذا قال لفلان علي مائة درهم إذا مت أو إذا جاء رأس الشهر أو إذا أفطر الناس لأنه في معنى بيان المدة فيكون تأجيلا لا تعليقا، حتى لو كذبه المقر له في الأجل يكون المال حالا. قال: "ومن أقر بدار واستثنى بناءها لنفسه فللمقر له الدار والبناء" لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى لا لفظا، والاستثناء تصرف في الملفوظ، والفص في الخاتم والنخلة في البستان نظير البناء في الدار لأنه يدخل فيه تبعا لا لفظا، بخلاف ما إذا قال إلا ثلثها أو إلا بيتا منها لأنه داخل فيه لفظا "ولو قال بناء هذا الدار لي والعرصة لفلان فهو كما قال" لأن العرصة عبارة عن البقعة دون البناء، فكأنه قال بياض هذه الأرض دون البناء لفلان، بخلاف ما إذا قال مكان العرصة أرضا حيث يكون البناء للمقر له لأن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء كالإقرار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 بالدار. "ولو قال له علي ألف درهم من ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه، فإن ذكر عبدا بعينه قيل للمقر له إن شئت فسلم العبد وخذ الألف وإلا فلا شيء لك" قال: وهذا على وجوه: أحدها: هذا وهو أن يصدقه ويسلم العبد، وجوابه ما ذكر، لأن الثابت بتصادقهما كالثابت معاينة. والثاني: أن يقول المقر له: العبد عبدك ما بعتكه وإنما بعتك عبدا غير هذا وفيه المال لازم على المقر لإقراره به عند سلامة العبد له وقد سلم فلا يبالى باختلاف السبب بعد حصول المقصود. والثالث: أن يقول العبد عبدي ما بعتك. وحكمه أن لا يلزم المقر شيء لأنه ما أقر بالمال إلا عوضا عن العبد فلا يلزمه دونه، ولو قال مع ذلك إنما بعتك غيره يتحالفان لأن المقر يدعي تسليم من عينه والآخر ينكر والمقر له يدعي عليه الألف ببيع غيره والآخر ينكره، وإذا تحالفا بطل المال، هذا إذا ذكر عبدا بعينه "وإن قال من ثمن عبد اشتريته ولم يعينه لزمه الألف ولا يصدق في قوله ما قبضت عند أبي حنيفة وصل أم فصل" لأنه رجوع فإنه أقر بوجوب المال رجوعا إلى كلمة علي، وإنكاره القبض في غير المعين ينافي الوجوب أصلا لأن الجهالة مقارنة كانت أو طارئة بأن اشترى عبدا ثم نسياه عند الاختلاط بأمثاله توجب هلاك المبيع فيمتنع وجوب نقد الثمن، وإذا كان كذلك كان رجوعا فلا يصح وإن كان موصولا. وقال أبو يوسف ومحمد: إن وصل صدق ولم يلزمه شيء، وإن فصل لم يصدق إذا أنكر المقر له أن يكون ذلك من ثمن عبد، وإن أقر أنه باعه متاعا فالقول قول المقر. ووجه ذلك أنه أقر بوجوب المال عليه وبين سببا وهو البيع، فإن وافقه الطالب في السبب وبه لا يتأكد الوجوب إلا بالقبض، والمقر ينكره فيكون القول له، وإن كذبه في السبب كان هذا من المقر بيانا مغيرا لأن صدر كلامه للوجوب مطلقا وآخره يحتمل انتفاءه على اعتبار عدم القبض والمغير يصح موصولا لا مفصولا. "ولو قال ابتعت منه بيعا إلا أني لم أقبضه فالقول قوله" بالإجماع لأنه ليس من ضرورة البيع القبض، بخلاف الإقرار بوجوب الثمن. قال: "وكذا لو قال من ثمن خمر أو خنزير" ومعنى المسألة إذا قال لفلان علي ألف من ثمن خمر أو خنزير "لزمه الألف ولم يقبل تفسيره عند أبي حنيفة وصل أم فصل" لأنه رجوع لأن ثمن الخمر والخنزير لا يكون واجبا وأول كلامه للوجوب "وقالا: إذا وصل لا يلزمه شيء" لأنه بين بآخر كلامه أنه ما أراد به الإيجاب وصار كما إذا قال في آخره إن شاء الله. قلنا: ذاك تعليق وهذا إبطال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 "ولو قال له علي ألف من ثمن متاع أو أقرضني ألفا وبين أنها زيوف أو نبهرجة وقال المقر له هي جياد لزمه الجياد عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: إن قال ذلك موصولا يصدق وإن قال مفصولا لا يصدق" وعلى هذا الخلاف إذا قال هي ستوقة أو رصاص وعلى هذا إذا قال، إلا أنها زيوف، وعلى هذا إذا قال لفلان علي ألف درهم زيوف من ثمن متاع. لهما أنه بيان مغير فيصح بشرط الوصل كالشرط والاستثناء، وهذا لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته، والستوقة بمجازه إلا أن مطلقه ينصرف إلى الجياد فكان بيان مغيرا من هذاالوجه وصار كما إذا قال إلا أنها وزن خمسة ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا رجوع لأن مطلق العقد يقتضي السلامة عن العيب والزيافة عيب، ودعوى العيب رجوع عن بعض موجبه، وصار كما إذا قال بعتك معيبا وقال المشتري بعتنيه سليما فالقول للمشتري لما بينا والستوقة ليست من جنس الأثمان والبيع يرد على الثمن فكان رجوعا وقوله إلا أنها وزن خمسة يصح استثناء، لأنه مقدار بخلاف الجودة لأن استثناء الوصف لا يجوز كاستثناء البناء في الدار بخلاف ما إذا قال له علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة لأن الرداءة نوع لا عيب. فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها، وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول في القرض أنه يصدق في الزيوف إذا وصل، لأن القرض يوجب رد مثل المقبوض، وقد يكون زيفا كما في الغصب. وجه الظاهر أن التعامل بالجياد فانصرف مطلقه إلها "ولو قال لفلان علي ألف درهم زيوف ولم يذكر البيع والقرض قيل يصدق" بالإجماع لأن اسم الدراهم يتناولها "وقيل لا يصدق" لأن مطلق الإقرار ينصرف إلى العقود لتعينها مشروعة، لا إلى الاستهلاك المحرم "ولو قال اغتصبت منه ألفا أو قال أودعني ثم قال هي زيوف أو نبهرجة صدق وصل أم فصل" لأن الإنسان يغصب ما يجد ويودع ما يملك فلا مقتضى له في الجياد ولا تعامل، فيكون بيان النوع فيصح وإن فصل ولهذا لو جاء زاد المغصوب، والوديعة بالمعيب كان القول له، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يصدق فيه مفصولا اعتبارا بالقرض إذ القبض فهيما هو الموجب للضمان ولو قال: هي ستوقة أو رصاص بعد ما أقر بالغصب والوديعة ووصل صدق وإن فصل لم يصدق لأن ستوقة ليست من جنس الدراهم لكن الاسم يتناولها مجازا فكان بيانا مغيرا فلا بد من الوصل. "ولو قال في هذا كله ألفا إلا أنه ينقص كذا لم يصدق وإن وصل صدق" لأن هذا استثناء المقدار والاستثناء يصح موصولا بخلاف الزيافة لأنها وصف واستثناء الأوصاف لا يصح واللفظ يتناول المقدار دون الوصف، وهو تصرف لفظي كما بينا ولو كان الفصل ضرورة انقطاع الكلام بانقطاع نفسه فهو واصل لعدم إمكانية الاحتراز عنه "ومن أقر بغصب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ثوب ثم جاء بثوب معيب فالقول له" لأن الغصب لا يختص بالسليم. "ومن قال لآخر: أخذت منك ألف درهم وديعة فهلكت فقال لا بل أخذتها غصبا فهو ضامن، وإن قال أعطيتنيها وديعة فقال لا بل غصبتنيها لم يضمن" والفرق أن في الفصل الأول أقر بسبب الضمان وهو الأخذ ثم ادعى ما يبرئه وهو الإذن والآخر ينكره فيكون القول له مع اليمين. وفي الثاني أضاف الفعل إلى غيره وذاك يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب فكان القول لمنكره مع اليمين والقبض في هذا كالأخذ والدفع كالإعطاء. فإن قال قائل: إعطاؤه والدفع إليه لا يكون إلا بقبضه. فنقول: قد يكون بالتخلية والوضع بين يديه، ولو اقتضى ذلك فالمقتضى ثابت ضرورة فلا يظهر في انعقاده سبب الضمان، وهذا بخلاف ما إذا قال: أخذتها منك وديعة وقال الآخر لا بل قرضا حيث يكون القول للمقر وإن أقر بالأخذ لأنهما توافقا هنالك على أن الأخذ كان بالإذن إلا أن المقر له يدعي سبب الضمان وهو القرض والآخر ينكر فافترقا. "وإن قال هذه الألف كانت وديعة لي عند فلان فأخذتها فقال فلان هي لي فإنه يأخذها" لأنه أقر باليد له وادعى استحقاقها عليه وهو ينكر والقول للمنكر. "ولو قال: آجرت دابتي هذه فلانا فركبها وردها، أو قال: آجرت ثوبي هذا فلانا فلبسه ورده وقال فلان كذبت وهما لي فالقول قوله" وهذا عند أبي حنيفة "وقال أبو يوسف ومحمد: القول قول الذي أخذ منه الدابة والثوب" وهو القياس وعلى هذا الخلاف الإعارة والإسكان. "ولو قال خاط فلان ثوبي هذا بنصف درهم ثم قبضته وقال فلان الثوب ثوبي فهو على هذا الخلاف في الصحيح" وجه القياس ما بيناه في الوديعة. وجه الاستحسان وهو الفرق أن اليد في الإجارة والإعارة ضرورية تثبت ضرورة استيفاء المعقود عليه وهو المنافع فيكون عدما فيما وراء الضرورة فلا يكون إقرارا له باليد مطلقا، بخلاف الوديعة لأن اليد فيها مقصودة والإيداع إثبات اليد قصدا فيكون الإقرار به اعترافا باليد للمودع. ووجه آخر: أن في الإجارة والإعارة والإسكان أقر بيد ثابتة من جهته فيكون القول قوله في كيفيته. ولا كذلك في مسألة الوديعة لأنه قال فيها كانت وديعة، وقد تكون من غير صنعه، حتى لو قال أودعتها كان على هذا الخلاف، وليس مدار الفرق على ذكر الأخذ في طرف الوديعة وعدمه في الطرف الآخر وهو الإجارة وأختاه؛ لأنه ذكر الأخذ في وضع الطرف الآخر في كتاب الإقرار أيضا، وهذا بخلاف ما إذا قال اقتضيت من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 فلان ألف درهم كانت لي عليه أو أقرضته ألفا ثم أخذتها منه وأنكر المقر له حيث يكون القول قوله لأن الديون تقضى بأمثالها، وذلك إنما يكون بقبض مضمون، فإذا أقر بالاقتضاء فقد أقر بسبب الضمان ثم ادعى تملكه عليه بما يدعيه من الدين مقاصة والآخر ينكره. أما هاهنا المقبوض عين ما ادعى فيه الإجارة وما أشبهها فافترقا، لو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذا الكرم وذلك كله في يد المقر فادعاها فلان وقال المقر لا بل ذلك كله لي استعنت بك ففعلت أو فعلته بأجر فالقول للمقر لأنه ما أقر له باليد وإنما أقر بمجرد فعل منه، وقد يكون ذلك في ملك في يد المقر وصار كما إذا قال خاط لي الخياط قميصي هذا بنصف درهم ولم يقل قبضته منه لم يكن إقرارا باليد ويكون القول للمقر لما أنه أقر بفعل منه وقد يخيط ثوبا في يد المقر كذا هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 باب إقرار المريض مدخل ... باب إقرار المريض قال: "وإذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فدين الصحة والدين المعروف الأسباب مقدم" وقال الشافعي رحمه الله: دين المرض ودين الصحة يستويان لاستواء سببهما وهو الإقرار الصادر عن عقل ودين، ومحل الوجوب الذمة القابلة للحقوق فصار كإنشاء التصرف مبايعة ومناكحة. ولنا أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء، ولهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث. بخلاف النكاح لأنه من الحوائج الأصلية وهو بمهر المثل، وبخلاف المبايعة بمثل القيمة لأن حق الغرماء تعلق بالمالية لا بالصورة، وفي حالة الصحة لم يتعلق بالمال لقدرته على الاكتساب فيتحقق التثمير، وهذه حالة العجز وحالتا المرض حالة واحدة لأنه حالة الحجر، بخلاف حالتي الصحة والمرض؛ لأن الأولى حالة إطلاق وهذه حالة عجز فافترقا، وإنما تقدم الديون المعروفة الأسباب لأنه لا تهمة في ثبوتها إذ المعاين لا مرد له، وذلك مثل بدل مال ملكه أو استهلكه وعلم وجوبه بغير إقراره أو تزوج امرأة بمهر مثلها، وهذا الدين مثل دين الصحة لا يقدم أحدهما على الآخر لما بينا، ولو أقر بعين في يده لآخر لم يصح في حق غرماء الصحة لتعلق حقهم به، ولا يجوز للمريض أن يقضي دين بعض الغرماء دون البعض؛ لأن في إيثار البعض إبطال حق الباقين، وغرماء الصحة والمرض في ذلك سواء، إلا إذا قضى ما استقرض في مرضه أو نقد ثمن ما اشترى في مرضه وقد علم بالبينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 قال: "فإذا قضيت" يعني الديون المقدمة "وفضل شيء يصرف إلى ما أقر به في حالة المرض" لأن الإقرار في ذاته صحيح، وإنما رد في حق غرماء الصحة فإذا لم يبق حقهم ظهرت صحته. قال: "وإن لم يكن عليه ديون في صحته جاز إقراره" لأنه لم يتضمن إبطال حق الغير وكان المقر له أولى من الورثة لقول عمر رضي الله عنه: إذا أقر المريض بدين جاز ذلك عليه في جميع تركته ولأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية وحق الورثة يتعلق بالتركة بشرط الفراغ ولهذا تقدم حاجته في التكفين. قال: "ولو أقر المريض لوارثه لا يصح إلا أن يصدقه فيه بقية الورثة" وقال الشافعي في أحد قوليه: يصح لأنه إظهار حق ثابت لترجح جانب الصدق فيه، وصار كالإقرار لأجنبي وبوارث آخر وبوديعة مستهلكة للوارث. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين" ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلا، ففي تخصيص البعض به إبطال حق الباقين، ولأن حالة المرض حالة الاستغناء والقرابة سبب التعلق، إلا أن هذا التعلق لم يظهر في حق الأجنبي لحاجته إلى المعاملة في الصحة؛ لأنه لو انحجر عن الإقرار بالمرض يمتنع الناس عن المعاملة معه، وقلما تقع المعاملة مع الوارث ولم يظهر في حق الإقرار بوارث آخر لحاجته أيضا، ثم هذا التعلق حق بقية الورثة، فإذا صدقوه فقد أبطلوه فيصح إقراره. قال: "وإذا أقر لأجنبي جاز وإن أحاط بماله" لما بينا، والقياس أن لا يجوز إلا في الثلث لأن الشرع قصر تصرفه عليه. إلا أنا نقول: لما صح إقراره في الثلث كان له التصرف في ثلث الباقي لأنه الثلث بعد الدين ثم وثم حتى يأتي على الكل. قال: "ومن أقر لأجنبي ثم قال: هو ابني ثبت نسبه منه وبطل إقراره، فإن أقر لأجنبية ثم تزوجها لم يبطل إقراره لها" ووجه الفرق أن دعوة النسب تستند إلى وقت العلوق فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح ولا كذلك الزوجية لأنها تقتصر على زمان التزوج فبقي إقراره لأجنبية. قال: "ومن طلق زوجته في مرضه ثلاثا ثم أقر لها بدين فلها الأقل من الدين ومن ميراثها منه" لأنهما متهمان فيه لقيام العدة، وباب الإقرار مسدود للوارث فلعله أقدم على هذا الطلاق ليصح إقراره لها زيادة على ميراثها ولا تهمة في أقل الأمرين فيثبت والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 فصل: ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف الخ ... فصل: "ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه وصدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كان مريضا" لأن النسب مما يلزمه خاصة فيصح إقراره به وشرط أن يولد مثله لمثله كي لا يكون مكذبا في الظاهر، وشرط أن لا يكون له نسب معروف لأنه يمنع ثبوته من غيره، وإنما شرط تصديقه لأنه في يد نفسه إذ المسألة في غلام يعبر عن نفسه، بخلاف الصغير على ما مر من قبل، ولا يمتنع بالمرض لأن النسب من الحوائج الأصلية "ويشارك الورثة في الميراث" لأنه لما ثبت نسبه منه صار كالوارث المعروف فيشارك ورثته. قال: "ويجوز إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى" لأنه أقر بما يلزمه وليس فيه تحميل النسب على الغير. "ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج والمولى" لما بينا "ولا يقبل بالولد" لأن فيه تحميل النسب على الغير وهو الزوج لأن النسب منه "إلا أن يصدقها الزوج" لأن الحق له "أو تشهد بولادته قابلة" لأن قول القابلة في هذا مقبول وقد مر في الطلاق، وقد ذكرنا في إقرار المرأة تفصيلا في كتاب الدعوى، ولا بد من تصديق هؤلاء، ويصح التصديق في النسب بعد موت المقر لأن النسب يبقى بعد الموت، وكذا تصديق الزوجة لأن حكم النكاح باق، وكذا تصديق الزوج بعد موتها لأن الإرث من أحكامه. وعند أبي حنيفة لا يصح لأن النكاح انقطع بالموت ولهذا لا يحل له غسلها عندنا، ولا يصح التصديق على اعتبار الإرث لأنه معدوم حالة الإقرار، وإنما يثبت بعد الموت والتصديق يستند إلى أول الإقرار. قال: "ومن أقر بنسب من غير الوالدين والولد نحو الأخ والعم لا يقبل إقراره في النسب" لأن فيه حمل النسب على الغير "فإن كان له وارث معروف قريب أو بعيد فهو أولى بالميراث من المقر له" لأنه لما لم يثبت نسبه منه لا يزاحم الوارث المعروف "وإن لم يكن له وارث استحق المقر له ميراثه" لأن له ولاية التصرف في مال نفسه عند عدم الوارث؛ ألا يرى أن له أن يوصي بجميعه فيستحق جميع المال وإن لم يثبت نسبه منه لما فيه من حمل النسب على الغير، وليست هذه وصية حقيقة حتى أن من أقر بأخ ثم أوصى لآخر بجميع ماله كان للموصى له ثلث جميع المال خاصة ولو كان الأول وصية لاشتركا نصفين لكنه بمنزلته، حتى لو أقر في مرضه بأخ وصدقه المقر له ثم أنكر المقر وراثته ثم أوصى بماله كله لإنسان كان ماله للموصى له؛ ولو لم يوص لأحد كان لبيت المال، لأن رجوعه صحيح لأن النسب لم يثبت فبطل إقراره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 قال: "ومن مات أبوه فأقر بأخ لم يثبت نسب أخيه" لما بينا "ويشاركه في الإرث" لأن إقراره تضمن شيئين: حمل النسب على الغير ولا ولاية له عليه، والاشتراك في المال وله فيه ولاية فيثبت كالمشتري وإذا أقر على البائع بالعتق لم يقبل إقراره حتى لا يرجع عليه بالثمن ولكنه يقبل في حق العتق. قال: "ومن مات وترك ابنين وله على آخر مائة درهم فأقر أحدهما أن أبوه قبض منها خمسين لا شيء للمقر وللآخر خمسون" لأن هذا إقرار بالدين على الميت لأن الاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون، فإذا كذبه أخوه استغرق الدين نصيبه كما هو المذهب عندنا، غاية الأمر أنهما تصادقا على كون المقبوض مشتركا بينهما، لكن المقر لو رجع على القابض بشيء لرجع القابض على الغريم ورجع الغريم على المقر فيؤدي إلى الدور، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 كتاب الصلح أضرب الصلح مدخل ... كتاب الصلح قال: "الصلح على ثلاثة أضرب: صلح مع إقرار، وصلح مع سكوت، وهو أن لا يقر المدعى عليه ولا ينكر وصلح مع إنكار وكل ذلك جائز" لإطلاق قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] ولقوله عليه الصلاة والسلام: "كل صلح جائز فيما بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" وقال الشافعي: لا يجوز مع إنكار أو سكوت لما روينا، وهذا بهذه الصفة لأن البدل كان حلالا على الدافع حراما على الآخذ فينقلب الأمر، ولأن المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة وهذا رشوة. ولنا ما تلونا وأول ما روينا وتأويل آخره أحل حراما لعينه كالخمر أو حرم حلالا لعينه كالصلح على أن لا يطأ الضرة ولأن هذا صلح بعد دعوى صحيحة فيقضى بجوازه لأن المدعي يأخذه عوضا عن حقه في زعمه وهذا مشروع، والمدعى عليه يدفعه لدفع الخصومة عن نفسه وهذا مشروع أيضا إذ المال وقاية الأنفس ودفع الرشوة لدفع الظلم أمر جائز. قال: "فإن وقع الصلح عن إقرار اعتبر فيه ما يعتبر في البياعات إن وقع عن مال بمال" لوجود معنى البيع وهو مبادلة المال بالمال بتراضيهما في حق المتعاقدين بتراضهما "فتجري فيه الشفعة إذا كان عقارا ويرد بالعيب ويثبت فيه خيار الشرط والرؤية، ويفسده جهالة البدل" لأنها المفضية إلى المنازعة دون جهالة المصالح عنه لأنه يسقط، ويشترط القدرة على تسليم البدل "وإن كان عن مال بمنافع يعتبر بالإجارات" لوجود معنى الإجارة وهو تمليك المنافع بمال والاعتبار في العقود لمعانيها فيشترط التوقيت فيها ويبطل الصلح بموت أحدهما في المدة لأنه إجارة. قال: "الصلح عن السكوت والإنكار في حق المدعى عليه لافتداء اليمين وقطع الخصومة وفي حق المدعي لمعنى المعاوضة" لما بينا. "ويجوز أن يختلف حكم العقد في حقهما كما يختلف حكم الإقالة في حق المتعاقدين وغيرهما" وهذا في الإنكار ظاهر، وكذا في السكوت فلأنه يحتمل الإقرار والجحود فلا يثبت كونه عرضا في حقه بالشك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 قال: "وإذا صالح عن دار لم يجب فيها الشفعة" معناه إذا كان عن إنكار أو سكوت لأنه يأخذها على أصل حقه ويدفع المال دفعا لخصومة المدعي وزعم المدعي لا يلزمه، بخلاف ما إذا صالح على دار حيث يجب فيها الشفعة لأن المدعي يأخذها عوضا عن المال فكان معاوضة في حقه فتلزمه الشفعة بإقراره وإن كان المدعى عليه يكذبه. قال: "وإذا كان الصلح عن إقرار واستحق بعض المصالح عنه رجع المدعى عليه بحصة ذلك من العوض" لأنه معاوضة مطلقة كالبيع وحكم الاستحقاق في البيع هذا "وإن وقع الصلح عن سكوت أو إنكار فاستحق المتنازع فيه رجع المدعي بالخصومة ورد العوض" لأن المدعى عليه ما بذل العوض إلا ليدفع خصومته عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق تبين أن لا خصومة له فيبقى العوض في يده غير مشتمل على غرضه فيسترده، وإن استحق بعض ذلك رد حصته ورجع بالخصومة فيه لأنه خلا العوض في هذا القدر عن الغرض. ولو استحق المصالح عليه عن إقرار رجع بكل المصالح عنه لأنه مبادلة، وإن استحق بعضه رجع بحصته. وإن كان الصلح عن إنكار أو سكوت رجع إلى الدعوى في كله أو بقدر المستحق إذا استحق بعضه لأن المبدل فيه هو الدعوى، وهذا بخلاف ما إذا باع منه على الإنكار شيئا حيث يرجع بالمدعى لأن الإقدام على البيع إقرار منه بالحق له، ولا كذلك الصلح لأنه قد يقع لدفع الخصومة، ولو هلك بدل الصلح قبل التسليم فالجواب فيه كالجواب في الاستحقاق في الفصلين. قال: "وإن ادعى حقا في دار ولم يبينه فصولح من ذلك ثم استحق بعض الدار لم يرد شيئا من العوض لأن دعواه يجوز أن يكون فيما بقي" بخلاف ما إذا استحق كله لأنه يعرى العوض عند ذلك عن شيء يقابله فيرجع بكله على ما قدمناه في البيوع. ولو ادعى دارا فصالحه على قطعة منها لم يصح الصلح لأن ما قبضه من عين حقه وهو على دعواه في الباقي. والوجه فيه أحد أمرين: إما أن يزيد درهما في بدل الصلح فيصير ذلك عوضا عن حقه فيما بقي، أو يلحق به ذكر البراءة عن دعوى الباقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فصل: والصلح جائز عن دعوى الأموال والمنافع ... فصل: "والصلح جائز عن دعوى الأموال" لأنه في معنى البيع على ما مر. قال: "والمنافع" لأنها تملك بعقد الإجارة فكذا بالصلح، والأصل فيه أن الصلح يجب حمله على أقرب العقود إليه وأشبهها به احتيالا لتصحيح تصرف العاقد ما أمكن. قال: "ويصح عن جناية العمد والخطأ" أما الأول فلقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} [البقرة:178] الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها نزلت في الصلح عن دم العمد وهو بمنزلة النكاح، حتى أن ما صلح مسمى فيه صلح هاهنا إذ كل واحد منهما مبادلة المال بغير المال إلا أن عند فساد التسمية هنا يصار إلى الدية لأنها موجب الدم. ولو صالح على خمر لا يجب شيء لأنه لا يجب بمطلق العفو. وفي النكاح يجب مهر المثل في الفصلين لأنه الموجب الأصلي، ويجب مع السكوت عنه حكما، ويدخل في إطلاق جواب الكتاب الجناية في النفس وما دونها، وهذا بخلاف الصلح عن حق الشفعة على مال حيث لا يصح لأنه حق التملك، ولا حق في المحل قبل التملك. وأما القصاص فملك المحل في حق الفعل فيصح الاعتياض عنه وإذا لم يصح الصلح تبطل الشفعة لأنها تبطل بالإعراض والسكوت، والكفالة بالنفس بمنزلة حق الشفعة حتى لا يجب المال بالصلح عنه، غير أن في بطلان الكفالة روايتين على ما عرف في موضعه. وأما الثاني وهو جناية الخطأ فلأن موجبها المال فيصير بمنزلة البيع، إلا أنه لا تصح الزيادة على قدر الدية لأنه مقدر شرعا فلا يجوز إبطاله فترد الزيادة، بخلاف الصلح عن القصاص حيث تجوز الزيادة على قدر الدية لأن القصاص ليس بمال وإنما يتقوم بالعقد، وهذا إذا صالح على أحد مقادير الدية، أما إذا صالح على غير ذلك جاز لأنه مبادلة بها، إلا أنه يشترط القبض في المجلس كي لا يكون افتراقا عن دين بدين. ولو قضى القاضي بأحد مقاديرها فصالح على جنس آخر منها بالزيادة جاز لأنه تعين الحق بالقضاء فكان مبادلة بخلاف الصلح ابتداء لأن تراضيهما على بعض المقادير بمنزلة القضاء في حق التعيين فلا تجوز الزيادة على ما تعين. قال: "ولا يجوز عن دعوى حد" لأنه حق الله تعالى لا حقه، ولا يجوز الاعتياض عن حق غيره، ولهذا لا يجوز الاعتياض إذا ادعت المرأة نسب ولدها لأنه حق الولد لا حقها، وكذا لا يجوز الصلح عما أشرعه إلى طريق العامة لأنه حق العامة فلا يجوز أن يصالح واحد على الانفراد عنه؛ ويدخل في إطلاق الجواب حد القذف لأن المغلب فيه حق الشرع. قال: "وإذا ادعى رجل على امرأة نكاحا وهي تجحد فصالحته على مال بذلته حتى يترك الدعوى جاز وكان في معنى الخلع" لأنه أمكن تصحيحه خلعا في جانبه بناء على زعمه وفي جانبها بدلا للمال لدفع الخصومة. قالوا: ولا يحل له أن يأخذ فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان مبطلا في دعواه. قال: "وإذا ادعت امرأة على رجل نكاحا فصالحها على مال بذله لها جاز" قال رضي الله عنه: هكذا ذكر في بعض نسخ المختصر، وفي بعضها قال: لم يجز. وجه الأول أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 يجعل زيادة في مهرها. وجه الثاني أنه بذل لها المال لتترك الدعوى فإن جعل ترك الدعوى منها فرقة فالزوج لا يعطي العوض في الفرقة، وإن لم يجعل فالحال على ما كان عليه قبل الدعوى فلا شيء يقابله العوض فلم يصح. قال: "وإن ادعى على رجل أنه عبده فصالحه على مال أعطاه جاز وكان في حق المدعي بمنزلة الإعتاق على مال" لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه في حقه لزعمه ولهذا يصح على حيوان في الذمة إلى أجل وفي حق المدعى عليه يكون لدفع الخصومة؛ لأنه يزعم أنه حر فجاز إلا أنه لا ولاء له لإنكار العبد إلا أن يقيم البينة فتقبل ويثبت الولاء. قال: "وإذا قتل العبد المأذون له رجلا عمدا لم يجز له أن يصالح عن نفسه، وإن قتل عبد له رجلا عمدا فصالحه جاز" ووجه الفرق أن رقبته ليست من تجارته ولهذا لا يملك التصرف فيه بيعا فكذا استخلاصا بمال المولى وصار كالأجنبي، أما عبده فمن تجارته وتصرفه فيه نافذ بيعا فكذا استخلاصا، وهذا لأن المستحق كالزائل عن ملكه وهذا شراؤه فيملكه. قال: "ومن غصب ثوبا يهوديا قيمته دون المائة فاستهلكه فصالحه منها على مائة درهم جاز عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يبطل الفضل على قيمته بما لا يتغابن الناس فيه" لأن الواجب هي القيمة وهي مقدرة فالزيادة عليها تكون ربا، بخلاف ما إذا صالح على عرض لأن الزيادة لا تظهر عند اختلاف الجنس، وبخلاف ما يتغابن الناس فيه لأنه يدخل تحت تقويم المقومين فلا تظهر الزيادة. ولأبي حنيفة أن حقه في الهالك باق حتى لو كان عبدا وترك أخذ القيمة يكون الكفن عليه أو حقه في مثله صورة ومعنى، لأن ضمان العدوان بالمثل، وإنما ينتقل إلى القيمة بالقضاء فقبله إذا تراضيا على الأكثر كان اعتياضا فلا يكون ربا، بخلاف الصلح بعد القضاء لأن الحق قد انتقل إلى القيمة. قال: "وإذا كان العبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته فالفضل باطل" وهذا بالاتفاق، وأما عندهما فلما بينا. والفرق لأبي حنيفة رحمه الله أن القيمة في العتق منصوص عليها وتقدير الشرع لا يكون دون تقدير القاضي فلا يجوز الزيادة عليه، وبخلاف ما تقدم لأنها غير منصوص عليها "وإن صالحه على عروض جاز" لما بينا أنه لا يظهر الفضل، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 باب التبرع بالصلح والتوكيل به قال: "ومن وكل رجلا بالصلح عنه فصالح لم يلزم الوكيل ما صالح عنه إلا أن يضمنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 والمال لازم للموكل" وتأويل هذه المسألة إذا كان الصلح عن دم العمد أو كان الصلح عن بعض ما يدعيه من الدين لأنه إسقاط محض فكان الوكيل فيه سفيرا ومعبرا فلا ضمان عليه كالوكيل بالنكاح إلا أن يضمنه لأنه حينئذ هو مؤاخذ بعقد الضمان لا بعقد الصلح، أما إذا كان الصلح عن مال بمال فهو بمنزلة البيع فترجع الحقوق إلى الوكيل فيكون المطالب بالمال هو الوكيل دون الموكل. قال: "وإن صالح رجل عنه بغير أمره فهو على أربعة أوجه: إن صالح بمال وضمنه تم الصلح" لأن الحاصل للمدعى عليه ليس إلا البراءة وفي حقها هو والأجنبي سواء فصلح أصيلا فيه إذا ضمنه، كالفضولي بالخلع إذا ضمن البدل ويكون متبرعا على المدعى عليه كما لو تبرع بقضاء الدين بخلاف ما إذا كان بأمره ولا يكون لهذا المصالح شيء من المدعى، وإنما ذلك للذي في يده لأن تصحيحه بطريق الإسقاط، ولا فرق في هذا بين ما إذا كان مقرا أو منكرا "وكذلك إن قال صالحتك على ألفي هذه أو على عبدي هذا صح الصلح ولزمه تسليمها" لأنه لما أضافه إلى مال نفسه فقد التزم تسليمه فصح الصلح "وكذلك لو قال علي ألف وسلمها" لأن التسليم إليه يوجب سلامة العوض له فيتم العقد لحصول مقصوده "ولو قال صالحتك على ألف فالعقد موقوف، فإن أجازه المدعى عليه جاز ولزمه الألف، وإن لم يجزه بطل" لأن الأصل في العقد إنما هو المدعى عليه لأن دفع الخصومة حاصل له، إلا أن الفضولي يصير أصيلا بواسطة إضافة الضمان إلى نفسه، فإذا لم يضفه بقي عاقدا من جهة المطلوب فيتوقف على إجازته. قال رضي الله عنه: ووجه آخر وهو أن يقول صالحتك على هذه الألف أو على هذا العبد ولم ينسبه إلى نفسه لأنه لما عينه للتسليم صار شارطا سلامته له فيتم بقوله. ولو استحق العبد أو وجد به عيبا فرده فلا سبيل له على المصالح لأنه التزم الإيفاء من محل بعينه ولم يلتزم شيئا سواه، فإن سلم المحل له تم الصلح، وإن لم يسلم له لم يرجع عليه بشيء. بخلاف ما إذا صالح على دراهم مسماة وضمنها ودفعها ثم استحقت أو وجدها زيوفا حيث يرجع عليه لأنه جعل نفسه أصيلا في حق الضمان ولهذا يجبر على التسليم، فإذا لم يسلم له ما سلمه يرجع عليه ببدله، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 باب الصلح في الدين مدخل ... باب الصلح في الدين قال: "وكل شيء وقع عليه الصلح وهو مستحق بعقد المداينة لم يحمل على المعاوضة، وإنما يحمل على أنه استوفى بعض حقه وأسقط باقيه، كمن له على آخر ألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 درهم فصالحه على خمسمائة، وكمن له على آخر ألف جياد فصالحه على خمسمائة زيوف جاز وكأنه أبرأه عن بعض حقه" وهذا لأن تصرف العاقل يتحرى تصحيحه ما أمكن، ولا وجه لتصحيحه معاوضة لإفضائه إلى الربا فجعل إسقاطا للبعض في المسألة الأولى وللبعض والصفة في الثانية "ولو صالح على ألف مؤجلة جاز وكأنه أجل نفس الحق" لأنه لا يمكن جعله معاوضة لأن بيع الدراهم بمثلها نسيئة لا يجوز فحملناه على التأخير "ولو صالحه على دنانير إلى شهر لم يجز" لأن الدنانير غير مستحقة بعقد المداينة فلا يمكن حمله على التأخير، ولا وجه له سوى المعاوضة، وبيع الدراهم بالدنانير نسيئة لا يجوز فلم يصح الصلح. قال: "ولو كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة لم يجز" لأن المعجل خير من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد فيكون بإزاء ما حطه عنه، وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام "وإن كان له ألف سود فصالحه على خمسمائة بيض لم يجز" لأن البيض غير مستحقة بعقد المداينة وهي زائدة وصفا فيكون معاوضة الألف بخمسمائة وزيادة وصف وهو ربا، بخلاف ما إذا صالح عن الألف البيض على خمسمائة سود حيث يجوز لأنه إسقاط كله قدرا ووصفا، وبخلاف ما إذا صالح على قدر الدين وهو أجود لأنه معاوضة المثل بالمثل، ولا معتبر بالصفة إلا أنه يشترط القبض في المجلس، ولو كان عليه ألف درهم ومائة دينار فصالحه على مائة درهم حالة أو إلى شهر صح الصلح لأنه أمكن أن يجعل إسقاطا للدنانير كلها والدراهم إلا مائة وتأجيلا للباقي فلا يجعل معاوضة تصحيحا للعقد أو لأن معنى الإسقاط فيه ألزم. قال: "ومن له على آخر ألف درهم فقال أد إلي غدا منها خمسمائة على أنك بريء من الفضل ففعل فهو بريء، فإن لم يدفع إليه الخمسمائة غدا عاد عليه الألف وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يعود عليه" لأنه إبراء مطلق؛ ألا ترى أنه جعل أداء الخمسمائة عوضا حيث ذكره بكلمة على وهي للمعاوضة، والأداء لا يصح عوضا لكونه مستحقا عليه فجرى وجوده مجرى عدمه فبقي الإبراء مطلقا فلا يعود كما إذا بدأ بالإبراء. ولهما أن هذا إبراء مقيد بالشرط فيفوت بفواته لأنه بدأ بأداء الخمسمائة في الغد وأنه يصلح غرضا حذار إفلاسه وتوسلا إلى تجارة أربح منه، وكلمة على إن كانت للمعاوضة فهي محتملة للشرط لوجود معنى المقابلة فيه فيحمل عليه عند تعذر الحمل على المعاوضة تصحيحا لتصرفه أو لأنه متعارف، والإبراء مما يتقيد بالشرط وإن كان لا يتعلق به كما في الحوالة، وستخرج البداءة بالإبراء إن شاء الله تعالى. قال رضي الله عنه: وهذه المسألة على وجوه: أحدها ما ذكرناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 والثاني: إذا قال صالحتك من الألف على خمسمائة تدفعها إلي غدا وأنت بريء من الفضل على أنك إن لم تدفعها إلي غدا فالألف عليك على حاله. وجوابه أن الأمر على ما قال لأنه أتى بصريح التقييد فيعمل به. والثالث: إذا قال أبرأتك من خمسمائة من الألف على أن تعطيني الخمسمائة غدا والإبراء فيه واقع أعطى الخمسمائة أو لم يعط لأنه أطلق الإبراء أولا، وأداء الخمسمائة لا يصلح عوضا مطلقا ولكنه يصلح شرطا فوقع الشك في تقييده بالشرط فلا يتقيد به، بخلاف ما إذا بدأ بأداء خمسمائة لأن الإبراء حصل مقرونا به، فمن حيث إنه لا يصلح عوضا يقع مطلقا، ومن حيث إنه يصلح شرطا لا يقع مطلقا فلا يثبت الإطلاق بالشك فافترقا. والرابع: إذا قال أد إلي خمسمائة على أنك بريء من الفضل ولم يؤقت للأداء وقتا. وجوابه أنه يصح الإبراء ولا يعود الدين لأن هذا إبراء مطلق، لأنه لما لم يؤقت للأداء وقتا لا يكون الأداء غرضا صحيحا لأنه واجب عليه في مطلق الأزمان فلم يتقيد بل يحمل على المعاوضة ولا يصلح عوضا، بخلاف ما تقدم لأن الأداء في الغد غرض صحيح. والخامس: إذا قال إن أديت إلي خمسمائة أو قال إذا أديت أو متى أديت. فالجواب فيه أنه لا يصح الإبراء لأنه علقه بالشرط صريحا، وتعليق البراءات بالشروط باطل لما فيها من معنى التمليك حتى يرتد بالرد، بخلاف ما تقدم لأنه ما أتى بصريح الشرط فحمل على التقييد به. قال: "ومن قال لآخر لا أقر لك بمالك حتى تؤخره عني أو تحط عني ففعل جاز عليه" لأنه ليس بمكره، ومعنى المسألة إذا قال ذلك سرا، أما إذا قال علانية يؤخذ به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 فصل: في الدين المشترك قال: "وإذا كان الدين بين شريكين فصالح أحدهما من نصيبه على ثوب فشريكه بالخيار، إن شاء اتبع الذي عليه الدين بصفة، وإن شاء أخذ نصف الثوب إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين" وأصل هذا أن الدين المشترك بين اثنين إذا قبض أحدهما شيئا منه فلصاحبه أن يشاركه في المقبوض لأنه ازداد بالقبض، إذ مالية الدين باعتبار عاقبة القبض، وهذه الزيادة راجعة إلى أصل الحق فتصير كزيادة الولد والثمرة وله حق المشاركة، ولكنه قبل المشاركة باق على مالك القابض، لأن العين غير الدين حقيقة وقد قبضه بدلا عن حقه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 فيملكه حتى ينفذ تصرفه فيه ويضمن لشريكه حصته، والدين المشترك يكون واجبا بسبب متحد كثمن المبيع إذا كان صفقة واحدة وثمن المال المشترك والموروث بينهما وقيمة المستهلك المشترك. إذا عرفنا هذا فنقول في مسألة الكتاب: له أن يتبع الذي عليه الأصل لأن نصيبه باق في ذمته لأن القابض قبض نصيبه لكن له حق المشاركة، وإن شاء أخذ نصف الثوب لأن له حق المشاركة إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين لأن حقه في ذلك. قال: "ولو استوفى نصف نصيبه من الدين كان لشريكه أن يشاركه فيما قبض" لما قلنا "ثم يرجعان على الغريم بالباقي" لأنهما لما اشتركا في المقبوض لا بد أن يبقى الباقي على الشركة. قال: "ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدين سلعة كان لشريكه أن يضمنه ربع الدين" لأنه صار قابضا حقه بالمقاصة كاملا، لأن مبنى البيع على المماكسة بخلاف الصلح لأن مبناه على الإغماض والحطيطة، فلو ألزمناه دفع ربع الدين يتضرر به فيتخير القابض كما ذكرنا، ولا سبيل للشريك على الثوب في البيع لأنه ملكه بعقده والاستيفاء بالمقاصة بين ثمنه وبين الدين. وللشريك أن يتبع الغريم في جميع ما ذكرنا لأن حقه في ذمته باق لأن القابض استوفى نصيبه حقيقة لكن له حق المشاركة فله أن لا يشاركه، فلو سلم له ما قبض ثم توى ما على الغريم له أن يشارك القابض لأنه رضي بالتسليم ليسلم له ما في ذمة الغريم ولم يسلم، ولو وقعت المقاصة بدين كان عليه من قبل لم يرجع عليه الشريك لأنه قاض بنصيبه لا مقتض، ولو أبرأه عن نصيبه فكذلك لأنه إتلاف وليس بقبض، ولو أبرأه عن البعض كانت قسمة الباقي على ما بقي من السهام، ولو أخر أحدهما عن نصيبه صح عند أبي يوسف اعتبارا بالإبراء المطلق، ولا يصح عندهما لأنه يؤدي إلى قسمة الدين قبل القبض، ولو غصب أحدهما عينا منه أو اشتراها شراء فاسدا وهلك في يده فهو قبض والاستئجار بنصيبه قبض، وكذا الإحراق عند محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله والتزوج به إتلاف في ظاهر الرواية، وكذا الصلح عليه من جناية العمد. قال: "وإذا كان السلم بين شريكين فصالح أحدهما من نصيبه على رأس المال لم يجز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله يجوز الصلح" اعتبارا بسائر الديون، وبما إذا اشتريا عبدا فأقال أحدهما في نصيبه. ولهما أنه لو جاز في نصيبه خاصة يكون قسمة الدين في الذمة، ولو جاز في نصيبهما لا بد من إجازة الآخر بخلاف شراء العين، وهذا لأن المسلم فيه صار واجبا بالعقد والعقد قام بهما فلا ينفرد أحدهما برفعه، ولأنه لو جاز لشاركه في المقبوض، فإذا شاركه فيه رجع المصالح على من عليه بذلك فيؤدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 إلى عود السلم بعد سقوطه. قالوا: هذا إذا خلطا رأس المال، فإن لم يكونا قد خلطاه فعلى الوجه الأول هو على الخلاف، وعلى الوجه الثاني هو على الاتفاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فصل: في التخارج قال: "وإذا كانت الشركة بين ورثة فأخرجوا أحدهم منها بمال أعطوه إياه والتركة عقار أو عروض جاز قليلا كان ما أعطوه إياه أو كثيرا" لأنه أمكن تصحيحه بيعا. وفيه أثر عثمان، فإنه صالح تماضر الأشجعية امرأة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار. قال: "وإن كانت التركة فضة فأعطوه ذهبا أو كان ذهبا فأعطوه فضة فهو كذلك" لأنه بيع الجنس بخلاف الجنس فلا يعتبر التساوي ويعتبر التقابض في المجلس لأنه صرف غير أن الذي في يده بقية التركة إن كان جاحدا يكتفي بذلك القبض لأنه قبض ضمان فينوب عن قبض الصلح وإن كان مقرا لا بد من تجديد القبض لأنه قبض أمانة فلا ينوب عن قبض الصلح "وإن كانت التركة ذهبا وفضة وغير ذلك فصالحوه على ذهب أو فضة فلا بد أن يكون ما أعطوه أكثر من نصيبه من ذلك الجنس حتى يكون نصيبه بمثله والزيادة بحقه من بقية التركة" احترازا عن الربا، ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب والفضة لأنه صرف في هذا القدر، ولو كان بدل الصلح عرضا جاز مطلقا لعدم الربا، ولو كان في التركة دراهم ودنانير وبدل الصلح دراهم ودنانير أيضا جاز الصلح كيفما كان صرفا للجنس إلى خلاف الجنس كما في البيع لكن يشترط التقابض للصرف. قال: "وإذا كان في التركة دين على الناس فأدخلوه في الصلح على أن يخرجوا المصالح عنه ويكون الدين له فالصلح باطل" لأن فيه تمليك الدين من غير من عليه وهو حصة المصالح "وإن شرطوا أن يبرأ الغرماء منه ولا يرجع عليهم بنصيب المصالح فالصلح جائز" لأنه إسقاط وهو تمليك الدين ممن عليه الدين وهو جائز، وهذه حيلة الجواز، وأخرى أن يعجلوا قضاء نصيبه متبرعين، وفي الوجهين ضرر ببقية الورثة. والأوجه أن يقرضوا المصالح مقدار نصيبه ويصالحوا عما وراء الدين. ويجيلهم على استيفاء نصيبه من الغرماء، ولو لم يكن في التركة دين وأعيانها غير معلومة والصلح على المكيل والموزون، قيل لا يجوز لاحتمال الربا، وقيل يجوز لأنه شبهة الشبهة، ولو كانت التركة غير المكيل والموزون لكنها أعيان غير معلومة قيل لا يجوز لكونه بيعا إذ المصالح عنه عين والأصح أنه يجوز لأنها لا تفضي إلى المنازعة لقيام المصالح عنه في يد البقية من الورثة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وإن كان على الميت دين مستغرق لا يجوز الصلح ولا القسمة لأن التركة لم يتملكها الوارث، وإن لم يكن مستغرقا لا ينبغي أن يصالحوا ما لم يقضوا دينه فتقدم حاجة الميت، ولو فعلوا قالوا يجوز. وذكر الكرخي رحمه الله في القسمة أنها لا تجوز استحسانا وتجوز قياسا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 كتاب المضاربة تعريفها وشروطها ... كتاب المضاربة المضاربة: مشتقة من الضرب في الأرض؛ سمي بها لأن المضارب يستحق الربح بسعيه وعمله، وهي مشروعة للحاجة إليها، فإن الناس بين غني بالمال غبي عن التصرف فيه، وبين مهتد في التصرف صفر اليد عنه، فمست الحاجة إلى شرع هذا النوع من التصرف لينتظم مصلحة الغبي والذكي والفقير والغني. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس يباشرونه فقررهم عليه وتعاملت به الصحابة، ثم المدفوع إلى المضارب أمانة في يده لأنه قبضه بأمر مالكه لا على وجه البدل والوثيقة، وهو وكيل فيه لأنه يتصرف فيه بأمر مالكه، وإذا ربح فهو شريك فيه لتملكه جزءا من المال بعمله، فإذا فسدت ظهرت الإجارة حتى استوجب العامل أجر مثله، وإذا خالف كان غاصبا لوجود التعدي منه على مال غيره. قال: "المضاربة عقد على الشركة بمال من أحد الجانبين" ومراده الشركة في الربح وهو يستحق بالمال من أحد الجانبين "والعمل من الجانب الآخر" ولا مضاربة بدونها؛ ألا ترى أن الربح لو شرط كله لرب المال كان بضاعة، ولو شرط جميعه للمضارب كان قرضا. قال: "ولا تصح إلا بالمال الذي تصح به الشركة" وقد تقدم بيانه من قبل، ولو دفع إليه عرضا وقال بعه واعمل مضاربة في ثمنه جاز له لأنه يقبل الإضافة من حيث إنه توكيل وإجارة فلا مانع من الصحة، وكذا إذا قال له اقبض ما لي على فلان واعمل به مضاربة جاز لما قلنا، بخلاف ما إذا قال له اعمل بالدين الذي في ذمتك حيث لا تصح المضاربة، لأن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح هذا التوكيل على ما مر في البيوع. وعندهما يصح لكن يقع الملك في المشترى للآمر فيصير مضاربة بالعرض. قال: "ومن شرطها أن يكون الربح بينهما مشاعا لا يستحق أحدهما دراهم مسماة" من الربح لأن شرط ذلك يقطع الشركة بينهما ولا بد منها كما في عقد الشركة. قال: "فإن شرط زيادة عشرة فله أجر مثله" لفساده فلعله لا يربح إلا هذا القدر فتنقطع الشركة في الربح، وهذا لأنه ابتغى عن منافعه عوضا ولم ينل لفساده، والربح لرب المال لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 نماء ملكه، وهذا هو الحكم في كل موضع لم تصح المضاربة ولا تجاوز بالأجر القدر المشروط عند أبي يوسف خلافا لمحمد كما بينا في الشركة، ويجب الأجر وإن لم يربح في رواية الأصل لأن أجر الأجير يجب بتسليم المنافع أو العمل وقد وجد. وعن أبي يوسف أنه لا يجب اعتبارا بالمضاربة الصحيحة مع أنها فوقها، والمال في المضاربة الفاسدة غير مضمون بالهلاك اعتبارا بالصحيحة، ولأنه عين مستأجرة في يده، وكل شرط يوجب جهالة في الربح يفسده لاختلال مقصوده، وغير ذلك من الشروط الفاسدة لا يفسدها، ويبطل الشرط كاشتراط الوضيعة على المضارب. قال: "ولا بد أن يكون المال مسلما إلى المضارب ولا يد لرب المال فيه" لأن المال أمانة في يده فلا بد من التسليم إليه، وهذا بخلاف الشركة لأن المال في المضاربة من أحد الجانبين والعمل من الجانب الآخر، فلا بد من أن يخلص المال للعامل ليتمكن من التصرف فيه. أما العمل في الشركة من الجانبين فلو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة، وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد لأنه يمنع خلوص يد المضارب فلا يتمكن من التصرف فلا يتحقق المقصود سواء كان المالك عاقدا أو غير عاقد كالصغير لأن يد المالك ثابتة له، وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب، وكذا أحد المتفاوضين وأحد شريكي العنان إذا دفع المال مضاربة وشرط عمل صاحبه لقيام الملك له وإن لم يكن عاقدا، واشتراط العمل على العاقد مع المضارب وهو غير مالك يفسده إن لم يكن من أهل المضاربة فيه كالمأذون، بخلاف الأب والوصي لأنهما من أهل أن يأخذا مال الصغير مضاربة بأنفسهما فكذا اشتراطه عليهما بجزء من المال. قال: "وإذا صحت المضاربة مطلقة جاز للمضارب أن يبيع ويشتري ويوكل ويسافر ويبضع ويودع" لإطلاق العقد والمقصود منه الاسترباح ولا يتحصل إلا بالتجارة، فينتظم العقد صنوف التجارة وما هو من صنيع التجار، والتوكيل من صنيعهم، وكذا الإبضاع والإيداع والمسافرة؛ ألا ترى أن المودع له أن يسافر فالمضارب أولى، كيف وأن اللفظ دليل عليه لأنها مشتقة من الضرب في الأرض وهو السير. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ليس له أن يسافر. وعنه وعن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إن دفع في بلده ليس له أن يسافر لأنه تعريض على الهلاك من غير ضرورة وإن دفع في غير بلده له أن يسافر إلى بلده لأنه هو المراد في الغالب، والظاهر ما ذكر في الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 قال: "ولا يضارب إلا أن يأذن له رب المال أو يقول له اعمل برأيك" لأن الشيء لا يتضمن مثله لتساويهما في القوة فلا بد من التنصيص عليه أو التفويض المطلق إليه وكان كالتوكيل، فإن الوكيل لا يملك أن يوكل غيره إلا إذا قيل له اعمل برأيك، بخلاف الإيداع والإبضاع لأنه دونه فيتضمنه، وبخلاف الإقراض حيث لا يملكه. وإن قيل له اعمل برأيك لأن المراد منه التعميم فيما هو من صنيع التجار وليس الإقرار منه وهو تبرع كالهبة والصدقة فلا يحصل به الغرض وهو الربح لأنه لا تجوز الزيادة عليه، أما الدفع مضاربة فمن صنيعهم، وكذا الشركة والخلط بمال نفسه فيدخل تحت هذا القول. قال: "وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها" لأنه توكيل. وفي التخصيص فائدة فيتخصص، وكذا ليس له أن يدفعه بضاعة إلى من يخرجها من تلك البلدة لأنه لا يملك الإخراج بنفسه فلا يملك تفويضه إلى غيره. قال: "فإن خرج إلى غير ذلك البلد فاشترى ضمن" وكان ذلك له، وله ربحه لأنه تصرف بغير أمره وإن لم يشتر حتى رده إلى الكوفة وهي التي عينها برئ من الضمان كالمودع إذا خالف في الوديعة ثم ترك ورجع المال مضاربة على حاله لبقائه في يده بالعقد السابق، وكذا إذا رد بعضه واشترى ببعضه في المصر كان المردود والمشترى في المصر على المضاربة لما قلنا، ثم شرط الشراء بها هاهنا وهو رواية الجامع الصغير، وفي كتاب المضاربة ضمنه بنفس الإخراج. والصحيح أن بالشراء يتقرر الضمان لزوال احتمال الرد إلى المصر الذي عينه. أما الضمان فوجوبه بنفس الإخراج، وإنما شرط الشراء للتقرر لا لأصل الوجوب، وهذا بخلاف ما إذا قال على أن يشتري في سوق الكوفة حيث لا يصح التقييد لأن المصر مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فلا يفيد التقييد، إلا إذا صرح بالنهي بأن قال اعمل في السوق ولا تعمل في غير السوق لأنه صرح بالحجر والولاية إليه ومعنى التخصيص أن يقول له على أن تعمل كذا أو في مكان كذا، وكذا إذا قال خذ هذا المال تعمل به في الكوفة لأنه تفسير له، أو قال فاعمل به في الكوفة لأن الفاء للوصل أو قال خذه بالنصف بالكوفة لأن الباء للإلصاق. أما إذا قال خذ هذا المال واعمل به بالكوفة فله أن يعمل فيها وفي غيرها لأن الواو للعطف فيصير بمنزلة المشورة، ولو قال على أن تشتري من فلان وتبيع منه صح التقييد لأنه مفيد لزيادة الثقة به في المعاملة، بخلاف ما إذا قال على أن تشتري بها من أهل الكوفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 أو دفع في الصرف على أن يشتري به من الصيارفة ويبيع منهم فباع بالكوفة من غير أهلها أو من غير الصيارفة جاز؛ لأن فائدة الأول التقييد بالمكان، وفائدة الثاني التقييد بالنوع، وهذا هو المراد عرفا لا فيما وراء ذلك. قال: "وكذلك إن وقت للمضاربة وقتا بعينه يبطل العقد بمضيه" لأنه توكيل فيتوقت بما وقته والتوقيت مفيد وأنه تقييد بالزمان فصار كالتقييد بالنوع والمكان. قال: "وليس للمضارب أن يشتري من يعتق على رب المال لقرابة أو غيرها" لأن العقد وضع لتحصيل الربح وذلك بالتصرف مرة بعد أخرى، ولا يتحقق فيه لعتقه ولهذا لا يدخل في المضاربة شراء ما لا يملك بالقبض كشراء الخمر والشراء بالميتة. بخلاف البيع الفاسد لأنه يمكنه بيعه بعد قبضه فيتحقق المقصود. قال: "ولو فعل صار مشتريا لنفسه دون المضاربة" لأن الشراء متى وجد نفاذا على المشتري نفذ عليه كالوكيل بالشراء إذا خالف. قال: "فإن كان في المال ربح لم يجز له أن يشتري من يعتق عليه" لأنه يعتق عليه نصيبه ويفسد نصيب رب المال أو يعتق على الاختلاف المعروف فيمتنع التصرف فلا يحصل المقصود "وإن اشتراهم ضمن مال المضاربة" لأنه يصير مشتريا العبد لنفسه فيضمن بالنقد من مال المضاربة وإن لم يكن في المال ربح جاز أن يشتريهم لأنه لا مانع من التصرف، إذ لا شركة له فيه ليعتق عليه "فإن زادت قيمتهم بعد الشراء عتق نصيبه منهم" لملكه بعض قريبه "ولم يضمن لرب المال شيئا" لأنه لا صنع من جهته في زيادة القيمة ولا في ملكه الزيادة، لأن هذا شيء يثبت من طريق الحكم فصار كما إذا ورثه مع غيره "ويسعى العبد في قيمة نصيبه منه" لأنه احتسبت ماليته عنده فيسعى فيه كما في الورثة. قال: "فإن كان مع المضارب ألف بالنصف فاشترى بها جارية قيمتها ألف فوطئها فجاءت بولد يساوي ألفا فادعاه ثم بلغت قيمة الغلام ألفا وخمسمائة والمدعي موسر، فإن شاء رب المال استسعى الغلام في ألف ومائتين وخمسين، وإن شاء أعتق" ووجه ذلك أن الدعوة صحيحة في الظاهر حملا على فراش النكاح، لكنه لم ينفذ لفقد شرطه وهو الملك لعدم ظهور الربح لأن كل واحد منهما: أعني الأم والولد مستحق برأس المال، كمال المضاربة إذا صار أعيانا كل عين منها يساوي رأس المال لا يظهر الربح كذا هذا، فإذا زادت قيمة الغلام الآن ظهر الربح فنفذت الدعوة السابقة، بخلاف ما إذا أعتق الولد ثم ازدادت القيمة. لأن ذلك إنشاء العتق، فإذا بطل لعدم الملك لا ينفذ بعد ذلك بحدوث الملك، أما هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 فإخبار فجاز أن ينفذ عند حدوث الملك كما إذا أقر بحرية عبد غيره ثم اشتراه، وإذا صحت الدعوة وثبت النسب عتق الولد لقيام ملكه في بعضه، ولا يضمن لرب المال شيئا من قيمة الولد لأن عتقه ثبت بالنسب والملك والملك آخرهما فيضاف إليه ولا صنع له فيه، وهذا ضمان إعتاق فلا بد من التعدي ولم يوجد "وله أن يستسعي الغلام" لأنه احتبست ماليته عنده، وله أن يعتق لأن المستسعى كالمكاتب عند أبي حنيفة، ويستسعيه في ألف ومائتين وخمسين، لأن الألف مستحق برأس المال والخمسمائة ربح والربح بينهما فلهذا يسعى له في هذا المقدار. ثم إذا قبض رب المال الألف له أن يضمن المدعي نصف قيمة الأم لأن الألف المأخوذ لما استحق برأس المال لكونه مقدما في الاستيفاء ظهر أن الجارية كلها ربح فيكون بينهما، وقد تقدمت دعوة صحيحة لاحتمال الفراش الثابت بالنكاح وتوقف نفاذها لفقد الملك، فإذا ظهر الملك نفذت تلك الدعوة وصارت الجارية أم ولد له ويضمن نصيب رب المال لأن هذا ضمان تملك وضمان التملك لا يستدعي صنعا كما إذا استولد جارية بالنكاح ثم ملكها هو وغيره وراثة يضمن نصيب شريكه كذا هذا؛ بخلاف ضمان الولد على ما مر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 باب المضارب يضارب مدخل ... باب المضارب يضارب قال: "وإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن له رب المال لم يضمن بالدفع ولا يتصرف المضارب الثاني حتى يربح، فإذا ربح ضمن الأول لرب المال" وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا عمل به ضمن ربح أو لم يربح، وهذا ظاهر الرواية. وقال زفر رحمه الله: يضمن بالدفع عمل أو لم يعمل، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن المملوك له الدفع على وجه الإيداع، وهذا الدفع على وجه المضاربة. ولهما أن الدفع إيداع حقيقة، وإنما يتقرر كونه للمضاربة بالعمل فكان الحال مراعى قبله. ولأبي حنيفة أن الدفع قبل العمل إيداع وبعده إبضاع، والفعلان يملكهما المضارب فلا يضمن بهما، إلا أنه إذا ربح فقد أثبت له شركة في المال فيضمن كما لو خلطه بغيره، وهذا إذا كانت المضاربة صحيحة، فإن كانت فاسدة لا يضمنه الأول، وإن عمل الثاني لأنه أجير فيه وله أجر مثله فلا تثبت الشركة به. ثم ذكر في الكتاب يضمن الأول ولم يذكر الثاني. وقيل ينبغي أن لا يضمن الثاني عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يضمن بناء على اختلافهم في مودع المودع. وقيل رب المال بالخيار إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني بالإجماع وهو المشهور، وهذا عندهما ظاهر وكذا عنده، ووجه الفرق له بين هذه وبين مودع المودع أن المودع الثاني يقبضه لمنفعة الأول فلا يكون ضامنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 أما المضارب الثاني يعمل فيه لنفع نفسه فجاز أن يكون ضامنا. ثم إن ضمن الأول صحت المضاربة بين الأول وبين الثاني وكان الربح بينهما على ما شرطا لأنه ظهر أنه ملكه بالضمان من حين خالف بالدفع إلى غيره لا على الوجه الذي رضي به فصار كما إذا دفع مال نفسه، وإن ضمن الثاني رجع على الأول بالعقد لأنه عامل له كما في المودع ولأنه مغرور من جهته في ضمن العقد. وتصح المضاربة والربح بينهما على ما شرطا لأن قرار الضمان على الأول فكأنه ضمنه ابتداء، ويطيب الربح للثاني ولا يطيب للأعلى لأن الأسفل يستحقه بعمله ولا خبث في العمل، والأعلى يستحقه بملكه المستند بأداء الضمان ولا يعرى عن نوع خبث. قال: "فإذا دفع رب المال مضاربة بالنصف وأذن له بأن يدفعه إلى غيره فدفعه بالثلث وقد تصرف الثاني وربح، فإن كان رب المال قال له على أن ما رزق الله فهو بيننا نصفان فلرب المال النصف وللمضارب الثاني الثلث وللمضارب الأول السدس" لأن الدفع إلى الثاني مضاربة قد صح لوجود الأمر به من جهة المالك ورب المال شرط لنفسه نصف جميع ما رزق الله تعالى فلم يبق للأول إلا النصف فيتصرف تصرفه إلى نصيبه وقد جعل من ذلك بقدر ثلث الجميع للثاني فيكون له فلم يبق إلا السدس، ويطيب لهما ذلك لأن فعل الثاني واقع للأول كمن استؤجر على خياطة ثوب بدرهم واستأجر غيره عليه بنصف درهم "وإن كان قال له على أن ما رزقك الله فهو بيننا نصفان فللمضارب الثاني الثلث والباقي بين المضارب الأول ورب المال نصفان" لأنه فوض إليه التصرف وجعل لنفسه نصف ما رزق الأول وقد رزق الثلثين فيكون بينهما، بخلاف الأول لأنه جعل لنفسه نصف جميع الربح فافترقا "ولو كان قال له فما ربحت من شيء فبيني وبينك نصفان وقد دفع إلى غيره بالنصف فللثاني النصف والباقي بين الأول ورب المال" لأن الأول شرط للثاني نصف الربح وذلك مفوض إليه من جهة رب المال فيستحقه. وقد جعل رب المال لنفسه نصف ما ربح الأول ولم يربح إلا النصف فيكون بينهما "ولو كان قال له على أن ما رزق الله تعالى فلي نصفه أو قال فما كان من فضل فبيني وبينك نصفان وقد دفع إلى آخر مضاربة بالنصف فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ولا شيء للمضارب الأول" لأنه جعل لنفسه نصف مطلق الفضل فينصرف شرط الأول النصف للثاني إلى جميع نصيبه فيكون للثاني بالشرط ويخرج الأول بغير شيء، كمن استؤجر ليخيط ثوبا بدرهم فاستأجر غيره ليخيطه بمثله "وإن شرط للمضارب الثاني ثلثي الربح فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ويضمن المضارب الأول للثاني سدس الربح في ماله" لأنه شرط للثاني شيئا هو مستحق لرب المال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 فلم ينفذ في حقه لما فيه من الإبطال، لكن التسمية في نفسها صحيحة لكون المسمى معلوما في عقد يملكه وقد ضمن له السلامة فيلزمه الوفاء به، ولأنه غره في ضمن العقد وهو سبب الرجوع فلهذا يرجع عليه، وهو نظير من استؤجر لخياطة ثوب بدرهم فدفعه إلى من يخيطه بدرهم ونصف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 فصل: وإذا شرط المضارب لرب المال ثلث الربح الخ ... فصل: قال: "وإذا شرط المضارب لرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح على أن يعمل معه ولنفسه ثلث الربح فهو جائز" لأن للعبد يدا معتبرة خصوصا إذا كان مأذونا له واشتراط العمل إذن له، ولهذا لا يكون للمولى ولاية أخذ ما أودعه العبد وإن كان محجورا عليه، ولهذا يجوز بيع المولى من عبده المأذون له، وإذا كان كذلك لم يكن مانعا من التسليم والتخلية بين المال والمضارب، بخلاف اشتراط العمل على رب المال لأنه مانع من التسليم على ما مر، وإذا صحت المضاربة يكون الثلث للمضارب بالشرط والثلثان للمولى، لأن كسب العبد للمولى إذا لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين فهو للغرماء. هذا إذا كان العاقد هو المولى، "ولو عقد العبد المأذون عقد المضاربة مع أجنبي وشرط العمل على المولى لا يصح إن لم يكن عليه دين" لأن هذا اشتراط العمل على المالك، "وإن كان على العبد دين صح عند أبي حنيفة" لأن المولى بمنزلة الأجنبي عنده على ما عرف، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 فصل: في العزل والقسمة قال: "وإذا مات رب المال أو المضارب بطلت المضاربة" لأنه توكيل على ما تقدم، وموت الموكل يبطل الوكالة، وكذا موت الوكيل ولا تورث الوكالة وقد مر من قبل. "وإن ارتد رب المال عن الإسلام" والعياذ بالله "ولحق بدار الحرب بطلت المضاربة" لأن اللحوق بمنزلة الموت؛ ألا ترى أنه يقسم ماله بين ورثته وقبل لحوقه يتوقف تصرف مضاربه عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يتصرف له فصار كتصرفه بنفسه "ولو كان المضارب هو المرتد فالمضاربة على حالها" لأن له عبارة صحيحة، ولا توقف في ملك رب المال فبقيت المضاربة. قال: "فإن عزل رب المال المضارب ولم يعلم بعزله حتى اشترى وباع فتصرفه جائز" لأنه وكيل من جهته وعزل الوكيل قصدا يتوقف على علمه "وإن علم بعزله والمال عروض فله أن يبيعها ولا يمنعه العزل من ذلك" لأن حقه قد ثبت في الربح، وإنما يظهر بالقسمة وهي تبتنى على رأس المال، وإنما ينقض بالبيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 قال: "ثم لا يجوز أن يشتري بثمنها شيئا آخر" لأن العزل إنما لم يعمل ضرورة معرفة رأس المال وقد اندفعت حيث صار نقدا فيعمل العزل "فإن عزله ورأس المال دراهم أو دنانير وقد نضت لم يجز له أن يتصرف فيها" لأنه ليس في إعمال عزله إبطال حقه في الربح فلا ضرورة. قال: وهذا الذي ذكره إذا كان من جنس رأس المال، فإن لم يكن بأن كان دراهم ورأس المال دنانير أو على القلب له أن يبيعها بجنس رأس المال استحسانا لأن الربح لا يظهر إلا به وصار كالعروض، وعلى هذا موت رب المال ولحوقه بعد الردة في بيع العروض ونحوها. قال: "وإذا افترقا وفي المال ديون وقد ربح المضارب فيه أجبره الحاكم على اقتضاء الديون" لأنه بمنزلة الأجير والربح كالأجر له "وإن لم يكن له ربح لم يلزمه الاقتضاء" لأنه وكيل محض والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به، "ويقال له وكل رب المال في الاقتضاء" لأن حقوق العقد ترجع إلى العاقد، فلا بد من توكيله وتوكله كي لا يضيع حقه. وقال في الجامع الصغير: يقال له أجل مكان قوله وكل، والمراد منه الوكالة وعلى هذا سائر الوكالات والبياع والسمسار يجبران على التقاضي لأنهما يعملان بأجر عادة. قال: "وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال" لأن الربح تابع وصرف الهلاك إلى ما هو التبع أولى كما يصرف الهلاك إلى العفو في الزكاة "فإن زاد الهالك على الربح فلا ضمان على المضارب" لأنه أمين "وإن كانا يقتسمان الربح والمضاربة بحالها ثم هلك المال بعضه أو كله ترادا الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال" لأن قسمة الربح لا تصح قبل استيفاء رأس المال لأنه هو الأصل وهذا بناء عليه وتبع له، فإذا هلك ما في يد المضارب أمانة تبين أن ما استوفياه من رأس المال، فيضمن المضارب ما استوفاه لأنه أخذه لنفسه وما أخذه رب المال محسوب من رأس ماله "وإذا استوفى رأس المال، فإن فضل شيء كان بينهما لأنه ربح وإن نقص فلا ضمان على المضارب" لما بينا "ولو اقتسما الربح وفسخا المضاربة ثم عقداها فهلك المال لم يترادا الربح الأول" لأن المضاربة الأولى قد انتهت والثانية عقد جديد، وهلاك المال في الثاني لا يوجب انتقاض الأول كما إذا دفع إليه مالا آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فصل: فيما يفعله المضارب قال: "ويجوز للمضارب أن يبيع بالنقد والنسيئة" لأن كل ذلك من صنيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 التجار فينتظمه إطلاق العقد إلا إذا باع إلى أجل لا يبيع التجار إليه لأن له الأمر العام المعروف بين الناس، ولهذا كان له أن يشتري دابة للركوب، وليس له أن يشتري سفينة للركوب، وله أن يستكريها اعتبارا لعادة التجار، وله أن يأذن لعبد المضاربة في التجارة في الرواية المشهورة لأنه من صنيع التجار. ولو باع بالنقد ثم أخر الثمن جاز بالإجماع، أما عندهما فلأن الوكيل يملك ذلك فالمضارب أولى، إلا أن المضارب لا يضمن لأن له أن يقايل ثم يبيع نسيئة، ولا كذلك الوكيل لأنه لا يملك ذلك. وأما عند أبي يوسف فلأنه يملك الإقالة ثم البيع بالنساء. بخلاف الوكيل لأنه لا يملك الإقالة. "ولو احتال بالثمن على الأيسر أو الأعسر جاز" لأن الحوالة من عادة التجار، بخلاف الوصي يحتال بمال اليتيم حيث يعتبر فيه الأنظر، لأن تصرفه مقيد بشرط النظر، والأصل أن ما يفعله المضارب ثلاثة أنواع: نوع يملكه بمطلق المضاربة وهو ما يكون من باب المضاربة وتوابعها وهو ما ذكرنا، ومن جملته التوكيل بالبيع والشراء للحاجة إليه والرهن والارتهان لأنه إيفاء واستيفاء والإجارة والاستئجار والإيداع والإبضاع والمسافرة على ما ذكرناه من قبل. ونوع لا يملكه بمطلق العقد ويملكه إذا قيل له اعمل برأيك، وهو ما يحتمل أن يلحق به فيلحق عند وجود الدلالة، وذلك مثل دفع المال مضاربة أو شركة إلى غيره وخلط مال المضاربة بماله أو بمال غيره لأن رب المال رضي بشركته لا بشركة غيره، وهو أمر عارض لا يتوقف عليه التجارة فلا يدخل تحت مطلق العقد ولكنه جهة في التثمير، فمن هذا الوجه يوافقه فيدخل فيه عند وجود الدلالة وقوله اعمل برأيك دلالة على ذلك. ونوع لا يملكه بمطلق العقد ولا بقوله اعمل برأيك إلا أن ينص عليه رب المال وهو الاستدانة، وهو أن يشتري بالدراهم والدنانير بعدما اشترى برأس المال السلعة وما أشبه ذلك لأنه يصير المال زائدا على ما انعقد عليه المضاربة ولا يرضى به ولا يشغل ذمته بالدين، ولو أذن له رب المال بالاستدانة صار المشترى بينهما نصفين بمنزلة شركة الوجوه وأخذ السفاتج لأنه نوع من الاستدانة، وكذا إعطاؤها لأنه إقراض والعتق بمال وبغير مال والكتابة لأنه ليس بتجارة والإقراض والهبة والصدقة لأنه تبرع محض. قال: "ولا يزوج عبدا ولا أمة من مال المضاربة" وعن أبي يوسف أنه يزوج الأمة لأنه من باب الاكتساب؛ ألا ترى أنه يستفيد به المهر وسقوط النفقة. ولهما أنه ليس بتجارة والعقد لا يتضمن إلا التوكيل بالتجارة وصار كالكتابة والإعتاق على مال لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 اكتساب، ولكن لما لم يكن تجارة لا يدخل تحت المضاربة فكذا هذا. قال: "فإن دفع شيئا من مال المضاربة إلى رب المال بضاعة فاشترى رب المال وباع فهو على المضاربة" وقال زفر: تفسد المضاربة لأن رب المال متصرف في مال نفسه فلا يصلح وكيلا فيه فيصير مستردا ولهذا لا تصح إذا شرط العمل عليه ابتداء. ولنا أن التخلية فيه قد تمت وصار التصرف حقا للمضارب فيصلح رب المال وكيلا عنه في التصرف والإبضاع توكيل منه فلا يكون استردادا، بخلاف شرط العمل عليه في الابتداء لأنه يمنع التخلية، وبخلاف ما إذا دفع المال إلى رب المال مضاربة حيث لا يصح لأن المضاربة تنعقد شركة على مال رب المال وعمل المضارب ولا مال هاهنا، فلو جوزناه يؤدي إلى قلب الموضوع، وإذا لم تصح بقي عمل رب المال بأمر المضارب فلا تبطل به المضاربة الأولى. قال: "وإذا عمل المضارب في المصر فليست نفقته في المال، وإن سافر فطعامه وشرابه وكسوته وركوبه" ومعناه شراء وكراء في المال. ووجه الفرق أن النفقة تجب بإزاء الاحتباس كنفقة القاضي ونفقة المرأة، والمضارب في المصر ساكن بالسكنى الأصلي، وإذا سافر صار محبوسا بالمضاربة فيستحق النفقة فيه، وهذا بخلاف الأجير لأنه يستحق البدل لا محالة فلا يتضرر بالإنفاق من ماله، أما المضارب فليس له إلا الربح وهو في حيز التردد، فلو أنفق من ماله يتضرر به، وبخلاف المضاربة الفاسدة لأنه أجير، وبخلاف البضاعة لأنه متبرع. قال: "فإن بقي شيء في يده بعدما قدم مصره رده في المضاربة" لانتهاء الاستحقاق، ولو كان خروجه دون السفر فإن كان بحيث يغدو ثم يروح فيبيت بأهله فهو بمنزلة السوقي في المصر، وإن كان بحيث لا يبيت بأهله فنفقته في مال المضاربة لأن خروجه للمضاربة، والنفقة هي ما يصرف إلى الحاجة الراتبة وهو ما ذكرنا، ومن ذلك غسل ثيابه وأجرة أجير يخدمه وعلف دابة يركبها والدهن في موضع يحتاج إليه عادة كالحجاز، وإنما يطلق في جميع ذلك بالمعروف حتى يضمن الفضل إن جاوزه اعتبارا للمتعارف بين التجار. قال: "وأما الدواء ففي ماله" في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يدخل في النفقة لأنه لإصلاح بدنه ولا يتمكن من التجارة إلا به فصار كالنفقة، وجه الظاهر أن الحاجة إلى النفقة معلومة الوقوع وإلى الدواء بعارض المرض، ولهذا كانت نفقة المرأة على الزوج ودواؤها في مالها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 قال: "وإذا ربح أخذ رب المال ما أنفق من رأس المال، فإن باع المتاع مرابحة حسب ما أنفق على المتاع من الحملان ونحوه، ولا يحتسب ما أنفق على نفسه" لأن العرف جار بإلحاق الأول دون الثاني، ولأن الأول يوجب زيادة في المالية بزيادة القيمة والثاني لا يوجبها. قال: "فإن كان معه ألف فاشترى بها ثيابا فقصرها أو حملها بمائة من عنده وقد قيل له اعمل برأيك فهو متطوع" لأنه استدانة على رب المال فلا ينتظمه هذا المقال على ما مر "وإن صبغها أحمر فهو شريك بما زاد الصبغ فيه ولا يضمن" لأنه عين مال قائم به حتى إذا بيع كان له حصة الصبغ وحصة الثوب الأبيض على المضاربة بخلاف القصارة والحمل لأنه ليس بعين مال قائم به، ولهذا إذا فعله الغاصب ضاع ولا يضيع إذا صبغ المغصوب، وإذا صار شريكا بالصبغ انتظمه قوله اعمل برأيك انتظامه الخلطة فلا يضمنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 فصل: فإن كان معه ألف بالنصف فاشترى بها بزا فباعه بألفين الخ ... فصل آخر: قال "فإن كان معه ألف بالنصف فاشترى بها بزا فباعه بألفين ثم اشترى بالألفين عبدا فلم ينقدهما حتى ضاعا يغرم رب المال ألفا وخمسمائة والمضارب خمسمائة ويكون ربع العبد للمضارب وثلاثة أرباعه على المضاربة". قال رحمه الله: هذا الذي ذكره حاصل الجواب، لأن الثمن كله على المضارب إذ هو العاقد، إلا أن له حق الرجوع على رب المال بألف وخمسمائة على ما نبين فيكون عليه في الأجرة. ووجهه أنه لما نض المال ظهر الربح وله منه وهو خمسمائة، فإذا اشترى بالألفين عبدا صار مشتريا ربعه لنفسه وثلاثة أرباعه للمضاربة على حسب انقسام الألفين، وإذا ضاعت الألفان وجب عليه الثمن لما بيناه، وله الرجوع بثلاثة أرباع الثمن على رب المال لأنه وكيل من جهته فيه ويخرج نصيب المضارب وهو الربع من المضاربة لأنه مضمون عليه ومال المضاربة أمانة وبينهما منافاة ويبقى ثلاثة أرباع العبد على المضاربة لأنه ليس فيه ما ينافي المضاربة "ويكون رأس المال ألفين وخمسمائة" لأنه دفع مرة ألفا ومرة ألفا وخمسمائة "ولا يبيعه مرابحة إلا على ألفين" لأنه اشتراه بألفين، ويظهر ذلك فيما إذا بيع العبد بأربعة آلاف فحصة المضاربة ثلاثة آلاف يرفع رأس المال ويبقى خمسمائة ربح بينهما. قال: "وإن كان معه ألف فاشترى رب المال عبدا بخمسمائة وباعه إياه بألف فإنه يبيعه مرابحة على خمسمائة" لأن هذا البيع مقضي بجوازه لتغاير المقاصد دفعا للحاجة وإن كان بيع ملكه بملكه إلا أن فيه شبهة العدم، ومبنى المرابحة على الأمانة والاحتراز عن شبهة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 الخيانة فاعتبر أقل الثمنين، ولو اشترى المضارب عبدا بألف وباعه من رب المال بألف ومائتين باعه مرابحة بألف ومائة لأنه اعتبر عدما في حق نصف الربح وهو نصيب رب المال وقد مر في البيوع. قال: "فإن كان معه ألف بالنصف فاشترى بها عبدا قيمته ألفان فقتل العبد رجلا خطأ فثلاثة أرباع الفداء على رب المال وربعه على المضارب" لأن الفداء مؤنة الملك فيتقدر بقدر الملك وقد كان الملك بينهما أرباعا، لأنه لما صار المال عينا واحدا ظهر الربح وهو ألف بينهما وألف لرب المال برأس ماله لأن قيمته ألفان، وإذا فديا خرج العبد عن المضاربة، أما نصيب المضارب فلما بيناه، وأما نصيب رب المال فلقضاء القاضي بانقسام الفداء عليهما لما أنه يتضمن قسمة العبد بينهما والمضاربة تنتهي بالقسمة، بخلاف ما تقدم لأن جميع الثمن فيه على المضارب وإن كان له حق الرجوع فلا حاجة إلى القسمة، ولأن العبد كالزائل عن ملكهما بالجناية، ودفع الفداء كابتداء الشراء فيكون العبد بينهما أرباعا لا على المضاربة يخدم المضارب يوما ورب المال ثلاثة أيام، بخلاف ما تقدم. قال: "فإن كان معه ألف فاشترى بها عبدا فلم ينقدها حتى هلكت يدفع رب المال ذلك الثمن ورأس المال جميع ما يدفع إليه رب المال" لأن المال أمانة في يده ولا يصير مستوفيا، والاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون وحكم الأمانة ينافيه فيرجع مرة بعد أخرى، بخلاف الوكيل إذا كان الثمن مدفوعا إليه قبل الشراء وهلك بعد الشراء حيث لا يرجع إلا مرة لأنه أمكن جعله مستوفيا، لأن الوكالة تجامع الضمان كالغاصب إذا توكل ببيع المغصوب، ثم في الوكالة في هذه الصورة يرجع مرة، وفيما إذا اشترى ثم دفع الموكل إليه المال فهلك لا يرجع لأنه ثبت له حق الرجوع بنفس الشراء فجعل مستوفيا بالقبض بعده، أما المدفوع إليه قبل الشراء أمانة في يده وهو قائم على الأمانة بعده فلم يصر مستوفيا، فإذا هلك رجع عليه مرة ثم لا يرجع لوقوع الاستيفاء على ما مر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 فصل: في الاختلاف قال: "وإن كان مع المضارب ألفان فقال دفعت إلي ألفا وربحت ألفا وقال رب المال لا بل دفعت إليك ألفين فالقول قول المضارب" وكان أبو حنيفة يقول أولا القول قول رب المال وهو قول زفر، لأن المضارب يدعي عليه الشركة في الربح وهو ينكر والقول قول المنكر، ثم رجع إلى ما ذكر في الكتاب لأن الاختلاف في الحقيقة في مقدار المقبوض وفي مثله القول قول القابض ضمينا كان أو أمينا لأنه أعرف بمقدار المقبوض؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 ولو اختلفا مع ذلك في مقدار الربح فالقول فيه لرب المال لأن الربح يستحق بالشرط وهو يستفاد من جهته، وأيهما أقام البينة على ما ادعى من فضل قبلت لأن البينات للإثبات. قال: "ومن كان معه ألف درهم فقال هي مضاربة لفلان بالنصف وقد ربح ألفا وقال فلان هي بضاعة فالقول قول رب المال" لأن المضارب يدعي عليه تقويم عمله أو شرطا من جهته أو يدعي الشركة وهو ينكر، "ولو قال المضارب أقرضتني وقال رب المال هو بضاعة أو وديعة فالقول لرب المال والبينة بينة المضارب"، لأن المضارب يدعي عليه التملك وهو ينكر. "ولو ادعى رب المال المضاربة في نوع وقال الآخر ما سميت لي تجارة بعينها فالقول للمضارب" لأن الأصل فيه العموم والإطلاق، والتخصيص يعارض الشرط، بخلاف الوكالة لأن الأصل فيه الخصوص. "ولو ادعى كل واحد منهما نوعا فالقول لرب المال" لأنهما اتفقا على التخصيص، والإذن يستفاد من جهته، والبينة بينة المضارب لحاجته إلى نفي الضمان وعدم حاجة الآخر إلى البينة، ولو وقتت البينتان وقتا فصاحب الوقت الأخير أولى لأن آخر الشرطين ينقض الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 كتاب الوديعة تعريفها وحالاتها ... كتاب الوديعة قال: "الوديعة أمانة في يد المودع إذا هلكت لم يضمنها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" ولأن بالناس حاجة إلى الاستيداع، فلو ضمناه يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم. قال: "وللمودع أن يحفظها بنفسه وبمن في عياله" لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ مال نفسه، ولأنه لا يجد بدا من الدفع إلى عياله لأنه لا يمكنه ملازمة بيته ولا استصحاب الوديعة في خروجه فكان المالك راضيا به "فإن حفظها بغيرهم أو أودعها غيرهم ضمن" لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأيدي تختلف في الأمانة، ولأن الشيء لا يتضمن مثله كالوكيل لا يوكل غيره، والوضع في حرز غيره إيداع، إلا إذا استأجر الحرز فيكون حافظا بحرز نفسه. قال: "إلا أن يقع في داره حريق فيسلمها إلى جاره أو يكون في سفينة فخاف الغرق فيلقيها إلى سفينة أخرى" لأنه تعين طريقا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيه المالك، ولا يصدق على ذلك إلا ببينة لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق السبب فصار كما إذا ادعى الإذن في الإيداع. قال: "فإن طلبها صاحبها فحبسها وهو يقدر على تسليمها ضمنها" لأنه متعد بالمنع، وهذا لأنه لما طالبه لم يكن راضيا بإمساكه بعده فيضمنه بحبسه عنه. قال: "وإن خلطها المودع بماله حتى لا تتميز ضمنها ثم لا سبيل للمودع عليها عند أبي حنيفة وقالا: إذا خلطها بجنسها شركه إن شاء" مثل أن يخلط الدراهم البيض بالبيض والسود بالسود والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير. لهما أنه لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة وأمكنه معنى بالقسمة فكان استهلاكا من وجه دون وجه فيميل إلى أيهما شاء. وله أنه استهلاك من كل وجه لأنه فعل يتعذر معه الوصول إلى عين حقه، ولا معتبر بالقسمة لأنها من موجبات الشركة فلا تصلح موجبة لها، ولو أبرأ الخالط لا سبيل له على المخلوط عند أبي حنيفة لأنه لا حق له إلا في الدين وقد سقط، وعندهما بالإبراء تسقط خيرة الضمان فيتعين الشركة في المخلوط، وخلط الخل بالزيت وكل مائع بغير جنسه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 يوجب انقطاع حق المالك إلى الضمان، وهذا بالإجماع لأنه استهلاك صورة وكذا معنى لتعذر القسمة باعتبار اختلاف الجنس، ومن هذا القبيل خلط الحنطة بالشعير في الصحيح لأن أحدهما لا يخلو عن حبات الآخر فتعذر التمييز والقسمة. ولو خلط المائع بجنسه فعند أبي حنيفة ينقطع حق المالك إلى ضمان لما ذكرنا، وعند أبي يوسف يجعل الأقل تابعا للأكثر اعتبارا للغالب أجزاء، وعند محمد شركه بكل حال لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده على ما مر في الرضاع، ونظيره خلط الدراهم بمثلها إذابة لأنه يصير مائعا بالإذابة. قال: "وإن اختلطت بماله من غير فعله فهو شريك لصاحبها" كما إذا انشق الكيسان فاختلطا لأنه لا يضمنها لعدم الصنع منه فيشتركان وهذا بالاتفاق. قال: "فإن أنفق المودع بعضها ثم رد مثله فخلطها بالباقي ضمن الجميع" لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم. قال: "وإذا تعدى المودع في الوديعة بأن كانت دابة فركبها أو ثوبا فلبسه أو عبدا فاستخدمه أو أودعها غيره ثم أزال التعدي فردها إلى يده زال الضمان" وقال الشافعي: لا يبرأ عن الضمان لأن عقد الوديعة ارتفع حين صار ضامنا للمنافاة فلا يبرأ إلا بالرد على المالك ولنا أن الأمر باق لإطلاقه، وارتفاع حكم العقد ضرورة ثبوت نقيضه، فإذا ارتفع عاد حكم العقد، كما إذا استأجره للحفظ شهرا فترك الحفظ في بعضه ثم حفظ في الباقي فحصل الرد إلى نائب المالك. قال: "فإن طلبها صاحبها فجحدها ضمنها" لأنه لما طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ فبعد ذلك هو بالإمساك غاصب مانع فيضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد، إذ المطالبة بالرد رفع من جهته والجحود فسخ من جهة المودع كجحود الوكيل الوكالة وجحود أحد المتعاقدين البيع فتم الرفع، أو لأن المودع ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودع كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل، وإذا ارتفع لا يعود إلا بالتجديد فلم يوجد الرد إلى نائب المالك، بخلاف الخلاف ثم العود إلى الوفاق، ولو جحدها عند غير صاحبها لا يضمنها عند أبي يوسف خلافا لزفر لأن الجحود عند غيره من باب الحفظ لأن فيه قطع طمع الطامعين، ولأنه لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه أو طلبه فبقي الأمر بخلاف ما إذا كان بحضرته. قال: "وللمودع أن يسافر الوديعة وإن كان لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة وقالا: ليس له ذلك إذا كان لها حمل ومؤنة" وقال الشافعي: ليس له ذلك في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 الوجهين، لأبي حنيفة رحمه الله إطلاق الأمر، والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنا ولهذا يملك الأب والوصي في مال الصبي. ولهما أنه تلزمه مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة، والظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد، والشافعي يقيده بالحفظ المتعارف وهو الحفظ في الأمصار وصار كالاستحفاظ بأجر. قلنا: مؤنة الرد تلزمه في ملكه ضرورة امتثال أمره فلا يبالي به والمعتاد كونهم في المصر لا حفظهم، ومن يكون في المفازة يحفظ ماله فيها، بخلاف الاستحفاظ بأجر لأنه عقد معاوضة فيقتضي التسليم في مكان العقد "وإذا نهاه المودع أن يخرج الوديعة فخرج بها ضمن" لأن التقييد مفيد إذ الحفظ في المصر أبلغ فكان صحيحا. قال: "وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب نصيبه منها لم يدفع إليه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع إليه نصيبه" وفي الجامع الصغير: ثلاثة استودعوا رجلا ألفا فغاب اثنان فليس للحاضر أن يأخذ نصيبه عنده، وقالا: له ذلك، والخلاف في المكيل والموزون، وهو المراد بالمذكور في المختصر. لهما أنه طالبه بدفع نصيبه فيؤمر بالدفع إليه كما في الدين المشترك، وهذا لأنه يطالبه بتسليم ما سلم إليه وهو النصف، وهذا كان له أن يأخذه فكذا يؤمر هو بالدفع إليه. ولأبي حنيفة أنه طالبه بدفع نصيب الغائب لأنه يطالبه بالمفرز وحقه في المشاع، والمفرز المعين يشتمل على الحقين، ولا يتميز حقه إلا بالقسمة، وليس للمودع ولاية القسمة ولهذا لا يقع دفعه قسمة بالإجماع، بخلاف الدين المشترك لأنه يطالبه بتسليم حقه لأن الديون تقضى بأمثالها. قوله له أن يأخذه. قلنا: ليس من ضرورته أن يجبر المودع على الدفع كما إذا كان له ألف درهم وديعة عند إنسان وعليه ألف لغيره فلغريمه أن يأخذه إذا ظفر به، وليس للمودع أن يدفعه إليه. قال: "وإن أودع رجل عند رجلين شيئا مما يقسم لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر ولكنهما يقتسمانه فيحفظ كل واحد منهما نصفه، وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظ أحدهما بإذن الآخر" وهذا عند أبي حنيفة، وكذلك الجواب عنده في المرتهنين والوكيلين بالشراء إذا سلم أحدهما إلى الآخر. وقالا: لأحدهما أن يحفظ بإذن الآخر في الوجهين. لهما أنه رضي بأمانتهما فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه كما فيما لا يقسم. وله أنه رضي بحفظهما ولم يرض بحفظ أحدهما كله لأن الفعل متى أضيف إلى ما يقبل الوصف بالتجزي تناول البعض دون الكل فوقع التسليم إلى الآخر من غير رضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 المالك فيضمن الدافع ولا يضمن القابض لأن مودع المودع عنده لا يضمن، وهذا بخلاف ما لا يقسم لأنه لما أودعهما ولا يمكنهما الاجتماع عليه آناء الليل والنهار وأمكنهما المهايأة كان المالك راضيا بدفع الكل إلى أحدهما في بعض الأحوال. قال: "وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمه إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن. وفي الجامع الصغير: إذا نهاه أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد له منه لا يضمن" كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئا يحفظ في يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته وهو محمل الأول لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيدا فيلغو "وإن كان له منه بد ضمن" لأن الشرط مفيد لأن من العيال من لا يؤتمن على المال وقد أمكن العمل به مع مراعاة هذا الشرط فاعتبر "وإن قال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار لم يضمن" لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدة لا يتفاوتان في الحرز "وإن حفظها في دار أخرى ضمن" لأن الدارين يتفاوتان في الحرز فكان مفيدا فيصح التقييد، ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهرا بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة والبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة صح الشرط. قال: "ومن أودع رجلا وديعة فأودعها آخر فهلكت فله أن يضمن الأول وليس له أن يضمن الثاني، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: له أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الآخر رجع على الأول" لهما أنه قبض المال من يد ضمين فيضمنه كمودع الغاصب، وهذا لأن المالك لم يرض بأمانة غيره، فيكون الأول متعديا بالتسليم والثاني بالقبض فيخير بينهما، غير أنه إن ضمن الأول لم يرجع على الثاني لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه أودع ملك نفسه، وإن ضمن الثاني رجع على الأول لأنه عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة، وله أنه قبض المال من يد أمين لأنه بالدفع لا يضمن ما لم يفارقه لحضور رأيه فلا تعدي منهما فإذا فارقه فقد ترك الحفظ الملتزم فيضمنه بذلك، وأما الثاني فمستمر على الحالة الأولى ولم يوجد منه صنع فلا يضمنه كالريح إذا ألقت في حجره ثوب غيره. قال: "ومن كان في يده ألف فادعاه رجلان كل واحد منهما أنها له أودعها إياه وأبى أن يحلف لهما فالألف بينهما وعليه ألف أخرى بينهما" وشرح ذلك أن دعوى كل واحد صحيحة لاحتمالها الصدق فيستحق الحلف على المنكر بالحديث ويحلف لكل واحد منهما على الانفراد لتغاير الحقين، وبأيهما بدأ القاضي جاز لتعذر الجمع بينهما وعدم الأولوية. ولو تشاحا أقرع بينهما تطييبا لقلبهما ونفيا لتهمة الميل، ثم إن حلف لأحدهما يحلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 للثاني، فإن حلف فلا شيء لهما لعدم الحجة، وإن نكل أعني للثاني يقضي له لوجود الحجة، وإن نكل للأول يحلف للثاني ولا يقضي بالنكول، بخلاف ما إذا أقر لأحدهما لأن الإقرار حجة موجبة بنفسه فيقضي به. أما النكول إنما يصير حجة عند القضاء فجاز أن يؤخره ليحلف للثاني فينكشف وجه القضاء، ولو نكل للثاني أيضا يقضي بها بينهما نصفين على ما ذكر في الكتاب لاستوائهما في الحجة كما إذا أقاما البينة ويغرم ألفا أخرى بينهما لأنه أوجب الحق لكل واحد منهما ببذله أو بإقراره وذلك حجة في حقه، وبالصرف إليهما صار قاضيا نصف حق كل واحد بنصف حق الآخر فيغرمه، فلو قضى القاضي للأول حين نكل ذكر الإمام علي البزدوي في شرح الجامع الصغير أنه يحلف للثاني وإذا نكل يقضي بها بينهما لأن القضاء للأول لا يبطل حق الثاني لأنه يقدمه إما بنفسه أو بالقرعة وكل ذلك لا يبطل حق الثاني. وذكر الخصاف أنه ينفذ قضاؤه للأول، ووضع المسألة في العبد وإنما نفذ لمصادفته محل الاجتهاد لأن من العلماء من قال يقضي للأول ولا ينتظر لكونه إقرار دلالة ثم لا يحلف للثاني ما هذا العبد لي لأن نكوله لا يفيد بعدما صار للأول، وهل يحلفه بالله ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته وهو كذا وكذا ولا أقل منه. قال: ينبغي أن يحلفه عند محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف بناء على أن المودع إذا أقر الوديعة ودفع بالقضاء إلى غيره يضمنه عند محمد خلافا له وهذه فريعة تلك المسألة وقد وقع فيه بعض الإطناب والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 كتاب العارية حكمها وصحتها ... كتاب العارية قال: "العارية جائزة"؛ لأنها نوع إحسان "وقد استعار النبي عليه الصلاة والسلام دروعا من صفوان", "وهي تمليك المنافع بغير عوض" وكان الكرخي رحمه الله يقول: هو إباحة الانتفاع بملك الغير، لأنها تنعقد بلفظة الإباحة، ولا يشترط فيها ضرب المدة، ومع الجهالة لا يصح التمليك ولذلك يعمل فيها النهي، ولا يملك الإجارة من غيره، ونحن نقول: إنه ينبئ عن التمليك، فإن العارية من العرية وهي العطية ولهذا تنعقد بلفظ التمليك، والمنافع قابلة للملك كالأعيان. والتمليك نوعان: بعوض، وبغير عوض. ثم الأعيان تقبل النوعين، فكذا المنافع، والجامع دفع الحاجة، ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك، كما في الإجارة، فإنها تنعقد بلفظة الإباحة، وهي تمليك. والجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لعدم اللزوم فلا تكون ضائرة. ولأن الملك يثبت بالقبض وهو الانتفاع. وعند ذلك لا جهالة، والنهي منع عن التحصيل فلا يتحصل المنافع على ملكه. ولا يملك الإجارة لدفع زيادة الضرر على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: "وتصح بقوله أعرتك"؛ لأنه صريح فيه "وأطعمتك هذه الأرض"؛ لأنه مستعمل فيه "ومنحتك هذا الثوب وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة"؛ لأنهما لتمليك العين، وعند عدم إرادته الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزا. قال: "وأخدمتك هذا العبد"؛ لأنه أذن له في استخدامه "وداري لك سكنى"؛ لأن معناه سكناها لك "وداري لك عمرى سكنى"؛ لأنه جعل سكناها له مدة عمره. وجعل قوله سكنى تفسيرا لقوله لك؛ لأنه يحتمل تمليك المنافع فحمل عليه بدلالة آخره. قال: "وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء" لقوله عليه الصلاة والسلام: "المنحة مردودة والعارية مؤداة" ولأن المنافع تملك شيئا فشيئا على حسب حدوثها فالتمليك فيما لم يوجد لم يتصل به القبض فيصح الرجوع عنه. قال: "والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن" وقال الشافعي رحمه الله: يضمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق فيضمنه، والإذن ثبت ضرورة الانتفاع فلا يظهر فيما وراءه، ولهذا كان واجب الرد وصار كالمقبوض على سوم الشراء. ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان؛ لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها، والقبض لم يقع تعديا لكونه مأذونا فيه، والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع فهو ما قبضه إلا للانتفاع فلم يقع تعديا، وإنما وجب الرد مؤنة كنفقة المستعار فإنها على المستعير لا لنقض القبض. والمقبوض على سوم الشراء مضمون بالعقد؛ لأن الأخذ في العقد له حكم العقد على ما عرف في موضعه. قال: "وليس للمستعير أن يؤاجر ما استعاره؛ فإن آجره فعطب ضمن"؛ لأن الإعارة دون الإجارة والشيء لا يتضمن ما هو فوقه، ولأنا لو صححناه لا يصح إلا لازما؛ لأنه حينئذ يكون بتسليط من المعير، وفي وقوعه لازما زيادة ضرر بالمعير لسد باب الاسترداد إلى انقضاء مدة الإجارة فأبطلناه، وضمنه حين سلمه؛ لأنه إذا لم تتناوله العارية كان غصبا، وإن شاء المعير ضمن المستأجر؛ لأنه قبضه بغير إذن المالك لنفسه، ثم إن ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر؛ لأنه ظهر أنه آجر ملك نفسه، وإن ضمن المستأجر يرجع على المؤاجر إذا لم يعلم أنه كان عارية في يده دفعا لضرر الغرور، بخلاف ما إذا علم. قال: "وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل" وقال الشافعي: ليس له أن يعيره؛ لأنه إباحة المنافع على ما بينا من قبل، والمباح له لا يملك الإباحة، وهذا؛ لأن المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة، وإنما جعلناها موجودة في الإجارة للضرورة. وقد اندفعت بالإباحة هاهنا. ونحن نقول: هو تمليك المنافع على ما ذكرنا فيملك الإعارة كالموصى له بالخدمة، والمنافع اعتبرت قابلة للملك في الإجارة فتجعل كذلك في الإعارة دفعا للحاجة، وإنما لا تجوز فيما يختلف باختلاف المستعمل دفعا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره. قال رضي الله عنه: وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة. وهي على أربعة أوجه: أحدها: أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع وللمستعير فيه أن ينتفع به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملا بالإطلاق. والثاني: أن تكون مقيدة فيهما وليس له أن يجاوز فيه ما سماه عملا بالتقييد إلا إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 كان خلافا إلى مثل ذلك أو إلى خير منه والحنطة مثل الحنطة، والشعير خير من الحنطة إذا كان كيلا. والثالث: أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع. والرابع: عكسه وليس له أن يتعدى ما سماه، فلو استعار دابة ولم يسم شيئا له أن يحمل ويعير غيره للحمل؛ لأن الحمل لا يتفاوت. وله أن يركب ويركب غيره وإن كان الركوب مختلفا؛ لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين، حتى لو ركب بنفسه ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين ركوبه، ولو أركب غيره ليس له أن يركبه حتى لو فعله ضمنه؛ لأنه تعين الإركاب. قال: "وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود قرض"؛ لأن الإعارة تمليك المنافع، ولا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاك عينها فاقتضى تمليك العين ضرورة وذلك بالهبة أو بالقرض والقرض أدناهما فيثبت. أو؛ لأن من قضية الإعارة الانتفاع ورد العين فأقيم رد المثل مقامه. قالوا: هذا إذا أطلق الإعارة. وأما إذا عين الجهة بأن استعار دراهم ليعاير بها ميزانا أو يزين بها دكانا لم يكن قرضا ولم يكن له إلا المنفعة المسماة، وصار كما إذا استعار آنية يتجمل بها أو سيفا محلى يتقلده. قال: " وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس فيها جاز وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه قلع البناء والغرس" أما الرجوع فلما بينا، وأما الجواز فلأنها منفعة معلومة تملك بالإجارة فكذا بالإعارة. وإذا صح الرجوع بقي المستعير شاغلا أرض المعير فيكلف تفريغها، ثم إن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه؛ لأن المستعير مغتر غير مغرور حيث اعتمد إطلاق العقد من غير أن يسبق منه الوعد وإن كان وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرناه ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد "وضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع"؛ لأنه مغرور من جهته حيث وقت له، والظاهر هو الوفاء بالعهد ويرجع عليه دفعا للضرر عن نفسه. كذا ذكره القدوري في المختصر. وذكر الحاكم الشهيد أنه يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه وبنائه ويكونان له، إلا أن يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما فيكون له ذلك؛ لأنه ملكه. قالوا: إذا كان في القلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض؛ لأنه صاحب أصل والمستعير صاحب تبع والترجيح بالأصل، "ولو استعارها ليزرعها لم تؤخذ منه حتى يحصد الزرع وقت أو لم يوقت"؛ لأن له نهاية معلومة، وفي الترك مراعاة الحقين، بخلاف الغرس؛ لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك. قال: "وأجرة رد العارية على المستعير"؛ لأن الرد واجب عليه لما أنه قبضه لمنفعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 نفسه والأجرة مؤنة الرد فتكون عليه "وأجرة رد العين المستأجرة على المؤجر" لأن الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد، فإن منفعة قبضه سالمة للمؤجر معنى فلا يكون عليه مؤنة رده "وأجرة رد العين المغصوبة على الغاصب"؛ لأن الواجب عليه الرد والإعادة إلى يد المالك دفعا للضرر عنه فتكون مؤنته عليه. قال: "وإذا استعار دابة فردها إلى إصطبل مالكها فهلكت لم يضمن" وهذا استحسان، وفي القياس يضمن؛ لأنه ما ردها إلى مالكها بل ضيعها. وجه الاستحسان أنه أتي بالتسليم المتعارف؛ لأن رد العواري إلى دار الملاك معتاد كآلة البيت، ولو ردها إلى المالك فالمالك يردها إلى المربط. فصح رده "وإن استعار عبدا فرده إلى دار المالك ولم يسلمه إليه لم يضمن" لما بينا "ولو رد المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن"؛ لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله، وذلك بالرد إلى المالك دون غيره، الوديعة لا يرضى المالك بردها إلى الدار ولا إلى يد من في العيال؛ لأنه لو ارتضاه لما أودعها إياه، بخلاف العواري؛ لأن فيها عرفا، حتى لو كانت العارية عقد جوهر لم يردها إلا إلى المعير؛ لعدم ما ذكرناه من العرف فيه. قال: "ومن استعار دابة فردها مع عبده أو أجيره لم يضمن" والمراد بالأجير أن يكون مسانهة أو مشاهرة؛ لأنها أمانة، وله أن يحفظها بيد من في عياله كما في الوديعة، بخلاف الأجير مياومة؛ لأنه ليس في عياله. "وكذا إذا ردها مع عبد رب الدابة أو أجيره"؛ لأن المالك يرضى به؛ ألا ترى أنه لو رده إليه فهو يرده إلى عبده، وقيل هذا في العبد الذي يقوم على الدواب، وقيل فيه وفي غيره وهو الأصح؛ لأنه إن كان لا يدفع إليه دائما يدفع إليه أحيانا "وإن ردها مع أجنبي ضمن" ودلت المسألة على أن المستعير لا يملك الإيداع قصدا كما قاله بعض المشايخ، وقال بعضهم: يملكه لأنه دون الإعارة، وأولوا هذه المسألة بإنهاء الإعارة لانقضاء المدة. قال: "ومن أعار أرضا بيضاء للزراعة يكتب إنك أطعمتني عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يكتب إنك أعرتني"؛ لأن لفظة الإعارة موضوعة له والكتابة بالموضوع له أولى كما في إعارة الدار. وله أن لفظة الإطعام أدل على المراد؛ لأنها تخص الزراعة والإعارة تنتظمها وغيرها كالبناء ونحوه فكانت الكتابة بها أولى، بخلاف الدار؛ لأنها لا تعار إلا للسكنى، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 كتاب الهبة حكمها وكيفية انعقادها ... كتاب الهبة الهبة عقد مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام: "تهادوا تحابوا" وعلى ذلك انعقد الإجماع "وتصح بالإيجاب والقبول والقبض" أما الإيجاب والقبول فلأنه عقد، والعقد ينعقد بالإيجاب، والقبول، والقبض لا بد منه لثبوت الملك. وقال مالك: يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا بالبيع، وعلى هذا الخلاف الصدقة. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجوز الهبة إلا مقبوضة" والمراد نفي الملك، لأن الجواز بدونه ثابت، ولأنه عقد تبرع، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به، وهو التسليم فلا يصح، بخلاف الوصية؛ لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت ولا إلزام على المتبرع؛ لعدم أهلية اللزوم، وحق الوارث متأخر عن الوصية فلم يملكها. قال: "فإن قبضها الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز" استحسانا "وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض" والقياس أن لا يجوز في الوجهين وهو قول الشافعي؛ لأن القبض تصرف في ملك الواهب، إذ ملكه قبل القبض باق فلا يصح بدون إذنه، ولنا أن القبض بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك، والمقصود منه إثبات الملك فيكون الإيجاب منه تسليطا على القبض، بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق؛ لأنا إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذا ما يلحق به، بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس؛ لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح. قال: "وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت"؛ لأن الأول صريح فيه والثاني مستعمل فيه. قال عليه الصلاة والسلام: "أكل أولادك نحلت مثل هذا؟ " وكذلك الثالث، يقال: أعطاك الله ووهبك الله بمعنى واحد "وكذا تنعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك وأعمرتك هذا الشيء وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحملان الهبة" أما الأول فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين، بخلاف ما إذا قال: أطعمتك هذه الأرض حيث تكون عارية؛ لأن عينها لا تطعم فيكون المراد أكل غلتها؛ وأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 الثاني فلأن حرف اللام للتمليك. وأما الثالث فلقوله عليه الصلاة والسلام "فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده" وكذا إذا قال جعلت هذه الدار لك عمرى لما قلنا. وأما الرابع فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية لكنه يحتمل الهبة، يقال حمل الأمير فلانا على فرس ويراد به التمليك فيحمل عليه عند نيته. "ولو قال كسوتك هذا الثوب يكون هبة"؛ لأنه يراد به التمليك، قال الله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] ويقال كسا الأمير فلانا ثوبا: أي ملكه منه "ولو قال منحتك هذه الجارية كانت عارية" لما روينا من قبل."ولو قال داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية"؛ لأن العارية محكم في تمليك المنفعة والهبة تحتملها وتحتمل تمليك العين فيحمل المحتمل على المحكم، وكذا إذا قال عمرى سكنى أو نحلي سكنى أو سكنى صدقة أو صدقة عارية أو عارية هبة لما قدمناه. "ولو قال هبة تسكنها فهي هبة"؛ لأن قوله تسكنها مشورة وليس بتفسير له وهو تنبيه على المقصود، بخلاف قوله هبة سكنى؛ لأنه تفسير له. قال: "ولا تجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة، وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة" وقال الشافعي: تجوز في الوجهين؛ لأنه عقد تمليك فيصح في المشاع وغيره كالبيع بأنواعه، وهذا؛ لأن المشاع قابل لحكمه، وهو الملك فيكون محلا له، وكونه تبرعا لا يبطله الشيوع كالقرض والوصية. ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة فيشترط كماله والمشاع لا يقبله إلا بضم غيره إليه، وذلك غير موهوب، ولأن في تجويزه إلزامه شيئا لم يلتزمه وهو مؤنة القسمة، ولهذا امتنع جوازه قبل القبض لئلا يلزمه التسليم، بخلاف ما لا يقسم؛ لأن القبض القاصر هو الممكن فيكتفى به؛ ولأنه لا تلزمه مؤنة القسمة. والمهايأة تلزمه فيما لم يتبرع به وهو المنفعة، والهبة لاقت العين، والوصية ليس من شرطها القبض، وكذا البيع الصحيح، وأما البيع الفاسد والصرف والسلم فالقبض فيها غير منصوص عليه، ولأنها عقود ضمان فتناسب لزوم مؤنة القسمة، والقرض تبرع من وجه وعقد ضمان من وجه، فشرطنا القبض القاصر فيه دون القسمة عملا بالشبهين، على أن القبض غير منصوص عليه فيه. "ولو وهب من شريكه لا يجوز"؛ لأن الحكم يدار على نفس الشيوع. قال: "ومن وهب شقصا مشاعا فالهبة فاسدة" لما ذكرنا "فإن قسمه وسلمه جاز"؛ لأن تمامه بالقبض وعنده لا شيوع. قال: "ولو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم فالهبة فاسدة، فإن طحن وسلم لم يجز" وكذا السمن في اللبن؛ لأن الموهوب معدوم، ولهذا لو استخرجه الغاصب يملكه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 والمعدوم ليس بمحل للملك فوقع العقد باطلا، فلا ينعقد إلا بالتجديد، بخلاف ما تقدم؛ لأن المشاع محل للتمليك، وهبة اللبن في الضرع والصوف على ظهر الغنم والزرع والنخل في الأرض والتمر في النخيل بمنزلة المشاع؛ لأن امتناع الجواز للاتصال وذلك يمنع القبض كالشائع. قال: "وإذا كانت العين في يد الموهوب له ملكها بالهبة وإن لم يجدد فيها قبضا"؛ لأن العين في قبضه والقبض هو الشرط، بخلاف ما إذا باعه منه؛ لأن القبض في البيع مضمون فلا ينوب عنه قبض الأمانة، أما قبض الهبة فغير مضمون فينوب عنه. قال: "وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد"؛ لأنه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة، ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه؛ لأن يده كيده، بخلاف ما إذا كان مرهونا أو مغصوبا أو مبيعا بيعا فاسدا؛ لأنه في يد غيره أو في ملك غيره، والصدقة في هذا مثل الهبة، وكذا إذا وهبت له أمه وهو في عيالها والأب ميت ولا وصي له، وكذلك كل من يعوله. "وإن وهب له أجنبي هبة تمت بقبض الأب"؛ لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر فأولى أن يملك المنافع. "وإن وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز"؛ لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب "وإن كان في حجر أمه فقبضها له جائز"؛ لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله. وهذا من بابه؛ لأنه لا يبقى إلا بالمال فلا بد من ولاية التحصيل "وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه"؛ لأن له عليه يدا معتبرة. ألا ترى أنه لا يتمكن أجنبي آخر أن ينزعه من يده فيملك ما يتمحض نفعا في حقه "وإن قبض الصبي الهبة بنفسه جاز" معناه إذا كان عاقلا؛ لأنه نافع في حقه وهو من أهله. وفيما وهب للصغيرة يجوز قبض زوجها لها بعد الزفاف لتفويض الأب أمورها إليه دلالة، بخلاف ما قبل الزفاف ويملكه مع حضرة الأب، بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة في الصحيح؛ لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب، ومع حضوره لا ضرورة. قال: "وإذا وهب اثنان من واحد دارا جاز"؛ لأنهما سلماها جملة وهو قد قبضها جملة فلا شيوع "وإن وهبها واحد من اثنين لا يجوز عند أبي حنيفة، وقالا يصح"؛ لأن هذه هبة الجملة منهما، إذ التمليك واحد فلا يتحقق الشيوع كما إذا رهن من رجلين. وله أن هذه هبة النصف من كل واحد منهما، ولهذا لو كانت فيما لا يقسم فقبل أحدهما صح، ولأن الملك يثبت لكل واحد منهما في النصف فيكون التمليك كذلك؛ لأنه حكمه، وعلى هذا الاعتبار يتحقق الشيوع، بخلاف الرهن؛ لأن حكمه الحبس، ويثبت لكل واحد منهما كاملا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 إذ لا تضايف فيه فلا شيوع ولهذا لو قضى دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن. "وفي الجامع الصغير: إذا تصدق على محتاجين بعشرة دراهم أو وهبها لهما جاز، ولو تصدق بها على غنيين أو وهبها لهما لم يجز، وقالا: يجوز للغنيين أيضا" جعل كل واحد منهما مجازا عن الآخر، والصلاحية ثابتة؛ لأن كل واحد منهما تمليك بغير بدل، وفرق بين الصدقة والهبة في الحكم. وفي الأصل سوى بينهما فقال: وكذلك الصدقة؛ لأن الشيوع مانع في الفصلين لتوقفهما على القبض. ووجه الفرق على هذه الرواية أن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى وهو واحد، والهبة يراد بها وجه الغني وهما اثنان. وقيل هذا هو الصحيح، والمراد بالمذكور في الأصل الصدقة على غنيين. ولو وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يجوز. ولو قال لأحدهما نصفها وللآخر نصفها عن أبي يوسف فيه روايتان، فأبو حنيفة مر على أصله، وكذا محمد. والفرق لأبي يوسف أن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصده ثبوت الملك في البعض فيتحقق الشيوع، ولهذا لا يجوز إذا رهن من رجلين ونص على الأبعاض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 باب الرجوع في الهبة مدخل ... باب الرجوع في الهبة قال: "وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها" وقال الشافعي: لا رجوع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده" ولأن الرجوع يضاد التمليك، والعقد لا يقتضي ما يضاده، بخلاف هبة الوالد لولده على أصله؛ لأنه لم يتم التمليك؛ لكونه جزءا له. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها" أي ما لم يعوض؛ ولأن المقصود بالعقد هو التعويض للعادة، فتثبت له ولاية الفسخ عند فواته، إذ العقد يقبله، والمراد بما روي نفي استبداد والرجوع وإثباته للوالد؛ لأنه يتملكه للحاجة وذلك يسمى رجوعا. وقوله في الكتاب فله الرجوع لبيان الحكم، أما الكراهة فلازمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" وهذا لاستقباحه. ثم للرجوع موانع ذكر بعضها فقال: "إلا أن يعوضه عنها" لحصول المقصود "أو تزيد زيادة متصلة"؛ لأنه لا وجه إلى الرجوع فيها دون الزيادة؛ لعدم الإمكان ولا مع الزيادة؛ لعدم دخولها تحت العقد. قال: "أو يموت أحد المتعاقدين"؛ لأن بموت الموهوب له ينتقل الملك إلى الورثة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 فصار كما إذا انتقل في حال حياته، وإذا مات الواهب فوارثه أجنبي عن العقد إذ هو ما أوجبه. قال: "أو تخرج الهبة عن ملك الموهوب له"؛ لأنه حصل بتسليطه فلا ينقضه، ولأنه تجدد الملك بتجدد سببه. قال: "فإن وهب لآخر أرضا بيضاء فأنبت في ناحية منها نخلا أو بنى بيتا أو دكانا أو آريا وكان ذلك زيادة فيها فليس له أن يرجع في شيء منها"؛ لأن هذه زيادة متصلة. وقوله وكان ذلك زيادة فيها؛ لأن الدكان قد يكون صغيرا حقيرا لا يعد زيادة أصلا، وقد تكون الأرض عظيمة يعد ذلك زيادة في قطعة منها فلا يمتنع الرجوع في غيرها. قال: "فإن باع نصفها غير مقسوم رجع في الباقي"؛ لأن الامتناع بقدر المانع "وإن لم يبع شيئا منها له أن يرجع في نصفها"؛ لأن له أن يرجع في كلها فكذا في نصفها بالطريق الأولى. قال: "وإن وهب هبة لذي رحم محرم منه فلا رجوع فيها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم منه لم يرجع فيها"؛ ولأن المقصود فيها صلة الرحم وقد حصل "وكذلك ما وهب أحد الزوجين للآخر"؛ لأن المقصود فيها الصلة كما في القرابة، وإنما ينظر إلى هذا المقصود وقت العقد، حتى لو تزوجها بعدما وهب لها فله الرجوع، ولو أبانها بعدما وهب فلا رجوع. قال: "وإذا قال الموهوب له للواهب خذ هذا عوضا عن هبتك أو بدلا عنها أو في مقابلتها فقبضه الواهب سقط الرجوع" لحصول المقصود، وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا "وإن عوضه أجنبي عن الموهوب له متبرعا فقبض الواهب العوض بطل الرجوع"؛ لأن العوض لإسقاط الحق فيصح من الأجنبي كبدل الخلع والصلح. قال: "وإذا استحق نصف الهبة رجع بنصف العوض"؛ لأنه لم يسلم له ما يقابل نصفه "وإن استحق نصف العوض لم يرجع في الهبة إلا أن يرد ما بقي ثم يرجع" وقال زفر: يرجع بالنصف اعتبارا بالعوض الآخر. ولنا أنه يصلح عوضا للكل من الابتداء، وبالاستحقاق ظهر أنه لا عوض إلا هو، إلا أنه يتخير؛ لأنه ما أسقط حقه في الرجوع إلا ليسلم له كل العوض ولم يسلم فله أن يرده. قال: "وإن وهب دارا فعوضه من نصفها رجع الواهب في النصف الذي لم يعوض"؛ لأن المانع خص النصف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 قال: "ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو بحكم الحاكم"؛ لأنه مختلف بين العلماء، وفي أصله وهاء وفي حصول المقصود وعدمه خفاء، فلا بد من الفصل بالرضا أو بالقضاء، حتى لو كانت الهبة عبدا فأعتقه قبل القضاء نفذ، ولو منعه فهلك لم يضمن؛ لقيام ملكه فيه، وكذا إذا هلك في يده بعد القضاء؛ لأن أول القبض غير مضمون، وهذا دوام عليه إلا أن يمنعه بعد طلبه؛ لأنه تعدى، وإذا رجع بالقضاء أو بالتراضي يكون فسخا من الأصل حتى لا يشترط قبض الواهب ويصح في الشائع؛ لأن العقد وقع جائزا موجبا حق الفسخ، فكان بالفسخ مستوفيا حقا ثابتا له فيظهر على الإطلاق، بخلاف الرد بالعيب بعد القبض؛ لأن الحق هناك في وصف السلامة لا في الفسخ فافترقا. قال: "وإذا تلفت العين الموهوبة واستحقها مستحق وضمن الموهوب له لم يرجع على الواهب بشيء"؛ لأنه عقد تبرع فلا يستحق فيه السلامة، وهو غير عامل له، والغرور في ضمن عقد المعاوضة سبب الرجوع لا في غيره. قال: "وإذا وهب بشرط العوض اعتبر التقابض في العوضين، وتبطل بالشيوع"؛ لأنه هبة ابتداء "فإن تقابضا صح العقد وصار في حكم البيع يرد بالعيب وخيار الرؤية وتستحق فيه الشفعة"؛ لأنه بيع انتهاء. وقال زفر والشافعي رحمهما الله: هو بيع ابتداء وانتهاء؛ لأن فيه معنى البيع وهو التمليك بعوض، والعبرة في العقود للمعاني، ولهذا كان بيع العبد من نفسه إعتاقا. ولنا أنه اشتمل على جهتين فيجمع بينهما ما أمكن عملا بالشبهين، وقد أمكن؛ لأن الهبة من حكمها تأخر الملك إلى القبض، وقد يتراخى عن البيع الفاسد والبيع من حكمه اللزوم، وقد تنقلب الهبة لازمة بالتعويض فجمعنا بينهما، بخلاف بيع نفس العبد من نفسه؛ لأنه لا يمكن اعتبار البيع فيه، إذ هو لا يصلح مالكا لنفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 فصل: ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء ... فصل: قال: "ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء"؛ لأن الاستثناء لا يعمل إلا في محل يعمل فيه العقد، والهبة لا تعمل في الحمل لكونه وصفا على ما بيناه في البيوع فانقلب شرطا فاسدا، والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وهذا هو الحكم في النكاح والخلع والصلح عن دم العمد؛ لأنها لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع والإجارة والرهن؛ لأنها تبطل بها. "ولو أعتق ما في بطنها ثم وهبها جاز"؛ لأنه لم يبق الجنين على ملكه فأشبه الاستثناء، "ولو دبر ما في بطنها ثم وهبها لم يجز"؛ لأن الحمل بقي على ملكه فلم يكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 شبيه الاستثناء، ولا يمكن تنفيذ الهبة فيه لمكان التدبير فبقي هبة المشاع أو هبة شيء هو مشغول بملك المالك. قال: "فإن وهبها له على أن يردها عليه أو على أن يعتقها أو أن يتخذها أم ولد أو وهب دارا أو تصدق عليه بدار على أن يرد عليه شيئا منها أو يعوضه شيئا منها فالهبة جائزة والشرط باطل". لأن هذه الشروط تخالف مقتضى العقد فكانت فاسدة، والهبة لا تبطل بها، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر بخلاف البيع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وشرط ولأن الشرط الفاسد في معنى الربا، وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات. قال: "ومن له على آخر ألف درهم فقال إذا جاء الغد فهي لك أو أنت منها بريء. أو قال: إذا أديت إلي النصف فلك نصفه أو أنت بريء من النصف الباقي فهو باطل"؛ لأن الإبراء تمليك من وجه إسقاط من وجه، وهبة الدين ممن عليه إبراء، وهذا؛ لأن الدين مال من وجه ومن هذا الوجه كان تمليكا، ووصف من وجه ومن هذا الوجه كان إسقاطا، ولهذا قلنا: إنه يرتد بالرد، ولا يتوقف على القبول. والتعليق بالشروط يختص بالإسقاطات المحضة التي يحلف بها كالطلاق والعتاق فلا يتعداها. قال: "والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده" لما روينا. ومعناه أن يجعل داره له عمره. وإذا مات ترد عليه فيصح التمليك، ويبطل الشرط لما روينا وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة "والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: جائزة"؛ لأن قوله داري لك تمليك. وقوله رقبى شرط فاسد كالعمرى. ولهما أنه عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى ورد الرقبى ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك، واللفظ من المراقبة كأنه يراقب موته، وهذا تعليق التمليك بالخطر فبطل. وإذا لم تصح تكون عارية عندهما؛ لأنه يتضمن إطلاق الانتفاع به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فصل: في الصدقة قال: "والصدقة كالهبة لا تصح إلا بالقبض"؛ لأنه تبرع كالهبة "فلا تجوز في مشاع يحتمل القسمة" لما بينا في الهبة "ولا رجوع في الصدقة"؛ لأن المقصود هو الثواب وقد حصل. وكذا إذا تصدق على غني استحسانا؛ لأنه قد يقصد بالصدقة على الغني الثواب. وكذا إذا وهب الفقير؛ لأن المقصود الثواب وقد حصل. قال: "ومن نذر أن يتصدق بماله يتصدق بجنس ما يجب فيه الزكاة، ومن نذر أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 يتصدق بملكه لزمه أن يتصدق بالجميع" ويروى أنه والأول سواء، وقد ذكرنا الفرق. ووجه الروايتين في مسائل القضاء "ويقال له أمسك ما تنفقه على نفسك وعيالك إلى أن تكتسب، فإذا اكتسب مالا يتصدق بمثل ما أنفق" وقد ذكرناه من قبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 كتاب الإجارات تعريفها ... كتاب الإجارات "الإجارة: عقد على المنافع بعوض" لأن الإجارة في اللغة بيع المنافع، والقياس يأبى جوازه؛ لأن المعقود عليه المنفعة وهي معدومة، وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح إلا أنا جوزناه لحاجة الناس إليه، وقد شهدت بصحتها الآثار وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره" وتنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة، والدار أقيمت مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليرتبط الإيجاب بالقبول، ثم عمله يظهر في حق المنفعة ملكا واستحقاقا حال وجود المنفعة. "ولا تصح حتى تكون المنافع معلومة، والأجرة معلومة" لما روينا، ولأن الجهالة في المعقود عليه وبدله تفضي إلى المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع "وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجرة في الإجارة"؛ لأن الأجرة ثمن المنفعة، فتعتبر بثمن المبيع. وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان. فهذا اللفظ لا ينفي صلاحية غيره؛ ل أنه عوض مالي "والمنافع تارة تصير معلومة بالمدة كاستئجار الدور، للسكنى والأرضين للزراعة فيصح العقد على مدة معلومة أي مدة كانت"؛ لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوما إذا كانت المنفعة لا تتفاوت. وقوله أي مدة كانت إشارة إلى أنه يجوز طالت المدة أو قصرت لكونها معلومة ولتحقق الحاجة إليها عسى، إلا أن في الأوقاف لا تجوز الإجارة الطويلة كي لا يدعي المستأجر ملكها وهي ما زاد على ثلاث سنين هو المختار. قال: "وتارة تصير معلومة بنفسه كمن استأجر رجلا على صبغ ثوبه أو خياطته أو استأجر دابة؛ ليحمل عليها مقدارا معلوما أو يركبها مسافة سماها"؛ لأنه إذا بين الثوب ولون الصبغ وقدره وجنس الخياطة والقدر المحمول وجنسه والمسافة صارت المنفعة معلومة فيصح العقد، وربما يقال: الإجارة قد تكون عقدا على العمل كاستئجار القصار والخياط، ولا بد أن يكون العمل معلوما وذلك في الأجير المشترك، وقد تكون عقدا على المنفعة كما في أجير الوحد، ولا بد من بيان الوقت. قال: "وتارة تصير المنفعة معلومة بالتعيين والإشارة كمن استأجر رجلا، لينقل له هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 الطعام إلى موضع معلوم"؛ لأنه إذا آراه ما ينقله والموضع الذي يحمل إليه كانت المنفعة معلومة فيصح العقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 باب الأجر متى يستحق مدخل ... باب الأجر متى يستحق قال: "الأجرة لا تجب بالعقد وتستحق بأحد معان ثلاثة: إما بشرط التعجيل، أو بالتعجيل من غير شرط، أو باستيفاء المعقود عليه". وقال الشافعي: تملك بنفس العقد؛ لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل. ولنا أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع على ما بينا، والعقد معاوضة، ومن قضيتها المساواة، فمن ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في البدل الآخر. وإذا استوفى المنفعة يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية. وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل؛ لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله. "وإذا قبض المستأجر الدار فعليه الأجر وإن لم يسكنها"؛ لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور فأقمنا تسليم المحل مقامه إذ التمكن من الانتفاع يثبت به. قال: "فإن غصبها غاصب من يده سقطت الأجرة"؛ لأن تسليم المحل إنما أقيم مقام تسليم المنفعة للتمكن من الانتفاع، فإذا فات التمكن فات التسليم، وانفسخ العقد فسقط الأجر، "وإن وجد الغصب في بعض المدة سقط الأجر بقدره". إذ الانفساخ في بعضها. قال: "ومن استأجر دارا فللمؤجر أن يطالبه بأجرة كل يوم"؛ لأنه استوفى منفعة مقصودة "إلا أن يبين وقت الاستحقاق بالعقد"؛ لأنه بمنزلة التأجيل "وكذلك إجارة الأراضي" لما بينا. "ومن استأجر بعيرا إلى مكة فللجمال أن يطالبه بأجرة كل مرحلة"؛ لأن سير كل مرحلة مقصود. وكان أبو حنيفة يقول أولا: لا يجب الأجر إلا بعد انقضاء المدة وانتهاء السفر وهو قول زفر؛ لأن المعقود عليه جملة المنافع في المدة فلا يتوزع الأجر على أجزائها، كما إذا كان المعقود عليه العمل. ووجه القول المرجوع إليه أن القياس يقتضي استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقق المساواة، إلا أن المطالبة في كل ساعة تفضي إلى أن لا يتفرغ لغيره فيتضرر به، فقدرنا بما ذكرنا. قال: "وليس للقصار والخياط أن يطالب بأجره حتى يفرغ من العمل"؛ لأن العمل في البعض غير منتفع به فلا يستوجب به الأجر، وكذا إذا عمل في بيت المستأجر لا يستوجب الأجر قبل الفراغ لما بينا. قال: "إلا أن يشترط التعجيل" لما مر أن الشرط فيه لازم. قال: "ومن استأجر خبازا ليخبز له في بيته قفيزا من دقيق بدرهم لم يستحق الأجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 حتى يخرج الخبز من التنور"؛ لأن تمام العمل بالإخراج. فلو احترق أو سقط من يده قبل الإخراج فلا أجر له للهلاك قبل التسليم، "فإن أخرجه ثم احترق من غير فعله فله الأجر"؛ لأنه صار مسلما إليه بالوضع في بيته، ولا ضمان عليه؛ لأنه لم توجد منه الجناية. قال: وهذا عند أبي حنيفة؛ لأنه أمانة في يده، وعندهما يضمن مثل دقيقه ولا أجر له؛ لأنه مضمون عليه فلا يبرأ إلا بعد حقيقة التسليم، وإن شاء ضمنه الخبز، وأعطاه الأجر. قال: "ومن استأجر طباخا ليطبخ له طعاما للوليمة فالعرف عليه" اعتبارا للعرف. قال: "ومن استأجر إنسانا ليضرب له لبنا استحق الأجر إذا أقامها عند أبي حنيفة، وقالا: لا يستحقها حتى يشرجها"؛ لأن التشريج من تمام عمله، إذ لا يؤمن من الفساد قبله فصار كإخراج الخبز من التنور؛ ولأن الأجير هو الذي يتولاه عرفا وهو المعتبر فيما لم ينص عليه. ولأبي حنيفة أن العمل قد تم بالإقامة، والتشريج عمل زائد كالنقل، ألا ترى أنه ينتفع به قبل التشريج بالنقل إلى موضع العمل، بخلاف ما قبل الإقامة؛ لأنه طين منتشر، وبخلاف الخبز؛ لأنه غير منتفع به قبل الإخراج. قال: "وكل صانع لعمله أثر في العين كالقصار والصباغ فله أن يحبس العين حتى يستوفي الأجر"؛ لأن المعقود عليه وصف قائم في الثوب فله حق الحبس؛ لاستيفاء البدل كما في المبيع، ولو حبسه فضاع لا ضمان عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه غير متعد في الحبس فبقي أمانة كما كان عنده، ولا أجر له لهلاك المعقود عليه قبل التسليم. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: العين كانت مضمونة قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له، وإن شاء ضمنه معمولا وله الأجر، وسيبين من بعد إن شاء الله تعالى. قال: "وكل صانع ليس لعمله أثر في العين فليس له أن يحبس العين للأجر كالحمال والملاح"؛ لأن المعقود عليه نفس العمل وهو غير قائم في العين فلا يتصور حبسه فليس له ولاية الحبس وغسل الثوب نظير الحمل، وهذا بخلاف الآبق حيث يكون للراد حق حبسه لاستيفاء الجعل، ولا أثر لعمله؛ لأنه كان على شرف الهلاك وقد أحياه فكأنه باعه منه فله حق الحبس، وهذا الذي ذكرنا مذهب علمائنا الثلاثة. وقال زفر: ليس له حق الحبس في الوجهين؛ لأنه وقع التسليم باتصال المبيع بملكه فيسقط حق الحبس. ولنا أن الاتصال بالمحل ضرورة إقامة تسليم العمل فلم يكن هو راضيا به من حيث أنه تسليم فلا يسقط حق الحبس كما إذا قبض المشتري بغير رضا البائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 قال: "وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه ليس له أن يستعمل غيره"؛ لأن المعقود عليه العمل في محل بعينه فيستحق عينه كالمنفعة في محل بعينه "وإن أطلق له العمل فله أن يستأجر من يعمله"؛ لأن المستحق عمل في ذمته، ويمكن إيفاؤه بنفسه وبالاستعانة بغيره بمنزلة إيفاء الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 فصل: ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله الخ ... فصل: "ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فذهب فوجد بعضهم قد مات فجاء بمن بقي فله الأجر بحسابه"؛ لأنه أوفى بعض المعقود عليه فيستحق العوض بقدره، ومراده إذا كانوا معلومين "وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له" هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: له الأجر في الذهاب؛ لأنه أوفى بعض المعقود عليه، وهو قطع المسافة، وهذا لأن الأجر مقابل به لما فيه من المشقة دون حمل الكتاب لخفة مؤنته. ولهما أن المعقود عليه نقل الكتاب؛ لأنه هو المقصود أو وسيلة إليه وهو العلم بما في الكتاب ولكن الحكم معلق به وقد نقضه فيسقط الأجر كما في الطعام وهي المسألة التي تلي هذه المسألة "وإن ترك الكتاب في ذلك المكان وعاد يستحق الأجر بالذهاب بالإجماع"؛ لأن الحمل لم ينتقض. "وإن استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له في قولهم جميعا"؛ لأنه نقض تسليم المعقود عليه، وهو حمل الطعام، بخلاف مسألة الكتاب على قول محمد؛ لأن المعقود عليه هناك قطع المسافة على ما مر. والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 باب ما يجوز من الإجارة ومايكون خلافا فيها قال: "ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى وإن لم يبين ما يعمل فيها"؛ لأن العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه، وأنه لا يتفاوت فصح العقد "وله أن يعمل كل شيء" للإطلاق "إلا أنه لا يسكن حدادا ولا قصارا ولا طحانا؛ لأن فيه ضررا ظاهرا"؛ لأنه يوهن البناء فيتقيد العقد بما وراءها دلالة. قال: "ويجوز استئجار الأراضي للزراعة"؛ لأنها منفعة مقصودة معهودة فيها "وللمستأجر الشرب والطريق، وإن لم يشترط" لأن الإجارة تعقد للانتفاع، ولا انتفاع في الحال إلا بهما فيدخلان في مطلق العقد، بخلاف البيع؛ لأن المقصود منه ملك الرقبة لا الانتفاع في الحال، حتى يجوز بيع الجحش والأرض السبخة دون الإجارة فلا يدخلان فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 من غير ذكر الحقوق وقد مر في البيوع "ولا يصح العقد حتى يسمي ما يزرع فيها"؛ لأنها قد تستأجر للزراعة ولغيرها وما يزرع فيها متفاوت فلا بد من التعيين كي لا تقع المنازعة "أو يقول على أن يزرع فيها ما شاء"؛ لأنه لما فوض الخيرة إليه ارتفعت الجهالة المفضية إلى المنازعة. قال: "ويجوز أن يستأجر الساحة؛ ليبني فيها أو؛ ليغرس فيها نخلا أو شجرا"؛ لأنها منفعة تقصد بالأراضي "ثم إذا انقضت مدة الإجارة لزمه أن يقلع البناء والغرس ويسلمها إليه فارغة"؛ لأنه لا نهاية لهما وفي إبقائهما إضرارا بصاحب الأرض، بخلاف ما إذا انقضت المدة والزرع بقل حيث يترك بأجر المثل إلى زمان الإدراك؛ لأن له نهاية معلومة فأمكن رعاية الجانبين. قال: "إلا أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له قيمة ذلك مقلوعا ويتملكه فله ذلك" وهذا برضا صاحب الغرس والشجر، إلا أن تنقص الأرض بقلعهما فحينئذ يتملكهما بغير رضاه. قال: "أو يرضى بتركه على حاله فيكون البناء لهذا والأرض لهذا"؛ لأن الحق له فله أن لا يستوفيه. قال: "وفي الجامع الصغير: إذا انقضت مدة الإجارة، وفي الأرض رطبة فإنها تقلع"؛ لأن الرطاب لا نهاية لها فأشبه الشجر. قال: "ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل"؛ لأنه منفعة معلومة معهودة "فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء" عملا بالإطلاق. ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب واحدا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين مرادا من الأصل، والناس يتفاوتون في الركوب فصار كأنه نص على ركوبه "وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق جاز فيما ذكرنا" لإطلاق اللفظ وتفاوت الناس في اللبس "وإن قال: على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب كان ضامنا"؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فصح التعيين، وليس له أن يتعداه، وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل لما ذكرنا. فأما العقار وما لا يختلف باختلاف المستعمل إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره؛ لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت الذي يضر بالبناء، والذي يضر بالبناء خارج على ما ذكرناه. قال: "وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر أو أقل كالشعير والسمسم"؛ لأنه دخل تحت الإذن لعدم التفاوت، أو لكونه خيرا من الأول "وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة كالملح والحديد" لانعدام الرضا فيه "وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه فليس له أن يحمل عليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 مثل وزنه حديدا"؛ لأنه ربما يكون أضر بالدابة فإن الحديد يجتمع في موضع من ظهرها والقطن ينبسط على ظهرها. قال: "وإن استأجرها ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت ضمن نصف قيمتها ولا معتبر بالثقل"؛ لأن الدابة قد يعقرها جهل الراكب الخفيف ويخف عليها ركوب الثقيل لعلمه بالفروسية، ولأن الآدمي غير موزون فلا يمكن معرفة الوزن فاعتبر عدد الراكب كعدد الجناة في الجنايات. قال: "وإن استأجرها ليحمل عليها مقدارا من الحنطة فحمل عليها أكثر منه فعطبت ضمن ما زاد الثقل"؛ لأنها عطبت بما هو مأذون فيه وما هو غير مأذون فيه والسبب الثقل فانقسم عليهما "إلا إذا كان حملا لا يطيقه مثل تلك الدابة فحينئذ يضمن كل قيمتها" لعدم الإذن فيها أصلا لخروجه عن العادة. قال: "وإن كبح الدابة بلجامها أو ضربها فعطبت ضمن عند أبي حنيفة. وقالا: لا يضمن إذا فعل فعلا متعارفا"؛ لأن المتعارف مما يدخل تحت مطلق العقد فكان حاصلا بإذنه فلا يضمنه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإذن مقيد بشرط السلامة إذ يتحقق السوق بدونه، وإنما هما للمبالغة فيتقيد بوصف السلامة كالمرور في الطريق. قال: "وإن استأجرها إلى الحيرة فجاوز بها إلى القادسية ثم ردها إلى الحيرة ثم نفقت فهو ضامن، وكذلك العارية" وقيل تأويل هذه المسألة إذا استأجرها ذاهبا لا جائيا؛ لينتهي العقد بالوصول إلى الحيرة فلا يصير بالعود مردودا إلى يد المالك معنى. وأما إذا استأجرها ذاهبا وجائيا فيكون بمنزلة المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق. وقيل لا، بل الجواب مجرى على الإطلاق. والفرق أن المودع بأمور بالحفظ مقصودا فبقي الأمر بالحفظ بعد العود إلى الوفاق فحصل الرد إلى يد نائب المالك، وفي الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال لا مقصودا، فإذا انقطع الاستعمال لم يبق هو نائبا فلا يبرأ بالعود وهذا أصح. قال: "ومن اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر فلا ضمان عليه"؛ لأنه إذا كان يماثل الأول تناوله إذن المالك، إذ لا فائدة في التقييد بغيره إلا إذا كان زائدا عليه في الوزن فحينئذ يضمن الزيادة "وإن كان لا يسرج بمثله الحمر ضمن"؛ لأنه لم يتناوله الإذن من جهته فصار مخالفا "وإن أوكفه بإكاف لا يوكف بمثله الحمر يضمن" لما قلنا في السرج، وهذا أولى "وإن أوكفه بإكاف يوكف بمثله الحمر يضمن عند أبي حنيفة، وقالا: يضمن بحسابه"؛ لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر كان هو والسرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 سواء فيكون المالك راضيا به، إلا إذا كان زائدا على السرج في الوزن فيضمن الزيادة؛ لأنه لم يرض بالزيادة فصار كالزيادة في الحمل المسمى إذا كان من جنسه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإكاف ليس من جنس السرج؛ لأنه للحمل، والسرج للركوب، وكذا ينبسط أحدهما على ظهر الدابة ما لا ينبسط عليه الآخر فكان مخالفا كما إذا حمل الحديد وقد شرط له الحنطة. قال: "وإن استأجر حمالا ليحمل له طعاما في طريق كذا فأخذ في طريق غيره يسلكه الناس فهلك المتاع فلا ضمان عليه، وإن بلغ فله الأجر" وهذا إذا لم يكن بين الطريقين تفاوت؛ لأن عند ذلك التقييد غير مفيد، أما إذا كان تفاوت يضمن لصحة التقييد فإن التقييد مفيد إلا أن الظاهر عدم التفاوت إذا كان طريقا يسلكه الناس فلم يفصل "وإن كان طريقا لا يسلكه الناس فهلك ضمن"؛ لأنه صح التقييد فصار مخالفا "وإن بلغ فله الأجر"؛ لأنه ارتفع الخلاف معنى، وإن بقي صورة. قال: "وإن حمله في البحر فيما يحمله الناس في البر ضمن" لفحش التفاوت بين البر والبحر "وإن بلغ فله الأجر" لحصول المقصود وارتفاع الخلاف معنى. قال: "ومن استأجر أرضا؛ ليزرعها حنطة فزرعها رطبة ضمن ما نقصها" لأن الرطاب أضر بالأرض من الحنطة لانتشار عروقها فيها وكثرة الحاجة إلى سقيها فكان خلافا إلى شر فيضمن ما نقصها "ولا أجر له"؛ لأنه غاصب للأرض على ما قررناه. قال: "ومن دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قميصا بدرهم فخاطه قباء، فإن شاء ضمنه قيمة الثوب، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به درهما" قيل: معناه القرطف الذي هو ذو طاق واحد؛ لأنه يستعمل استعمال القميص، وقيل هو مجرى على إطلاقه؛ لأنهما يتقاربان في المنفعة. وعن أبي حنيفة أنه يضمنه من غير خيار؛ لأن القباء خلاف جنس القميص. ووجه الظاهر أنه قميص من وجه؛ لأنه يشد وسطه، فمن هذا الوجه يكون مخالفا؛ لأن القميص لا يشد وينتفع به انتفاع القميص فجاءت الموافقة والمخالفة فيميل إلى أي الجهتين شاء، إلا أنه يجب أجر المثل لقصور جهة الموافقة، ولا يجاوز به الدرهم المسمى كما هو الحكم في سائر الإجارات الفاسدة على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى. ولو خاطه سراويل وقد أمر بالقباء قيل يضمن من غير خيار للتفاوت في المنفعة، والأصح أنه يخير للاتحاد في أصل المنفعة، وصار كما إذا أمر بضرب طست من شبة فضرب منه كوزا، فإنه يخير كذا هذا، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 باب الإجارة الفاسدة قال: "الإجارة تفسدها الشروط كما تفسد البيع"؛ لأنه بمنزلته، ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ "والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى" وقال زفر والشافعي: يجب بالغا ما بلغ اعتبارا ببيع الأعيان. ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد لحاجة الناس فيكتفى بالضرورة في الصحيح منها، إلا أن الفاسد تبع له، ويعتبر ما يجعل بدلا في الصحيح عادة، لكنهما إذا اتفقا على مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة، وإذا نقص أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية، بخلاف البيع؛ لأن العين متقومة في نفسها وهي الموجب الأصلي، فإن صحت التسمية انتقل عنه وإلا فلا. قال: "ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور، إلا أن يسمي جملة شهور معلومة"؛ لأن الأصل أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم فكان الشهر الواحد معلوما فصح العقد فيه، وإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح "ولو سمى جملة شهور معلومة جاز"؛ لأن المدة صارت معلومة. قال: "وإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه ولم يكن للمؤجر أن يخرجه إلى أن ينقضي، وكذلك كل شهر سكن في أوله ساعة"؛ لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر الثاني، إلا أن الذي ذكره في الكتاب هو القياس، وقد مال إليه بعض المشايخ، وظاهر الرواية أن يبقى الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها؛ لأن في اعتبار الأول بعض الحرج. قال: "وإن استأجر دارا سنة بعشرة دراهم جاز وإن لم يبين قسط كل شهر من الأجرة"؛ لأن المدة معلومة بدون التقسيم فصار كإجارة شهر واحد فإنه جائز وإن لم يبين قسط كل يوم، ثم يعتبر ابتداء المدة مما سمى وإن لم يسم شيئا فهو من الوقت الذي استأجره؛ لأن الأوقات كلها في حق الإجارة على السواء فأشبه اليمين، بخلاف الصوم؛ لأن الليالي ليست بمحل له "ثم إن كان العقد حين يهل الهلال فشهور السنة كلها بالأهلة"؛ لأنها هي الأصل "وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام" عند أبي حنيفة وهو رواية عن أبي يوسف. وعند محمد وهو رواية عن أبي يوسف الأول بالأيام والباقي بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها ضرورة، والضرورة في الأول منها. وله أنه متى تم الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وهكذا إلى آخر السنة، ونظيره العدة وقد مر في الطلاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 قال: "ويجوز أخذ أجرة الحمام والحجام" أما الحمام فلتعارف الناس ولم تعتبر الجهالة لإجماع المسلمين. قال عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" وأما الحجام فلما روي "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام الأجرة" ولأنه استئجار على عمل معلوم بأجر معلوم فيقع جائزا. قال: "ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس" وهو أن يؤجر فحلا لينزو على الإناث لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السحت عسب التيس" والمراد أخذ الأجرة عليه. قال: "ولا الاستئجار على الأذان والحج، وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه" والأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليه عندنا. وعند الشافعي رحمه الله يصح في كل ما لا يتعين على الأجير؛ لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به" وفي آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص: "وإن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا" ولأن القربة متى حصلت وقعت عن العامل ولهذا تعتبر أهليته فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في الصوم والصلاة، ولأن التعليم مما لا يقدر المعلم عليه إلا بمعنى من قبل المتعلم فيكون ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح. وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم؛ لأنه ظهر التواني في الأمور الدينية. ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى. قال: "ولا يجوز الاستئجار على الغناء والنوح، وكذا سائر الملاهي"؛ لأنه استئجار على المعصية والمعصية لا تستحق بالعقد. قال: "ولا يجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة إلا من الشريك، وقالا: إجارة المشاع جائزة" وصورته أن يؤاجر نصيبا من داره أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك. لهما أن للمشاع منفعة ولهذا يجب أجر المثل، والتسليم ممكن بالتخلية أو بالتهايؤ فصار كما إذا آجر من شريكه أو من رجلين وصار كالبيع. ولأبي حنيفة أنه آجر ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز، وهذا؛ لأن تسليم المشاع وحده لا يتصور، والتخلية اعتبرت تسليما لوقوعه تمكينا وهو الفعل الذي يحصل به التمكن ولا تمكن في المشاع، بخلاف البيع لحصول التمكن فيه، وأما التهايؤ فإنما يستحق حكما للعقد بواسطة الملك، وحكم العقد يعقبه والقدرة على التسليم شرط العقد وشرط الشيء يسبقه، ولا يعتبر المتراخي سابقا، وبخلاف ما إذا آجر من شريكه فالكل يحدث على ملكه فلا شيوع، والاختلاف في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 النسبة لا يضره، على أنه لا يصح في رواية الحسن عنه، وبخلاف الشيوع الطارئ؛ لأن القدرة على التسليم ليست بشرط للبقاء، وبخلاف ما إذا آجر من رجلين؛ لأن التسليم يقع جملة ثم الشيوع بتفرق الملك فيما بينهما طارئ. قال: "ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة" لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] ولأن التعامل به كان جاريا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله وأقرهم عليه. ثم قيل: إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به واللبن يستحق على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب. وقيل إن العقد يقع على اللبن، والخدمة تابعة، ولهذا لو أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجر. والأول أقرب إلى الفقه؛ لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودا، كما إذا استأجر بقرة؛ ليشرب لبنها. وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت ما ذكرنا يصح إذا كانت الأجرة معلومة اعتبارا بالاستئجار على الخدمة. قال: "ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: لا يجوز"؛ لأن الأجرة مجهولة فصار كما إذا استأجرها للخبز والطبخ. وله أن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن في العادة التوسعة على الأظآر شفقة على الأولاد فصار كبيع قفيز من صبرة، بخلاف الخبز والطبخ؛ لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة "وفي الجامع الصغير: فإن سمى الطعام دراهم ووصف جنس الكسوة وأجلها وذرعها فهو جائز" يعني بالإجماع. ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانه، وهذا لا جهالة فيه "ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا" لما قلنا، ولا يشترط تأجيله؛ لأن أوصافها أثمان. "ويشترط بيان مكان الإيفاء" عند أبي حنيفة خلافا لهما، وقد ذكرناه في البيوع "وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا مع بيان القدر والجنس"؛ لأنه إنما يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا، وإنما يصير مبيعا عند الأجل كما في السلم. قال: "وليس للمستأجر أن يمنع زوجها من وطئها"؛ لأن الوطء حق الزوج فلا يتمكن من إبطال حقه؛ ألا ترى أن له أن يفسخ الإجارة إذا لم يعلم به صيانة لحقه، إلا أن المستأجر يمنعه عن غشيانها في منزله؛ لأن المنزل حقه "فإن حبلت كان لهم أن يفسخوا الإجارة إذا خافوا على الصبي من لبنها"؛ لأن لبن الحامل يفسد الصبي ولهذا كان لهم الفسخ إذا مرضت أيضا "وعليها أن تصلح طعام الصبي"؛ لأن العمل عليها. والحاصل أنه يعتبر فيما لا نص عليه العرف في مثل هذا الباب، فما جرى به العرف من غسل ثياب الصبي وإصلاح الطعام وغير ذلك فهو على الظئر أما الطعام فعلى والد الولد، وما ذكر محمد رحمه الله أن الدهن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 والريحان على الظئر فذلك من عادة أهل الكوفة. "وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها"؛ لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها، وهو الإرضاع، فإن هذا إيجار وليس بإرضاع، وإنما لم يجب الأجر لهذا المعنى أنه اختلف العمل. قال: "ومن دفع إلى حائك غزلا لينسجه بالنصف فله أجر مثله. وكذا إذا استأجر حمارا يحمل طعاما بقفيز منه فالإجارة فاسدة"؛ لأنه جعل الأجر بعض ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وهو أن يستأجر ثورا ليطحن له حنطة بقفيز من دقيقه. وهذا أصل كبير يعرف به فساد كثير من الإجارات، لا سيما في ديارنا، والمعنى فيه أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر وهو بعض المنسوج أو المحمول. إذ حصوله بفعل الأجير فلا يعد هو قادرا بقدرة غيره، وهذا بخلاف ما إذا استأجره ليحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب له الأجر؛ لأن المستأجر ملك الأجير في الحال بالتعجيل فصار مشتركا بينهما. ومن استأجر رجلا لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فيه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه. قال: "ولا يجاوز بالأجر قفيزا"؛ لأنه لما فسدت الإجارة فالواجب الأقل ما سمى ومن أجر المثل؛ لأنه رضي بحط الزيادة، وهذا بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد؛ لأن المسمى هناك غير معلوم فلم يصح الحط. قال: "ومن استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة المخاتيم من الدقيق اليوم بدرهم فهو فاسد، وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد في الإجارات: هو جائز"؛ لأنه يجعل المعقود عليه عملا ويجعل ذكر الوقت للاستعجال تصحيحا للعقد فترتفع الجهالة. وله أن المعقود عليه مجهول لأن ذكر الوقت يوجب كون المنفعة معقودا عليها وذكر العمل يوجب كونه معقودا عليه ولا ترجيح، ونفع المستأجر في الثاني ونفع الأجير في الأول فيفضي إلى المنازعة. وعن أبي حنيفة أنه يصح الإجارة إذا قال: في اليوم، وقد سمى عملا؛ لأنه للظرف فكان المعقود عليه العمل، بخلاف قوله اليوم وقد مر مثله في الطلاق. قال: "ومن استأجر أرضا على أن يكربها ويزرعها أو يسقيها ويزرعها فهو جائز"؛ لأن الزراعة مستحقة بالعقد، ولا تتأتى الزراعة إلا بالسقي والكراب. فكان كل واحد منهما مستحقا. وكل شرط هذه صفته يكون من مقتضيات العقد فذكره لا يوجب الفساد "فإن اشترط أن يثنيها أو يكري أنهارها أو يسرقنها فهو فاسد"؛ لأنه يبقى أثره بعد انقضاء المدة، وأنه ليس من مقتضيات العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين. وما هذا حاله يوجب الفساد؛ لأن مؤجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 الأرض يصير مستأجرا منافع الأجير على وجه يبقى بعد المدة فيصير صفقتان في صفقة واحدة وهي منهي عنه. ثم قيل: المراد بالتثنية أن يردها مكروبة ولا شبهة في فساده. وقيل أن يكريها مرتين، وهذا في موضع تخرج الأرض الريع بالكراب مرة واحدة والمدة سنة واحدة، وإن كانت ثلاث سنين لا تبقى منفعته، وليس المراد بكري الأنهار الجداول بل المراد منها الأنهار العظام هو الصحيح؛ لأنه تبقى منفعته في العام القابل. قال: "وإن استأجرها ليزرعها بزراعة أرض أخرى فلا خير فيه" وقال الشافعي: هو جائز، وعلى هذا إجارة السكنى بالسكنى واللبس باللبس والركوب بالركوب. أن المنافع بمنزلة الأعيان حتى جازت الإجارة بأجرة دين ولا يصير دينا بدين، ولنا أن الجنس بانفراده يحرم النساء عندنا فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة وإلى هذا أشار محمد، ولأن الإجارة جوزت بخلاف القياس للحاجة ولا حاجة عند اتحاد الجنس، بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة. قال: "وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل الطعام كله فلا أجر له" وقال الشافعي: له المسمى؛ لأن المنفعة عين عنده وبيع العين شائعا جائز، وصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام أو عبدا مشتركا ليخيط له الثياب ولنا أنه استأجره لعمل لا وجود له؛ لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع، بخلاف البيع؛ لأنه تصرف حكمي، وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا يجب الأجر، ولأن ما من جزء يحمله إلا وهو شريك فيه فيكون عاملا لنفسه فلا يتحقق التسليم، بخلاف الدار المشتركة؛ لأن المعقود عليه هنالك المنافع ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام، وبخلاف العبد؛ لأن المعقود عليه إنما هو ملك نصيب صاحبه وأنه أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع. "ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها أو أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة"؛ لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها، وكذا ما يزرع فيها مختلف، فمنه ما يضر بالأرض ما لا يضر بها غيره، فلم يكن المعقود عليه معلوما. "فإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى" وهذا استحسان. وفي القياس: لا يجوز وهو قول زفر؛ لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا. وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد فينقلب جائزا، كما إذا ارتفعت في حالة العقد، وصار كما إذا أسقط الأجل المجهول قبل مضيه والخيار الزائد في المدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 قال: "ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق في نصف الطريق فلا ضمان عليه"؛ لأن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، وإن كانت الأجرة فاسدة. قال: "فإن بلغ بغداد فله الأجر المسمى استحسانا" على ما ذكرنا في المسألة الأولى. قال: "وإن اختصما قبل أن يحمل عليه" وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع "نقضت الإجارة" دفعا للفساد إذ الفساد قائم بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 باب ضمان الأجير قال: "الأجراء على ضربين: أجير مشترك، وأجير خاص. فالمشترك من لا يستحق الأجرة حتى يعمل كالصباغ والقصار"؛ لأن المعقود عليه إذا كان هو العمل أو أثره كان له أن يعمل للعامة؛ لأن منافعه لم تصر مستحقة لواحد، فمن هذا الوجه يسمى مشتركا. قال: "والمتاع أمانة في يده إن هلك لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر، ويضمنه عندهما إلا من شيء غالب كالحريق الغالب والعدو المكابر" لهما ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك؛ ولأن الحفظ مستحق عليه إذ لا يمكنه العمل إلا به، فإذا هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالغصب والسرقة كان التقصير من جهته فيضمنه كالوديعة إذا كانت بأجر، بخلاف ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت حتف أنفه والحريق الغالب وغيره؛ لأنه لا تقصير من جهته. ولأبي حنيفة رحمه الله أن العين أمانة في يده؛ لأن القبض حصل بإذنه، ولهذا لو هلك بسبب لا يمكن التحرز عنه لم يضمنه، ولو كان مضمونا لضمنه كما في المغصوب، والحفظ مستحق عليه تبعا لا مقصودا ولهذا لا يقابله الأجر، بخلاف المودع بأجر؛ لأن الحفظ مستحق عليه مقصودا حتى يقابله الأجر. قال: "وما تلف بعمله، فتخريق الثوب من دقه وزلق الحمال وانقطاع الحبل الذي يشد به المكاري الحمل وغرق السفينة من مده مضمون عليه". وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا ضمان عليه؛ لأنه أمره بالفعل مطلقا فينتظمه بنوعيه المعيب والسليم وصار كأجير الوحد ومعين القصار. ولنا أن الداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل المصلح؛ لأنه هو الوسيلة إلى الأثر وهو المعقود عليه حقيقة، حتى لو حصل بفعل الغير يجب الأجر فلم يكن المفسد مأذونا فيه، بخلاف المعين؛ لأنه متبرع فلا يمكن تقييده بالمصلح؛ لأنه يمتنع عن التبرع، وفيما نحن فيه يعمل بالأجر فأمكن تقييده. وبخلاف أجير الوحد على ما نذكره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 إن شاء الله تعالى وانقطاع الحبل من قلة اهتمامه فكان من صنيعه. قال: "إلا أنه لا يضمن به بني آدم ممن غرق في السفينة أو سقط من الدابة وإن كان بسوقه وقوده"؛ لأن الواجب ضمان الآدمي. وأنه لا يجب بالعقد. وإنما يجب بالجناية ولهذا يجب على العاقلة، وضمان العقود لا تتحمله العاقلة. قال: "وإذا استأجر من يحمل له دنا من الفرات فوقع في بعض الطريق فانكسر، فإن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي انكسر وأعطاه الأجر بحسابه" أما الضمان فلما قلنا، والسقوط بالعثار أو بانقطاع الحبل وكل ذلك من صنيعه، وأما الخيار فلأنه إذا انكسر في الطريق، والحمل شيء واحد تبين أنه وقع تعديا من الابتداء من هذا الوجه. وله وجه آخر وهو أن ابتداء الحمل حصل بإذنه فلم يكن تعديا، وإنما صار تعديا عند الكسر فيميل إلى أي الوجهين شاء، وفي الوجه الثاني له الأجر بقدر ما استوفى، وفي الوجه الأول لا أجر له؛ لأنه ما استوفى أصلا. قال: "وإذا فصد الفصاد أو بزغ البزاغ ولم يتجاوز الموضع المعتاد فلا ضمان عليه فيما عطب من ذلك. وفي الجامع الصغير: بيطار بزغ دابة بدانق فنفقت أو حجام حجم عبدا بأمر مولاه فمات فلا ضمان عليه" وفي كل واحد من العبارتين نوع بيان. ووجهه أنه لا يمكنه التحرز عن السراية لأنه يبتنى على قوة الطباع وضعفها في تحمل الألم فلا يمكن التقييد بالمصلح من العمل، ولا كذلك دق الثوب ونحوه مما قدمناه؛ لأن قوة الثوب ورقته تعرف بالاجتهاد فأمكن القول بالتقييد. قال: "والأجير الخاص الذي يستحق الأجرة بتسليم نفسه في المدة وإن لم يعمل كمن استؤجر شهرا للخدمة أو لرعي الغنم" وإنما سمي أجير وحد؛ لأنه لا يمكنه أن يعمل لغيره؛ لأن منافعه في المدة صارت مستحقة له والأجر مقابل بالمنافع، ولهذا يبقى الأجر مستحقا، وإن نقض العمل. قال: "ولا ضمان على الأجير الخاص فيما تلف في يده ولا ما تلف من عمله" أما الأول فلأن العين أمانة في يده؛ لأنه قبض بإذنه، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة، وكذا عندهما؛ لأن تضمين الأجير المشترك نوع استحسان عندهما لصيانة أموال الناس، والأجير الوحد لا يتقبل الأعمال فتكون السلامة غالبة فيؤخذ فيه القياس، وأما الثاني فلأن المنافع متى صارت مملوكة للمستأجر فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح ويصير نائبا منابه فيصير فعله منقولا إليه كأنه فعل بنفسه فلهذا لا يضمنه، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 باب الإجارة على أحد الشرطين قال: "وإذا قال للخياط إن خطت هذا الثوب فارسيا فبدرهم، وإن خطته روميا فبدرهمين جاز، وأي عمل من هذين العملين عمل استحق الأجر به" وكذا إذا قال للصباغ إن صبغته بعصفر فبدرهم، وإن صبغته بزعفران فبدرهمين، وكذا إذا خيره بين شيئين بأن قال: آجرتك هذه الدار شهرا بخمسة أو هذه الدار الأخرى بعشرة، وكذا إذا خيره بين مسافتين مختلفتين بأن قال: آجرتك هذه الدابة إلى الكوفة بكذا أو إلى واسط بكذا، وكذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء، وإن خيره بين أربعة أشياء لم يجز، والمعتبر في جميع ذلك البيع والجامع دفع الحاجة، غير أنه لا بد من اشتراط الخيار في البيع، وفي الإجارة لا يشترط ذلك؛ لأن الأجر إنما يجب بالعمل، وعند ذلك يصير المعقود عليه معلوما، وفي البيع يجب الثمن بنفس العقد فتتحقق الجهالة على وجه لا ترتفع المنازعة إلا بإثبات الخيار "ولو قال: إن خطته اليوم فبدرهم، وإن خطته غدا فبنصف درهم، فإن خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غدا فله أجر مثله عند أبي حنيفة لا يجاوز به نصف درهم. وفي الجامع الصغير: لا ينقص من نصف درهم ولا يزاد على درهم. وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان". قال زفر: الشرطان فاسدان؛ لأن الخياطة شيء واحد، وقد ذكر بمقابلته بدلان على البدل فيكون مجهولا، وهذا؛ لأن ذكر اليوم للتعجيل، وذكر الغد للترفيه فيجتمع في كل يوم تسميتان. ولهما أن ذكر اليوم للتأقيت. وذكر الغد للتعليق فلا يجتمع في كل يوم تسميتان؛ ولأن التعجيل والتأخير مقصود فنزل منزلة اختلاف النوعين. ولأبي حنيفة أن ذكر الغد للتعليق حقيقة. ولا يمكن حمل اليوم على التأقيت؛ لأن فيه فساد العقد لاجتماع الوقت والعمل، وإذا كان كذلك يجتمع في الغد تسميتان دون اليوم، فيصح اليوم الأول ويجب المسمى، ويفسد الثاني ويجب أجر المثل لا يجاوز به نصف درهم؛ لأنه هو المسمى في اليوم الثاني. وفي الجامع الصغير لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم؛ لأن التسمية الأولى لا تنعدم في اليوم الثاني فتعتبر لمنع الزيادة وتعتبر التسمية الثانية لمنع النقصان، فإن خاطه في اليوم الثالث لا يجاوز به نصف درهم عند أبي حنيفة رحمه الله هو الصحيح؛ لأنه إذا لم يرض بالتأخير إلى الغد فبالزيادة عليه إلى ما بعد الغد أولى. "ولو قال: إن سكنت في هذا الدكان عطارا فبدرهم في الشهر، وإن سكنته حدادا فبدرهمين جاز، وأي الأمرين فعل استحق الأجر المسمى فيه عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: الإجارة فاسدة، وكذا إذا استأجر بيتا على أنه إن سكن فيه عطارا فبدرهم وإن سكن فيه حدادا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 فبدرهمين فهو جائز عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: لا يجوز، ومن استأجر دابة إلى الحيرة بدرهم وإن جاوز بها إلى القادسية فبدرهمين فهو جائز" ويحتمل الخلاف "وإن استأجرها إلى الحيرة على أنه إن حمل عليها كر شعير فبنصف درهم، وإن حمل عليها كر حنطة فبدرهم فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يجوز" وجه قولهما أن المعقود عليه مجهول، وكذا الأجر أحد الشيئين، وهو مجهول والجهالة توجب الفساد، بخلاف الخياطة الرومية والفارسية؛ لأن الأجر يجب بالعمل وعنده ترتفع الجهالة. أما في هذه المسائل يجب الأجر بالتخلية والتسليم فتبقى الجهالة، وهذا الحرف هو الأصل عندهما. ولأبي حنيفة أنه خيره بين عقدين صحيحين مختلفين فيصح كما في مسألة الرومية والفارسية، وهذا؛ لأن سكناه بنفسه يخالف إسكانه الحداد؛ ألا ترى أنه لا يدخل ذلك في مطلق العقد وكذا في أخواتها، والإجارة تعقد للانتفاع وعنده ترتفع الجهالة، ولو احتيج إلى الإيجاب بمجرد التسليم يجب أقل الأجرين للتيقن به، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 باب إجارة العبد قال: "ومن استأجر عبدا للخدمة فليس له أن يسافر به إلا أن يشترط ذلك"؛ لأن خدمة السفر اشتملت على زيادة مشقة فلا ينتظمها الإطلاق، ولهذا جعل السفر عذرا فلا بد من اشتراطه كإسكان الحداد والقصار في الدار، ولأن التفاوت بين الخدمتين ظاهر، فإذا تعين الخدمة في الحضر لا يبقى غيره داخلا كما في الركوب "ومن استأجر عبدا محجورا عليه شهرا وأعطاه الأجر فليس للمستأجر أن يأخذ منه الأجر" وأصله أن الإجارة صحيحة استحسانا إذا فرغ من العمل. والقياس أن لا يجوز لانعدام إذن المولى وقيام الحجر فصار كما إذا هلك العبد. وجه الاستحسان أن التصرف نافع على اعتبار الفراغ سالما ضار على اعتبار هلاك العبد، والنافع مأذون فيه كقبول الهبة، وإذا جاز ذلك لم يكن للمستأجر أن يأخذ منه. "ومن غصب عبدا فآجر العبد نفسه فأخذ الغاصب الأجر فأكله فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة، وقالا: هو ضامن"؛ لأنه أكل مال المالك بغير إذنه، إذ الإجارة قد صحت على ما مر. وله أن الضمان إنما يجب بإتلاف مال محرز؛ لأن التقوم به، وهذا غير محرز في حق الغاصب؛ لأن العبد لا يحرز نفسه عنه فكيف يحرز ما في يده. "وإن وجد المولى الأجر قائما بعينه أخذه"؛ لأنه وجد عين ماله "ويجوز قبض العبد الأجر في قولهم جميعا"؛ لأنه مأذون له في التصرف على اعتبار الفراغ على ما مر. "ومن استأجر عبدا هذين الشهرين شهرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 بأربعة وشهرا بخمسة فهو جائز، والأول منهما بأربعة"؛ لأن الشهر المذكور أولا ينصرف إلى ما يلي العقد تحريا للجواز أو نظرا إلى تنجز الحاجة فينصرف الثاني إلى ما يلي الأول ضرورة. "ومن استأجر عبدا شهرا بدرهم فقبضه في أول الشهر ثم جاء آخر الشهر، وهو آبق أو مريض فقال المستأجر أبق أو مرض حين أخذته وقال المولى لم يكن ذلك إلا قبل أن تأتيني بساعة فالقول قول المستأجر، وإن جاء به، وهو صحيح فالقول قول المؤجر"؛ لأنهما اختلفا في أمر محتمل فيترجح بحكم الحال، إذ هو دليل على قيامه من قبل وهو يصلح مرجحا إن لم يصلح حجة في نفسه. أصله الاختلاف في جريان ماء الطاحونة وانقطاعه والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 باب الاختلاف في الإجارة قال: "وإذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب أمرتك أن تعمله قباء وقال الخياط بل قميصا أو قال: صاحب الثوب للصباغ أمرتك أن تصبغه أحمر فصبغته أصفر وقال الصباغ لا بل أمرتني أصفر فالقول لصاحب الثوب"؛ لأن الإذن يستفاد من جهته؛ ألا ترى أنه لو أنكر أصل الإذن كان القول قوله فكذا إذا أنكر صفته، لكن يحلف؛ لأنه أنكر شيئا لو أقر به لزمه. قال: "وإذا حلف فالخياط ضامن" ومعناه ما مر من قبل أنه بالخيار إن شاء ضمنه، وإن شاء أخذه، وأعطاه أجر مثله، وكذا يخير في مسألة الصبغ إذا حلف إن شاء ضمنه قيمة الثوب أبيض، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به المسمى. وذكر في بعض النسخ: يضمنه ما زاد الصبغ فيه؛ لأنه بمنزلة الغصب. "وإن قال: صاحب الثوب عملته لي بغير أجر وقال الصانع بأجر فالقول قول صاحب الثوب" عند أبي حنيفة؛ لأنه ينكر تقوم عمله إذ هو يتقوم بالعقد وينكر الضمان والصانع يدعيه والقول قول المنكر "وقال أبو يوسف: إن كان الرجل حريفا له" أي خليطا له "فله الأجر وإلا فلا"؛ لأن سبق ما بينهما يعين جهة الطلب بأجر جريا على معتادهما "وقال محمد: إن كان الصانع معروفا بهذه الصنعة بالأجر فالقول قوله"؛ لأنه لما فتح الحانوت لأجله جرى ذلك مجرى التنصيص على الأجر اعتبارا للظاهر، والقياس ما قاله أبو حنيفة؛ لأنه منكر. والجواب عن استحسانهما أن الظاهر للدفع، والحاجة هاهنا إلى الاستحقاق والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 باب فسخ الإجارة قال: "ومن استأجر دارا فوجد بها عيبا يضر بالسكنى فله الفسخ"؛ لأن المعقود عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 المنافع، وأنها توجد شيئا فشيئا فكان هذا عيبا حادثا قبل القبض فيوجب الخيار كما في البيع، ثم المستأجر إذا استوفى المنفعة فقد رضي بالعيب فيلزمه جميع البدل كما في البيع، وإن فعل المؤجر ما أزال به العيب فلا خيار للمستأجر لزوال سببه. قال: "وإذا خربت الدار أو انقطع شرب الضيعة أو انقطع الماء عن الرحى انفسخت الإجارة"؛ لأن المعقود عليه قد فات، وهي المنافع المخصوصة قبل القبض فشابه فوت المبيع قبل القبض وموت العبد المستأجر. ومن أصحابنا من قال: إن العقد لا ينفسخ؛ لأن المنافع قد فاتت على وجه يتصور عودها فأشبه الإباق في البيع قبل القبض. وعن محمد أن الآجر لو بناها ليس للمستأجر أن يمتنع ولا للآجر، وهذا تنصيص منه على أنه لم ينفسخ لكنه يفسخ. "ولو انقطع ماء الرحى، والبيت مما ينتفع به لغير الطحن فعليه عن الأجر بحصته"؛ لأنه جزء من المعقود عليه. قال: "وإذا مات أحد المتعاقدين وقد عقد الإجارة لنفسه انفسخت"؛ لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة المملوكة به أو الأجرة المملوكة لغير العاقد مستحقة بالعقد؛ لأنه ينتقل بالموت إلى الوارث وذلك لا يجوز "وإن عقدها لغيره لم تنفسخ" مثل الوكيل والوصي والمتولي في الوقف لانعدام ما أشرنا إليه من المعنى. قال: "ويصح شرط الخيار في الإجارة" وقال الشافعي رحمه الله: لا يصح؛ لأن المستأجر لا يمكنه رد المعقود عليه بكماله لو كان الخيار له لفوات بعضه، ولو كان للمؤجر فلا يمكنه التسليم أيضا على الكمال، وكل ذلك يمنع الخيار. ولنا أنه عقد معاملة لا يستحق القبض فيه في المجلس فجاز اشتراط الخيار فيه كالبيع والجامع بينهما دفع الحاجة، وفوات بعض المعقود عليه في الإجارة لا يمنع الرد بخيار العيب، فكذا بخيار الشرط، بخلاف البيع، وهذا؛ لأن رد الكل ممكن في البيع دون الإجارة فيشترط فيه دونها ولهذا يجبر المستأجر على القبض إذا سلم المؤجر بعد مضي بعض المدة. قال: "وتفسخ الإجارة بالأعذار" عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا تفسخ إلا بالعيب؛ لأن المنافع عنده بمنزلة الأعيان حتى يجوز العقد عليها فأشبه البيع. ولنا أن المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع فتنفسخ به، إذ المعنى يجمعهما وهو عجز العاقد عن المضي في موجبه إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق به، وهذا هو معنى العذر عندنا "وهو كمن استأجر حدادا ليقلع ضرسه لوجع به فسكن الوجع أو استأجر طباخا ليطبخ له طعام الوليمة فاختلعت منه تفسخ الإجارة"؛ لأن في المضي عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد "وكذا من استأجر دكانا في السوق ليتجر فيه فذهب ماله، وكذا من أجر دكانا أو دارا ثم أفلس، ولزمته ديون لا يقدر على قضائها إلا بثمن ما أجر فسخ القاضي العقد وباعها في الديون"؛ لأن في الجري على موجب العقد إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد وهو الحبس؛ لأنه قد لا يصدق على عدم مال آخر. ثم قوله فسخ القاضي العقد إشارة إلى أنه يفتقر إلى قضاء القاضي في النقض، وهكذا ذكر في الزيادات في عذر الدين، وقال في الجامع الصغير: وكل ما ذكرنا أنه عذر فإن الإجارة فيه تنتقض، وهذا يدل على أنه لا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي. ووجهه أن هذا بمنزلة العيب قبل القبض في المبيع على ما مر فينفرد العاقد بالفسخ. ووجه الأول أنه فصل مجتهد فيه فلا بد من إلزام القاضي، ومنهم من وفق فقال: إذا كان العذر ظاهرا لا يحتاج إلى القضاء لظهور العذر، وإن كان غير ظاهر كالدين يحتاج إلى القضاء لظهور العذر. "ومن استأجر دابة ليسافر عليها ثم بدا له من السفر فهو عذر"؛ لأنه لو مضى على موجب العقد يلزمه ضرر زائد؛ لأنه ربما يذهب للحج فذهب وقته أو لطلب غريمه فحضر أو للتجارة فافتقر "وإن بدا للمكاري فليس ذلك بعذر"؛ لأنه يمكنه أن يقعد ويبعث الدواب على يد تلميذه أو أجيره "ولو مرض المؤاجر فقعد فكذا الجواب" على رواية الأصل. وروى الكرخي عن أبي حنيفة أنه عذر؛ لأنه لا يعرى عن ضرر فيدفع عنه عند الضرورة دون الاختيار "ومن آجر عبده ثم باعه فليس بعذر"؛ لأنه لا يلزمه الضرر بالمضي على موجب عقد، وإنما يفوته الاسترباح وأنه أمر زائد. قال: "وإذا استأجر الخياط غلاما فأفلس وترك العمل فهو العذر"؛ لأنه يلزمه الضرر بالمضي على موجب العقد لفوات مقصوده وهو رأس ماله، وتأويل المسألة خياط يعمل لنفسه، أما الذي يخيط بأجر فرأس ماله الخيط والمخيط والمقراض فلا يتحقق الإفلاس فيه. "وإن أراد ترك الخياطة، وأن يعمل في الصرف فليس بعذر"؛ لأنه يمكنه أن يقعد الغلام للخياطة في ناحية، وهو يعمل في الصرف في ناحية، وهذا بخلاف ما إذا استأجر دكانا للخياطة فأراد أن يتركها ويشتغل بعمل آخر حيث جعله عذرا ذكره في الأصل؛ لأن الواحد لا يمكنه الجمع بين العملين، أما هاهنا العامل شخصان فأمكنهما. "ومن استأجر غلاما يخدمه في المصر ثم سافر فهو عذر"؛ لأنه لا يعرى عن إلزام ضرر زائد؛ لأن خدمة السفر أشق، وفي المنع من السفر ضرر، وكل ذلك لم يستحق بالعقد فيكون عذرا "وكذا إذا أطلق" لما مر أنه يتقيد بالحضر، بخلاف ما إذا آجر عقارا ثم سافر؛ لأنه لا ضرر إذ المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة من المعقود عليه بعد غيبته، حتى لو أراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 المستأجر السفر فهو عذر لما فيه من المنع من السفر أو إلزام الأجر بدون السكنى وذلك ضرر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 مسائل منثورة قال: "ومن استأجر أرضا أو استعارها فأحرق الحصائد فاحترق شيء من أرض أخرى فلا ضمان عليه"؛ لأنه غير متعد في هذا التسبيب فأشبه حافر البئر في دار نفسه. وقيل هذا إذا كانت الرياح هادئة ثم تغيرت، أما إذا كانت مضطربة يضمن؛ لأن موقد النار يعلم أنها لا تستقر في أرضه. قال: "وإذا أقعد الخياط أو الصباغ في حانوته من يطرح عليه العمل بالنصف فهو جائز" لأن هذه شركة الوجوه في الحقيقة، فهذا بوجاهته يقبل وهذا بحذاقته يعمل فينتظم بذلك المصلحة فلا تضره الجهالة فيما يحصل. قال: "ومن استأجر جملا ليحمل عليه محملا وراكبين إلى مكة جاز وله المحمل المعتاد" وفي القياس لا يجوز؛ وهو قول الشافعي للجهالة وقد يفضي ذلك إلى المنازعة. وجه الاستحسان أن المقصود هو الراكب وهو معلوم والمحمل تابع، وما فيه من الجهالة يرتفع بالصرف إلى المتعارف فلا يفضي ذلك إلى المنازعة وكذا إذا لم ير الوطاء والدثر. قال: "وإن شاهد الجمال الحمل فهو أجود"؛ لأنه أنفى للجهالة وأقرب إلى تحقق الرضا. قال: "وإن استأجر بعيرا ليحمل عليه مقدارا من الزاد فأكل منه في الطريق جاز له أن يرد عوض ما أكل"؛ لأنه استحق عليه حملا مسمى في جميع الطريق فله أن يستوفيه "وكذا غير الزاد من المكيل والموزون" ورد الزاد معتاد عند البعض كرد الماء فلا مانع من العمل بالإطلاق والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 كتاب المكاتب كيفية المكاتبة مدخل ... كتاب المكاتب قال: "وإذا كاتب المولى عبده أو أمته على مال شرطه عليه وقبل العبد ذلك صار مكاتبا" أما الجواز فلقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] وهذا ليس أمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء، وإنما هو أمر ندب هو الصحيح. وفي الحمل على الإباحة إلغاء الشرط إذ هو مباح بدونه، أما الندبية معلقة به، والمراد بالخير المذكور على ما قيل أن لا يضر بالمسلمين بعد العتق، فإن كان يضر بهم فالأفضل أن لا يكاتبه وإن كان يصح لو فعله. وأما اشتراط قبول العبد فلأنه مال يلزمه فلا بد من التزامه ولا يعتق إلا بأداء كل البدل لقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما عبد كوتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد" وقال عليه الصلاة والسلام: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" وفيه اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، وما اخترناه قول زيد بن ثابت رضي الله عنه ويعتق بأدائه وإن لم يقل المولى إذا أديتها فأنت حر لأن موجب العقد يثبت من غير التصريح به كما في البيع، ولا يجب حط شيء من البدل اعتبارا بالبيع. قال: "ويجوز أن يشترط المال حالا ويجوز مؤجلا ومنجما" وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز حالا ولا بد من نجمين، لأنه عاجز عن التسليم في زمان قليل لعدم الأهلية قبله للرق، بخلاف السلم على أصله لأنه أهل للملك فكان احتمال القدرة ثابتا، وقد دل الإقدام على العقد عليها فيثبت. ولنا ظاهر ما تلونا من غير شرط التنجيم، ولأنه عقد معاوضة والبدل معقود به فأشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة عليه، بخلاف السلم على أصلنا لأن المسلم فيه معقود عليه فلا بد من القدرة عليه، ولأن مبنى الكتابة على المساهلة فيمهله المولى ظاهرا، بخلاف السلم لأن مبناه على المضايقة وفي الحال كما امتنع من الأداء يرد إلى الرق. قال: "وتجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل الشراء والبيع" لتحقق الإيجاب والقبول، إذ العاقل من أهل القبول والتصرف نافع في حقه. والشافعي يخالفنا فيه وهو بناء على مسألة إذن الصبي في التجارة، وهذا بخلاف ما إذا كان لا يعقل البيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 والشراء لأن القبول لا يتحقق منه فلا ينعقد العقد، حتى لو أدى عنه غيره لا يعتق ويسترد ما دفع. قال: "ومن قال لعبده: جعلت عليك ألفا تؤديها إلي نجوما أول النجم كذا وآخره كذا فإذا أديتها فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق فإن هذه مكاتبة" لأنه أتى بتفسير الكتابة، ولو قال: إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة فأنت حر فهذه مكاتبة في رواية أبي سليمان. لأن التنجيم يدل على الوجوب وذلك بالكتابة. وفي نسخ أبي حفص لا تكون مكاتبة اعتبارا بالتعليق بالأداء مرة. قال: "وإذا صحت الكتابة خرج المكاتب عن يد المولى ولم يخرج عن ملكه" أما الخروج من يده فلتحقيق معنى الكتابة وهو الضم فيضم مالكية يده إلى مالكية نفسه أو لتحقيق مقصود الكتابة وهو أداء البدل فيملك البيع والشراء والخروج إلى السفر وإن نهاه المولى، وأما عدم الخروج عن ملكه فلما روينا، ولأنه عقد معاوضة ومبناه على المساواة، وينعدم ذلك بتنجز العتق ويتحقق بتأخره لأنه يثبت له نوع مالكية ويثبت له في الذمة حق من وجه "فإن أعتقه عتق بعتقه" لأنه مالك لرقبته "وسقط عنه بدل الكتابة" لأنه ما التزمه إلا مقابلا بحصول العتق به وقد حصل دونه. قال: "وإذا وطئ المولى مكاتبته لزمه العقر" لأنها صارت أخص بأجزائها توسلا إلى المقصود بالكتابة وهو الوصول إلى البدل من جانبه وإلى الحرية من جانبها بناء عليه، ومنافع البضع ملحقة بالأجزاء والأعيان "وإن جنى عليها أو على ولدها لزمته الجناية" لما بينا "وإن أتلف مالا لها غرم" لأن المولى كالأجنبي في حق أكسابها ونفسها، إذ لو لم يجعل كذلك لأتلفه المولى فيمتنع حصول الغرض المبتغى بالعقد، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 فصل: في الكتابة الفاسدة قال: "وإذا كاتب المسلم عبده على خمر أو خنزير أو على قيمة نفسه فالكتابة فاسدة" أما الأول فلأن الخمر والخنزير لا يستحقه المسلم لأنه ليس بمال في حقه فلا يصلح بدلا فيفسد العقد. وأما الثاني فلأن القيمة مجهولة قدرا وجنسا ووصفا فتفاحشت الجهالة وصار كما إذا كاتب على ثوب أو دابة، ولأنه تنصيص على ما هو موجب العقد الفاسد لأنه موجب للقيمة. قال: "فإن أدى الخمر عتق" وقال زفر: لا يعتق إلا بأداء قيمة نفسه، لأن البدل هو القيمة. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يعتق بأداء الخمر لأنه بدل صورة، ويعتق بأداء القيمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 أيضا لأنه هو البدل معنى. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه إنما يعتق بأداء عين الخمر إذا قال إن أديتها فأنت حر لأنه حينئذ يكون العتق بالشرط لا بعقد الكتابة، وصار كما إذا كاتب على ميتة أو دم ولا فصل في ظاهر الرواية. ووجه الفرق بينهما وبين الميتة أن الخمر والخنزير مال في الجملة فأمكن اعتبار معنى العقد فيه، وموجبه العتق عند أداء العوض المشروط. وأما الميتة فليست بمال أصلا فلا يمكن اعتبار معنى العقد فيه فاعتبر فيه معنى الشرط وذلك بالتنصيص عليه "وإذا عتق بأداء عين الخمر لزمه أن يسعى في قيمته" لأنه وجب عليه رد رقبته لفساد العقد وقد تعذر بالعتق فيجب رد قيمته كما في البيع الفاسد إذا تلف المبيع. قال: "ولا ينقص عن المسمى ويزاد عليه" لأنه عقد فاسد فتجب القيمة عند هلاك المبدل بالغة ما بلغت كما في البيع الفاسد، وهذا لأن المولى ما رضي بالنقصان والعبد رضي بالزيادة كي لا يبطل حقه في العتق أصلا فتجب قيمته بالغة ما بلغت، وفيما إذا كاتبه على قيمته يعتق بأداء القيمة لأنه هو البدل. وأمكن اعتبار معنى العقد فيه وأثر الجهالة في الفساد، بخلاف ما إذا كاتبه على ثوب حيث لا يعتق بأداء ثوب لأنه لا يوقف فيه على مراد العاقد لاختلاف أجناس الثوب فلا يثبت العتق بدون إرادته. قال: "وكذلك إن كاتبه على شيء بعينه لغيره لم يجز" لأنه لا يقدر على تسليمه. ومراده شيء يتعين بالتعيين، حتى لو قال كاتبتك على هذه الألف الدراهم وهي لغيره جاز لأنها لا تتعين في المعاوضات فيتعلق بدراهم دين في الذمة فيجوز. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في رواية الحسن أنه يجوز، حتى إذا ملكه وسلمه يعتق، وإن عجز يرد في الرق لأن المسمى مال والقدرة على التسليم موهوم فأشبه الصداق. قلنا: إن العين في المعاوضات معقود عليه والقدرة على المعقود عليه شرط للصحة إذا كان العقد يحتمل الفسخ كما في البيع، بخلاف الصداق في النكاح لأن القدرة على ما هو المقصود بالنكاح ليس بشرط، فعلى ما هو تابع فيه أولى. فلو أجاز صاحب العين ذلك فعن محمد أنه يجوز لأنه يجوز البيع عند الإجازة فالكتابة أولى. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز اعتبارا بحال عدم الإجازة على ما قال في الكتاب، والجامع أنه لا يفيد ملك المكاسب وهو المقصود لأنها تثبت للحاجة إلى الأداء منها ولا حاجة فيما إذا كان البدل عينا معينا، والمسألة فيه على ما بيناه. وعن أبي يوسف أنه يجوز أجاز ذلك أو لم يجز، غير أنه عند الإجازة يجب تسليم عينه، وعند عدمها يجب تسليم قيمته كما في النكاح، والجامع بينهما صحة التسمية لكونه مالا، ولو ملك المكاتب ذلك العين، فعن أبي حنيفة رواه أبو يوسف أنه إذا أداه لا يعتق، وعلى هذه الرواية لم ينعقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 العقد إلا إذا قال له إذا أديت إلي فأنت حر فحينئذ يعتق بحكم الشرط، وهكذا عن أبي يوسف رحمه الله. وعنه أنه يعتق قال ذلك أو لم يقل، لأن العقد ينعقد مع الفساد لكون المسمى مالا فيعتق بأداء المشروط. ولو كاتبه على عين في يد المكاتب ففيه روايتان، وهي مسألة الكتابة على الأعيان، وقد عرف ذلك في الأصل، وقد ذكرنا وجه الروايتين في كفاية المنتهى. قال: "وإذا كاتبه على مائة دينار على أن يرد المولى عليه عبدا بغير عينه فالكتابة فاسدة عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: هي جائزة، ويقسم المائة الدينار على قيمة المكاتب وعلى قيمة عبد وسط فيبطل منها حصة العبد فيكون مكاتبا بما بقي" لأن العبد المطلق يصلح بدل الكتابة وينصرف إلى الوسط، فكذا يصلح مستثنى منه وهو الأصل في أبدال العقود. ولهما أنه لا يستثنى العبد من الدنانير، وإنما تستثنى قيمته والقيمة لا تصلح بدلا فكذلك مستثنى. قال: "وإذا كاتبه على حيوان غير موصوف فالكتابة جائزة" معناه أن يبين الجنس ولا يبين النوع والصفة "وينصرف إلى الوسط ويجبر على قبول القيمة" وقد مر في النكاح. أما إذا لم يبين الجنس مثل أن يقول دابة لا يجوز لأنه يشمل أجناسا مختلفة فتتفاحش الجهالة، وإذا بين الجنس كالعبد والوصيف فالجهالة يسيرة ومثلها يتحمل في الكتابة فتعتبر جهالة البدل بجهالة الأجل فيه. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز، وهو القياس لأنه معاوضة فأشبه البيع. ولنا أنه معاوضة مال بغير مال أو بمال لكن على وجه يسقط الملك فيه فأشبه النكاح، والجامع أنه يبتنى على المسامحة، بخلاف البيع لأنه مبني على المماكسة. قال: "وإذا كاتب النصراني عبده على خمر فهو جائز" معناه إذا كان مقدارا معلوما والعبد كافرا لأنها مال في حقهم بمنزلة الخل في حقنا "وأيهما أسلم فللمولى قيمة الخمر" لأن المسلم ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها، وفي التسليم ذلك إذ الخمر غير معين فيعجز عن تسليم البدل فيجب عليه قيمتها، وهذا بخلاف ما إذا تبايع الذميان خمرا ثم أسلم أحدهما حيث يفسد البيع على ما قاله البعض، لأن القيمة تصلح بدلا في الكتابة في الجملة، فإنه لو كاتب على وصيف وأتى بالقيمة يجبر على القبول فجاز أن يبقى العقد على القيمة، فأما البيع فلا ينعقد صحيحا على القيمة فافترقا. قال: "وإذا قبضها عتق" لأن في الكتابة معنى المعاوضة. فإذا وصل أحد العوضين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 إلى المولى سلم العوض الآخر للعبد وذلك بالعتق، بخلاف ما إذا كان العبد مسلما حيث لم تجز الكتابة لأن المسلم ليس من أهل التزام الخمر، ولو أداها عتق وقد بيناه من قبل. والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله مدخل ... باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله قال: "ويجوز للمكاتب البيع والشراء والسفر" لأن موجب الكتابة أن يصير حرا يدا، وذلك بمالكية التصرف مستبدا به تصرفا يوصله إلى مقصوده وهو نيل الحرية بأداء البدل، والبيع والشراء من هذا القبيل، وكذا السفر لأن التجارة ربما لا تتفق في الحضر فتحتاج إلى المسافرة، ويملك البيع بالمحاباة لأنه من صنيع التجار، فإن التاجر قد يحابي في صفقة ليربح في أخرى. قال: "فإن شرط عليه أن لا يخرج من الكوفة فله أن يخرج استحسانا" لأن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد وهو مالكية اليد من جهة الاستبداد وثبوت الاختصاص فبطل الشرط وصح العقد لأنه شرط لم يتمكن في صلب العقد، وبمثله لا تفسد الكتابة، وهذا لأن الكتابة تشبه البيع وتشبه النكاح فألحقناه بالبيع في شرط تمكن في صلب العقد، كما إذا شرط خدمة مجهولة لأنه في البدل وبالنكاح في شرط لم يتمكن في صلبه هذا هو الأصل. أو نقول: إن الكتابة في جانب العبد إعتاق لأنه إسقاط الملك، وهذا الشرط يخص العبد فاعتبر إعتاقا في حق هذا الشرط، والإعتاق لا يبطل بالشروط الفاسدة. قال: "ولا يتزوج إلا بإذن المولى" لأن الكتابة فك الحجر مع قيام الملك ضرورة التوسل إلى المقصود، والتزوج ليس وسيلة إليه، ويجوز بإذن المولى لأن الملك له "ولا يهب ولا يتصدق إلا بالشيء اليسير" لأن الهبة والصدقة تبرع وهو غير مالك ليملكه، إلا أن الشيء اليسير من ضرورات التجارة لأنه لا يجد بدا من ضيافة وإعارة ليجتمع عليه المجاهزون. ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته وتوابعه "ولا يتكفل" لأنه تبرع محض، فليس من ضرورات التجارة والاكتساب ولا يملكه بنوعيه نفسا ومالا لأن كل ذلك تبرع "ولا يقرض" لأنه تبرع ليس من توابع الاكتساب "فإن وهب على عوض لم يصح" لأنه تبرع ابتداء "وإن زوج أمته جاز" لأنه اكتساب للمال فإنه يتملك به المهر فدخل تحت العقد. قال: "وكذلك إن كاتب عبده" والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي، لأن مآله العتق والمكاتب ليس من أهله كالإعتاق على مال. وجه الاستحسان أنه عقد اكتساب للمال فيملكه كتزويج الأمة وكالبيع وقد يكون هو أنفع له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 من البيع لأنه لا يزيل الملك إلا بعد وصول البدل إليه والبيع يزيله قبله ولهذا يملكه الأب والوصي ثم هو يوجب للمملوك مثل ما هو ثابت له. بخلاف الإعتاق على مال لأنه يوجب فوق ما هو ثابت له. قال: "فإن أدى الثاني قبل أن يعتق الأول فولاؤه للمولى" لأن له فيه نوع ملك. وتصح إضافة الإعتاق إليه في الجملة، فإذا تعذر إضافته إلى مباشر العقد لعدم الأهلية أضيف إليه كما في العبد إذا اشترى شيئا يثبت الملك للمولى. قال: "فلو أدى الأول بعد ذلك وعتق لا ينتقل الولاء إليه" لأن المولى جعل معتقا والولاء لا ينتقل عن المعتق "وإن أدى الثاني بعد عتق الأول فولاؤه له" لأن العاقد من أهل ثبوت الولاء وهو الأصل فيثبت له. قال: "وإن أعتق عبده على مال أو باعه من نفسه أو زوج عبده لم يجز" لأن هذه الأشياء ليست من الكسب ولا من توابعه. أما الأول فلأنه إسقاط الملك عن رقبته وإثبات الدين في ذمه المفلس فأشبه الزوال بغير عوض، وكذا الثاني لأنه إعتاق على مال في الحقيقة. وأما الثالث فلأنه تنقيص للعبد وتعييب له وشغل رقبته بالمهر والنفقة، بخلاف تزويج الأمة لأنه اكتساب لاستفادته المهر على ما مر. قال: "وكذلك الأب والوصي في رقيق الصغير بمنزلة المكاتب" لأنهما يملكان الاكتساب كالمكاتب، ولأن في تزويج الأمة والكتابة نظرا له، ولا نظر فيما سواهما والولاية نظرية. قال: "فأما المأذون له فلا يجوز له شيء من ذلك عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: له أن يزوج أمته" وعلى هذا الخلاف المضارب والمفاوض والشريك شركة عنان هو قاسه على المكاتب واعتبره بالإجارة. ولهما أن المأذون له يملك التجارة وهذا ليس بتجارة، فأما المكاتب يتملك الاكتساب وهذا اكتساب، ولأنه مبادلة المال بغير المال فيعتبر بالكتابة دون الإجارة، إذ هي مبادلة المال بالمال ولهذا لا يملك هؤلاء كلهم تزويج العبد، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 فصل: وإذا اشترى المكاتب أباه أو ابنه دخل في كتابته ... فصل: قال: "وإذا اشترى المكاتب أباه أو ابنه دخل في كتابته" لأنه من أهل أن يكاتب وإن لم يكن من أهل الإعتاق فيجعل مكاتبا تحقيقا للصلة بقدر الإمكان، ألا ترى أن الحر متى كان يملك الإعتاق يعتق عليه "وإن اشترى ذا رحم محرم منه لأولاد له لم يدخل في كتابته عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 أبي حنيفة. وقالا: يدخل" اعتبارا بقرابة الولاد إذ وجوب الصلة ينتظمهما ولهذا لا يفترقان في الحر في حق الحرية. وله أن للمكاتب كسبا لا ملكا، غير أن الكسب يكفي الصلة في الولاد حتى أن القادر على الكسب يخاطب بنفقة الوالد والولد ولا يكفي في غيرهما حتى لا تجب نفقة الأخ إلا على الموسر، ولأن هذه قرابة توسطت بين بني الأعمام وقرابة الولاد فألحقناها بالثاني في العتق، وبالأول في الكتابة وهذا أولى لأن العتق أسرع نفوذا من الكتابة، حتى أن أحد الشريكين إذا كاتب كان للآخر فسخه، وإذا أعتق لا يكون له فسخه. قال: "وإذا اشترى أم ولده دخل ولدها في الكتابة ولم يجز بيعها" ومعناه إذا كان معها ولدها، أما دخول الولد في الكتابة فلما ذكرناه. وأما امتناع بيعها فلأنها تبع للولد في هذا الحكم، قال عليه الصلاة والسلام: "أعتقها ولدها" وإن لم يكن معها ولدها فكذلك الجواب في قول أبي يوسف ومحمد لأنها أم ولد خلافا لأبي حنيفة. وله أن القياس أن يجوز بيعها وإن كان معها ولد لأن كسب المكاتب موقوف فلا يتعلق به ما لا يحتمل الفسخ، إلا أنه يثبت به هذا الحق فيما إذا كان معها ولد تبعا لثبوته في الولد بناء عليه، وبدون الولد لو ثبت ثبت ابتداء والقياس ينفيه "وإن ولد له ولد من أمة له دخل في كتابته" لما بينا في المشترى "فكان حكمه كحكمه وكسبه له" لأن كسب الولد كسب كسبه ويكون كذلك قبل الدعوة فلا ينقطع بالدعوة اختصاصه، "وكذلك إن ولدت المكاتبة ولدا" لأن حق امتناع البيع ثابت فيها مؤكدا فيسري إلى الولد كالتدبير والاستيلاد. قال: "ومن زوج أمته من عبده ثم كاتبهما فولدت منه ولدا دخل في كتابتها وكان كسبه لها" لأن تبعية الأم أرجح ولهذا يتبعها في الرق والحرية. قال: "وإن تزوج المكاتب بإذن مولاه امرأة زعمت أنها حرة فولدت منه ثم استحقت فأولادها عبيد ولا يأخذهم بالقيمة، وكذلك العبد يأذن له المولى بالتزويج، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: أولادها أحرار بالقيمة" لأنه شارك الحر في سبب ثبوت هذا الحق وهو الغرور، وهذا لأنه ما رغب في نكاحها إلا لينال حرية الأولاد، ولهما أنه مولود بين رقيقين فيكون رقيقا، وهذا لأن الأصل أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، وخالفنا هذا الأصل في الحر بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهذا ليس في معناه لأن حق المولى هناك مجبور بقيمة ناجزة وهاهنا بقيمة متأخرة إلى ما بعد العتق فيبقى على الأصل ولا يلحق به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 قال: "وإن وطئ المكاتب أمة على وجه الملك بغير إذن المولى ثم استحقها رجل فعليه العقر يؤخذ به في الكتابة، وإن وطئها على وجه النكاح لم يؤخذ به حتى يعتق وكذلك المأذون له" ووجه الفرق أن في الفصل الأول ظهر الدين في حق المولى لأن التجارة وتوابعها داخلة تحت الكتابة، وهذا العقر من توابعها، لأنه لولا الشراء لما سقط الحد وما لم يسقط الحد لا يجب العقر. أما لم يظهر في الفصل الثاني لأن النكاح ليس من الاكتساب في شيء فلا تنتظمه الكتابة كالكفالة. قال: "وإذا اشترى المكاتب جارية شراء فاسدا ثم وطئها فردها أخذ بالعقر في المكاتبة، وكذلك العبد المأذون له" لأنه من باب التجارة، فإن التصرف تارة يقع صحيحا ومرة يقع فاسدا، والكتابة والإذن ينتظمانه بنوعيه كالتوكيل فكان ظاهرا في حق المولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 فصل: وإذا ولدت المكاتبة من المولى فهي بالخيار الخ ... فصل: قال: "وإذا ولدت المكاتبة من المولى فهي بالخيار إن شاءت مضت على الكتابة، وإن شاءت عجزت نفسها، وصارت أم ولد له" لأنها تلقتها جهتا حرية عاجلة ببدل وآجلة بغير بدل فتخير بينهما، "ونسب ولدها ثابت من المولى وهو حر", لأن المولى يملك الإعتاق في ولدها وما له من الملك يكفي لصحة الاستيلاد بالدعوة. وإذا مضت على الكتابة أخذت العقر من مولاها لاختصاصها بنفسها وبمنافعها على ما قدمنا. ثم إن مات المولى عتقت بالاستيلاد وسقط عنها بدل الكتابة، وإن ماتت هي وتركت مالا تؤدى منه مكاتبتها وما بقي ميراث لابنها جريا على موجب الكتابة، وإن لم تترك مالا فلا سعاية على الولد لأنه حر، ولو ولدت ولدا آخر لم يلزم المولى إلا أن يدعي لحرمة وطئها عليه، فلو لم يدع وماتت من غير وفاء سعى هذا الولد لأنه مكاتب تبعا لها، فلو مات المولى بعد ذلك عتق وبطل عنه السعاية لأنه بمنزلة أم الولد إذ هو ولدها فيتبعها. قال: "وإذا كاتب المولى أم ولده جاز" لحاجتها إلى استفادة الحرية قبل موت المولى وذلك بالكتابة، ولا تنافي بينهما لأنه تلقتها جهتا حرية "فإن مات المولى عتقت بالاستيلاد" لتعلق عتقها بموت السيد "وسقط عنها بدل الكتابة" لأن الغرض من إيجاب البدل العتق عند الأداء، فإذا عتقت قبله لم يمكن توفير الغرض عليه فسقط وبطلت الكتابة لامتناع إبقائها بغير فائدة، غير أنه تسلم لها الأكساب والأولاد لأن الكتابة انفسخت في حق البدل وبقيت في حق الأكساب والأولاد، لأن الفسخ لنظرها والنظر فيما ذكرناه. ولو أدت المكاتبة قبل موت المولى عتقت بالكتابة لأنها باقية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 قال: "وإن كاتب مدبرته جاز" لما ذكرنا من الحاجة ولا تنافي، إذ الحرية غير ثابتة، وإنما الثابت مجرد الاستحقاق "وإن مات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار بين أن تسعى في ثلثي قيمتها أو جميع مال الكتابة" وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: تسعى في أقل منهما. وقال محمد: تسعى في الأقل من ثلثي قيمتها وثلثي بدل الكتابة، فالخلاف في الخيار والمقدار، فأبو يوسف مع أبي حنيفة في المقدار، ومع محمد في نفي الخيار. أما الخيار ففرع تجزؤ الإعتاق عنده لما تجزأ بقي الثلثان رقيقا وقد تلقاها جهتا حرية ببدلين معجل بالتدبير ومؤجل بالكتابة فتخير. وعندهما لما عتق كلها بعتق بعضها فهي حرة وجب عليها أحد المالين فتختار الأقل لا محالة فلا معنى للتخيير. وأما المقدار فلمحمد رحمه الله أنه قابل البدل بالكل وقد سلم لها الثلث بالتدبير فمن المحال أن يجب البدل بمقابلته، ألا ترى أنه لو سلم لها الكل بأن خرجت من الثلث يسقط كل بدل الكتابة فهنا يسقط الثلث وصار كما إذا تأخر التدبير عن الكتابة. ولهما أن جميع البدل مقابل بثلثي رقبتها فلا يسقط منه شيء، وهذا لأن البدل وإن قوبل بالكل صورة وصيغة لكنه مقيد بما ذكرنا معنى وإرادة لأنها استحقت حرية الثلث ظاهرا، والظاهر أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته وصار كما إذا طلق امرأته ثنتين ثم طلقها ثلاثا على ألف كان جميع الألف بمقابلة الواحدة الباقية لدلالة الإرادة، كذا هاهنا، بخلاف ما إذا تقدمت الكتابة وهي المسألة التي تليه لأن البدل مقابل بالكل إذ لا استحقاق عنده في شيء فافترقا. قال: "وإن دبر مكاتبته صح التدبير" لما بينا. "ولها الخيار، إن شاءت مضت على الكتابة، وإن شاءت عجزت نفسها وصارت مدبرة" لأن الكتابة ليست بلازمة في جانب المملوك، فإن مضت على كتابتها فمات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار إن شاءت سعت في ثلثي مال الكتابة أو ثلثي قيمتها عند أبي حنيفة. وقالا: تسعى في الأقل منهما، فالخلاف في هذا الفصل في الخيار بناء على ما ذكرنا. أما المقدار فمتفق عليه، ووجهه ما بينا. قال: "وإذا أعتق المولى مكاتبه عتق بإعتاقه" لقيام ملكه فيه "وسقط بدل الكتابة" لأنه ما التزمه إلا مقابلا بالعتق وقد حصل له دونه فلا يلزمه، والكتابة وإن كانت لازمة في جانب المولى ولكنه يفسخ برضا العبد والظاهر رضاه توسلا إلى عتقه بغير بدل مع سلامة الأكساب له لأنا نبقي الكتابة في حقه. قال: "وإن كاتبه على ألف درهم إلى سنة فصالحه على خمسمائة معجلة فهو جائز" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 استحسانا. وفي القياس لا يجوز لأنه اعتياض عن الأجل وهو ليس بمال والدين مال فكان ربا، ولهذا لا يجوز مثله في الحر ومكاتب الغير. وجه الاستحسان أن الأجل في حق المكاتب مال من وجه لأنه لا يقدر على الأداء إلا به فأعطي له حكم المال، وبدل الكتابة مال من وجه حتى لا تصح الكفالة به فاعتدلا فلا يكون ربا، ولأن عقد الكتابة عقد من وجه دون وجه والأجل ربا من وجه فيكون شبهة الشبهة، بخلاف العقد بين الحرين لأنه عقد من كل وجه فكان ربا والأجل فيه شبهة. قال: "وإذا كاتب المريض عبده على ألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف ثم مات ولا مال له غيره ولم تجز الورثة فإنه يؤدي ثلثي الألفين حالا والباقي إلى أجله أو يرد رقيقا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يؤدي ثلثي الألف حالا والباقي إلى أجله" لأن له أن يترك الزيادة بأن يكاتبه على قيمته فله أن يؤخرها وصار كما إذا خالع المريض امرأته على ألف إلى سنة جاز، لأن له أن يطلقها بغير بدل، ولهما أن جميع المسمى بدل الرقبة حتى أجري عليها أحكام الأبدال وحق الورثة متعلق بالمبدل فكذا بالبدل، والتأجيل إسقاط معنى فيعتبر من ثلث الجميع، بخلاف الخلع لأن البدل فيه لا يقابل المال فلم يتعلق حق الورثة بالمبدل فلا يتعلق بالبدل، ونظير هذا إذا باع المريض داره بثلاثة آلاف إلى سنة وقيمتها ألف ثم مات ولم تجز الورثة فعندهما يقال للمشتري أد ثلثي جميع الثمن حالا والثلث إلى أجله وإلا فانقض البيع، وعنده يعتبر الثلث بقدر القيمة لا فيما زاد عليه لما بينا من المعنى. قال: "وإن كاتبه على ألف إلى سنة وقيمته ألفان ولم تجز الورثة يقال له أد ثلثي القيمة حالا أو ترد رقيقا في قولهم جميعا" لأن المحاباة هاهنا في القدر والتأخير فاعتبر الثلث فيهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 باب من يكاتب عن العبد قال: "وإذا كاتب الحر عن عبد بألف درهم، فإن أدى عنه عتق، وإن بلغ العبد فقبل فهو مكاتب" وصورة المسألة أن يقول الحر لمولى العبد كاتب عبدك على ألف درهم على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر فكاتبه المولى على هذا يعتق بأدائه بحكم الشرط، وإذا قبل العبد صار مكاتبا، لأن الكتابة كانت موقوفة على إجارته وقبوله إجازة، ولو لم يقل على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر فأدى لا يعتق قياسا لأنه لا شرط والعقد موقوف على إجازة العبد. وفي الاستحسان يعتق لأنه لا ضرر للعبد الغائب في تعليق العتق بأداء القائل فيصح في حق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 هذا الحكم ويتوقف في حق لزوم الألف على العبد. وقيل هذه هي صورة مسألة الكتاب "ولو أدى الحر البدل لا يرجع على العبد" لأنه متبرع. قال: "وإذا كاتب العبد عن نفسه وعن عبد آخر لمولاه وهو غائب، فإن أدى الشاهد أو الغائب عتقا" ومعنى المسألة أن يقول العبد كاتبني بألف درهم على نفسي وعلى فلان الغائب، وهذه كتابة جائزة استحسانا. وفي القياس: يصح على نفسه لولايته عليها ويتوقف في حق الغائب لعدم الولاية عليه. وجه الاستحسان أن الحاضر بإضافة العقد إلى نفسه ابتداء جعل نفسه فيه أصلا والغائب تبعا، والكتابة على هذا الوجه مشروعة كالأمة إذا كوتبت دخل أولادها في كتابتها تبعا حتى عتقوا بأدائها وليس عليهم من البدل شيء وإذا أمكن تصحيحه على هذا الوجه ينفرد به الحاضر فله أن يأخذه بكل البدل لأن البدل عليه لكونه أصلا فيه، ولا يكون على الغائب من البدل شيء لأنه تبع فيه. قال: "وأيهما أدى عتقا ويجبر المولى على القبول" أما الحاضر فلأن البدل عليه. وأما الغائب فلأنه ينال به شرف الحرية، وإن لم يكن البدل عليه وصار كمعير الرهن إذا أدى الدين يجبر المرتهن على القبول لحاجته إلى استخلاص عينه وإن لم يكن الدين عليه. قال: "وأيهما أدى لا يرجع على صاحبه" لأن الحاضر قضى دينا عليه والغائب متبرع به غير مضطر إليه. قال: "وليس للمولى أن يأخذ الغائب بشيء" لما بينا "فإن قبل العبد الغائب أو لم يقبل فليس ذلك منه بشيء، والكتابة لازمة للشاهد" لأن الكتابة نافذة عليه من غير قبول الغائب فلا تتغير بقبوله، كمن كفل عن غيره بغير أمره فبلغه فأجازه لا يتغير حكمه، حتى لو أدى لا يرجع عليه، كذا هذا. قال: "وإذا كاتبت الأمة عن نفسها وعن ابنين لها صغيرين فهو جائز، وأيهم أدى لم يرجع على صاحبه ويجبر المولى على القبول ويعتقون" لأنها جعلت نفسها أصلا في الكتابة وأولادها تبعا على ما بينا في المسألة الأولى وهي أولى بذلك من الأجنبي، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 باب كتاب العبد المشترك قال: "وإذا كان العبد بين رجلين أذن أحدهما لصاحبه أن يكاتب نصيبه بألف درهم ويقبض بدل الكتابة فكاتب وقبض بعض الألف ثم عجز فالمال للذي قبض عند أبي حنيفة، وقالا: هو مكاتب بينهما وما أدى فهو بينهما" وأصله أن الكتابة تتجزأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 عنده خلافا لهما بمنزلة الإعتاق، لأنها تفيد الحرية من وجه فتقتصر على نصيبه عنده للتجزؤ، وفائدة الإذن أن لا يكون له حق الفسخ كما يكون له إذا لم يأذن، وإذنه له بقبض البدل إذن للعبد بالأداء فيكون متبرعا بنصيبه عليه فلهذا كان كل المقبوض له. وعندهما الإذن بكتابة نصيبه إذن بكتابة الكل لعدم التجزؤ، فهو أصيل في النصف وكيل في النصف فهو بينهما والمقبوض مشترك بينهما فيبقى كذلك بعد العجز. قال: "وإذا كانت جارية بين رجلين كاتباها فوطئها أحدهما فجاءت بولد فادعاه ثم وطئها الآخر فجاءت بولد فادعاه ثم عجزت فهي أم ولد للأول" لأنه لما ادعى أحدهما الولد صحت دعوته لقيام الملك له فيها وصار نصيبه أم ولد له، لأن المكاتبة لا تقبل النقل من ملك إلى ملك فتقتصر أمومية الولد على نصيبه كما في المدبرة المشتركة، وإذا ادعى الثاني ولدها الأخير صحت دعوته لقيام ملكه ظاهرا، ثم إذا عجزت بعد ذلك جعلت الكتابة كأن لم تكن وتبين أن الجارية كلها أم ولد للأول لأنه زال المانع من الانتقال ووطؤه سابق. قال: "ويضمن نصف قيمتها" لأنه تملك نصيبه لما استكمل الاستيلاد. قال: "ونصف عقرها" لوطئه جارية مشتركة. قال: "ويضمن شريكه كمال عقرها وقيمة الولد ويكون ابنه" لأنه بمنزلة المغرور، لأنه حين وطئها كان ملكه قائما ظاهرا. وولد المغرور ثابت النسب منه حر بالقيمة على ما عرف لكنه وطئ أم ولد الغير حقيقة فيلزمه كمال العقر. قال: "وأيهما دفع العقر إلى المكاتبة جاز" لأن الكتابة ما دامت باقية فحق القبض لها لاختصاصها بمنافعها وأبدالها، وإذا عجزت ترد العقر إلى المولى لظهور اختصاصه "وهذا" الذي ذكرنا "كله قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: هي أم ولد للأول ولا يجوز وطء الآخر" لأنه لما ادعى الأول الولد صارت كلها أم ولد له لأن أمومية الولد يجب تكميلها بالإجماع ما أمكن، وقد أمكن بفسخ الكتابة لأنها قابلة للفسخ فتفسخ فيما لا تتضرر به المكاتبة وتبقى الكتابة فيما وراءه، بخلاف التدبير لأنه لا يقبل الفسخ، وبخلاف بيع المكاتب لأن في تجويزه إبطال الكتابة إذ المشتري لا يرضى ببقائه مكاتبا. وإذا صارت كلها أم ولد له فالثاني وطئ أم ولد الغير. قال:"فلا يثبت نسب الولد منه ولا يكون حرا عليه بالقيمة" غير أنه لا يجب الحد عليه للشبهة. قال: "ويلزمه جميع العقر" لأن الوطء لا يعرى عن إحدى الغرامتين، وإذا بقيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 الكتابة وصارت كلها مكاتبة له، قيل يجب عليها نصف بدل الكتابة لأن الكتابة انفسخت فيما لا تتضرر به المكاتبة ولا تتضرر بسقوط نصف البدل. وقيل يجب كل البدل لأن الكتابة لم تنفسخ إلا في حق التملك ضرورة فلا يظهر في حق سقوط نصف البدل وفي إبقائه في حقه نظر للمولى وإن كان لا تتضرر المكاتبة بسقوطه، والمكاتبة هي التي تعطي العقر لاختصاصها بأبدال منافعها. ولو عجزت وردت في الرق ترد إلى المولى لظهور اختصاصه على ما بينا. قال: "ويضمن الأول لشريكه في قياس قول أبي يوسف رحمه الله نصف قيمتها مكاتبة" لأنه تملك نصيب شريكه وهي مكاتبة فيضمنه موسرا كان أو معسرا لأنه ضمان التملك. قال: "وفي قول محمد: يضمن الأقل من نصف قيمتها ومن نصف ما بقي من بدل الكتابة" لأن حق شريكه في نصف الرقبة على اعتبار العجز، وفي نصف البدل على اعتبار الأداء فلتردد بينهما يجب أقلهما. قال: "وإذا كان الثاني لم يطأها ولكن دبرها ثم عجزت بطل التدبير" لأنه لم يصادف الملك. أما عندهما فظاهر لأن المستولد تملكها قبل العجز. وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه بالعجز تبين أنه تملك نصيبه من وقت الوطء فتبين أنه مصادف ملك غيره والتدبير يعتمد الملك، بخلاف النسب لأنه يعتمد الغرور على ما مر. قال: "وهي أم ولد للأول" لأنه تملك نصيب شريكه وكمل الاستيلاد على ما بينا. قال: "ويضمن لشريكه نصف عقرها" لوطئه جارية مشتركة. قال: "ونصف قيمتها" لأنه تملك نصفها بالاستيلاد وهو تملك بالقيمة. قال: "والولد ولد الأول" لأنه صحت دعوته لقيام المصحح، وهذا قولهم جميعا. ووجهه ما بينا. قال: "وإن كانا كاتباها ثم أعتقها أحدهما وهو موسر ثم عجزت يضمن المعتق لشريكه نصف قيمتها ويرجع بذلك عليها عند أبي حنيفة، وقالا: لا يرجع عليها" لأنها لما عجزت وردت في الرق تصير كأنها لم تزل قنة، والجواب فيه على الخلاف في الرجوع وفي الخيارات وغيرها كما هو مسألة تجزؤ الإعتاق وقد قررناه في الإعتاق، فأما قبل العجز ليس له أن يضمن المعتق عند أبي حنيفة لأن الإعتاق لما كان يتجزأ عنده كان أثره أن يجعل نصيب غير المعتق كالمكاتب فلا يتغير به نصيب صاحبه لأنها مكاتبة قبل ذلك وعندهما لما كان لا يتجزأ بعتق الكل فله أن يضمنه قيمة نصيبه مكاتبا إن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 موسرا، ويستسعى العبد إن كان معسرا لأنه ضمان إعتاق فيختلف باليسار والإعسار. قال: "وإذا كان العبد بين رجلين دبره أحدهما ثم أعتقه الآخر وهو موسر، فإن شاء الذي دبره ضمن المعتق نصف قيمته مدبرا، وإن شاء استسعى العبد، وإن شاء أعتق، وإن أعتقه أحدهما ثم دبره الآخر لم يكن له أن يضمن المعتق ويستسعى أو يعتق، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله" ووجهه أن التدبير يتجزأ عنده فتدبير أحدهما يقتصر على نصيبه لكن يفسد به نصيب الآخر فيثبت له خيرة الإعتاق والتضمين والاستسعاء كما هو مذهبه، فإذا أعتق لم يبق له خيار التضمين والاستسعاء، وإعتاقه يقتصر على نصيبه لأنه يتجزأ عنده، ولكن يفسد به نصيب شريكه فله أن يضمنه قيمة نصيبه، وله خيار العتق والاستسعاء أيضا كما هو مذهبه ويضمنه قيمة نصيبه مدبرا لأن الإعتاق صادف المدبر. ثم قيل: قيمة المدبر تعرف بتقويم المقومين، وقيل يجب ثلثا قيمته زهو قن لأن المنافع أنواع ثلاثة: البيع وأشباهه، والاستخدام وأمثاله، والإعتاق وتوابعه، والفائت البيع فيسقط الثلث. وإذا ضمنه لا يتملكه بالضمان لأنه لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك، كما إذا غصب مدبرا فأبق. وإن أعتقه أحدهما أولا كان للآخر الخيارات الثلاث عنده، فإذا دبره لم يبق له خيار التضمين وبقي خيار الإعتاق والاستسعاء لأن المدبر يعتق ويستسعى "وقال أبو يوسف ومحمد: إذا دبره أحدهما فعتق الآخر باطل" لأنه لا يتجزأ عندهما فيتملك نصيب صاحبه بالتدبير قال: "ويضمن نصف قيمته موسرا كان أو معسرا" لأنه ضمان تملك فلا يختلف باليسار والإعسار، ويضمن نصف قيمته قنا لأنه صادفه التدبير وهو قن. قال: "وإن أعتقه أحدهما فتدبير الآخر باطل" لأن الإعتاق لا يتجزأ فعتق كله فلم يصادف التدبير الملك وهو يعتمده. قال: "ويضمن نصف قيمته إن كان موسرا" ويسعى العبد في ذلك إن كان معسرا لأن هذا ضمان الإعتاق فيختلف ذلك باليسار والإعسار عندهما، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 باب موت المكاتب وعجزه وموت المولى قال: "وإذا عجز المكاتب عن نجم نظر الحاكم في حاله، فإن كان له دين يقبضه أو مال يقدم عليه لم يعجل بتعجيزه وانتظر عليه اليومين أو الثلاثة" نظرا للجانبين، والثلاث هي المدة التي ضربت لإبلاء الأعذار كإمهال الخصم للدفع والمديون للقضاء فلا يزاد عليه. قال: "فإن لم يكن له وجه وطلب المولى تعجيزه عجزه وفسخ الكتابة، وهذا عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان" لقول علي رضي الله عنه: إذا توالى على المكاتب نجمان رد في الرق علقه بهذا الشرط، ولأنه عقد إرفاق حتى كان أحسنه مؤجله وحالة الوجوب بعد حلول نجم فلا بد من إمهال مدة استيسارا، وأولى المدد ما توافق عليه العاقدان. ولهما أن سبب الفسخ قد تحقق وهو العجز، لأن من عجز عن أداء نجم واحد يكون أعجز عن أداء نجمين، وهذا لأن مقصود المولى الوصول إلى المال عند حلول نجم وقد فات فيفسخ إذا لم يكن راضيا بدونه، بخلاف اليومين والثلاثة لأنه لا بد منها لإمكان الأداء فلم يكن تأخيرا، والآثار متعارضة، فإن المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن مكاتبة له عجزت عن أداء نجم واحد فردها فسقط الاحتجاج بها. قال: "فإن أخل بنجم عند غير السلطان فعجز فرده مولاه برضاه فهو جائز" لأن الكتابة تفسخ بالتراضي من غير عذر فبالعذر أولى. قال: "ولو لم يرض به العبد لا بد من القضاء بالفسخ" لأنه عقد لازم تام فلا بد من القضاء أو الرضا كالرد بالعيب بعد القبض. قال: "وإذا عجز المكاتب عاد إلى أحكام الرق" لانفساخ الكتابة "وما كان في يده من الأكساب فهو لمولاه" لأنه ظهر أنه كسب عبده، وهذا لأنه كان موقوفا عليه أو على مولاه وقد زال التوقف. قال: "فإن مات المكاتب وله مال لم تنفسخ الكتابة وقضى ما عليه من ماله وحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته وما بقي فهو ميراث لورثته ويعتق أولاده" وهذا قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه الله: تبطل الكتابة ويموت عبدا وما تركه لمولاه، وإمامه في ذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأن المقصود من الكتابة عتقه وقد تعذر إثباته فتبطل، وهذا لأنه لا يخلو إما أن يثبت بعد الممات مقصودا أو يثبت قبله أو بعده مستندا، لا وجه إلى الأول لعدم المحلية، ولا إلى الثاني لفقد الشرط وهو الأداء، ولا إلى الثالث لتعذر الثبوت في الحال والشيء يثبت ثم يستند. ولنا أنه عقد معاوضة، ولا يبطل بموت أحد المتعاقدين وهو المولى فكذا بموت الآخر، والجامع بينهما الحاجة إلى إبقاء العقد لإحياء الحق، بل أولى لأن حقه آكد من حق المولى حتى لزم العقد في جانبه، والموت أنفى للمالكية منه للمملوكية فينزل حيا تقديرا، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 تستند الحرية باستناد سبب الأداء إلى ما قبل الموت ويكون أداء خلفه كأدائه، وكل ذلك ممكن على ما عرف تمامه في الخلافيات. قال: "وإن لم يترك وفاء وترك ولدا مولودا في الكتابة سعى في كتابة أبيه على نجومه فإذا أدى حكمنا بعتق أبيه قبل موته وعتق الولد" لأن الولد داخل في كتابته وكسبه ككسبه فيخلفه في الأداء وصار كما إذا ترك وفاء "وإن ترك ولدا مشترى في الكتابة قيل له إما أن تؤدي الكتابة حالة أو ترد رقيقا" وهذا عند أبي حنيفة. وأما عندهما يؤديه إلى أجله اعتبارا بالولد المولود في الكتابة، والجامع أنه يكاتب عليه تبعا له ولهذا يملك المولى إعتاقه بخلاف سائر أكسابه. ولأبي حنيفة وهو الفرق بين الفصلين أن الأجل يثبت شرطا في العقد فيثبت في حق من دخل تحت العقد والمشترى لم يدخل لأنه لم يضف إليه العقد ولا يسري حكمه إليه لانفصاله، بخلاف المولود في الكتابة لأنه متصل وقت الكتابة فيسري الحكم إليه وحيث دخل في حكمه سعى في نجومه "فإن اشترى ابنه ثم مات وترك وفاء ورثه ابنه" لأنه لما حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته يحكم بحرية ابنه في ذلك الوقت، لأنه تبع لأبيه في الكتابة فيكون هذا حرا يرث عن حر "وكذلكم إن كان هو وابنه مكاتبين كتابة واحدة" لأن الولد إن كان صغيرا فهو تبع لأبيه وإن كان كبيرا جعلا كشخص واحد، فإذا حكم بحرية الأب يحكم بحريته في تلك الحالة على مامر. قال: "وإن مات المكاتب وله ولد من حرة وترك دينا وفاء بمكاتبته فجنى الولد فقضي به على عاقلة الأم لم يكن ذلك قضاء بعجز المكاتب" لأن هذا القضاء يقرر حكم الكتابة، لأن من قضيتها إلحاق الولد بموالي الأم وإيجاب العقل عليهم، لكن على وجه يحتمل أن يعتق فينجر الولاء إلى موالي الأب، والقضاء بما يقرر حكمه لا يكون تعجيزا "وإن اختصم موالي الأم وموالي الأب في ولائه فقضى به لموالي الأم فهو قضاء بالعجز" لأن هذا اختلاف في الولاء مقصودا، وذلك يبتني على بقاء الكتابة وانتقاضها، فإنها إذا فسخت مات عبدا واستقر الولاء على موالي الأم، وإذا بقيت واتصل بها الأداء مات حرا وانتقل الولاء إلى موالي الأب، وهذا فصل مجتهد فيه فينفذ ما يلاقيه من القضاء فلهذا كان تعجيزا. قال: "وما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى لتبدل الملك" فإن العبد يتملكه صدقة والمولى عوضا عن العتق، وإليه وقعت الإشارة النبوية في حديث بريرة رضي الله تعالى عنها "هي لها صدقة ولنا هدية" وهذا بخلاف ما إذا أباح للغني والهاشمي، لأن المباح له يتناوله على ملك المبيح، ونظيره المشتري شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له ولو ملكه يطيب، ولو عجز قبل الأداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 إلى المولى فكذلك الجواب، وهذا عند محمد ظاهر لأن بالعجز يتبدل الملك عنده، وكذا عند أبي يوسف، وإن كان بالعجز يتقرر ملك المولى عنده لأنه لا خبث في نفس الصدقة، وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا به. ولا يجوز ذلك للغني من غير حاجة وللهاشمي لزيادة حرمته والأخذ لم يوجد من المولى فصار كابن السبيل إذا وصل إلى وطنه والفقير إذا استغنى وقد بقي في أيديهما ما أخذا من الصدقة فإنه يطيب لهما، وعلى هذا إذا أعتق المكاتب واستغنى يطيب له ما بقي من الصدقة في يده. قال: "وإذا جنى العبد فكاتبه مولاه ولم يعلم بالجناية ثم عجز فإنه يدفع أو يفدي" لأن هذا موجب جناية العبد في الأصل ولم يكن عالما بالجناية عند الكتابة حتى يصير مختارا للفداء إلا أن الكتابة مانعة من الدفع، فإذا زال عاد الحكم الأصلي "وكذلك إذا جنى المكاتب ولم يقض به حتى عجز" لما بينا من زوال المانع "وإن قضى به عليه في كتابته ثم عجز فهو دين يباع فيه" لانتقال الحق من الرقبة إلى قيمته بالقضاء، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقد رجع أبو يوسف إليه، وكان يقول أولا يباع فيه وإن عجز قبل القضاء، وهو قول زفر لأن المانع من الدفع وهو الكتابة قائم وقت الجناية، فكما وقعت انعقدت موجبة للقيمة كما في جناية المدبر وأم الولد. ولنا أن المانع قابل للزوال للتردد ولم يثبت الانتقال في الحال فيتوقف على القضاء أو الرضا وصار كالعبد المبيع إذا أبق قبل القبض يتوقف الفسخ على القضاء لتردده واحتمال عوده، كذا هذا، بخلاف التدبير والاستيلاد لأنهما لا يقبلان الزوال بحال. قال: "وإذا مات المولى المكاتب لم تنفسخ الكتابة" كي لا يؤدي إلى إبطال حق المكاتب، إذ الكتابة سبب الحرية وسبب حق المرء حقه "وقيل له أد المال إلى ورثة المولى على نجومه" لأنه استحقاق الحرية على هذا الوجه والسبب انعقد كذلك فيبقى بهذه الصفة ولا يتغير، إلا أن الورثة يخلفونه في الاستيفاء. "فإن أعتقه أحد الورثة لم ينفذ عتقه" لأنه لم يملكه، وهذا لأن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك فكذا بسبب الوراثة. وإن أعتقوه جميعا عتق وسقط عنه بدل الكتابة لأنه يصير إبراء عن بدل الكتابة فإنه حقهم وقد جرى فيه الإرث، وإذا برئ المكاتب عن بدل الكتابة يعتق كما إذا أبرأه المولى، إلا أنه إذا أعتقه أحد الورثة لا يصير إبراء عن نصيبه، لأنا نجعله إبراء اقتضاء تصحيحا لعتقه. والعتق لا يثبت بإبراء البعض أو أدائه في المكاتب لا في بعضه ولا في كله، ولا وجه إلى إبراء الكل لحق بقية الورثة، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 كتاب الولاء أنواعه مدخل ... كتاب الولاء الولاء نوعان: ولاء عتاقة ويسمى ولاء نعمة وسببه العتق على ملكه في الصحيح، حتى لو عتق قريبه عليه بالوراثة كان الولاء له. وولاء موالاة، وسببه العقد ولهذا يقال ولاء العتاقة وولاء الموالاة، والحكم يضاف إلى سببه، والمعنى فيهما التناصر، وكانت العرب تتناصر بأشياء، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم تناصرهم بالولاء بنوعيه فقال: "إن مولى القوم منهم وحليفهم منهم" والمراد بالحليف مولى الموالاة لأنهم كانوا يؤكدون الموالاة بالحلف. قال: "وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له" لقول عليه الصلاة والسلام: "الولاء لمن أعتق"، ولأن التناصر به فيعقله وقد أحياه معنى بإزالة الرق عنه فيرثه ويصير الولاء كالولاد، ولأن الغنم بالغرم، وكذا المرأة تعتق لما روينا، "ومات معتق لابنة حمزة رضي الله عنهما عنها وعن بنت فجعل النبي عليه الصلاة والسلام المال بينهما نصفين". ويستوى فيه الإعتاق بمال وبغيره لإطلاق ما ذكرناه. قال: "فإن شرط أنه سائبة فالشرط باطل والولاء لمن أعتق" لأن الشرط مخالف للنص فلا يصح. قال: "وإذا أدى المكاتب عتق وولاؤه للمولى وإن عتق بعد موت المولى" لأنه عتق عليه بما باشر من السبب وهو الكتابة وقد قررناه في المكاتب "وكذا العبد الموصى بعتقه أو بشرائه وعتقه بعد موته" لأن فعل الوصي بعد موته كفعله والتركة على حكم ملكه "وإن مات المولى عتق مدبروه وأمهات أولاده" لما بينا في العتاق "وولاؤهم له" لأنه أعتقهم بالتدبير والاستيلاد. "ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" لما بينا في العتاق "وولاؤه له" لوجود السبب وهو العتق عليه "وإذا تزوج عبد رجل أمة لآخر فأعتق مولى الأمة الأمة وهي حامل من العبد عتقت وعتق حملها، وولاء الحمل لمولى الأم لا ينتقل عنه أبدا" لأنه عتق على معتق الأم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 مقصودا إذ هو جزء منها يقبل الإعتاق مقصودا فلا ينتقل ولاؤه عنه عملا بما روينا "وكذلك إذا ولدت ولدا لأقل من ستة أشهر" للتيقن بقيام الحمل وقت الإعتاق "أو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر" لأنهما توأمان يتعلقان معا. وهذا بخلاف ما إذا والت رجلا وهي حبلى والزوج والى غيره حيث يكون ولاء الولد لمولى الأب لأن الجنين غير قابل لهذا الولاء مقصودا، لأن تمامه بالإيجاب والقبول وهو ليس بمحل له. قال: "فإن ولدت بعد عتقها لأكثر من ستة أشهر ولدا فولاؤه لموالي الأم" لأنه عتق تبعا للأم لاتصاله بها بعد عتقها فيتبعها في الولاء ولم يتيقن بقيامه وقت الإعتاق حتى يعتق مقصودا "فإن أعتق الأب جر ولاء ابنه وانتقل عن موالي الأم إلى موالي الأب" لأن العتق هاهنا في الولد يثبت تبعا للأم، بخلاف الأول، وهذا لأن الولاء بمنزلة النسب قال عليه الصلاة والسلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث" ثم النسب إلى الآباء فكذلك الولاء والنسبة إلى موالي الأم كانت لعدم أهلية الأب ضرورة، فإذا صار أهلا عاد الولاء إليه؛ كولد الملاعنة ينسب إلى قوم الأم ضرورة، فإذا أكذب الملاعن نفسه ينسب إليه، بخلاف ما إذا أعتقت المعتدة عن موت أو طلاق فجاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الموت أو الطلاق حيث يكون الولد مولى لموالي الأم وإن أعتق الأب لتعذر إضافة العلوق إلى ما بعد الموت والطلاق البائن لحرمة الوطء وبعد الطلاق الرجعي لما أنه يصير مراجعا بالشك فأسند إلى حالة النكاح فكان الولد موجودا عند الإعتاق فعتق مقصودا. "وفي الجامع الصغير وإذا تزوجت معتقة بعبد فولدت أولادا فجنى الأولاد فعقلهم على موالي الأم" لأنهم عتقوا تبعا لأمهم ولا عاقلة لأبيهم ولا مولى، فألحقوا بموالي الأم ضرورة كما في ولد الملاعنة على ما ذكرنا "فإن أعتق الأب جر ولاء الأولاد إلى نفسه" لما بينا "ولا يرجعون على عاقلة الأب بما عقلوا" لأنهم حين عقلوه كان الولاء ثابتا لهم، وإنما يثبت للأب مقصودا لأن سببه مقصود وهو العتق، بخلاف ولد الملاعنة إذا عقل عنه قوم الأم ثم أكذب الملاعن نفسه حيث يرجعون عليه، لأن النسب هنالك يثبت مستندا إلى وقت العلوق وكانوا مجبورين على ذلك فيرجعون. قال: "ومن تزوج من العجم بمعتقة من العرب فولدت له أولادا فولاء أولادها لمواليها عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول محمد رحمه الله". وقال أبو يوسف: حكمه حكم أبيه، لأن النسب إلى الأب كما إذا كان الأب عربيا، بخلاف ما إذا كان الأب عبدا لأنه هالك معنى. ولهما أن ولاء العتاقة قوي معتبر في حق الأحكام حتى اعتبرت الكفاءة فيه، والنسب في حق العجم ضعيف فإنهم ضيعوا أنسابهم ولهذا لم تعتبر الكفاءة فيما بينهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 بالنسب، والقوي لا يعارضه الضعيف، بخلاف ما إذا كان الأب عريبا لأن أنساب العرب قوية معتبرة في حكم الكفاءة والعقل، كما أن تناصرهم بها فأغنت عن الولاء. قال رضي الله عنه: الخلاف في مطلق المعتقة والوضع في معتقة العرب وقع اتفاقا. "وفي الجامع الصغير: نبطي كافر تزوج بمعتقة كافرة ثم أسلم النبطي ووالى رجلا ثم ولدت أولادا. قال أبو حنيفة ومحمد: مواليهم موالي أمهم. وقال أبو يوسف: مواليهم موالي أبيهم" لأن الولاء وإن كان أضعف فهو من جانب الأب فصار كالمولود بين واحد من الموالي وبين العربية. ولهما أن ولاء الموالاة أضعف حتى يقبل الفسخ، وولاء العتاقة لا يقبله، والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي، وإن كان الأبوان معتقين فالنسبة إلى قوم الأب لأنهما استويا، والترجيح لجانبه لشبهه بالنسب أو لأن النصرة به أكثر. قال: "وولاء العتاقة تعصيب وهو أحق بالميراث من العمة والخالة" لقوله عليه الصلاة والسلام للذي اشترى عبدا فأعتقه: "هو أخوك ومولاك، إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهو خير لك وشر له، ولو مات ولم يترك وارثا كنت أنت عصبته" وورث ابنة حمزة رضي الله عنهما على سبيل العصوبة مع قيام وارث وإذ كان عصبة تقدم على ذوي الأرحام وهو المروي عن علي رضي الله عنه: "فإن كان للمعتق عصبة من النسب فهو أولى من المعتق"، لأن المعتق آخر العصبات، وهذا لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "ولم يترك وارثا" قالوا: المراد منه وارث هو عصبة بدليل الحديث الثاني فتأخر عن العصبة دون ذوي الأرحام. قال: "فإن كان للمعتق عصبة من النسب فهو أولى" لما ذكرنا "وإن لم يكن له عصبة من النسب فميراثه للمعتق". تأويله إذا لم يكن هناك صاحب فرض ذو حال، أما إذا كان فله الباقي بعد فرض لأنه عصبة على ما روينا، وهذا لأن العصبة من يكون التناصر به لبيت النسبة وبالموالي الانتصار على ما مر والعصبة تأخذ ما بقي "فإن مات المولى ثم مات المعتق فميراثه لبني المولى دون بناته، وليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن" أو كاتب من كاتبن بهذا اللفظ ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخره "أو جر ولاء معتقهن" وصورة الجر قدمناها، ولأن ثبوت المالكية والقوة في العتق من جهتها فينسب بالولاء إليها وينسب إليها من ينسب إلى مولاها، بخلاف النسب لأن سبب النسبة فيه الفراش، وصاحب الفراش إنما هو الزوج، والمرأة مملوكة لا مالكة، وليس حكم ميراث المعتق مقصورا على بني المولى بل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 هو لعصبته الأقرب فالأقرب، لأن الولاء لا يورث ويخلفه فيه من تكون النصرة به، حتى لو ترك المولى أبا وابنا فالولاء للابن عند أبي حنيفة ومحمد لأنه أقربهما عصوبة، وكذلك الولاء للجد دون الأخ عند أبي حنيفة لأنه أقرب في العصوبة عنده. وكذا الولاء لابن المعتقة حتى يرثه دون أخيها لما ذكرنا، إلا أن عقل جناية المعتق على أخيها لأنه من قوم أبيها وجنايته كجنايتها "ولو ترك المولى ابنا وأولاد ابن آخر" معناه بني ابن آخر "فميراث المعتق للابن دون بني الابن لأن الولاء للكبر" هو المروي عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، ومعناه القرب على ما قالوا، والصلبي أقرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 فصل: في ولاء الموالاة قال: "وإذا أسلم رجل على يد رجل ووالاه على أن يرثه ويعقل عنه أو أسلم على يد غيره ووالاه فالولاء صحيح وعقله على مولاه، فإن مات ولا وارث له غيره فميراثه للمولى" وقال الشافعي رحمه الله: الموالاة ليس بشيء لأن فيه إبطال حق بيت المال ولهذا لا يصح في حق وارث آخر ولهذا لا يصح عنده الوصية بجميع المال وإن لم يكن للموصي وارث لحق بيت المال وإنما يصح في الثلث. ولنا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] والآية في الموالاة. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل أسلم على يد رجل آخر ووالاه فقال: "هو أحق الناس به محياه ومماته" وهذا يشير إلى العقل والإرث في الحالتين هاتين، ولأن ماله حقه فيصرفه إلى حيث شاء، والصرف إلى بيت المال ضرورة عدم المستحق لا أنه مستحق. قال: "وإن كان له وارث فهو أولى منه، وإن كانت عمة أو خالة أو غيرهما من ذوي الأرحام" لأن الموالاة عقدهما فلا يلزم غيرهما، وذو الرحم وارث، ولا بد من شرط الإرث والعقل كما ذكر في الكتاب لأنه بالالتزام وهو بالشرط، ومن شرطه أن لا يكون المولى من العرب لأن تناصرهم بالقبائل فأغنى عن الموالاة. قال: "وللمولى أن ينتقل عنه بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه" لأنه عقد غير لازم بمنزلة الوصية، وكذا للأعلى أن يتبرأ عن ولائه لعدم اللزوم، إلا أنه يشترط في هذا أن يكون بمحضر من الآخر كما في عزل الوكيل قصدا، بخلاف ما إذا عقد الأسفل مع غيره بغير محضر من الأول لأنه فسخ حكمي بمنزلة العزل الحكمي في الوكالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 قال: "وإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول بولائه إلى غيره" لأنه تعلق به حق الغير، ولأنه قضى به القاضي، ولأنه بمنزلة عوض ناله كالعوض في الهبة، وكذا لا يتحول ولده، وكذا إذا عقل عن ولده لم يكن لكل واحد منهما أن يتحول لأنهم في حق الولاء كشخص واحد. قال: "وليس لمولى العتاقة أن يوالي أحدا" لأنه لازم، ومع بقائه لا يظهر الأدنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 كتاب الإكراه كيف يثبت حكمه مدخل ... كتاب الاكراه قال: "الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا" لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليته، وهذا إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق ما توعد به، وذلك إنما يكون من القادر والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة، والذي قاله أبو حنيفة إن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان لما أن المنعة له والقدرة لا تتحقق بدون المنعة. فقد قالوا هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان، ولم تكن القدرة في زمنه إلا للسلطان، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله، ثم كما تشترط قدرة المكره لتحقق الإكراه يشترط خوف المكره وقوع ما يهدد به، وذلك بأن يغلب على ظنه أنه يفعله ليصير به محمولا على ما دعي إليه من الفعل. قال: "وإذا أكره الرجل على بيع ما له أو على شراء سلعة أو على أن يقر لرجل بألف أو يؤاجر داره فأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس فباع أو اشترى فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع" لأن من شرط صحة هذه العقود التراضي، قال الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والإكراه بهذه الأشياء يعدم الرضا فيفسد، بخلاف ما إذا أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم لأنه لا يبالي به بالنظر إلى العادة فلا يتحقق به الإكراه إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه يستضر به لفوات الرضا، وكذا الإقرار حجة لترجح جنبة الصدق فيه على جنبة الكذب، وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة، ثم إذا باع مكرها وسلم مكرها يثبت به الملك عندنا، وعند زفر لا يثبت لأنه بيع موقوف على الإجازة؛ ألا ترى أنه لو أجاز جاز والموقوف قبل الإجازة لا يفيد الملك، ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله والفساد لفقد شرطه وهو التراضي فصار كسائر الشروط المفسدة فيثبت الملك عند القبض، حتى لو قبضه وأعتقه أو تصرف فيه تصرفا لا يمكن نقضه جاز، ويلزمه القيمة كما في سائر البياعات الفاسدة وبإجازة المالك يرتفع المفسد وهو الإكراه وعدم الرضا فيجوز إلا أنه لا ينقطع به حق استرداد البائع وإن تداولته الأيدي ولم يرض البائع بذلك بخلاف سائر البياعات الفاسدة لأن الفساد فيها لحق الشرع وقد تعلق بالبيع الثاني حق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 العبد وحقه مقدم لحاجته، أما هاهنا الرد لحق العبد وهما سواء فلا يبطل حق الأول لحق الثاني. قال رضي الله تعالى عنه: ومن جعل البيع الجائز المعتاد بيعا فاسدا يجعله كبيع المكره حتى ينقض بيع المشتري من غيره، لأن الفساد لفوات الرضا، ومنهم من جعله رهنا لقصد المتعاقدين، ومنهم من جعله باطلا اعتبارا بالهازل ومشايخ سمرقند رحمهم الله جعلوه بيعا جائزا مفيدا بعض الأحكام على ما هو المعتاد للحاجة إليه قال: "فإن كان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع" لأنه دليل الإجازة كما في البيع الموقوف وكذا إذا سلم طائعا، بأن كان الإكراه على البيع لا على الدفع لأنه دليل الإجازة، بخلاف ما إذا أكرهه على الهبة ولم يذكر الدفع فوهب ودفع حيث يكون باطلا، لأن مقصود المكره الاستحقاق لا مجرد اللفظ، وذلك في الهبة بالدفع وفي البيع بالعقد على ما هو الأصل، فدخل الدفع في الإكراه على الهبة دون البيع. قال: "وإن قبضه مكرها فليس ذلك بإجازة وعليه رده إن كان قائما في يده" لفساد العقد. قال: "وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته للبائع" معناه والبائع مكره لأنه مضمون عليه بحكم عقد فاسد "وللمكره أن يضمن المكره إن شاء" لأنه آلة له فيما يرجع إلى الإتلاف، فكأنه دفع مال البائع إلى المشتري فيضمن أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب، فلو ضمن المكره رجع على المشتري بالقيمة لقيامه مقام البائع، وإن ضمن المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه، ولا ينفذ ما كان له قبله لأن الاستناد إلى وقت قبضه، بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها حيث يجوز ما قبله وما بعده لأنه أسقط حقه وهو المانع فعاد الكل إلى الجواز، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 فصل: وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر الخ ... فصل: "وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر، إن أكره على ذلك بحبس أو ضرب أو قيد لم يحل له إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه، فإذا خاف على ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه" وكذا على هذا الدم ولحم الخنزير، لأن تناول هذه المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في المخمصة لقيام المحرم فيما وراءها، ولا ضرورة إلا إذا خاف على النفس أو على العضو، حتى لو خيف على ذلك بالضرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 الشديد، وغلب على ظنه يباح له ذلك "ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم" لأنه لما أبيح كان بالامتناع عنه معاونا لغيره على هلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة. وعن أبي يوسف أنه لا يأثم لأنه رخصة إذ الحرمة قائمة فكان آخذا بالعزيمة. قلنا: حالة الاضطرار مستثناة بالنص وهو تكلم بالحاصل بعد الثنيا فلا محرم فكان إباحة لا رخصة إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة، لأن في انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل فيه كالجهل بالخطاب في أول الإسلام أو في دار الحرب. قال: "وإن أكره على الكفر بالله تعالى والعياذ بالله أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه" لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر، ففي الكفر وحرمته أشد أولى وأحرى. قال: "وإذا خاف على ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به ويوري، فإن أظهر ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه" لحديث عمار بن ياسر رضي الله عنه حيث ابتلي به، وقد قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "كيف وجدت قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإن عادوا فعد"، وفيه نزل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] . ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إليه. قال: "فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا" لأن خبيبا رضي الله عنه صبر على ذلك حتى صلب وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء، وقال في مثله "هو رفيقي في الجنة" ولأن الحرمة باقية، والامتناع لإعزاز الدين عزيمة، بخلاف ما تقدم للاستثناء. قال: "وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك" لأن مال الغير يستباح للضرورة كما في حالة المخمصة وقد تحققت "ولصاحب المال أن يضمن المكره" لأن المكره آلة للمكره فيما يصلح آلة له والإتلاف من هذا القبيل "وإن أكرهه بقتله على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما" لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما فكذا بهذه الضرورة. قال: "والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا" قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وقال زفر: يجب على المكره. وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 أبو يوسف: لا يجب عليهما. وقال الشافعي: يجب عليهما. لزفر أن الفعل من المكره حقيقة وحسا، وقرر الشرع حكمه عليه وهو الإثم، بخلاف الإكراه على إتلاف مال الغير لأنه سقط حكمه وهو الإثم فأضيف إلى غيره، وبهذا يتمسك الشافعي في جانب المكره، ويوجبه على المكره أيضا لوجود التسبيب إلى القتل منه، وللتسبيب في هذا حكم المباشرة عنده كما في شهود القصاص، ولأبي يوسف أن القتل بقي مقصورا على المكره من وجه نظرا إلى التأثيم، وأضيف إلى المكره من وجه نظرا إلى الحمل فدخلت الشبهة في كل جانب. ولهما أنه محمول على القتل بطبعه إيثارا لحياته فيصير آلة للمكره فيما يصلح آلة له وهو القتل بأن يلقيه عليه ولا يصلح آلة له في الجناية على دينه فيبقى الفعل مقصورا عليه في حق الإثم كما نقول في الإكراه على الإعتاق، وفي إكراه المجوسي على ذبح شاة الغير ينتقل الفعل إلى المكره في الإتلاف دون الذكاة حتى يحرم كذا هذا. قال: "وإن أكرهه على طلاق امرأته أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه عندنا" خلافا للشافعي وقد مر في الطلاق. قال: "ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد" لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف فيضاف إليه، فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا، ولا سعاية على العبد لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية أو لتعلق حق الغير ولم يوجد واحد منهما، ولا يرجع المكره على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه. قال: "ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان قبل الدخول، وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره بما لزمه من المتعة" لأن ما عليه كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها، وإنما يتأكد بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا الوجه فيضاف إلى المكره من حيث إنه إتلاف. بخلاف ما إذا دخل بها لأن المهر قد تقرر بالدخول لا بالطلاق. "ولو أكره على التوكيل بالطلاق والعتاق ففعل الوكيل جاز استحسانا" لأن الإكراه مؤثر في فساد العقد، والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، ويرجع على المكره استحسانا لأن مقصود المكره زوال ملكه إذا باشر الوكيل، والنذر لا يعمل فيه الإكراه لأنه لا يحتمل الفسخ، ولا رجوع على المكره بما لزمه لأنه لا مطالب له في الدنيا فلا يطالب به فيها، وكذا اليمين، والظهار لا يعمل فيهما الإكراه لعدم احتمالهما الفسخ، وكذا الرجعة والإيلاء والفيء فيه باللسان لأنها تصح مع الهزل، والخلع من جانبه طلاق أو يمين لا يعمل فيه الإكراه، فلو كان هو مكرها على الخلع دونها لزمها البدل لرضاها بالالتزام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 قال: "وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة، إلا أن يكرهه السلطان، وقال أبو يوسف ومحمد لا يلزمه الحد" وقد ذكرناه في الحدود. قال: "وإذا أكرهه على الردة لم تبن امرأته منه" لأن الردة تتعلق بالاعتقاد، ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر وفي اعتقاده الكفر شك فلا تثبت البينونة بالشك، فإن قالت المرأة قد بنت منك وقال هو قد أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان فالقول قوله استحسانا، لأن اللفظ غير موضوع للفرقة وهي بتبدل الاعتقاد ومع الإكراه لا يدل على التبدل فكان القول قوله، بخلاف الإكراه على الإسلام حيث يصير به مسلما، لأنه لما احتمل واحتمل رجحنا الإسلام في الحالين لأنه يعلو ولا يعلى، وهذا بيان الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يعتقده فليس بمسلم، ولو أكره على الإسلام حتى حكم بإسلامه ثم رجع لم يقتل لتمكن الشبهة وهي دارئة للقتل. ولو قال الذي أكره على إجراء كلمة الكفر أخبرت عن أمر ماض ولم أكن فعلت بانت منه حكما لا ديانة. لأنه أقر أنه طائع بإتيان ما لم يكره عليه، وحكم هذا الطائع ما ذكرناه. ولو قال أردت ما طلب مني وقد خطر ببالي الخبر عما مضى بانت ديانة وقضاء، لأنه أقر أنه مبتدئ بالكفر هازل به حيث علم لنفسه مخلصا غيره. وعلى هذا إذا أكره على الصلاة للصليب وسب محمد النبي عليه الصلاة والسلام ففعل وقال نويت به الصلاة لله تعالى ومحمدا آخر غير النبي عليه الصلاة والسلام بانت منه قضاء لا ديانة، ولو صلى للصليب وسب محمدا النبي عليه الصلاة والسلام وقد خطر بباله الصلاة لله تعالى وسب غير النبي عليه الصلاة والسلام بانت منه ديانة وقضاء لما مر، وقد قررناه زيادة على هذا في كفاية المنتهى، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 كتاب الحجر الأسباب الموجبة للحجر ... كتاب الحجر قال: "الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة: الصغر، والرق، والجنون، فلا يجوز تصرف الصغير إلا بإذن وليه، ولا تصرف العبد إلا بإذن سيده، ولا تصرف المجنون المغلوب بحال". أما الصغير فلنقصان عقله، غير أن إذن الولي آية أهليته، والرق لرعاية حق المولى كي لا يتعطل منافع عبده. ولا يملك رقبته بتعلق الدين به، غير أن المولى بالإذن رضي بفوات حقه، والجنون لا تجامعه الأهلية فلا يجوز تصرفه بحال، أما العبد فأهل في نفسه والصبي ترتقب أهليته فلهذا وقع الفرق. قال: "ومن باع من هؤلاء شيئا وهو يعقل البيع ويقصده فالولي بالخيار، إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه" لأن التوقف في العبد لحق المولى فيتخير فيه، وفي الصبي والمجنون نظرا لهما فيتحرى مصلحتهما فيه، ولا بد أن يعقلا البيع ليوجد ركن العقد فينعقد موقوفا على الإجازة، والمجنون قد يعقل البيع ويقصده وإن كان لا يرجح المصلحة على المفسدة وهو المعتوه الذي يصلح وكيلا عن غيره كما بينا في الوكالة. فإن قيل: التوقف عندكم في البيع. أما الشراء فالأصل فيه النفاذ على المباشر. قلنا: نعم إذا وجد نفاذا عليه كما في شراء الفضولي، وهاهنا لم نجد نفاذا لعدم الأهلية أو لضرر المولى فوقفناه. قال: "وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال" لأنه لا مرد لها لوجودها حسا ومشاهدة، بخلاف الأقوال، لأن اعتبارها موجودة بالشرع والقصد من شرطه "إلا إذا كان فعلا يتعلق به حكم يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص" فيجعل عدم القصد في ذلك شبهة في حق الصبي والمجنون. قال: "والصبي والمجنون لا تصح عقودهما ولا إقرارهما" لما بينا "ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما" لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه" والإعتاق يتمحض مضرة، ولا وقوف للصبي على المصلحة في الطلاق بحال لعدم الشهوة، ولا وقوف للولي على عدم التوافق على اعتبار بلوغه حد الشهوة، فلهذا لا يتوقفان على إجازته ولا ينفذان بمباشرته، بخلاف سائر العقود. قال: "وإن أتلفا شيئا لزمهما ضمانه" إحياء لحق المتلف عليه، وهذا لأن كون الإتلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 موجبا لا يتوقف على القصد كالذي يتلف بانقلاب النائم عليه والحائط المائل بعد الإشهاد، بخلاف القول على ما بيناه. قال: "فأما العبد فإقراره نافذ في حق نفسه" لقيام أهليته "غير نافذ في حق مولاه" رعاية لجانبه، لأن نفاذه لا يعرى عن تعلق الدين برقبته أو كسبه، وكل ذلك إتلاف ماله. قال: "فإن أقر بمال لزمه بعد الحرية" لوجود الأهلية وزوال المانع ولم يلزمه في الحال لقيام المانع "وإن أقر بحد أو قصاص لزمه في الحال" لأنه مبقى على أصل الحرية في حق الدم حتى لا يصح إقرار المولى عليه بذلك "وينفذ طلاقه" لما روينا، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يملك العبد والمكاتب شيئا إلا الطلاق" ولأنه عارف بوجه المصلحة فيه فكان أهلا، وليس فيه إبطال ملك المولى ولا تفويت منافعه فينفذ، والله أعلم بالصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 باب الحجر للفساد مدخل ... باب الحجر للفساد "قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحجر على الحر البالغ العاقل السفيه، وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا مفسدا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو قول الشافعي رحمه الله: يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله" لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه حقيقته ولهذا منع عنه المال، ثم هو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده. ولأبي حنيفة رحمه الله أنه مخاطب عاقل فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد، وهذا لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى، حتى لو كان في الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس جاز فيما يروى عنه، إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى، ولا يصح القياس على منع المال لأن الحجر أبلغ منه في العقوبة، ولا على الصبي لأنه عاجز عن النظر لنفسه، وهذا قادر عليه نظر له الشرع مرة بإعطاء آلة القدرة والجري على خلافه لسوء اختياره، ومنع المال مفيد لأن غالب السفه في الهبات والصدقات وذلك يقف على اليد. قال: "وإذا حجر القاضي عليه ثم رفع إلى قاض آخر فأبطل حجره وأطلق عنه جاز" لأن الحجر منه فتوى وليس بقضاء؛ ألا يرى أنه لم يوجد المقضي له والمقضي عليه، ولو كان قضاء فنفس القضاء مختلف فيه فلا بد من الإمضاء، حتى لو رفع تصرفه بعد الحجر إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 القاضي الحاجر أو إلى غيره فقضى ببطلان تصرفه ثم رفع إلى قاض آخر نفذ إبطاله لاتصال الإمضاء به فلا يقبل النقض بعد ذلك "ثم عند أبي حنيفة إذا بلغ الغلام غير رشيد لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة يسلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد. وقالا: لا يدفع إليه ماله أبدا حتى يؤنس منه رشده، ولا يجوز تصرفه فيه" لأن علة المنع السفه فيبقى ما بقي العلة وصار كالصبا. ولأبي حنيفة رحمه الله أن منع المال عنه بطريق التأديب، ولا يتأدب بعد هذا ظاهرا وغالبا؛ ألا يرى أنه قد يصير جدا في هذا السن فلا فائدة في المنع فلزم الدفع، ولأن المنع باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ ويتقطع بتطاول الزمان فلا يبقى المنع، ولهذا قال أبو حنيفة: لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال عنه لأنه ليس بأثر الصبا، ثم لا يتأتى التفريع على قوله وإنما التفريع على قول من يرى الحجر. فعندهما لما صح الحجر لا ينفذ بيعه إذا باع توفيرا لفائدة الحجر عليه، وإن كان فيه مصلحة أجازه الحاكم لأن ركن التصرف قد وجد والتوقف للنظر له وقد نصب الحاكم ناظرا له فيتحرى المصلحة فيه، كما في الصبي الذي يعقل البيع والشراء ويقصده. ولو باع قبل حجر القاضي جاز عند أبي يوسف لأنه لا بد من حجر القاضي عنده، لأن الحجر دائر بين الضرر والنظر والحجر لنظره فلا بد من فعل القاضي. وعند محمد لا يجوز لأنه يبلغ محجورا عنده، إذ العلة هي السفه بمنزلة الصبا، وعلى هذا الخلاف إذا بلغ رشيدا ثم صار سفيها "وإن أعتق عبدا نفذ عتقه عندهما". وعند الشافعي لا ينفذ. والأصل عندهما أن كل تصرف يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه إلخ وما لا فلا، لأن السفيه في معنى الهازل من حيث إن الهازل يخرج كلامه لا على نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله، فكذلك السفيه والعتق مما لا يؤثر فيه الهزل فيصح منه. والأصل عنده: أن الحجر بسبب السفه بمنزلة الحجر بسبب الرق حتى لا ينفذ بعده شيء من تصرفاته إلا الطلاق كالمرقوق، والإعتاق لا يصح من الرقيق فكذا من السفيه "و" إذا صح عندهما "كان على العبد أن يسعى في قيمته" لأن الحجر لمعنى النظر وذلك في رد العتق إلا أنه متعذر فيجب رده برد القيمة كما في الحجر على المريض. وعن محمد أنه لا تجب السعاية لأنها لو وجبت إنما تجب حقا لمعتقه والسعاية ما عهد وجوبها في الشرع إلا لحق غير المعتق "ولو دبر عبده جاز" لأنه يوجب حق العتق فيعتبر بحقيقته إلا أنه لا تجب السعاية ما دام المولى حيا لأنه باق على ملكه وإذا مات ولم يؤنس منه الرشد سعى في قيمته مدبرا لأنه عتق بموته وهو مدبر، فصار كما إذا أعتقه بعد التدبير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 "ولو جاءت جاريته بولد فادعاه يثبت نسبه منه وكان الولد حرا والجارية أم ولد له" لأنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله فألحق بالمصلح في حقه "وإن لم يكن معها ولد وقال هذه أم ولدي كانت بمنزلة أم الولد لا يقدر على بيعها، وإن مات سعت في جميع قيمتها" لأنه كالإقرار بالحرية إذ ليس له شهادة الولد، بخلاف الفصل الأول لأن الولد شاهد لها. ونظيره المريض إذا ادعى ولد جاريته فهو على هذا التفصيل. قال: "وإن تزوج امرأة جاز نكاحها" لأنه لا يؤثر فيه الهزل، ولأنه من حوائجه الأصلية "وإن سمى لها مهرا جاز منه مقدار مهر مثلها" لأنه من ضرورات النكاح "وبطل الفضل" لأنه لا ضرورة فيه، وهذا التزام بالتسمية ولا نظر له فيه فلم تصح الزيادة وصار كالمريض مرض الموت "ولو طلقها قبل الدخول بها وجب لها النصف في ماله" لأن التسمية صحيحة إلى مقدار مهر المثل "وكذا إذا تزوج بأربع نسوة أو كل يوم واحدة" لما بينا. قال: "وتخرج الزكاة من مال السفيه" لأنها واجبة عليه "وينفق على أولاده وزوجته ومن تجب نفقته من ذوي أرحامه" لأن إحياء ولده وزوجته من حوائجه، والإنفاق على ذي الرحم واجب عليه لقرابته، والسفه لا يبطل حقوق الناس، إلا أن القاضي يدفع الزكاة إليه ليصرفها إلى مصرفها، لأنه لا بد من نيته لكونها عبادة، لكن يبعث أمينا معه كي لا يصرفه في غير وجهه. وفي النفقة يدفع إلى أمينه ليصرفه لأنه ليس بعبادة فلا يحتاج إلى نيته، وهذا بخلاف ما إذا حلف أو نذر أو ظاهر حيث لا يلزمه المال بل يكفر يمينه وظهاره بالصوم لأنه مما يجب بفعله، فلو فتحنا هذا الباب يبذر أمواله بهذا الطريق، ولا كذلك ما يجب ابتداء بغير فعله. قال: "فإن أراد حجة الإسلام لم يمنع منها" لأنها واجبة عليه بإيجاب الله تعالى من غير صنعة "ولا يسلم القاضي النفقة إليه ويسلمها إلى ثقة من الحاج ينفقها عليه في طريق الحج" كي لا يتلفها في غير هذا الوجه "ولو أراد عمرة واحدة لم يمنع منها" استحسانا لاختلاف العلماء في وجوبها، بخلاف ما زاد على مرة واحدة من الحج "ولا يمنع من القران" لأنه لا يمنع من إفراد السفر لكل واحد منهما فلا يمنع من الجمع بينهما "ولا يمنع من أن يسوق بدنة" تحرزا عن موضع الخلاف، إذ عند عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يجزئه غيرها وهي جزور أو بقرة. قال: "فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير جاز ذلك في ثلثه" لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 نظره فيه إذ هي حالة انقطاعه عن أمواله والوصية تخلف ثناء أو ثوابا، وقد ذكرنا من التفريعات أكثر من هذا في كفاية المنتهى. قال: "ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحا لماله عندنا والفسق الأصلي والطارئ سواء" وقال الشافعي: يحجر عليه زجرا له وعقوبة عليه كما في السفيه ولهذا لم يجعل أهلا للولاية والشهادة عنده. ولنا قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] . وقد أونس منه نوع رشد فتتناوله النكرة المطلقة، ولأن الفاسق من أهل الولاية عندنا لإسلامه فيكون واليا للتصرف، وقد قررناه فيما تقدم، ويحجر القاضي عندهما أيضا وهو قول الشافعي بسبب الغفلة وهو أن يغبن في التجارات ولا يصبر عنها لسلامة قلبه لما في الحجر من النظر له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 فصل: في حد البلوغ قال: "بلوغ الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال إذا وطئ، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم له ثماني عشرة سنة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبع عشرة سنة، وهذا عند أبي حنيفة وقالا: إذا تم الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا"، وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو قول الشافعي، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة. وقيل المراد أن يطعن في التاسع عشرة سنة ويتم له ثماني عشرة سنة فلا اختلاف. وقيل فيه اختلاف الرواية لأنه ذكر في بعض النسخ حتى يستكمل تسع عشرة سنة. أما العلامة فلأن البلوغ بالإنزال حقيقة والحبل والإحبال لا يكون إلا مع الإنزال، وكذا الحيض في أوان الحبل، فجعل كل ذلك علامة البلوغ، وأدنى المدة لذلك في حق الغلام اثنتا عشرة سنة، وفي حق الجارية تسع سنين. وأما السن فلهم العادة الفاشية أن البلوغ لا يتأخر فيهما عن هذه المدة. وله قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152] وأشد الصبي ثماني عشرة سنة، هكذا قاله ابن عباس وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به، غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة. قال: "وإذا راهق الغلام أو الجارية الحلم وأشكل أمره في البلوغ فقال قد بلغت، فالقول قوله وأحكامه أحكام البالغين" لأنه معنى لا يعرف إلا من جهتهما ظاهرا، فإذا أخبرا به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 ولم يكذبهما الظاهر قبل قولهما فيه، كما يقبل قول المرأة في الحيض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 باب الحجر بسبب الدين "قال أبو حنيفة: لا أحجر في الدين، وإذا وجبت ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه" لأن في الحجر إهدار أهليته فلا يجوز لدفع ضرر خاص. "فإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم" لأنه نوع حجر، ولأنه تجارة لا عن تراض فيكون باطلا بالنص "ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه" إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه "وقالا: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه، ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء" لأن الحجر على السفيه إنما جوزاه نظرا له، وفي هذا الحجر نظر للغرماء لأنه عساه يلجئ ماله فيفوت حقهم، ومعنى قولهما ومنعه من البيع أن يكون بأقل من ثمن المثل، أما البيع بثمن المثل لا يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه. قال: "وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص عندهما" لأن البيع مستحق عليه لإيفاء دينه حتى يحبس لأجله، فإذا امتنع ناب القاضي منابه كما في الجب والعنة. قلنا: التلجئة موهومة، والمستحق قضاء الدين، والبيع ليس بطريق متعين لذلك، بخلاف الجب والعنة والحبس لقضاء الدين بما يختاره من الطريق، كيف ولو صح البيع كان الحبس إضرارا بهما بتأخير حق الدائن وتعذيب المديون فلا يكون مشروعا. قال: "وإن كان دينه دراهم وله دراهم قضى القاضي بغير أمره" وهذا بالإجماع، لأن للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن يعينه "وإن كان دينه دراهم وله دنانير أو على ضد ذلك باعها القاضي في دينه" وهذا عند أبي حنيفة استحسان. والقياس أن لا يبيعه كما في العروض، ولهذا لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه جبرا. وجه الاستحسان أنهما متحدان في الثمنية والمالية مختلفان في الصورة، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين، بخلاف العروض لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها، أما النقوذ فوسائل فافترقا "ويباع في الدين النقود ثم العروض ثم العقار يبدأ بالأيسر فالأيسر" لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين مع مراعاة جانب المديون "ويترك عليه دست من ثياب بدنه ويباع الباقي" لأن به كفاية وقيل دستان وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، لأنه إذا غسل ثيابه لا بد له من ملبس. قال: "فإن أقر في حال الحجر بإقرار لزمه ذلك بعد قضاء الديون"، لأنه تعلق بهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 المال حق الأولين فلا يتمكن من إبطال حقهم بالإقرار لغيرهم، بخلاف الاستهلاك لأنه مشاهد لا مرد له "ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره فيه" لأن حقهم لم يتعلق به لعدمه وقت الحجر. قال: "وينفق على المفلس من ماله وعلى زوجته وولده الصغار وذوي أرحامه ممن يجب نفقته عليه" لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء، ولأنه حق ثابت لغيره فلا يبطله الحجر، ولهذا لو تزوج امرأة كانت في مقدار مهر مثلها أسوة للغرماء. قال: "فإن لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو يقول لا مال لي حبسه الحاكم في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة" وقد ذكرنا هذا الفصل بوجوهه في كتاب أدب القاضي من هذا الكتاب فلا نعيدها, إلى أن قال: وكذلك إن أقام البينة أنه لا مال له: يعني خلى سبيله لوجوب النظرة إلى الميسرة، ولو مرض في الحبس يبقى فيه إن كان له خادم يقوم بمعالجته، وإن لم يكن أخرجه تحرزا عن هلاكه، والمحترف فيه لا يمكن من الاشتغال بعمله هو الصحيح ليضجر قلبه فينبعث على قضاء دينه، بخلاف ما إذا كانت له جارية وفيه موضع يمكنه فيه وطؤها لا يمنع عنه لأنه قضاء إحدى الشهوتين فيعتبر بقضاء الأخرى. قال: "ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس يلازمونه ولا يمنعونه من التصرف والسفر" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لصاحب الحق يد ولسان" أراد باليد الملازمة وباللسان التقاضي. قال: "ويأخذون فضل كسبه يقسم بينهم بالحصص" لاستواء حقوقهم في القوة "وقالا: إذا فلسه الحاكم حال بين الغرماء وبينه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا" لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح فتثبت العسرة ويستحق النظرة إلى الميسرة. وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يتحقق القضاء بالإفلاس، لأن مال الله تعالى غاد ورائح، ولأن وقوف الشهود على عدم المال لا يتحقق إلا ظاهرا فيصلح للدفع لا لإبطال حق الملازمة. وقوله إلا أن يقيموا البينة إشارة إلى أن بينة اليسار تترجح على بينة الإعسار لأنها أكثر إثباتا، إذ الأصل هو العسرة. وقوله في الملازمة لا يمنعونه من التصرف والسفر دليل على أنه يدور معه أينما دار ولا يجلسه في موضع لأنه حبس "ولو دخل داره لحاجته لا يتبعه بل يجلس على باب داره إلى أن يخرج" لأن الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة، ولو اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة فالخيار إلى الطالب لأنه أبلغ في حصول المقصود لاختياره الأضيق عليه إلا إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 علم القاضي أن يدخل عليه بالملازمة ضرر بين بأن لا يمكنه من دخوله داره فحينئذ يحبسه دفعا للضرر عنه "ولو كان الدين للرجل على المرأة لا يلازمها" لما فيها من الخلوة بالأجنبية ولكن يبعث امرأة أمينة تلازمها. قال: "ومن أفلس وعنده متاع لرجل بعينه ابتاعه منه فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه" وقال الشافعي رحمه الله: يحجر القاضي على المشتري بطلبه. ثم للبائع خيار الفسخ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن فيوجب ذلك حق الفسخ كعجز البائع عن تسليم المبيع وهذا لأنه عقد معاوضة، ومن قضيته المساواة وصار كالسلم. ولنا أن الإفلاس يوجب العجز عن تسليم العين وهو غير مستحق بالعقد فلا يثبت حق الفسخ باعتباره وإنما المستحق وصف في الذمة: أعني الدين، وبقبض العين تتحقق بينهما مبادلة، هذا هو الحقيقة فيجب اعتبارها، إلا في موضع التعذر كالسلم لأن الاستبدال ممتنع فأعطى للعين حكم الدين، والله أعلم بالصواب. تم الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع وأوله كتاب المأذون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 المجلد الرابع كتاب المأذون تعريف الإذن مدخل ... من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "حديث شريف" بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المأذون الإذن: الإعلام لغة، وفي الشرع: فك الحجر وإسقاط الحق عندنا، والعبد بعد ذلك يتصرف لنفسه بأهليته؛ لأنه بعد الرق بقي أهلا للتصرف بلسانه الناطق وعقله المميز وانحجاره عن التصرف لحق المولى؛ لأنه ما عهد تصرفه إلا موجبا تعلق الدين برقبته وبكسبه، وذلك مال المولى فلا بد من إذنه كي لا يبطل حقه من غير رضاه، ولهذا لا يرجع بما لحقه من العهدة على المولى، ولهذا لا يقبل التأقيت، حتى لو أذن لعبده يوما أو شهرا كان مأذونا أبدا حتى يحجر عليه؛ لأن الإسقاطات لا تتوقت ثم الإذن كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة، كما إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت يصير مأذونا عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله. ولا فرق بين أن يبيع عينا مملوكا أو لأجنبي بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا؛ لأن كل من رآه يظنه مأذونا له فيها فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له، ولو لم يكن المولى راضيا به لمنعه دفعا للضرر عنهم. قال: "وإذا أذن المولى لعبده في التجارة إذنا عاما جاز تصرفه في سائر التجارات" ومعنى هذه المسألة أن يقول له أذنت لك في التجارة ولا يقيده. ووجهه أن التجارة اسم عام يتناول الجنس فيبيع ويشتري ما بدا له من أنواع الأعيان؛ لأنه أصل التجارة. "ولو باع أو اشترى بالغبن اليسير فهو جائز" لتعذر الاحتراز عنه "وكذا بالفاحش عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما" هما يقولان إن البيع بالفاحش منه بمنزلة التبرع، حتى اعتبر من المريض من ثلث ماله فلا ينتظمه الإذن كالهبة. وله أنه تجارة والعبد متصرف بأهلية نفسه فصار كالحر، وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون. "ولو حابى في مرض موته يعتبر من جميع ماله إذا لم يكن عليه دين وإن كان فمن جميع ما بقي"؛ لأن الاقتصار في الحر على الثلث لحق الورثة ولا وارث للعبد، وإن كان الدين محيطا بما في يده يقال للمشتري أدّ جميع المحاباة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 وإلا فاردد البيع كما في الحر. "وله أن يسلم ويقبل السلم"؛ لأنه تجارة. "وله أن يوكل بالبيع والشراء"؛ لأنه قد لا يتفرغ بنفسه. قال: "ويرهن ويرتهن"؛ لأنهما من توابع التجارة فإنه إيفاء واستيفاء. "ويملك أن يتقبل الأرض ويستأجر الأجراء والبيوت"؛ لأن كل ذلك من صنيع التجار "ويأخذ الأرض مزارعة"؛ لأن فيه تحصيل الربح "ويشتري طعاما فيزرعه في أرضه"؛ لأنه يقصد به الربح قال عليه الصلاة والسلام: "الزارع يتاجر ربه". "وله أن يشارك شركة عنان ويدفع المال مضاربة ويأخذها"؛ لأنه من عادة التجار "وله أن يؤاجر نفسه عندنا" خلافا للشافعي وهو يقول: لا يملك العقد على نفسه فكذا على منافعها؛ لأنها تابعة لها. ولنا أن نفسه رأس ماله فيملك التصرف فيه، إلا إذا كان يتضمن إبطال الإذن كالبيع؛ لأنه ينحجر به، والرهن؛ لأنه يحبس به فلا يحصل مقصود المولى. أما الإجارة فلا ينحجر به ويحصل به المقصود وهو الربح فيملكه. قال: "فإن أذن له في نوع منها دون غيره فهو مأذون في جميعها" وقال زفر والشافعي: لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع، وعلى هذا الخلاف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر. لهما أن الإذن توكيل وإنابة من المولى؛ لأنه يستفيد الولاية من جهته ويثبت الحكم وهو الملك له دون العبد، ولهذا يملك حجره فيتخصص بما خصه به كالمضارب. ولنا أنه إسقاط الحق وفك الحجر على ما بيناه، وعند ذلك تظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع، بخلاف الوكيل؛ لأنه يتصرف في مال غيره فيثبت له الولاية من جهته، وحكم التصرف وهو الملك واقع للعبد حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة، وما استغنى عنه يخلفه المالك فيه. قال: "وإن أذن له في شيء بعينه فليس بمأذون"؛ لأنه استخدام، ومعناه أن يأمره بشراء ثوب معين للكسوة أو طعام رزقا لأهله، وهذا؛ لأنه لو صار مأذونا ينسد عليه باب الاستخدام، بخلاف ما إذا قال: أد إلي الغلة كل شهر كذا، أو قال أد إلي ألفا وأنت حر؛ لأنه طلب منه المال ولا يحصل إلا بالكسب، أو قال له اقعد صباغا أو قصارا؛ لأنه أذن بشراء ما لا بد له منه وهو نوع فيصير مأذونا في الأنواع. قال: "وإقرار المأذون بالديون والغصوب جائز وكذا بالودائع"؛ لأن الإقرار من توابع التجارة، إذ لو لم يصح لاجتنب الناس مبايعته ومعاملته، ولا فرق بين ما إذا كان عليه دين أو لم يكن إذا كان الإقرار في صحته، فإن كان في مرضه يقدم دين الصحة كما في الحر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 بخلاف الإقرار بما يجب من المال لا بسبب التجارة؛ لأنه كالمحجور في حقه. قال: "وليس له أن يتزوج"؛ لأنه ليس بتجارة. قال: "ولا يزوج مماليكه" وقال أبو يوسف: يزوج الأمة؛ لأنه تحصيل المال بمنافعها فأشبه إجارتها. ولهما أن الإذن يتضمن التجارة وهذا ليس بتجارة، ولهذا لا يملك تزويج العبد، وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون والمضارب والشريك شركة عنان والأب والوصي. قال: "ولا يكاتب"؛ لأنه ليس بتجارة، إذ هي مبادلة المال بالمال، والبدل فيه مقابل بفك الحجر فلم يكن تجارة "إلا أن يجيزه المولى ولا دين عليه"؛ لأن المولى قد ملكه ويصير العبد نائبا عنه وترجع الحقوق إلى المولى؛ لأن الوكيل في الكتابة سفير. قال: "ولا يعتق على مال"؛ لأنه لا يملك الكتابة فالإعتاق أولى "ولا يقرض"؛ لأنه تبرع محض كالهبة. "ولا يهب بعوض ولا بغير عوض، وكذا لا يتصدق"؛ لأن كل ذلك تبرع بصريحه ابتداء وانتهاء أو ابتداء فلا يدخل تحت الإذن بالتجارة. قال: "إلا أن يهدي اليسير من الطعام أو يضيف من يطعمه"؛ لأنه من ضرورات التجارة استجلابا لقلوب المجاهزين، بخلاف المحجور عليه؛ لأنه لا إذن له أصلا فكيف يثبت ما هو من ضروراته. وعن أبي يوسف أن المحجور عليه إذا أعطاه المولى قوت يومه فدعا بعض رفقائه على ذلك الطعام فلا بأس به، بخلاف ما إذا أعطاه قوت شهر؛ لأنهم لو أكلوه قبل الشهر يتضرر به المولى. قالوا: ولا بأس للمرأة أن تتصدق من منزل زوجها بالشيء اليسير كالرغيف ونحوه؛ لأن ذلك غير ممنوع عنه في العادة. قال: "وله أن يحط من الثمن بالعيب مثل ما يحط التجار"؛ لأنه من صنيعهم، وربما يكون الحط أنظر له من قبول المعيب ابتداء، بخلاف ما إذا حط من غير عيب؛ لأنه تبرع محض بعد تمام العقد فليس من صنيع التجار، ولا كذلك المحاباة في الابتداء؛ لأنه قد يحتاج إليها على ما بيناه "وله أن يؤجل في دين وجب له"؛ لأنه من عادة التجار. قال: "وديونه متعلقة برقبته يباع للغرماء إلا أن يفديه المولى" وقال زفر والشافعي: لا يباع ويباع كسبه في دينه بالإجماع. لهما أن غرض المولى من الإذن تحصيل مال لم يكن لا تفويت مال قد كان له، وذلك في تعليق الدين بكسبه، حتى إذا فضل شيء منه عن الدين يحصل له لا بالرقبة، بخلاف دين الاستهلاك؛ لأنه نوع جناية، واستهلاك الرقبة بالجناية لا يتعلق بالإذن. ولنا أن الواجب في ذمة العبد ظهر وجوبه في حق المولى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 فيتعلق برقبته استيفاء كدين الاستهلاك، والجامع دفع الضرر عن الناس، وهذا؛ لأن سببه التجارة وهي داخلة تحت الإذن، وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة، فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى، وينعدم الضرر في حقه بدخول المبيع في ملكه، وتعلقه بالكسب لا ينافي تعلقه بالرقبة فيتعلق بهما، غير أنه يبدأ بالكسب في الاستيفاء لحق الغرماء وإبقاء لمقصود المولى، وعند انعدامه يستوفى من الرقبة. وقوله في الكتاب ديونه المراد منه دين وجب بالتجارة أو بما هو في معناها كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار وضمان الغصوب والودائع والأمانات إذا جحدها، وما يجب من العقر بوطء المشتراة بعد الاستحقاق لاستناده إلى الشراء فيلحق به. قال: "ويقسم ثمنه بينهم بالحصص" لتعلق حقهم بالرقبة فصار كتعلقها بالتركة "فإن فضل شيء من ديونه طولب به بعد الحرية" لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به "ولا يباع ثانيا" كي لا يمتنع البيع أو دفعا للضرر عن المشتري "ويتعلق دينه بكسبه سواء حصل قبل لحوق الدين أو بعده ويتعلق بما يقبل من الهبة"؛ لأن المولى إنما يخلفه في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد ولم يفرغ "ولا يتعلق بما انتزعه المولى من يده قبل الدين" لوجود شرط الخلوص له "وله أن يأخذ غلة مثله بعد الدين"؛ لأنه لو لم يكن منه يحجر عليه فلا يحصل الكسب، والزيادة على غلة المثل يردها على الغرماء لعدم الضرورة فيها وتقدم حقهم. قال: "فإن حجر عليه لم ينحجر حتى يظهر حجره بين أهل سوقه"؛ لأنه لو انحجر لتضرر الناس به لتأخر حقهم إلى ما بعد العتق لما لم يتعلق برقبته وكسبه وقد بايعوه على رجاء ذلك، ويشترط علم أكثر أهل سوقه، حتى لو حجر عليه في السوق وليس فيه إلا رجل أو رجلان لم ينحجر، ولو بايعوه جاز، وإن بايعه الذي علم بحجره ولو حجر عليه في بيته بمحضر من أكثر أهل سوقه ينحجر، والمعتبر شيوع الحجر واشتهاره فيقام ذلك مقام الظهور عند الكل كما في تبليغ الرسالة من الرسل عليهم السلام، ويبقى العبد مأذونا إلى أن يعلم بالحجر كالوكيل إلى أن يعلم بالعزل، وهذا؛ لأنه يتضرر به حيث يلزمه قضاء الدين من خالص ماله بعد العتق وما رضي به، وإنما يشترط الشيوع في الحجر إذا كان الإذن شائعا. أما إذا لم يعلم به إلا العبد ثم حجر عليه بعلم منه ينحجر؛ لأنه لا ضرر فيه. قال: "ولو مات المولى أو جن أو لحق بدار الحرب مرتدا صار المأذون محجورا عليه"؛ لأن الإذن غير لازم، وما لا يكون لازما من التصرف يعطى لدوامه حكم الابتداء، هذا هو الأصل فلا بد من قيام أهلية الإذن في حالة البقاء وهي تنعدم بالموت والجنون، وكذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 باللحوق لأنه موت حكما حتى يقسم ماله بين ورثته. قال: "وإذا أبق العبد صار محجورا عليه" وقال الشافعي: يبقى مأذونا؛ لأن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن، فكذا لا ينافي البقاء وصار كالغصب. ولنا أن الإباق حجر دلالة؛ لأنه إنما يرضى بكونه مأذونا على وجه يتمكن من تقضية دينه بكسبه، بخلاف ابتداء الإذن؛ لأن الدلالة لا معتبر بها عند وجود التصريح بخلافها، وبخلاف الغصب؛ لأن الانتزاع من يد الغاصب متيسر. قال: "وإذا ولدت المأذون لها من مولاها" فذلك حجر عليها خلافا لزفر، وهو يعتبر حالة البقاء بالابتداء. ولنا أن الظاهر أنه يحصنها بعد الولادة فيكون دلالة الحجر عادة، بخلاف الابتداء؛ لأن الصريح قاض على الدلالة. "ويضمن المولى قيمتها إن ركبتها ديون" لإتلافه محلا تعلق به حق الغرماء، إذ به يمتنع البيع وبه يقضى حقهم. قال: "وإذا استدانت الأمة المأذون لها أكثر من قيمتها فدبرها المولى فهي مأذون لها على حالها" لانعدام دلالة الحجر، إذ العادة ما جرت بتحصين المدبرة، ولا منافاة بين حكميها أيضا، والمولى ضامن لقيمتها لما قررناه في أم الولد. قال: "وإذا حجر على المأذون له فإقراره جائز فيما في يده من المال عند أبي حنيفة" ومعناه أن يقر بما في يده أنه أمانة لغيره أو غصب منه أو يقر بدين عليه فيقضى مما في يده. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إقراره. لهما أن المصحح لإقراره إن كان الإذن فقد زال بالحجر، وإن كان اليد فالحجر أبطلها؛ لأن يد المحجور غير معتبرة وصار كما إذا أخذ المولى كسبه من يده قبل إقراره أو ثبت حجره بالبيع من غيره، ولهذا لا يصح إقراره في حق الرقبة بعد الحجر، وله أن المصحح هو اليد، ولهذا لا يصح إقرار المأذون فيما أخذه المولى من يده واليد باقية حقيقة. وشرط بطلانها بالحجر حكما فراغها عن حاجته، وإقراره دليل تحققها، بخلاف ما إذا انتزعه المولى من يده قبل الإقرار؛ لأن يد المولى ثابتة حقيقة وحكما فلا تبطل بإقراره، وكذا ملكه ثابت في رقبته فلا يبطل بإقراره من غير رضاه، وهذا بخلاف ما إذا باعه؛ لأن العبد قد تبدل بتبدل الملك على ما عرف فلا يبقى ما ثبت بحكم الملك، ولهذا لم يكن خصما فيما باشره قبل البيع. قال: "وإذا لزمته ديون تحيط بماله ورقبته لم يملك المولى ما في يده. ولو أعتق من كسبه عبدا لم يعتق عند أبي حنيفة. وقالا: يملك ما في يده ويعتق وعليه قيمته" لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وجد سبب الملك في كسبه وهو ملك رقبته ولهذا يملك إعتاقها، ووطء الجارية المأذون لها، وهذا آية كماله، بخلاف الوارث؛ لأنه يثبت الملك له نظرا للمورث والنظر في ضده عند إحاطة الدين بتركته. أما ملك المولى فما ثبت نظرا للعبد. وله أن ملك المولى إنما يثبت خلافه عن العبد عند فراغه عن حاجته كملك الوارث على ما قررناه والمحيط به الدين مشغول بها فلا يخلفه فيه، وإذا عرف ثبوت الملك وعدمه فالعتق فريعته، وإذا نفذ عندهما يضمن قيمته للغرماء لتعلق حقهم به. قال: "وإن لم يكن الدين محيطا بماله جاز عتقه في قولهم جميعا" أما عندهما فظاهر، وكذا عنده؛ لأنه لا يعرى عن قليله، فلو جعل مانعا لانسد باب الانتفاع بكسبه فيختل ما هو المقصود من الإذن ولهذا لا يمنع ملك الوارث والمستغرق يمنعه. قال: "وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز"؛ لأنه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين يحيط بكسبه "وإن باعه بنقصان لم يجز مطلقا"؛ لأنه متهم في حقه، بخلاف ما إذا حابى الأجنبي عند أبي حنيفة؛ لأنه لا تهمة فيه، وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه حتى كان لأحدهم الاستخلاص بأداء قيمته. أما حق الغرماء تعلق بالمالية لا غير فافترقا. وقال أبو يوسف ومحمد: إن باعه بنقصان يجوز البيع، ويخير المولى إن شاء أزال المحاباة، وإن شاء نقض البيع، وعلى المذهبين اليسير من المحاباة والفاحش سواء. ووجه ذلك: أن الامتناع لدفع الضرر عن الغرماء وبهذا يندفع الضرر عنهم، وهذا بخلاف البيع من الأجنبي بالمحاباة اليسيرة حيث يجوز ولا يؤمر بإزالة المحاباة، والمولى يؤمر به؛ لأن البيع باليسير منهما متردد بين التبرع والبيع لدخوله تحت تقويم المقومين فاعتبرناه تبرعا في البيع مع المولى للتهمة غير تبرع في حق الأجنبي لانعدامها، وبخلاف ما إذا باع من الأجنبي بالكثير من المحاباة حيث لا يجوز أصلا عندهما، ومن المولى يجوز ويؤمر بإزالة المحاباة؛ لأن المحاباة لا تجوز من العبد المأذون على أصلهما إلا بإذن المولى، ولا إذن في البيع مع الأجنبي وهو إذن بمباشرته بنفسه، غير أن إزالة المحاباة لحق الغرماء، وهذان الفرقان على أصلهما. قال: "وإن باعه المولى شيئا بمثل القيمة أو أقل جاز البيع"؛ لأن المولى أجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين على ما بيناه ولا تهمة في هذا البيع؛ ولأنه مفيد فإنه يدخل في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 كسب العبد ما لم يكن فيه ويتمكن المولى من أخذ الثمن بعد أن لم يكن له هذا التمكن وصحة التصرف تتبع الفائدة "فإن سلم المبيع إليه قبل قبض الثمن بطل الثمن"؛ لأن حق المولى في العين من حيث الحبس، فلو بقي بعد سقوطه يبقى في الدين ولا يستوجبه المولى على عبده، بخلاف ما إذا كان الثمن عرضا؛ لأنه يتعين وجاز أن يبقى حقه متعلقا بالعين. قال: "وإن أمسكه في يده حتى يستوفي الثمن جاز"؛ لأن البائع له حق الحبس في المبيع ولهذا كان أخص به من الغرماء، وجاز أن يكون للمولى حق في الدين إذا كان يتعلق بالعين "ولو باعه بأكثر من قيمته يؤمر بإزالة المحاباة أو بنقض البيع" كما بينا في جانب العبد؛ لأن الزيادة تعلق بها حق الغرماء. قال: "وإذا أعتق المولى المأذون وعليه ديون فعتقه جائز"؛ لأن ملكه فيه باق والمولى ضامن لقيمته للغرماء؛ لأنه أتلف ما تعلق به حقهم بيعا واستيفاء من ثمنه "وما بقي من الديون يطالب به بعد العتق"؛ لأن الدين في ذمته وما لزم المولى إلا بقدر ما أتلف ضمانا فبقي الباقي عليه كما كان "فإن كان أقل من قيمته ضمن الدين لا غير"؛ لأن حقهم بقدره بخلاف ما إذا أعتق المدبر وأم الولد المأذون لهما وقد ركبتهما ديون لأن حق الغرماء لم يتعلق برقبتهما استيفاء بالبيع فلم يكن المولى متلفا حقهم فلم يتضمن شيئا. قال: "وإن باعه المولى وعليه دين يحيط برقبته وقبضه المشتري وغيبه، فإن شاء الغرماء ضمنوا البائع قيمته، وإن شاءوا ضمنوا المشتري"؛ لأن العبد تعلق به حقهم حتى كان لهم أن يبيعوه، إلا أن يقضي المولى دينهم والبائع متلف حقهم بالبيع والتسليم والمشتري بالقبض والتغييب فيخيرون في التضمين "وإن شاءوا أجازوا البيع وأخذوا الثمن"؛ لأن الحق لهم والإجازة اللاحقة كالإذن السابق كما في المرهون "فإن ضمنوا البائع قيمته ثم رد على المولى بعيب للمولى أن يرجع بالقيمة ويكون حق الغرماء في العبد"؛ لأن سبب الضمان قد زال وهو البيع والتسليم، وصار كالغاصب إذا باع وسلم وضمن القيمة ثم رد عليه بالعيب كان له أن يرد على المالك ويسترد القيمة كذا هذا. قال: "ولو كان المولى باعه من رجل وأعلمه بالدين فللغرماء أن يردوا البيع" لتعلق حقهم وهو حق الاستسعاء والاستيفاء من رقبته، وفي كل واحد منهما فائدة، فالأول تام مؤخر والثاني ناقص معجل، وبالبيع تفوت هذه الخيرة فلهذا كان لهم أن يردوه. قالوا: تأويله إذا لم يصل إليهم الثمن، فإن وصل ولا محاباة في البيع ليس لهم أن يردوه لوصول حقهم إليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 قال: "فإن كان البائع غائبا فلا خصومة بينهم وبين المشتري" معناه إذا أنكر الدين وهذا "عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: المشتري خصمهم ويقضي لهم بدينهم" وعلى هذا الخلاف إذا اشترى دارا ووهبها وسلمها وغاب ثم حضر الشفيع فالموهوب له ليس بخصم عندهما خلافا له. وعنهما مثل قوله في مسألة الشفعة. لأبي يوسف أنه يدعي الملك لنفسه فيكون خصما لكل من ينازعه. ولهما أن الدعوى تتضمن فسخ العقد وقد قام بهما فيكون الفسخ قضاء على الغائب. قال: "ومن قدم مصرا وقال أنا عبد لفلان فاشترى وباع لزمه كل شيء من التجارة"؛ لأنه إن أخبر بالإذن فالإخبار دليل عليه، وإن لم يخبر فتصرفه دليل عليه، إذ الظاهر أن المحجور يجري على موجب حجره والعمل بالظاهر هو الأصل في المعاملات كي لا يضيق الأمر على الناس، "إلا أنه لا يباع حتى يحضر مولاه"؛ لأنه لا يقبل قوله في الرقبة؛ لأنها خالص حق المولى، بخلاف الكسب؛ لأنه حق العبد على ما بينا "فإن حضر فقال هو مأذون بيع في الدين"؛ لأنه ظهر الدين في حق المولى "وإن قال هو محجور فالقول قوله"؛ لأنه متمسك بالأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 فصل: وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء الخ ... فصل: "وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون إذا كان يعقل البيع والشراء حتى ينفذ تصرفه" وقال الشافعي: لا ينفذ؛ لأن حجره لصباه فيبقى ببقائه، ولأنه مولى عليه حتى يملك الولي التصرف عليه ويملك حجره فلا يكون واليا للمنافاة وصار كالطلاق والعتاق، بخلاف الصوم والصلاة؛ لأنه لا يقام بالولي، وكذا الوصية على أصله فتحققت الضرورة إلى تنفيذه منه. أما بالبيع والشراء فيتولاه الولي فلا ضرورة هاهنا. ولنا أن التصرف المشروع صدر من أهله في محله عن ولاية شرعية فوجب تنفيذه على ما عرف تقريره في الخلافيات. والصبا سبب الحجر لعدم الهداية لا لذاته، وقد ثبتت نظرا إلى إذن الولي، وبقاء ولايته لنظر الصبي لاستيفاء المصلحة بطريقين واحتمال تبدل الحال، بخلاف الطلاق والعتاق؛ لأنه ضار محض فلم يؤهل له. والنافع المحض كقبول الهبة والصدقة يؤهل له قبل الإذن، والبيع والشراء دائر بين النفع والضرر فيجعل أهلا له بعد الإذن لا قبله، لكن قبل الإذن يكون موقوفا منه على إجازة الولي لاحتمال وقوعه نظرا، وصحة التصرف في نفسه، وذكر الولي في الكتاب ينتظم الأب والجد عند عدمه والوصي والقاضي والوالي، بخلاف صاحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 الشرط؛ لأنه ليس إليه تقليد القضاة، والشرط أن يعقل كون البيع سالبا للملك جالبا للربح، والتشبيه بالعبد المأذون له يفيد أن ما يثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه؛ لأن الإذن فك الحجر والمأذون يتصرف بأهلية نفسه عبدا كان أو صبيا، فلا يتقيد تصرفه بنوع دون نوع. ويصير مأذونا بالسكوت كما في العبد. ويصح إقراره بما في يده من كسبه وكذا بموروثه في ظاهر الرواية، كما يصح إقرار العبد ولا يملك تزويج عبده ولا كتابته كما في العبد والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي يصير مأذونا بإذن الأب والجد والوصي دون غيرهم على ما بيناه، وحكمه حكم الصبي، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 كتاب الغصب تعريفه وعلى الغاصب رد العين مدخل ... كتاب الغصب الغصب في اللغة: أخذ الشيء من الغير على سبيل التغلب للاستعمال فيه. وفي الشريعة: أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك على وجه يزيل يده. حتى كان استخدام العبد وحمل الدابة غصبا دون الجلوس على البساط، ثم إن كان مع العلم فحكمه المأثم والمغرم، وإن كان بدونه فالضمان؛ لأنه حق العبد فلا يتوقف على قصده ولا إثم؛ لأن الخطأ موضوع. قال: "ومن غصب شيئا له مثل كالمكيل والموزون فهلك في يده فعليه مثله" وفي بعض النسخ: فعليه ضمان مثله، ولا تفاوت بينهما، وهذا لأن الواجب هو المثل لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن المثل أعدل لما فيه من مراعاة الجنس والمالية فكان أدفع للضرر. قال: "فإن لم يقدر على مثله فعليه قيمته يوم يختصمون" وهذا "عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يوم الغصب. وقال محمد: يوم الانقطاع" لأبي يوسف أنه لما انقطع التحق بما لا مثل له فتعتبر قيمته يوم انعقاد السبب إذ هو الموجب. ولمحمد أن الواجب المثل في الذمة. وإنما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع فتعتبر قيمته يوم الانقطاع. ولأبي حنيفة أن النقل لا يثبت بمجرد الانقطاع، ولهذا لو صبر إلى أن يوجد جنسه له ذلك، وإنما ينتقل بقضاء القاضي فتعتبر قيمته يوم الخصومة والقضاء بخلاف ما لا مثل له؛ لأنه مطالب بالقيمة بأصل السبب كما وجد فتعتبر قيمته عند ذلك. قال: "وما لا مثل له فعليه قيمته يوم غصبه" معناه العدديات المتفاوتة، لأنه لما تعذر مراعاة الحق في الجنس فيراعى في المالية وحدها دفعا للضرر بقدر الإمكان. أما العددي المتقارب فهو كالمكيل حتى يجب مثله لقلة التفاوت. وفي البر المخلوط بالشعير القيمة؛ لأنه لا مثل له. قال: "وعلى الغاصب رد العين المغصوبة" معناه ما دام قائما لقوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد" وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ولا جادا، فإن أخذه فليرده عليه" ولأن اليد حق مقصود وقد فوتها عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 فيجب إعادتها بالرد إليه، وهو الموجب الأصلي على ما قالوا، ورد القيمة مخلص خلفا؛ لأنه قاصر، إذ الكمال في رد العين والمالية. وقيل الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص، ويظهر ذلك في بعض الأحكام. قال: "والواجب الرد في المكان الذي غصبه" لتفاوت القيم بتفاوت الأماكن "فإن ادعى هلاكها حبسه الحاكم حتى يعلم أنها لو كانت باقية لأظهرها ثم قضى عليه ببدلها"؛ لأن الواجب رد العين والهلاك بعارض، فهو يدعي أمرا عارضا خلاف الظاهر فلا يقبل قوله كما إذا ادعى الإفلاس وعليه ثمن متاع فيحبس إلى أن يعلم ما يدعيه، فإذا علم الهلاك سقط عنه رده فيلزمه رد بدله وهو القيمة. قال: "والغصب فيما ينقل ويحول"؛ لأن الغصب بحقيقته يتحقق فيه دون غيره؛ لأن إزالة اليد بالنقل. "وإذا غصب عقارا فهلك في يده لم يضمنه" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يضمنه، وهو قول أبي يوسف الأول، وبه قال الشافعي لتحقق إثبات اليد، ومن ضرورته زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة فيتحقق الوصفان وهو الغصب على ما بيناه فصار كالمنقول وجحود الوديعة. ولهما أن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعل في العين، وهذا لا يتصور في العقار؛ لأن يد المالك لا تزول إلا بإخراجه عنها، وهو فعل فيه لا في العقار فصار كما إذا بعد المالك عن المواشي. وفي المنقول: النقل فعل فيه وهو الغصب. ومسألة الجحود ممنوعة، ولو سلم فالضمان هناك بترك الحفظ الملتزم وبالجحود تارك لذلك. قال: "وما نقصه منه بفعله أو سكناه ضمنه في قولهم جميعا"؛ لأنه إتلاف والعقار يضمن به كما إذا نقل ترابه؛ لأنه فعل في العين ويدخل فيما قاله إذا انهدمت الدار بسكناه وعمله، فلو غصب دارا وباعها وسلمها وأقر بذلك والمشتري ينكر غصب البائع ولا بينة لصاحب الدار فهو على الاختلاف في الغصب هو الصحيح. قال: "وإذا انتقص بالزراعة يغرم النقصان"؛ لأنه أتلف البعض فيأخذ رأس ماله ويتصدق بالفضل. قال: "وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يتصدق بالفضل" وسنذكر الوجه من الجانبين. قال: "وإذا هلك النقلي في يد الغاصب بفعله أو بغير فعله ضمنه" وفي أكثر نسخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 المختصر: وإذا هلك الغصب والمنقول هو المراد لما سبق أن الغصب فيما ينقل، وهذا؛ لأن العين دخل في ضمانه بالغصب السابق إذ هو السبب. وعند العجز عن رده يجب القيمة أو يتقرر بذلك السبب ولهذا تعتبر قيمته يوم الغصب. "وإن نقص في يده ضمن النقصان"؛ لأنه يدخل جميع أجزائه في ضمانه بالغصب، فما تعذر رد عينه يجب رد قيمته، بخلاف تراجع السعر إذا رد في مكان الغصب؛ لأنه عبارة عن فتور الرغبات دون فوت الجزء، وبخلاف المبيع؛ لأنه ضمان عقد. أما الغصب فقبض والأوصاف تضمن بالفعل لا بالعقد على ما عرف. قال رضي الله عنه: ومراده غير الربوي، أما في الربويات لا يمكنه تضمين النقصان مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا. قال: "ومن غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة فعليه النقصان"؛ لما بينا "ويتصدق بالغلة" قال رضي الله عنه: وهذا عندهما أيضا. وعنده لا يتصدق بالغلة، وعلى هذا الخلاف إذا أجر المستعير المستعار. لأبي يوسف أنه حصل في ضمانه وملكه. أما الضمان فظاهر، وكذا الملك؛ لأن المضمونات تملك بأداء الضمان مستندا عندنا. ولهما أنه حصل بسبب خبيث وهو التصرف في ملك الغير، وما هذا حاله فسبيله التصدق، إذ الفرع يحصل على وصف الأصل والملك المستند ناقص فلا ينعدم به الخبث. "فلو هلك العبد في يد الغاصب حتى ضمنه له أن يستعين بالغلة في أداء الضمان"؛ لأن الخبث لأجل المالك، ولهذا لو أدى إليه يباح له التناول فيزول الخبث بالأداء إليه، بخلاف ما إذا باعه فهلك في يد المشتري ثم استحق وغرمه ليس له أن يستعين بالغلة في أداء الثمن إليه؛ لأن الخبث ما كان لحق المشتري إلا إذا كان لا يجد غيره؛ لأنه محتاج إليه، وله أن يصرفه إلى حاجة نفسه، فلو أصاب مالا تصدق بمثله إن كان غنيا وقت الاستعمال، وإن كان فقيرا فلا شيء عليه لما ذكرنا. قال: "ومن غصب ألفا فاشترى بها جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم فإنه يتصدق بجميع الربح، وهذا عندهما" وأصله أن الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح لا يطيب له الربح عندهما، خلافا لأبي يوسف، وقد مرت الدلائل وجوابهما في الوديعة أظهر؛ لأنه لا يستند الملك إلى ما قبل التصرف لانعدام سبب الضمان فلم يكن التصرف في ملكه ثم هذا ظاهر فيما يتعين بالإشارة، أما فيما لا يتعين كالثمنين فقوله في الكتاب اشترى بها إشارة إلى أن التصدق إنما يجب إذا اشترى بها ونقد منها الثمن. أما إذا أشار إليها ونقد من غيرها أو نقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 منها وأشار إلى غيرها أو أطلق إطلاقا ونقد منها يطيب له، وهكذا قال الكرخي؛ لأن الإشارة إذا كانت لا تفيد التعيين لا بد أن يتأكد بالنقد ليتحقق الخبث. وقال بعض مشايخنا رحمهم الله: لا يطيب له قبل أن يضمن، وكذا بعد الضمان بكل حال، وهو المختار لإطلاق الجواب في الجامعين والمبسوط. قال: "وإن اشترى بالألف جارية تساوي ألفين فوهبها أو طعاما فأكله لم يتصدق بشيء"، وهذا قولهم جميعا؛ لأن الربح إنما يتبين عند اتحاد الجنس. والله سبحانه تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 فصل: فيما يتغير بفعل الغاصب قال: "وإذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها، ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها، كمن غصب شاة وذبحها وشواها أو طبخها أو حنطة فطحنها أو حديدا فاتخذه سيفا أو صفرا فعمله آنية" وهذا كله عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا ينقطع حق المالك وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله، غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده؛ لأنه يؤدي إلى الربا، وعند الشافعي يضمنه، وعن أبي يوسف أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته. للشافعي أن العين باق فيبقى على ملكه وتتبعه الصنعة كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة فطحنت. ولا معتبر بفعله؛ لأنه محظور فلا يصلح سببا للملك على ما عرف، فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها. ولنا أنه أحدث صنعة متقومة صير حق المالك هالكا من وجه، ألا ترى أنه تبدل الاسم وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه، ولا نجعله سببا للملك من حيث إنه محظور، بل من حيث إنه إحداث الصنعة، بخلاف الشاة؛ لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ، وهذا الوجه يشمل الفصول المذكورة ويتفرع عليه غيرها فاحفظه. وقوله ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها استحسان والقياس أن يكون له ذلك وهو قول الحسن وزفر، وهكذا عن أبي حنيفة رحمه الله رواه الفقيه أبو الليث. ووجهه ثبوت الملك المطلق للتصرف؛ ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز. وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضاء صاحبها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 "أطعموها الأسارى" أفاد الأمر بالتصدق زوال ملك المالك وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء، ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك كما في الملك الفاسد. وإذا أدى البدل يباح له؛ لأن حق المالك صار موفى بالبدل فحصلت مبادلة بالتراضي، وكذلك إذا أبرأه لسقوط حقه به، وكذا إذا أدى بالقضاء أو ضمنه الحاكم أو ضمنه المالك لوجود الرضا منه؛ لأنه لا يقضي إلا بطلبه، وعلى هذا الخلاف إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها غير أنه عند أبي يوسف يباح الانتفاع فيهما قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه، بخلاف ما تقدم لقيام العين فيه من وجه. وفي الحنطة يزرعها لا يتصدق بالفضل عنده خلافا لهما، وأصله ما تقدم. قال: "وإن غصب فضة أو ذهبا فضربها دراهم أو دنانير أو آنية لم يزل ملك مالكها عنها عند أبي حنيفة فيأخذها ولا شيء للغاصب، وقالا: يملكها الغاصب وعليه مثلها"؛ لأنه أحدث صنعة معتبرة صير حق المالك هالكا من وجه؛ ألا ترى أنه كسره وفات بعض المقاصد والتبر لا يصلح رأس المال في المضاربات والشركات والمضروب يصلح لذلك. وله أن العين باق من كل وجه؛ ألا ترى أن الاسم باق ومعناه الأصلي الثمنية وكونه موزونا وأنه باق حتى يجري فيه الربا باعتباره وصلاحيته لرأس المال من أحكام الصنعة دون العين، وكذا الصنعة فيها غير متقومة مطلقا؛ لأنه لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها. قال: "ومن غصب ساجة فبنى عليها زال ملك مالكها عنها ولزم الغاصب قيمتها" وقال الشافعي: للمالك أخذها، والوجه من الجانبين قدمناه. ووجه آخر لنا فيه أن فيما ذهب إليه إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة فصار كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته. ثم قال الكرخي والفقيه أبو جعفر: إنما لا ينقض إذا بنى في حوالي الساجة، ما إذا بنى على نفس الساجة ينقض؛ لأنه متعد فيه. وجواب الكتاب يرد ذلك وهو الأصح. قال: "ومن ذبح شاة غيره فمالكها بالخيار، إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه، وإن شاء ضمنه نقصانها، وكذا الجزور، وكذا إذا قطع يدهما" هذا هو ظاهر الرواية. وجهه أنه إتلاف من وجه باعتبار فوت بعض الأغراض من الحمل والدر والنسل وبقاء بعضها وهو اللحم فصار كالخرق الفاحش في الثوب، ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه، بخلاف قطع طرف العبد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 المملوك حيث يأخذه مع أرش المقطوع؛ لأن الآدمي يبقى منتفعا به بعد قطع الطرف. قال: "ومن خرق ثوب غيره خرقا يسيرا ضمن نقصانه والثوب لمالكه"؛ لأن العين قائم من كل وجه، وإنما دخله عيب فيضمنه. قال: "وإن خرق خرقا كبيرا يبطل عامة منافعه فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته"؛ لأنه استهلاك من هذا الوجه فكأنه أحرقه. قال رضي الله عنه: معناه يترك الثوب عليه: وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان؛ لأنه تعييب من وجه من حيث إن العين باق، وكذا بعض المنافع قائم، ثم إشارة الكتاب إلى أن الفاحش ما يبطل به عامة المنافع، والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين وجنس المنفعة ويبقى بعض العين وبعض المنفعة، واليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يدخل فيه النقصان؛ لأن محمدا جعل في الأصل قطع الثوب نقصانا فاحشا والفائت به بعض المنافع. قال: "ومن غصب أرضا فغرس فيها أو بنى قيل له اقلع البناء والغرس وردها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس لعرق ظالم حق" ولأن ملك صاحب الأرض باق، فإن الأرض لم تصر مستهلكة والغصب لا يتحقق فيها، ولا بد للملك من سبب فيؤمر الشاغل بتفريغها، كما إذا شغل ظرف غيره بطعامه. قال: "فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعا ويكونان له"؛ لأن فيه نظرا لهما ودفع الضرر عنهما. وقوله قيمته مقلوعا معناه قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه؛ لأن حقه فيه، إذ لا قرار له فيه فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء وتقوم وبها شجر أو بناء، لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه فيضمن فضل ما بينهما. قال: "ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر أو سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ومثل السويق وسلمه للغاصب، وإن شاء أخذهما وغرم ما زاد الصبغ والسمن فيهما" وقال الشافعي في الثوب: لصاحبه أن يمسكه ويأمر الغاصب بقلع الصبغ بالقدر الممكن اعتبارا بفصل الساحة بنى فيها؛ لأن التمييز ممكن، بخلاف السمن في السويق؛ لأن التمييز متعذر. ولنا ما بينا أن فيه رعاية الجانبين والخيرة لصاحب الثوب لكونه صاحب الأصل، بخلاف الساحة بنى فيها؛ لأن النقض له بعد النقض؛ أما الصبغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 فيتلاشى، وبخلاف ما إذا انصبغ بهبوب الريح؛ لأنه لا جناية من صاحب الصبغ ليضمن الثوب فيتملك صاحب الأصل الصبغ. قال أبو عصمة في أصل المسألة: وإن شاء رب الثوب باعه ويضرب بقيمته أبيض وصاحب الصبغ بما زاد الصبغ فيه؛ لأن له أن لا يتملك الصبغ بالقيمة، وعند امتناعه تعين رعاية الجانبين في البيع ويتأتى، هذا فيما إذا انصبغ الثوب بنفسه، وقد ظهر بما ذكرنا لوجه في السويق، غير أن السويق من ذوات الأمثال فيضمن مثله والثوب من ذوات القيم فيضمن قيمته. وقال في الأصل: يضمن قيمة السويق؛ لأن السويق يتفاوت بالقلي فلم يبق مثليا. وقيل المراد منه المثل سماه به لقيامه مقامه، والصفرة كالحمرة. ولو صبغه أسود فهو نقصان عند أبي حنيفة، وعندهما زيادة. وقيل هذا اختلاف عصر وزمان. وقيل إن كان ثوبا ينقصه السواد فهو نقصان، وإن كان ثوبا يزيد فيه السواد فهو كالحمرة وقد عرف في غير هذا الموضع. ولو كان ثوبا تنقصه الحمرة بأن كانت قيمته ثلاثين درهما فتراجعت بالصبغ إلى عشرين، فعن محمد أنه ينظر إلى ثوب تزيد فيه الحمرة، فإن كانت الزيادة خمسة يأخذ ثوبه وخمسة دراهم؛ لأن إحدى الخمستين جبرت بالصبغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 فصل: "ومن غصب عينا فغيبها فضمنه المالك قيمتها ملكها" وهذا عندنا. وقال الشافعي: لا يملكها لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك كما في المدبر. ولنا أنه ملك البدل بكماله، والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك فيملكه دفعا للضرر عنه، بخلاف المدبر لأنه غير قابل للنقل لحق المدبر، نعم قد يفسخ التدبير بالقضاء لكن البيع بعده يصادف القن. قال: "والقول في القيمة قول الغاصب مع يمينه" لأن المالك يدعي الزيادة وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه "إلا أن يقيم المالك البينة بأكثر من ذلك" لأنه أثبته بالحجة الملزمة. قال: "فإن ظهرت العين وقيمتها أكثر مما ضمن وقد ضمنها بقول المالك أو ببينة أقامها أو بنكول الغاصب عن اليمين فلا خيار للمالك وهو الغاصب"؛ لأنه تم له الملك بسبب اتصل به رضا المالك حيث ادعى هذا المقدار. قال: "فإن كان ضمنه بقول الغاصب مع يمينه فهو بالخيار، إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 العين ورد العوض" لأنه لم يتم رضاه بهذا المقدار حيث يدعي الزيادة وأخذه دونها لعدم الحجة. ولو ظهرت العين وقيمتها مثل ما ضمنه أو دونه في هذا الفصل الأخير فكذلك الجواب في ظاهر الرواية وهو الأصح خلافا لما قاله الكرخي رحمه الله أنه لا خيار له؛ لأنه لم يتم رضاه حيث لم يعط له ما يدعيه والخيار لفوات الرضا. قال: "ومن غصب عبدا فباعه فضمنه المالك قيمته فقد جاز بيعه، وإن أعتقه ثم ضمن القيمة لم يجز عتقه" لأن ملكه الثابت فيه ناقص لثبوته مستندا أو ضرورة، ولهذا يظهر في حق الأكساب دون الأولاد، والناقص يكفي لنقود البيع دون العتق كملك المكاتب. قال: "وولد المغصوبة ونماؤها، وثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إن هلك فلا ضمان عليه، إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها إياه". وقال الشافعي: زوائد المغصوب مضمونة متصلة كانت أو منفصلة لوجود الغصب، وهو إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه، كما في الظبية المخرجة من الحرم إذا ولدت في يده يكون مضمونا عليه. ولنا أن الغصب إثبات اليد على مال الغير على وجه يزيل يد المالك على ما ذكرنا، ويد المالك ما كانت ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب، ولو اعتبرت ثابتة على الولد لا يزيلها، إذ الظاهر عدم المنع، حتى لو منع الولد بعد طلبه يضمنه، وكذا إذا تعدى فيه كما قال في الكتاب: وذلك بأن أتلفه أو ذبحه وأكله أو باعه وسلمه، وفي الظبية المخرجة لا يضمن ولدها إذا هلك قبل التمكن من الإرسال لعدم المنع، وإنما يضمنه إذا هلك بعده لوجود المنع بعد طلب صاحب الحق وهو الشرع، على هذا أكثر مشايخنا. ولو أطلق الجواب فهو ضمان جناية، ولهذا يتكرر بتكررها، ويجب بالإعانة والإشارة، فلأن يجب بما هو فوقها وهو إثبات اليد على مستحق الأمن أولى وأحرى. قال: "وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب، فإن كان في قيمة الولد وفاء به انجبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب". وقال زفر والشافعي: لا ينجبر النقصان بالولد؛ لأن الولد ملكه فلا يصلح جابرا لملكه كما في ولد الظبية، وكما إذا هلك الولد قبل الرد أو ماتت الأم وبالولد وفاء، وصار كما إذا جز صوف شاة غيره أو قطع قوائم شجر غيره أو خصى عبد غيره أو علمه الحرفة فأضناه التعليم. ولنا أن سبب الزيادة والنقصان واحد، وهو الولادة أو العلوق على ما عرف، وعند ذلك لا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا، وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت أو قطعت يد المغصوب في يده وأخذ أرشها وأداه مع العبد يحتسب عن نقصان القطع، وولد الظبية ممنوع، وكذا إذا ماتت الأم. وتخريج الثانية: أن الولادة ليست بسبب لموت الأم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 إذ الولادة لا تفضي إليه غالبا، وبخلاف ما إذا مات الولد قبل الرد؛ لأنه لا بد من رد أصله للبراءة، فكذا لا بد من رد خلفه، والخصاء لا يعد زيادة؛ لأنه غرض بعض الفسقة، ولا اتحاد في السبب فيما وراء ذلك من المسائل؛ لأن سبب النقصان القطع والجز، وسبب الزيادة النمو، وسبب النقصان التعليم، والزيادة سببها الفهم. قال: "ومن غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها يضمن قيمتها يوم علقت، ولا ضمان عليه في الحرة، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن في الأمة أيضا" لهما أن الرد قد صح، والهلاك بعده بسبب حدث في يد المالك وهو الولادة فلا يضمن الغاصب. كما إذا حمت في يد الغاصب ثم ردها فهلكت. أو زنت في يده ثم ردها فجلدت فهلكت منه، وكمن اشترى جارية قد حبلت عند البائع فولدت عند المشتري وماتت في نفاسها لا يرجع على البائع بالثمن. وله أنه غصبها وما انعقد فيها سبب التلف وردت وفيها ذلك فلم يوجد الرد على الوجه الذي أخذ فلم يصح الرد، وصار كما إذا جنت في يد الغاصب جناية فقتلت بها في يد المالك، أو دفعت بها بأن كانت الجناية خطأ يرجع على الغاصب بكل القيمة. كذا هذا. بخلاف الحرة؛ لأنها لا تضمن بالغصب ليبقى ضمان الغصب بعد فساد الرد. وفي فصل الشراء الواجب ابتداء التسليم. ما ذكرنا شرط صحة الرد والزنا سبب لجلد مؤلم لا جارح ولا متلف فلم يوجد السبب في يد الغاصب. قال: "ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان" وقال الشافعي: يضمنها، فيجب أجر المثل، ولا فرق في المذهبين بين ما إذا عطلها أو سكنها. وقال مالك: إن سكنها يجب أجر المثل، وإن عطلها لا شيء عليه. له أن المنافع أموال متقومة حتى تضمن بالعقود فكذا بالغصوب. ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك؛ لأنها أعراض لا تبقى فيملكها دفعا لحاجته، والإنسان لا يضمن ملكه، كيف وأنه لا يتحقق غصبها وإتلافها؛ لأنه لا بقاء لها، ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف، ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها، بل تقوم ضرورة عند ورود العقد ولم يوجد العقد، إلا أن ما انتقص باستعماله مضمون عليه لاستهلاكه بعض أجزاء العين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 فصل: في غصب ما لا يتقوم قال: "وإذا أتلف المسلم خمر الذمي أو خنزيره ضمن قيمتهما، فإن أتلفهما لمسلم لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 يضمن" وقال الشافعي: لا يضمنها للذمي أيضا وعلى هذا الخلاف إذا أتلفهما ذمي على ذمي أو باعهما الذمي من الذمي. له أنه سقط تقومهما في حق المسلم فكذا في حق الذمي؛ لأنهم أتباع لنا في الأحكام فلا يجب بإتلافهما مال متقوم وهو الضمان. ولنا أن التقويم باق في حقهم، إذ الخمر لهم كالخل لنا والخنزير لهم كالشاة لنا. ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون والسيف موضوع فيتعذر الإلزام، وإذا بقي التقوم فقد وجد إتلاف مال مملوك متقوم فيضمنه. بخلاف الميتة والدم؛ لأن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولهما، إلا أنه تجب قيمة الخمر وإن كان من ذوات الأمثال؛ لأن المسلم ممنوع عن تمليكه لكونه إعزازا له، بخلاف ما إذا جرت المبايعة بين الذميين؛ لأن الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها. وهذا بخلاف الربا؛ لأنه مستثنى عن عقودهم، وبخلاف العبد المرتد يكون للذمي؛ لأنا ما ضمنا لهم ترك التعرض له لما فيه من الاستخفاف بالدين، وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه؛ لأن ولاية المحاجة ثابتة. قال: "فإن غصب من مسلم خمرا فخللها أو جلد ميتة فدبغه فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه"، والمراد بالفصل الأول إذا خللها بالنقل من الشمس إلى الظل ومنه إلى الشمس، وبالفصل الثاني إذا دبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص ونحو ذلك. والفرق أن هذا التخليل تطهير له بمنزلة غسل الثوب النجس فيبقى على ملكه إذ لا تثبت المالية به وبهذا الدباغ اتصل بالجلد مال متقوم للغاصب كالصبغ في الثوب فكان بمنزلته فلهذا يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ الجلد ويعطي ما زاد الدباغ فيه. وبيانه أنه ينظر إلى قيمته ذكيا غير مدبوغ، وإلى قيمته مدبوغا فيضمن فضل ما بينهما، وللغاصب أن يحبسه حتى يستوفي حقه كحق الحبس في البيع. قال: "وإن استهلكهما ضمن الخل ولم يضمن الجلد عند أبي حنيفة، وقالا: يضمن الجلد مدبوغا ويعطي ما زاد الدباغ فيه" ولو هلك في يده لا يضمنه بالإجماع. أما الخل: فلأنه لما بقي على ملك مالكه وهو مال متقوم ضمنه بالإتلاف، يجب مثله؛ لأن الخل من ذوات الأمثال. وأما الجلد فلهما أنه باق على ملك المالك حتى كان له أن يأخذه وهو مال متقوم فيضمنه مدبوغا بالاستهلاك ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه كما إذا غصب ثوبا فصبغه ثم استهلكه ويضمنه ويعطيه المالك ما زاد الصبغ فيه، ولأنه واجب الرد، فإذا فوته عليه خلفه قيمته كما في المستعار. وبهذا فارق الهلاك بنفسه. وقولهما يعطي ما زاد الدباغ فيه محمول على اختلاف الجنس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 أما عند اتحاده فيطرح عنه ذلك القدر ويؤخذ منه الباقي لعدم الفائدة في الأخذ منه ثم في الرد عليه. وله أن التقوم حصل بصنع الغاصب وصنعته متقومة لاستعماله مالا متقوما فيه، ولهذا كان له أن يحبسه حتى يستوفي ما زاد الدباغ فيه فكان حقا له والجلد تبع له في حق التقوم، ثم الأصل وهو الصنعة غير مضمون عليه فكذا التابع، كما إذا هلك من غير صنعة، بخلاف وجوب الرد حال قيامه؛ لأنه يتبع الملك، والجلد غير تابع للصنعة في حق الملك لثبوته قبلها وإن لم يكن متقوما، بخلاف الذكي والثوب؛ لأن التقوم فيهما كان ثابتا قبل الدبغ والصبغ فلم يكن تابعا للصنعة، ولو كان قائما فأراد المالك أن يتركه على الغاصب في هذا الوجه ويضمنه قيمته قيل: ليس له ذلك؛ لأن الجلد لا قيمة له، بخلاف صبغ الثوب؛ لأن له قيمة. وقيل ليس له ذلك عند أبي حنيفة، وعندهما له ذلك؛ لأنه إذا تركه عليه وضمنه عجز الغاصب عن رده فصار كالاستهلاك، وهو على هذا الخلاف على ما بيناه. ثم قيل: يضمنه قيمة جلد مدبوغ ويعطيه ما زاد الدباغ فيه كما في الاستهلاك. وقيل يضمنه قيمة جلد ذكي غير مدبوغ، ولو دبغه بما لا قيمة له كالتراب والشمس فهو لمالكه بلا شيء؛ لأنه بمنزلة غسل الثوب. ولو استهلكه الغاصب يضمن قيمته مدبوغا. وقيل طاهرا غير مدبوغ؛ لأن وصف الدباغة هو الذي حصله فلا يضمنه. وجه الأول وعليه الأكثرون أن صفة الدباغة تابعة للجلد فلا تفرد عنه، وإذا صار الأصل مضمونا عليه فكذا صفته، ولو خلل الخمر بإلقاء الملح فيه قالوا عند أبي حنيفة: صار ملكا للغاصب ولا شيء له عليه. وعندهما أخذه المالك وأعطى ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد، ومعناه هاهنا أن يعطي مثل وزن الملح من الخل، وإن أراد المالك تركه عليه وتضمينه فهو على ما قيل. وقيل في دبغ الجلد ولو استهلكها لا يضمنها عند أبي حنيفة خلافا لهما كما في دبغ الجلد. ولو خللها بإلقاء الخل فيهما، فعن محمد أنه إن صار خلا من ساعته يصير ملكا للغاصب ولا شيء عليه؛ لأنه استهلاك له وهو غير متقوم، وإن لم تصر خلا إلا بعد زمان بأن كان الملقى فيه خلا قليلا فهو بينهما على قدر كليهما؛ لأن خلط الخل بالخل في التقدير وهو على أصله ليس باستهلاك وعند أبي حنيفة هو للغاصب في الوجهين، ولا شيء عليه؛ لأن نفس الخلط استهلاك عنده، ولا ضمان في الاستهلاك؛ لأنه أتلف ملك نفسه. وعند محمد لا يضمن بالاستهلاك في الوجه الأول لما بينا. ويضمن في الوجه الثاني؛ لأنه أتلف ملك غيره. وبعض المشايخ أجروا جواب الكتاب على إطلاقه أن للمالك أن يأخذ الخل في الوجوه كلها بغير شيء؛ لأن الملقى فيه يصير مستهلكا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 في الخمر فلم يبق متقوما. وقد كثرت فيه أقوال المشايخ وقد أثبتناها في كفاية المنتهى. قال: "ومن كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا أو أراق له سكرا أو منصفا فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز" وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يضمن ولا يجوز بيعها. وقيل الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو. فأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس يضمن بالإتلاف من غير خلاف. وقيل الفتوى في الضمان على قولهما. والسكر اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد. والمنصف ما ذهب نصفه بالطبخ. وفي المطبوخ أدنى طبخة وهو الباذق عن أبي حنيفة روايتان في التضمين والبيع. لهما أن هذه الأشياء أعدت للمعصية فبطل تقومها كالخمر، ولأنه فعل ما فعل آمرا بالمعروف وهو بأمر الشرع فلا يضمنه كما إذا فعل بإذن الإمام. ولأبي حنيفة أنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع وإن صلحت لما لا يحل فصار كالأمة المغنية. وهذا؛ لأن الفساد بفعل فاعل مختار فلا يوجب سقوط التقوم، وجواز البيع والتضمين مرتبان على المالية والتقوم والأمر بالمعروف باليد إلى الأمراء لقدرتهم وباللسان إلى غيرهم، وتجب قيمتها غير صالحة للهو كما في الجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيارة والديك المقاتل والعبد الخصي تجب القيمة غير صالحة لهذه الأمور، كذا هذا، وفي السكر والمنصف تجب قيمتهما، ولا يجب المثل؛ لأن المسلم ممنوع عن تملك عينه وإن كان لو فعل جاز، وهذا بخلاف ما إذا أتلف على نصراني صليبا حيث يضمن قيمته صليبا؛ لأنه مقر على ذلك. قال: "ومن غصب أم ولد أو مدبرة فماتت في يده ضمن قيمة المدبرة ولا يضمن قيمة أم الولد" عند أبي حنيفة، وقالا: يضمن قيمتهما؛ لأن مالية المدبرة متقومة بالاتفاق، ومالية أم الولد غير متقومة عنده، وعندهما متقومة، والدلائل ذكرناها في كتاب العتاق من هذا الكتاب والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 كتاب الشفعة تعريف الشفعة وحكمها ... كتاب الشفعة الشفعة: مشتقة من الشفع وهو الضم، سميت بها لما فيها من ضم المشتراة إلى عقار الشفيع. قال: "الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ثم للخليط في حق المبيع كالشرب والطريق ثم للجار" أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب، أما الثبوت فلقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة لشريك لم يقاسم" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "جار الدار أحق بالدار والأرض، ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الجار أحق بسقبه، قيل يا رسول الله ما سقبه؟ قال شفعته" ويروى: "الجار أحق بشفعته". وقال الشافعي لا شفعة بالجوار لقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطريق فلا شفعة" ولأن حق الشفعة معدول به عن سنن القياس لما فيه من تملك المال على الغير من غير رضاه، وقد ورد الشرع به فيما لم يقسم، وهذا ليس في معناه؛ لأن مؤنة القسمة تلزمه في الأصل دون الفرع، ولنا ما روينا، ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع، وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار، إذ هو مادة المضار على ما عرف، وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى؛ لأن الضرر في حقه بإزعاجه عن خطة آبائه أقوى، وضرر القسمة مشروع لا يصلح علة لتحقيق ضرر غيره. وأما الترتيب فلقوله عليه الصلاة والسلام: "الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع" فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار. ولأن الاتصال بالشركة في المبيع أقوى؛ لأنه في كل جزء، وبعده الاتصال في الحقوق؛ لأنه شركة في مرافق الملك، والترجيح يتحقق بقوة السبب، ولأن ضرر القسمة إن لم يصلح علة صلح مرجحا. قال: "وليس للشريك في الطريق والشرب والجار شفعة مع الخليط في الرقبة" لما ذكرنا أنه مقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 قال: "فإن سلم فالشفعة للشريك في الطريق، فإن سلم أخذها الجار" لما بينا من الترتيب، والمراد بهذا الجار الملاصق، وهو الذي على ظهر الدار المشفوعة وبابه في سكة أخرى. عن أبي يوسف أن مع وجود الشريك في الرقبة لا شفعة لغيره سلم أو استوفى؛ لأنهم محجوبون به. ووجه الظاهر أن السبب تقرر في حق الكل، إلا أن للشريك حق التقدم، فإذا سلم كان لمن يليه بمنزلة دين الصحة مع دين المرض، والشريك في المبيع قد يكون في بعض منها كما في منزل معين من الدار أو جدار معين منها وهو مقدم على الجار في منزل، وكذا على الجار في بقية الدار في أصح الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن اتصاله أقوى والبقعة واحدة. ثم لا بد أن يكون الطريق أو الشرب خاصا حتى تستحق الشفعة بالشركة فيه فالطريق الخاص أن لا يكون نافذا، والشرب الخاص أن يكون نهرا لا تجري فيه السفن وما تجري فيه فهو عام. وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وعن أبي يوسف أن الخاص أن يكون نهرا يسقى منه قراحان أو ثلاثة، وما زاد على ذلك فهو عام، وإن كانت سكة غير نافذة يتشعب منها سكة غير نافذة وهي مستطيلة فبيعت دار في السفلى فلأهلها الشفعة خاصة دون أهل العليا، وإن بيعت للعليا فلأهل السكتين، والمعنى ما ذكرنا في كتاب أدب القاضي. ولو كان نهر صغير يأخذ منه نهر أصغر منه فهو على قياس الطريق فيما بيناه. قال: "ولا يكون الرجل بالجذوع على الحائط شفيع شركة ولكنه شفيع جوار"؛ لأن العلة هي الشركة في العقار وبوضع الجذوع لا يصير شريكا في الدار إلا أنه جار ملازق. قال: "والشريك في الخشبة تكون على حائط الدار جار" لما بينا. قال: "وإذا اجتمع الشفعاء فالشفعة بينهم على عدد رءوسهم ولا يعتبر اختلاف الأملاك" وقال الشافعي: هي على مقادير الأنصباء؛ لأن الشفعة من مرافق الملك؛ ألا يرى أنها لتكميل منفعته فأشبه الربح والغلة والولد والثمرة. ولنا أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال فيستوون في الاستحقاق؛ ألا يرى أنه لو انفرد واحد منهم استحق كل الشفعة. وهذا آية كمال السبب وكثرة الاتصال تؤذن بكثرة العلة، والترجيح بقوة الدليل لا بكثرته، ولا قوة هاهنا لظهور الأخرى بمقابلته وتملك ملك غيره لا يجعل ثمرة من ثمرات ملكه، بخلاف الثمرة وأشباهها، ولو أسقط بعضهم حقه فهي للباقين في الكل على عددهم؛ لأن الانتقاص للمزاحمة مع كمال السبب في حق كل واحد منهم وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 انقطعت. ولو كان البعض غيبا يقضي بها بين الحضور على عددهم؛ لأن الغائب لعله لا يطلب، وإن قضى لحاضر بالجميع ثم حضر آخر يقضي له بالنصف، ولو حضر ثالث فبثلث ما في يد كل واحد تحقيقا للتسوية، فلو سلم الحاضر بعدما قضى له بالجميع لا يأخذ القادم إلا النصف؛ لأن قضاء القاضي بالكل للحاضر يقطع حق الغائب عن النصف بخلاف ما قبل القضاء. قال: "والشفعة تجب بعقد البيع" ومعناه بعده لا أنه هو السبب؛ لأن سببها الاتصال على ما بيناه، والوجه فيه أن الشفعة إنما تجب إذا رغب البائع عن ملك الدار، والبيع يعرفها ولهذا يكتفى بثبوت البيع في حقه حتى يأخذها الشفيع إذا أقر البائع بالبيع وإن كان المشتري يكذبه. قال: "وتستقر بالإشهاد، ولا بد من طلب المواثبة" لأنه حق ضعيف يبطل بالإعراض، فلا بد من الإشهاد والطلب ليعلم بذلك رغبته فيه دون إعراضه عنه، ولأنه يحتاج إلى إثبات طلبه عند القاضي ولا يمكنه إلا بالإشهاد. قال: "وتملك بالأخذ إذا سلمها المشتري أو حكم بها الحاكم"؛ لأن الملك للمشتري قد تم فلا ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي أو قضاء القاضي كما في الرجوع والهبة. وتظهر فائدة هذا فيما إذا مات الشفيع بعد الطلبين وباع داره المستحق بها الشفعة أو بيعت دار بجنب الدار المشفوعة قبل حكم الحاكم أو تسليم المخاصم لا تورث عنه في الصورة الأولى وتبطل شفعته في الثانية ولا يستحقها في الثالثة لانعدام الملك له. ثم قوله تجب بعقد البيع بيان أنه لا يجب إلا عند معارضة المال بالمال على ما نبينه إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 باب طلب الشفعة والخصومة فيها مدخل ... باب طلب الشفعة والخصومة فيها قال: "وإذا علم الشفيع بالبيع أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة" اعلم أن الطلب على ثلاثة أوجه: طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم، حتى لو بلغ الشفيع البيع ولم يطلب شفعة بطلت الشفعة لما ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة لمن واثبها" ولو أخبر بكتاب والشفعة في أوله أو في وسطه فقرأ الكتاب إلى آخره بطلت شفعته وعلى هذا عامة المشايخ، وهو رواية عن محمد. وعنه أن له مجلس العلم، والروايتان في النوادر. وبالثانية أخذ الكرخي؛ لأنه لما ثبت له خيار التملك لا بد له من زمان التأمل كما في المخيرة، ولو قال بعدما بلغه البيع الحمد لله أو لا حول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 ولا قوة إلا بالله " أو قال " سبحان الله " لا تبطل شفعته؛ لأن الأول حمد على الخلاص من جواره والثاني تعجب منه لقصد إضراره، والثالث لافتتاح كلامه فلا يدل شيء منه على الإعراض، وكذا إذا قال من ابتاعها وبكم بيعت؛ لأنه يرغب فيها بثمن دون ثمن ويرغب عن مجاورة بعض دون بعض، والمراد بقوله في الكتاب أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة، والإشهاد فيه ليس بلازم، إنما هو لنفي التجاحد والتقييد بالمجلس إشارة إلى ما اختاره الكرخي. ويصح الطلب بكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة كما لو قال: طلبت الشفعة أو أطلبها أو أنا طالبها؛ لأن الاعتبار للمعنى، وإذا بلغ الشفيع بيع الدار لم يجب عليه الإشهاد حتى يخبره رجلان أو رجل وامرأتان أو واحد عدل عند أبي حنيفة، وقالا: يجب عليه أن يشهد إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا صبيا كان أو امرأة إذا كان الخبر حقا. وأصل الاختلاف في عزل الوكيل وقد ذكرناه بدلائله وأخواته فيما تقدم، وهذا بخلاف المخيرة إذا أخبرت عنده؛ لأنه ليس فيه إلزام حكم، وبخلاف ما إذا أخبره المشتري؛ لأنه خصم فيه والعدالة غير معتبرة في الخصوم. والثاني طلب التقرير والإشهاد؛ لأنه محتاج إليه لإثباته عند القاضي على ما ذكرنا، ولا يمكنه الإشهاد ظاهرا على طلب المواثبة؛ لأنه على فور العلم بالشراء فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الإشهاد والتقرير وبيانه ما قال في الكتاب "ثم ينهض منه" يعني من المجلس "ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده" معناه لم يسلم إلى المشتري "أو على المبتاع أو عند العقار، فإذا فعل ذلك استقرت شفعته" وهذا لأن كل واحد منهما خصم فيه؛ لأن للأول اليد وللثاني الملك، وكذا يصح الإشهاد عند المبيع؛ لأن الحق متعلق به، فإن سلم البائع المبيع لم يصح الإشهاد عليه لخروجه من أن يكون خصما، إذ لا يد له ولا ملك فصار كالأجنبي. وصورة هذا الطلب أن يقول: إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك. وعن أبي يوسف أنه يشترط تسمية المبيع وتحديده؛ لأن المطالبة لا تصح إلا في معلوم. والثالث طلب الخصومة والتملك، وسنذكر كيفيته من بعد إن شاء الله تعالى. قال: "ولا تسقط الشفعة بتأخير هذا الطلب عند أبي حنيفة وهو رواية عن أبي يوسف. وقال محمد: إن تركها شهرا بعد الإشهاد بطلت" وهو قول زفر، معناه: إذا تركها من غير عذر. وعن أبي يوسف أنه إذا ترك المخاصمة في مجلس من مجالس القاضي تبطل شفعته؛ لأنه إذا مضى مجلس من مجالسه ولم يخاصم فيه اختيارا دل ذلك على إعراضه وتسليمه. وجه قول محمد أنه لو لم يسقط بتأخير الخصومة منه أبدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 يتضرر به المشتري؛ لأنه لا يمكنه التصرف حذار نقضه من جهة الشفيع فقدرناه بشهر؛ لأنه آجل وما دونه عاجل على ما مر في الأيمان. ووجه قول أبي حنيفة وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى أن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط إلا بإسقاطه وهو التصريح بلسانه كما في سائر الحقوق، وما ذكر من الضرر يشكل بما إذا كان غائبا، ولا فرق في حق المشتري بين الحضر والسفر، ولو علم أنه لم يكن في البلد قاض لا تبطل شفعته بالتأخير بالاتفاق؛ لأنه لا يتمكن من الخصومة إلا عند القاضي فكان عذرا. قال: "وإذا تقدم الشفيع إلى القاضي فادعى الشراء وطلب الشفعة سأل القاضي المدعى عليه، فإن اعترف بملكه الذي يشفع به وإلا كلفه بإقامة البينة" لأن اليد ظاهر محتمل فلا تكفي لإثبات الاستحقاق. قال رحمه الله: يسأل القاضي المدعي قبل أن يقبل على المدعى عليه عن موضع الدار وحدودها؛ لأنه ادعى حقا فيها فصار كما إذا ادعى رقبتها، وإذا بين ذلك يسأله عن سبب شفعته لاختلاف أسبابها، فإن قال: أنا شفيعها بدار لي تلاصقها الآن تم دعواه على ما قاله الخصاف. وذكر في الفتاوى تحديد هذه الدار التي يشفع بها أيضا، وقد بيناه في الكتاب الموسوم بالتجنيس والمزيد. قال: "فإن عجز عن البينة استحلف المشتري بالله ما يعلم أنه مالك للذي ذكره مما يشفع به" معناه بطلب الشفيع؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه، ثم هو استحلاف على ما في يده فيحلف على العلم "فإن نكل أو قامت للشفيع بينة ثبت ملكه في الدار التي يشفع بها وثبت الجوار فبعد ذلك سأله القاضي" يعني المدعى عليه "هل ابتاع أم لا، فإن أنكر الابتياع قيل للشفيع أقم البينة"؛ لأن الشفعة لا تجب إلا بعد ثبوت البيع وثبوته بالحجة. قال: "فإن عجز عنها استحلف المشتري بالله ما ابتاع أو بالله ما استحق عليه في هذه الدار شفعة من الوجه الذي ذكره" فهذا على الحاصل، والأول على السبب وقد استوفينا الكلام فيه في الدعوى، وذكرنا الاختلاف بتوفيق الله، وإنما يحلفه على البتات؛ لأنه استحلاف فعل نفسه وعلى ما في يده أصالة، وفي مثله يحلف على البتات. قال: "وتجوز المنازعة في الشفعة وإن لم يحضر الشفيع الثمن إلى مجلس القاضي، فإذا قضى القاضي بالشفعة لزمه إحضار الثمن" وهذا ظاهر رواية الأصل. وعن محمد أنه لا يقضي حتى يحضر الشفيع الثمن، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة؛ لأن الشفيع عساه يكون مفلسا فيتوقف القضاء على إحضاره حتى لا يتوي مال المشتري، وجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الظاهر أنه لا ثمن له عليه قبل القضاء ولهذا لا يشترط تسليمه، فكذا لا يشترط إحضاره "وإذا قضى له بالدار فللمشتري أن يحبسه حتى يستوفي الثمن" وينفذ القضاء عند محمد أيضا؛ لأنه فصل مجتهد فيه ووجب عليه الثمن فيحبس فيه، فلو أخر أداء الثمن بعدما قال له ادفع الثمن إليه لا تبطل شفعته؛ لأنها تأكدت بالخصومة عند القاضي. قال: "وإن أحضر الشفيع البائع، والمبيع في يده فله أن يخاصمه في الشفعة؛ لأن اليد له وهي يد مستحقة" ولا يسمع القاضي البينة حتى يحضر المشتري فيفسخ البيع بمشهد منه ويقضي بالشفعة على البائع ويجعل العهدة عليه؛ لأن الملك للمشتري واليد للبائع، والقاضي يقضي بهما للشفيع فلا بد من حضورهما، بخلاف ما إذا كانت الدار قد قبضت حيث لا يعتبر حضور البائع؛ لأنه صار أجنبيا إذ لا يبقى له يد ولا ملك. وقوله فيفسخ البيع بمشهد منه إشارة إلى علة أخرى وهي أن البيع في حق المشتري إذا كان ينفسخ لا بد من حضوره ليقضي بالفسخ عليه، ثم وجه هذا الفسخ المذكور أن ينفسخ في حق الإضافة لامتناع قبض المشتري بالأخذ بالشفعة وهو يوجب الفسخ، إلا أنه يبقى أصل البيع لتعذر انفساخه؛ لأن الشفعة بناء عليه، ولكنه تتحول الصفقة إليه ويصير كأنه هو المشتري منه فلهذا يرجع بالعهدة على البائع، بخلاف ما إذا قبضه المشتري فأخذه من يده حيث تكون العهدة عليه؛ لأنه ملكه بالقبض. وفي الوجه الأول امتنع قبض المشتري وأنه يوجب الفسخ، وقد طولنا الكلام فيه في كفاية المنتهى بتوفيق الله تعالى. قال: "ومن اشترى دارا لغيره فهو الخصم للشفيع"؛ لأنه هو العاقد، والأخذ بالشفعة من حقوق العقد فيتوجه عليه. قال: "إلا أن يسلمها إلى الموكل" لأنه لم يبق له يد ولا ملك فيكون الخصم هو الموكل، وهذا؛ لأن الوكيل كالبائع من الموكل على ما عرف فتسليمه إليه كتسليم البائع إلى المشتري فتصير الخصومة معه، إلا أنه مع ذلك قائم مقام الموكل فيكتفي بحضوره في الخصومة قبل التسليم، وكذا إذا كان البائع وكيل الغائب فللشفيع أن يأخذها منه إذا كانت في يده؛ لأنه عاقد وكذا إذا كان البائع وصيا لميت فيما يجوز بيعه لما ذكرنا. قال: "وإذا قضى القاضي للشفيع بالدار ولم يكن رآها فله خيار الرؤية، وإن وجد بها عيبا فله أن يردها وإن كان المشتري شرط البراءة منه" لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء؛ ألا يرى أنه مبادلة المال بالمال فيثبت فيه الخياران كما في الشراء، ولا يسقط بشرط البراءة من المشتري ولا برؤيته؛ لأنه ليس بنائب عنه فلا يملك إسقاطه. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 فصل: في الاختلاف قال: "وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول المشتري"؛ لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عليه عند نقد الأقل وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه، ولا يتحالفان؛ لأن الشفيع إن كان يدعي عليه استحقاق الدار فالمشتري لا يدعي عليه شيئا لتخيره بين الترك والأخذ ولا نص هاهنا، فلا يتحالفان. قال: "ولو أقاما البينة فالبينة للشفيع عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: البينة بينة المشتري؛ لأنها أكثر إثباتا" فصار كبينة البائع والوكيل والمشتري من العدو. ولهما أنه لا تنافي بينهما فيجعل كأن الموجود بيعان، وللشفيع أن يأخذ بأيهما شاء وهذا بخلاف البائع مع المشتري؛ لأنه لا يتوالى بينهما عقدان إلا بانفساخ الأول وهاهنا الفسخ لا يظهر في حق الشفيع وهو التخريج لبينة الوكيل؛ لأنه كالبائع والموكل كالمشتري منه، كيف وأنها ممنوعة على ما روي عن محمد رحمه الله. وأما المشتري من العدو فقلنا ذكر في السير الكبير أن البينة بينة المالك القديم. فلنا أن نمنع وبعد التسليم نقول: لا يصح الثاني هنالك إلا بفسخ الأول، أما هاهنا فبخلافه، ولأن بينة الشفيع ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة والبينات للإلزام. قال: "وإذا ادعى المشتري ثمنا وادعى البائع أقل منه ولم يقبض الثمن أخذها الشفيع بما قاله البائع وكان ذلك حطا عن المشتري"؛ وهذا لأن الأمر إن كان على ما قال البائع فقد وجبت الشفعة به، وإن كان على ما قال المشتري فقد حط البائع بعض الثمن، وهذا الحط يظهر في حق الشفيع على ما نبين إن شاء الله تعالى، ولأن التملك على البائع بإيجابه فكان القول قوله في مقدار الثمن ما بقيت مطالبته فيأخذ الشفيع بقوله. قال: "ولو ادعى البائع الأكثر يتحالفان ويترادان، وأيهما نكل ظهر أن الثمن ما يقوله الآخر فيأخذها الشفيع بذلك، وإن حلفا يفسخ القاضي البيع على ما عرف ويأخذها الشفيع بقول البائع"؛ لأن فسخ البيع لا يوجب بطلان حق الشفيع. قال: "وإن كان قبض الثمن أخذ بما قال المشتري إن شاء ولم يلتفت إلى قول البائع"؛ لأنه لما استوفى الثمن انتهى حكم العقد، وخرج هو من البين وصار هو كالأجنبي وبقي الاختلاف بين المشتري والشفيع، وقد بيناه. ولو كان نقد الثمن غير ظاهر فقال البائع بعت الدار بألف وقبضت الثمن يأخذها الشفيع بألف؛ لأنه لما بدأ بالإقرار بالبيع تعلقت الشفعة به، فبقوله بعد ذلك قبضت الثمن يريد إسقاط حق الشفيع فيرد عليه. ولو قال قبضت الثمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 وهو ألف لم يلتفت إلى قوله؛ لأن بالأول وهو الإقرار بقبض الثمن خرج من البين وسقط اعتبار قوله في مقدار الثمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 فصل: فيما يؤخذ به المشفوع قال: "وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن يسقط ذلك عن الشفيع، وإن حط جميع الثمن لم يسقط عن الشفيع" لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد فيظهر في حق الشفيع؛ لأن الثمن ما بقي، وكذا إذا حط بعدما أخذها الشفيع بالثمن يحط عن الشفيع حتى يرجع عليه بذلك القدر، بخلاف حط الكل؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد بحال وقد بيناه في البيوع. "وإن زاد المشتري للبائع لم تلزم الزيادة في حق الشفيع"؛ لأن في اعتبار الزيادة ضررا بالشفيع لاستحقاقه الأخذ بما دونها. بخلاف الحط؛ لأن فيه منفعة له، ونظير الزيادة إذا جدد العقد بأكثر من الثمن الأول لم يلزم الشفيع حتى كان له أن يأخذها بالثمن الأول لما بينا كذا هذا. قال: "ومن اشترى دارا بعرض أخذها الشفيع بقيمته"؛ لأنه من ذوات القيم "وإن اشتراها بمكيل أو موزون أخذها بمثله"؛ لأنهما من ذوات الأمثال. وهذا لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما تملكه فيراعى بالقدر الممكن كما في الإتلاف والعددي المتقارب من ذوات الأمثال. "وإن باع عقارا بعقار أخذ الشفيع كل واحد منهما بقيمة الآخر"؛ لأنه بدله وهو ذوات القيم فيأخذه بقيمته. قال: "وإذا باع بثمن مؤجل فللشفيع الخيار، إن شاء أخذها بثمن حال، وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل ثم يأخذها، وليس له أن يأخذها في الحال بثمن مؤجل" وقال زفر: له ذلك، وهو قول الشافعي في القديم؛ لأن كونه مؤجلا وصف في الثمن كالزيافة والأخذ بالشفعة به فيأخذ بأصله ووصفه كما في الزيوف. ولنا أن الأجل إنما يثبت بالشرط، ولا شرط فيما بين الشفيع والبائع أو المبتاع، وليس الرضا به في حق المشتري رضا به في حق الشفيع لتفاوت الناس في الملاءة، وليس الأجل وصف الثمن؛ لأنه حق المشتري؛ ولو كان وصفا له لتبعه فيكون حقا للبائع كالثمن وصار كما إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم ولاه غيره لا يثبت الأجل إلا بالذكر كذا هذا، ثم إن أخذها بثمن حال من البائع سقط الثمن عن المشتري لما بينا من قبل، وإن أخذها من المشتري رجع البائع على المشتري بثمن مؤجل كما كان؛ لأن الشرط الذي جرى بينهما لم يبطل بأخذ الشفيع فبقي موجبه فصار كما إذا باعه بثمن حال وقد اشتراه مؤجلا، وإن اختار الانتظار له ذلك؛ لأن له أن لا يلتزم زيادة الضرر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 حيث النقدية. وقوله في الكتاب وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل مراده الصبر عن الأخذ، أما الطلب عليه في الحال حتى لو سكت عنه بطلت شفعته عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لقول أبي يوسف الآخر؛ لأن حق الشفعة إنما يثبت بالبيع، والأخذ يتراخى عن الطلب، وهو متمكن من الأخذ في الحال بأن يؤدي الثمن حالا فيشترط الطلب عند العلم بالبيع. قال: "وإن اشترى ذمي بخمر أو خنزير دارا وشفيعها ذمي أخذها بمثل الخمر وقيمة الخنزير" لأن هذا البيع مقضي بالصحة فيما بينهم، وحق الشفعة يعم المسلم والذمي، والخمر لهم كالخل لنا والخنزير كالشاة، فيأخذ في الأول بالمثل والثاني بالقيمة. قال: "وإن كان شفيعها مسلما أخذها بقيمة الخمر والخنزير" أما الخنزير فظاهر، وكذا الخمر لامتناع التسلم والتسليم في حق المسلم فالتحق بغير المثلي، وإن كان شفيعها مسلما وذميا أخذ المسلم نصفها بنصف قيمة الخمر والذمي نصفها بنصف مثل الخمر اعتبارا للبعض بالكل، فلو أسلم الذمي أخذها بنصف قيمة الخمر لعجزه عن تمليك الخمر وبالإسلام يتأكد حقه لا أن يبطل، فصار كما إذا اشتراها بكر من رطب فحضر الشفيع بعد انقطاعه يأخذ بقيمة الرطب كذا هذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 فصل: وإذا بنى المشتري فيها أو غرس الخ ... فصل: قال: "وإذا بنى المشتري فيها أو غرس ثم قضي للشفيع بالشفعة فهو بالخيار، إن شاء أخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس، وإن شاء كلف المشتري قلعه" وعن أبي يوسف أنه لا يكلف القلع ويخير بين أن يأخذ بالثمن وقيمة البناء والغرس وبين أن يترك، وبه قال الشافعي، إلا أن عنده له أن يقلع ويعطي قيمة البناء لأبي يوسف أنه محق في البناء لأنه بناه على أن الدار ملكه، والتكليف بالقلع من أحكام العدوان وصار كالموهوب له والمشتري شراء فاسدا، وكما إذا زرع المشتري فإنه لا يكلف القلع، وهذا لأن في إيجاب الأخذ بالقيمة دفع أعلى الضررين بتحمل الأدنى فيصار إليه. ووجه ظاهر الرواية أنه بنى في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير تسليط من جهة من له الحق فينقض كالراهن إذا بنى في المرهون، وهذا لأن حقه أقوى من حق المشتري لأنه يتقدم عليه وهذا ينقض بيعه وهبته وغيره من تصرفاته، بخلاف الهبة والشراء الفاسد عند أبي حنيفة، لأنه حصل بتسليط من جهة من له الحق، ولأن حق الاسترداد فيهما ضعيف ولهذا لا يبقى بعد البناء، وهذا الحق يبقى فلا معنى لإيجاب القيمة كما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 الاستحقاق، والزرع يقلع قياسا. وإنما لا يقلع استحسانا لأن له نهاية معلومة ويبقى بالأجر وليس فيه كثير ضرر، وإن أخذ بالقيمة يعتبر قيمته مقلوعا كما بيناه في الغصب. "ولو أخذها الشفيع فبنى فيها أو غرس ثم استحقت رجع بالثمن" لأنه تبين أنه أخذه بغير حق ولا يرجع بقيمة البناء والغرس، لا على البائع إن أخذها منه، ولا على المشتري إن أخذها منه وعن أبي يوسف أنه يرجع لأنه متملك عليه فنزلا منزلة البائع والمشتري، والفرق على ما هو المشهور أن المشتري مغرور من جهة البائع ومسلط عليه من جهته، ولا غرور ولا تسليط في حق الشفيع من المشتري لأنه مجبور عليه. قال: "وإذا انهدمت الدار أو احترق بناؤها أو جف شجر البستان بغير فعل أحد فالشفيع بالخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن" لأن البناء والغرس تابع حتى دخلا في البيع من غير ذكر فلا يقابلهما شيء من الثمن ما لم يصر مقصودا ولهذا جاز بيعها مرابحة بكل الثمن في هذه الصورة، بخلاف ما إذا غرق نصف الأرض حيث يأخذ الباقي بحصته لأن الفائت بعض الأصل قال: "وإن شاء ترك" لأن له أن يمتنع عن تملك الدار بماله. قال: "وإن نقض المشتري البناء قيل للشفيع إن شئت فخذ العرصة بحصتها، وإن شئت فدع" لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابله شيء من الثمن، بخلاف الأول لأن الهلاك بآفة سماوية "وليس للشفيع أن يأخذ النقض" لأنه صار مفصولا فلم يبق تبعا. قال: "ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها" ومعناه إذا ذكر الثمر في البيع لأنه لا يدخل من غير ذكر، وهذا الذي ذكره استحسان وفي القياس لا يأخذه لأنه ليس بتبع؛ ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار. وجه الاستحسان أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار، وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع. قال: "وكذلك إن ابتاعها وليس في النخيل ثمر فأثمر في يد المشتري" يعني يأخذه الشفيع لأنه مبيع تبعا لأن البيع سرى إليه على ما عرف في ولد المبيع. قال: "فإن جده المشتري ثم جاء الشفيع لا يأخذ الثمر في الفصلين جميعا" لأنه لم يبق تبعا للعقار وقت الأخذ حيث صار مفصولا عنه فلا يأخذه. قال في الكتاب "وإن جده المشتري سقط عن الشفيع حصته" قال رضي الله عنه "وهذا جواب الفصل الأول" لأنه دخل في البيع مقصودا فيقابله شيء من الثمن "أما في الفصل الثاني يأخذ ما سوى الثمر بجميع الثمن" لأن الثمر لم يكن موجودا عند العقد فلا يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 مبيعا إلا تبعا فلا يقابله شيء من الثمن والله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب قال: "الشفعة واجبة في العقار وإن كان مما لا يقسم" وقال الشافعي: لا شفعة فيما لا يقسم، لأن الشفعة إنما وجبت دفعا لمؤنة القسمة، وهذا لا يتحقق فيما لا يقسم ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة في كل شيء عقار أو ربع" إلى غير ذلك من العمومات، ولأن الشفعة سببها الاتصال في الملك والحكمة دفع ضرر سوء الجوار على ما مر، وأنه ينتظم القسمين ما يقسم وما لا يقسم وهو الحمام والرحى والبئر والطريق. قال: "ولا شفعة في العروض والسفن" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا شفعة إلا في ربع أو حائط" وهو حجة على مالك في إيجابها في السفن، ولأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام، والملك في المنقول لا يدوم حسب دوامه في العقار فلا يلحق به وفي بعض نسخ المختصر ولا شفعة في البناء والنخل إذا بيعت دون العرصة وهو صحيح مذكور في الأصل، لأنه لا قرار له فكان نقليا، وهذا بخلاف العلو حيث يستحق بالشفعة ويستحق به الشفعة في السفل إذا لم يكن طريق العلو فيه، لأنه بما له من حق القرار التحق بالعقار. قال: "والمسلم والذمي في الشفعة سواء" للعمومات ولأنهما يستويان في السبب والحكمة فيستويان في الاستحقاق، ولهذا يستوي فيه الذكر والأنثى والصغير والكبير والباغي والعادل والحر والعبد إذا كان مأذونا أو مكاتبا. قال: "وإذا ملك العقار بعوض هو مال وجبت فيه الشفعة" لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع فيه وهو التملك بمثل ما تملك به المشتري صورة أو قيمة على ما مر. قال: "ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا" لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا، وهذه الأعواض ليست بأموال، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع وعند الشافعي تجب فيها الشفعة لأن هذه الأعواض متقومة عنده فأمكن الأخذ بقيمتها إن تعذر بمثلها كما في البيع بالعرض، بخلاف الهبة لأنه لا عوض فيها رأسا وقوله يتأتى فيما إذا جعل شقصا من دار مهرا أو ما يضاهيه لأنه لا شفعة عنده إلا فيه ونحن نقول: إن تقوم منافع البضع في النكاح وغيرها بعقد الإجارة ضروري فلا يظهر في حق الشفعة، وكذا الدم والعتق غير متقوم لأن القيمة ما يقوم مقام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 غيره في المعنى الخاص المطلوب ولا يتحقق فيهما، وعلى هذا إذا تزوجها بغير مهر ثم فرض لها الدار مهرا لأنه بمنزلة المفروض في العقد في كونه مقابلا بالبضع، بخلاف ما إذا باعها بمهر المثل أو بالمسمى لأنه مبادلة مال بمال، ولو تزوجها على دار على أن ترد عليه ألفا فلا شفعة في جميع الدار عند أبي حنيفة وقالا: تجب في حصة الألف لأنه مبادلة مالية في حقه. وهو يقول معنى البيع فيه تابع ولهذا ينعقد بلفظ النكاح ولا يفسد بشرط النكاح فيه، ولا شفعة في الأصل فكذا في التبع، ولأن الشفعة شرعت في المبادلة المالية المقصودة حتى أن المضارب إذا باع دارا وفيها ربح لا يستحق رب المال الشفعة في حصة الربح لكونه تابعا فيه. قال: "أو يصالح عليها بإنكار، فإن صالح عليها بإقرار وجبت الشفعة" قال رضي الله عنه: هكذا ذكر في أكثر نسخ المختصر، والصحيح أو يصالح عنها بإنكار مكان قوله أو يصالح عليها، لأنه إذا صالح عنها بإنكار بقي الدار في يده فهو يزعم أنها لم تزل عن ملكه، وكذا إذا صالح عنها بسكوت لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه، كما إذا أنكر صريحا، بخلاف ما إذا صالح عنها بإقرار لأنه معترف بالملك للمدعي، وإنما استفاده بالصلح فكان مبادلة مالية. أما إذا صالح عليها بإقرار أو سكوت أو إنكار وجبت الشفعة في جميع ذلك لأنه أخذها عوضا عن حقه في زعمه إذا لم يكن من جنسه فيعامل بزعمه. قال: "ولا شفعة في هبة لما ذكرنا، إلا أن تكون بعوض مشروط" لأنه بيع انتهاء، ولا بد من القبض وأن لا يكون الموهوب ولا عوضه شائعا لأنه هبة ابتداء وقد قررناه في كتاب الهبة، بخلاف ما إذا لم يكن العوض مشروطا في العقد لأن كل واحد منهما هبة مطلقة، إلا أنه أثيب منها فامتنع الرجوع. قال: "ومن باع بشرط الخيار فلا شفعة للشفيع" لأنه يمنع زوال الملك عن البائع "فإن أسقط الخيار وجبت الشفعة" لأنه زال المانع عن الزوال ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح لأن البيع يصير سببا لزوال الملك عند ذلك. قال: "وإن اشترى بشرط الخيار وجب الشفعة" لأنه لا يمنع زوال الملك عن البائع بالاتفاق، والشفعة تبتنى عليه على ما مر، وإذا أخذها في الثلث وجب البيع لعجز المشتري عن الرد، ولا خيار للشفيع لأنه يثبت بالشرط، وهو للمشتري دون الشفيع، وإن بيعت دار إلى جنبها والخيار لأحدهما فله الأخذ بالشفعة أما للبائع فظاهر لبقاء ملكه في التي يشفع بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 وكذا إذا كان للمشتري وفيه إشكال أوضحناه في البيوع فلا نعيده، وإذا أخذها كان إجازة منه للبيع، بخلاف ما إذا اشتراها ولم يرها حيث لا يبطل خياره بأخذ ما بيع بجنبها بالشفعة، لأن خيار الرؤية لا يبطل بصريح الإبطال فكيف بدلالته، ثم إذا حضر شفيع الدار الأولى له أن يأخذها دون الثانية لانعدام ملكه في الأولى حين بيعت الثانية. قال: "ومن ابتاع دارا شراء فاسدا فلا شفعة فيها" أما قبل القبض فلعدم زوال ملك البائع، وبعد القبض لاحتمال الفسخ، وحق الفسخ ثابت بالشرع لدفع الفساد، وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد فلا يجوز، بخلاف ما إذا كان الخيار للمشتري في البيع الصحيح لأنه صار أخص به تصرفا وفي البيع الفاسد ممنوع عنه. قال: "فإن سقط حق الفسخ وجبت الشفعة لزوال المانع، وإن بيعت دار بجنبها وهي في يد البائع بعد فله الشفعة لبقاء ملكه، وإن سلمها إلى المشتري فهو شفيعها لأن الملك له" ثم إن سلم البائع قبل الحكم بالشفعة له بطلت شفعته كما إذا باع، بخلاف ما إذا سلم بعده لأن بقاء ملكه في الدار التي يشفع بها بعد الحكم بالشفعة ليس بشرط فبقيت المأخوذة بالشفعة على ملكه، وإن استردها البائع من المشتري قبل الحكم بالشفعة له بطلت لانقطاع ملكه عن التي يشفع بها قبل الحكم بالشفعة، وإن استردها بعد الحكم بقيت الثانية على ملكه لما بينا. قال: "وإذا اقتسم الشركاء العقار فلا شفعة لجارهم بالقسمة" لأن القسمة فيها معنى الإفراز ولهذا يجري فيها الجبر؛ والشفعة ما شرعت إلا في المبادلة المطلقة. قال: "وإذا اشترى دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم ردها المشتري بخيار رؤية أو شرط أو بعيب بقضاء قاض فلا شفعة للشفيع" لأنه فسخ من كل وجه فعاد إلى قديم ملكه والشفعة في إنشاء العقد، ولا فرق في هذا بين القبض وعدمه. قال: "وإن ردها بعيب بغير قضاء أو تقايلا البيع فللشفيع الشفعة" لأنه فسخ في حقهما لولايتهما على أنفسهما وقد قصدا الفسخ وهو بيع جديد في حق ثالث لوجود حد البيع وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي والشفيع ثالث، ومراده الرد بالعيب بعد القبض لأن قبله فسخ من الأصل وإن كان بغير قضاء على ما عرف؛ وفي الجامع الصغير: ولا شفعة في قسمة ولا خيار رؤية، وهو بكسر الراء، ومعناه: لا شفعة بسبب الرد بخيار الرؤية لما بيناه، ولا تصح الرواية بالفتح عطفا على الشفعة لأن الرواية محفوظة في كتاب القسمة أنه يثبت في القسمة خيار الرؤية وخيار الشرط لأنهما يثبتان لخلل في الرضا فيما يتعلق لزومه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 بالرضا، وهذا المعنى موجود في القسمة، والله سبحانه أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 باب ما يبطل به الشفعة مدخل ... باب ما يبطل به الشفعة قال: "وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته" لإعراضه عن الطلب وهذا لأن الإعراض إنما يتحقق حالة الاختيار وهي عند القدرة. قال: "وكذلك إن أشهد في المجلس ولم يشهد على أحد المتبايعين ولا عند العقار" وقد أوضحناه فيما تقدم. قال: "وإن صالح من شفعته على عوض بطلت شفعته ورد العوض" لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل، بل هو مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه، ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فبالفاسد أولى فيبطل الشرط ويصح الإسقاط وكذا لو باع شفعته بمال لما بينا، بخلاف القصاص لأنه حق متقرر، وبخلاف الطلاق والعتاق لأنه اعتياض عن ملك في المحل ونظيره إذا قال للمخيرة اختاريني بألف أو قال العنين لامرأته اختاري ترك الفسخ بألف فاختارت سقط الخيار ولا يثبت العوض، والكفالة بالنفس في هذا بمنزلة الشفعة في رواية، وفي أخرى: لا تبطل الكفالة ولا يجب المال وقيل هذه رواية في الشفعة، وقيل هي في الكفالة خاصة وقد عرف في موضعه قال: "وإذا مات الشفيع بطلت شفعته" وقال الشافعي: تورث عنه. قال رضي الله عنه: معناه إذا مات بعد البيع قبل القضاء بالشفعة، أما إذا مات بعد قضاء القاضي قبل نقد الثمن وقبضه فالبيع لازم لورثته، وهذا نظير الاختلاف في خيار الشرط وقد مر في البيوع، ولأنه بالموت يزول ملكه عن داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع وقيامه وقت البيع وبقاؤه للشفيع إلى وقت القضاء شرطا فلا يستوجب الشفعة بدونه "وإن مات المشتري لم تبطل" لأن المستحق باق ولم يتغير سبب حقه، ولا يباع في دين المشتري ووصيته، ولو باعه القاضي أو الوصي أو أوصى المشتري فيها بوصية فللشفيع أن يبطله ويأخذ الدار لتقدم حقه ولهذا ينقض تصرفه في حياته. قال: "وإذا باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة بطلت شفعته" لزوال سبب الاستحقاق قبل التملك وهو الاتصال بملكه ولهذا يزول به وإن لم يعلم بشراء المشفوعة كما إذا سلم صريحا أو إبراء عن الدين وهو لا يعلم به، وهذا بخلاف ما إذا باع الشفيع داره بشرط الخيار له لأنه يمنع الزوال فبقي الاتصال. قال: "ووكيل البائع إذا باع وهو الشفيع فلا شفعة له، ووكيل المشتري إذا ابتاع فله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 الشفعة" والأصل أن من باع أو بيع لا شفعة له، ومن اشترى أو ابتيع له فله الشفعة، لأن الأول بأخذ المشفوعة يسعى في نقض ما تم من جهته وهو البيع، والمشتري لا ينقض شراؤه بالأخذ بالشفعة لأنه مثل الشراء "وكذلك لو ضمن الدرك عن البائع وهو الشفيع فلا شفعة له" وكذلك إذا باع وشرط الخيار لغيره فأمضى المشروط له الخيار البيع وهو الشفيع فلا شفعة له، لأن البيع تم بإمضائه، بخلاف جانب المشروط له الخيار من جانب المشتري. قال: "وإذا بلغ الشفيع أنها بيعت بألف درهم فسلم ثم علم أنها بيعت بأقل أو بحنطة أو شعير قيمتها ألف أو أكثر فتسليمه باطل وله الشفعة" لأنه إنما سلم لاستكثار الثمن في الأول ولتعذر الجنس الذي بلغه وتيسر ما بيع به في الثاني إذ الجنس مختلف، وكذا كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب، بخلاف ما إذا علم أنها بيعت بعرض، قيمته ألف أو أكثر، لأن الواجب فيه القيمة وهي دراهم أو دنانير، وإن بان أنها بيعت بدنانير قيمتها ألف فلا شفعة له، وكذا إذا كانت أكثر. وقال زفر: له الشفعة لاختلاف الجنس ولنا أن الجنس متحد في حق الثمنية. قال: "وإذا قيل له إن المشتري فلان فسلم الشفعة ثم علم أنه غيره فله الشفعة" لتفاوت الجوار "ولو علم أن المشتري هو مع غيره فله أن يأخذ نصيب غيره" لأن التسليم لم يوجد في حقه "ولو بلغه شراء النصف فسلم ثم ظهر شراء الجميع فله الشفعة" لأن التسليم لضرر الشركة ولا شركة، وفي عكسه لا شفعة في ظاهر الرواية لأن التسليم في الكل تسليم في أبعاضه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 فصل: وإذا باع دارا إلا مقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع فلا شفعة له ... فصل: قال: "وإذا باع دارا إلا مقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع فلا شفعة له" لانقطاع الجوار، وهذه حيلة، وكذا إذا وهب منه هذا المقدار وسلمه إليه لما بينا. قال: "وإذا ابتاع منها سهما بثمن ثم ابتاع بقيتها فالشفعة للجار في السهم الأول دون الثاني" لأن الشفيع جار فيهما، إلا أن المشتري في الثاني شريك فيتقدم عليه، فإن أراد الحيلة ابتاع السهم بالثمن إلا درهما مثلا والباقي بالباقي، وإن ابتاعها بثمن ثم دفع إليه ثوبا عوضا عنه فالشفعة بالثمن دون الثوب لأنه عقد آخر، والثمن هو العوض عن الدار. قال رضي الله عنه: وهذه حيلة أخرى تعم الجوار والشركة فيباع بأضعاف قيمته ويعطى بها ثوب بقدر قيمته، إلا أنه لو استحقت المشفوعة يبقى كل الثمن على مشتري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 الثوب لقيام البيع الثاني فيتضرر به والأوجه أن يباع بالدراهم الثمن دينار حتى إذا استحق المشفوع يبطل الصرف فيجب رد الدينار لا غير. قال: "ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف وتكره عند محمد" لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه ولأبي يوسف أنه منع عن إثبات الحق فلا يعد ضررا، وعلى هذا الخلاف الحيلة في إسقاط الزكاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 مسائل متفرقة قال: "وإذا اشترى خمسة نفر دارا من رجل فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم، وإن اشتراها رجل من خمسة أخذها كلها أو تركها" والفرق أن في الوجه الثاني بأخذ البعض تتفرق الصفقة على المشتري فيتضرر به زيادة الضرر، وفي الوجه الأول يقوم الشفيع مقام أحدهم فلا تتفرق الصفقة، ولا فرق في هذا بين ما إذا كان قبل القبض أو بعده هو الصحيح، إلا أن قبل القبض لا يمكنه أخذ نصيب أحدهم إذا نقد ما عليه ما لم ينقد الآخر حصته كي لا يؤدي إلى تفريق اليد على البائع بمنزلة أحد المشتريين، بخلاف ما بعد القبض لأنه سقطت يد البائع، وسواء سمى لكل بعض ثمنا أو كان الثمن جملة، لأن العبرة في هذا لتفريق الصفقة لا للثمن، وهاهنا تفريعات ذكرناها في كفاية المنتهى. قال: "ومن اشترى نصف دار غير مقسوم فقاسمه البائع أخذ الشفيع النصف الذي صار للمشتري أو يدع" لأن القسمة من تمام القبض لما فيه من تكميل الانتفاع ولهذا يتم القبض بالقسمة في الهبة، والشفيع لا ينقض القبض وإن كان له نفع فيه بعود العهدة على البائع، فكذا لا ينقض ما هو من تمامه، بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصيبه من الدار المشتركة وقاسم المشتري الذي لم يبع حيث يكون للشفيع نقضه، لأن العقد ما وقع مع الذي قاسم فلم تكن القسمة من تمام القبض الذي هو حكم العقد بل هو تصرف بحكم الملك فينقضه الشفيع كما ينقض بيعه وهبته، ثم إطلاق الجواب في الكتاب يدل على أن الشفيع يأخذ النصف الذي صار للمشتري في أي جانب كان وهو المروي عن أبي يوسف، لأن المشتري لا يملك إبطال حقه بالقسمة وعن أبي حنيفة أنه إنما يأخذه إذا وقع في جانب الدار التي يشفع بها لأنه لا يبقى جارا فيما يقع في الجانب الآخر. قال: "ومن باع دارا وله عبد مأذون عليه دين فله الشفعة، وكذا إذا كان العبد هو البائع فلمولاه الشفعة" لأن الأخذ بالشفعة تملك بالثمن فينزل منزلة الشراء، وهذا لأنه مفيد لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 يتصرف للغرماء، بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين لأنه يبيعه لمولاه، ولا شفعة لمن يبيع له. قال: "وتسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد وزفر رحمهما الله: هو على شفعته إذا بلغ" قالوا: وعلى هذا الخلاف إذا بلغهما شراء دار بجوار دار الصبي فلم يطلبا الشفعة، وعلى هذا الخلاف تسليم الوكيل بطلب الشفعة في رواية كتاب الوكالة وهو الصحيح لمحمد وزفر أنه حق ثابت للصغير فلا يملكان إبطاله كديته وقوده، ولأنه شرع لدفع الضرر فكان إبطاله إضرارا به ولهما أنه في معنى التجارة فيملكان تركه؛ ألا ترى أن من أوجب بيعا للصبي صح رده من الأب والوصي، ولأنه دائر بين النفع والضرر، وقد يكون النظر في تركه ليبقى الثمن على ملكه والولاية نظرية فيملكانه وسكوتهما كإبطالهما لكونه دليل الإعراض، وهذا إذا بيعت بمثل قيمتها، فإن بيعت بأكثر من قيمتها بما لا يتغابن الناس فيه قيل جاز التسليم بالإجماع لأنه تمحض نظرا وقيل لا يصح بالاتفاق لأنه لا يملك الأخذ فلا يملك التسليم كالأجنبي، وإن بيعت بأقل من قيمتها محاباة كثيرة، فعن أبي حنيفة أنه لا يصح التسليم منهما أيضا ولا رواية عن أبي يوسف، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 كتاب القسمة ينبغي للقاضي أن ينصب قاسما مدخل ... كتاب القسمة القسمة في الأعيان المشتركة مشروعة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام باشرها في المغانم والمواريث، وجرى التوارث بها من غير نكير، ثم هي لا تعرى عن معنى المبادلة، لأن ما يجتمع لأحدهما بعضه كان له وبعضه كان لصاحبه فهو يأخذه عوضا عما بقي من حقه في نصيب صاحبه فكان مبادلة وإفرازا، والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، حتى كان لأحدهما أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه، ولو اشترياه فاقتسماه يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بنصف الثمن. ومعنى المبادلة هو الظاهر في الحيوانات والعروض للتفاوت حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه عند غيبة الآخر. ولو اشترياه فاقتسماه لا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بعد القسمة، إلا أنها إذا كانت من جنس واحد أجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء لأن فيه معنى الإفراز لتقارب المقاصد والمبادلة مما يجري فيه الجبر كما في قضاء الدين، وهذا لأن أحدهم بطلب القسمة يسأل القاضي أن يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع الغير عن الانتفاع بملكه، فيجب على القاضي إجابته وإن كانت أجناسا مختلفة لا يجبر القاضي على قسمتها لتعذر المعادلة باعتبار فحش التفاوت في المقاصد، ولو تراضوا عليها جاز لأن الحق لهم. قال: "وينبغي للقاضي أن ينصب قاسما يرزقه من بيت المال ليقسم بين الناس بغير أجر" لأن القسمة من جنس عمل القضاء من حيث إنه يتم به قطع المنازعة فأشبه رزق القاضي، ولأن منفعة نصب القاسم تعم العامة فتكون كفايته في مالهم غرما بالغنم. قال: "فإن لم يفعل نصب قاسما يقسم بالأجر" معناه بأجر على المتقاسمين، لأن النفع لهم على الخصوص، وبقدر أجر مثله كي لا يتحكم بالزيادة، والأفضل أن يرزقه من بيت المال لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة. "ويجب أن يكون عدلا مأمونا عالما بالقسمة" لأنه من جنس عمل القضاء، ولأنه لا بد من القدرة وهي بالعلم، ومن الاعتماد على قوله وهو بالأمانة "ولا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد" معناه لا يجبرهم على أن يستأجروه لأنه لا جبر على العقود، ولأنه لو تعين لتحكم بالزيادة على أجر مثله "ولو اصطلحوا فاقتسموا جاز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي" لأنه لا ولاية لهم عليه. قال: "ولا يترك القسام يشتركون" كي لا تصير الأجرة غالية بتواكلهم، وعند عدم الشركة يتبادر كل منهم إليه خيفة الفوت فيرخص الأجر. قال: "وأجرة القسمة على عدد الرءوس عند أبي حنيفة، وقالا على قدر الأنصباء" لأنه مؤنة الملك فيتقدر بقدره كأجرة الكيال والوزان وحفر البئر المشتركة ونفقة المملوك المشترك ولأبي حنيفة أن الأجر مقابل بالتمييز، وأنه لا يتفاوت، وربما يصعب الحساب بالنظر إلى القليل، وقد ينعكس الأمر فيتعذر اعتباره فيتعلق الحكم بأصل التمييز، بخلاف حفر البئر لأن الأجر مقابل بنقل التراب وهو يتفاوت، والكيل والوزن إن كان للقسمة قيل هو على الخلاف، وإن لم يكن للقسمة فالأجر مقابل بعمل الكيل والوزن وهو يتفاوت وهو العذر لو أطلق ولا يفصل وعنه أنه على الطالب دون الممتنع لنفعه ومضرة الممتنع. قال: "وإذا حضر الشركاء عند القاضي وفي أيديهم دار أو ضيعة وادعوا أنهم ورثوها عن فلان لم يقسمها القاضي عند أبي حنيفة حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته وقال صاحباه: يقسمها باعترافهم، ويذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بقولهم وإن كان المال المشترك ما سوى العقار وادعوا أنه ميراث قسمه في قولهم جميعا، ولو ادعوا في العقار أنهم اشتروه قسمه بينهم" لهما أن اليد دليل الملك والإقرار أمارة الصدق ولا منازع لهم فيقسمه بينهم كما في المنقول الموروث والعقار المشترى، وهذا لأنه لا منكر ولا بينة إلا على المنكر فلا يفيد، إلا أنه يذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بإقرارهم ليقتصر عليهم ولا يتعداهم وله أن يقسم قضاء على الميت إذ التركة مبقاة على ملكه قبل القسمة، حتى لو حدثت الزيادة قبلها تنفذ وصاياه فيها وتقضى ديونه منها، بخلاف ما بعد القسمة، وإذا كانت قضاء على الميت فالإقرار ليس بحجة عليه فلا بد من البينة وهو مفيد، لأن بعض الورثة ينتصب خصما عن المورث. ولا يمتنع ذلك بإقراره كما في الوارث أو الوصي المقر بالدين فإنه يقبل البينة عليه مع إقراره، بخلاف المنقول لأن في القسمة نظرا للحاجة إلى الحفظ أما العقار فمحصن بنفسه، ولأن المنقول مضمون على من وقع في يده، ولا كذلك العقار عنده، وبخلاف المشترى لأن المبيع لا يبقى على ملك البائع وإن لم يقسم فلم تكن القسمة قضاء على الغير. قال: "وإن ادعوا الملك ولم يذكروا كيف انتقل إليهم قسمه بينهم" لأنه ليس في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 القسمة قضاء على الغير، فإنهم ما أقروا بالملك لغيرهم قال رضي الله عنه: هذه رواية كتاب القسمة. "وفي الجامع الصغير: أرض ادعاها رجلان وأقاما البينة أنها في أيديهما وأرادا القسمة لم يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما" لاحتمال أن يكون لغيرهما ثم قيل هو قول أبي حنيفة وقيل قول الكل، وهو الأصح لأن قسمة الحفظ في العقار غير محتاج إليه، وقسمة الملك تفتقر إلى قيامه ولا ملك فامتنع الجواز. قال: "وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة والدار في أيديهم ومعهم وارث غائب قسمها القاضي بطلب الحاضرين وينصب وكيلا يقبض نصيب الغائب، وكذا لو كان مكان الغائب صبي يقسم وينصب وصيا يقبض نصيبه" لأن فيه نظرا للغائب والصغير، ولا بد من إقامة البينة في هذه الصورة عنده أيضا خلافا لهما كما ذكرنا من قبل "ولو كانوا مشترين لم يقسم مع غيبة أحدهم" والفرق أن ملك الوارث ملك خلافة حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب فيما اشتراه المورث أو باع ويصير مغرورا بشراء المورث فانتصب أحدهما خصما عن الميت فيما في يده والآخر عن نفسه فصارت القسمة قضاء بحضرة المتخاصمين. أما الملك الثابت بالشراء ملك مبتدأ ولهذا لا يرد بالعيب على بائع بائعه فلا يصلح الحاضر خصما عن الغائب فوضح الفرق "وإن كان العقار في يد الوارث الغائب أو شيء منه لم يقسم، وكذا إذا كان في يد مودعه، وكذا إذا كان في يد الصغير" لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما، وأمين الخصم ليس بخصم عنه فيما يستحق عليه، والقضاء من غير الخصم لا يجوز. ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البينة وعدمها هو الصحيح كما أطلق في الكتاب. قال: "وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة" لأنه لا بد من حضور خصمين، لأن الواحد لا يصلح مخاصما ومخاصما، وكذا مقاسما ومقاسما، بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين على ما بينا "ولو كان الحاضر كبيرا وصغيرا نصب القاضي عن الصغير وصيا وقسم إذا أقيمت البينة، وكذا إذا حضر وارث كبير وموصى له بالثلث فيها وطلبا القسمة وأقاما البينة على الميراث والوصية يقسمه" لاجتماع الخصمين الكبير عن الميت والموصى له عن نفسه، وكذا الوصي عن الصبي كأنه حضر بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 فصل: فيما يقسم وما لا يقسم قال: "وإذا كان كل واحد من الشركاء ينتفع بنصيبه قسم بطلب أحدهم" لأن القسمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 حق لازم فيما يحتملها عند طلب أحدهم على ما بيناه من قبل "وإن كان ينتفع أحدهم ويستضر به الآخر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم، وإن طلب صاحب القليل لم يقسم" لأن الأول ينتفع به فيعتبر طلبه، والثاني متعنت في طلبه فلم يعتبر وذكر الجصاص على قلب هذا لأن صاحب الكثير يريد الإضرار بغيره والآخر يرضى بضرر نفسه وذكر الحاكم الشهيد في مختصره أن أيهما طلب القسمة يقسم القاضي، والوجه اندرج فيما ذكرناه والأصح المذكور في الكتاب وهو الأول "وإن كان كل واحد منهما يستضر لصغره لم يقسمها إلا بتراضيهما" لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها، وتجوز بتراضيهما لأن الحق لهما وهما أعرف بشأنهما. أما القاضي فيعتمد الظاهر. قال: "ويقسم العروض إذا كانت من صنف واحد" لأن عند اتحاد الجنس يتحد المقصود فيحصل التعديل في القسمة والتكميل في المنفعة "ولا يقسم الجنسين بعضهما في بعض" لأنه لا اختلاط بين الجنسين فلا تقع القسمة تمييزا بل تقع معاوضة، وسبيلها التراضي دون جبر القاضي "ويقسم كل مكيل وموزون كثير أو قليل والمعدود المتقارب وتبر الذهب والفضة والحديد والنحاس والإبل بانفرادها والبقر والغنم ولا يقسم شاة وبعيرا وبرذونا وحمارا ولا يقسم الأواني" لأنها باختلاف الصنعة التحقت بالأجناس المختلفة "ويقسم الثياب الهروية" لاتحاد الصنف "ولا يقسم ثوبا واحدا" لاشتمال القسمة على الضرر إذ هي لا تتحقق إلا بالقطع "ولا ثوبين إذا اختلفت قيمتهما" لما بينا، بخلاف ثلاثة أثواب إذا جعل ثوب بثوبين أو ثوب وربع ثوب بثوب وثلاثة أرباع ثوب لأنه قسمة البعض دون البعض وذلك جائز. "وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق والجواهر" لتفاوتهما "وقالا: يقسم الرقيق" لاتحاد الجنس كما في الإبل والغنم ورقيق المغنم وله أن التفاوت في الآدمي فاحش لتفاوت المعاني الباطنة فصار كالجنس المختلف بخلاف الحيوانات لأن التفاوت فيها يقل عند اتحاد الجنس؛ ألا ترى أن الذكر والأنثى من بني آدم جنسان ومن الحيوانات جنس واحد، بخلاف المغانم لأن حق الغانمين في المالية حتى كان للإمام بيعها وقسمة ثمنها وهنا يتعلق بالعين والمالية جميعا فافترقا. وأما الجواهر فقد قيل إذا اختلف الجنس لا يقسم كاللآلئ واليواقيت وقيل لا يقسم الكبار منها لكثرة التفاوت، ويقسم الصغار لقلة التفاوت. وقيل يجري الجواب على إطلاقه لأن جهالة الجواهر أفحش من جهالة الرقيق؛ ألا ترى أنه لو تزوج على لؤلؤة أو ياقوتة أو خالع عليها لا تصح التسمية، ويصح ذلك على عبد فأولى أن لا يجبر على القسمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 قال: "ولا يقسم حمام ولا بئر، ولا رحى إلا بتراضي الشركاء، وكذا الحائط بين الدارين" لأنها تشتمل على الضرر في الطرفين، إذ لا يبقى كل نصيب منتفعا به انتفاعا مقصودا فلا يقسم القاضي بخلاف التراضي لما بينا. قال: "وإذا كانت دور مشتركة في مصر واحد قسم كل دار على حدتها في قول أبي حنيفة وقالا: إن كان الأصلح لهم قسمة بعضها في بعض قسمها" وعلى هذا الخلاف الأقرحة المتفرقة المشتركة لهما أنها جنس واحد اسما وصورة، ونظرا إلى أصل السكنى أجناس معنى نظرا إلى اختلاف المقاصد، ووجوه السكنى فيفوض الترجيح إلى القاضي وله أن الاعتبار للمعنى وهو المقصود، ويختلف ذلك باختلاف البلدان والمحال والجيران والقرب إلى المسجد والماء اختلافا فاحشا فلا يمكن التعديل في القسمة ولهذا لا يجوز التوكيل بشراء دار، وكذا لو تزوج على دار لا تصح التسمية كما هو الحكم فيهما في الثوب بخلاف الدار الواحدة إذا اختلفت بيوتها، لأن في قسمة كل بيت على حدة ضررا فقسمت الدار قسمة واحدة. قال رضي الله عنه: تقييد الوضع في الكتاب إشارة إلى أن الدارين إذا كانتا في مصرين لا تجتمعان في القسمة عندهما، وهو رواية هلال عنهما وعن محمد أنه يقسم إحداهما في الأخرى والبيوت في محلة أو محال تقسم قسمة واحدة لأن التفاوت فيما بينها يسير، والمنازل المتلازقة كالبيوت والمتباينة كالدور لأنه بين الدار والبيت على ما مر من قبل فأخذ شبيها من كل واحد. قال: "وإن كانت دار وضيعة أو دار وحانوت قسم كل واحد منهما على حدة" لاختلاف الجنس. قال رضي الله عنه: جعل الدار والحانوت جنسين، وكذا ذكر الخصاف وقال في إجارات الأصل: إن إجارة منافع الدار بالحانوت لا تجوز، وهذا يدل على أنهما جنس واحد، فيجعل في المسألة روايتان أو تبنى حرمة الربا هنالك على شبهة المجانسة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 فصل: في كيفية القسمة قال: "وينبغي للقاسم أن يصور ما يقسمه" ليمكنه حفظه "ويعدله" يعني يسويه على سهام القسمة ويروى يعزله: أي يقطعه بالقسمة عن غيره "ويذرعه" ليعرف قدره "ويقوم البناء" لحاجته إليه في الآخرة "ويفرز كل نصيب عن الباقي بطريقه وشربه حتى لا يكون لنصيب بعضهم بنصيب الآخر تعلق" فتنقطع المنازعة ويتحقق معنى القسمة على التمام "ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 يلقب نصيبا بالأول، والذي يليه بالثاني والثالث على هذا ثم يخرج القرعة، فمن خرج اسمه أولا فله السهم الأول، ومن خرج ثانيا فله السهم الثاني". والأصل أن ينظر في ذلك إلى أقل الأنصباء، حتى إذا كان الأقل ثلثا جعلها أثلاثا، وإن كان سدسا جعلها أسداسا لتمكن القسمة، وقد شرحناه مشبعا في كفاية المنتهى بتوفيق الله تعالى وقوله في الكتاب: ويفرز كل نصيب بطريقه وشربه بيان الأفضل، فإن لم يفعل أو لم يمكن جاز على ما نذكره بتفصيله إن شاء الله تعالى. والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل، حتى لو عين لكل منهم نصيبا من غير إقراع جاز لأنه في معنى القضاء فيملك الإلزام. قال: "ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير إلا بتراضيهم" لأنه لا شركة في الدراهم والقسمة من حقوق الاشتراك، ولأنه يفوت به التعديل في القسمة لأن أحدهما يصل إلى عين العقار ودراهم الآخر في ذمته ولعلها لا تسلم له "وإذا كان أرض وبناء؛ فعن أبي يوسف أنه يقسم كل ذلك على اعتبار القيمة" لأنه لا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالتقويم. وعن أبي حنيفة أنه يقسم الأرض بالمساحة لأنه هو الأصل في الممسوحات، ثم يرد من وقع البناء في نصيبه أو من كان نصيبه أجود دراهم على الآخر حتى يساويه فتدخل الدراهم في القسمة ضرورة كالأخ لا ولاية له في المال، ثم يملك تسمية الصداق ضرورة التزويج وعن محمد أنه يرد على شريكه بمقابلة البناء ما يساويه من العرصة، وإذا بقي فضل ولم يمكن تحقيق التسوية بأن كان لا تفي العرصة بقيمة البناء فحينئذ يرد للفضل دراهم، لأن الضرورة في هذا القدر فلا يترك الأصل إلا بها. وهذا يوافق رواية الأصل. قال: "فإن قسم بينهم ولأحدهم مسيل في نصيب الآخر أو طريق لم يشترط في القسمة، فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عنه ليس له أن يستطرق في نصيب الآخر" لأنه أمكن تحقيق معنى القسمة من غير ضرر "وإن لم يمكن فسخت القسمة" لأن القسمة مختلة لبقاء الاختلاط فتستأنف بخلاف البيع حيث لا يفسد في هذه الصورة، لأن المقصود منه تملك العين، وأنه يجامع تعذر الانتفاع في الحال، أما القسمة لتكميل المنفعة ولا يتم ذلك إلا بالطريق، ولو ذكر الحقوق في الوجه الأول كذلك الجواب، لأن معنى القسمة الإفراز والتمييز، وتمام ذلك بأن لا يبقى لكل واحد تعلق بنصيب الآخر وقد أمكن تحقيقه بصرف الطريق والمسيل إلى غيره من غير ضرر فيصار إليه، بخلاف البيع إذا ذكر فيه الحقوق حيث يدخل فيه ما كان له من الطريق والمسيل، لأنه أمكن تحقيق معنى البيع وهو التمليك مع بقاء هذا التعلق بملك غيره وفي الوجه الثاني يدخل فيها لأن القسمة لتكميل المنفعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 وذلك بالطريق والمسيل فيدخل عند التنصيص باعتباره، وفيها معنى الإفراز وذلك بانقطاع التعلق على ما ذكرنا، فباعتباره لا يدخل من غير تنصيص، بخلاف الإجارة حيث يدخل فيها بدون التنصيص، لأن كل المقصود الانتفاع وذلك لا يحصل إلا بإدخال الشرب والطريق فيدخل من غير ذكر. "ولو اختلفوا في رفع الطريق بينهم في القسمة، إن كان يستقيم لكل واحد طريق يفتحه في نصيبه قسم الحاكم من غير طريق يرفع لجماعتهم" لتحقق الإفراز بالكلية دونه. "وإن كان لا يستقيم ذلك رفع طريقا بين جماعتهم" ليتحقق تكميل المنفعة فيما وراء الطريق "ولو اختلفوا في مقداره جعل على عرض باب الدار وطوله" لأن الحاجة تندفع به "والطريق على سهامهم كما كان قبل القسمة" لأن القسمة فيما وراء الطريق لا فيه "ولو شرطوا أن يكون الطريق بينهما أثلاثا جاز وإن كان أصل الدار نصفين" لأن القسمة على التفاضل جائزة بالتراضي. قال: "وإذا كان سفل لا علو عليه وعلو لا سفل له وسفل له علو قوم كل واحد على حدته وقسم بالقيمة ولا معتبر بغير ذلك" قال رضي الله عنه: هذا عند محمد رحمه الله. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: يقسم بالذرع؛ لمحمد أن السفل يصلح لما لا يصلح له العلو من اتخاذه بئر ماء أو سردابا أو إصطبلا أو غير ذلك فلا يتحقق التعديل إلا بالقيمة، وهما يقولان إن القسمة بالذرع هي الأصل، لأن الشركة في المذروع لا في القيمة فيصار إليه ما أمكن، والمراعى التسوية في السكنى لا في المرافق ثم اختلفا فيما بينهما في كيفية القسمة بالذرع فقال أبو حنيفة رحمه الله: ذراع من سفل بذراعين من علو وقال أبو يوسف رحمه الله: ذراع بذراع. قيل: أجاب كل واحد منهم على عادة أهل عصره أو أهل بلده في تفضيل السفل على العلو واستوائهما وتفضيل السفل مرة والعلو أخرى. وقيل هو اختلاف معنى ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن منفعة السفل تربو على منفعة العلو بضعفه لأنها تبقى بعد فوات العلو، ومنفعة العلو لا تبقى بعد فناء السفل، وكذا السفل فيه منفعة البناء والسكنى، وفي العلو السكنى لا غير إذ لا يمكنه البناء على علوه إلا برضا صاحب السفل، فيعتبر ذراعان منه بذراع من السفل ولأبي يوسف أن المقصود أصل السكنى وهما يتساويان فيه، والمنفعتان متماثلتان لأن لكل واحد منهما أن يفعل ما لا يضر بالآخر على أصله ولمحمد أن المنفعة تختلف باختلاف الحر والبرد بالإضافة إليهما فلا يمكن التعديل إلا بالقيمة، والفتوى اليوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 على قول محمد رحمه الله وقوله لا يفتقر إلى التفسير. وتفسير قول أبي حنيفة رحمه الله في مسألة الكتاب أن يجعل بمقابلة مائة ذراع من العلو المجرد ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من البيت الكامل لأن العلو مثل نصف السفل فثلاثة وثلاثون وثلث من السفل ستة وستون وثلثان من العلو المجرد ومعه ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من العلو فبلغت مائة ذراع تساوي مائة من العلو المجرد، ويجعل بمقابلة مائة ذراع من السفل المجرد من البيت الكامل ستة وستون وثلثا ذراع، لأن علوه مثل نصف سفله فبلغت مائة ذراع كما ذكرنا، والسفل المجرد ستة وستون وثلثان لأنه ضعف العلو فيجعل بمقابلة مثله وتفسير قول أبي يوسف أن يجعل بإزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل مائة ذراع من السفل المجرد، ومائة ذراع من العلو المجرد، لأن السفل والعلو عنده سواء، فخمسون ذراعا من البيت الكامل بمنزلة مائة ذراع خمسون منها سفل وخمسون منها علو. قال: "وإذا اختلف المتقاسمون وشهد القاسمان قبلت شهادتهما" قال رضي الله عنه: هذا الذي ذكره قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: لا تقبل، وهو قول أبي يوسف أولا، وبه قال الشافعي. وذكر الخصاف قول محمد مع قولهما وقاسما القاضي وغيرهما سواء، لمحمد أنهما شهدا على فعل أنفسهما فلا تقبل، كمن علق عتق عبده بفعل غيره فشهد ذلك الغير على فعله ولهما أنهما شهدا على فعل غيرهما وهو الاستيفاء والقبض لا على فعل أنفسهما، لأن فعلهما التمييز ولا حاجة إلى الشهادة عليه، أو لأنه لا يصلح مشهودا به لما أنه غير لازم، وإنما يلزمه بالقبض والاستيفاء وهو فعل الغير فتقبل الشهادة عليه وقال الطحاوي: إذا قسما بأجر لا تقبل الشهادة بالإجماع، وإليه مال بعض المشايخ لأنهما يدعيان إيفاء عمل استؤجرا عليه فكانت شهادة صورة ودعوى معنى فلا تقبل إلا أنا نقول: هما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما مغنما لاتفاق الخصوم على إيفائهما العمل المستأجر عليه وهو التمييز، وإنما الاختلاف في الاستيفاء فانتفت التهمة "ولو شهد قاسم واحد لا تقبل" لأن شهادة الفرد غير مقبولة على الغير، ولو أمر القاضي أمينه بدفع المال إلى آخر يقبل قول الأمين في دفع الضمان عن نفسه ولا يقبل في إلزام الآخر إذا كان منكرا، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 باب دعوى الغلط في القسمة والاستحقاق فيها مدخل ... باب دعوى الغلط في القسمة والاستحقاق فيها قال: "وإذا ادعى أحدهم الغلط وزعم أن مما أصابه شيئا في يد صاحبه وقد أشهد على نفسه بالاستيفاء لم يصدق على ذلك إلا ببينة" لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 فلا يصدق إلا بحجة "فإن لم يكن له بينة استحلف الشركاء فمن نكل منهم جمع بين نصيب الناكل والمدعي فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما"، لأن النكول حجة في حقه خاصة فيعاملان على زعمهما. قال رضي الله عنه: ينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا لتناقضه، وإليه أشار من بعد "وإن قال قد استوفيت حقي وأخذت بعضه فالقول قول خصمه مع يمينه" لأنه يدعي عليه الغصب وهو منكر "وإن قال أصابني إلى موضع كذا فلم يسلمه إلي ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء وكذبه شريكه تحالفا وفسخت القسمة" لأن الاختلاف في مقدار ما حصل له بالقسمة فصار نظير الاختلاف في مقدار المبيع على ما ذكرنا من أحكام التحالف فيما تقدم "ولو اختلفا في التقويم لم يلتفت إليه" لأنه دعوى الغبن ولا معتبر به في البيع فكذا في القسمة لوجود التراضي، "إلا إذا كانت القسمة بقضاء القاضي والغبن فاحش" لأن تصرفه مقيد بالعدل "ولو اقتسما دارا وأصاب كل واحد طائفة فادعى أحدهم بيتا في يد الآخر أنه مما أصابه بالقسمة وأنكر الآخر فعليه إقامة البينة" لما قلنا "وإن أقاما البينة يؤخذ ببينة المدعي" لأنه خارج، وبينة الخارج تترجح على بينة ذي اليد "وإن كان قبل الإشهاد على القبض تحالفا وترادا، وكذا إذا اختلفا في الحدود وأقاما البينة يقضى لكل واحد بالجزء الذي هو في يد صاحبه" لما بينا "وإن قامت لأحدهما بينة قضي له، وإن لم تقم لواحد منهما تحالفا" كما في البيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 فصل: وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه الخ ... فصل: قال: "وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة ورجع بحصة ذلك في نصيب صاحبه. وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة". قال رضي الله عنه: ذكر الاختلاف في استحقاق بعض بعينه، وهكذا ذكر في الأسرار. والصحيح أن الاختلاف في استحقاق بعض شائع من نصيب أحدهما، فأما في استحقاق بعض معين لا تفسخ القسمة بالإجماع، ولو استحق بعض شائع في الكل تفسخ بالاتفاق، فهذه ثلاثة أوجه. ولم يذكر قول محمد، وذكره أبو سليمان مع أبي يوسف وأبو حفص مع أبي حنيفة وهو الأصح. لأبي يوسف أن باستحقاق بعض شائع ظهر شريك ثالث لهما، والقسمة بدون رضاه باطلة، كما إذا استحق بعض شائع في النصيبين، وهذا لأن باستحقاق جزء شائع ينعدم معنى القسمة وهو الإفراز لأنه يوجب الرجوع بحصته في نصيب الآخر شائعا، بخلاف المعين. ولهما أن معنى الإفراز لا ينعدم باستحقاق جزء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 شائع في نصيب أحدهما ولهذا جازت القسمة على هذا الوجه في الابتداء بأن كان النصف المقدم مشتركا بينهما وبين ثالث والنصف المؤخر بينهما لا شركة لغيرهما فيه فاقتسما على أن لأحدهما ما لهما من المقدم وربع المؤخر يجوز فكذا في الانتهاء وصار كاستحقاق شيء معين، بخلاف الشائع في النصيبين لأنه لو بقيت القسمة لتضرر الثالث بتفرق نصيبه في النصيبين، أما هاهنا لا ضرر بالمستحق فافترقا، وصور المسألة: إذا أخذ أحدهما الثلث المقدم من الدار والآخر الثلثين من المؤخر وقيمتهما سواء ثم استحق نصف المقدم، فعندهما إن شاء نقض القسمة دفعا لعيب التشقيص، وإن شاء رجع على صاحبه بربع ما في يده من المؤخر، لأنه لو استحق كل المقدم رجع بنصف ما في يده، فإذا استحق النصف رجع بنصف النصف وهو الربع اعتبارا للجزء بالكل، ولو باع صاحب المقدم نصفه ثم استحق النصف الباقي شائعا رجع بربع ما في يد الآخر عندهما لما ذكرنا وسقط خياره ببيع البعض وعند أبي يوسف: ما في يد صاحبه بينهما نصفان ويضمن قيمة نصف ما باع لصاحبه لأن القسمة تنقلب فاسدة عنده، والمقبوض بالعقد الفاسد مملوك فنفذ البيع فيه وهو مضمون بالقيمة فيضمن نصف نصيب صاحبه. قال: "ولو وقعت القسمة ثم ظهر في التركة دين محيط ردت القسمة" لأنه يمنع وقوع الملك للوارث، وكذا إذا كان غير محيط لتعلق حق الغرماء بالتركة، إلا إذا بقي من التركة ما يفي بالدين وراء ما قسم لأنه لا حاجة إلى نقض القسمة في إيفاء حقهم، "ولو أبرأه الغرماء بعد القسمة أو أداه الورثة من مالهم والدين محيط أو غير محيط جازت القسمة" لأن المانع قد زال. ولو ادعى أحد المتقاسمين دينا في التركة صح دعواه لأنه لا تناقض، إذ الدين يتعلق بالمعنى والقسمة تصادف الصورة، ولو ادعى عينا بأي سبب كان لم يسمع للتناقض، إذ الإقدام على القسمة اعتراف بكون المقسوم مشتركا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 فصل: في المهايأة المهايأة جائزة استحسانا للحاجة إليه، إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع فأشبه القسمة. ولهذا يجري فيه جبر القاضي كما يجري في القسمة، إلا أن القسمة أقوى منه في استكمال المنفعة لأنه جمع المنافع في زمان واحد، والتهايؤ جمع على التعاقب، ولهذا لو طلب أحد الشريكين القسمة والآخر المهايأة يقسم القاضي لأنه أبلغ في التكميل. ولو وقعت فيما يحتمل القسمة ثم طلب أحدهما القسمة يقسم وتبطل المهايأة لأنه أبلغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 ولا يبطل التهايؤ بموت أحدهما ولا بموتهما لأنه لو انتقض لاستأنفه الحاكم فلا فائدة في النقض ثم الاستئناف. "ولو تهايأ في دار واحدة على أن يسكن هذا طائفة وهذا طائفة أو هذا علوها وهذا سفلها جاز" لأن القسمة على هذا الوجه جائزة فكذا المهايأة، والتهايؤ في هذا الوجه إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة ولهذه لا يشترط فيه التأقيت "ولكل واحد أن يستغل ما أصابه بالمهايأة شرط ذلك في العقد أو لم يشترط" لحدوث المنافع على ملكه. "ولو تهايئا في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما جاز"، وكذا هذا في البيت الصغير "لأن المهايأة قد تكون في الزمان، وقد تكون من حيث المكان" والأول متعين هاهنا "ولو اختلفا في التهايؤ من حيث الزمان والمكان في محل يحتملهما يأمرهما القاضي بأن يتفقا" لأن التهايؤ في المكان أعدل وفي الزمان أكمل، فلما اختلفت الجهة لا بد من الاتفاق "فإن اختاراه من حيث الزمان يقرع في البداية" نفيا للتهمة "ولو تهايئا في العبدين على أن يخدم هذا هذا العبد والآخر الآخر جاز عندهما" لأن القسمة على هذا الوجه جائزة عندهما جبرا من القاضي وبالتراضي فكذا المهايأة. وقيل عند أبي حنيفة لا يقسم القاضي. وهكذا روي عنه لأنه لا يجري فيه الجبر عنده. والأصح أنه يقسم القاضي عنده أيضا، لأن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت، بخلاف أعيان الرقيق لأنها تتفاوت تفاوتا فاحشا على ما تقدم "ولو تهايئا فيهما على أن نفقة كل عبد على من يأخذه جاز" استحسانا للمسامحة في إطعام المماليك بخلاف شرط الكسوة لا يسامح فيها. "ولو تهايئا في دارين على أن يسكن كل واحد منهما دارا جاز ويجبر القاضي عليه" وهذا عندهما ظاهر، لأن الدارين عندهما كدار واحدة. وقد قيل لا يجبر عنده اعتبارا بالقسمة. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز التهايؤ فيهما أصلا بالجبر لما قلنا، وبالتراضي لأنه بيع السكنى بالسكنى، بخلاف قسمة رقبتهما لأن بيع بعض أحدهما ببعض الآخر جائز. وجه الظاهر أن التفاوت يقل في المنافع فيجوز بالتراضي ويجري فيه جبر القاضي ويعتبر إفرازا أما يكثر التفاوت في أعيانهما فاعتبر مبادلة "وفي الدابتين لا يجوز التهايؤ على الركوب عند أبي حنيفة وعندهما يجوز" اعتبارا بقسمة الأعيان. وله أن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين فإنهم بين حاذق وأخرق. والتهايؤ في الركوب في دابة واحدة على هذا الخلاف لما قلنا، بخلاف العبد لأنه يخدم باختياره فلا يتحمل زيادة على طاقته والدابة تحملها. وأما التهايؤ في الاستغلال يجوز في الدار الواحدة في ظاهر الرواية وفي العبد الواحد والدابة الواحدة لا يجوز. ووجه الفرق هو أن النصيبين، يتعاقبان في الاستيفاء، والاعتدال ثابت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 في الحال. والظاهر بقاؤه في العقار وتغيره في الحيوان لتوالي أسباب التغير عليه فتفوت المعادلة. ولو زادت الغلة في نوبة أحدهما عليها في نوبة الآخر يشتركان في الزيادة ليتحقق التعديل، بخلاف ما إذا كان التهايؤ على المنافع فاستغل أحدهما في نوبته زيادة، لأن التعديل فيما وقع عليه التهايؤ حاصل وهو المنافع فلا تضره زيادة الاستغلال من بعد "والتهايؤ على الاستغلال في الدارين جائز" أيضا في ظاهر الرواية لما بينا، ولو فضل غلة أحدهما لا يشتركان فيه بخلاف الدار الواحدة. والفرق أن في الدارين معنى التمييز، والإفراز راجح لاتحاد زمان الاستيفاء، وفي الدار الواحدة يتعاقب الوصول فاعتبر قرضا وجعل كل واحد في نوبته كالوكيل عن صاحبه فلهذا يرد عليه حصته من الفضل، وكذا يجوز في العبدين عندهما اعتبارا بالتهايؤ في المنافع، ولا يجوز عنده لأن التفاوت في أعيان الرقيق أكثر منه من حيث الزمان في العبد الواحد فأولى أن يمتنع الجواز، والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورة، ولا ضرورة في الغلة لإمكان قسمتها لكونها عينا، ولأن الظاهر هو التسامح في الخدمة والاستقصاء في الاستغلال فلا ينقسمان "ولا يجوز في الدابتين عنده خلافا لهما" والوجه ما بيناه في الركوب. "ولو كان نخل أو شجر أو غنم بين اثنين فتهايئا على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يستثمرها أو يرعاها ويشرب ألبانها لا يجوز" لأن المهايأة في المنافع ضرورة أنها لا تبقى فيتعذر قسمتها، وهذه أعيان باقية ترد عليها القسمة عند حصولها. والحيلة أن يبيع حصته من الآخر ثم يشتري كلها بعد مضي نوبته أو ينتفع باللبن بمقدار معلوم استقراضا لنصيب صاحبه، إذ قرض المشاع جائز والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 كتاب المزارعة شروطها ... كتاب المزارعة "قال أبو حنيفة رحمه الله: المزارعة بالثلث والربع باطلة" اعلم أن المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع. وفي الشريعة: هي عقد على الزرع ببعض الخارج. وهي فاسدة عند أبي حنيفة، وقال: هي جائزة لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع" ولأنه عقد شركة بين المال والعمل فيجوز اعتبارا بالمضاربة والجامع دفع الحاجة، فإن ذا المال قد لا يهتدي إلى العمل والقوي عليه لا يجد المال، فمست الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما بخلاف دفع الغنم والدجاج ودود القز معاملة بنصف الزوائد لأنه لا أثر هناك للعمل في تحصيلها فلم تتحقق شركة. وله ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المخابرة وهي المزارعة" ولأنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان، ولأن الأجر مجهول أو معدوم وكل ذلك مفسد، ومعاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز "وإذا فسدت عنده فإن سقى الأرض وكربها ولم يخرج شيء منه فله أجر مثله" لأنه في معنى إجارة فاسدة، وهذا إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض. وإذا كان البذر من قبله فعليه أجر مثل الأرض والخارج في الوجهين لصاحب البذر لأنه نماء ملكه وللآخر الأجر كما فصلنا، إلا أن الفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأمة بها. والقياس يترك بالتعامل كما في الاستصناع. "ثم المزارعة لصحتها على قول من يجيزها شروط: أحدها كون الأرض صالحة للزراعة" لأن المقصود لا يحصل بدونه. "والثاني: أن يكون رب الأرض والمزارع من أهل العقد وهو لا يختص به" لأنه عقد ما لا يصح إلا من الأهل. "والثالث: بيان المدة" لأنه عقد على منافع الأرض أو منافع العامل والمدة هي المعيار لها ليعلم بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 "والرابع: بيان من عليه البذر" قطعا للمنازعة وإعلاما للمعقود عليه وهو منافع الأرض أو منافع العمل. "والخامس: بيان نصيب من لا بذر من قبله" لأنه يستحقه عوضا بالشرط فلا بد أن يكون معلوما، وما لا يعلم لا يستحق شرطا بالعقد. "والسادس: أن يخلي رب الأرض بينها وبين العامل، حتى لو شرط عمل رب الأرض يفسد العقد" لفوات التخلية. "والسابع: الشركة في الخارج بعد حصوله" لأنه ينعقد شركة في الانتهاء، فما يقطع هذه الشركة كان مفسدا للعقد. "والثامن: بيان جنس البذر" ليصير الأجر معلوما. قال: "وهي عندهما على أربعة أوجه: إن كانت الأرض والبذر لواحد والبقر والعمل لواحد جازت المزارعة" لأن البقر آلة العمل فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة الخياط، "وإن كان الأرض لواحد والعمل والبقر والبذر لواحد جازت" لأنه استئجار الأرض ببعض معلوم من الخارج فيجوز كما إذا استأجرها بدراهم معلومة "وإن كانت الأرض والبذر والبقر لواحد والعمل من آخر جازت" لأنه استأجره للعمل بآلة المستأجر فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط ثوبه بإبرته أو طيانا ليطين بمره "وإن كانت الأرض والبقر لواحد والبذر والعمل لآخر فهي باطلة" وهذا الذي ذكره ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف أنه يجوز أيضا، لأنه لو شرط البذر والبقر عليه يجوز فكذا إذا شرط وحده وصار كجانب العامل. وجه الظاهر أن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض. لأن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل بها النماء، ومنفعة البقر صلاحية يقام بها العمل كل ذلك بخلق الله تعالى فلم يتجانسا فتعذر أن تجعل تابعة لها، بخلاف جانب العامل لأنه تجانست المنفعتان فجعلت تابعة لمنفعة العامل. وهاهنا وجهان آخران لم يذكرهما. أحدهما: أن يكون البذر لأحدهما والأرض والبقر والعمل لآخر فإنه لا يجوز لأنه يتم شركة بين البذر والعمل ولم يرد به الشرع. والثاني: أن يجمع بين البذر والبقر. وأنه لا يجوز أيضا لأنه لا يجوز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع، والخارج في الوجهين لصاحب البذر في رواية اعتبارا بسائر المزارعات الفاسدة، وفي رواية لصاحب الأرض ويصير مستقرضا للبذر قابضا له لاتصاله بأرضه. قال: "ولا تصح المزارعة إلا على مدة معلومة" لما بينا "وأن يكون الخارج شائعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 بينهما" تحقيقا لمعنى الشركة "فإن شرطا لأحدهما قفزانا مسماة فهي باطلة" لأن به تنقطع الشركة لأن الأرض عساها لا تخرج إلا هذا القدر، فصار كاشتراط دراهم معدودة لأحدهما في المضاربة، "وكذا إذا شرطا أن يرفع صاحب البذر بذره ويكون الباقي بينهما نصفين"، لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في بعض معين أو في جميعه بأن لم يخرج إلا قدر البذر فصار كما إذا شرطا رفع الخراج، والأرض خراجية وأن يكون الباقي بينهما لأنه معين، بخلاف ما إذا شرط صاحب البذر عشر الخارج لنفسه أو للآخر والباقي بينهما لأنه معين مشاع فلا يؤدي إلى قطع الشركة، كما إذا شرطا رفع العشر، وقسمة الباقي بينهما والأرض عشرية. قال: "وكذا إذا شرطا ما على الماذيانات والسواقي" معناه لأحدهما، لأنه إذا شرط لأحدهما زرع موضع معين أفضى ذلك إلى قطع الشركة، لأنه لعله لا يخرج إلا من ذلك الموضع، وعلى هذا إذا شرط لأحدهما ما يخرج من ناحية معينة ولآخر ما يخرج من ناحية أخرى "وكذا إذا شرط لأحدهما التبن وللآخر الحب" لأنه عسى أن يصيبه آفة فلا ينعقد الحب ولا يخرج إلا التبن "وكذا إذا شرطا التبن نصفين والحب لأحدهما بعينه" لأنه يؤدي إلى قطع الشركة فيما هو المقصود وهو الحب "ولو شرط الحب نصفين ولم يتعرضا للتبن صحت" لاشتراطهما الشركة فيما هو المقصود، "ثم التبن يكون لصاحب البذر" لأنه نماء بذره وفي حقه لا يحتاج إلى الشرط. والمفسد هو الشرط، وهذا سكوت عنه. وقال مشايخ بلخي رحمهم الله: التبن بينهما أيضا اعتبارا للعرف فيما لم ينص عليه المتعاقدان، ولأنه تبع للحب والتبع يقوم بشرط الأصل. "ولو شرطا الحب نصفين والتبن لصاحب البذر صحت" لأنه حكم العقد "وإن شرطا التبن للآخر فسدت" لأنه شرط يؤدي إلى قطع الشركة بأن لا يخرج إلا التبن واستحقاق غير صاحب البذر بالشرط. قال: "وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط" لصحة الالتزام "وإن لم تخرج الأرض شيئا فلا شيء للعامل" لأنه يستحقه شركة، ولا شركة في غير الخارج، وإن كانت إجارة فالأجر مسمى فلا يستحق غيره، بخلاف ما إذا فسدت لأن أجر المثل في الذمة ولا تفوت الذمة بعدم الخارج. قال: "وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر" لأنه نماء ملكه، واستحقاق الأجر بالتسمية وقد فسدت فبقي النماء كله لصاحب البذر. قال: "ولو كان البذر من قبل رب الأرض فللعامل أجر مثله لا يزاد على مقدار ما شرط له من الخارج" لأنه رضي بسقوط الزيادة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 رحمهما الله "وقال محمد: له أجر مثله بالغا ما بلغ، لأنه استوفى منافعه بعقد فاسد فتجب عليه قيمتها إذ لا مثل لها" وقد مر في الإجارات "وإن كان البذر من قبل العامل فلصاحب الأرض أجر مثل أرضه" لأنه استوفى منافع الأرض بعقد فاسد فيجب ردها وقد تعذر. ولا مثل لها فيجب رد قيمتها. وهل يزاد على ما شرط له من الخارج؟ فهو على الخلاف الذي ذكرناه "ولو جمع بين الأرض والبقر حتى فسدت المزارعة فعلى العامل أجر مثل الأرض والبقر" هو الصحيح، لأن له مدخلا في الإجارة وهي إجارة معنى "وإذا استحق رب الأرض الخارج لبذره في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه" لأن النماء حصل في أرض مملوكة له "وإن استحقه العامل أخذ قدر بذره وقدر أجر الأرض وتصدق بالفضل" لأن النماء يحصل من البذر ويخرج من الأرض، وفساد الملك في منافع الأرض أوجب خبثا فيه. فما سلم له بعوض طاب له وما لا عوض له تصدق به. قال: "وإذا عقدت المزارعة فامتنع صاحب البذر من العمل لم يجبر عليه" لأنه لا يمكنه المضي في العقد إلا بضرر يلزمه. فصار كما إذا استأجر أجيرا ليهدم داره "وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر أجبره الحاكم على العمل" لأنه لا يلحقه بالوفاء بالعقد ضرر والعقد لازم بمنزلة الإجارة، إلا إذا كان عذر يفسخ به الإجارة فيفسخ به المزارعة. قال: "ولو امتنع رب الأرض والبذر من قبله وقد كرب المزارع الأرض فلا شيء له في عمل الكراب " قيل هذا في الحكم، فأما فيما بينه وبين الله تعالى يلزمه استرضاء العامل لأنه غره في ذلك. قال: "وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت المزارعة" اعتبارا بالإجارة، وقد مر الوجه في الإجارات، فلو كان دفعها في ثلاث سنين فلما نبت الزرع في السنة الأولى ولم يستحصد الزرع حتى مات رب الأرض ترك الأرض في يد المزارع حتى يستحصد الزرع ويقسم على الشرط، وتنتقض المزارعة فيما بقي من السنتين لأن في إبقاء العقد في السنة الأولى مراعاة للحقين، بخلاف السنة الثانية والثالثة لأنه ليس فيه ضرر بالعامل فيحافظ فيهما على القياس "ولو مات رب الأرض قبل الزراعة بعد ما كرب الأرض وحفر الأنهار انتقضت المزارعة" لأنه ليس فيه إبطال مال على المزارع "ولا شيء للعامل بمقابلة ما عمل" لما نبينه إن شاء الله تعالى. "وإذا فسخت المزارعة بدين فادح لحق صاحب الأرض فاحتاج إلى بيعها جاز" كما في الإجارة "وليس للعامل أن يطالبه بما كرب الأرض وحفر الأنهار بشيء" لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد وهو إنما قوم بالخارج فإذا انعدم الخارج لم يجب شيء "ولو نبت الزرع ولم يستحصد لم تبع الأرض في الدين حتى يستحصد الزرع" لأن في البيع إبطال حق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 المزارع، والتأخير أهون من الإبطال "ويخرجه القاضي من الحبس إن كان حبسه بالدين" لأنه لما امتنع بيع الأرض لم يكن هو ظالما والحبس جزاء الظلم. قال: "وإذا انقضت مدة المزارعة والزرع لم يدرك كان على المزارع أجر مثل نصيبه من الأرض إلى أن يستحصد والنفقة على الزرع عليهما على مقدار حقوقهما" معناه حتى يستحصد، لأن في تبقية الزرع بأجر المثل تعديل النظر من الجانبين فيصار إليه، وإنما كان العمل عليهما لأن العقد قد انتهى بانتهاء المدة وهذا عمل في المال المشترك، وهذا بخلاف ما إذا مات رب الأرض والزرع بقل حيث يكون العمل فيه على العامل، لأن هناك أبقينا العقد في مدته والعقد يستدعي العمل على العامل، أما هاهنا العقد قد انتهى فلم يكن هذا إبقاء ذلك العقد فلم يختص العامل بوجوب العمل عليه "فإن أنفق أحدهما بغير إذن صاحبه وأمر القاضي فهو متطوع" لأنه لا ولاية له عليه "ولو أراد رب الأرض أن يأخذ الزرع بقلا لم يكن له ذلك" لأن فيه إضرارا بالمزارع، "ولو أراد المزارع" أن يأخذه بقلا قيل لصاحب الأرض اقلع الزرع فيكون بينكما أو أعطه قيمة نصيبه أو أنفق أنت على الزرع وارجع بما تنفقه في حصته، لأن المزارع لما امتنع من العمل لا يجبر عليه، لأن إبقاء العقد بعد وجود المنهي نظر له وقد ترك النظر لنفسه. ورب الأرض مخير بين هذه الخيارات لأن بكل ذلك يستدفع الضرر "ولو مات المزارع بعد نبات الزرع فقالت ورثته نحن نعمل إلى أن يستحصد الزرع وأبى رب الأرض فلهم ذلك" لأنه لا ضرر على رب الأرض "ولا أجر لهم بما عملوا" لأنا أبقينا العقد نظرا لهم، فإن أرادوا قلع الزرع لم يجبروا على العمل لما بينا، والمالك على الخيارات الثلاث لما بينا. قال: "وكذلك أجرة الحصاد والرفاع والدياس والتذرية عليهما بالحصص. فإن شرطاه في المزارعة على العامل فسدت" وهذا الحكم ليس بمختص بما ذكر من الصورة وهو انقضاء المدة والزرع لم يدرك بل هو عام في جميع المزارعات. ووجه ذلك أن العقد يتناهى بتناهي الزرع لحصول المقصود فيبقى مال مشترك بينهما ولا عقد فيجب مؤنته عليهما. وإذا شرط في العقد ذلك ولا يقتضيه وفيه منفعة لأحدهما يفسد العقد كشرط الحمل أو الضمن على العامل. وعن أبي يوسف أنه يجوز إذا شرط ذلك على العامل للتعامل اعتبارا بالاستصناع وهو اختيار مشايخ بلخي. قال شمس الأئمة السرخسي: هذا هو الأصح في ديارنا. فالحاصل: أن ما كان من عمل قبل الإدراك كالسقي والحفظ فهو على العامل، وما كان منه بعد الإدراك قبل القسمة فهو عليهما في ظاهر الرواية كالحصاد والدياس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 وأشباههما على ما بيناه، وما كان بعد القسمة فهو عليهما. والمعاملة على قياس هذا ما كان قبل إدراك الثمر من السقي والتلقيح والحفظ فهو على العامل، وما كان بعد الإدراك كالجداد والحفظ فهو عليهما؛ ولو شرط الجداد على العامل لا يجوز بالاتفاق لأنه لا عرف فيه. وما كان بعد القسمة فهو عليهما لأنه مال مشترك ولا عقد، ولو شرط الحصاد في الزرع على رب الأرض لا يجوز بالإجماع لعدم العرف فيه، ولو أرادا فصل القصيل أو جد التمر بسرا أو التقاط الرطب فذلك عليهما لأنهما أنهيا العقد لما عزما على الفصل والجداد بسرا فصار كما بعد الإدراك، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 كتاب المساقاة يشترط تسمية الجزء مشاعا ... كتاب المساقاة "قال أبو حنيفة: المساقاة بجزء من الثمر باطلة، وقالا: جائزة إذا ذكر مدة معلومة وسمى جزءا من الثمر مشاعا" والمساقاة: هي المعاملة والكلام فيها كالكلام في المزارعة. وقال الشافعي رحمه الله: المعاملة جائزة، ولا تجوز المزارعة إلا تبعا للمعاملة لأن الأصل في هذا المضاربة، والمعاملة أشبه بها لأن فيه شركة في الزيادة دون الأصل. وفي المزارعة لو شرطا الشركة في الربح دون البذر بأن شرطا رفعه من رأس الخارج تفسد، فجعلنا المعاملة أصلا، وجوزنا المزارعة تبعا لها كالشرب في بيع الأرض والمنقول في وقف العقار، وشرط المدة قياس فيها لأنها إجارة معنى كما في المزارعة. وفي الاستحسان: إذا لم يبين المدة يجوز ويقع على أول ثمر يخرج، لأن الثمر لإدراكها وقت معلوم وقلما يتفاوت ويدخل فيما ما هو المتيقن، وإدراك البذر في أصول الرطبة في هذا بمنزلة إدراك الثمار، لأن له نهاية معلومة فلا يشترط بيان المدة، بخلاف الزرع لأن ابتداءه يختلف كثيرا خريفا وصيفا وربيعا، والانتهاء بناء عليه فتدخله الجهالة، وبخلاف ما إذا دفع إليه غرسا قد علق ولم يبلغ الثمر معاملة حيث لا يجوز إلا ببيان المدة لأنه يتفاوت بقوة الأراضي وضعفها تفاوتا فاحشا، وبخلاف ما إذا دفع نخيلا أو أصول رطبة على أن يقوم عليها أو أطلق في الرطبة تفسد المعاملة، لأنه ليس لذلك نهاية معلومة، لأنها تنمو ما تركت في الأرض فجهلت المدة. قال: "ويشترط تسمية الجزء مشاعا" لما بينا في المزارعة إذ شرط جزء معين يقطع الشركة. قال: "فإن سميا في المعاملة وقتا يعلم أنه لا يخرج الثمر فيها فسدت المعاملة" لفوات المقصود وهو الشركة في الخارج. قال: "ولو سميا مدة قد يبلغ الثمر فيها وقد يتأخر عنها جازت" لأنا لا نتيقن بفوات المقصود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 قال: "ثم لو خرج في الوقت المسمى فهو على الشركة" لصحة العقد. قال: "وإن تأخر فللعامل أجر المثل" لفساد العقد لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة فصار كما إذا علم ذلك في الابتداء، بخلاف ما إذا لم يخرج أصلا لأن الذهاب بآفة فلا يتبين فساد المدة فيبقى العقد صحيحا، ولا شيء لكل واحد منهما على صاحبه. قال: "وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان" وقال الشافعي في الجديد: لا تجوز إلا في الكرم والنخل، لأن جوازها بالأثر وقد خصهما وهو حديث خيبر. ولنا أن الجواز للحاجة وقد عمت، وأثر خيبر لا يخصهما لأن أهلها كانوا يعملون في الأشجار والرطاب أيضا، ولو كان كما زعم فالأصل في النصوص أن تكون معلولة سيما على أصله. قال: "وليس لصاحب الكرم أن يخرج العامل من غير عذر" لأنه لا ضرر عليه في الوفاء بالعقد. قال: "وكذا ليس للعامل أن يترك العمل بغير عذر" بخلاف المزارعة بالإضافة إلى صاحب البذر على ما قدمناه. قال: "فإن دفع نخلا فيه تمر مساقاة والتمر يزيد بالعمل جاز وإن كانت قد انتهت لم يجز" وكذا على هذا إذا دفع الزرع وهو بقل جاز، ولو استحصد وأدرك لم يجز، لأن العامل إنما يستحق بالعمل، ولا أثر للعمل بعد التناهي والإدراك، فلو جوزناه لكان استحقاقا بغير عمل ولم يرد به الشرع، بخلاف ما قبل ذلك لتحقق الحاجة إلى العمل. قال: "وإذا فسدت المساقاة فللعامل أجر مثله" لأنه في معنى الإجارة الفاسدة، وصار كالمزارعة إذا فسدت. قال: "وتبطل المساقاة بالموت" لأنها في معنى الإجارة وقد بيناه فيها، فإن مات رب الأرض والخارج بسر فللعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم قبل ذلك إلى أن يدرك الثمر، وإن كره ذلك ورثة رب الأرض استحسانا فيبقى العقد دفعا للضرر عنه، ولا ضرر فيه على الآخر. قال: "ولو التزم العامل الضرر يتخير ورثة الآخر بين أن يقسموا البسر على الشرط وبين أن يعطوه قيمة نصيبه من البسر وبين أن ينفقوا على البسر حتى يبلغ فيرجعوا بذلك في حصة العامل من الثمر" لأنه ليس له إلحاق الضرر بهم، وقد بينا نظيره في المزارعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 قال: "ولو مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه وإن كره رب الأرض" لأن فيه النظر من الجانبين. قال: "فإن أرادوا أن يصرموه بسرا كان صاحب الأرض بين الخيارات الثلاثة" التي بيناها. قال: "وإن ماتا جميعا فالخيار لورثة العامل" لقيامهم مقامه، وهذا خلافة في حق مالي وهو ترك الثمار على الأشجار إلى وقت الإدراك لا أن يكون وارثه في الخيار قال: "فإن أبى ورثة العامل أن يقوموا عليه كان الخيار في ذلك لورثة رب الأرض" على ما وصفنا. قال: "وإذا انقضت مدة المعاملة والخارج بسر أخضر فهذا والأول سواء، وللعامل أن يقوم عليها إلى أن يدرك لكن بغير أجر" لأن الشجر لا يجوز استئجاره، بخلاف المزارعة في هذا لأن الأرض يجوز استئجارها، وكذلك العمل كله على العامل هاهنا وفي المزارعة في هذا عليهما، لأنه لما وجب أجر مثل الأرض بعد انتهاء المدة على العامل لا يستحق عليه العمل وهاهنا لا أجر فجاز أن يستحق العمل كما يستحق قبل انتهائها. قال: "وتفسخ بالأعذار" لما بينا في الإجارات، وقد بينا وجوه العذر فيها. ومن جملتها أن يكون العامل سارقا يخاف عليه سرقة السعف والثمر قبل الإدراك لأنه يلزم صاحب الأرض ضررا لم يلتزمه فتفسخ به. ومنها مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل، لأن في إلزامه استئجار الأجراء زيادة ضرر عليه ولم يلتزمه فيجعل ذلك عذرا، ولو أراد العامل ترك ذلك العمل هل يكون عذرا؟ فيه روايتان. وتأويل إحداهما أن يشترط العمل بيده فيكون عذرا من جهته. قال: "ومن دفع أرضا بيضاء إلى رجل سنين معلومة يغرس فيها شجرا على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين لم يجز ذلك" لاشتراط الشركة فيما كان حاصلا قبل الشركة لا بعمله. قال: "وجميع الثمر والغرس لرب الأرض وللغارس قيمة غرسه وأجر مثله فيما عمل" لأنه في معنى قفيز الطحان: إذ هو استئجار ببعض ما يخرج من عمله وهو نصف البستان فيفسد وتعذر رد الغراس لاتصالها بالأرض فيجب قيمتها وأجر مثله لأنه لا يدخل في قيمة الغراس لتقومها بنفسها وفي تخريجها طريق آخر بيناه في كفاية المنتهى، وهذا أصحهما، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 كتاب الذبائح من تحل ذبيحته ومن لا تحل مدخل ... كتاب الذبائح قال: "الذكاة شرط حل الذبيحة" لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ولأن بها يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر. وكما يثبت به الحل يثبت به الطهارة في المأكول وغيره، فإنها تنبئ عنها. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "ذكاة الأرض يبسها" وهي اختيارية كالجرح فيما بين اللبة واللحيين، واضطرارية وهي الجرح في أي موضع كان من البدن. والثاني كالبدل عن الأول لأنه لا يصار إليه إلا عند العجز عن الأول. وهذا آية البدلية، وهذا لأن الأول أعمل في إخراج الدم والثاني أقصر فيه، فاكتفى به عند العجز عن الأول، إذ التكليف بحسب الوسع. ومن شرطه أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد إما اعتقادا كالمسلم أو دعوى كالكتابي، وأن يكون حلالا خارج الحرم على ما نبينه إن شاء الله تعالى. قال: "وذبيحة المسلم والكتابي حلال" لما تلونا. ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد. وصحة القصد بما ذكرنا. والأقلف والمختون سواء لما ذكرنا، وإطلاق الكتابي ينتظم الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي، لأن الشرط قيام الملة على ما مر. قال: "ولا تؤكل ذبيحة المجوسي" لقوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولأنه لا يدعي التوحيد فانعدمت الملة اعتقادا ودعوى. قال: "والمرتد" لأنه لا ملة له. فإنه لا يقر على ما انتقل إليه، بخلاف الكتابي إذا تحول إلى غير دينه لأنه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله. قال: "والوثني" لأنه لا يعتقد الملة. قال: "والمحرم" يعني من الصيد "وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 والإطلاق في المحرم ينتظم الحل والحرم، والذبح في الحرم يستوي فيه الحلال والمحرم، وهذا لأن الذكاة فعل مشروع وهذا الصنيع محرم فلم تكن ذكاة، بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو ذبح في الحرم غير الصيد صح لأنه فعل مشروع، إذ الحرم لا يؤمن الشاة، وكذا لا يحرم ذبحه على المحرم. قال: "وإن ترك الذابح التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل وإن تركها ناسيا أكل" وقال الشافعي: أكل في الوجهين. وقال مالك: لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء، وعلى هذا الخلاف إذا ترك التسمية عند إرسال البازي والكلب، وعند الرمي، وهذا القول من الشافعي مخالف للإجماع فإنه لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيا. فمن مذهب ابن عمر رضي الله عنهما أنه يحرم، ومن مذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم أنه يحل، بخلاف متروك التسمية عامدا، ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله: إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد، ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للإجماع، له قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم يذبح على اسم الله تعالى سمى أو لم يسم" ولأن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقطت بعذر النسيان كالطاهرة في باب الصلاة، ولو كانت شرطا فالملة أقيمت مقامها كما في الناسي، ولنا الكتاب وهو قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] الآية، نهي وهو للتحريم. والإجماع وهو ما بينا. والسنة وهو حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه فإنه عليه الصلاة والسلام قال في آخره "فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" علل الحرمة بترك التسمية. ومالك يحتج بظاهر ما ذكرنا، إذ لا فصل فيه ولكنا نقول: في اعتبار ذلك من الحرج ما لا يخفى، لأن الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع والسمع غير مجرى على ظاهره، إذ لو أريد به لجرت المحاجة وظهر الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول. والإقامة في حق الناسي وهو معذور لا يدل عليها في حق العامد ولا عذر، وما رواه محمول على حالة النسيان ثم التسمية في ذكاة الاختيار تشترط عند الذبح وهي على المذبوح. وفي الصيد تشترط عند الإرسال والرمي وهي على الآلة، لأن المقدور له في الأول الذبح وفي الثاني الرمي والإرسال دون الإصابة فتشترط عند فعل يقدر عليه، حتى إذا أضجع شاة وسمى فذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز. ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره حل، وكذا في الإرسال، ولو أضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة وذبح بالأخرى أكل، ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره صيدا لا يؤكل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 قال: "ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره. وأن يقول عند الذبح: اللهم تقبل من فلان" وهذه ثلاث مسائل: إحداها: أن يذكر موصولا لا معطوفا فيكره ولا تحرم الذبيحة. وهو المراد بما قال. ونظيره أن يقول: باسم الله محمد رسول الله. لأن الشركة لم توجد فلم يكن الذبح واقعا له. إلا أنه يكره لوجود القرآن صورة فيتصور بصورة المحرم. والثانية: أن يذكر موصولا على وجه العطف والشركة بأن يقول: باسم الله واسم فلان، أو يقول: باسم الله وفلان. أو باسم الله ومحمد رسول الله بكسر الدال فتحرم الذبيحة لأنه أهل به لغير الله. والثالثة: أن يقول مفصولا عنه صورة ومعنى بأن يقول قبل التسمية وقبل أن يضجع الذبيحة أو بعده، وهذا لا بأس به لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد الذبح: "اللهم تقبل هذه عن أمة محمد ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ" والشرط هو الذكر الخالص المجرد على ما قال ابن مسعود رضي الله عنه جردوا التسمية حتى لو قال عند الذبح اللهم اغفر لي لا يحل لأنه دعاء وسؤال، ولو قال الحمد لله أو سبحان الله يريد التسمية حل، ولو عطس عند الذبح فقال الحمد لله لا يحل في أصح الروايتين. لأنه يريد به الحمد على نعمه دون التسمية. وما تداولته الألسن عند الذبح وهو قوله باسم الله والله أكبر منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] . قال: "والذبح بين الحلق واللبة" وفي الجامع الصغير: لا بأس بالذبح في الحلق كله وسطه وأعلاه وأسفله، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "الذكاة ما بين اللبة واللحيين"، ولأنه مجمع المجرى والعروق فيحصل بالفعل فيه إنهار الدم على أبلغ الوجوه فكان حكم الكل سواء. قال: "والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجان" لقوله عليه الصلاة والسلام: "أفر الأوداج بما شئت". وهي اسم جمع وأقله الثلاث فيتناول المريء والودجين، وهو حجة على الشافعي في الاكتفاء بالحلقوم والمريء، إلا أنه لا يمكن قطع هذه الثلاثة إلا بقطع الحلقوم فيثبت قطع الحلقوم باقتضائه، وبظاهر ما ذكرنا يحتج مالك ولا يجوز الأكثر منها بل يشترط قطع جميعها "وعندنا إن قطعها حل الأكل، وإن قطع أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله" وقالا: لا بد من قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 رضي الله عنه: هكذا ذكر القدوري الاختلاف في مختصره. والمشهور في كتب مشايخنا رحمهم الله أن هذا قول أبي يوسف وحده. وقال في الجامع الصغير: إن قطع نصف الحلقوم ونصف الأوداج لم يؤكل. وإن قطع أكثر الأوداج والحلقوم قبل أن يموت أكل. ولم يحك خلافا فاختلفت الرواية فيه. والحاصل: أن عند أبي حنيفة إذا قطع الثلاث: أي ثلاث كان يحل، وبه كان يقول أبو يوسف أولا ثم رجع إلى ما ذكرنا. وعن محمد أنه يعتبر أكثر كل فرد وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، لأن كل فرد منها أصل بنفسه لانفصاله عن غيره ولورود الأمر بفريه فيعتبر أكثر كل فرد منها. ولأبي يوسف أن المقصود من قطع الودجين إنهار الدم فينوب أحدهما عن الآخر، إذ كل واحد منهما مجرى الدم. أما الحلقوم فيخالف المريء فإنه مجرى العلف والماء، والمريء مجرى النفس فلا بد من قطعهما. ولأبي حنيفة أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام، وأي ثلاث قطعها فقد قطع الأكثر منها وما هو المقصود يحصل بها هو إنهار الدم المسفوح والتوحية في إخراج الروح، لأنه لا يحيا بعد قطع مجرى النفس أو الطعام، ويخرج الدم بقطع أحد الودجين فيكتفى به تحرزا عن زيادة التعذيب، بخلاف ما إذا قطع النصف لأن الأكثر باق فكأنه لم يقطع شيئا احتياطا لجانب الحرمة. قال: "ويجوز الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان منزوعا حتى لا يكون بأكله بأس، إلا أنه يكره هذا الذبح" وقال الشافعي: المذبوح ميتة لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا الظفر والسن فإنهما مدى الحبشة" ولأنه فعل غير مشروع فلا يكون ذكاة كما إذا ذبح بغير المنزوع، ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "أنهر الدم بما شئت" ويروى "أفر الأوداج بما شئت" وما رواه محمول على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك، ولأنه آلة جارحة فيحصل به ما هو المقصود وهو إخراج الدم وصار كالحجر والحديد، بخلاف غير المنزوع لأنه يقتل بالثقل فيكون في معنى المنخنقة، وإنما يكره لأن فيه استعمال جزء الآدمي ولأن فيه إعسارا على الحيوان وقد أمرنا فيه بالإحسان. قال: "ويجوز الذبح بالليطة والمروة وكل شيء أنهر الدم إلا السن القائم والظفر القائم" فإن المذبوح بهما ميتة لما بينا، ونص محمد رحمه الله في الجامع الصغير على أنها ميتة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 لأنه وجد فيه نصا. وما لم يجد فيه نصا يحتاط في ذلك، فيقول في الحل لا بأس به وفي الحرمة يقول يكره أو لم يؤكل. قال: "ويستحب أن يحد الذابح شفرته" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" ويكره أن يضجعها ثم يحد الشفرة لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه رأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: لقد أردت أن تميتها موتات، هلا حددتها قبل أن تضجعها" قال: "ومن بلغ بالسكين النخاع أو قطع الرأس كره له ذلك وتؤكل ذبيحته" وفي بعض النسخ: قطع مكان بلغ. والنخاع عرق أبيض في عظم الرقبة، أما الكراهة فلما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت" وتفسيره ما ذكرناه، وقيل معناه: أن يمد رأسه حتى يظهر مذبحه، وقيل أن يكسر عنقه قبل أن يسكن من الاضطراب، وكل ذلك مكروه، وهذا لأن في جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة وهو منهي عنه. والحاصل: أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة مكروه. ويكره أن يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح، وأن تنخع الشاة قبل أن تبرد: يعني تسكن من الاضطراب، وبعده لا ألم فلا يكره النخع والسلخ، إلا أن الكراهة لمعنى زائد وهو زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا يوجب التحريم فلهذا قال: تؤكل ذبيحته. قال: "فإن ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع العروق حل" لتحقق الموت بما هو ذكاة، ويكره لأن فيه زيادة الألم من غير حاجة فصار كما إذا جرحها ثم قطع الأوداج "وإن ماتت قبل قطع العروق لم تؤكل" لوجود الموت بما ليس بذكاة فيها. قال: "وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح، وما توحش من النعم فذكاته العقر والجرح" لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليه عند العجز عن ذكاة الاختيار على ما مر، والعجز متحقق في الوجه الثاني دون الأول "وكذا ما تردى من النعم في بئر ووقع العجز عن ذكاة الاختيار" لما بينا. وقال مالك: لا يحل بذكاة الاضطرار في الوجهين لأن ذلك نادر. ونحن نقول: المعتبر حقيقة العجز وقد تحقق فيصار إلى البدل، كيف وإنا لا نسلم الندرة بل هو غالب. وفي الكتاب أطلق فيما توحش من النعم. وعن محمد أن الشاة إذا ندت في الصحراء فذكاتها العقر، وإن ندت في المصر لا تحل بالعقر لأنها لا تدفع عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 نفسها فيمكن أخذها في المصر فلا عجز، والمصر وغيره سواء في البقر والبعير لأنهما يدفعان عن أنفسهما فلا يقدر على أخذهما، وإن ندا في المصر فيتحقق العجز، والصيال كالند إذا كان لا يقدر على أخذه، حتى لو قتله المصول عليه وهو يريد الذكاة حل أكله. قال: "والمستحب في الإبل النحر، فإن ذبحها جاز ويكره. والمستحب في البقر والغنم الذبح فإن نحرهما جاز ويكره" أما الاستحباب فلموافقة السنة المتوارثة ولاجتماع العروق فيها في المنحر وفيهما في المذبح، والكراهة لمخالفة السنة وهي لمعنى في غيره فلا تمنع الجواز والحل خلافا لما يقوله مالك إنه لا يحل. قال: "ومن نحر ناقة أو ذبح بقرة فوجد في بطنها جنينا ميتا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر" وهذا عند أبي حنيفة. وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهما الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا تم خلقه أكل وهو قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" ولأنه جزء من الأم حقيقة لأنه متصل بها حتى يفصل بالمقراض ويتغذى بغذائها ويتنفس بتنفسها، وكذا حكما حتى يدخل في البيع الوارد على الأم ويعتق بإعتاقها. وإذا كان جزءا منها فالجرح في الأم ذكاة له عند العجز عن ذكاته كما في الصيد. وله أنه أصل في الحياة حتى تتصور حياته بعد موتها وعند ذلك يفرد بالذكاة، ولهذا يفرد بإيجاب الغرة ويعتق بإعتاق مضاف إليه، وتصح الوصية له وبه، وهو حيوان دموي، وما هو المقصود من الذكاة وهو الميز بين الدم واللحم لا يتحصل بجرح الأم، إذ هو ليس بسبب لخروج الدم عنه فلا يجعل تبعا في حقه، بخلاف الجرح في الصيد لأنه سبب لخروجه ناقصا فيقام مقام الكامل فيه عند التعذر. وإنما يدخل في البيع تحريا لجوازه كي لا يفسد باستثنائه، ويعتق بإعتاقها كي لا ينفصل من الحرة ولد رقيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 فصل: فيما يحل أكله وما لا يحل قال: "ولا يجوز أكل ذي ناب من السباع ولا ذي مخلب من الطيور" لأن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من السباع". وقوله من السباع ذكر عقيب النوعين فينصرف إليهما فيتناول سباع الطيور والبهائم لأكل ما له مخلب أو ناب. والسبع كل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة. ومعنى التحريم والله أعلم كرامة بني آدم كي لا يعدو شيء من هذه الأوصاف الذميمة إليهم بالأكل، ويدخل فيه الضبع والثعلب، فيكون الحديث حجة على الشافعي رحمه الله في إباحتهما، والفيل ذو ناب فيكره، واليربوع وابن عرس من السباع الهوام وكرهوا أكل الرخم والبغاث لأنهما يأكلان الجيف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 قال: "ولا بأس بغراب الزرع" لأنه يأكل الحب ولا يأكل الجيف وليس من سباع الطير. قال: "ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف، وكذا الغداف" "وقال أبو حنيفة: لا بأس بأكل العقعق" لأنه يخلط فأشبه الدجاجة. وعن أبي يوسف أنه يكره لأن غالب أكله الجيف. قال: "ويكره أكل الضبع والضب والسلحفاة والزنبور والحشرات كلها" أما الضبع فلما ذكرنا، وأما الضب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام "نهى عائشة رضي الله عنها حين سألته عن أكله". وهي حجة على الشافعي في إباحته، والزنبور من المؤذيات. والسلحفاة من خبائث الحشرات ولهذا لا يجب على المحرم بقتله شيء، وإنما تكره الحشرات كلها استدلالا بالضب لأنه منها. قال: "ولا يجوز أكل الحمر الأهلية والبغال " لما روى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير" وعن علي رضي الله عنه: "أن النبي عليه الصلاة والسلام أهدر المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر" قال: "ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة" وهو قول مالك. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: لا بأس بأكله لحديث جابر رضي الله عنه أنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل يوم خيبر" ولأبي حنيفة قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] خرج مخرج الامتنان والأكل من أعلى منافعها، والحكم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها، ولأنه آلة إرهاب العدو فيكره أكله احتراما له ولهذا يضرب له بسهم في الغنيمة، ولأن في إباحته تقليل آلة الجهاد، وحديث. جابر معارض بحديث خالد رضي الله عنه، والترجيح للمحرم. ثم قيل: الكراهة عنده كراهة تحريم. وقيل كراهة تنزيه. والأول أصح. وأما لبنه فقد قيل: لا بأس به لأنه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد قال: "ولا بأس بأكل الأرنب" لأن النبي عليه الصلاة والسلام أكل منه حين أهدي إليه مشويا وأمر أصحابه رضي الله عنهم بالأكل منه، ولأنه ليس من السباع ولا من أكلة الجيف فأشبه الظبي. قال: "وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه طهر جلده ولحمه إلا الآدمي والخنزير" فإن الذكاة لا تعمل فيهما، أما الآدمي فلحرمته وكرامته والخنزير لنجاسته كما في الدباغ. وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 الشافعي: الذكاة لا تؤثر في جميع ذلك لأنه لا يؤثر في إباحة اللحم أصلا. وفي طهارته وطهارة الجلد تبعا ولا تبع بدون الأصل وصار كذبح المجوسي. ولنا أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات والدماء السيالة وهي النجسة دون ذات الجلد واللحم، فإذا زالت طهر كما في الدباغ. وهذا الحكم مقصود في الجلد كالتناول في اللحم وفعل المجوسي إماتة في الشرع فلا بد من الدباغ، وكما يطهر لحمه يطهر شحمه، حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده خلافا له. وهل يجوز الانتفاع به في غير الأكل؟ قيل: لا يجوز اعتبارا بالأكل. وقيل يجوز كالزيت إذا خالطه ودك الميتة. والزيت غالب لا يؤكل وينتفع به في غير الأكل. قال: "ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك" وقال مالك وجماعة من أهل العلم بإطلاق جميع ما في البحر. واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان. وعن الشافعي أنه أطلق ذاك كله، والخلاف في الأكل والبيع واحد لهم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] من غير فصل، وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" ولأنه لا دم في هذه الأشياء إذ الدموي لا يسكن الماء والمحرم هو الدم فأشبه السمك. قلنا: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وما سوى السمك خبيث. "ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن دواء يتخذ فيه الضفدع"، ونهى عن بيع السرطان والصيد المذكور فيما تلا محمول على الاصطياد وهو مباح فيما لا يحل، والميتة المذكورة فيما روى محمولة على السمك وهو حلال مستثنى من ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال". قال: "ويكره أكل الطافي منه" وقال مالك والشافعي رحمهما الله لا بأس به لإطلاق ما روينا، ولأن ميتة البحر موصوفة بالحل بالحديث. ولنا ما روى جابر رضي الله عنه عن. النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا" وعن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا، وميتة البحر ما لفظه البحر ليكون موته مضافا إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة. قال: "ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي وأنواع السمك والجراد بلا ذكاة" وقال مالك: لا يحل الجراد إلا أن يقطع الآخذ رأسه أو يشويه لأنه صيد البر، ولهذا يجب على المحرم بقتله جزاء يليق به فلا يحل إلا بالقتل كما في سائره. والحجة عليه ما روينا. وسئل علي رضي الله عنه عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيها الميت وغيره، فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 كله كله. وهذا عد من فصاحته، ودل على إباحته وإن مات حتف أنفه، بخلاف السمك إذا مات من غير آفة لأنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي، ثم الأصل في السمك عندنا أنه إذا مات بآفة يحل كالمأخوذ، وإذا مات حتف أنفه من غير آفة لا يحل كالطافي، وتنسحب عليه فروع كثيرة بيناها في كفاية المنتهى. وعند التأمل يقف المبرز عليها: منها إذا قطع بعضها فمات يحل أكل ما أبين وما بقي. لأن موته بآفة وما أبين من الحي وإن كان ميتا فميتته حلال. وفي الموت بالحر والبرد روايتان. والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 كتاب الأضحية على من تجب الأضحية ... كتاب الأضحية قال: "الأضحية واجبة على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى عن نفسه وعن ولده الصغار" أما الوجوب فقول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله. وعنه أنها سنة، ذكره في الجوامع وهو قول الشافعي. وذكر الطحاوي أن على قول أبي حنيفة واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد سنة مؤكدة، وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف. وجه السنة قوله عليه الصلاة والسلام: "من أراد أن يضحي منكم فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئا" والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب، ولأنها لو كانت واجبة على المقيم لوجبت على المسافر لأنهما لا يختلفان في الوظائف المالية كالزكاة وصار كالعتيرة. ووجه الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب، ولأنها قربة يضاف إليها وقتها. يقال يوم الأضحى، وذلك يؤذن بالوجوب لأن الإضافة للاختصاص وهو بالوجود، والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهرا بالنظر إلى الجنس، غير أن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استحضارها ويفوت بمضي الوقت فلا تجب عليه بمنزلة الجمعة، والمراد بالإرادة فيما روي والله أعلم ما هو ضد السهو لا التخيير. والعتيرة منسوخة، وهي شاة تقام في رجب على ما قيل، وإنما اختص الوجوب بالحرية لأنها وظيفة مالية لا تتأدى إلا بالملك، والمالك هو الحر؛ وبالإسلام لكونها قربة، وبالإقامة لما بينا، واليسار لما روينا من اشتراط السعة؛ ومقداره ما يجب به صدقة الفطر وقد مر في الصوم، وبالوقت وهو يوم الأضحى لأنها مختصة به، وسنبين مقداره إن شاء الله تعالى. وتجب عن نفسه لأنه أصل في الوجوب عليه على ما بيناه، وعن ولده الصغير لأنه في معنى نفسه فيلحق به كما في صدقة الفطر. وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله. وروي عنه أنه لا تجب عن ولده وهو ظاهر الرواية، بخلاف صدقة الفطر لأن السبب هناك رأس يمونه ويلي عليه وهما موجودان في الصغير وهذه قربة محضة. والأصل في القرب أن لا تجب على الغير بسبب الغير ولهذا لا تجب عن عبده وإن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 يجب عنه صدقة فطره، وإن كان للصغير مال يضحي عنه أبوه أو وصيه من ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد وزفر والشافعي رحمهم الله: يضحي من مال نفسه لا من مال الصغير، فالخلاف في هذا كالخلاف في صدقة الفطر. وقيل لا تجوز التضحية من مال الصغير، في قولهم جميعا، لأن هذه القربة تتأدى بالإراقة والصدقة بعدها تطوع، ولا يجوز ذلك من مال الصغير، ولا يمكنه أن يأكل كله. والأصح أن يضحي من ماله ويأكل منه ما أمكنه ويبتاع بما بقي ما ينتفع بعينه. قال: "ويذبح عن كل واحد منهم شاة أو يذبح بقرة أو بدنة عن سبعة" والقياس أن لا تجوز إلا عن واحد، لأن الإراقة واحدة وهي القربة، إلا أنا تركناه بالأثر وهو ما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة". ولا نص في الشاة، فبقي على أصل القياس. وتجوز عن ستة أو خمسة أو ثلاثة، ذكره محمد رحمه الله في الأصل، لأنه لما جاز عن السبعة فعمن دونهم أولى، ولا تجوز عن ثمانية أخذا بالقياس فيما لا نص فيه وكذا إذا كان نصيب أحدهم أقل من السبع، ولا تجوز عن الكل لانعدام وصف القربة في البعض، وسنبينه إن شاء الله تعالى. وقال مالك: تجوز عن أهل بيت واحد وإن كانوا أكثر من سبعة، ولا تجوز عن أهل بيتين وإن كانوا أقل منها لقوله عليه الصلاة والسلام: "على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة" قلنا: المراد منه والله أعلم قيم أهل البيت لأن اليسار له يؤيده ما يروى "على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة" ولو كانت البدنة بين اثنين نصفين تجوز في الأصح، لأنه لما جاز ثلاثة الأسباع جاز نصف السبع تبعا، وإذا جاز على الشركة فقسمة اللحم بالوزن لأنه موزون، ولو اقتسموا جزافا لا يجوز إلا إذا كان معه شيء من الأكارع والجلد اعتبارا بالبيع. قال: "ولو اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه ثم اشترك فيها ستة معه جاز استحسانا" وفي القياس لا يجوز، وهو قول زفر لأنه أعدها للقربة فيمنع عن بيعها تمولا والاشتراك هذه صفته. وجه الاستحسان أنه قد يجد بقرة سمينة يشتريها ولا يظفر بالشركاء وقت البيع، وإنما يطلبهم بعده فكانت الحاجة إليه ماسة فجوزناه دفعا للحرج، وقد أمكن لأن بالشراء للتضحية لا يمتنع البيع، والأحسن أن يفعل ذلك قبل الشراء ليكون أبعد عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 الخلاف، وعن صورة الرجوع في القربة. وعن أبي حنيفة أنه يكره الاشتراك بعد الشراء لما بينا. قال: "وليس على الفقير والمسافر أضحية" لما بينا. وأبو بكر وعمر كانا لا يضحيان إذا كانا مسافرين، وعن علي: وليس على المسافر جمعة ولا أضحية. قال: "ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر، إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل السواد فيذبحون بعد الفجر". والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "من ذبح شاة قبل الصلاة فليعد ذبيحته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أول نسكنا في هذا اليوم الصلاة ثم الأضحية" غير أن هذا الشرط في حق من عليه الصلاة وهو المصري دون أهل السواد، لأن التأخير لاحتمال التشاغل به عن الصلاة، ولا معنى للتأخير في حق القروي ولا صلاة عليه، وما رويناه حجة على مالك والشافعي رحمهما الله في نفيهما الجواز بعد الصلاة قبل نحر الإمام، ثم المعتبر في ذلك مكان الأضحية، حتى لو كانت في السواد والمضحي في المصر يجوز كما انشق الفجر، ولو كان على العكس لا يجوز إلا بعد الصلاة. وحيلة المصري إذا أراد التعجيل أن يبعث بها إلى خارج المصر فيضحي بها كما طلع الفجر، لأنها تشبه الزكاة من حيث أنها تسقط بهلاك المال قبل مضي أيام النحر كالزكاة بهلاك النصاب فيعتبر في الصرف مكان المحل لا مكان الفاعل اعتبارا بها، بخلاف صدقة الفطر لأنها لا تسقط بهلاك المال بعدما طلع الفجر من يوم الفطر ولو ضحى بعدما صلى أهل المسجد ولم يصل أهل الجبانة أجزأه استحسانا لأنها صلاة معتبرة، حتى لو اكتفوا بها أجزأتهم وكذا على عكسه. وقيل هو جائز قياسا واستحسانا. قال: "وهي جائزة في ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده" وقال الشافعي: ثلاثة أيام بعده لقوله عليه الصلاة والسلام: "أيام التشريق كلها أيام ذبح" ولنا ما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وأفضلها أولها كما قالوا ولأن فيه مسارعة إلى أداء القربة وهو الأصل إلا لمعارض. ويجوز الذبح في لياليها إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل، وأيام النحر ثلاثة، وأيام التشريق ثلاثة، والكل يمضي بأربعة أولها نحر لا غير وآخرها تشريق لا غير، والمتوسطان نحر وتشريق، والتضحية فيها أفضل من التصدق بثمن الأضحية لأنها تقع واجبة أو سنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 والتصدق تطوع محض فتفضل عليه، لأنها تفوت بفوات وقتها، والصدقة يؤتى بها في الأوقات كلها فنزلت منزلة الطواف والصلاة في حق الآفاقي "ولو لم يضح حتى مضت أيام النحر إن كان أوجب على نفسه أو كان فقيرا وقد اشترى الأضحية تصدق بها حية وإن كان غنيا تصدق بقيمة شاة اشترى أو لم يشتر" لأنها واجبة على الغني. وتجب على الفقير بالشراء بنية التضحية عندنا، فإذا فات الوقت وجب عليه التصدق إخراجا له عن العهدة، كالجمعة تقضى بعد فواتها ظهرا، والصوم بعد العجز فدية. قال: "ولا يضحي بالعمياء والعوراء والعرجاء التي لا تمشي إلى المنسك ولا العجفاء" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجزئ في الضحايا أربعة: العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي" قال: "ولا تجزئ مقطوعة الأذن والذنب". أما الأذن فلقوله عليه الصلاة والسلام: "استشرفوا العين والأذن" أي اطلبوا سلامتهما. وأما الذنب فلأنه عضو كامل مقصود فصار كالأذن. قال: "ولا التي ذهب أكثر أذنها وذنبها، وإن بقي أكثر الأذن والذنب جاز" لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهابا ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في مقدار الأكثر. ففي الجامع الصغير عنه: وإن قطع من الذنب أو الأذن أو العين أو الألية الثلث أو أقل أجزأه، وإن كان أكثر لم يجزه لأن الثلث تنفذ فيه الوصية من غير رضا الورثة فاعتبر قليلا، وفيما زاد لا تنفذ إلا برضاهم فاعتبر كثيرا، ويروى عنه الربع لأنه يحكي حكاية الكمال على ما مر في الصلاة، ويروى الثلث لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الوصية "الثلث والثلث كثير" وقال أبو يوسف ومحمد: إذا بقي الأكثر من النصف أجزأه اعتبارا للحقيقة على ما تقدم في الصلاة وهو اختيار الفقيه أبي الليث. وقال أبو يوسف: أخبرت بقولي أبا حنيفة، فقال قولي هو قولك. قيل هو رجوع منه إلى قول أبي يوسف، وقيل معناه قولي قريب من قولك. وفي كون النصف مانعا روايتان عنهما كما في انكشاف العضو عن أبي يوسف، ثم معرفة المقدار في غير العين متيسر، وفي العين قالوا: تشد العين المعيبة بعد أن لا تعتلف الشاة يوما أو يومين ثم يقرب العلف إليها قليلا قليلا، فإذا رأته من موضع أعلم على ذلك المكان ثم تشد عينها الصحيحة وقرب إليها العلف قليلا قليلا حتى إذا رأته من مكان أعلم عليه. ثم ينظر إلى تفاوت ما بينهما، فإن كان ثلثا فالذاهب الثلث، وإن كان نصفا فالنصف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 قال: "ويجوز أن يضحي بالجماء" وهي التي لا قرن لها لأن القرن لا يتعلق به مقصود، وكذا مكسورة القرن لما قلنا "والخصي" لأن لحمها أطيب وقد صح "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجوءين" "والثولاء" وهي المجنونة، وقيل هذا إذا كانت تعتلف لأنه لا يخل بالمقصود، أما إذا كانت لا تعتلف فلا تجزئه. "والجرباء" إن كانت سمينة جاز لأن الجرب في الجلد ولا نقصان في اللحم، وإن كانت مهزولة لا يجوز لأن الجرب في اللحم فانتقص. وأما الهتماء وهي التي لا أسنان لها؛ فعن أبي يوسف أنه يعتبر في الأسنان الكثرة والقلة، وعنه إن بقي ما يمكنه الاعتلاف به أجزأه لحصول المقصود. "والسكاء" وهي التي لا أذن لها خلقة لا تجوز، لأن مقطوع أكثر الأذن إذا كان لا يجوز فعديم الأذن أولى "وهذا" الذي ذكرنا "إذا كانت هذه العيوب قائمة وقت الشراء، ولو اشتراها سليمة ثم تعيبت بعيب مانع إن كان غنيا عليه غيرها، وإن فقيرا تجزئه هذه" لأن الوجوب على الغني بالشرع ابتداء لا بالشراء فلم تتعين به، وعلى الفقير بشرائه بنية الأضحية فتعينت، ولا يجب عليه ضمان نقصانه كما في نصاب الزكاة، وعن هذا الأصل قالوا: إذا ماتت المشتراة للتضحية؛ على الموسر مكانها أخرى ولا شيء على الفقير، ولو ضلت أو سرقت فاشترى أخرى ثم ظهرت الأولى في أيام النحر على الموسر ذبح إحداهما وعلى الفقير ذبحهما "ولو أضجعها فاضطربت فانكسرت رجلها فذبحها أجزأه استحسانا" عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله، لأن حالة الذبح ومقدماته ملحقة بالذبح فكأنه حصل به اعتبارا وحكما "وكذا لو تعيبت في هذه الحالة فانفلتت ثم أخذت من فوره، وكذا بعد فوره عند محمد خلافا لأبي يوسف" لأنه حصل بمقدمات الذبح. قال: "والأضحية من الإبل والبقر والغنم" لأنها عرفت شرعا ولم تنقل التضحية بغيرها من النبي عليه الصلاة والسلام ولا من الصحابة رضي الله عنهم. قال: "ويجزئ من ذلك كله الثني فصاعدا. إلا الضأن فإن الجذع منه يجزئ" لقوله عليه الصلاة والسلام: "ضحوا بالثنايا إلا أن يعسر على أحدكم فليذبح الجذع من الضأن". وقال عليه الصلاة والسلام: "نعمت الأضحية الجذع من الضأن". قالوا: وهذا إذا كانت عظيمة بحيث لو خلطت بالثنيان يشتبه على الناظر من بعيد. والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر في مذهب الفقهاء، وذكر الزعفراني أنه ابن سبعة أشهر. والثني منها ومن المعز سنة، ومن البقر ابن سنتين، ومن الإبل ابن خمس سنين، ويدخل في البقر الجاموس لأنه من جنسه، والمولود بين الأهلي والوحشي يتبع الأم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 لأنها هي الأصل في التبعية، حتى إذا نزا الذئب على الشاة يضحى بالولد. قال: "وإذا اشترى سبعة بقرة ليضحوا بها فمات أحدهم قبل النحر وقالت الورثة اذبحوها عنه وعنكم أجزأهم، وإن كان شريك الستة نصرانيا أو رجلا يريد اللحم لم يجز عن واحد منهم" ووجهه أن البقرة تجوز عن سبعة، ولكن من شرطه أن يكون قصد الكل القربة وإن اختلفت جهاتها كالأضحية والقران والمتعة عندنا لاتحاد المقصود وهو القربة، وقد وجد هذا الشرط في الوجه الأول لأن الضحية عن الغير عرفت قربة؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته على ما روينا من قبل، ولم يوجد في الوجه الثاني لأن النصراني ليس من أهلها، وكذا قصد اللحم ينافيها. وإذا لم يقع البعض قربة والإراقة لا تتجزأ في حق القربة لم يقع الكل أيضا فامتنع الجواز، وهذا الذي ذكره استحسان. والقياس أن لا يجوز وهو رواية عن أبي يوسف، لأنه تبرع بالإتلاف فلا يجوز عن غيره كالإعتاق عن الميت، لكنا نقول: القربة قد تقع عن الميت كالتصدق، بخلاف الإعتاق لأن فيه إلزام الولاء على الميت "فلو ذبحوها عن صغير في الورثة أو أم ولد جاز" لما بينا أنه قربة "ولو مات واحد منهم فذبحها الباقون بغير إذن الورثة لا تجزيهم" لأنه لم يقع بعضها قربة، وفيما تقدم وجد الإذن من الورثة فكان قربة. قال: "ويأكل من لحم الأضحية ويطعم الأغنياء والفقراء ويدخر" لقوله عليه الصلاة والسلام: "كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا" ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا. قال: "ويستحب أن لا ينقص الصدقة عن الثلث" لأن الجهات ثلاثة: الأكل والادخار لما روينا، والإطعام لقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] فانقسم عليهم أثلاثا. قال: "ويتصدق بجلدها" لأنه جزء منها "أو يعمل منه آلة تستعمل في البيت" كالنطع والجراب والغربال ونحوها، لأن الانتفاع به غير محرم "ولا بأس بأن يشتري به ما ينتفع بعينه في البيت مع بقائه" استحسانا، وذلك مثل ما ذكرنا لأن للبدل حكم المبدل، "ولا يشتري به ما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه كالخل والأبازير" اعتبارا بالبيع بالدراهم. والمعنى فيه أنه تصرف على قصد التمول، واللحم بمنزلة الجلد في الصحيح، فلو باع الجلد أو اللحم بالدراهم أو بما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه تصدق بثمنه، لأن القربة انتقلت إلى بدله، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من باع جلد أضحيته فلا أضحية له" يفيد كراهة البيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 أما البيع جائز لقيام الملك والقدرة على التسليم. قال: "ولا يعطي أجرة الجزار من الأضحية" لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: "تصدق بجلالها وخطامها ولا تعط أجر الجزار منها شيئا" والنهي عنه نهي عن البيع أيضا لأنه في معنى البيع. قال: "ويكره أن يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها" لأنه التزم إقامة القربة بجميع أجزائها، بخلاف ما بعد الذبح لأنه أقيمت القربة بها كما في الهدي، ويكره أن يحلب لبنها فينتفع به كما في الصوف. قال: "والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح" وإن كان لا يحسنه فالأفضل أن يستعين بغيره، وإذا استعان بغيره ينبغي أن يشهدها بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة رضي الله عنها: "قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب". قال: "ويكره أن يذبحها الكتابي" لأنه عمل هو قربة وهو ليس من أهلها، فلو أمره فذبح جاز لأنه من أهل الذكاة، والقربة أقيمت بإنابته ونيته، بخلاف ما إذا أمر المجوسي لأنه ليس من أهل الذكاة فكان إفسادا. قال: "وإذا غلط رجلان فذبح كل واحد منهما أضحية الآخر أجزأ عنهما ولا ضمان عليهما" وهذا استحسان، وأصل هذا أن من ذبح أضحية غيره بغير إذنه لا يحل له ذلك وهو ضامن لقيمتها، ولا يجزئه عن الأضحية في القياس وهو قول زفر وفي الاستحسان يجوز ولا ضمان على الذابح، وهو قولنا. وجه القياس أنه ذبح شاة غيره بغير أمره فيضمن، كما إذا ذبح شاة اشتراها القصاب. وجه الاستحسان أنها تعينت للذبح لتعينها للأضحية حتى وجب عليه أن يضحي بها بعينها في أيام النحر. ويكره أن يبدل بها غيرها فصار المال مستعينا بكل من يكون أهلا للذبح آذنا له دلالة لأنها تفوت بمضي هذه الأيام، وعساه يعجز عن إقامتها بعوارض فصار كما إذا ذبح شاة شد القصاب رجلها. فإن قيل: يفوته أمر مستحب وهو أن يذبحها بنفسه أو يشهد الذبح فلا يرضى به. قلنا: يحصل له به مستحبان آخران، صيرورته مضحيا لما عينه، وكونه معجلا به فيرتضيه. ولعلمائنا رحمهم الله من هذا الجنس مسائل استحسانية، وهي أن من طبخ لحم غيره أو طحن حنطته أو رفع جرته فانكسرت أو حمل على دابته فعطبت كل ذلك بغير أمر المالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 يكون ضامنا، ولو وضع المالك اللحم في القدر والقدر على الكانون والحطب تحته، أو جعل الحنطة في الدورق وربط الدابة عليه، أو رفع الجرة وأمالها إلى نفسه أو حمل على دابته فسقط في الطريق، فأوقد هو النار فيه وطبخه، أو ساق الدابة فطحنها، أو أعانه على رفع الجرة فانكسرت فيما بينهما، أو حمل على دابته ما سقط فعطبت لا يكون ضامنا في هذه الصور كلها استحسانا لوجود الإذن دلالة. إذا ثبت هذا فنقول في مسألة الكتاب: ذبح كل واحد منهما أضحية غيره بغير إذنه صريحا فهي خلافية زفر بعينها ويتأتى فيها القياس والاستحسان كما ذكرنا، فيأخذ كل واحد منهما مسلوخة من صاحبه، ولا يضمنه لأنه وكيله فيما فعل دلالة، فإذا كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزيهما، لأنه لو أطعمه في الابتداء يجوز، وإن كان غنيا فكذا له أن يحلله في الانتهاء وإن، تشاحا فلكل واحد منهما أن يضمن صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة لأنها بدل عن اللحم فصار كما لو باع أضحيته، وهذا لأن التضحية لما وقعت عن صاحبه كان اللحم له ومن أتلف لحم أضحية غيره كان الحكم ما ذكرناه "ومن غصب شاة فضحى بها ضمن قيمتها وجاز عن أضحيته" لأنه ملكها بسابق الغصب، بخلاف ما لو أودع شاة فضحى بها لأنه يضمنه بالذبح فلم يثبت الملك له إلا بعد الذبح، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 كتاب الكراهية فصل: في الأكل والشرب ... كتاب الكراهية قال رضي الله عنه: تكلموا في معنى المكروه. والمروي عن محمد نصا أن كل مكروه حرام، إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب، وهو يشتمل على فصول منها: فصل: في الأكل والشرب "قال أبو حنيفة رحمه الله: يكره لحوم الأتن وألبانها وأبوال الإبل. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بأبوال الإبل" وتأويل قول أبي يوسف أنه لا بأس بها للتداوي، وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة والذبائح فلا نعيدها، واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه. قال: "ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء" لقوله عليه الصلاة والسلام في الذي يشرب في إناء الذهب والفضة: "إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وأتي أبو هريرة رضي الله عنه بشراب في إناء فضة فلم يقبله وقال: "نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وإذا ثبت هذا في الشرب فكذا في الادهان ونحوه؛ لأنه في معناه ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بنعم المترفين والمسرفين، وقال في الجامع الصغير: يكره ومراده التحريم ويستوي فيه الرجال والنساء لعموم النهي، وكذلك الأكل بملعقة الذهب والفضة والاكتحال بميل الذهب والفضة وكذا ما أشبه ذلك كالمكحلة والمرآة وغيرهما لما ذكرنا. قال: "ولا بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبلور والعقيق" وقال الشافعي: يكره لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به. قلنا: ليس كذلك؛ لأنه ما كان من عادتهم التفاخر بغير الذهب والفضة. قال: "ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة والركوب على السرج المفضض والجلوس على الكرسي المفضض والسرير المفضض إذا كان يتقي موضع الفضة" ومعناه: يتقي موضع الفم، وقيل هذا وموضع اليد في الأخذ وفي السرير والسرج موضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 الجلوس. وقال أبو يوسف: يكره ذلك، وقول محمد يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف، وعلى هذا الخلاف الإناء المضبب بالذهب والفضة والكرسي المضبب بهما، وكذا إذا جعل ذلك في السيف والمشحذ وحلقة المرأة، أو جعل المصحف مذهبا أو مفضضا، وكذا الاختلاف في اللجام والركاب والثفر إذا كان مفضضا، وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا، وهذا الاختلاف فيما يخلص، فأما التمويه الذي لا يخلص فلا بأس به بالإجماع. لهما أن مستعمل جزء من الإناء مستعمل جميع الأجزاء فيكره، كما إذا استعمل موضع الذهب والفضة. ولأبي حنيفة رحمه الله أن ذلك تابع ولا معتبر بالتوابع فلا يكره. كالجبة المكفوفة بالحرير والعلم في الثوب ومسمار الذهب في الفص. قال: "ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال اشتريته من يهودي أو نصراني أو مسلم وسعه أكله"؛ لأن قول الكافر مقبول في المعاملات؛ لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد فيه حرمة الكذب والحاجة ماسة إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات. قال: "وإن كان غير ذلك لم يسعه أن يأكل منه" معناه: إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم؛ لأنه لما قبل قوله في الحل أولى أن يقبل في الحرمة. قال: " ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد والجارية والصبي"؛ لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وكذا لا يمكنهم استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض والمبايعة في السوق، فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج. وفي الجامع الصغير: إذا قالت جارية لرجل بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها؛ لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسه لما قلنا. قال: "ويقبل في المعاملات قول الفاسق، ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل". ووجه الفرق أن المعاملات يكثر وجودها فيما بين أجناس الناس، فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج فيقبل قول الواحد فيها عدلا كان أو فاسقا كافرا أو مسلما عبدا أو حرا ذكرا أو أنثى دفعا للحرج. أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات فجاز أن يشترط فيها زيادة شرط، فلا يقبل فيها إلا قول المسلم العدل؛ لأن الفاسق متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس له أن يلزم المسلم، بخلاف المعاملات؛ لأن الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا إلا بالمعاملة. ولا يتهيأ له المعاملة إلا بعد قبول قوله فيها فكان فيه ضرورة، ولا يقبل فيها قول المستور في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة أنه يقبل قوله فيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به، وفي ظاهر الرواية هو والفاسق فيه سواء حتى يعتبر فيهما أكبر الرأي. قال: "ويقبل فيها قول العبد والحر والأمة إذا كانوا عدولا"؛ لأن عند العدالة الصدق راجح والقبول لرجحانه. فمن المعاملات ما ذكرناه، ومنها التوكيل. ومن الديانات الإخبار بنجاسة الماء حتى إذا أخبره مسلم مرضي لم يتوضأ به ويتيمم، ولو كان المخبر فاسقا أو مستورا تحرى، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به، وإن أراق الماء ثم تيمم كان أحوط، ومع العدالة يسقط احتمال الكذب فلا معنى للاحتياط بالإراقة، أما التحري فمجرد ظن. ولو كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به ولا يتيمم لترجح جانب الكذب بالتحري، وهذا جواب الحكم. فأما في الاحتياط فيتيمم بعد الوضوء لما قلنا. ومنها الحل والحرمة إذا لم يكن فيه زوال الملك، وفيها تفاصيل وتفريعات ذكرناها في كفاية المنتهى. قال: "ومن دعي إلى وليمة أو طعام فوجد ثمة لعبا أو غناء فلا بأس بأن يقعد ويأكل" قال أبو حنيفة رحمه الله: ابتليت بهذا مرة فصبرت. وهذا لأن إجابة الدعوة سنة. قال عليه الصلاة والسلام: "من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم" فلا يتركها لما اقترن بها من البدعة من غيره، كصلاة الجنازة واجبة الإقامة وإن حضرتها نياحة، فإن قدر على المنع منعهم، وإن لم يقدر يصبر، وهذا إذا لم يكن مقتدى به، فإن كان مقتدى ولم يقدر على منعهم يخرج ولا يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين، والمحكي عن أبي حنيفة رحمه الله في الكتاب كان قبل أن يصير مقتدى به، ولو كان ذلك على المائدة لا ينبغي أن يقعد، وإن لم يكن مقتدى لقوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] وهذا كله بعد الحضور، ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حق الدعوة، بخلاف ما إذا هجم عليه؛ لأنه قد لزمه، ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب. وكذا قول أبي حنيفة رحمه الله ابتليت، لأن الابتلاء بالمحرم يكون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 فصل: في اللبس قال: "لا يحل للرجال لبس الحرير ويحل للنساء"؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس الحرير والديباج وقال: "إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة" وإنما حل للنساء بحديث آخر، وهو ما رواه عدة من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي رضي الله عنه: "أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 النبي صلى الله عليه وسلم خرج وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب وقال: "هذان محرمان على ذكور أمتي حلال لإناثهم" ويروى "حل لإناثهم". قال: "إلا أن القليل عفو وهو مقدار ثلاثة أصابع أو أربعة كالأعلام والمكفوف بالحرير" لما روي أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" أراد الأعلام. وعنه عليه الصلاة والسلام: "أنه كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير". قال: "ولا بأس بتوسده والنوم عليه عند أبي حنيفة، وقالا: يكره" وفي الجامع الصغير ذكر قول محمد وحده، ولم يذكر قول أبي يوسف، وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ، وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب. لهما العمومات، ولأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام. وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وزي الأعاجم. وله ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام جلس على مرفقة حرير"، وقد كان على بساط عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفقة حرير، ولأن القليل من الملبوس مباح كالأعلام فكذا القليل من اللبس والاستعمال، والجامع كونه نموذجا على ما عرف. قال: "ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما" لما روى الشعبي رحمه الله: "أنه عليه الصلاة والسلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب" ولأن فيه ضرورة فإن الخالص منه أدفع لمعرة السلاح وأهيب في عين العدو لبريقه. قال: "ويكره عند أبي حنيفة رحمه الله" لأنه لا فصل فيما رويناه والضرورة إندفعت بالخلوط وهو الذي لحمته حرير وسداه غير ذلك والمحظور لا بستباح إلا لضرورة، وما رواه محمول على المخلوط. قال: "ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره" لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يلبسون الخز مسدى بالحرير ولأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدى؛ وقال: أبو يوسف رحمه الله: أكره ثوب القز يكون بين الفرو والظهارة، ولا أرى بحشو الفز بأسا لأن الثوب ملبوس والحشو غير ملبوس. قال: "وما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير لا بأس به في الحرب" للضرورة. قال: "ويكره في غيره" لانعدامها والاعتبار للحمة على ما بينا. قال "ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب" لما روينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 قال: "ولا بالفضة" لأنها في معناه. قال: "إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة" تحقيقا لمعنى النموذج، والفضة أغنت عن الذهب إذ هما من جنس واحد، كيف وقد جاء في إباحة ذلك آثار. وفي الجامع الصغير: ولا يتختم إلا بالفضة، وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام. ورأى رسول الله عليه الصلاة والسلام على رجل خاتم صفر فقال: "مالي أجد منك رائحة الأصنام". ورأى على آخر خاتم حديد فقال: "مالي أرى عليك حلية أهل النار" ومن الناس من أطلق الحجر الذي يقال له يشب؛ لأنه ليس بحجر، إذ ليس له ثقل الحجر، وإطلاق الجواب في الكتاب يدل على تحريمه. قال: "والتختم بالذهب على الرجال حرام" لما روينا. وعن علي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن التختم بالذهب" ولأن الأصل فيه التحريم، والإباحة ضرورة الختم أو النموذج، وقد اندفعت بالأدنى وهو الفضة، والحلقة هي المعتبرة؛ لأن قوام الخاتم بها، ولا معتبر بالفص حتى يجوز أن يكون من حجر ويجعل الفص إلى باطن كفه بخلاف النسوان؛ لأنه تزين في حقهن، وإنما يتختم القاضي والسلطان لحاجته إلى الختم، وأما غيرهما فالأفضل أن يتركه لعدم الحاجة إليه. قال: "ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في حجر الفص" أي في ثقبه؛ لأنه تابع كالعلم في الثوب فلا يعد لابسا له. قال: "ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة" وهذا عند أبي حنيفة. وقال محمد: لا بأس بالذهب أيضا. وعن أبي يوسف مثل قول كل منهما. لهما أن عرفجة بن أسعد الكناني أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن. فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يتخذ أنفا من ذهب ولأبي حنيفة أن الأصل فيه التحريم والإباحة للضرورة، وقد اندفعت بالفضة وهي الأدنى فبقي الذهب على التحريم. والضرورة فيما روي لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن. قال: "ويكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير"؛ لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها. قال: "وتكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق"؛ لأنه نوع تجبر وتكبر قال: "وكذا التي يمسح بها الوضوء أو يمتخط بها" وقيل إذا كان عن حاجة لا يكره وهو الصحيح، وإنما يكره إذا كان عن تكبر وتجبر وصار كالتربع في الجلوس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 قال: "ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط للحاجة" ويسمى ذلك الرتم والرتيمة. وكان ذلك من عادة العرب. قال قائلهم: لا ينفعنك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بعض أصحابه بذلك، ولأنه ليس بعبث لما فيه من الغرض الصحيح وهو التذكر عند النسيان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 فصل: في الوطء والنظر واللمس قال: "ولا يجوز أن ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا وجهها وكفيها" لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال علي وابن عباس رضي الله عنهما؛ ما ظهر منها الكحل والخاتم، والمراد موضعهما وهو الوجه والكف، كما أن المراد بالزينة المذكورة موضعها، ولأن في إبداء الوجه والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء وغير ذلك، وهذا تنصيص على أنه لا يباح النظر إلى قدمها. وعن أبي حنيفة أنه يباح؛ لأن فيه بعض الضرورة. وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعها أيضا؛ لأنه قد يبدو منها عادة. قال: "فإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة" فإذا خاف الشهوة لم ينظر من غير حاجة تحرزا عن المحرم. وقوله لا يأمن يدل على أنه لا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم أو كان أكبر رأيه ذلك "ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة" لقيام المحرم وانعدام الضرورة والبلوى، بخلاف النظر لأن فيه بلوى. والمحرم قوله عليه الصلاة والسلام: "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة" وهذا إذا كانت شابة تشتهى، أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لانعدام خوف الفتنة. وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يدخل بعض القبائل التي كان مسترضعا فيهم وكان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه استأجر عجوزا لتمرضه، وكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه، وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها لما قلنا، فإن كان لا يأمن عليها لا تحل مصافحتها لما فيه من التعريض للفتنة. والصغيرة إذا كانت لا تشتهى يباح مسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة. "والصغيرة إذا كانت لاتشتهي يباح مسها والنظر إليها" لعدم خوف الفتنة. قال: "ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها وللشاهد إذا أراد أداء الشهادة عليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 النظر إلى وجهها وإن خاف أن يشتهي" للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بواسطة القضاء وأداء الشهادة، ولكن ينبغي أن يقصد به أداء الشهادة أو الحكم عليها لا قضاء الشهوة تحرزا عما يمكنه التحرز عنه وهو قصد القبيح. وأما النظر لتحمل الشهادة إذا اشتهى قيل يباح. والأصح أنه لا يباح؛ لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة، بخلاف حالة الأداء. "ومن أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس بأن ينظر إليها وإن علم أنه يشتهيها" لقوله عليه الصلاة والسلام فيه: "أبصرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة. "ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها" للضرورة "وينبغي أن يعلم امرأة مداواتها" لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل "فإن لم يقدروا يستر كل عضو منها سوى موضع المرض" ثم ينظر ويغض بصره ما استطاع؛ لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وصار كنظر الخافضة والختان. "وكذا يجوز للرجل النظر إلى موضع الاحتقان من الرجل" لأنه مداواة ويجوز للمرض وكذا للهزال الفاحش على ما روي عن أبي يوسف؛ لأنه أمارة المرض. قال: "وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا ما بين سرته إلى ركبته" لقوله عليه الصلاة والسلام: "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته" ويروى: "ما دون سرته حتى يجاوز ركبتيه" وبهذا ثبت أن السرة ليست بعورة خلافا لما يقوله أبو عصمة والشافعي، والركبة عورة خلافا لما قاله الشافعي، والفخذ عورة خلافا لأصحاب الظواهر، وما دون السرة إلى منبت الشعر عورة خلافا لما يقوله الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الكماري معتمدا فيه العادة؛ لأنه لا معتبر بها مع النص بخلافه، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الركبة من العورة" وأبدى الحسن بن علي رضي الله عنه سرته فقبلها أبو هريرة رضي الله عنه وقال لجرهد: "وار فخذك، أما علمت أن الفخذ عورة؟ " ولأن الركبة ملتقى عظم الفخذ والساق فاجتمع المحرم والمبيح وفي مثله يغلب المحرم، وحكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، وفي الفخذ أخف منه في السوأة، حتى أن كاشف الركبة ينكر عليه برفق وكاشف الفخذ يعنف عليه وكاشف السوءة يؤدب إن لج "وما يباح النظر إليه للرجل من الرجل يباح المس" لأنهما فيما ليس بعورة سواء. قال: "ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه منه إذا أمنت الشهوة" لاستواء الرجل والمرأة في النظر إلى ما ليس بعورة كالثياب والدواب. وفي كتاب الخنثى من الأصل: أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي بمنزلة نظر الرجل إلى محارمه؛ لأن النظر إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 خلاف الجنس أغلظ، فإن كان في قلبها شهوة أو أكبر رأيها أنها تشتهي أو شكت في ذلك يستحب لها أن تغض بصرها، ولو كان الناظر هو الرجل إليها وهو بهذه الصفة لم ينظر، وهذا إشارة إلى التحريم. ووجه الفرق أن الشهوة عليهن غالبة وهو كالمتحقق اعتبارا، فإذا اشتهى الرجل كانت الشهوة موجودة في الجانبين، ولا كذلك إذا اشتهت المرأة؛ لأن الشهوة غير موجودة في جانبه حقيقة واعتبارا فكانت من جانب واحد، والمتحقق من الجانبين في الإفضاء إلى المحرم أقوى من المتحقق في جانب واحد. قال: "وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل" لوجود المجانسة، وانعدام الشهوة غالبا كما في نظر الرجل إلى الرجل، وكذا الضرورة قد تحققت إلى الانكشاف فيما بينهن. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى محارمه، بخلاف نظرها إلى الرجل؛ لأن الرجال يحتاجون إلى زيادة الانكشاف للاشتغال بالأعمال. والأول أصح. قال: "وينظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته إلى فرجها" وهذا إطلاق في النظر إلى سائر بدنها عن شهوة وغير شهوة. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "غض بصرك إلا عن أمتك وامرأتك" ولأن ما فوق ذلك من المس والغشيان مباح فالنظر أولى، إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجردان تجرد العير" ولأن ذلك يورث النسيان لورود الأثر. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة. قال: "وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين. ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها وفخذها". والأصل فيه قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] الآية، والمراد والله أعلم مواضع الزينة وهي ما ذكر في الكتاب، ويدخل في ذلك الساعد والأذن والعنق والقدم؛ لأن كل ذلك موضع الزينة، بخلاف الظهر والبطن والفخذ؛ لأنها ليست من مواضع الزينة، ولأن البعض يدخل على البعض من غير استئذان واحتشام والمرأة في بيتها في ثياب مهنتها عادة، فلو حرم النظر إلى هذه المواضع أدى إلى الحرج، وكذا الرغبة تقل للحرمة المؤبدة فقلما تشتهى، بخلاف ما وراءها، لأنها لا تنكشف عادة. والمحرم من لا تجوز المناكحة بينه وبينها على التأبيد بنسب كان أو بسبب كالرضاع والمصاهرة لوجود المعنيين فيه، وسواء كانت المصاهرة بنكاح أو سفاح في الأصح لما بينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 قال: "ولا بأس بأن يمس ما جاز أن ينظر إليه منها" لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسافرة وقلة الشهوة للمحرمية، بخلاف وجه الأجنبية وكفيها حيث لا يباح المس وإن أبيح النظر؛ لأن الشهوة متكاملة "إلا إذا كان يخاف عليها أو على نفسه الشهوة" فحينئذ لا ينظر ولا يمس لقوله عليه الصلاة والسلام: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش"، وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ فيجتنب. "ولا بأس بالخلوة والمسافرة بهن" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها" وقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان" والمراد إذا لم يكن محرما، فإن احتاج إلى الإركاب والإنزال فلا بأس بأن يمسها من وراء ثيابها ويأخذ ظهرها وبطنها دون ما تحتهما إذا أمنا الشهوة، فإن خافها على نفسه أو عليها تيقنا أو ظنا أو شكا فليجتنب ذلك بجهده، ثم إن أمكنها الركوب بنفسها يمتنع عن ذلك أصلا، وإن لم يمكنها يتكلف بالثياب كي لا تصيبه حرارة عضوها، وإن لم يجد الثياب يدفع الشهوة عن قلبه بقدر الإمكان. قال: "وينظر الرجل من مملوكة غيره إلى ما يجوز أن ينظر إليه من ذوات محارمه" لأنها تخرج لحوائج مولاها وتخدم أضيافه وهي في ثياب مهنتها، فصار حالها خارج البيت في حق الأجانب كحال المرأة داخله في حق محارمه الأقارب. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى جارية متقنعة علاها بالدرة وقال: ألقي عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر ولا يحل النظر إلى بطنها وظهرها خلافا لما يقوله محمد بن مقاتل أنه يباح إلا إلى ما دون السرة إلى الركبة؛ لأنه لا ضرورة كما في المحارم، بل أولى لقلة الشهوة فيهن وكمالها في الإماء. ولفظة المملوكة تنتظم المدبرة والمكاتبة وأم الولد لتحقق الحاجة، والمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة على ما عرف، وأما الخلوة بها والمسافرة معها فقد قيل يباح كما في المحارم، وقد قيل لا يباح لعدم الضرورة فيهن، وفي الإركاب والإنزال اعتبر محمد في الأصل الضرورة فيهن وفي ذوات المحارم مجرد الحاجة. قال: "ولا بأس بأن يمس ذلك إذا أراد الشراء، وإن خاف أن يشتهي" كذا ذكره في المختصر، وأطلق أيضا في الجامع الصغير ولم يفصل. قال مشايخنا رحمهم الله: يباح النظر في هذه الحالة وإن اشتهى للضرورة، ولا يباح المس إذا اشتهى أو كان أكبر رأيه ذلك؛ لأنه نوع استمتاع، وفي غير حالة الشراء يباح النظر والمس بشرط عدم الشهوة. قال: "وإذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد" ومعناه بلغت، وهذا موافق لما بينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 أن الظهر والبطن منها عورة. وعن محمد أنها إذا كانت تشتهى ويجامع مثلها فهي كالبالغة لا تعرض في إزار واحد لوجود الاشتهاء. قال: "والخصي في النظر إلى الأجنبية كالفحل" لقول عائشة رضي الله عنها: الخصاء مثله فلا يبيح ما كان حراما قبله ولأنه فحل يجامع. وكذا المجبوب؛ لأنه يسحق وينزل، وكذا المخنث في الرديء من الأفعال؛ لأنه فحل فاسق. والحاصل: أنه يؤخذ فيه بمحكم كتاب الله المنزل فيه، والطفل الصغير مستثنى بالنص. قال: "ولا يجوز للمملوك أن ينظر من سيدته إلا ما يجوز للأجنبي النظر إليه منها". وقال مالك: هو كالمحرم، وهو أحد قولي الشافعي لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] ولأن الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استئذان. ولنا أنه فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة والحاجة قاصرة؛ لأنه يعمل خارج البيت. والمراد بالنص الإماء، قال سعيد والحسن وغيرهما: لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور. قال: "ويعزل عن أمته بغير إذنها ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها" لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها، وقال لمولى أمة: "اعزل عنها إن شئت"، ولأن الوطء حق الحرة قضاء للشهوة وتحصيلا للولد ولهذا تخير في الجب والعنة، ولا حق للأمة في الوطء فلهذا لا ينقص حق الحرة بغير إذنها ويستبد به المولى ولو كان تحته أمة غيره فقد ذكرناه في النكاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 فصل: في الاستبراء وغيره قال: "ومن اشترى جارية فإنه لا يقربها ولا يلمسها ولا يقبلها ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يستبرئها" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن، ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" أفاد وجوب الاستبراء على المولى، ودل على السبب في المسبية وهو استحداث الملك واليد؛ لأنه هو الموجود في مورد النص، وهذا لأن الحكمة فيه التعرف عن براءة الرحم صيانة للمياه المحترمة عن الاختلاط والأنساب عن الاشتباه، وذلك عند حقيقة الشغل أو توهم الشغل بماء محترم، وهو أن يكون الولد ثابت النسب، ويجب على المشتري لا على البائع؛ لأن العلة الحقيقية إرادة الوطء، والمشتري هو الذي يريده دون البائع فيجب عليه، غير أن الإرادة أمر مبطن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 فيدار الحكم على دليلها، وهو التمكن من الوطء والتمكن إنما يثبت بالملك واليد فانتصب سببا وأدير الحكم عليه تيسيرا، فكان السبب استحداث ملك الرقبة المؤكد باليد وتعدي الحكم إلى سائر أسباب الملك كالشراء والهبة والوصية والميراث والخلع والكتابة وغير ذلك وكذا يجب على المشتري من مال الصبي ومن المرأة والمملوك وممن لا يحل له وطؤها، وكذا إذا كانت المشتراة بكرا لم توطأ لتحقق السبب وإدارة الأحكام على الأسباب دون الحكم لبطونها فيعتبر تحقق السبب عند توهم الشغل. وكذا لا يجتزأ بالحيضة التي اشتراها في أثنائها ولا بالحيضة التي حاضتها بعد الشراء أو غيره من أسباب الملك قبل القبض، ولا بالولادة الحاصلة بعدها قبل القبض خلافا لأبي يوسف رحمه الله؛ لأن السبب استحداث الملك واليد، والحكم لا يسبق السبب، وكذا لا يجتزأ بالحاصل قبل الإجازة في بيع الفضولي وإن كانت في يد المشتري، ولا بالحاصل بعد القبض في الشراء الفاسد قبل أن يشتريها شراء صحيحا لما قلنا. "ويجب في جارية للمشتري فيها شقص فاشترى الباقي"؛ لأن السبب قد تم الآن، والحكم يضاف إلى تمام العلة، ويجتزأ بالحيضة التي حاضتها بعد القبض وهي مجوسية أو مكاتبة بأن كاتبها بعد الشراء ثم أسلمت المجوسية أو عجزت المكاتبة لوجودها بعد السبب وهو استحداث الملك واليد إذ هو مقتض للحل والحرمة لمانع كما في حالة الحيض "ولا يجب الاستبراء إذا رجعت الآبقة أو ردت المغصوبة أو المؤاجرة" أو فكت المرهونة لانعدام السبب وهو استحداث الملك واليد وهو سبب متعين فأدير الحكم عليه وجودا وعدما، ولها نظائر كثيرة كتبناها في كفاية المنتهى. وإذا ثبت وجوب الاستبراء وحرمة الوطء حرم الدواعي لإفضائها إليه. أو لاحتمال وقوعها في غير الملك على اعتبار ظهور الحبل ودعوة البائع. بخلاف الحائض حيث لا تحرم الدواعي فيها لأنه لا يحتمل الوقوع في غير الملك، ولأنه زمان نفرة فالإطلاق في الدواعي لا يفضي إلى الوطء والرغبة في المشتراة قبل الدخول أصدق الرغبات فتفضي إليه، ولم يذكر الدواعي في المسبية. وعن محمد أنها لا تحرم؛ لأنها لا يحتمل وقوعها في غير الملك لأنه لو ظهر بها حبل لا تصح دعوة الحربي، بخلاف المشتراة على ما بينا. "والاستبراء في الحامل بوضع الحمل" لما روينا "وفي ذوات الأشهر بالشهر"؛ لأنه أقيم في حقهن مقام الحيض كما في المعتدة، " وإذا حاضت في أثنائه بطل الاستبراء بالأيام للقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل كما في المعتدة. فإن ارتفع حيضها تركها، حتى إذا تبين أن ليست بحامل وقع عليها وليس فيه تقدير في ظاهر الرواية. وقيل يتبين بشهرين أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 ثلاثة. وعن محمد أربعة أشهر وعشرة أيام، وعنه شهران وخمسة أيام اعتبارا بعدة الحرة والأمة في الوفاة. وعن زفر سنتان وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله". قال: "ولا بأس بالاحتيال لإسقاط الاستبراء عند أبي يوسف خلافا لمحمد" وقد ذكرنا الوجهين في الشفعة. والمأخوذ قول أبي يوسف فيما إذا علم أن البائع لم يقربها في طهرها ذلك، وقول محمد فيما إذا قربها. والحيلة إذا لم يكن تحت المشتري حرة أن يتزوجها قبل الشراء ثم يشتريها. ولو كانت فالحيلة أن يزوجها البائع قبل الشراء أو المشتري قبل القبض ممن يوثق به ثم يشتريها ويقبضها ثم يطلق الزوج؛ لأن عند وجود السبب وهو استحداث الملك المؤكد بالقبض إذا لم يكن فرجها حلالا له لا يجب الاستبراء. وإن حل بعد ذلك؛ لأن المعتبر أوان وجود السبب كما إذا كانت معتدة الغير. قال: "ولا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يكفر"؛ لأنه لما حرم الوطء إلى أن يكفر حرم الدواعي للإفضاء إليه. لأن الأصل أن سبب الحرام حرام كما في الاعتكاف والإحرام وفي المنكوحة إذا وطئت بشبهة، بخلاف حالة الحيض والصوم؛ لأن الحيض يمتد شطر عمرها والصوم يمتد شهرا فرضا وأكثر العمر نفلا، ففي المنع عنها بعض الحرج، ولا كذلك ما عددناها لقصور مددها. وقد صح "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم ويضاجع نساءه وهن حيض". قال: "ومن له أمتان أختان فقبلهما بشهوة فإنه لا يجامع واحدة منهما ولا يقبلها ولا يمسها بشهوة ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها"، وأصل هذا أن الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وطئا لإطلاق قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ولا يعارض بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ؛ لأن الترجيح للمحرم، وكذا لا يجوز الجمع بينهما في الدواعي لإطلاق النص، ولأن الدواعي إلى الوطء بمنزلة الوطء في التحريم على ما مهدناه من قبل، فإذا قبلهما فكأنه وطئهما، ولو وطئهما فليس له أن يجامع إحداهما ولا أن يأتي بالدواعي فيهما، فكذا إذا قبلهما وكذا إذا مسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما بشهوة لما بينا إلا أن يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها؛ لأنه لما حرم عليه فرجها لم يبق جامعا. وقوله بملك أراد به ملك يمين فينتظم التمليك بسائر أسبابه بيعا أو غيره، وتمليك الشقص فيه كتمليك الكل؛ لأن الوطء يحرم به، وكذا إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق كلها، وكذا الكتابة كالإعتاق في هذا لثبوت حرمة الوطء بذلك كله، وبرهن إحداهما وإجارتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وتدبيرها لا تحل الأخرى؛ ألا يرى أنها لا تخرج بها عن ملكه، وقوله أو نكاح أراد به النكاح الصحيح. أما إذا زوج إحداهما نكاحا فاسدا لا يباح له وطء الأخرى إلا أن يدخل الزوج بها فيه؛ لأنه يجب العدة عليها، والعدة كالنكاح الصحيح في التحريم. ولو وطئ إحداهما حل له وطء الموطوءة دون الأخرى؛ لأنه يصير جامعا بوطء الأخرى لا بوطء الموطوءة. وكل امرأتين لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فيما ذكرناه بمنزلة الأختين. قال: "ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو يده أو شيئا منه أو يعانقه" وذكر الطحاوي أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا بأس بالتقبيل والمعانقة لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام عانق جعفرا رضي الله عنه حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه" ولهما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن المكامعة وهي المعانقة، وعن المكاعمة وهي التقبيل". وما رواه محمول على ما قبل التحريم. قالوا: الخلاف في المعانقة في إزار واحد، أما إذا كان عليه قميص أو جبة فلا بأس بها بالإجماع وهو الصحيح. قال: "ولا بأس بالمصافحة"؛ لأنه هو المتوارث. وقال عليه الصلاة والسلام: "من صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبه". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 فصل: في البيع قال: "ولا بأس ببيع السرقين، ويكره بيع العذرة" وقال الشافعي: لا يجوز بيع السرقين أيضا؛ لأنه نجس العين فشابه العذرة وجلد الميتة قبل الدباغ. ولنا أنه منتفع به؛ لأنه يلقى في الأراضي لاستكثار الريع فكان مالا، والمال محل للبيع. بخلاف العذرة؛ لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطا. ويجوز بيع المخلوط هو المروي عن محمد وهو الصحيح. وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط في الصحيح، والمخلوط بمنزلة زيت خالطته النجاسة. قال: "ومن علم بجارية أنها لرجل فرأى آخر يبيعها وقال وكلني صاحبها ببيعها فإنه يسعه أنه يبتاعها ويطؤها"؛ لأنه أخبر بخبر صحيح لا منازع له، وقول الواحد في المعاملات مقبول على أي وصف كان لما مر من قبل. وكذا إذا قال اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي لما قلنا. وهذا إذا كان ثقة. وكذا إذا كان غير ثقة، وأكبر رأيه أنه صادق؛ لأن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة للحاجة على ما مر، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 أن يتعرض لشيء من ذلك؛ لأن أكبر الرأي يقام مقام اليقين، وكذا إذا لم يعلم أنها لفلان، ولكن أخبره صاحب اليد أنها لفلان، وأنه وكله ببيعها أو اشتراها منه، والمخبر ثقة قبل قوله، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر رأيه؛ لأن إخباره حجة في حقه، وإن لم يخبره صاحب اليد بشيء. فإن كان عرفها للأول لم يشترها حتى يعلم انتقالها إلى ملك الثاني؛ لأن يد الأول دليل ملكه، وإن كان لا يعرف ذلك له أن يشتريها وإن كان ذو اليد فاسقا؛ لأن يد الفاسق دليل الملك في حق الفاسق والعدل ولم يعارضه معارض، ولا معتبر بأكبر الرأي عند وجود الدليل الظاهر إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك، فحينئذ يستحب له أن يتنزه، ومع ذلك لو اشتراها يرجى أن يكون في سعة من ذلك لاعتماده الدليل الشرعي. وإن كان الذي أتاه بها عبدا أو أمة لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل؛ لأن المملوك لا ملك له فيعلم أن الملك فيها لغيره، فإن أخبره أن مولاه أذن له وهو ثقة قبل، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي، وإن لم يكن له رأي لم يشترها لقيام الحاجر فلا بد من دليل. قال: "ولو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها، أو طلقها ثلاثا أو كان غير ثقة وأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق، ولا تدري أنه كتابه أم لا. إلا أن أكبر رأيها أنه حق" يعني بعد التحري "فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج"؛ لأن القاطع طارئ ولا منازع، وكذا لو قالت لرجل طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس أن يتزوجها. وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر، ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول، وكذا لو قالت جارية كنت أمة فلان فأعتقني؛ لأن القاطع طارئ. ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان. وكذا إذا أخبره مخبر أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها أو أربع سواها حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده فثبت المنازع بالظاهر، بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه؛ لأن القاطع طارئ، والإقدام الأول لا يدل على انعدامه فلم يثبت المنازع فافترقا، وعلى هذا الحرف يدور الفرق. ولو كانت جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعي أنها له فلما كبرت لقيها رجل في بلد آخر فقالت أنا حرة الأصل لم يسعه أن يتزوجها لتحقق المنازع وهو ذو اليد بخلاف ما تقدم. قال: "وإذا باع المسلم خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين فإنه يكره لصاحب الدين أن يأخذ منه، وإن كان البائع نصرانيا فلا بأس به" والفرق أن البيع في الوجه الأول قد بطل؛ لأن الخمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 ليس بمال متقوم في حق المسلم فبقي الثمن على ملك المشتري فلا يحل أخذه من البائع. وفي الوجه الثاني صح البيع؛ لأنه مال متقوم في حق الذمي فملكه البائع فيحل الأخذ منه. قال: "ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله وكذلك التلقي. فأما إذا كان لا يضر فلا بأس به" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" ولأنه تعلق به حق العامة، وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره إذا كان يضر بهم ذلك بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرا؛ لأنه حابس ملكه من غير إضرار بغيره، وكذلك التلقي على هذا التفصيل لأن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن تلقي الجلب وعن تلقي الركبان". قالوا هذا إذا لم يلبس المتلقي على التجار سعر البلدة. فإن لبس فهو مكروه في الوجهين؛ لأنه غادر بهم. وتخصيص الاحتكار بالأقوات كالحنطة والشعير والتبن والقت قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا. وعن محمد رحمه الله أنه قال: لا احتكار في الثياب؛ فأبو يوسف اعتبر حقيقة الضرر إذ هو المؤثر في الكراهة، وأبو حنيفة اعتبر الضرر المعهود المتعارف. ثم المدة إذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، وإذا طالت يكون احتكارا مكروها لتحقق الضرر. ثم قيل: هي مقدرة بأربعين يوما لقوله عليه الصلاة والسلام: "من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه" وقيل بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل، والشهر وما فوقه كثير آجل، وقد مر في غير موضع، ويقع التفاوت في المأثم بين أن يتربص العزة وبين أن يتربص القحط والعياذ بالله، وقيل المدة للمعاقبة في الدنيا إما يأثم وإن قلت المدة. والحاصل أن التجارة في الطعام غير محمودة. قال: "ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر" أما الأول فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة؛ ألا ترى أن له أن لا يزرع فكذلك له أن لا يبيع. وأما الثاني فالمذكور قول أبي حنيفة؛ لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلب إلى فنائها. وقال أبو يوسف: يكره لإطلاق ما روينا. وقال محمد: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب فهو بمنزلة فناء المصر يحرم الاحتكار فيه لتعلق حق العامة به، بخلاف ما إذا كان البلد بعيدا لم تجر العادة بالحمل منه إلى المصر؛ لأنه لم يتعلق به حق العامة. قال: "ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسعروا فإن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق" ولأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة على ما نبين. وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك وينهاه عن الاحتكار، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له ودفعا للضرر عن الناس، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة، فإذا فعل ذلك وتعدى رجل عن ذلك وباع بأكثر منه أجازه القاضي، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر وكذا عندهما، إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم. ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره على البيع، هل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه. قيل هو على الاختلاف الذي عرف في بيع مال المديون، وقيل يبيع بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع ضرر عام، وهذا كذلك. قال: "ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة" معناه ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبيب إلى المعصية وقد بيناه في السير، وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك؛ لأنه يحتمل أن لا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك. قال: "ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا"؛ لأن المعصية لا تقام بعينه بل بعد تغييره، بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة لأن المعصية تقوم بعينه. قال: "ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار أو كنيسة أو بيعة أو يباع فيه الخمر بالسواد فلا بأس به" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك؛ لأنه إعانة على المعصية. وله أن الإجارة ترد على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه فقطع نسبته عنه، وإنما قيده بالسواد لأنهم لا يمكنون من اتخاذ البيع والكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير في الأمصار لظهور شعائر الإسلام فيها. بخلاف السواد. قالوا: هذا كان في سواد الكوفة، لأن غالب أهلها أهل الذمة. فأما في سوادنا فأعلام الإسلام فيها ظاهرة فلا يمكنون فيها أيضا، وهو الأصح. قال: "ومن حمل لذمي خمرا فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يكره له ذلك"؛ لأنه إعانة على المعصية، وقد صح " أن النبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرا حاملها والمحمول إليه " له أن المعصية في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل ولا يقصد به، والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية. قال: "ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة، ويكره بيع أرضها" وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا بأس ببيع أرضها أيضا. وهذا رواية عن أبي حنيفة؛ لأنها مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها فصار كالبناء. ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها ولا تورث" ولأنها حرة محترمة لأنها فناء الكعبة. وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها حتى لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها، فكذا في حق البيع، بخلاف البناء؛ لأنه خالص ملك الباني. ويكره إجارتها أيضا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من آجر أرض مكة فكأنما أكل الربا" ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام من احتاج إليها سكنها ومن استغنى عنها أسكن غيره " ومن وضع درهما عند بقال يأخذ منه ما شاء يكره له ذلك"؛ لأنه ملكه قرضا جر به نفعا، وهو أن يأخذ منه ما شاء حالا فحالا. "ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن قرض جر نفعا"، وينبغي أن يستودعه ثم يأخذ منه ما شاء جزءا فجزءا؛ لأنه وديعة وليس بقرض، حتى لو هلك لا شيء على الآخذ، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 مسائل متفرقة قال: " ويكره التعشير والنقط في المصحف" لقول ابن مسعود رضي الله عنه: جردوا القرآن. ويروى: جردوا المصاحف. وفي التعشير والنقط ترك التجريد. ولأن التعشير يخل بحفظ الآي والنقط بحفظ الإعراب اتكالا عليه فيكره. قالوا: في زماننا لا بد للعجم من دلالة. فترك ذلك إخلال بالحفظ وهجران للقرآن فيكون حسنا. قال: "ولا بأس بتحلية المصحف" لما فيه من تعظيمه. وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب وقد ذكرناه من قبل. قال: "ولا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام" وقال الشافعي: يكره ذلك: وقال مالك: يكره في كل مسجد. للشافعي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ولأن الكافر لا يخلو عن جنابة؛ لأنه لا يغتسل اغتسالا يخرجه عنها، والجنب يجنب المسجد، وبهذا يحتج مالك، والتعليل بالنجاسة عام فينتظم المساجد كلها. ولنا ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار" ولأن الخبث في اعتقادهم فلا يؤدي إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 تلويث المسجد. والآية محمولة على الحضور استيلاء واستعلاء أو طائفين عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية. قال: "ويكره استخدام الخصيان"؛ لأن الرغبة في استخدامهم حث الناس على هذا الصنيع وهو مثلة محرمة. قال: "ولا بأس بخصاء البهائم وإنزاء الحمير على الخيل"؛ لأن في الأول منفعة للبهيمة والناس. وقد صح "أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب البغلة" فلو كان هذا الفعل حراما لما ركبها لما فيه من فتح بابه. قال: "ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني"؛ لأنه نوع بر في حقهم، وما نهينا عن ذلك، وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام عاد يهوديا مرض بجواره. قال: "ويكره أن يقول الرجل في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك" وللمسألة عبارتان: هذه، ومقعد العز، ولا ريب في كراهة الثانية؛ لأنه من القعود، وكذا الأولى؛ لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث والله تعالى بجميع صفاته قديم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا بأس به. وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله لأنه مأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام. روي أنه كان من دعائه "اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك؛ ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة" ولكنا نقول: هذا خبر واحد فكان الاحتياط في الامتناع "ويكره أن يقول الرجل في دعائه بحق فلان أو بحق أنبياؤك ورسلك"؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. قال: "ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو"؛ لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار، وإن لم يقامر فهو عبث ولهو. وقال عليه الصلاة والسلام: "لهو المؤمن باطل إلا الثلاث: تأديبه لفرسه، ومناضلته عن قوسه، وملاعبته مع أهله" وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام، وهو محكي عن الشافعي رحمه الله. لنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير" ولأنه نوع لعب يصد عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حراما لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر" ثم إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر لا تسقط؛ لأنه متأول فيه. وكره أبو يوسف ومحمد التسليم عليهم تحذيرا لهم، ولم ير أبو حنيفة رحمه الله به بأسا ليشغلهم عما هم فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 قال: "ولا بأس بقبول هدية العبد التاجر وإجابة دعوته واستعارة دابته. وتكره كسوته الثوب وهديته الدراهم والدنانير" وهذا استحسان. وفي القياس: كل ذلك باطل؛ لأنه تبرع والعبد ليس من أهله. وجه الاستحسان "أنه عليه الصلاة والسلام قبل هدية سلمان رضي الله عنه حين كان عبدا"، " وقبل هدية بريرة رضي الله عنها وكانت مكاتبة" "وأجاب رهط من الصحابة رضي الله عنهم دعوة مولى أبي أسيد وكان عبدا"، ولأن في هذه الأشياء ضرورة لا يجد التاجر بدا منها، ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته، ولا ضرورة في الكسوة وإهداء الدراهم فبقي على أصل القياس. قال: "ومن كان في يده لقيط لا أب له فإنه يجوز قبضه الهبة والصدقة له" وأصل هذا أن التصرف على الصغار أنواع ثلاثة: نوع هو من باب الولاية لا يملكه إلا من هو ولي كالإنكاح والشراء والبيع لأموال القنية؛ لأن الولي هو الذي قام مقامه بإنابة الشرع، ونوع آخر ما كان من ضرورة حال الصغار وهو شراء ما لا بد للصغير منه وبيعه وإجارة الأظآر. وذلك جائز ممن يعوله وينفق عليه كالأخ والعم والأم والملتقط إذا كان في حجرهم. وإذا ملك هؤلاء هذا النوع فالولي أولى به، إلا أنه لا يشترط في حق الولي أن يكون الصبي في حجره، ونوع ثالث ما هو نفع محض كقبول الهبة والصدقة والقبض، فهذا يملكه الملتقط والأخ والعم والصبي بنفسه إذا كان يعقل، لأن اللائق بالحكمة فتح باب مثله نظرا للصبي فيملك بالعقل والولاية والحجر وصار بمنزلة الإنفاق. قال: "ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره، ويجوز للأم أن تؤاجر ابنها إذا كان في حجرها ولا يجوز للعم"؛ لأن الأم تملك إتلاف منافعه باستخدام، ولا كذلك الملتقط والعم "ولو أجر الصبي نفسه لا يجوز"؛ لأنه مشوب بالضرر "إلا إذا فرغ من العمل"؛ لأن عند ذلك تمحض نفعا فيجب المسمى وهو نظير العبد المحجور يؤاجر نفسه وقد ذكرناه. قال: "ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده الراية" ويروون الداية، وهو طوق الحديد الذي يمنعه من أن يحرك رأسه، وهو معتاد بين الظلمة؛ لأنه عقوبة أهل النار فيكره كالإحراق بالنار "ولا يكره أن يقيده" لأنه سنة المسلمين في السفهاء وأهل الدعارة فلا يكره في العبد تحرزا عن إباقه وصيانة لماله. قال: "ولا بأس بالحقنة يريد به التداوي" لأن التداوي مباح بالإجماع، وقد ورد بإباحته الحديث. ولا فرق بين الرجال والنساء إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام. قال: "ولا بأس برزق القاضي"؛ لأنه عليه الصلاة والسلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وفرض له، وبعث عليا إلى اليمن وفرض له ولأنه محبوس لحق المسلمين فتكون نفقته في مالهم وهو مال بيت المال، وهذا لأن الحبس من أسباب النفقة كما في الوصي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة، وهذا فيما يكون كفاية، فإن كان شرطا فهو حرام؛ لأنه استئجار على الطاعة، إذ القضاء طاعة بل هو أفضلها، ثم القاضي إذا كان فقيرا: فالأفضل بل الواجب الأخذ؛ لأنه لا يمكنه إقامة فرض القضاء إلا به، إذ الاشتغال بالكسب يقعده عن إقامته، وإن كان غنيا فالأفضل الامتناع على ما قيل رفقا ببيت المال. وقيل الأخذ وهو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان ونظرا لمن يولى بعده من المحتاجين؛ لأنه إذا انقطع زمانا يتعذر إعادته ثم تسميته رزقا يدل على أنه بقدر الكفاية، وقد جرى الرسم بإعطائه في أول السنة؛ لأن الخراج يؤخذ في أول السنة وهو يعطى منه، وفي زماننا الخراج يؤخذ في آخر السنة والمأخوذ من الخراج خراج السنة الماضية هو الصحيح، ولو استوفى رزق سنة وعزل قبل استكمالها، قيل هو على اختلاف معروف في نفقة المرأة إذا ماتت في السنة بعد استعجال نفقة السنة، والأصح أنه يجب الرد. قال: "ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم"؛ لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم على ما ذكرنا من قبل، وأم الولد أمة لقيام الملك فيها وإن امتنع بيعها والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 كتاب إحياء الموات تعريف الموات من يملكه مدخل ... كتاب إحياء الموات قال: "الموات ما لا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة" سمي بذلك لبطلان الانتفاع به. قال: "فما كان منها عاديا لا مالك له أو كان مملوكا في الإسلام لا يعرف له مالك بعينه وهو بعيد من القرية بحيث إذا وقف إنسان من أقصى العامر فصاح لا يسمع الصوت فيه فهو موات" قال رضي الله عنه: هكذا ذكره القدوري، ومعنى العادي ما قدم خرابه. والمروي عن محمد رحمه الله أنه يشترط أن لا يكون مملوكا لمسلم أو ذمي مع انقطاع الارتفاق بها ليكون ميتة مطلقا. فأما التي هي مملوكة لمسلم أو ذمي لا تكون مواتا، وإذا لم يعرف مالكه تكون لجماعة المسلمين، ولو ظهر له مالك يرد عليه، ويضمن الزارع نقصانها، والبعد عن القرية على ما قال شرطه أبو يوسف؛ لأن الظاهر أن ما يكون قريبا من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه فيدار الحكم عليه. ومحمد رحمه الله اعتبر انقطاع ارتفاق أهل القرية عنها حقيقة، وإن كان قريبا من القرية، كذا ذكره الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله اعتمد على ما اختاره أبو يوسف رحمه الله "ثم من أحياه بإذن الإمام ملكه، وإن أحياه بغير إذنه لم يملكه عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: يملكه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" ولأنه مال مباح سبقت يده إليه فيملكه كما في الحطب والصيد. ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس للمرء إلا ما طابت نفس إمامه به" وما روياه يحتمل أنه إذن لقوم لا نصب لشرع، ولأنه مغنوم لوصوله إلى يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فليس لأحد أن يختص به بدون إذن الإمام كما في سائر الغنائم. ويجب فيه العشر؛ لأن ابتداء توظيف الخراج على المسلم لا يجوز إلا إذا سقاه بماء الخراج؛ لأنه حينئذ يكون إبقاء الخراج على اعتبار الماء. فلو أحياها، ثم تركها فزرعها غيره فقد قيل الثاني أحق بها؛ لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها، فإذا تركها كان الثاني أحق بها. والأصح أن الأول ينزعها من الثاني؛ لأنه ملكها بالإحياء على ما نطق به الحديث، إذ الإضافة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 فيه فاللام التمليك وملكه لا يزول بالترك. ومن أحيا أرضا ميتة ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التعاقب؛ فعن محمد أن طريق الأول في الأرض الرابعة لتعينها لتطرقه وقصد الرابع إبطال حقه. قال: "ويملك الذمي بالإحياء كما يملكه المسلم"؛ لأن الإحياء سبب الملك، إلا أن عند أبي حنيفة رحمه الله إذن الإمام من شرطه فيستويان فيه كما في سائر أسباب الملك حتى الاستيلاء على أصلنا. قال: "ومن حجر أرضا ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره" لأن الدفع إلى الأول كان ليعمرها فتحصل المنفعة للمسلمين من حيث العشر أو الخراج. فإذا لم تحصل يدفع إلى غيره تحصيلا للمقصود، ولأن التحجير ليس بإحياء ليملكه به؛ لأن الإحياء إنما هو العمارة والتحجير الإعلام، سمي به لأنهم كانوا يعلمونه بوضع الأحجار حوله أو يعلمونه لحجر غيرهم عن إحيائه فبقي غير مملوك كما كان هو الصحيح. وإنما شرط ترك ثلاث سنين لقول عمر رضي الله عنه: ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق. ولأنه إذا أعلمه لا بد من زمان يرجع فيه إلى وطنه وزمان يهيئ أموره فيه، ثم زمان يرجع فيه إلى ما يحجره فقدرناه بثلاث سنين؛ لأن ما دونها من الساعات والأيام والشهور لا يفي بذلك، وإذا لم يحضر بعد انقضائها فالظاهر أنه تركها. قالوا: هذا كله ديانة، فأما إذا أحياها غيره قبل مضي هذه المدة ملكها لتحقق الإحياء منه دون الأول وصار كالاستيام فإنه يكره، ولو فعل يجوز العقد. ثم التحجير قد يكون بغير الحجر بأن غرز حولها أغصانا يابسة أو نقى الأرض وأحرق ما فيها من الشوك أو خضد ما فيها من الحشيش أو الشوك، وجعلها حولها وجعل التراب عليها من غير أن يتم المسناة ليمنع الناس من الدخول، أو حفر من بئر ذراعا أو ذراعين، وفي الأخير ورد الخبر. ولو كربها وسقاها فعن محمد أنه إحياء، ولو فعل أحدهما يكون تحجيرا، ولو حفر أنهارها ولم يسقها يكون تحجيرا، وإن سقاها مع حفر الأنهار كان إحياء لوجود الفعلين، ولو حوطها أو سنمها بحيث يعصم الماء يكون إحياء؛ لأنه من جملة البناء، وكذا إذا بذرها. قال: "ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ويترك مرعى لأهل القرية ومطرحا لحصائدهم" لتحقق حاجتهم إليها حقيقة أو دلالة على ما بيناه، فلا يكون مواتا لتعلق حقهم بها بمنزلة الطريق والنهر. على هذا قالوا: لا يجوز للإمام أن يقطع ما لا غنى بالمسلمين عنه كالملح والآبار التي يستقي الناس منها لما ذكرنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 قال: "ومن حفر بئرا في برية فله حريمها" ومعناه إذا حفر في أرض موات بإذن الإمام عنده أو بإذنه وبغير إذنه عندهما؛ لأن حفر البئر إحياء. قال: "فإن كانت للعطن فحريمها أربعون ذراعا" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته" ثم قيل: الأربعون من كل الجوانب. والصحيح أنه من كل جانب؛ لأن في الأراضي رخوة ويتحول الماء إلى ما حفر دونها "وإن كانت للناضح فحريمها ستون ذراعا، وهذا عندهما. وعند أبي حنيفة أربعون ذراعا" لهما قوله عليه الصلاة والسلام: "حريم العين خمسمائة ذراع. وحريم بئر العطن أربعون ذراعا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا" ولأنه قد يحتاج فيه إلى أن يسير دابته للاستقاء، وقد يطول الرشاء وبئر العطن للاستقاء منه بيده فقلت الحاجة فلا بد من التفاوت. وله ما روينا من غير فصل، والعام المتفق على قبوله والعمل به أولى عنده من الخاص المختلف في قبوله والعمل به، ولأن القياس يأبى استحقاق الحريم؛ لأن عمله في موضع الحفر، والاستحقاق به، ففيما اتفق عليه الحديثان تركناه وفيما تعارضا فيه حفظناه؛ ولأنه قد يستقى من العطن بالناضح ومن بئر الناضح باليد فاستوت الحاجة فيهما، ويمكنه أن يدبر البعير حول البئر فلا يحتاج فيه إلى زيادة مسافة. قال: "وإن كانت عينا فحريمها خمسمائة ذراع" لما روينا، ولأن الحاجة فيه إلى زيادة مسافة؛ لأن العين تستخرج للزراعة فلا بد من موضع يجري فيه الماء ومن حوض يجتمع فيه الماء. ومن موضع يجرى فيه إلى المزرعة فلهذا يقدر بالزيادة، والتقدير بخمسمائة بالتوقيف. والأصح أنه خمسمائة ذراع من كل جانب كما ذكرنا في العطن، والذراع هي المكسرة وقد بيناه من قبل. وقيل إن التقدير في العين والبئر بما ذكرناه في أراضيهم لصلابة بها وفي أراضينا رخاوة فيزاد كي لا يتحول الماء إلى الثاني فيتعطل الأول. قال: "فمن أراد أن يحفر في حريمها منع منه" كي لا يؤدي إلى تفويت حقه والإخلال به، وهذا لأنه بالحفر ملك الحريم ضرورة تمكنه من الانتفاع به فليس لغيره أن يتصرف في ملكه؛ فإن احتفر آخر بئرا في حريم الأول للأول أن يصلحه ويكبسه تبرعا، ولو أراد أخذ الثاني فيه قيل: له أن يأخذه ويكبسه؛ لأن إزالة جناية حفره به كما في الكناسة يلقيها في دار غيره فإنه يؤخذ برفعها، وقيل يضمنه النقصان ثم يكبسه بنفسه كما إذا هدم جدار غيره، وهذا هو الصحيح ذكره في أدب القاضي للخصاف. وذكر طريق معرفة النقصان، وما عطب في الأول فلا ضمان فيه؛ لأنه غير متعد، إن كان بإذن الإمام فظاهر، وكذا إن كان بغير إذنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 عندهما. والعذر لأبي حنيفة أنه جعل في الحفر تحجيرا وهو بسبيل منه بغير إذن الإمام، وإن كان لا يملكه بدونه، وما عطب في الثانية ففيه الضمان؛ لأنه متعد فيه حيث حفر في ملك غيره، وإن حفر الثاني بئرا وراء حريم الأول فذهب ماء البئر الأول فلا شيء عليه؛ لأنه غير متعد في حفرها، وللثاني الحريم من الجوانب الثلاثة دون الجانب الأول لسبق ملك الحافر الأول فيه "والقناة لها حريم بقدر ما يصلحها" وعن محمد أنه بمنزلة البئر في استحقاق الحريم. وقيل هو عندهما. وعنده لا حريم لها ما لم يظهر الماء على الأرض؛ لأنه نهر في التحقيق فيعتبر بالنهر الظاهر. قالوا: وعند ظهور الماء على الأرض هو بمنزلة عين فوارة فيقدر حريمه بخمسمائة ذراع "والشجرة تغرس في أرض موات لها حريم أيضا حتى لم يكن لغيره أن يغرس شجرا في حريمها"؛ لأنه يحتاج إلى حريم له يجد فيه ثمره ويضعه فيه وهو مقدر بخمسة أذرع من كل جانب، به ورد الحديث. قال: "وما ترك الفرات أو الدجلة وعدل عنه الماء ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه" لحاجة العامة إلى كونه نهرا "وإن كان لا يجوز أن يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريما لعامر"؛ لأنه ليس في ملك أحد، لأن قهر الماء يدفع قهر غيره وهو اليوم في يد الإمام. قال: "ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند أبي حنيفة إلا أن يقيم بينة على ذلك، وقالا: له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه" قيل هذه المسألة بناء على أن من حفر نهرا في أرض موات بإذن الإمام لا يستحق الحريم عنده. وعندهما يستحقه؛ لأن النهر لا ينتفع به إلا بالحريم لحاجته إلى المشي لتسييل الماء، ولا يمكنه المشي عادة في بطن النهر وإلى إلقاء الطين، ولا يمكنه النقل إلى مكان بعيد إلا بحرج فيكون له الحريم اعتبارا بالبئر. وله أن القياس يأباه على ما ذكرناه، وفي البئر عرفناه بالأثر، والحاجة إلى الحريم فيه فوقها إليه في النهر؛ لأن الانتفاع بالماء في النهر ممكن بدون الحريم، ولا يمكن في البئر إلا بالاستقاء ولا استقاء إلا بالحريم فتعذر الإلحاق. ووجه البناء أن باستحقاق الحريم تثبت اليد عليه اعتبارا تبعا للنهر، والقول لصاحب اليد، وبعدم استحقاقه تنعدم اليد، والظاهر يشهد لصاحب الأرض على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإن كانت مسألة مبتدأة فلهما أن الحريم في يد صاحب النهر باستمساكه الماء به، ولهذا لا يملك صاحب الأرض نقضه. وله أنه أشبه بالأرض صورة ومعنى، أما صورة فلاستوائهما، ومعنى من حيث صلاحيته للغرس والزراعة، والظاهر شاهد لمن في يده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 ما هو أشبه به. كاثنين تنازعا في مصراع باب ليس في يدهما، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما يقضى للذي في يده ما هو أشبه بالمتنازع فيه، والقضاء في موضع الخلاف قضاء ترك، ولا نزاع فيما به استمساك الماء إنما النزاع فيما وراءه مما يصلح للغرس، على أنه إن كان مستمسكا به ماء نهره فالآخر دافع به الماء عن أرضه، والمانع من نقضه تعلق حق صاحب النهر لا ملكه. كالحائط لرجل ولآخر عليه جذوع لا يتمكن من نقضه وإن كان ملكه. "وفي الجامع الصغير نهر لرجل إلى جنبه مسناة ولآخر خلف المسناة أرض تلزقها، وليست المسناة في يد أحدهما فهي لصاحب الأرض عند أبي حنيفةوقالا: هي لصاحب النهر حريما لملقى طينه وغير ذلك". وقوله وليست المسناة في يد أحدهما معناه: ليس لأحدهما عليه غرس ولا طين ملقى فينكشف بهذا اللفظ موضع الخلاف. أما إذا كان لأحدهما عليه ذلك فصاحب الشغل أولى، لأنه صاحب يد. ولو كان عليه غرس لا يدرى من غرسه فهو من مواضع الخلاف أيضا. وثمرة الاختلاف أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عنده وعندهما لصاحب النهر. وأما إلقاء الطين فقد قيل إنه على الخلاف، وقيل إن لصاحب النهر ذلك ما لم يفحش. وأما المرور فقد قيل يمنع صاحب النهر عنده، وقيل لا يمنع للضرورة. قال الفقيه أبو جعفر: آخذ بقوله في الغرس وبقولهما في إلقاء الطين. ثم عن أبي يوسف أن حريمه مقدار نصف النهر من كل جانب، وعن محمد مقدار بطن النهر من كل جانب. وهذا أرفق بالناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 فصول في مسائل الشرب فصل: في المياه "وإذا كان لرجل نهر أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع شيئا من الشفة، والشفة الشرب لبني آدم والبهائم" اعلم أن المياه أنواع منها: ماء البحار، ولكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأراضي، حتى إن من أراد أن يكري نهرا منها إلى أرضه لم يمنع من ذلك، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء فلا يمنع من الانتفاع به على أي وجه شاء. والثاني: ماء الأودية العظام كجيحون وسيحون ودجلة والفرات للناس فيه حق الشفة على الإطلاق وحق سقي الأراضي، فإن أحيا واحد أرضا ميتة وكرى منه نهرا ليسقيها. إن كان لا يضر بالعامة ولا يكون النهر في ملك أحد له ذلك؛ لأنها مباحة في الأصل إذ قهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 الماء يدفع قهر غيره، وإن كان يضر بالعامة فليس له ذلك؛ لأن دفع الضرر عنهم واجب، وذلك في أن يميل الماء إلى هذا الجانب إذا انكسرت ضفته فيغرق القرى والأراضي، وعلى هذا نصب الرحى عليه؛ لأن شق النهر للرحى كشقه للسقي به. والثالث: إذا دخل الماء في المقاسم فحق الشفة ثابت. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلإ، والنار" وأنه ينتظم الشرب، والشرب خص منه الأول وبقي الثاني وهو الشفة، ولأن البئر ونحوها ما وضع للإحراز. ولا يملك المباح بدونه كالظبي إذا تكنس في أرضه، ولأن في إبقاء الشفة ضرورة؛ لأن الإنسان لا يمكنه استصحاب الماء إلى كل مكان وهو محتاج إليه لنفسه وظهره؛ فلو منع عنه أفضى إلى حرج عظيم، وإن أراد رجل أن يسقي بذلك أرضا أحياها كان لأهل النهر أن يمنعوه عنه أضر بهم أو لم يضر؛ لأنه حق خاص لهم ولا ضرورة. ولأنا لو أبحنا ذلك لانقطعت منفعة الشرب. والرابع: الماء المحرز في الأواني وأنه صار مملوكا له بالإحراز، وانقطع حق غيره عنه كما في الصيد المأخوذ، إلا أنه بقيت فيه شبهة الشركة نظرا إلى الدليل وهو ما روينا، حتى لو سرقه إنسان في موضع يعز وجوده وهو يساوي نصابا لم تقطع يده. ولو كان البئر أو العين أو الحوض أو النهر في ملك رجل له أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء آخر يقرب من هذا الماء في غير ملك أحد، وإن كان لا يجد يقال لصاحب النهر: إما أن تعطيه الشفة أو تتركه يأخذ بنفسه بشرط أن لا يكسر ضفته، وهذا مروي عن الطحاوي، وقيل ما قاله صحيح فيما إذا احتفر في أرض مملوكة له. أما إذا احتفرها في أرض موات فليس له أن يمنعه؛ لأن الموات كان مشتركا والحفر لإحياء حق مشترك فلا يقطع الشركة في الشفة، ولو منعه عن ذلك، وهو يخاف على نفسه أو ظهره العطش له أن يقاتله بالسلاح لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك، بخلاف الماء المحرز في الإناء حيث يقاتله بغير السلاح؛ لأنه قد ملكه، وكذا الطعام عند إصابة المخمصة، وقيل في البئر ونحوها الأولى أن يقاتله بغير السلاح بعصا؛ لأنه ارتكب معصية فقام ذلك مقام التعزير له؛ والشفة إذا كان يأتي على الماء كله بأن كان جدولا صغيرا. وفيما يرد من الإبل والمواشي كثرة ينقطع الماء بشربها قيل لا يمنع منه؛ لأن الإبل لا ترده في كل وقت وصار كالمياومة وهو سبيل في قسمة الشرب. وقيل له أن يمنع اعتبارا: بسقي المزارع والمشاجر والجامع تفويت حقه، ولهم أن يأخذوا الماء منه للوضوء وغسل الثياب في الصحيح،؛ لأن الأمر بالوضوء والغسل فيه كما قيل يؤدي إلى الحرج وهو مدفوع، وإن أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره حملا بجراره له ذلك في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 الأصح؛ لأن الناس يتوسعون فيه ويعدون المنع من الدناءة، وليس له أن يسقي أرضه ونخله وشجره من نهر هذا الرجل وبئره وقناته إلا بإذنه نصا، وله أن يمنعه من ذلك؛ لأن الماء متى دخل في المقاسم انقطعت شركة الشرب بواحدة؛ لأن في إبقائه قطع شرب صاحبه، ولأن المسيل حق صاحب النهر، والضفة تعلق بها حقه فلا يمكنه التسييل فيه ولا شق الضفة، فإن أذن له صاحبه في ذلك أو أعاره فلا بأس به؛ لأنه حقه فتجرى فيه الإباحة كالماء المحرز في إنائه، والله سيحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 فصل: في كري الأنهار قال رضي الله عنه: الأنهار ثلاثة: نهر غير مملوك لأحد ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد كالفرات ونحوه، ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة إلا أنه عام. ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة وهو خاص. والفاصل بينهما استحقاق الشفة به وعدمه. فالأول كريه على السلطان من بيت مال المسلمين؛ لأن منفعة الكري لهم فتكون مؤنته عليهم، ويصرف إليه من مؤنة الخراج والجزية دون العشور والصدقات؛ لأن الثاني للفقراء والأول للنوائب، فإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على كريه إحياء لمصلحة العامة إذ هم لا يقيمونها بأنفسهم، وفي مثله قال عمر رضي الله عنه:: لو تركتم لبعتم أولادكم، إلا أنه يخرج له من كان يطيقه ويجعل مؤنته على المياسير الذين لا يطيقونه بأنفسهم. وأما الثاني: فكريه على أهله على بيت المال؛ لأن الحق لهم والمنفعة تعود إليهم على الخصوص والخلوص، ومن أبى منهم يجبر على كريه دفعا للضرر العام وهو ضرر بقية الشركاء وضرر الآبي خاص ويقابله عوض فلا يعارض به؛ ولو أرادوا أن يحصنوه خيفة الانبثاق وفيه ضرر عام كغرق الأراضي وفساد الطرق يجبر الآبي، وإلا فلا لأنه موهوم بخلاف الكري؛ لأنه معلوم. وأما الثالث: وهو الخاص من كل وجه فكريه على أهله لما بينا ثم قيل يجبر الآبي كما في الثاني. وقيل لا يجبر؛ لأن كل واحد من الضررين خاص. ويمكن دفعه عنهم بالرجوع على الآبي بما أنفقوا فيه إذا كان بأمر القاضي فاستوت الجهتان، بخلاف ما تقدم، ولا يجبر لحق الشفة كما إذا امتنعوا جميعا ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه، فإذا جاوز أرض رجل رفع عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: هي عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأرضين؛ لأن لصاحب الأعلى حقا في الأسفل لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه. وله أن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي، وقد حصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 لصاحب الأعلى فلا يلزمه إنفاع غيره، وليس على صاحب السيل عمارته كما إذا كان له مسيل على سطح غيره، كيف وأنه يمكنه دفع الماء عن أرضه بسده من أعلاه، ثم إنما يرفع عنه إذا جاوز أرضه كما ذكرناه، وقيل إذا جاوز فوهة نهره، وهو مروي عن محمد رحمه الله. والأول أصح؛ لأن له رأيا في اتخاذ الفوهة من أعلاه وأسفله، فإذا جاوز الكري أرضه حتى سقطت عنه مؤنته قيل له أن يفتح الماء ليسقي أرضه لانتهاء الكري في حقه، وقيل ليس له ذلك ما لم يفرغ شركاؤه نفيا لاختصاصه، وليس على أهل الشفة من الكري شيء؛ لأنهم لا يحصون ولأنهم أتباع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 فصل: في الدعوى والاختلاف والتصرف فيه قال: "وتصح دعوى الشرب بغير أرض استحسانا"؛ لأنه قد يملك بدون الأرض إرثا، وقد يبيع الأرض ويبقى الشرب له وهو مرغوب فيه فيصح فيه الدعوى. قال: "وإذا كان نهر لرجل يجري في أرض غيره فأراد صاحب الأرض أن لا يجرى النهر في أرضه ترك على حاله"؛ لأنه مستعمل له بإجراء مائه. فعند الاختلاف يكون القول قوله، فإن لم يكن في يده، ولم يكن جاريا فعليه البينة أن هذا النهر له، أو أنه قد كان مجراه له في هذا النهر يسوقه إلى أرضه ليسقيها فيقضي له لإثباته بالحجة ملكا له أو حقا مستحقا فيه، وعلى هذا المصب في نهر أو على سطح أو الميزاب أو الممشى في دار غيره، فحكم الاختلاف فيها نظيره في الشرب. قال: "وإذا كان نهر بين قوم واختصموا في الشرب كان الشرب بينهم على قدر أراضيهم"؛ لأن المقصود الانتفاع بسقيها فيتقدر بقدره، بخلاف الطريق؛ لأن المقصود التطرق وهو في الدار الواسعة والضيقة على نمط واحد، فإن كان الأعلى منهم لا يشرب حتى يسكر النهر لم يكن له ذلك لما فيه من إبطال حق الباقين، ولكنه يشرب بحصته، فإن تراضوا على أن يسكر الأعلى النهر حتى يشرب بحصته أو اصطلحوا على أن يسكر كل رجل منهم في نوبته جاز؛ لأن الحق له، إلا أنه إذا تمكن من ذلك بلوح لا يسكر بما ينكبس به النهر من غير تراض لكونه إضرارا بهم، وليس لأحدهم أن يكري منه نهرا أو ينصب عليه رحى ماء إلا برضا أصحابه؛ لأن فيه كسر ضفة النهر وشغل موضع مشترك بالبناء، إلا أن يكون رحى لا يضر بالنهر ولا بالماء، ويكون موضعها في أرض صاحبها؛ لأنه تصرف في ملك نفسه ولا ضرر في حق غيره. ومعنى الضرر بالنهر ما بيناه من كسر ضفته، وبالماء أن يتغير عن سننه الذي كان يجري عليه، والدالية والسانية نظير الرحى، ولا يتخذ عليه جسرا ولا قنطرة بمنزلة طريق خاص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 بين قوم، بخلاف ما إذا كان لواحد نهر خاص يأخذ من نهر خاص بين قوم فأراد أن يقنطر عليه ويستوثق منه له ذلك، أو كان مقنطرا مستوثقا فأراد أن ينقض ذلك ولا يزيد ذلك في أخذ الماء حيث يكون له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه وضعا ورفعا. ولا ضرر بالشركاء بأخذ زيادة الماء، ويمنع من أن يوسع فم النهر؛ لأنه يكسر ضفة النهر، ويزيد على مقدار حقه في أخذ الماء، وكذا إذا كانت القسمة بالكوى، وكذا إذا أراد أن يؤخرها عن فم النهر فيجعلها في أربعة أذرع منه لاحتباس الماء فيه فيزداد دخول الماء فيه. بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه أو يرفعها حيث يكون له ذلك في الصحيح؛ لأن قسمة الماء في الأصل باعتبار سعة الكوة وضيقها من غير اعتبار التسفل والترفع وهو العادة فلم يكن فيه تغيير موضع القسمة، ولو كانت القسمة وقعت بالكوى فأراد أحدهم أن يقسم بالأيام ليس له ذلك؛ لأن القديم يترك على قدمه لظهور الحق فيه. ولو كان لكل منهم كوى مسماة في نهر خاص ليس لواحد أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهله؛ لأن الشركة خاصة، بخلاف ما إذا كانت الكوى في النهر الأعظم؛ لأن لكل منهم أن يشق نهرا منه ابتداء فكان له أن يزيد في الكوى بالطريق الأولى. قال: "وليس لأحد الشركاء في النهر أن يسوق شربه إلى أرض له أخرى ليس لها في ذلك شرب"؛ لأنه إذا تقادم العهد يستدل به على أنه حقه. قال: "وكذا إذا أراد أن يسوق شربه في أرضه الأولى حتى ينتهي إلى هذه الأرض الأخرى"؛ لأنه يستوفي زيادة على حقه، إذ الأرض الأولى تنشف بعض الماء قبل أن تسقى الأرض الأخرى، وهو نظير طريق مشترك أراد أحدهم أن يفتح فيه بابا إلى دار أخرى ساكنها غير ساكن هذه الدار التي يفتحها في هذا الطريق، ولو أراد الأعلى من الشريكين في النهر الخاص وفيه كوى بينهما أن يسد بعضها دفعا لفيض الماء عن أرضه كي لا تنز ليس له ذلك لما فيه من الضرر بالآخر، وكذا إذا أراد أن يقسم الشرب مناصفة بينهما؛ لأن القسمة بالكوى تقدمت إلا أن يتراضيا؛ لأن الحق لهما، وبعض التراضي لصاحب الأسفل أن ينقض ذلك. وكذا لورثته من بعده؛ لأنه إعارة الشرب، فإن مبادلة الشرب بالشرب باطلة، والشرب مما يورث ويوصى بالانتفاع بعينه، بخلاف البيع والهبة والصدقة والوصية بذلك حيث لا تجوز العقود إما للجهالة أو للغرر، أو لأنه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن إذا سقى من شرب غيره، وإذا بطلت العقود فالوصية بالباطل باطلة، وكذا لا يصلح مسمى في النكاح حتى يجب مهر المثل، ولا في الخلع حتى يجب رد ما قبضت من الصداق لتفاحش الجهالة. ولا يصلح بدل الصلح عن الدعوى؛ لأنه لا يملك بشيء من العقود. ولا يباع الشرب في دين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 صاحبه بعد موته بدون أرض كما في حال حياته، وكيف يصنع الإمام؟ الأصح أن يضمه إلى أرض لا شرب لها فيبيعها بإذن صاحبها، ثم ينظر إلى قيمة الأرض مع الشرب وبدونه فيصرف التفاوت إلى قضاء الدين، وإن لم يجد ذلك اشترى على تركة الميت أرضا بغير شرب، ثم ضم الشرب إليها وباعهما فيصرف من الثمن إلى ثمن الأرض ويصرف الفاضل إلى قضاء الدين "وإذا سقى الرجل أرضه أو مخرها ماء" أي ملأها "فسال من مائها في أرض رجل فغرقها أو نزت أرض جاره من هذا الماء لم يكن عليه ضمانها"؛ لأنه غير متعد فيه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 كتاب الأشربة أنواع الأشربة المحرمة مدخل ... كتاب الأشربة سمي بها وهي جمع شراب لما فيه من بيان حكمها. قال: "الأشربة المحرمة أربعة: الخمر وهي عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه" وهو الطلاء المذكور في الجامع الصغير "ونقيع التمر وهو السكر، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلى" أما الخمر فالكلام فيها في عشرة مواضع. أحدها: في بيان مائيتها وهي النيء من ماء العنب إذا صار مسكرا وهذا عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر خمر": وقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين" وأشار إلى الكرمة والنخلة، ولأنه مشتق من مخامرة العقل وهو موجود في كل مسكر ولنا أنه اسم خاص بإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه ولهذا اشتهر استعماله فيه وفي غيره غيره، ولأن حرمة الخمر قطعية وهي في غيرها ظنية، وإنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرته العقل، على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصا فيه فإن النجم مشتق من النجوم وهو الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر وهذا كثير النظير والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين رحمه الله. والثاني: أريد به بيان الحكم؛ إذ هو اللائق بمنصب الرسالة والثاني في حق ثبوت هذا الاسم وهذا الذي ذكره في الكتاب قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إذا اشتد صار خمرا، ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به، وكذا المعنى المحرم وهو المؤثر في الفساد بالاشتداد ولأبي حنيفة رحمه الله أن الغليان بداية الشدة، وكمالها بقذف بالزبد وسكونه؛ إذ به يتميز الصافي من الكدر، وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 المستحل وحرمة البيع وقيل يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطا. والثالث: أن عينها حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه: ومن الناس من أنكر حرمة عينها، وقال: إن السكر منها حرام؛ لأن به يحصل الفساد وهو الصد عن ذكر الله، وهذا كفر؛ لأنه جحود الكتاب فإنه تعالى سماه رجسا والرجس ما هو محرم العين، وقد جاءت السنة متواترة "أن النبي عليه الصلاة والسلام حرم الخمر"؛ وعليه انعقد الإجماع، ولأن قليله يدعو إلى كثيره وهذا من خواص الخمر، ولهذا تزداد لشاربه اللذة بالاستكثار منه، بخلاف سائر المطعومات ثم هو غير معلول عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر المسكرات، والشافعي رحمه الله يعديه إليها، وهذا بعيد؛ لأنه خلاف السنة المشهورة وتعليله لتعدية الاسم، والتعليل في الأحكام لا في الأسماء. والرابع: أنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القطعية على ما بينا. والخامس: أنه يكفر مستحلها لإنكاره الدليل القطعي. والسادس: لسقوط تقومها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها وغاصبها ولا يجوز بيعها؛ لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها والتقوم يشعر بعزتها وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها" واختلفوا في سقوط ماليتها والأصح أنه مال؛ لأن الطباع تميل إليها وتضن بها ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمر لا يحل له أن يأخذه، ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن بيع باطل وهو غصب في يده أو أمانة على حسب ما اختلفوا فيه كما في بيع الميتة ولو كان الدين على ذمي فإنه يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز. والسابع: حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام، ولأنه واجب الاجتناب وفي الانتفاع به اقتراب. والثامن: أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه" إلا أن حكم. القتل قد انتسخ فبقي الجلد مشروعا، وعليه انعقد إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وتقديره ذكرناه في الحدود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 والتاسع: أن الطبخ لا يؤثر فيها؛ لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها، إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه على ما قالوا؛ لأن الحد بالقليل في النيء خاصة، لما ذكرنا وهذا قد طبخ. والعاشر: جواز تخليلها وفيه خلاف الشافعي وسنذكره من بعد إن شاء الله تعالى، هذا هو الكلام في الخمر. وأما العصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة ويسمى الباذق والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فكل ذلك حرام عندنا إذا غلى واشتد وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف وقال الأوزاعي: إنه مباح، وهو قول بعض المعتزلة؛ لأنه مشروب طيب وليس بخمر ولنا أنه رقيق ملذ مطرب ولهذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه دفعا للفساد المتعلق به. وأما نقيع التمر وهو السكر وهو النيء من ماء التمر: أي الرطب فهو حرام مكروه وقال شريك بن عبد الله: إنه مباح لقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] امتن علينا به، وهو بالمحرم لا يتحقق ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ويدل عليه ما روينا من قبل، والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها، وقيل أراد به التوبيخ، معناه والله أعلم: تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا. وأما نقيع الزبيب: وهو النيء من ماء الزبيب فهو حرام إذا اشتد وغلى ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي، وقد بينا المعنى من قبل، إلى أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها، ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها اجتهادية، وحرمة الخمر قطعية، ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر، ويجب بشرب قطرة من الخمر، ونجاستها خفيفة في رواية وغليظة في أخرى، ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة، ويجوز بيعها، ويضمن متلفها عند أبي حنيفة خلافا لهما فيهما؛ لأنه مال متقوم، وما شهدت دلالة قطعية بسقوط تقومها، بخلاف الخمر، غير أن عنده يجب قيمتها لا مثلها على ما عرف، ولا ينتفع بها بوجه من الوجوه؛ لأنها محرمة وعن أبي يوسف أنه يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف دون الثلثين. "وقال في الجامع الصغير: وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به" قالوا: هذا الجواب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 على هذا العموم والبيان لا يوجد في غيره، وهو نص على أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة حلال عند أبي حنيفة، ولا يحد شاربه عنده وإن سكر منه، ولا يقع طلاق السكران منه بمنزلة النائم ومن ذهب عقله بالبنج ولبن الرماك وعن محمد أنه حرام ويحد شاربه ويقع طلاقه إذا سكر منه كما في سائر الأشربة المحرمة "وقال فيه أيضا: وكان أبو يوسف يقول: ما كان من الأشربة يبقى بعد ما يبلغ عشرة أيام ولا يفسد فإني أكرهه، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة" وقوله الأول مثل قول محمد إن كل مسكر حرام، إلا أنه تفرد بهذا الشرط، ومعنى قوله: يبلغ: يغلي ويشتد، ومعنى قوله ولا يفسد: لا يحمض ووجهه أن بقاءه هذه المدة من غير أن يحمض دلالة قوته وشدته فكان آية حرمته، ومثل ذلك يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو حنيفة يعتبر حقيقة الشدة على الحد الذي ذكرناه فيما يحرم أصل شربه وفيما يحرم السكر منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأبو يوسف رجع إلى قول أبي حنيفة فلم يحرم كل مسكر، ورجع عن هذا الشرط أيضا. "وقال في المختصر: ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال"، وإن اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكره من غير لهو ولا طرب وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام، والكلام فيه كالكلام في المثلث العنبي ونذكره إن شاء الله تعالى. قال "ولا بأس بالخليطين" لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر رضي الله عنه شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب وهذا نوع من الخليطين وكان مطبوخا؛ لأن المروي عنه حرمة نقيع الزبيب وهو النيء منه، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن الجمع بين التمر والزبيب، والزبيب والرطب، والرطب والبسر" محمول على حالة الشدة، وكان ذلك في الابتداء. قال: "ونبيذ العسل والتين ونبيذ الحنطة والذرة والشعير حلال وإن لم يطبخ" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إذا كان من غير لهو وطرب لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين"، وأشار إلى الكرمة والنخلة خص التحريم بهما والمراد بيان الحكم، ثم قيل يشترط الطبخ فيه لإباحته، وقيل لا يشترط وهو المذكور في الكتاب؛ لأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل لا يحد وقد ذكرنا الوجه من قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 قالوا: والأصح أنه يحد، فإنه روي عن محمد فيمن سكر من الأشربة أنه يحد من غير تفصيل، وهذا؛ لأن الفساق يجتمعون عليه في زماننا اجتماعهم على سائر الأشربة، بل فوق ذلك، وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا وقيل: إن المتخذ من لبن الرماك لا يحل عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمه؛ إذ هو متولد منه قالوا: والأصح أنه يحل؛ لأن كراهة لحمه لما في إباحته من قطع مادة الجهاد أو لاحترامه فلا يتعدى إلى لبنه. قال: "وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال وإن اشتد" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد ومالك والشافعي: حرام، وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التقوي، أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق وعن محمد مثل قولهما، وعنه أنه كره ذلك، وعنه أنه توقف فيه لهم في إثبات الحرمة قوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر خمر" وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ويروى عنه عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام" ولأن المسكر يفسد العقل فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها" ويروى "بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" خص السكر بالتحريم في غير الخمر؛ إذ العطف للمغايرة، ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا وإنما يحرم القليل منه؛ لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير فأعطي حكمه، والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء فبقي على الإباحة: والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه، ثم هو محمول على القدح الأخير إذ هو المسكر حقيقة والذي يصب عليه الماء بعد ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث؛ لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا، بخلاف ما إذا صب الماء على العصير ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل؛ لأن الماء يذهب أولا للطافته، أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة، وفي رواية عنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ، وهو الأصح؛ لأن العصير قائم فيه من غير تغير فصار كما بعد العصر، ولو جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين التمر والزبيب لا يحل حتى يذهب ثلثاه لأن التمر إن كان يكتفى فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه فيعتبر جانب العنب احتياطا، وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا. ولو طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة ثم أنقع فيه تمر أو زبيب، إن كان ما أنقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 لا بأس به، وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل كما إذا صب في المطبوخ قدح من النقيع والمعنى تغليب جهة الحرمة، ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط وهو للحد في درئه. ولو طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت فلا ترتفع بالطبخ. قال: "ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث فيه طول بعد ذكر هذه الأوعية: "فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا المسكر" وقال ذلك بعد ما أخبر عن النهي عنه فكان ناسخا له، وإنما ينتبذ فيه بعد تطهيره، فإن كان الوعاء عتيقا يغسل ثلاثا فيطهر، وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد لتشرب الخمر فيه بخلاف العتيق وعند أبي يوسف يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة وهي مسألة ما لا ينعصر بالعصر، وقيل عن أبي يوسف: يملأ ماء مرة بعد أخرى، حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير يحكم بطهارته. قال: "وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها" وقال الشافعي: يكره التخليل ولا يحل الخل الحاصل به إن كان التخليل بإلقاء شيء فيه قولا واحدا، وإن كان بغير إلقاء شيء فيه فله في الخل الحاصل به قولان له أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول، والأمر بالاجتناب ينافيه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "نعم الإدام الخل" من غير فصل، وقوله عليه الصلاة والسلام: "خير خلكم خل خمركم" ولأن بالتخليل يزول الوصف المفسد وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر الشهوة، والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والاقتراب لإعدام الفساد فأشبه الإراقة، والتخليل أولى لما فيه من إحراز مال يصير حلالا في الثاني فيختاره من ابتلي به، وإذا صار الخمر خلا يطهر ما يوازيها من الإناء، فأما أعلاه وهو الذي نقص منه الخمر قيل يطهر تبعا وقيل لا يطهر؛ لأنه خمر يابس إلا إذا غسل بالخل فيتخلل من ساعته فيطهر، وكذا إذا صب فيه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال على ما قالوا. قال: "ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به"؛ لأن فيه أجزاء الخمر، والانتفاع بالمحرم حرام، ولهذا لا يجوز أن يداوي به جرحا أو دبرة دابة ولا أن يسقي ذميا ولا أن يسقي صبيا للتداوي، والوبال على من سقاه، وكذا لا يسقيها الدواب وقيل: لا تحمل الخمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 إليها، أما إذا قيدت إلى الخمر فلا بأس به كما في الكلب والميتة ولو ألقي الدردي في الخل لا بأس به؛ لأنه يصير خلا لكن يباح حمل الخل إليه لا عكسه لما قلنا. قال: "ولا يحد شاربه" أي شارب الدردي "إن لم يسكر" وقال الشافعي: يحد؛ لأنه شرب جزءا من الخمر ولنا أن قليله لا يدعو إلى كثيره لما في الطباع من النبوة عنه فكان ناقصا فأشبه غير الخمر من الأشربة ولا حد فيها إلا بالسكر، ولأن الغالب عليه الثفل فصار كما إذا غلب عليه الماء بالامتزاج "ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل"؛ لأنه انتفاع بالمحرم ولا يجب الحد لعدم الشرب وهو السبب، ولو جعل الخمر في مرقة لا تؤكل لتنجسها بها ولا حد ما لم يسكر منه؛ لأنه أصابه الطبخ "ويكره أكل خبز عجن عجينه بالخمر" لقيام أجزاء الخمر فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 فصل: في طبخ العصير والأصل أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد يجعل كأن لم يكن ويعتبر ذهاب ثلثي ما بقي ليحل الثلث الباقي، بيانه عشرة دوارق من عصير طبخ فذهب دورق بالزبد يطبخ الباقي حتى يذهب ستة دوارق ويبقى الثلث فيحل؛ لأن الذي يذهب زبدا هو العصير أو ما يمازجه، وأيا ما كان جعل كأن العصير تسعة دوارق فيكون ثلثها ثلاثة وأصل آخر أن العصير إذا صب عليه ماء قبل الطبخ ثم طبخ بمائه، إن كان الماء أسرع ذهابا لرقته ولطافته يطبخ الباقي بعد ما ذهب مقدار ما صب فيه من الماء حتى يذهب ثلثاه؛ لأن الذاهب الأول هو الماء والثاني العصير، فلا بد من ذهاب ثلثي العصير، وإن كانا يذهبان معا تغلى الجملة حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فيحل؛ لأنه ذهب الثلثان ماء وعصيرا والثلث الباقي ماء وعصير فصار كما إذا صب الماء فيه بعد ما ذهب من العصير بالغلي ثلثاه بيانه عشرة دوارق من عصير وعشرون دورقا من ماء ففي الوجه الأول يطبخ حتى يبقى تسع الجملة؛ لأنه ثلث العصير؛ وفي الوجه الثاني حتى يذهب ثلثا الجملة لما قلنا، والغلي بدفعة أو دفعات سواء إذا حصل قبل أن يصير محرما ولو قطع عنه النار فغلى حتى ذهب الثلثان يحل؛ لأنه أثر النار وأصل آخر أن العصير إذا طبخ فذهب بعضه ثم أهريق بعضه كم تطبخ البقية حتى يذهب الثلثان فالسبيل فيه أن تأخذ ثلث الجميع فتضربه في الباقي بعد المنصب ثم تقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما يخرج بالقسمة فهو حلال بيانه عشرة أرطال عصير طبخ حتى ذهب رطل ثم أهريق منه ثلاثة أرطال تأخذ ثلث العصير كله، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 ثلاثة وثلث وتضربه فيما بقي بعد المنصب هو ستة فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء وذلك تسعة، فيخرج لكل جزء من ذلك اثنان وتسعان، فعرفت أن الحلال فيما بقي منه رطلان وتسعان، وعلى هذا تخرج المسائل ولها طريق آخر، وفيما اكتفينا به كفاية وهداية إلى تخريج غيرها من المسائل والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 كتاب الصيد مدخل تعريفه ... كتاب الصيد الصيد: الاصطياد، ويطلق على ما يصاد، والفعل مباح لغير المحرم في غير الحرم لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] وقوله عز وجل {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل منه فلا تأكل؛ لأنه إنما أمسك على نفسه، وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" وعلى إباحته انعقد الإجماع ولأنه نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك، وفيه استبقاء المكلف وتمكينه من إقامة التكاليف فكان مباحا بمنزلة الاحتطاب ثم جملة ما يحويه الكتاب فصلان: أحدهما في الصيد بالجوارح والثاني في الاصطياد بالرمي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 فصل: في الجوارح قال: "ويجوز الاصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة وفي الجامع الصغير: وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير فلا بأس بصيده، ولا خير فيما سوى ذلك إلا أن تدرك ذكاته" والأصل فيه قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] والجوارح: الكواسب قال في تأويل المكلبين: المسلطين، فيتناول الكل بعمومه، دل عليه ما روينا من حديث عدي رضي الله عنه واسم الكلب في اللغة يقع على كل سبع حتى الأسد وعن أبي يوسف أنه استثني من ذلك الأسد والدب؛ لأنهما لا يعملان لغيرهما الأسد لعلو همته والدب لخساسته، وألحق بهما بعضهم الحدأة لخساستها، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين فلا يجوز الانتفاع به ثم لا بد من التعليم؛ لأن ما تلونا من النص ينطق باشتراط التعليم والحديث به وبالإرسال، ولأنه إنما يصير آلة بالتعليم ليكون عاملا له فيترسل بإرساله ويمسكه عليه. قال: "تعليم الكلب أن يترك الأكل ثلاث مرات، وتعليم البازي أن يرجع ويجيب إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 دعوته" وهو مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولأن بدن البازي لا يحتمل الضرب، وبدن الكلب يحتمله فيضرب ليتركه، ولأن آية التعليم ترك ما هو ألوف عادة، والبازي متوحش متنفر فكانت الإجابة آية تعليمه وأما الكلب فهو مألوف يعتاد الانتهاب فكان آية تعليمه ترك مألوفه وهو الأكل والاستلاب ثم شرط ترك الأكل ثلاثا وهذا عندهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن فيما دونه مزيد الاحتمال فلعله تركه مرة أو مرتين شبعا، فإذا تركه ثلاثا دل على أنه صار عادة له، وهذا؛ لأن الثلاث مدة ضربت للاختبار وإبلاء الأعذار كما في مدة الخيار وفي بعض قصص الأخيار: ولأن الكثير هو الذي يقع أمارة على العلم دون القليل، والجمع هو الكثير وأدناه الثلاث فقدر بها وعند أبي حنيفة على ما ذكر في الأصل: لا يثبت التعليم ما لم يغلب على ظن الصائد أنه معلم، ولا يقدر بالثلاث؛ لأن المقادير لا تعرف اجتهادا بل نصا وسماعا ولا سمع فيفوض إلى رأي المبتلى به كما هو أصله في جنسها وعلى الرواية الأولى عنده يحل ما اصطاده ثالثا وعندهما لا يحل؛ لأنه إنما يصير معلما بعد تمام الثلاث وقبل التعليم غير معلم، فكان الثالث صيد كلب جاهل وصار كالتصرف المباشر في سكوت المولى وله أنه آية تعليمه عنده فكان هذا صيد جارحة معلمة، بخلاف تلك المسألة؛ لأن الإذن إعلام ولا يتحقق دون علم العبد وذلك بعد المباشرة. قال: "وإذا أرسل كلبه المعلم أو بازيه وذكر اسم الله تعالى عند إرساله فأخذ الصيد وجرحه فمات حل أكله" لما روينا من حديث عدي رضي الله عنه، ولأن الكلب أو البازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة إلا بالاستعمال وذلك فيهما بالإرسال فنزل منزلة الرمي وإمرار السكين فلا بد من التسمية عنده ولو تركه ناسيا حل أيضا على ما بيناه، وحرمة متروك التسمية عامدا في الذبائح ولا بد من الجرح في ظاهر الرواية ليتحقق الذكاة الاضطراري وهو الجرح في أي موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة إليه بالاستعمال وفي ظاهر قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] ما يشير إلى اشتراط الجرح؛ إذ هو من الجرح بمعنى الجراحة في تأويل فيحمل على الجارح الكاسب بنابه ومخلبه ولا تنافي، وفيه أخذ باليقين وعن أبي يوسف أنه لا يشترط رجوعا إلى التأويل الأول وجوابه ما قلنا. قال: "فإن أكل منه الكلب أو الفهد لم يؤكل وإن أكل منه البازي أكل" والفرق ما بيناه في دلالة التعليم وهو مؤيد بما روينا من حديث عدي رضي الله عنه وهو حجة على مالك والشافعي في قوله القديم في إباحة ما أكل الكلب منه. قال: "ولو أنه صاد صيودا ولم يأكل منها ثم أكل من صيد لا يؤكل هذا الصيد" لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 علامة الجهل، ولا ما يصيده بعده حتى يصير معلما على اختلاف الروايات كما بيناها في الابتداء وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منها لا تظهر الحرمة فيه لانعدام المحلية وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة بأن لم يظفر صاحبه بعد تثبت الحرمة فيه بالاتفاق، وما هو محرز في بيته يحرم عنده خلافا لهما هما يقولان: إن الأكل ليس يدل على الجهل فيما تقدم؛ لأن الحرفة قد تنسى، ولأن فيما أحرزه قد أمضى الحكم فيه الاجتهاد فلا ينقض باجتهاد مثله؛ لأن المقصود قد حصل بالأول، بخلاف غير المحرز؛ لأنه ما حصل المقصود من كل وجه لبقائه صيدا من وجه لعدم الإحراز فحرمناه احتياطا وله أنه آية جهله من الابتداء؛ لأن الحرفة لا ينسى أصلها، فإذا أكل تبين أنه كان ترك الأكل للشبع لا للعلم، وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود؛ لأنه بالأكل فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء. قال: "ولو أن صقرا فر من صاحبه فمكث حينا ثم صاد لا يؤكل صيده"؛ لأنه ترك ما صار به عالما فيحكم بجهله كالكلب إذا أكل من الصيد. قال: "ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل منه أكل"؛ لأنه ممسك للصيد عليه، وهذا من غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه وأمسك عليه ما يصلح له. قال: "ولو أخذ الصيد من المعلم ثم قطع منه قطعة وألقاها إليه فأكلها يؤكل ما بقي"؛ لأنه لم يبق صيدا فصار كما إذا ألقى إليه طعاما غيره، وكذا إذا وثب الكلب فأخذه منه وأكل منه؛ لأنه ما أكل من الصيد، والشرط ترك الأكل من الصيد فصار كما إذا افترس شاته، بخلاف ما إذا فعل ذلك قبل أن يحرزه المالك؛ لأنه بقيت فيه جهة الصيدية. قال: "ولو نهس الصيد فقطع منه بضعة فأكلها ثم أدرك الصيد فقتله ولم يأكل منه لم يؤكل"؛ لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد. قال: "ولو ألقى ما نهسه واتبع الصيد فقتله ولم يأكل منه وأخذه صاحبه ثم مر بتلك البضعة فأكلها يؤكل الصيد"؛ لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لم يضره، فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه أولى، بخلاف الوجه الأول؛ لأنه أكل في حالة الاصطياد فكان جاهلا ممسكا لنفسه، ولأن نهس البضعة قد يكون ليأكلها وقد يكون حيلة في الاصطياد ليضعف بقطع القطعة منه فيدركه، فالأكل قبل الأخذ يدل على الوجه الأول، وبعده على الوجه الثاني فلا يدل على جهله. قال: "وإن أدرك المرسل الصيد حيا وجب عليه أن يذكيه، وإن ترك تذكيته حتى مات لم يؤكل، وكذا البازي والسهم"؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، إذ المقصود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 هو الإباحة ولم تثبت قبل موته فبطل حكم البدل، وهذا إذا تمكن من ذبحه أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من الحياة فوق ما يكون في المذبوح لم يؤكل في ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يحل وهو قول الشافعي؛ لأنه لم يقدر على الأصل فصار كما إذا رأى الماء ولم يقدر على الاستعمال ووجه الظاهر أنه قدر اعتبارا؛ لأنه ثبت يده على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح فأدير الحكم على ما ذكرنا، بخلاف ما إذا بقي فيه من الحياة مثل ما يبقى في المذبوح؛ لأنه ميت حكما، ألا ترى أنه لو وقع في الماء وهو بهذه الحالة لم يحرم كما إذا وقع وهو ميت والميت ليس بمذبح وفصل بعضهم فيها تفصيلا وهو أنه إن لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل، وإن لم يتمكن بضيق الوقت لم يؤكل عندنا خلافا للشافعي؛ لأنه إذا وقع في يده لم يبق صيدا فبطل حكم ذكاة الاضطرار، وهذا إذا كان يتوهم بقاؤه، أما إذا شق بطنه وأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حل؛ لأن ما بقي اضطراب المذبوح فلا يعتبر كما إذا وقعت شاة في الماء بعدما ذبحت وقيل هذا قولهما، أما عند أبي حنيفة فلا يؤكل أيضا؛ لأنه وقع في يده حيا فلا يحل إلا بذكاة الاختيار رد إلى المتردية على ما نذكره إن شاء الله تعالى هذا الذي ذكرنا إذا ترك التذكية، فلو أنه ذكاه حل أكله عند أبي حنيفة، وكذا المتردية والنطيحة والموقوذة، والذي يبقر الذئب بطنه وفيه حياة خفية أو بينة، وعليه الفتوى لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] استثناه مطلقا من غير فصل وعند أبي يوسف إذا كان بحال لا يعيش مثله لا يحل؛ لأنه لم يكن موته بالذبح وقال محمد: إن كان يعيش فوق ما يعيش المذبوح يحل وإلا فلا؛ لأنه لا معتبر بهذه الحياة على ما قررناه. قال: "ولو أدركه ولم يأخذه، فإن كان في وقت لو أخذه أمكنه ذبحه لم يؤكل"؛ لأنه صار في حكم المقدور عليه. قال: "وإن كان لا يمكنه ذبحه أكل"؛ لأن اليد لم تثبت به، والتمكن من الذبح لم يوجد. قال: "وإن أدركه فذكاه حل له"؛ لأنه إن كان فيه حياة مستقرة فالذكاة وقعت موقعها بالإجماع، وإن لم يكن فيه حياة مستقرة؛ فعند أبي حنيفة رحمه الله ذكاته الذبح على ما ذكرناه وقد وجد، وعندهما لا يحتاج إلى الذبح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 قال: "وإذا أرسل كلبه المعلم على صيد وأخذ غيره حل" وقال مالك: لا يحل؛ لأنه أخذه بغير إرسال؛ إذ الإرسال مختص بالمشار إليه ولنا أنه شرط غير مفيد؛ لأن مقصوده حصول الصيد إذ لا يقدر على الوفاء به؛ إذ لا يمكنه تعليمه على وجه يأخذ ما عينه فسقط اعتباره. قال: "ولو أرسله على صيد كثير وسمى مرة واحدة حالة الإرسال، فلو قتل الكل يحل بهذه التسمية الواحدة"؛ لأن الذبح يقع بالإرسال على ما بيناه، ولهذا تشترط التسمية عنده والفعل واحد فيكفيه تسمية واحدة، بخلاف ذبح الشاتين بتسمية واحدة؛ لأن الثانية تصير مذبوحة بفعل غير الأول فلا بد من تسمية أخرى، حتى لو أضجع إحداهما فوق الأخرى، وذبحهما بمرة واحدة تحلان بتسمية واحدة. قال: "ومن أرسل فهدا فكمن حتى يستمكن ثم أخذ الصيد فقتله يؤكل"؛ لأن مكثه ذلك حيلة منه للصيد لا استراحة فلا يقطع الإرسال. قال: "وكذا الكلب إذا اعتاد عادته" "ولو أخذ الكلب صيدا فقتله ثم أخذ آخر فقتله وقد أرسله صاحبه أكلا جميعا"؛ لأن الإرسال قائم لم ينقطع، وهو بمنزلة ما لو رمى سهما إلى صيد فأصابه وأصاب آخر. قال: "ولو قتل الأول فجثم عليه طويلا من النهار ثم مر به صيد آخر فقتله لا يؤكل الثاني" لانقطاع الإرسال بمكثه إذ لم يكن ذلك حيلة منه للأخذ وإنما كان استراحة، بخلاف ما تقدم. قال: "ولو أرسل بازيه المعلم على صيد فوقع على شيء ثم اتبع الصيد فأخذه وقتله فإنه يؤكل" وهذا إذا لم يمكث زمانا طويلا للاستراحة، وإنما مكث ساعة للتمكين لما بيناه في الكلب. قال: "ولو أن بازيا معلما أخذ صيدا فقتله ولا يدرى أرسله إنسان أم لا لا يؤكل" لوقوع الشك في الإرسال، ولا تثبت الإباحة بدونه. قال: "وإن خنقه الكلب ولم يجرحه لم يؤكل"؛ لأن الجرح شرط على ظاهر الرواية على ما ذكرناه، وهذا يدلك على أنه لا يحل بالكسر وعن أبي حنيفة أنه إذا كسر عضوا فقتله لا بأس بأكله؛ لأنه جراحة باطنة فهي كالجراحة الظاهرة وجه الأول أن المعتبر جرح ينتهض سببا لإنهار الدم ولا يحصل ذلك بالكسر فأشبه التخنيق. قال: "وإن شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 يريد به عمدا لم يؤكل" لما روينا في حديث عدي رضي الله عنه، ولأنه اجتمع المبيح والمحرم فيغلب جهة الحرمة نصا أو احتياطا "ولو رده عليه الكلب الثاني ولم يجرحه معه ومات بجرح الأول يكره أكله" لوجود المشاركة في الأخذ وفقدها في الجرح، وهذا بخلاف ما إذا رده المجوسي بنفسه حيث لا يكره؛ لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلا تتحقق المشاركة وتتحقق بين فعلي الكلبين لوجود المجانسة "ولو لم يرده الكلب الثاني على الأول لكنه أشد على الأول حتى اشتد على الصيد فأخذه وقتله لا بأس بأكله"؛ لأن فعل الثاني أثر في الكلب المرسل دون الصيد حيث ازداد به طلبا فكان تبعا لفعله؛ لأنه بناء عليه فلا يضاف الأخذ إلى التبع، بخلاف ما إذا كان رده عليه؛ لأنه لم يصر تبعا فيضاف إليهما. قال: "وإذا أرسل المسلم كلبه فزجره مجوسي فانزجر بزجره فلا بأس بصيده" والمراد بالزجر الإغراء بالصياح عليه، وبالانزجار إظهار زيادة الطلب ووجهه أن الفعل يرفع بما هو فوقه أو مثله كما في نسخ الآي، والزجر دون الإرسال لكونه بناء عليه. قال: "ولو أرسله مجوسي فزجره مسلم فانزجر بزجره لم يؤكل"؛ لأن الزجر دون الإرسال ولهذا لم تثبت به شبهة الحرمة فأولى أن لا يثبت به الحل، وكل من لا تجوز ذكاته كالمرتد والمحرم وتارك التسمية عامدا في هذا بمنزلة المجوسي "وإن لم يرسله أحد فزجره مسلم فانزجر فأخذ الصيد فلا بأس بأكله"؛ لأن الزجر مثل الانفلات؛ لأنه إن كان دونه من حيث إنه بناء عليه فهو فوقه من حيث إنه فعل المكلف فاستويا فصلح ناسخا "ولو أرسل المسلم كلبه على صيد وسمى فأدركه فضربه ووقذه ثم ضربه فقتله أكل، وكذا إذا أرسل كلبين فوقذه أحدهما ثم قتله الآخر أكل"؛ لأن الامتناع عن الجرح بعد الجرح لا يدخل تحت التعليم فجعل عفوا "ولو أرسل رجلان كل واحد منهما كلبا فوقذه أحدهما وقتله الآخر أكل" لما بينا "والملك للأول"؛ لأن الأول أخرجه عن حد الصيدية إلا أن الإرسال من الثاني بعد الخروج عن الصيدية بجرح الكلب الأول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 فصل: في الرمي "ومن سمع حسا ظنه حس صيد فرماه أو أرسل كلبا أو بازيا عليه فأصاب صيدا، ثم تبين أنه حس صيد حل المصاب" أي صيد كان؛ لأنه قصد الاصطياد وعن أبي يوسف أنه خص من ذلك الخنزير لتغليظ التحريم؛ ألا ترى أنه لا تثبت الإباحة في شيء منه بخلاف السباع؛ لأنه يؤثر في جلدها وزفر خص منها ما لا يؤكل لحمه؛ لأن الإرسال فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 ليس للإباحة ووجه الظاهر أن اسم الاصطياد لا يختص بالمأكول فوقع الفعل اصطيادا وهو فعل مباح في نفسه، وإباحة التناول ترجع إلى المحل فتثبت بقدر ما يقبله لحما وجلدا، وقد لا تثبت إذا لم يقبله، وإذا وقع اصطيادا صار كأنه رمى إلى صيد فأصاب غيره "وإن تبين أنه حس آدمي أو حيوان أهلي لا يحل المصاب"؛ لأن الفعل ليس باصطياد "والطير الداجن الذي يأوي البيوت أهلي والظبي الموثق بمنزلته" لما بينا "ولو رمى إلى طائر فأصاب صيدا ومر الطائر ولا يدري وحشي هو أو غير وحشي حل الصيد"؛ لأن الظاهر فيه التوحش "ولو رمى إلى بعير فأصاب صيدا ولا يدري ناد هو أم لا لا يحل الصيد"؛ لأن الأصل فيه الاستئناس "ولو رمى إلى سمكة أو جرادة فأصاب صيدا يحل في رواية عن أبي يوسف"؛ لأنه صيد، وفي أخرى عنه لا يحل؛ لأنه لا ذكاة فيهما "ولو رمى فأصاب المسموع حسه وقد ظنه آدميا فإذا هو صيد يحل"؛ لأنه لا معتبر بظنه مع تعينه "فإذا سمى الرجل عند الرمي أكل ما أصاب إذا جرح السهم فمات"؛ لأنه ذابح بالرمي لكون السهم آلة له فتشترط التسمية عنده، وجميع البدن محل لهذا النوع من الذكاة، ولا بد من الجرح ليتحقق معنى الذكاة على ما بيناه. قال: "وإذا أدركه حيا ذكاه" وقد بيناها بوجوهها، والاختلاف فيها في الفصل الأول فلا نعيده. قال: "وإذا وقع السهم بالصيد فتحامل حتى غاب عنه ولم يزل في طلبه حتى أصابه ميتا أكل، وإن قعد عن طلبه" ثم أصابه ميتا لم يؤكل، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي وقال: "لعل هوام الأرض قتلته" ولأن احتمال الموت بسبب آخر قائم فما ينبغي أن يحل أكله؛ لأن الموهوم في هذا كالمتحقق لما روينا، إلا أنا أسقطنا اعتباره ما دام في طلبه ضرورة أن لا يعرى الاصطياد عنه، ولا ضرورة فيما إذا قعد عن طلبه لإمكان التحرز عن توار يكون بسبب عمله، والذي رويناه حجة على مالك في قوله إن ما توارى عنه إذا لم يبت يحل فإذا بات ليلة لم يحل "ولو وجد به جراحة سوى جراحة سهمه لا يحل"؛ لأنه موهوم يمكن الاحتراز عنه فاعتبر محرما، بخلاف وهم الهوام والجواب في إرسال الكلب في هذا كالجواب في الرمي في جميع ما ذكرناه. قال: "وإذا رمى صيدا فوقع في الماء أو وقع على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض لم يؤكل"؛ لأنه المتردية وهي حرام بالنص، ولأنه احتمل الموت بغير الرمي؛ إذ الماء مهلك وكذا السقوط من عال، يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعدي رضي الله عنه: "وإن وقعت رميتك في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري أن الماء قتله أو سهمك" "وإن وقع على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 الأرض ابتداء أكل"؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، وفي اعتباره سد باب الاصطياد بخلاف ما تقدم؛ لأنه يمكن التحرز عنه، فصار الأصل أن سبب الحرمة والحل إذا اجتمعا وأمكن التحرز عما هو سبب الحرمة ترجح جهة الحرمة احتياطا، وإن كان مما لا يمكن التحرز عنه جرى وجوده مجرى عدمه؛ لأن التكليف بحسب الوسع، فمما يمكن التحرز عنه إذا وقع على شجر أو حائط أو آجرة ثم وقع على الأرض أو رماه، وهو على جبل فتردى من موضع إلى موضع حتى تردى إلى الأرض، أو رماه فوقع على رمح منصوب أو على قصبة قائمة أو على حرف آجرة لاحتمال أن حد هذه الأشياء قتله، ومما لا يمكن الاحتراز عنه إذا وقع على الأرض كما ذكرناه، أو على ما هو معناه كجبل أو ظهر بيت أو لبنة موضوعة أو صخرة فاستقر عليها؛ لأن وقوعه عليه وعلى الأرض سواء وذكر في المنتفى: لو وقع على صخرة فانشق بطنه لم يؤكل لاحتمال الموت بسبب آخر وصححه الحاكم الشهيد وحمل مطلق المروي في الأصل على غير حالة الانشقاق، وحمله شمس الأئمة السرخسي رحمه الله على ما أصابه حد الصخرة فانشق بطنه بذلك، وحمل المروي في الأصل على أنه لم يصبه من الآجرة إلا ما يصيبه من الأرض لو وقع عليها وذلك عفو وهذا أصح وإن كان الطير مائيا، فإن كانت الجراحة لا تنغمس في الماء أكل، وإن انغمست لا يؤكل كما إذا وقع في الماء. قال: "وما أصابه المعراض بعرضه لم يؤكل، وإن جرحه يؤكل" لقوله عليه الصلاة والسلام فيه: "ما أصاب بحده فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل" ولأنه لا بد من الجرح ليتحقق معنى الذكاة على ما قدمناه. قال: "ولا يؤكل ما أصابته البندقة فمات بها"؛ لأنها تدق وتكسر ولا تجرح فصار كالمعراض إذا لم يخزق، وكذلك إن رماه بحجر، وكذا إن جرحه قالوا: تأويله إذا كان ثقيلا وبه حدة لاحتمال أنه قتله بثقله، وإن كان الحجر خفيفا وبه حدة يحل لتعين الموت بالجرح، ولو كان الحجر خفيفا، وجعله طويلا كالسهم وبه حدة فإنه يحل؛ لأنه يقتله بجرحه، ولو رماه بمروة حديدة ولم تبضع بضعا لا يحل؛ لأنه قتله دقا، وكذا إذا رماه بها فأبان رأسه أو قطع أوداجه؛ لأن العروق تنقطع بثقل الحجر كما تنقطع بالقطع فوق الشك أو لعله مات قبل قطع الأوداج، ولو رماه بعصا أو بعود حتى قتله لا يحل؛ لأنه يقتله ثقلا لا جرحا، اللهم إلا إذا كان له حدة يبضع بضعا فحينئذ لا بأس به؛ لأنه بمنزلة السيف والرمح. والأصل في هذه المسائل أن الموت إذا كان مضافا إلى الجرح بيقين كان الصيد حلالا، وإذا كان مضافا إلى الثقل بيقين كان حراما، وإن وقع الشك ولا يدري مات بالجرح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 أو بالثقل كان حراما احتياطا، وإن رماه بسيف أو بسكين فأصابه بحده فجرحه حل، وإن أصابه بقفا السكين أو بمقبض السيف لا يحل؛ لأنه قتله دقا، والحديد وغيره فيه سواء ولو رماه فجرحه ومات بالجرح، إن كان الجرح مدميا يحل بالاتفاق، وإن لم يكن مدميا فكذلك عند بعض المتأخرين سواء كانت الجراحة صغيرة أو كبيرة؛ لأن الدم قد يحتبس بضيق المنفذ أو غلظ الدم وعند بعضهم يشترط الإدماء لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل" شرط الإنهار، وعند بعضهم إن كانت كبيرة حل بدون الإدماء، ولو ذبح شاة ولم يسل منه الدم قيل لا تحل وقيل تحل ووجه القولين دخل فيما ذكرناه وإذا أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه، فإن أدماه حل وإلا فلا، وهذا يؤيد بعض ما ذكرناه. قال: "وإذا رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد" لما بيناه "ولا يؤكل العضو" وقال الشافعي رحمه الله: أكلا إن مات الصيد منه؛ لأنه مبان بذكاة الاضطرار فيحل المبان والمبان منه كما إذا أبين الرأس بذكاة الاختيار بخلاف ما إذا لم يمت؛ لأنه ما أبين بالذكاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أبين من الحي فهو ميت" ذكر الحي مطلقا فينصرف إلى الحي حقيقة وحكما، والعضو المبان بهذه الصفة؛ لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة فيه، وكذا حكما؛ لأنه تتوهم سلامته بعد هذه الجراحة ولهذا اعتبره الشرع حيا، حتى لو وقع في الماء وفيه حياة بهذه الصفة يحرم وقوله أبين بالذكاة. قلنا: حال وقوعه لم يقع ذكاة لبقاء الروح في الباقي، وعند زواله لا يظهر في المبان لعدم الحياة فيه، ولا تبعية لزوالها بالانفصال فصار هذا الحرف هو الأصل؛ لأن المبان من الحي حقيقة وحكما لا يحل، والمبان من الحي صورة لا حكما يحل وذلك بأن يبقى في المبان منه حياة بقدر ما يكون في المذبوح فإنه حياة صورة لا حكما، ولهذا لو وقع في الماء وبه هذا القدر من الحياة أو تردى من جبل أو سطح لا يحرم فتخرج عليه المسائل، فنقول: إذا قطع يدا أو رجلا أو فخذا أو ثلثه مما يلي القوائم أو أقل من نصف الرأس يحرم المبان ويحل المبان منه؛ لأنه يتوهم بقاء الحياة في الباقي "ولو قده بنصفين أو قطعه أثلاثا والأكثر مما يلي العجز أو قطع نصف رأسه أو أكثر منه يحل المبان والمبان منه"؛ لأن المبان منه حي صورة لا حكما؛ إذ لا يتوهم بقاء الحياة بعد هذا الجرح، والحديث وإن تناول السمك وما أبين منه فهو ميت، إلا أن ميتته حلال بالحديث الذي رويناه "ولو ضرب عنق شاة فأبان رأسها يحل لقطع الأوداج" ويكره هذا الصنيع لإبلاغه النخاع، وإن ضربه من قبل القفا، إن مات قبل قطع الأوداج لا يحل، وإن لم يمت حتى قطع الأوداج حل "ولو ضرب صيدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 فقطع يدا أو رجلا ولم يبنه؛ إن كان يتوهم الالتئام والاندمال فإذا مات حل أكله"؛ لأنه بمنزلة سائر أجزائه، وإن كان لا يتوهم بأن بقي متعلقا بجلده حل ما سواه لوجود الإبانة معنى والعبرة للمعاني. قال: "ولا يؤكل صيد المجوسي والمرتد والوثني"؛ لأنهم ليسوا من أهل الذكاة على ما بيناه في الذبائح، ولا بد منها في إباحة الصيد بخلاف النصراني واليهودي؛ لأنهما من أهل الذكاة اختيارا فكذا اضطرارا. قال: "ومن رمى صيدا فأصابه ولم يثخنه ولم يخرجه عن حيز الامتناع فرماه آخر فقتله فهو للثاني ويؤكل"؛ لأنه هو الآخذ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الصيد لمن أخذ" "وإن كان الأول أثخنه فرماه الثاني فقتله فهو للأول ولم يؤكل" لاحتمال الموت بالثاني، وهو ليس بذكاة للقدرة على ذكاة الاختيار، بخلاف الوجه الأول، وهذا إذا كان الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد؛ لأنه حينئذ يكون الموت مضافا إلى الرمي الثاني وأما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى في المذبوح، كما إذا أبان رأسه يحل؛ لأن الموت لا يضاف إلى الرمي الثاني؛ لأن وجوده وعدمه بمنزلة، وإن كان الرمي الأول بحال لا يعيش منه الصيد إلا أنه بقي فيه من الحياة أكثر مما يكون بعد الذبح بأن كان يعيش يوما أو دونه؛ فعلى قول أبي يوسف لا يحرم بالرمي الثاني؛ لأن هذا القدر من الحياة لا عبرة بها عنده وعند محمد يحرم؛ لأن هذا القدر من الحياة معتبر عنده على ما عرف من مذهبه فصار الجواب فيه والجواب فيما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد سواء فلا يحل. قال: "والثاني ضامن لقيمته للأول غير ما نقصته جراحته"؛ لأنه بالرمي أتلف صيدا مملوكا له؛ لأنه ملكه بالرمي المثخن وهو منقوص بجراحته، وقيمة المتلف تعتبر يوم الإتلاف. قال رضي الله عنه: تأويله إذا علم أن القتل حصل بالثاني بأن كان الأول بحال يجوز أن يسلم الصيد منه والثاني بحال لا يسلم الصيد منه ليكون القتل كله مضافا إلى الثاني وقد قتل حيوانا مملوكا للأول منقوصا بالجراحة فلا يضمنه كملا، كما إذا قتل عبدا مريضا إن علم أن الموت يحصل من الجراحتين أو لا يدري قال في الزيادات: يضمن الثاني ما نقصته جراحته ثم يضمنه نصف قيمته مجروحا بجراحتين ثم يضمن نصف قيمة لحمه أما الأول فلأنه جرح حيوانا مملوكا للغير وقد نقصه فيضمن ما نقصه أولا وأما الثاني: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 فلأن الموت حصل بالجراحتين فيكون هو متلفا نصفه وهو مملوك لغيره فيضمن نصف قيمته مجروحا بالجراحتين؛ لأن الأولى ما كانت بصنعه، والثانية ضمنها مرة فلا يضمنها ثانيا وأما الثالث فلأن بالرمي الأول صار بحال يحل بذكاة الاختيار لولا رمي الثاني، فهذا بالرمي الثاني أفسد عليه نصف اللحم فيضمنه، ولا يضمن النصف الآخر؛ لأنه ضمنه مرة فدخل ضمان اللحم فيه، وإن كان رماه الأول ثانيا فالجواب في حكم الإباحة كالجواب فيما إذا كان الرامي غيره، ويصير كما إذا رمى صيدا على قمة جبل فأثخنه ثم رماه ثانيا فأنزله لا يحل؛ لأن الثاني محرم، كذا هذا. قال: "ويجوز اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان وما لا يؤكل" لإطلاق ما تلونا والصيد لا يختص بمأكول اللحم قال قائلهم: صيد الملوك أرانب وثعالب ... وإذا ركبت فصيدي الأبطال ولأن صيده سبب للانتفاع بجلده أو شعره أو ريشة أو لاستدفاع شره وكل ذلك مشروع والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 كتاب الرهن كيفية انعقاد الرهن ... كتاب الرهن الرهن لغة: حبس الشيء بأي سبب كان وفي الشريعة: جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون، وهو مشروع بقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] وبما روي: "أنه عليه الصلاة والسلام اشترى من يهودي طعاما ورهنه به درعه" وقد انعقد على ذلك الإجماع، ولأنه عقد وثيقة لجانب الاستيفاء فيعتبر بالوثيقة في طرف الوجوب وهي الكفالة. قال: "الرهن ينعقد بالإيجاب والقبول ويتم بالقبض" قالوا: الركن الإيجاب بمجرده؛ لأنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع كالهبة والصدقة والقبض شرط اللزوم على ما نبينه إن شاء الله تعالى وقال مالك: يلزم بنفس العقد؛ لأنه يختص بالمال من الجانبين فصار كالبيع، ولأنه عقد وثيقة فأشبه الكفالة ولنا ما تلونا، والمصدر المقرون بحرف الفاء في محل الجزاء يراد به الأمر، ولأنه عقد تبرع لما أن الراهن لا يستوجب بمقابلته على المرتهن شيئا ولهذا لا يجبر عليه فلا بد من إمضائه كما في الوصية وذلك بالقبض، ثم يكتفي فيه بالتخلية في ظاهر الرواية؛ لأنه قبض بحكم عقد مشروع فأشبه قبض المبيع وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يثبت في المنقول إلا بالنقل؛ لأنه قبض موجب للضمان ابتداء بمنزلة الغصب، بخلاف الشراء؛ لأنه ناقل للضمان من البائع إلى المشتري وليس بموجب ابتداء والأول أصح. قال: "وإذا قبضه المرتهن محوزا مفرغا متميزا تم العقد فيه" لوجود القبض بكماله فلزم العقد "وما لم يقبضه فالراهن بالخيار إن شاء سلمه وإن شاء رجع عن الرهن" لما ذكرنا أن اللزوم بالقبض إذ المقصود لا يحصل قبله. قال: "وإذا سلمه إليه فقبضه دخل في ضمانه" وقال الشافعي رحمه الله: هو أمانة في يده، ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يغلق الرهن، قالها ثلاثة، لصاحبه غنمه وعليه غرمه" قال: ومعناه لا يصير مضمونا بالدين، ولأن الرهن وثيقة بالدين فبهلاكه لا يسقط الدين اعتبارا بهلاك الصك، وهذا؛ لأن بعد الوثيقة يزداد معنى الصيانة، والسقوط بالهلاك يضاد ما اقتضاه العقد إذا لحق به يصير بعرض الهلاك وهو ضد الصيانة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعد ما نفق فرس الرهن عنده "ذهب حقك" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا غمى الرهن فهو بما فيه" معناه: على ما قالوا إذا اشتبهت قيمة الرهن بعد ما هلك وإجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على أن الراهن مضمون مع اختلافهم في كيفيته، والقول بالأمانة خرق له، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يغلق الرهن" على ما قالوا الاحتباس الكلي والتمكن بأن يصير مملوكا له كذا ذكر الكرخي عن السلف ولأن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد والحبس؛ لأن الرهن ينبئ عن الحبس الدائم، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] وقال قائلهم: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا والأحكام الشرعية تنعطف على الألفاظ على وفق الأنباء، ولأن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء وهو أن تكون موصلة إليه وذلك ثابت له بملك اليد والحبس ليقع الأمن من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن، وليكون عاجزا عن الانتفاع به فيتسارع إلى قضاء الدين لحاجته أو لضجره، وإذا كان كذلك يثبت الاستيفاء من وجه وقد تقرر بالهلاك، فلو استوفاه ثانيا يؤدي إلى الربا، بخلاف حالة القيام؛ لأنه ينقض هذا الاستيفاء بالرد على الراهن فلا يتكرر، ولا وجه إلى استيفاء الباقي بدونه؛ لأنه لا يتصور، والاستيفاء يقع بالمالية أما العين فأمانة حتى كانت نفقة المرهون على الراهن في حياته وكفنه بعد مماته، وكذا قبض الرهن لا ينوب عن قبض الشراء إذا اشتراه المرتهن؛ لأن العين أمانة فلا تنوب عن قبض ضمان، وموجب العقد ثبوت يد الاستيفاء وهذا يحقق الصيانة، وإن كان فراغ الذمة من ضروراته كما في الحوالة. فالحاصل: أن عندنا حكم الرهن صيرورة الرهن محتبسا بدينه بإثبات يد الاستيفاء عليه وعنده تعلق الدين بالعين استيفاء منه عينا بالبيع، فيخرج على هذين الأصلين عدة من المسائل المختلف فيها بيننا وبينه عددناها في كفاية المنتهى جملة: منها أن الراهن ممنوع عن الاسترداد للانتفاع؛ لأنه يفوت موجبه وهو الاحتباس على الدوام، وعنده لا يمنع منه؛ لأنه لا ينافي موجبه وهو تعينه للبيع وسيأتيك البواقي في أثناء المسائل إن شاء الله تعالى. قال: "ولا يصح الرهن إلا بدين مضمون"؛ لأن حكمه ثبوت يد الاستيفاء، والاستيفاء يتلو الوجوب قال رضي الله عنه: ويدخل على هذا اللفظ الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها، فإنه يصح الرهن بها ولا دين ويمكن أن يقال: إن الواجب الأصلي فيها هو القيمة ورد العين مخلص على ما عليه أكثر المشايخ وهو دين ولهذا تصح الكفالة بها، ولئن كان لا يجب إلا بعد الهلاك ولكنه يجب عند الهلاك بالقبض السابق، ولهذا تعتبر قيمته يوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 القبض فيكون رهنا بعد وجود سبب وجوبه فيصح كما في الكفالة، ولهذا لا تبطل الحوالة المقيدة به بهلاكه، بخلاف الوديعة. قال: "وهو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين، فإذا هلك في يد المرتهن، وقيمته والدين سواء صار المرتهن مستوفيا لدينه، وإن كانت قيمة الرهن أكثر فالفضل أمانة في يده"؛ لأن المضمون بقدر ما يقع به الاستيفاء وذاك بقدر الدين "وإن كانت أقل سقط من الدين بقدره ورجع المرتهن بالفضل"؛ لأن الاستيفاء بقدر المالية. وقال زفر رحمه الله: الرهن مضمون بالقيمة، حتى لو هلك الرهن، وقيمته يوم الرهن ألف وخمسمائة والدين ألف رجع الراهن على المرتهن بخمسمائة له حديث علي رضي الله عنه قال: " يترادان الفضل في الرهن " ولأن الزيادة على الدين مرهونة لكونها محبوسة به فتكون مضمونة اعتبارا بقدر الدين ومذهبنا مروي عن عمر وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهم، ولأن يد المرتهن يد الاستيفاء فلا توجب الضمان إلا بالقدر المستوفي كما في حقيقة الاستيفاء، والزيادة مرهونة به ضرورة امتناع حبس الأصل بدونها ولا ضرورة في حق الضمان والمراد بالتراد فيما يروى حالة البيع، فإنه روي عنه أنه قال: المرتهن أمين في الفضل. قال: "وللمرتهن أن يطالب الراهن بدينه ويحبسه به"؛ لأن حقه باق بعد الرهن والرهن لزيادة الصيانة فلا تمتنع به المطالبة، والحبس جزاء الظلم، فإذا ظهر مطله عند القاضي يحبسه كما بيناه على التفصيل فيما تقدم "وإذا طلب المرتهن دينه يؤمر بإحضار الرهن"؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء فلا يجوز أن يقبض ماله مع قيام يد الاستيفاء؛ لأنه يتكرر الاستيفاء على اعتبار الهلاك في يد المرتهن وهو محتمل "وإذا أحضر أمر الراهن بتسليم الدين إليه أولا" ليتعين حقه كما تعين حق الراهن تحقيقا للتسوية كما في تسليم المبيع والثمن يحضر المبيع ثم يسلم الثمن أولا "وإن طالبه بالدين في غير البلد الذي وقع العقد فيه، إن كان الرهن مما لا حمل له ولا مؤنة، فكذلك الجواب"؛ لأن الأماكن كلها في حق التسليم كمكان واحد فيما ليس له حمل ومؤنة؛ ولهذا لا يشترط بيان مكان الإيفاء فيه في باب السلم بالإجماع "وإن كان له حمل ومؤنة يستوفي دينه ولا يكلف إحضار الرهن"؛ لأن هذا نقل، والواجب عليه التسليم بمعنى التخلية، لا النقل من مكان إلى مكان؛ لأنه يتضرر به زيادة الضرر ولم يلتزمه. "ولو سلط الراهن العدل على بيع المرهون فباعه بنقد أو نسيئة جاز" لإطلاق الأمر "فلو طالب المرتهن بالدين لا يكلف المرتهن إحضار الرهن"؛ لأنه لا قدرة له على الإحضار "وكذا إذا أمر المرتهن ببيعه فباعه ولم يقبض الثمن"؛ لأنه صار دينا بالبيع بأمر الراهن، فصار كأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 الراهن رهنه وهو دين "ولو قبضه يكلف إحضاره لقيام البدل مقام المبدل"؛ لأن الذي يتولى قبض الثمن هو المرتهن؛ لأنه هو العاقد فترجع الحقوق إليه، وكما يكلف إحضار الرهن لاستيفاء كل الدين يكلف لاستيفاء نجم قد حل لاحتمال الهلاك، ثم إذا قبض الثمن يؤمر بإحضاره لاستيفاء الدين لقيامه مقام العين، وهذا بخلاف ما إذا قتل رجل العبد الرهن خطأ حتى قضى به بالقيمة على عاقلته في ثلاث سنين لم يجبر الراهن على قضاء الدين حتى يحضر كل القيمة؛ لأن القيمة خلف عن الرهن فلا بد من إحضار كلها كما لا بد من إحضار كل عين الرهن وما صارت قيمة بفعله، وفيما تقدم صار دينا بفعل الراهن فلهذا افترقا "ولو وضع الرهن على يد العدل وأمر أن يودعه غيره ففعل ثم جاء المرتهن يطلب دينه لا يكلف إحضار الرهن"؛ لأنه لم يؤتمن عليه حيث وضع على يد غيره فلم يكن تسليمه في قدرته "ولو وضعه العدل في يد من في عياله وغاب وطلب المرتهن دينه والذي في يده يقول أودعني فلان ولا أدري لمن هو يجبر الراهن على قضاء الدين"؛ لأن إحضار الرهن ليس على المرتهن؛ لأنه لم يقبض شيئا. "وكذلك إذا غاب العدل بالرهن ولا يدرى أين هو" لما قلنا "ولو أن الذي أودعه العدل جحد الرهن وقال هو مالي لم يرجع المرتهن على الراهن بشيء حتى يثبت كونه رهنا"؛ لأنه لما جحد الرهن فقد توى المال والتوى على المرتهن فيتحقق استيفاء الدين ولا يملك المطالبة به. قال: "وإن كان الرهن في يده ليس عليه أن يمكنه من البيع حتى يقضيه الدين"؛ لأن حكمه الحبس الدائم إلى أن يقضي الدين على ما بيناه "ولو قضاه البعض فله أن يحبس كل الرهن حتى يستوفي البقية" اعتبارا بحبس المبيع "فإذا قضاه الدين قيل له سلم الرهن إليه"؛ لأنه زال المانع من التسليم لوصول الحق إلى مستحقه "فلو هلك قبل التسليم استرد الراهن ما قضاه"؛ لأنه صار مستوفيا عند الهلاك بالقبض السابق، فكان الثاني استيفاء بعد استيفاء فيجب رده "وكذلك لو تفاسخا الرهن له حبسه ما لم يقبض الدين أو يبرئه، ولا يبطل الرهن إلا بالرد على الراهن على وجه الفسخ"؛ لأنه يبقى مضمونا ما بقي القبض والدين "ولو هلك في يده سقط الدين إذا كان به وفاء بالدين" لبقاء الرهن "وليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن لا باستخدام، ولا بسكنى ولا لبس، إلا أن يأذن له المالك"؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع "وليس له أن يبيع إلا بتسليط من الراهن، وليس له أن يؤاجر ويعير"؛ لأنه ليس له ولاية الانتفاع بنفسه فلا يملك تسليط غيره عليه، فإن فعل كان متعديا، ولا يبطل عقد الرهن بالتعدي. قال: "وللمرتهن أن يحفظ الرهن بنفسه وزوجته وولده وخادمه الذي في عياله" قال رضي الله عنه: معناه أن يكون الولد في عياله أيضا، وهذا؛ لأن عينه أمانة في يده فصار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 كالوديعة "وإن حفظه بغير من في عياله أو أودعه ضمن" هل يضمن الثاني فهو على الخلاف، وقد بينا جميع ذلك بدلائله في الوديعة "وإذا تعدى المرتهن في الرهن ضمنه ضمان الغصب بجميع قيمته"؛ لأن الزيادة على مقدار الدين أمانة، والأمانات تضمن بالتعدي "ولو رهنه خاتما فجعله في خنصره فهو ضامن"؛ لأنه متعد بالاستعمال؛ لأنه غير مأذون فيه، وإنما الإذن بالحفظ واليمنى واليسرى في ذلك سواء؛ لأن العادة فيه مختلفة "ولو جعله في بقية الأصابع كان رهنا بما فيه"؛ لأنه لا يلبس كذلك عادة فكان من باب الحفظ، وكذا الطيلسان إن لبسه لبسا معتادا ضمن، وإن وضعه على عاتقه لم يضمن "ولو رهنه سيفين أو ثلاثة فتقلدها لم يضمن في الثلاثة وضمن في السيفين"؛ لأن العادة جرت بين الشجعان بتقلد السيفين في الحرب ولم تجر بتقلد الثلاثة، وإن لبس خاتما فوق خاتم، إن كان هو ممن يتجمل بلبس خاتمين ضمن، وإن كان لا يتجمل بذلك فهو حافظ فلا يضمن. قال: "وأجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن على المرتهن وكذلك أجرة الحافظ وأجرة الراعي ونفقة الرهن على الراهن" والأصل أن ما يحتاج إليه لمصلحة الرهن وتبقيته فهو على الراهن سواء كان في الرهن فضل أو لم يكن؛ لأن العين باق على ملكه، وكذلك منافعه مملوكة له فيكون إصلاحه وتبقيته عليه لما أنه مؤنة ملكه كما في الوديعة، وذلك مثل النفقة في مأكله ومشربه، وأجرة الراعي في معناه؛ لأنه علف الحيوان، ومن هذا الجنس كسوة الرقيق وأجرة ظئر ولد الرهن، وسقي البستان، وكري النهر وتلقيح نخيله وجذاذه، والقيام بمصالحه، وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن أو لرد جزء منه فهو على المرتهن مثل أجرة الحافظ؛ لأن الإمساك حق له والحفظ واجب عليه فيكون بدله عليه، وكذلك أجرة البيت الذي يحفظ الرهن فيه، وهذا في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أن كراء المأوى على الراهن بمنزلة النفقة؛ لأنه سعى في تبقيته، ومن هذا القسم جعل الآبق فإنه على المرتهن؛ لأنه محتاج إلى إعادة الاستيفاء التي كانت له ليرده فكانت مؤنة الرد فيلزمه، وهذا إذا كانت قيمة الرهن والدين سواء، وإن كانت قيمة الرهن أكثر فعليه بقدر المضمون وعلى الراهن بقدر الزيادة عليه؛ لأنه أمانة في يده والرد لإعادة اليد، ويده في الزيادة يد المالك إذ هو كالمودع فيها فلهذا يكون على المالك، وهذا بخلاف أجرة البيت الذي ذكرناه فإن كلها تجب على المرتهن، وإن كان في قيمة الرهن فضل؛ لأن وجوب ذلك بسبب الحبس، وحق الحبس في الكل ثابت له فأما الجعل إنما يلزمه لأجل الضمان فيتقدر بقدر المضمون. قال: "ومداواة الجراحة والقروح ومعالجة الأمراض والفداء من الجناية تنقسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 على المضمون والأمانة، والخراج على الراهن خاصة" لأنه من مؤن الملك. قال: "والعشر فيما يخرج مقدم على حق المرتهن" لتعلقه بالعين ولا يبطل الرهن في الباقي؛ لأن وجوبه لا ينافي ملكه، بخلاف الاستحقاق. قال: "وما أداه أحدهما مما وجب على صاحبه فهو متطوع، وما أنفق أحدهما مما يجب على الآخر بأمر القاضي رجع عليه" كأن صاحبه أمره به؛ لأن ولاية القاضي عامة وعن أبي حنيفة أنه لا يرجع إذا كان صاحبه حاضرا وإن كان بأمر القاضي وقال أبو يوسف إنه يرجع في الوجهين، وهي فرع مسألة الحجر، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 باب ما يجوز ارتهانه والارتهان به وما لا يجوز قال: "ولا يجوز رهن المشاع" وقال الشافعي: يجوز، ولنا فيه وجهان: أحدهما يبتني على حكم الرهن، فإنه عندنا ثبوت يد الاستيفاء، وهذا لا يتصور فيما يتناوله العقد وهو المشاع وعنده المشاع يقبل ما هو الحكم عنده وهو تعينه للبيع والثاني أن موجب الرهن هو الحبس الدائم؛ لأنه لم يشرع إلا مقبوضا بالنص، أو بالنظر إلى المقصود منه وهو الاستيثاق من الوجه الذي بيناه، وكل ذلك يتعلق بالدوام، ولا يفضي إليه إلا استحقاق الحبس، ولو جوزناه في المشاع يفوت الدوام؛ لأنه لا بد من المهايأة فيصير كما إذا قال رهنتك يوما ويوما لا، ولهذا لا يجوز فيما يحتمل القسمة وما لا يحتملها، بخلاف الهبة حيث يجوز فيما لا يحتمل القسمة؛ لأن المانع في الهبة غرامة القسمة وهو فيما يقسم، أما حكم الهبة الملك والمشاع يقبله، وها هنا الحكم ثبوت يد الاستيفاء والمشاع لا يقبله وإن كان لا يحتمل القسمة، ولا يجوز من شريكه؛ لأنه لا يقبل حكمه على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني يسكن يوما بحكم الملك ويوما بحكم الرهن فيصير كأنه رهن يوما ويوما لا والشيوع الطارئ يمنع بقاء الرهن في رواية الأصل، وعن أبي يوسف أنه لا يمنع؛ لأن حكم البقاء أسهل من حكم الابتداء فأشبه الهبة وجه الأول أن الامتناع لعدم المحلية وما يرجع إليه، فالابتداء والبقاء سواء كالمحرمية في باب النكاح، بخلاف الهبة؛ لأن المشاع يقبل حكمها وهو الملك، واعتبار القبض في الابتداء لنفي الغرامة على ما بيناه، ولا حاجة إلى اعتباره في حالة البقاء ولهذا يصح الرجوع في بعض الهبة، ولا يجوز فسخ العقد في بعض الرهن. قال: "ولا رهن ثمرة على رءوس النخيل، ولا زرع الأرض دون الأرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 ولا رهن النخيل في الأرض دونها"؛ لأن المرهون متصل بما ليس بمرهون خلقة فكان في معنى الشائع. قال: "وكذا إذا رهن الأرض دون النخيل أو دون الزرع أو النخيل دون الثمر"؛ لأن الاتصال يقوم بالطرفين، فصار الأصل أن المرهون إذا كان متصلا بما ليس بمرهون لم يجز؛ لأنه لا يمكن قبض المرهون وحده وعن أبي حنيفة أن رهن الأرض بدون الشجر جائز؛ لأن الشجر اسم للنابت فيكون استثناء الأشجار بمواضعها، بخلاف ما إذا رهن الدار دون البناء؛ لأن البناء اسم للمبنى فيصير راهنا جميع الأرض وهي مشغولة بملك الراهن. قال: "ولو رهن النخيل بمواضعها جاز"؛ لأن هذه مجاورة وهي لا تمنع الصحة. قال: "ولو كان فيه ثمر يدخل في الرهن"؛ لأنه تابع لاتصاله به فيدخل تبعا تصحيحا للعقد، بخلاف البيع؛ لأن بيع النخيل بدون الثمر جائز، ولا ضرورة إلى إدخاله من غير ذكر، وبخلاف المتاع في الدار حيث لا يدخل في رهن الدار من غير ذكره؛ لأنه ليس بتابع بوجه ما، وكذا يدخل الزرع والرطبة في رهن الأرض ولا يدخل في البيع لما ذكرنا في الثمرة "ويدخل البناء والغرس في رهن الأرض والدار والقرية" لما ذكرنا قال: "ولو رهن الدار بما فيها جاز ولو استحق بعضه، إن كان الباقي يجوز ابتداء الرهن عليه وحده بقي رهنا بحصته وإلا بطل كله"؛ لأن الرهن جعل كأنه ما ورد إلا على الباقي، ويمنع التسليم كون الراهن أو متاعه في الدار المرهونة، وكذا متاعه في الوعاء المرهون، ويمنع تسليم الدابة المرهونة الحمل عليها فلا يتم حتى يلقي الحمل؛ لأنه شاغل لها، بخلاف ما إذا رهن الحمل دونها حيث يكون رهنا تاما إذا دفعها إليه؛ لأن الدابة مشغولة به فصار كما إذا رهن متاعا في دار أو في وعاء دون الدار والوعاء، بخلاف ما إذا رهن سرجا على دابة أو لجاما في رأسها ودفع الدابة مع السرج واللجام حيث لا يكون رهنا حتى ينزعه منها ثم يسلمه إليه؛ لأنه من توابع الدابة بمنزلة الثمرة للنخيل حتى قالوا يدخل فيه من غير ذكر. قال: "ولا يصح الرهن بالأمانات" كالودائع والعواري والمضاربات. قال: "ومال الشركة"؛ لأن القبض في باب الرهن قبض مضمون فلا بد من ضمان ثابت ليقع القبض مضمونا ويتحقق استيفاء الدين منه. قال: "وكذلك لا يصح بالأعيان المضمونة بغيرها كالمبيع في يد البائع"؛ لأن الضمان ليس بواجب، فإنه إذا هلك العين لم يضمن البائع شيئا لكنه يسقط الثمن وهو حق البائع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 فلا يصح الرهن فأما الأعيان المضمونة بعينها وهو أن يكون مضمونا بالمثل أو بالقيمة عند هلاكه مثل المغصوب وبدل الخلع والمهر وبدل الصلح عن دم العمد يصح الرهن بها؛ لأن الضمان متقرر، فإنه إن كان قائما وجب تسليمه، وإن كان هالكا تجب قيمته فكان رهنا بما هو مضمون فيصح. قال: "والرهن بالدرك باطل والكفالة بالدرك جائزة" والفرق أن الرهن للاستيفاء ولا استيفاء قبل الوجوب، وإضافة التمليك إلى زمان في المستقبل لا تجوز أما الكفالة فلالتزام المطالبة، والتزام الأفعال يصح مضافا إلى المآل كما في الصوم والصلاة، ولهذا تصح الكفالة بما ذاب له على فلان ولا يصح الرهن، فلو قبضه قبل الوجوب فهلك عنده يهلك أمانة؛ لأنه لا عقد حيث وقع باطلا، بخلاف الرهن بالدين الموعود وهو أن يقول رهنتك هذا لتقرضني ألف درهم وهلك في يد المرتهن حيث يهلك بما سمى من المال بمقابلته؛ لأن الموعود جعل كالموجود باعتبار الحاجة، ولأنه مقبوض بجهة الرهن الذي يصح على اعتبار وجوده فيعطى له حكمه كالمقبوض على سوم الشراء فيضمنه. قال: "ويصح الرهن برأس مال السلم وبثمن الصرف والمسلم فيه" وقال زفر: لا يجوز؛ لأن حكمه الاستيفاء، وهذا استبدال لعدم المجانسة، وباب الاستبدال فيها مسدود ولنا أن المجانسة ثابتة في المالية فيتحقق الاستيفاء من حيث المال وهو المضمون على ما مر. قال: "والرهن بالمبيع باطل" لما بينا أنه غير مضمون بنفسه. قال: "فإن هلك ذهب بغير شيء"؛ لأنه لا اعتبار للباطل فبقي قبضا بإذنه. قال: "وإن هلك الرهن بثمن الصرف ورأس مال السلم في مجلس العقد تم الصرف والسلم وصار المرتهن مستوفيا لدينه حكما" لتحقق القبض حكما. قال: "وإن افترقا قبل هلاك الرهن بطلا" لفوات القبض حقيقة وحكما. قال: "وإن هلك الرهن بالمسلم فيه بطل السلم بهلاكه" ومعناه: أنه يصير مستوفيا للمسلم فيه فلم يبق السلم. قال: "ولو تفاسخا السلم وبالمسلم فيه رهن يكون ذلك رهنا برأس المال حتى يحبسه"؛ لأنه بدله فصار كالمغصوب إذا هلك وبه رهن يكون رهنا بقيمته. قال: "ولو هلك الرهن بعد التفاسخ يهلك بالطعام المسلم فيه"؛ لأنه رهنه به، وإن كان محبوسا بغيره كمن باع عبدا وسلم المبيع وأخذ بالثمن رهنا ثم تقايلا البيع له أن يحبسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 لأخذ المبيع؛ لأن الثمن بدله، ولو هلك المرهون يهلك بالثمن لما بينا؛ وكذا لو اشترى عبدا شراء فاسدا وأدى ثمنه له أن يحبسه ليستوفي الثمن، ثم لو هلك المشترى في يد المشتري يهلك بقيمته فكذا هذا. قال: "ولا يجوز رهن الحر والمدبر والمكاتب وأم الولد"؛ لأن حكم الرهن ثبوت يد الاستيفاء، ولا يتحقق الاستيفاء من هؤلاء لعدم المالية في الحر وقيام المانع في الباقين، ولا يجوز الرهن بالكفالة بالنفس، وكذا بالقصاص في النفس وما دونها لتعذر الاستيفاء، بخلاف ما إذا كانت الجناية خطأ لأن استيفاء الأرش من الرهن ممكن. قال: "ولا يجوز الرهن بالشفعة"؛ لأن المبيع غير مضمون على المشتري. قال: "ولا بالعبد الجاني والعبد المأذون والمديون"؛ لأنه غير مضمون على المولى، فإنه لو هلك لا يجب عليه شيء. قال: "ولا بأجرة النائحة والمغنية، حتى لو ضاع لم يكن مضمونا"؛ لأنه لا يقابله شيء مضمون. قال: "ولا يجوز للمسلم أن يرهن خمرا أو يرتهنه من مسلم أو ذمي" لتعذر الإيفاء والاستيفاء في حق المسلم، ثم الراهن إذا كان ذميا فالخمر مضمون عليه للذمي كما إذا غصبه، وإن كان المرتهن ذميا لم يضمنها للمسلم كما لا يضمنها بالغصب منه، بخلاف ما إذا جرى ذلك فيما بينهم؛ لأنها مال في حقهم، أما الميتة فليست بمال عندهم فلا يجوز رهنها وارتهانها فيما بينهم، كما لا يجوز فيما بين المسلمين بحال. "ولو اشترى عبدا ورهن بثمنه عبدا أو خلا أو شاة مذبوحة ثم ظهر العبد حرا أو الخل خمرا أو الشاة ميتة فالرهن مضمون"؛ لأنه رهنه بدين واجب ظاهرا "وكذا إذا قتل عبدا ورهن بقيمته رهنا ثم ظهر أنه حر" وهذا كله على ظاهر الرواية "وكذا إذا صالح على إنكار ورهن بما صالح عليه رهنا ثم تصادقا أن لا دين فالرهن مضمون" وعن أبي يوسف خلافه، وكذا قياسه فيما تقدم من جنسه. قال: "ويجوز للأب أن يرهن بدين عليه عبدا لابنه الصغير"؛ لأنه يملك الإيداع، وهذا أنظر في حق الصبي منه؛ لأن قيام المرتهن بحفظه أبلغ خيفة الغرامة "ولو هلك يهلك مضمونا، الوديعة تهلك أمانة والوصي بمنزلة الأب" في هذا الباب لما بينا وعن أبي يوسف وزفر أنه لا يجوز ذلك منهما، وهو القياس اعتبارا بحقيقة الإيفاء، ووجه الفرق على الظاهر وهو الاستحسان أن في حقيقة الإيفاء إزالة ملك الصغير من غير عوض يقابله في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 الحال، وفي هذا نصب حافظ لماله ناجزا مع بقاء ملكه فوضح الفرق "وإذا جاز الرهن يصير المرتهن مستوفيا دينه لو هلك في يده ويصير الأب" أو الوصي "موفيا له ويضمنه للصبي"؛ لأنه قضى دينه بماله، وكذا لو سلطا المرتهن على بيعه؛ لأنه توكيل بالبيع وهما يملكانه قالوا: أصل هذه المسألة البيع، فإن الأب أو الوصي إذا باع مال الصبي من غريم نفسه جاز وتقع المقاصة ويضمنه للصبي عندهما، وعند أبي يوسف لا تقع المقاصة، وكذا وكيل البائع بالبيع، والرهن نظير البيع نظرا إلى عاقبته من حيث وجوب الضمان. "وإذا رهن الأب متاع الصغير من نفسه أو من ابن له صغير أو عبد له تاجر لا دين عليه جاز"؛ لأن الأب لوفور شفقته أنزل منزلة شخصين وأقيمت عبارته مقام عبارتين في هذا العقد كما في بيعه مال الصغير من نفسه فتولى طرفي العقد "ولو ارتهنه الوصي من نفسه أو من هذين أو رهنا عينا له من اليتيم بحق لليتيم عليه لم يجز"؛ لأنه وكيل محض، والواحد لا يتولى طرفي العقد في الرهن كما لا يتولاهما في البيع، وهو قاصر الشفقة فلا يعدل عن الحقيقة في حقه إلحاقا له بالأب، والرهن من ابنه الصغير وعبده التاجر الذي ليس عليه دين بمنزلة الرهن من نفسه، بخلاف ابنه الكبير وأبيه وعبده الذي عليه دين؛ لأنه لا ولاية له عليهم، بخلاف الوكيل بالبيع إذا باع من هؤلاء؛ لأنه متهم فيه ولا تهمة في الرهن؛ لأن له حكما واحدا. "وإن استدان الوصي لليتيم في كسوته وطعامه فرهن به متاعا لليتيم جاز"؛ لأن الاستدانة جائزة للحاجة والرهن يقع إيفاء للحق فيجوز "وكذلك لو اتجر لليتيم فارتهن أو رهن"؛ لأن الأولى له التجارة تثميرا لمال اليتيم فلا يجد بدا من الارتهان والرهن؛ لأنه إيفاء واستيفاء "وإذا رهن الأب متاع الصغير فأدرك الابن ومات الأب ليس للابن أن يرده حتى يقضي الدين" لوقوعه لازما من جانبه؛ إذ تصرف الأب بمنزلة تصرفه بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه "ولو كان الأب رهنه لنفسه فقضاه الابن رجع به في مال الأب"؛ لأنه مضطر فيه لحاجته إلى إحياء ملكه فأشبه معير الرهن "وكذا إذا هلك قبل أن يفتكه"؛ لأن الأب يصير قاضيا دينه بماله فله أن يرجع عليه "ولو رهنه بدين على نفسه وبدين على الصغير جاز" لاشتماله على أمرين جائزين "فإن هلك ضمن الأب حصته من ذلك للولد" لإيفائه دينه من ماله بهذا المقدار، وكذلك الوصي، وكذلك الجد أب الأب إذا لم يكن الأب أو وصي الأب. "ولو رهن الوصي متاعا لليتيم في دين استدانه عليه وقبض المرتهن ثم استعاره الوصي لحاجة اليتيم فضاع في يد الوصي فإنه خرج من الرهن وهلك من مال اليتيم"؛ لأن فعل الوصي كفعله بنفسه بعد البلوغ؛ لأنه استعاره لحاجة الصبي والحكم فيه هذا على ما نبينه إن شاء الله تعالى "والمال دين على الوصي" معناه هو المطالب به "ثم يرجع بذلك على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 الصبي"؛ لأنه غير متعد في هذه الاستعارة؛ إذ هي لحاجة الصبي "ولو استعاره لحاجة نفسه ضمنه للصبي"؛ لأنه متعد؛ إذ ليس له ولاية الاستعمال في حاجة نفسه "ولو غصبه الوصي بعد ما رهنه فاستعمله لحاجة نفسه حتى هلك عنده فالوصي ضامن لقيمته"؛ لأنه متعد في حق المرتهن بالغصب والاستعمال، وفي حق الصبي بالاستعمال في حاجة نفسه، فيقضى به الدين إن كان قد حل "فإن كان قيمته مثل الدين أداه إلى المرتهن ولا يرجع على اليتيم"؛ لأنه وجب لليتيم عليه مثل ما وجب له على اليتيم فالتقيا قصاصا "وإن كانت قيمته أقل" من الدين "أدى قدر القيمة إلى المرتهن وأدى الزيادة من مال اليتيم"؛ لأن المضمون عليه قدر القيمة لا غير "وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين أدى قدر الدين من القيمة إلى المرتهن، والفضل لليتيم، وإن كان لم يحل الدين فالقيمة رهن"؛ لأنه ضامن للمرتهن بتفويت حقه المحترم فتكون رهنا عنده، ثم إذا حل الأجل كان الجواب على التفصيل الذي فصلناه. "ولو أنه غصبه واستعمله لحاجة الصغير حتى هلك في يده يضمنه لحق المرتهن، ولا يضمنه لحق الصغير"؛ لأن استعماله لحاجة الصغير ليس بتعد، وكذا الأخذ؛ لأن له ولاية أخذ مال اليتيم، ولهذا قال في كتاب الإقرار: إذا أقر الأب أو الوصي بغصب مال الصغير لا يلزمه شيء؛ لأنه لا يتصور غصبه لما أن له ولاية الأخذ، فإذا هلك في يده يضمنه للمرتهن يأخذه بدينه إن كان قد حل، ويرجع الوصي على الصغير؛ لأنه ليس بمتعد بل هو عامل له، وإن كان لم يحل يكون رهنا عند المرتهن، ثم إذا حل الدين يأخذ دينه منه ويرجع الوصي على الصبي بذلك لما ذكرنا. قال: "ويجوز رهن الدراهم والدنانير والمكيل والموزون"؛ لأنه يتحقق الاستيفاء منه فكان محلا للرهن "فإن رهنت بجنسها فهلكت هلكت بمثلها من الدين وإن اختلفا في الجودة"؛ لأنه لا معتبر بالجودة عند المقابلة بجنسها، وهذا عند أبي حنيفة؛ لأن عنده يصير مستوفيا باعتبار الوزن دون القيمة، وعندهما يضمن القيمة من خلاف جنسه ويكون رهنا مكانه. "وفي الجامع الصغير: فإن رهن إبريق فضة وزنه عشرة بعشرة فضاع فهو بما فيه" قال رضي الله عنه: معناه أن تكون قيمته مثل وزنه أو أكثر هذا الجواب في الوجهين بالاتفاق؛ لأن الاستيفاء عنده باعتبار الوزن وعندهما باعتبار القيمة، وهي مثل الدين في الأول وزيادة عليه في الثاني فيصير بقدر الدين مستوفيا " فإن كان قيمته أقل من الدين فهو على الخلاف" المذكور لهما أنه لا وجه إلى الاستيفاء بالوزن لما فيه من الضرر بالمرتهن، ولا إلى اعتبار القيمة؛ لأنه يؤدي إلى الربا فصرنا إلى التضمين، بخلاف الجنس لينتقض القبض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 ويجعل مكانه ثم يتملكه وله أن الجودة ساقطة العبرة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها، واستيفاء الجيد بالرديء جائز كما إذا تجوز به وقد حصل الاستيفاء بالإجماع ولهذا يحتاج إلى نقضه، ولا يمكن نقضه بإيجاب الضمان؛ لأنه لا يد له من مطالب ومطالب، وكذا الإنسان لا يضمن ملك نفسه وبتعذر التضمين يتعذر النقض، وقيل: هذه فريعة ما إذا استوفى الزيوف مكان الجياد فهلكت ثم علم بالزيافة يمنع الاستيفاء وهو معروف، غير أن البناء لا يصح ما هو المشهور؛ لأن محمدا فيها مع أبي حنيفة وفي هذا مع أبي يوسف والفرق لمحمد أنه قبض الزيوف ليستوفي من عينها، والزيافة لا تمنع الاستيفاء، وقد تم بالهلاك وقبض الرهن ليستوفي من محل آخر فلا بد من نقض القبض، وقد أمكن عنده بالتضمين، ولو انكسر الإبريق ففي الوجه الأول وهو ما إذا كانت قيمته مثل وزنه عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجبر على الفكاك؛ لأنه لا وجه إلى أن يذهب شيء من الدين؛ لأنه يصير قاضيا دينه بالجودة على الانفراد، ولا إلى أن يفتكه مع النقصان لما فيه من الضرر فخيرناه، إن شاء افتكه بما فيه وإن شاء ضمنه قيمته من جنسه أو خلاف جنسه، وتكون رهنا عند المرتهن، والمكسور للمرتهن بالضمان وعند محمد إن شاء افتكه ناقصا، وإن شاء جعله بالدين اعتبارا لحالة الانكسار بحالة الهلاك، وهذا؛ لأنه لما تعذر الفكاك مجانا صار بمنزلة الهلاك، وفي الهلاك الحقيقي مضمون بالدين بالإجماع فكذا فيما هو في معناه. قلنا: الاستيفاء عند الهلاك بالمالية، وطريقه أن يكون مضمونا بالقيمة ثم تقع المقاصة، وفي جعله بالدين إغلاق الرهن وهو حكم جاهلي فكان التضمين بالقيمة أولى وفي الوجه الثالث وهو ما إذا كانت قيمته أقل من وزنه ثمانية يضمن قيمته جيدا من خلاف جنسه أو رديئا من جنسه وتكون رهنا عنده، وهذا بالاتفاق أما عندهما فظاهر وكذلك عند محمد؛ لأنه يعتبر حالة الانكسار بحالة الهلاك، والهلاك عنده بالقيمة وفي الوجه الثاني وهو ما إذا كانت قيمته أكثر من وزنه اثني عشر عند أبي حنيفة يضمن جميع قيمته وتكون رهنا عنده؛ لأن العبرة للوزن عنده لا للجودة والرداءة فإن كان باعتبار الوزن كله مضمونا يجعل كله مضمونا، وإن كان بعضه فبعضه، وهذا لأن الجودة تابعة للذات، ومتى صار الأصل مضمونا استحال أن يكون التابع أمانة وعند أبي يوسف يضمن خمسة أسداس قيمته، ويكون خمسة أسداس الإبريق له بالضمان وسدسه يفرز حتى لا يبقى الرهن شائعا، ويكون مع قيمته خمسة أسداس المكسور رهنا؛ فعنده تعتبر الجودة والرداءة، وتجعل زيادة القيمة كزيادة الوزن كأن وزنه اثنا عشر، وهذا لأن الجودة متقومة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 في ذاتها حتى تعتبر عند المقابلة، بخلاف جنسها، وفي تصرف المريض، وإن كانت لا تعتبر عند المقابلة بجنسها سمعا فأمكن اعتبارها، وفي بيان قول محمد نوع طول يعرف في موضعه من المبسوط والزيادات مع جميع شعبها. قال: "ومن باع عبدا على أن يرهنه المشتري شيئا بعينه جاز استحسانا" والقياس أن لا يجوز، وعلى هذا القياس والاستحسان إذا باع شيئا على أن يعطيه كفيلا معينا حاضرا في المجلس فقبل وجه القياس أنه صفقة في صفقة وهو منهي عنه، ولأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحدهما، ومثله يفسد البيع وجه الاستحسان أنه شرط ملائم للعقد؛ لأن الكفالة والرهن للاستيثاق وأنه يلائم الوجوب، فإذا كان الكفيل حاضرا في المجلس والرهن معينا اعتبرنا فيه المعنى وهو ملائم فصح العقد، وإذا لم يكن الرهن ولا الكفيل معينا أو كان الكفيل غائبا حتى افترقا لم يبق معنى الكفالة والرهن للجهالة فبقي الاعتبار لعينه فيفسد، ولو كان غائبا فحضر في المجلس وقبل صح "ولو امتنع المشتري عن تسليم الرهن لم يجبر عليه" وقال زفر: يجبر؛ لأن الرهن إذا شرط في البيع صار حقا من حقوقه كالوكالة المشروطة في الرهن فيلزمه بلزومه ونحن نقول: الرهن عقد تبرع من جانب الراهن على ما بيناه ولا جبر على التبرعات "ولكن البائع بالخيار إن شاء رضي بترك الرهن وإن شاء فسخ البيع"؛ لأنه وصف مرغوب فيه وما رضي إلا به فيتخير بفواته "إلا أن يدفع المشتري الثمن حالا" لحصول المقصود "أو يدفع قيمة الرهن رهنا"؛ لأن يد الاستيفاء تثبت على المعنى وهو القيمة. قال: "ومن اشترى ثوبا بدراهم فقال للبائع أمسك هذا الثوب حتى أعطيك الثمن فالثوب رهن"؛ لأنه أتى بما ينبئ عن معنى الرهن وهو الحبس إلى وقت الإعطاء، والعبرة في العقود للمعاني حتى كانت الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة في ضد ذلك كفالة وقال زفر: لا يكون رهنا، ومثله عن أبي يوسف؛ لأن قوله: أمسك يحتمل الرهن ويحتمل الإيداع، والثاني أقلهما فيقضي بثبوته بخلاف ما إذا قال: أمسكه بدينك أو بمالك؛ لأنه لما قابله بالدين فقد عين جهة الرهن قلنا: لما مده إلى الإعطاء علم أن مراده الرهن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 فصل: "ومن رهن عبدين بألف فقضى حصة أحدهما لم يكن له أن يقبضه حتى يؤدي باقي الدين" وحصة كل واحد منهما ما يخصه إذا قسم الدين على قيمتهما، وهذا؛ لأن الرهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 محبوس بكل الدين فيكون محبوسا بكل جزء من أجزائه مبالغة في حمله على قضاء الدين وصار كالمبيع في يد البائع، فإن سمى لكل واحد من أعيان الرهن شيئا من المال الذي رهنه به، فكذا الجواب في رواية الأصل: وفي الزيادات: له أن يقبضه إذا أدى ما سمى له وجه الأول أن العقد متحد لا يتفرق بتفرق التسمية كما في المبيع وجه الثاني أنه لا حاجة إلى الاتحاد؛ لأن أحد العقدين لا يصير مشروطا في الآخر؛ ألا يرى أنه لو قبل الرهن في أحدهما جاز. قال: "فإن رهن عينا واحدة عند رجلين بدين لكل واحد منهما عليه جاز، وجميعها رهن عند كل واحد منهما"؛ لأن الرهن أضيف إلى جميع العين في صفقة واحدة ولا شيوع فيه، وموجبه صيرورته محتبسا بالدين، وهذا مما لا يقبل الوصف بالتجزي فصار محبوسا بكل واحد منها، وهذا بخلاف الهبة من رجلين حيث لا تجوز عند أبي حنيفة "فإن تهايآ فكل واحد منهما في نوبته كالعدل في حق الآخر والمضمون على كل واحد منهما حصته من الدين"؛ لأن عند الهلاك يصير كل واحد منهما مستوفيا حصته؛ إذ الاستيفاء مما يتجزأ. قال: "فإن أعطى أحدهما دينه كان كله رهنا في يد الآخر"؛ لأن جميع العين رهن في يد كل واحد منهما من غير تفرق وعلى هذا حبس المبيع إذا أدى أحد المشتريين حصته من الثمن. قال: "وإن رهن رجلان بدين عليهما رجلا رهنا واحدا فهو جائز والرهن رهن بكل الدين، وللمرتهن أن يمسكه حتى يستوفي جميع الدين"؛ لأن قبض الرهن يحصل في الكل من غير شيوع "فإن أقام الرجلان كل واحد منهما البينة على رجل أنه رهنه عبده الذي في يده وقبضه فهو باطل"؛ لأن كل واحد منهما أثبت ببينته أنه رهنه كل العبد، ولا وجه إلى القضاء لكل واحد منهما بالكل؛ لأن العبد الواحد يستحيل أن يكون كله رهنا لهذا وكله رهنا لذلك في حالة واحدة، ولا إلى القضاء بكله لواحد بعينه لعدم الأولوية، ولا إلى القضاء لكل واحد منهما بالنصف؛ لأنه يؤدي إلى الشيوع فتعذر العمل بهما وتعين التهاتر ولا يقال: إنه يكون رهنا لهما كأنهما ارتهناه معا إذا جهل التاريخ بينهما، وجعل في كتاب الشهادات هذا وجه الاستحسان لأنا نقول: هذا عمل على خلاف ما اقتضته الحجة؛ لأن كلا منهما أثبت ببينته حبسا يكون وسيلة إلى مثله في الاستيفاء، وبهذا القضاء يثبت حبس يكون وسيلة إلى شطره في الاستيفاء، وليس هذا عملا على وفق الحجة، وما ذكرناه وإن كان قياسا لكن محمدا أخذ به لقوته، وإذا وقع باطلا فلو هلك يهلك أمانة؛ لأن الباطل لا حكم له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 قال: "ولو مات الراهن والعبد في أيديهما فأقام كل واحد منهما البينة على ما وصفناه كان في يد كل واحد منهما نصفه رهنا يبيعه بحقه استحسانا" وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وفي القياس: هذا باطل، وهو قول أبي يوسف؛ لأن الحبس للاستيفاء حكم أصلي لعقد الرهن فيكون القضاء به قضاء بعقد الرهن وأنه باطل للشيوع كما في حالة الحياة وجه الاستحسان أن العقد لا يراد لذاته، وإنما يراد لحكمه، وحكمه في حالة الحياة الحبس والشيوع يضره، وبعد الممات الاستيفاء بالبيع في الدين والشيوع لا يضره، وصار كإذا ادعى الرجلان نكاح امرأة أو ادعت أختان النكاح على رجل وأقاموا البينة تهاترت في حالة الحياة ويقضى بالميراث بينهم بعد الممات؛ لأنه يقبل الانقسام، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 باب الرهن يوضع على يد العدل قال: "وإذا اتفقا على وضع الرهن على يد العدل جاز وقال مالك: لا يجوز" ذكر قوله في بعض النسخ؛ لأن يد العدل يد المالك ولهذا يرجع العدل عليه عند الاستحقاق فانعدم القبض ولنا أن يده على الصورة يد المالك في الحفظ؛ إذ العين أمانة، وفي حق المالية يد المرتهن؛ لأن يده يد ضمان والمضمون هو المالية فنزل منزلة الشخصين تحقيقا لما قصداه من الرهن، وإنما يرجع العدل على المالك في الاستحقاق؛ لأنه نائب عنه في حفظ العين كالمودع. قال: "وليس للمرتهن ولا للراهن أن يأخذه منه" لتعلق حق الراهن في الحفظ بيده وأمانته وتعلق حق المرتهن به استيفاء فلا يملك أحدهما إبطال حق الآخر "فلو هلك في يده هلك في ضمان المرتهن"؛ لأن يده في حق المالية يد المرتهن وهي المضمونة "ولو دفع العدل إلى الراهن أو المرتهن ضمن"؛ لأنه مودع الراهن في حق العين ومودع المرتهن في حق المالية وأحدهما أجنبي عن الآخر، والمودع يضمن بالدفع إلى الأجنبي "وإذا ضمن العدل قيمة الرهن بعد ما دفع إلى أحدهما وقد استهلكه المدفوع عليه أو هلك في يده لا يقدر أن يجعل القيمة رهنا في يده"؛ لأنه يصير قاضيا ومقتضيا وبينهما تناف، لكن يتفقان على أن يأخذاها منه ويجعلاها رهنا عنده أو عند غيره ولو تعذر اجتماعهما يرفع أحدهما إلى القاضي ليفعل كذلك، ولو فعل ذلك ثم قضى الراهن الدين وقد ضمن العدل القيمة بالدفع إلى الراهن فالقيمة سالمة له لوصول المرهون إلى الراهن ووصول الدين إلى المرتهن ولا يجتمع البدل والمبدل في ملك واحد "وإن كان ضمنها بالدفع إلى المرتهن فالراهن يأخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 القيمة منه"؛ لأن العين لو كانت قائمة في يده يأخذها إذا أدى الدين، فكذلك يأخذ ما قام مقامها، ولا جمع فيه بين البدل والمبدل. قال: "وإذا وكل الراهن المرتهن أو العدل أو غيرهما ببيع الرهن عند حلول الدين فالوكالة جائزة"؛ لأنه توكيل ببيع ماله "وإن شرطت في عقد الرهن فليس للراهن أن يعزل الوكيل، وإن عزله لم ينعزل"؛ لأنها لما شرطت في ضمن عقد الرهن صار وصفا من أوصافه وحقا من حقوقه؛ ألا ترى أنه لزيادة الوثيقة فيلزم بلزوم أصله، ولأنه تعلق به حق المرتهن وفي العزل إتواء حقه وصار كالوكيل بالخصومة بطلب المدعي "ولو وكله بالبيع مطلقا حتى ملك البيع بالنقد والنسيئة ثم نهاه عن البيع نسيئة لم يعمل نهيه"؛ لأنه لازم بأصله، فكذا بوصفه لما ذكرنا، "وكذا إذا عزله المرتهن لا ينعزل؛ لأنه لم يوكله وإنما وكله غيره وإن مات الراهن لم ينعزل"؛ لأن الرهن لا يبطل بموته ولأنه لو بطل إنما يبطل لحق الورثة وحق المرتهن مقدم. قال: "وللوكيل أن يبيعه بغير محضر من الورثة كما يبيعه في حال حياته بغير محضر منه، وإن مات المرتهن فالوكيل على وكالته"؛ لأن العقد لا يبطل بموتهما ولا بموت أحدهما فيبقى بحقوقه وأوصافه "وإن مات الوكيل انتقضت الوكالة ولا يقوم وارثه ولا وصيه مقامه"؛ لأن الوكالة لا يجري فيها الإرث، ولأن الموكل رضي برأيه لا برأي غيره وعن أبي يوسف إن وصي الوكيل يملك بيعه؛ لأن الوكالة لازمة فيملكه الوصي، كالمضارب إذا مات بعدما صار رأس المال أعيانا يملك وصي المضارب بيعها لما أنه لازم بعد ما صار أعيانا. قلنا: التوكيل حق لازم لكن عليه، والإرث يجري فيما له بخلاف المضاربة؛ لأنها حق المضارب "وليس للمرتهن أن يبيعه إلا برضا الراهن"؛ لأنه ملكه وما رضي ببيعه "وليس للراهن أن يبيعه إلا برضا المرتهن"؛ لأن المرتهن أحق بماليته من الراهن فلا يقدر الراهن على تسليمه بالبيع. قال: "فإن حل الأجل وأبى الوكيل الذي في يده الرهن أن يبيعه والراهن غائب أجبر على بيعه" لما ذكرنا من الوجهين في لزومه "وكذلك الرجل يوكل غيره بالخصومة وغاب الموكل فأبى أن يخاصم أجبر على الخصومة" للوجه الثاني وهو أن فيه إتواء الحق، بخلاف الوكيل بالبيع؛ لأن الموكل يبيع بنفسه فلا يتوي حقه. أما المدعي لا يقدر على الدعوى والمرتهن لا يملك بيعه بنفسه، فلو لم يكن التوكيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 مشروطا في عقد الرهن وإنما شرط بعده قيل لا يجبر اعتبارا بالوجه الأول، وقيل يجبر رجوعا إلى الوجه الثاني، وهذا أصح وعن أبي يوسف رحمه الله أن الجواب في الفصلين واحد، ويؤيده إطلاق الجواب في الجامع الصغير وفي الأصل. "وإذا باع العدل الرهن فقد خرج من الرهن، والثمن قائم مقامه فكان رهنا، وإن لم يقبض بعد" لقيامه مقام ما كان مقبوضا، وإذا توى كان مال المرتهن لبقاء عقد الرهن في الثمن لقيامه مقام المبيع المرهون، وكذلك إذا قتل العبد الرهن وغرم القاتل قيمته؛ لأن المالك لا يستحقه من حيث المالية، وإن كان بدل الدم فأخذ حكم ضمان المال في حق المستحق فبقي عقد الرهن، وكذلك لو قتله عبد فدفع به؛ لأنه قائم مقام الأول لحما ودما. قال: "وإن باع العدل الرهن فأوفى المرتهن الثمن ثم استحق الرهن فضمنه العدل كان بالخيار، إن شاء ضمن الراهن قيمته، وإن شاء ضمن المرتهن الثمن الذي أعطاه، وليس له أن يضمنه غيره" وكشف هذا أن المرهون المبيع إذا استحق إما أن يكون هالكا أو قائما ففي الوجه الأول المستحق بالخيار إن شاء ضمن الراهن قيمته؛ لأنه غاصب في حقه، وإن شاء ضمن العدل؛ لأنه متعد في حقه بالبيع والتسليم فإن ضمن الراهن نفذ البيع وصح الاقتضاء؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه أمره ببيع ملك نفسه، وإن ضمن البائع ينفذ البيع أيضا؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه باع ملك نفسه وإذا ضمن العدل فالعدل بالخيار، إن شاء رجع على الراهن بالقيمة؛ لأنه وكيل من جهته عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة ونفذ البيع وصح الاقتضاء فلا يرجع المرتهن عليه بشيء من دينه، وإن شاء رجع على المرتهن بالثمن؛ لأنه تبين أنه أخذ الثمن بغير حق؛ لأنه ملك العبد بأداء الضمان ونفذ بيعه عليه فصار الثمن له، وإنما أداه إليه على حسبان أنه ملك الراهن، فإذا تبين أنه ملكه لم يكن راضيا به فله أن يرجع به عليه، وإذا رجع بطل الاقتضاء فيرجع المرتهن على الراهن بدينه وفي الوجه الثاني وهو أن يكون قائما في يد المشتري فللمستحق أن يأخذه من يده؛ لأنه وجد عين ماله ثم للمشتري أن يرجع على العدل بالثمن؛ لأنه العاقد فتتعلق به حقوق العقد، وهذا من حقوقه حيث وجب بالبيع، وإنما أداه ليسلم له المبيع ولم يسلم ثم العدل بالخيار إن شاء رجع على الراهن بالقيمة؛ لأنه هو الذي أدخله في هذه العهدة فيجب عليه تخليصه وإذا رجع عليه صح قبض المرتهن؛ لأن المقبوض سلم له، وإن شاء رجع على المرتهن؛ لأنه إذا انتقض العقد بطل الثمن وقد قبضه ثمنا فيجب نقض قبضه ضرورة، وإذا رجع عليه وانتقض قبضه عاد حقه في الدين كما كان فيرجع به على الراهن ولو أن المشتري سلم الثمن إلى المرتهن لم يرجع على العدل؛ لأنه في البيع عامل للراهن، وإنما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 يرجع عليه إذا قبض ولم يقبض فبقي الضمان على الموكل، ولو كان التوكيل بعد عقد الرهن غير مشروط في العقد فما لحق العدل من العهدة يرجع به على الراهن قبض الثمن المرتهن أم لا؛ لأنه لم يتعلق بهذا التوكيل حق المرتهن فلا رجوع، كما في الوكالة المفردة عن الرهن إذا باع الوكيل ودفع الثمن إلى من أمره الموكل ثم لحقه عهدة لا يرجع به على المقتضى، بخلاف الوكالة المشروطة في العقد؛ لأنه تعلق به حق المرتهن فيكون البيع لحقه. قال رضي الله عنه: هكذا ذكر الكرخي، وهذا يؤيد قول من لا يرى جبر هذا الوكيل على البيع قال: "وإن مات العبد المرهون في يد المرتهن ثم استحقه رجل فله الخيار، إن شاء ضمن الراهن، وإن شاء ضمن المرتهن"؛ لأن كل واحد منهما متعد في حقه بالتسليم أو بالقبض "فإن ضمن الراهن فقد مات بالدين"؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فصح الإيفاء "وإن ضمن المرتهن يرجع على الراهن بما ضمن من القيمة وبدينه" أما بالقيمة فلأنه مغرور من جهة الراهن، وأما بالدين فلأنه انتقض اقتضاؤه فيعود حقه كما كان فإن قيل: لما كان قرار الضمان على الراهن برجوع المرتهن عليه، والملك في المضمون يثبت لمن عليه قرار الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه فصار كما إذا ضمن المستحق الراهن ابتداء. قلنا: هذا طعن أبي خازم القاضي والجواب عنه أنه يرجع عليه بسبب الغرور والغرور بالتسليم كما ذكرناه، أو بالانتقال من المرتهن إليه كأنه وكيل عنه، والملك بكل ذلك متأخر عن عقد الرهن، بخلاف الوجه الأول؛ لأن المستحق يضمنه باعتبار القبض السابق على الرهن فيستند الملك إليه فتبين أنه رهن ملك نفسه وقد طولنا الكلام في كفاية المنتهى والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 باب التصرف في الرهن والجناية عليه وجنايته على غيره قال: "وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن فالبيع موقوف" لتعلق حق الغير به وهو المرتهن فيتوقف على إجازته، وإن كان الراهن يتصرف في ملكه كمن أوصى بجميع ماله تقف على إجازة الورثة فيما زاد على الثلث لتعلق حقهم به "فإن أجاز المرتهن جاز"؛ لأن التوقف لحقه وقد رضي بسقوطه "وإن قضاه الراهن دينه جاز أيضا"؛ لأنه زال المانع من النفوذ والمقتضي موجود وهو التصرف الصادر من الأهل في المحل "وإذا نفذ البيع بإجازة المرتهن ينتقل حقه إلى بدله هو الصحيح"؛ لأن حقه تعلق بالمالية، والبدل له حكم المبدل فصار كالعبد المديون المأذون إذا بيع برضا الغرماء ينتقل حقهم إلى البدل؛ لأنهم رضوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 بالانتقال دون السقوط رأسا فكذا هذا "وإن لم يجز المرتهن البيع وفسخه انفسخ في رواية، حتى لو افتك الراهن الرهن لا سبيل للمشتري عليه"؛ لأن الحق الثابت للمرتهن بمنزلة الملك فصار كالمالك له أن يجيز وله أن يفسخ "وفي أصح الروايتين لا ينفسخ بفسخه"؛ لأنه لو ثبت حق الفسخ له إنما يثبت ضرورة صيانة حقه، وحقه في الحبس لا يبطل بانعقاد هذا العقد فبقي موقوفا، فإن شاء المشتري صبر حتى يفتك الراهن الرهن؛ إذ العجز على شرف الزوال، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي، وللقاضي أن يفسخ لفوات القدرة على التسليم، وولاية الفسخ إلى القاضي لا إليه، وصار كما إذا أبق العبد المشترى قبل القبض فإنه يتخير المشتري لما ذكرنا كذلك هذا. "ولو باعه الراهن من رجل ثم باعه بيعا ثانيا من غيره قبل أن يجيزه المرتهن فالثاني موقوف أيضا على إجازته"؛ لأن الأول لم ينفذ والموقوف لا يمنع توقف الثاني، فلو أجاز المرتهن البيع الثاني جاز الثاني "ولو باع الراهن ثم أجر أو وهب أو رهن من غيره، وأجاز المرتهن هذه العقود جاز البيع الأول" والفرق أن المرتهن ذو حظ من البيع الثاني؛ لأنه يتعلق حقه ببدله فيصح تعيينه لتعلق فائدته به، أما لا حق له في هذه العقود؛ لأنه لا بدل في الهبة والرهن، والذي في الإجارة بدل المنفعة لا بدل العين، وحقه في مالية العين لا في المنفعة فكانت إجازته إسقاطا لحقه فزال المانع فنفذ البيع الأول فوضح الفرق. قال: "ولو أعتق الراهن عبد الرهن نفذ عتقه" وفي بعض أقوال الشافعي لا ينفذ إذا كان المعتق معسرا؛ لأن في تنفيذه إبطال حق المرتهن فأشبه البيع، بخلاف ما إذا كان موسرا حيث ينفذ على بعض أقواله؛ لأنه لا يبطل حقه معنى بالتضمين، وبخلاف إعتاق المستأجر؛ لأن الإجارة تبقى مدتها؛ إذ الحر يقبلها، أما ما لا يقبل الرهن فلا يبقى ولنا أنه مخاطب أعتق ملك نفسه فلا يلغو بصرفه بعدم إذن المرتهن كما إذا أعتق العبد المشترى قبل القبض أو أعتق الآبق أو المغصوب، ولا خفاء في قيام ملك الرقبة لقيام المقتضي، وعارض الرهن لا ينبئ عن زواله ثم إذا زال ملكه في الرقبة بإعتاقه يزول ملك المرتهن في اليد بناء عليه كإعتاق العبد المشترك، بل أولى؛ لأن ملك الرقبة أقوى من ملك اليد، فلما لم يمنع الأعلى لا يمنع الأدنى بالطريق الأولى، وامتناع النفاذ في البيع والهبة لانعدام القدرة على التسليم، وإعتاق الوارث العبد الموصى برقبته لا يلغو بل يؤخر إلى أداء السعاية عند أبي حنيفة، وإذا نفذ الإعتاق بطل الرهن لفوات محله "ثم" بعد ذلك "إن كان الراهن موسرا، والدين حالا طولب بأداء الدين"؛ لأنه لو طولب بأداء القيمة تقع المقاصة بقدر الدين فلا فائدة فيه "وإن كان الدين مؤجلا أخذت منه قيمة العبد وجعلت رهنا مكانه حتى يحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 الدين" لأن سبب الضمان متحقق، وفي التضمين فائدة فإذا حل الدين اقتضاه بحقه إذا كان من جنس حقه ورد الفضل "وإن كان معسرا سعى العبد في قيمته وقضى به الدين إلا إذا كان بخلاف جنس حقه"؛ لأنه لما تعذر الوصول إلى عين حقه من جهة المعتق يرجع إلى من ينتفع بعتقه وهو العبد؛ لأن الخراج بالضمان. قال رضي الله عنه: وتأويله إذا كانت القيمة أقل من الدين، أما إذا كان الدين أقل نذكره إن شاء الله تعالى "ثم يرجع بما سعى على مولاه إذا أيسر"؛ لأنه قضى دينه وهو مضطر فيه بحكم الشرع فيرجع عليه بما تحمل عنه، بخلاف المستسعى في الإعتاق؛ لأنه يؤدي ضمانا عليه؛ لأنه إنما يسعى لتحصيل العتق عنده وعندهما لتكميله، وهنا يسعى في ضمان على غيره بعد تمام إعتاقه فصار كمعير الرهن ثم أبو حنيفة أوجب السعاية في المستسعى المشترك في حالتي اليسار والإعسار، وفي العبد المرهون شرط الإعسار؛ لأن الثابت للمرتهن حق الملك وأنه أدنى من حقيقته الثابتة للشريك الساكت فوجب السعاية هنا في حالة واحدة إظهار النقصان رتبته بخلاف المشترى قبل القبض إذا أعتقه المشتري حيث لا يسعى للبائع إلا رواية عن أبي يوسف والمرهون يسعى؛ لأن حق البائع في الحبس أضعف؛ لأن البائع لا يملكه في الآخرة ولا يستوفى من عينه، وكذلك يبطل حقه في الحبس بالإعارة من المشتري، والمرتهن ينقلب حقه ملكا، ولا يبطل حقه بالإعارة من الراهن حتى يمكنه الاسترداد، فلو أوجبنا السعاية فيهما لسوينا بين الحقين وذلك لا يجوز. "ولو أقر المولى برهن عبده بأن قال له رهنتك عند فلان وكذبه العبد ثم أعتقه تجب السعاية" عندنا خلافا لزفر، وهو يعتبر، بإقراره بعد العتق ونحن نقول أقر بتعلق الحق في حال يملك التعليق فيه لقيام ملكه فيصح، بخلاف ما بعد العتق؛ لأنه حال انقطاع الولاية. قال: "ولو دبره الراهن صح تدبيره بالاتفاق" أما عندنا فظاهر، وكذا عنده؛ لأن التدبير لا يمنع البيع على أصله "ولو كانت أمة فاستولدها الراهن صح الاستيلاد بالاتفاق"؛ لأنه يصح بأدنى الحقين وهو ما للأب في جارية الابن فيصح بالأعلى "وإذا صحا خرجا من الرهن" لبطلان المحلية؛ إذ لا يصح استيفاء الدين منهما "فإن كان الراهن موسرا ضمن قيمتهما" على التفصيل الذي ذكرناه في الإعتاق "وإن كان معسرا استسعى المرتهن المدبر وأم الولد في جميع الدين"؛ لأن كسبهما مال المولى، بخلاف المعتق حيث يسعى في الأقل من الدين ومن القيمة؛ لأن كسبه حقه، والمحتبس عنده ليس إلا قدر القيمة فلا يزاد عليه، وحق المرتهن بقدر الدين فلا تلزمه الزيادة ولا يرجعان بما يؤديان على المولى بعد يساره؛ لأنهما أدياه من مال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 المولى، والمعتق يرجع؛ لأنه أدى ملكه عنه وهو مضطر على ما مر وقيل الدين إذا كان مؤجلا يسعى المدبر في قيمته قنا؛ لأنه عوض الرهن حتى تحبس مكانه فيتقدر بقدر العوض، بخلاف ما إذا كان حالا؛ لأنه يقضي به الدين، ولو أعتق الراهن المدبر وقد قضى عليه بالسعاية أو لم يقض لم يسع إلا بقدر القيمة؛ لأن كسبه بعد العتق ملكه، وما أداه قبل العتق لا يرجع به على مولاه لأنه أداه من مال المولى. قال: "وكذلك لو استهلك الراهن الرهن"؛ لأنه حق محترم مضمون عليه بالإتلاف، والضمان رهن في يد المرتهن لقيامه مقام العين "فإن استهلكه أجنبي فالمرتهن هو الخصم في تضمينه فيأخذ القيمة وتكون رهنا في يده"؛ لأنه أحق بعين الرهن حال قيامه فكذا في استرداد ما قام مقامه، والواجب على هذا المستهلك قيمته يوم هلك، فإن كانت قيمته يوم استهلكه خمسمائة ويوم رهن ألفا غرم خمسمائة وكانت رهنا وسقط من الدين خمسمائة فصار الحكم في الخمسمائة الزيادة كأنها هلكت بآفة سماوية، والمعتبر في ضمان الرهن القيمة يوم القبض لا يوم الفكاك؛ لأن القبض السابق مضمون عليه؛ لأنه قبض استيفاء، إلا أنه يتقرر عند الهلاك. "ولو استهلكه المرتهن والدين مؤجل غرم القيمة"؛ لأنه أتلف ملك الغير "وكانت رهنا في يده حتى يحل الدين"؛ لأن الضمان بدل العين فأخذ حكمه "وإذا حل الدين وهو على صفة القيمة استوفى المرتهن منها قدر حقه"؛ لأنه جنس حقه "ثم إن كان فيه فضل يرده على الراهن"؛ لأنه بدل ملكه وقد فرغ عن حق المرتهن "وإن نقصت عن الدين بتراجع السعر إلى خمسمائة وقد كانت قيمته يوم الرهن ألفا وجب بالاستهلاك خمسمائة وسقط من الدين خمسمائة"؛ لأن ما انتقص كالهالك وسقط الدين بقدره، وتعتبر قيمته يوم القبض فهو مضمون بالقبض السابق لا بتراجع السعر، ووجب عليه الباقي بالإتلاف وهو قيمته يوم أتلف. قال: "وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن ليخدمه أو ليعمل له عملا فقبضه خرج من ضمان المرتهن" لمنافاة بين يد العارية ويد الرهن "فإن هلك في يد الراهن هلك بغير شيء" لفوات القبض المضمون "وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده"؛ لأن عقد الرهن باق إلا في حكم الضمان في الحال. ألا ترى أنه لو هلك الراهن قبل أن يرده على المرتهن كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء، وهذا؛ لأن يد العارية ليست بلازمة والضمان ليس من لوازم الرهن على كل حال؛ ألا ترى أن حكم الرهن ثابت في ولد الرهن وإن لم يكن مضمونا بالهلاك، وإذا بقي عقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 الرهن فإذا أخذه عاد الضمان؛ لأنه عاد القبض في عقد الرهن فيعود بصفته "وكذلك لو أعاره أحدهما أجنبيا بإذن الآخر سقط حكم الضمان" لما قلنا "ولكل واحد منهما أن يرده رهنا كما كان"؛ لأن لكل واحد منهما حقا محترما فيه وهذا بخلاف الإجارة والبيع والهبة من أجنبي إذا باشرها أحدهما بإذن الآخر حيث يخرج عن الرهن فلا يعود إلا بعقد مبتدأ. "ولو مات الراهن قبل الرد إلى المرتهن يكون المرتهن أسوة للغرماء"؛ لأنه تعلق بالرهن حق لازم بهذه التصرفات فيبطل به حكم الرهن، أما بالعارية لم يتعلق به حق لازم فافترقا. "وإذا استعار المرتهن الرهن من الراهن ليعمل به فهلك قبل أن يأخذ في العمل هلك على ضمان الرهن" لبقاء يد الرهن "وكذا إذا هلك بعد الفراغ من العمل" لارتفاع يد العارية "ولو هلك في حالة العمل هلك بغير ضمان" لثبوت يد العارية بالاستعمال، وهي مخالفة ليد الراهن فانتفى الضمان "وكذا إذا أذن الراهن للمرتهن بالاستعمال" لما بيناه. "ومن استعار من غيره ثوبا ليرهنه فما رهنه به من قليل أو كثير فهو جائز"؛ لأنه متبرع بإثبات ملك اليد فيعتبر بالتبرع بإثبات ملك العين واليد وهو قضاء الدين، ويجوز أن ينفصل ملك اليد عن ملك العين ثبوتا للمرتهن كما ينفصل زوالا في حق البائع، والإطلاق واجب الاعتبار خصوصا في الإعارة؛ لأن الجهالة فيها لا تفضي إلى المنازعة. "ولو عين قدرا لا يجوز للمستعير أن يرهنه بأكثر منه، ولا بأقل منه"؛ لأن التقييد مفيد، وهو ينفي الزيادة؛ لأن غرضه الاحتباس بما تيسر أداؤه، وينفي النقصان أيضا؛ لأن غرضه أن يصير مستوفيا للأكثر بمقابلته عند الهلاك ليرجع به عليه "وكذلك التقييد بالجنس وبالمرتهن وبالبلد"؛ لأن كل ذلك مفيد لتيسر البعض بالإضافة إلى البعض وتفاوت الأشخاص في الأمانة والحفظ "فإذا خالف كان ضامنا، ثم إن شاء المعير ضمن المستعير ويتم عقد الرهن فيما بينه وبين المرتهن"؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه "وإن شاء ضمن المرتهن، ويرجع المرتهن بما ضمن وبالدين على الراهن" وقد بيناه في الاستحقاق "وإن وافق" بأن رهنه بمقدار ما أمره به "إن كانت قيمته مثل الدين أو أكثر فهلك عند المرتهن يبطل المال عن الراهن" لتمام الاستيفاء بالهلاك "ووجب مثله لرب الثوب على الراهن"؛ لأنه صار قاضيا دينه بماله بهذا القدر وهو الموجب للرجوع دون القبض بذاته؛ لأنه برضاه، وكذلك إن أصابه عيب ذهب من الدين بحسابه ووجب مثله لرب الثوب على الراهن على ما بيناه. "وإن كانت قيمته أقل من الدين ذهب بقدر القيمة وعلى الراهن بقية دينه للمرتهن"؛ لأنه لم يقع الاستيفاء بالزيادة على قيمته وعلى الراهن لصاحب الثوب ما صار به موفيا لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 بيناه "ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن يفتكه جبرا عن الراهن لم يكن للمرتهن إذا قضى دينه أن يمتنع"؛ لأنه غير متبرع حيث يخلص ملكه ولهذا يرجع على الراهن بما أدى المعير فأجبر المرتهن على الدفع "بخلاف الأجنبي إذا قضى الدين"؛ لأنه متبرع؛ إذ هو لا يسعى في تخليص ملكه ولا في تفريغ ذمته فكان للطالب أن لا يقبله. "ولو هلك الثوب العارية عند الراهن قبل أن يرهنه أو بعد ما افتكه فلا ضمان عليه"؛ لأنه لا يصير قاضيا بهذا، وهو الموجب على ما بينا "ولو اختلفا في ذلك فالقول للراهن" لأنه ينكر الإيفاء بدعواه الهلاك في هاتين الحالتين. "كما لو اختلفا في مقدار ما أمره بالرهن به فالقول للمعير"؛ لأن القول قوله في إنكار أصله فكذا في إنكار وصفه "ولو رهنه المستعير بدين موعود وهو أن يرهنه به ليقرضه كذا فهلك في يد المرتهن قبل الإقراض والمسمى والقيمة سواء يضمن قدر الموعود المسمى" لما بينا أنه كالموجود ويرجع المعير على الراهن بمثله؛ لأن سلامة مالية الرهن باستيفائه من المرتهن كسلامته ببراءة ذمته عنه. "ولو كانت العارية عبدا فأعتقه المعير جاز" لقيام ملك الرقبة "ثم المرتهن بالخيار إن شاء رجع بالدين على الراهن"؛ لأنه لم يستوفه "وإن شاء ضمن المعير قيمته"؛ لأن الحق قد تعلق برقبته برضاه وقد أتلفه بالإعتاق "وتكون رهنا عنده إلى أن يقبض دينه فيردها إلى المعير"؛ لأن استرداد القيمة كاسترداد العين "ولو استعار عبدا أو دابة ليرهنه فاستخدم العبد أو ركب الدابة قبل أن يرهنهما ثم رهنهما بمال مثل قيمتهما ثم قضى المال فلم يقبضهما حتى هلكا عند المرتهن فلا ضمان على الراهن"؛ لأنه قد برئ من الضمان حين رهنهما، فإنه كان أمينا خالف ثم عاد إلى الوفاق "وكذا إذا افتك الرهن ثم ركب الدابة أو استخدم العبد فلم يعطب ثم عطب بعد ذلك من غير صنعه لا يضمن"؛ لأنه بعد الفكاك بمنزلة المودع لا بمنزلة المستعير لانتهاء حكم الاستعارة بالفكاك وقد عاد إلى الوفاق فيبرأ عن الضمان، وهذا بخلاف المستعير؛ لأن يده يد نفسه فلا بد من الوصول إلى يد المالك، أما المستعير في الرهن فيحصل مقصود الآمر وهو الرجوع عليه عند الهلاك وتحقق الاستيفاء. قال: "وجناية الراهن على الرهن مضمونة"؛ لأنه تفويت حق لازم محترم، وتعلق مثله بالمال يجعل المالك كالأجنبي في حق الضمان كتعلق حق الورثة بمال المريض مرض الموت يمنع نفاذ تبرعه فيما وراء الثلث، والعبد الموصى بخدمته إذا أتلفه الورثة ضمنوا قيمته ليشترى بها عبد يقوم مقامه. قال: "وجناية المرتهن عليه تسقط من دينه بقدرها" ومعناه أن يكون الضمان على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 صفة الدين، وهذا؛ لأن العين ملك المالك، وقد تعدى عليه المرتهن فيضمنه لمالكه. قال: "وجناية الرهن على الراهن والمرتهن وعلى مالهما هدر" وهذا عند أبي حنيفة وقالا: جنايته على المرتهن معتبرة، والمراد بالجناية على النفس ما يوجب المال، أما الوفاقية فلأنها جناية المملوك على المالك؛ ألا ترى أنه لو مات كان الكفن عليه، بخلاف جناية المغصوب على المغصوب منه؛ لأن الملك عند أداء الضمان يثبت للغاصب مستندا حتى يكون الكفن عليه، فكانت جناية على غير المالك فاعتبرت ولهما في الخلافية أن الجناية حصلت على غير مالكه وفي الاعتبار فائدة وهو دفع العبد إليه بالجناية فتعتبر ثم إن شاء الراهن والمرتهن أبطلا الرهن ودفعاه بالجناية إلى المرتهن، وإن قال المرتهن لا أطلب الجناية فهو رهن على حاله وله أن هذه الجناية لو اعتبرنا للمرتهن كان عليه التطهير من الجناية؛ لأنها حصلت في ضمانه فلا يفيد وجوب الضمان له مع وجوب التخليص عليه، وجنايته على مال المرتهن لا تعتبر بالاتفاق إذا كانت قيمته والدين سواء؛ لأنه لا فائدة في اعتبارها؛ لأنه لا يتملك العبد وهو الفائدة، وإن كانت القيمة أكثر من الدين؛ فعن أبي حنيفة أنه يعتبر بقدر الأمانة؛ لأن الفضل ليس في ضمانه فأشبه جناية العبد الوديعة على المستودع وعنه أنها لا تعتبر؛ لأن حكم الرهن وهو الحبس فيه ثابت فصار كالمضمون، وهذا بخلاف جناية الرهن على ابن الراهن أو ابن المرتهن؛ لأن الأملاك حقيقة متباينة فصار كالجناية على الأجنبي. قال: "ومن رهن عبدا يساوي ألفا بألف إلى أجل فنقص في السعر فرجعت قيمته إلى مائة ثم قتله رجل وغرم قيمته مائة ثم حل الأجل فإن المرتهن يقبض المائة قضاء عن حقه ولا يرجع على الراهن بشيء" وأصله أن النقصان من حيث السعر لا يوجب سقوط الدين عندنا خلافا لزفر، وهو يقول: إن المالية قد انتقصت فأشبه انتقاص العين ولنا أن نقصان السعر عبارة عن فتور رغبات الناس وذلك لا يعتبر في البيع حتى لا يثبت به الخيار ولا في الغصب حتى لا يجب الضمان، بخلاف نقصان العين؛ لأن بفوات جزء منه يتقرر الاستيفاء فيه؛ إذ اليد يد الاستيفاء، وإذا لم يسقط شيء من الدين بنقصان السعر بقي مرهونا بكل الدين، فإذا قتله حر غرم قيمته مائة؛ لأنه تعتبر قيمته يوم الإتلاف في ضمان الإتلاف؛ لأن الجابر بقدر الفائت، وأخذه المرتهن؛ لأنه بدل المالية في حق المستحق وإن كان مقابلا بالدم على أصلنا حتى لا يزاد على دية الحر؛ لأن المولى استحقه بسبب المالية وحق المرتهن متعلق بالمالية فكذا فيما قام مقامه، ثم لا يرجع على الراهن بشيء؛ لأن يد الرهن يد الاستيفاء من الابتداء وبالهلاك يتقرر، وقيمته كانت في الابتداء ألفا فيصير مستوفيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 الكل من الابتداء. أو نقول: لا يمكن أن يجعل مستوفيا الألف بمائة؛ لأنه يؤدي إلى الربا فيصير مستوفيا المائة وبقي تسعمائة في العين، فإذا هلك يصير مستوفيا تسعمائة بالهلاك، بخلاف ما إذا مات من غير قتل أحد؛ لأنه يصير مستوفيا الكل بالعبد؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا. قال: "وإن كان أمره الراهن أن يبيعه فباعه بمائة وقبض المائة قضاء من حقه فيرجع بتسعمائة"؛ لأنه لما باعه بإذن الراهن صار كأن الراهن استرده وباعه بنفسه، ولو كان كذلك يبطل الرهن ويبقى الدين إلا بقدر ما استوفى، وكذا هذا. قال: "وإن قتله عبد قيمته مائة فدفع مكانه افتكه بجميع الدين" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: هو بالخيار إن شاء افتكه بجميع الدين، وإن شاء سلم العبد المدفوع إلى المرتهن بماله وقال زفر: يصير رهنا بمائة له أن يد الرهن يد استيفاء وقد تقرر بالهلاك، إلا أنه أخلف بدلا بقدر العشر فيبقى الدين بقدره ولأصحابنا على زفر أن العبد الثاني قائم مقام الأول لحما ودما، ولو كان الأول قائما وانتقض السعر لا يسقط شيء من الدين عندنا لما ذكرنا، فكذلك إذا قام المدفوع مكانه ولمحمد في الخيار أن المرهون تغير في ضمان المرتهن فيخير الراهن كالمبيع إذا قتل قبل القبض والمغصوب إذا قتل في يد الغاصب يخير المشتري، والمغصوب منه كذا هذا ولهما أن التغير لم يظهر في نفس العبد لقيام الثاني مقام الأول لحما ودما كما ذكرناه مع زفر، وعين الرهن أمانة عندنا فلا يجوز تمليكه منه بغير رضاه، ولأن جعل الرهن بالدين حكم جاهلي، وأنه منسوخ، بخلاف البيع؛ لأن الخيار فيه حكمه الفسخ وهو مشروع وبخلاف الغصب؛ لأن تملكه بأداء الضمان مشروع، ولو كان العبد تراجع سعره حتى صار يساوي مائة ثم قتله عبد يساوي مائة فدفع به فهو على هذا الخلاف "وإذا قتل العبد الرهن قتيلا خطأ فضمان الجناية على المرتهن وليس له أن يدفع"؛ لأنه لا يملك التمليك. قال: "ولو فدي طهر المحل فبقي الدين على حاله ولا يرجع على الراهن بشيء من الفداء"؛ لأن الجناية حصلت في ضمانه فكان عليه إصلاحها. قال: "ولو أبى المرتهن أن يفدي قيل للراهن ادفع العبد أو افده بالدية"؛ لأن الملك في الرقبة قائم له، وإنما إلى المرتهن الفداء لقيام حقه. قال: "فإذا امتنع عن الفداء يطالب الراهن بحكم الجناية ومن حكمها التخيير" بين الدفع والفداء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 قال: "فإن اختار الدفع سقط الدين"؛ لأنه استحق لمعنى في ضمان المرتهن فصار كالهلاك. قال: "وكذلك إن فدى"؛ لأن العبد كالحاصل له بعوض كان على المرتهن، وهو الفداء، بخلاف ولد الرهن إذا قتل إنسانا أو استهلك مالا حيث يخاطب الراهن بالدفع أو الفداء في الابتداء؛ لأنه غير مضمون على المرتهن، فإن دفع خرج من الرهن ولم يسقط شيء من الدين كما لو هلك في الابتداء، وإن فدى فهو رهن مع أمه على حالهما. قال: "ولو استهلك العبد المرهون مالا يستغرق رقبته، فإن أدى المرتهن الدين الذي لزم العبد فدينه على حاله كما في الفداء، وإن أبى قيل للراهن بعه في الدين إلا أن يختار أن يؤدي عنه، فإن أدى بطل دين المرتهن" كما ذكرنا في الفداء. قال: "وإن لم يؤد وبيع العبد فيه يأخذ صاحب دين العبد دينه"؛ لأن دين العبد مقدم على دين المرتهن وحق ولي الجناية لتقدمه على حق المولى. قال: "فإن فضل شيء ودين غريم العبد مثل دين المرتهن أو أكثر فالفضل للراهن وبطل دين المرتهن"؛ لأن الرقبة استحقت لمعنى هو في ضمان المرتهن فأشبه الهلاك. قال: "وإن كان دين العبد أقل سقط من دين المرتهن بقدر دين العبد وما فضل من دين العبد يبقى رهنا كما كان، ثم إن كان دين المرتهن قد حل أخذه به"؛ لأنه من جنس حقه. قال: "وإن كان لم يحل أمسكه حتى يحل، وإن كان ثمن العبد لا يفي بدين الغريم أخذ الثمن ولم يرجع بما بقي على أحد حتى يعتق العبد"؛ لأن الحق في دين الاستهلاك يتعلق برقبته وقد استوفيت فيتأخر إلى ما بعد العتق. قال: "وإن كانت قيمة العبد ألفين وهو رهن بألف وقد جنى العبد يقال لهما افدياه"؛ لأن النصف منه مضمون، والنصف أمانة، والفداء في المضمون على المرتهن، وفي الأمانة على الراهن، فإن أجمعا على الدفع دفعاه وبطل دين المرتهن، والدفع لا يجوز في الحقيقة من المرتهن لما بينا، وإنما منه الرضا به. قال: "فإن تشاحا فالقول لمن قال أنا أفدي راهنا كان أو مرتهنا" أما المرتهن فلأنه ليس في الفداء إبطال حق الراهن، وفي الدفع الذي يختاره الراهن إبطال المرتهن، وكذا في جناية الرهن إذا قال المرتهن أنا أفدي له ذلك وإن كان المالك يختار الدفع؛ لأنه إن لم يكن مضمونا فهو محبوس بدينه وله في الفداء غرض صحيح، ولا ضرر على الراهن، فكان له أن يفدي، وأما الراهن فلأنه ليس للمرتهن ولاية الدفع لما بينا فكيف يختاره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 قال: "ويكون المرتهن في الفداء متطوعا في حصة الأمانة حتى لا يرجع على الراهن"؛ لأنه يمكنه أن لا يختاره فيخاطب الراهن، فلما التزمه، والحالة هذه كان متبرعا، وهذا على ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يرجع مع الحضور، وسنبين القولين إن شاء الله تعالى. قال: "ولو أبى المرتهن أن يفدي وفداه الراهن فإنه يحتسب على المرتهن نصف الفداء من دينه"؛ لأن سقوط الدين أمر لازم فدى أو دفع فلم يجعل الراهن في الفداء متطوعا، ثم ينظر إن كان نصف الفداء مثل الدين أو أكثر بطل الدين، وإن كان أقل سقط من الدين بقدر نصف الفداء، وكان العبد رهنا بما بقي؛ لأن الفداء في نصف كان عليه، فإذا أداه الراهن، وهو ليس بمتطوع كان له الرجوع عليه فيصير قصاصا بدينه كأنه أوفى نصفه فيبقى العبد رهنا بما بقي. قال: "ولو كان المرتهن فدى، والراهن حاضر فهو متطوع، وإن كان غائبا لم يكن متطوعا" وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد والحسن وزفر رحمهم الله: المرتهن متطوع في الوجهين؛ لأنه فدى ملك غيره بغير أمره فأشبه الأجنبي وله أنه إذا كان الراهن حاضرا أمكنه مخاطبته، فإذا فداه المرتهن فقد تبرع كالأجنبي، فأما إذا كان الراهن غائبا تعذر مخاطبته، والمرتهن يحتاج إلى إصلاح المضمون، ولا يمكنه ذلك إلا بإصلاح الأمانة فلا يكون متبرعا. قال: "وإذا مات الراهن باع وصيه الرهن وقضى الدين"؛ لأن الوصي قائم مقامه، ولو تولى الموصى حيا بنفسه كان له ولاية البيع بإذن المرتهن فكذا لوصيه. قال: "وإن لم يكن له وصي نصب القاضي له وصيا وأمره ببيعه"؛ لأن القاضي نصب ناظرا لحقوق المسلمين إذا عجزوا عن النظر لأنفسهم، والنظر في نصب الوصي ليؤدي ما عليه لغيره ويستوفي ماله من غيره. قال: "وإن كان على الميت دين فرهن الوصي بعض التركة عند غريم من غرمائه لم يجز وللآخرين أن يردوه"؛ لأنه آثر بعض الغرماء بالإيفاء الحكمي فأشبه الإيثار بالإيفاء الحقيقي. قال: "فإن قضى دينهم قبل أن يردوه جاز" لزوال المانع بوصول حقهم إليهم. قال: "ولو لم يكن للميت غريم آخر جاز الرهن" اعتبارا بالإيفاء الحقيقي. قال: "وبيع في دينه"؛ لأنه يباع فيه قبل الرهن فكذا بعده. قال: "وإذا ارتهن الوصي بدين للميت على رجل جاز"؛ لأنه استيفاء وهو يملكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 قال رضي الله عنه: وفي رهن الوصي تفصيلات نذكرها في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 فصل: ومن رهن عصيرا بعشرة قيمته عشرة فتخمر ثم صار خلا يساوي عشرة فهو رهن بعشرة ... فصل: قال: "ومن رهن عصيرا بعشرة قيمته عشرة فتخمر ثم صار خلا يساوي عشرة فهو رهن بعشرة"؛ لأن ما يكون محلا للبيع يكون محلا للرهن، إذ المحلية بالمالية فيهما، والخمر وإن لم يكن محلا للبيع ابتداء فهو محل له بقاء حتى إن من اشترى عصيرا فتخمر قبل القبض يبقى العقد إلا أنه يتخير في البيع لتغير وصف المبيع بمنزلة ما إذا تعيب. قال: "ولو رهن شاة قيمتها عشرة بعشرة فماتت فدبغ جلدها فصار يساوي درهما فهو رهن بدرهم"؛ لأن الرهن يتقرر بالهلاك، فإذا حيي بعض المحل يعود حكمه بقدره، بخلاف ما إذا ماتت الشاة المبيعة قبل القبض فدبغ جلدها حيث لا يعود البيع؛ لأن البيع ينتقض بالهلاك قبل القبض والمنتقض لا يعود، أما الرهن يتقرر بالهلاك على ما بيناه ومن مشايخنا من يمنع مسألة البيع ويقول: يعود البيع. قال: "ونماء الرهن للراهن وهو مثل الولد والثمر واللبن والصوف"؛ لأنه متولد من ملكه ويكون رهنا مع الأصل؛ لأنه تبع له، والرهن حق لازم فيسري إليه. قال: "فإن هلك يهلك بغير شيء"؛ لأن الأتباع لا قسط لها مما يقابل بالأصل؛ لأنها لم تدخل تحت العقد مقصودا؛ إذ اللفظ لا يتناولها. قال: "وإن هلك الأصل وبقي النماء افتكه الراهن بحصته يقسم الدين على قيمة الرهن يوم القبض وقيمة النماء يوم الفكاك"؛ لأن الرهن يصير مضمونا بالقبض، والزيادة تصير مقصودة بالفكاك إذا بقي إلى وقته، والتبع يقابله شيء إذا صار مقصودا كولد المبيع، فما أصاب الأصل يسقط من الدين؛ لأنه يقابله الأصل مقصودا، وما أصاب النماء افتكه الراهن لما ذكرنا وصور المسائل على هذا الأصل تخرج، وقد ذكرنا بعضها في كفاية المنتهى، وتمامه في الجامع والزيادات. قال: "ولو رهن شاة بعشرة وقيمتها عشرة وقال الراهن للمرتهن: احلب الشاة فما حلبت فهو لك حلال فحلب وشرب فلا ضمان عليه في شيء من ذلك" أما الإباحة فيصح تعليقها بالشرط والخطر؛ لأنها إطلاق وليس بتمليك فتصح مع الخطر. قال: "ولا يسقط شيء من الدين"؛ لأنه أتلفه بإذن المالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 قال: "فإن لم يفتك الشاة حتى ماتت في يد المرتهن قسم الدين على قيمة اللبن الذي شرب وعلى قيمة الشاة، فما أصاب الشاة سقط، وما أصاب اللبن أخذه المرتهن من الراهن"؛ لأن اللبن تلف على ملك الراهن بفعل المرتهن والفعل حصل بتسليط من قبله فصار كأن الراهن أخذه وأتلفه فكان مضمونا عليه فيكون له حصته من الدين فبقي بحصته، وكذلك ولد الشاة إذا أذن له الراهن في أكله، وكذلك جميع النماء الذي يحدث على هذا القياس. قال: "وتجوز الزيادة في الرهن ولا تجوز في الدين" عند أبي حنيفة ومحمد ولا يصير الرهن رهنا بها وقال أبو يوسف: تجوز الزيادة في الدين أيضا وقال زفر والشافعي: لا تجوز فيهما، والخلاف معهما في الرهن، والثمن والمثمن والمهر والمنكوحة سواء، وقد ذكرناه في البيوع ولأبي يوسف في الخلافية الأخرى أن الدين في باب الرهن كالثمن في البيع، والرهن كالمثمن فتجوز الزيادة فيهما كما في البيع، والجامع بينهما الالتحاق بأصل العقد للحاجة والإمكان ولهما وهو القياس أن الزيادة في الدين توجب الشيوع في الرهن، وهو غير مشروع عندنا، والزيادة في الرهن توجب الشيوع في الدين، وهو غير مانع من صحة الرهن؛ ألا ترى أنه لو رهن عبدا بخمسمائة من الدين جاز، وإن كان الدين ألفا وهذا شيوع في الدين، والالتحاق بأصل العقد غير ممكن في طرف الدين؛ لأنه غير معقود عليه ولا معقود به بل وجوبه سابق على الرهن، وكذا يبقى بعد انفساخه، والالتحاق بأصل العقد في بدلي العقد، بخلاف البيع؛ لأن الثمن بدل يجب بالعقد، ثم إذا صحت الزيادة في الرهن وتسمى هذه زيادة قصدية يقسم الدين على قيمة الأول يوم القبض، وعلى قيمة الزيادة يوم قبضت، حتى لو كانت قيمة الزيادة يوم قبضها خمسمائة، وقيمة الأول يوم القبض ألفا والدين ألفا يقسم الدين أثلاثا، في الزيادة ثلث الدين، وفي الأصل ثلثا الدين اعتبارا بقيمتهما في وقتي الاعتبار، وهذا؛ لأن الضمان في كل واحد منهما يثبت بالقبض فتعتبر قيمة كل واحد منهما وقت القبض "وإذا ولدت المرهونة ولدا ثم إن الراهن زاد مع الولد عبدا، وقيمة كل واحد ألف فالعبد رهن مع الولد خاصة يقسم ما في الولد عليه وعلى العبد الزيادة"؛ لأنه جعله زيادة مع الولد دون الأم "ولو كانت الزيادة مع الأم يقسم الدين على قيمة الأم يوم العقد وعلى قيمة الزيادة يوم القبض، فما أصاب الأم قسم عليها وعلى ولدها"؛ لأن الزيادة دخلت على الأم. قال: "فإن رهن عبدا يساوي ألفا بألف ثم أعطاه عبدا آخر قيمته ألف رهنا مكان الأول، فالأول رهن حتى يرده إلى الراهن، والمرتهن في الآخر أمين حتى يجعله مكان الأول"؛ لأن الأول إنما دخل في ضمانه بالقبض والدين وهما باقيان فلا يخرج عن الضمان إلا بنقض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 القبض ما دام الدين باقيا، وإذا بقي الأول في ضمانه لا يدخل الثاني في ضمانه؛ لأنهما رضيا بدخول أحدهما فيه لا بدخولهما فإذا رد الأول دخل الثاني في ضمانه ثم قيل: يشترط تجديد القبض؛ لأن يد المرتهن على الثاني يد أمانة ويد الرهن بعد استيفاء وضمان فلا ينوب عنه، كمن له على آخر جياد فاستوفى زيوفا ظنها جيادا ثم علم بالزيافة وطالبه بالجياد وأخذها فإن الجياد أمانة في يده ما لم يرد الزيوف ويجدد القبض وقيل لا يشترط؛ لأن الرهن تبرع كالهبة على ما بيناه من قبل وقبض الأمانة ينوب عن قبض الهبة، ولأن الرهن عينه أمانة، والقبض يرد على العين فينوب قبض الأمانة عن قبض العين. "ولو أبرأ المرتهن الراهن عن الدين أو وهبه منه ثم هلك الرهن في يد المرتهن يهلك بغير شيء استحسانا" خلافا لزفر،؛ لأن الرهن مضمون بالدين أو بجهته عند توهم الوجود كما في الدين الموعود ولم يبق الدين بالإبراء أو الهبة ولا جهته لسقوطه، إلا إذا أحدث منعا؛ لأنه يصير به غاصبا إذا لم تبق له ولاية المنع "وكذا إذا ارتهنت المرأة رهنا بالصداق فأبرأته أو وهبته أو ارتدت والعياذ بالله قبل الدخول أو اختلعت منه على صداقها ثم هلك الرهن في يدها يهلك بغير شيء في هذا كله ولم تضمن شيئا" لسقوط الدين كما في الإبراء، "ولو استوفى المرتهن الدين بإيفاء الراهن أو بإيفاء متطوع ثم هلك الرهن في يده يهلك بالدين ويجب عليه رد ما استوفى إلى ما استوفى منه وهو من عليه أو المتطوع بخلاف الإبراء" ووجه الفرق أن بالإبراء يسقط الدين أصلا كما ذكرنا، وبالاستيفاء لا يسقط لقيام الموجب، إلا أنه يتعذر الاستيفاء لعدم الفائدة؛ لأنه يعقب مطالبة مثله، فأما هو في نفسه فقائم، فإذا هلك يتقرر الاستيفاء الأول فانتقض الاستيفاء الثاني. "وكذا إذا اشترى بالدين عينا أو صالح عنه على عين"؛ لأنه استيفاء "وكذلك إذا أحال الراهن المرتهن بالدين على غيره ثم هلك الرهن بطلت الحوالة ويهلك بالدين"؛ لأنه في معنى البراءة بطريق الأداء؛ لأنه يزول به عن ملك المحيل مثل ما كان له على المحتال عليه، أو ما يرجع عليه به إن لم يكن للمحيل على المحتال عليه دين؛ لأنه بمنزلة الوكيل "وكذا لو تصادقا على أن لا دين ثم هلك الرهن يهلك بالدين" لتوهم وجوب الدين بالتصادق على قيامه فتكون الجهة باقية بخلاف الإبراء، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 كتاب الجنايات أوجه القتل ... كتاب الجنايات قال: "القتل على خمسة أوجه: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب" والمراد بيان قتل تتعلق به الأحكام. قال: "فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب وليطة القصب والمروة المحددة والنار"؛ لأن العمد هو القصد، ولا يوقف عليه إلا بدليله وهو استعمال الآلة القاتلة فكان متعمدا فيه عند ذلك "وموجب ذلك المأثم" لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] الآية، وقد نطق به غير واحد من السنة، وعليه انعقد إجماع الأمة. قال: "والقود" لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلا أنه تقيد بوصف العمدية لقوله عليه الصلاة والسلام: "العمد قود" أي موجبه، ولأن الجناية بها تتكامل وحكمة الزجر عليها تتوفر، والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك. قال: "إلا أن يعفو الأولياء أو يصالحوا"؛ لأن الحق لهم ثم هو واجب عينا، وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل وهو أحد قولي الشافعي، إلا أن له حق العدول إلى المال من غير مرضاة القاتل؛ لأنه تعين مدفعا للهلاك فيجوز بدون رضاه، وفي قول الواجب أحدهما لا بعينه ويتعين باختياره؛ لأن حق العبد شرع جابرا وفي كل واحد نوع جبر فيتخير ولنا ما تلونا من الكتاب وروينا من السنة، ولأن المال لا يصلح موجبا لعدم المماثلة، والقصاص يصلح للتماثل، وفيه مصلحة الأحياء زجرا وجبرا فيتعين، وفي الخطإ وجوب المال ضرورة صون الدم عن الإهدار، ولا يتيقن بعدم قصد الولي بعد أخذ المال فلا يتعين مدفعا للهلاك، ولا كفارة فيه عندنا: وعند الشافعي رحمه الله تجب؛ لأن الحاجة إلى التكفير في العمد أمس منها إليه في الخطأ فكان أدعى إلى إيجابها ولنا أنه كبيرة محضة، وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها، ولأن الكفارة من المقادير، وتعينها في الشرع لدفع الأدنى لا يعينها لدفع الأعلى ومن حكمه حرمان الميراث لقوله عليه الصلاة والسلام "لا ميراث لقاتل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 قال: "وشبه العمد عند أبي حنيفة أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما أجري مجرى السلاح" وقال أبو يوسف ومحمد وهو قول الشافعي: إذا ضربه بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة فهو عمد وشبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا؛ لأنه يتقاصر معنى العمدية باستعمال آلة صغيرة لا يقتل بها غالبا لما أنه يقصد بها غيره كالتأديب ونحوه فكان شبه العمد، ولا يتقاصر باستعمال آلة لا تلبث؛ لأنه لا يقصد به إلا القتل كالسيف فكان عمدا موجبا للقود وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا، وفيه مائة من الإبل" ولأن الآلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه؛ إذ لا يمكن استعمالها على غرة من المقصود قتله، وبه يحصل القتل غالبا فقصرت العمدية نظرا إلى الآلة، فكان شبه العمد كالقتل بالسوط والعصا الصغيرة. قال: "وموجب ذلك على القولين الإثم"؛ لأنه قتل وهو قاصد في الضرب "والكفارة" لشبهه بالخطأ "والدية مغلظة على العاقلة" والأصل أن كل دية وجبت بالقتل ابتداء لا بمعنى يحدث من بعد فهي على العاقلة اعتبارا بالخطأ، وتجب في ثلاث سنين لقضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتجب مغلظة، وسنبين صفة التغليظ من بعد إن شاء الله تعالى "ويتعلق به حرمان الميراث"؛ لأنه جزاء القتل، والشبهة تؤثر في سقوط القصاص دون حرمان الميراث ومالك وإن أنكر معرفة شبه العمد فالحجة عليه ما أسلفناه. قال: "والخطأ على نوعين: خطأ في القصد، وهو أن يرمي شخصا يظنه صيدا، فإذا هو آدمي، أو يظنه حربيا فإذا هو مسلم وخطأ في الفعل، وهو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا، وموجب ذلك الكفارة، والدية على العاقلة" لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] الآية، وهي على عاقلته في ثلاث سنين، لما بيناه. قال: "ولا إثم فيه" يعني في الوجهين قالوا: المراد إثم القتل، فأما في نفسه فلا يعرى عن الإثم من حيث ترك العزيمة والمبالغة في التثبت في حال الرمي، إذ شرع الكفارة يؤذن باعتبار هذا المعنى "ويحرم عن الميراث"؛ لأن فيه إثما فيصح تعليق الحرمان به، بخلاف ما إذا تعمد الضرب موضعا من جسده فأخطأ فأصاب موضعا آخر فمات حيث يجب القصاص؛ لأن القتل قد وجد بالقصد إلى بعض بدنه، وجميع البدن كالمحل الواحد. قال: "وما أجري مجرى الخطأ مثل النائم ينقلب على رجل فيقتله فحكمه حكم الخطأ في الشرع، وأما القتل بسبب كحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه، وموجبه إذا تلف فيه آدمي الدية على العاقلة"؛ لأنه سبب التلف وهو متعد فيه فأنزل موقعا دافعا فوجبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 الدية "ولا كفارة فيه ولا يتعلق به حرمان الميراث" وقال الشافعي: يلحق بالخطإ في أحكامه؛ لأن الشرع أنزله قاتلا ولنا أن القتل معدوم منه حقيقة فألحق به في حق الضمان فبقي في حق غيره على الأصل، وهو إن كان يأثم بالحفر في غير ملكه لا يأثم بالموت على ما قالوا، وهذه كفارة ذنب القتل وكذا الحرمان بسببه "وما يكون شبه عمد في النفس فهو عمد فيما سواها"؛ لأن إتلاف النفس يختلف باختلاف الآلة، وما دونها لا يختص إتلافه بآلة دون آلة، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 باب ما يوجب القصاص وما لا يوجبه مدخل ... باب ما يوجب القصاص وما لا يوجبه قال: "القصاص واجب بقتل كل محقون الدم على التأبيد إذا قتل عمدا" أما العمدية فلما بيناه، وأما حقن الدم على التأبيد فلتنتفي شبهة الإباحة وتتحقق المساواة. قال: "ويقتل الحر بالحر والحر بالعبد" للعمومات وقال الشافعي رحمه الله: لا يقتل الحر بالعبد لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] ومن ضرورة هذه المقابلة أن لا يقتل حر بعبد، ولأن مبنى القصاص على المساواة وهي منتفية بين المالك والمملوك ولهذا لا يقطع طرف الحر بطرفه، بخلاف العبد بالعبد؛ لأنهما يستويان، وبخلاف العبد حيث يقتل بالحر؛ لأنه تفاوت إلى نقصان ولنا أن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين وبالدار ويستويان فيهما، وجريان القصاص بين العبدين يؤذن بانتفاء شبهة الإباحة، والنص تخصيص بالذكر فلا ينفي ما عداه. قال: "والمسلم بالذمي" خلافا للشافعي له قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقتل مؤمن بكافر" ولأنه لا مساواة بينهما وقت الجناية، وكذا الكفر مبيح فيورث الشبهة ولنا ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي" ولأن المساواة في العصمة ثابتة نظرا إلى التكليف والدار والمبيح كفر المحارب دون المسالم، والقتل بمثله يؤذن بانتفاء الشبهة، والمراد بما روى الحربي لسياقه "ولا ذو عهد في عهده" والعطف للمغايرة. قال: "ولا يقتل بالمستأمن"؛ لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذلك كفره باعث على الحراب؛ لأنه على قصد الرجوع "ولا يقتل الذمي بالمستأمن" لما بينا "ويقتل المستأمن بالمستأمن" قياسا للمساواة، ولا يقتل استحسانا لقيام المبيح "ويقتل الرجل بالمرأة، والكبير بالصغير، والصحيح بالأعمى والزمن وبناقص الأطراف وبالمجنون" للعمومات، ولأن في اعتبار التفاوت فيما وراء العصمة امتناع القصاص وظهور التقاتل والتفاني. قال: "ولا يقتل الرجل بابنه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد الوالد بولده" وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 بإطلاقه حجة على مالك رحمه الله في قوله يقاد إذا ذبحه ذبحا، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه ولهذا لا يجوز له قتله، وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن، والقصاص يستحقه المقتول ثم يخلفه وارثه، والجد من قبل الرجال أو النساء، وإن علا في هذا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأب أو الأم قربت أو بعدت لما بينا، ويقتل الولد بالوالد لعدم المسقط. قال: "ولا يقتل الرجل بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه ولا بعبد ولده"؛ لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه؛ لأن القصاص لا يتجزأ. قال: "ومن ورث قصاصا على أبيه سقط" لحرمة الأبوة، قال: "ولا يستوفى القصاص إلا بالسيف" وقال الشافعي: يفعل به مثل ما فعل إن كان فعلا مشروعا، فإن مات وإلا تحز رقبته؛ لأن مبنى القصاص على المساواة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا قود إلا بالسيف" والمراد به السلاح، ولأن فيما ذهب إليه استيفاء الزيادة لو لم يحصل المقصود بمثل ما فعل فيحز فيجب التحرز عنه كما في كسر العظم. قال: "وإذا قتل المكاتب عمدا وليس له وارث إلا المولى وترك وفاء فله القصاص عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: لا أرى في هذا قصاصا"؛ لأنه اشتبه سبب الاستيفاء فإنه الولاء إن مات حرا والملك إن مات عبدا، وصار كمن قال لغيره بعني هذه الجارية بكذا، وقال المولى زوجتها منك لا يحل له وطؤها لاختلاف السبب كذا هذا ولهما أن حق الاستيفاء للمولى بيقين على التقديرين وهو معلوم والحكم متحد، واختلاف السبب لا يفضي إلى المنازعة ولا إلى اختلاف حكم فلا يبالى به، بخلاف تلك المسألة؛ لأن حكم ملك اليمين يغاير حكم النكاح "ولو ترك وفاء وله وارث غير المولى فلا قصاص، وإن اجتمعوا مع المولى"؛ لأنه اشتبه من له الحق؛ لأنه المولى إن مات عبدا، والوارث إن مات حرا إذ ظهر الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في موته على نعت الحرية أو الرق، بخلاف الأولى؛ لأن المولى متعين فيها "وإن لم يترك وفاء وله ورثة أحرار وجب القصاص للمولى في قولهم جميعا"؛ لأنه مات عبدا بلا ريب لانفساخ الكتابة، بخلاف معتق البعض إذا مات ولم يترك وفاء؛ لأن العتق في البعض لا ينفسخ بالعجز "وإذا قتل عبد الرهن في يد المرتهن لم يجب القصاص حتى يجتمع الراهن والمرتهن"؛ لأن المرتهن لا ملك له فلا يليه، والراهن لو تولاه لبطل حق المرتهن في الدين فيشترط اجتماعهما ليسقط حق المرتهن برضاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 قال: "وإذا قتل ولي المعتوه فلأبيه أن يقتل"؛ لأنه من الولاية على النفس شرع لأمر راجع إليها وهو تشفي الصدر فيليه كالإنكاح "وله أن يصالح"؛ لأنه أنظر في حق المعتوه، وليس له أن يعفو؛ لأن فيه إبطال حقه "وكذلك إن قطعت يد المعتوه عمدا" لما ذكرنا "والوصي بمنزلة الأب في جميع ذلك إلا أنه لا يقتل"؛ لأنه ليس له ولاية على نفسه وهذا من قبيله، ويندرج تحت هذا الإطلاق الصلح عن النفس واستيفاء القصاص في الطرف فإنه لم يستثن إلا القتل وفي كتاب الصلح أن الوصي لا يملك الصلح؛ لأنه تصرف في النفس بالاعتياض عنه فينزل منزلة الاستيفاء ووجه المذكور هاهنا أن المقصود من الصلح المال وأنه يجب بعقده كما يجب بعقد الأب بخلاف القصاص؛ لأن المقصود التشفي وهو مختص بالأب ولا يملك العفو؛ لأن الأب لا يملكه لما فيه من الإبطال فهو أولى وقالوا القياس ألا يملك الوصي الاستيفاء في الطرف كما لا يملكه في النفس؛ لأن المقصود متحد وهو التشفي وفي الاستحسان يملكه؛ لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فإنها خلقت وقاية للأنفس كالمال على ما عرف فكان استيفاؤه بمنزلة التصرف في المال، والصبي بمنزلة المعتوه في هذا، والقاضي بمنزلة الأب في الصحيح؛ ألا ترى أن من قتل ولا ولي له يستوفيه السلطان، والقاضي بمنزلته فيه. قال: "ومن قتل وله أولياء صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا القاتل عند أبي حنيفة وقالا ليس لهم ذلك حتى يدرك الصغار"؛ لأن القصاص مشترك بينهم ولا يمكن استيفاء البعض لعدم التجزي، وفي استيفائهم الكل إبطال حق الصغار فيؤخر إلى إدراكهم كما إذا كان بين الكبيرين وأحدهما غائب أو كان بين الموليين وله أنه حق لا يتجزأ لثبوته بسبب لا يتجزأ وهو القرابة، واحتمال العفو من الصغير منقطع فيثبت لكل واحد منهما كملا كما في ولاية الإنكاح، بخلاف الكبيرين؛ لأن احتمال العفو من الغائب ثابت ومسألة الموليين ممنوعة. قال: "ومن ضرب رجلا بمر فقتله، فإن أصابه بالحديد قتل به وإن أصابه بالعود فعليه الدية" قال رضي الله عنه: وهذا إذا أصابه بحد الحديد لوجود الجرح فكمل السبب، وإن أصابه بظهر الحديد فعندهما يجب، وهو رواية عن أبي حنيفة اعتبارا منه للآلة، وهو الحديد وعنه إنما يجب إذا جرح، وهو الأصح على ما نبينه إن شاء الله تعالى، وعلى هذا الضرب بسنجات الميزان؛ وأما إذا ضربه بالعود فإنما تجب الدية لوجود قتل النفس المعصومة وامتناع القصاص حتى لا يهدر الدم، ثم قيل: هو بمنزلة العصا الكبيرة فيكون قتلا بالمثقل، وفيه خلاف أبي حنيفة على ما نبين، وقيل هو بمنزلة السوط، وفيه خلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 الشافعي وهي مسألة الموالاة له أن الموالاة في الضربات إلى أن مات دليل العمدية فيتحقق الموجب ولنا ما روينا: "ألا إن قتيل خطإ العمد" ويروى "شبه العمد" الحديث ولأن فيه شبهة عدم العمدية؛ لأن الموالاة قد تستعمل للتأديب أو لعله اعتراه القصد في خلال الضربات فيعرى أول الفعل عنه وعساه أصاب المقتل، والشبهة دارئة للقود فوجب الدية. قال: "ومن غرق صبيا أو بالغا في البحر فلا قصاص" عند أبي حنيفة، وقال: يقتص منه وهو قول الشافعي، غير أن عندهما يستوفى حزا وعنده يغرق كما بيناه من قبل لهم قوله عليه الصلاة والسلام: "من غرق غرقناه" ولأن الآلة قاتلة فاستعمالها أمارة العمدية، ولا مراء في العصمة وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا" وفيه "وفي كل خطإ أرش"؛ لأن الآلة غير معدة للقتل، ولا مستعملة فيه لتعذر استعماله فتمكنت شبهة عدم العمدية ولأن القصاص ينبئ عن المماثلة، ومنه يقال: اقتص أثره، ومنه القصة للجلمين، ولا تماثل بين الجرح والدق لقصور الثاني عن تخريب الظاهر، وكذا لا يتماثلان في حكمة الزجر؛ لأن القتل بالسلاح غالب وبالمثقل نادر، وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على السياسة، وقد أومت إليه إضافته إلى نفسه فيه وإذا امتنع القصاص وجبت الدية، وهي على العاقلة، وقد ذكرناه واختلاف الروايتين في الكفارة. قال: "ومن جرح رجلا عمدا فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القصاص" لوجود السبب وعدم ما يبطل حكمه في الظاهر فأضيف إليه. قال: "وإذا التقى الصفان من المسلمين والمشركين فقتل مسلم مسلما ظن أنه مشرك فلا قود عليه وعليه الكفارة"؛ لأن هذا أحد نوعي الخطإ على ما بيناه، والخطأ بنوعيه لا يوجب القود ويوجب الكفارة، وكذا الدية على ما نطق به نص الكتاب ولما اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة قضى رسول الله عليه الصلاة والسلام بالدية قالوا: إنما تجب الدية إذا كانوا مختلطين، فإن كان في صف المشركين لا تجب لسقوط عصمته بتكثير سوادهم قال عليه الصلاة والسلام: "من كثر سواد قوم فهو منهم". قال: " ومن شج نفسه وشجه رجل وعقره أسد وأصابته حية فمات من ذلك كله فعلى الأجنبي ثلث الدية"؛ لأن فعل الأسد والحية جنس واحد لكونه هدرا في الدنيا والآخرة، وفعله بنفسه هدر في الدنيا معتبر في الآخرة حتى يأثم عليه وفي النوادر أن عند أبي حنيفة ومحمد يغسل ويصلى عليه وعند أبي يوسف يغسل ولا يصلى عليه، وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 شرح السير الكبير ذكر في الصلاة عليه اختلاف المشايخ على ما كتبناه في كتاب التجنيس والمزيد فلم يكن هدرا مطلقا وكان جنسا آخر، وفعل الأجنبي معتبر في الدنيا والآخرة فصارت ثلاثة أجناس فكأن النفس تلفت بثلاثة أفعال فيكون التالف بفعل كل واحد ثلثه فيجب عليه ثلث الدية، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 فصل: ومن شهر على المسلمين سيفا فعليهم أن يقتلوه ... فصل: قال "ومن شهر على المسلمين سيفا فعليهم أن يقتلوه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شهر على المسلمين سيفا فقد أطل دمه" ولأنه باغ فتسقط عصمته ببغيه، ولأنه تعين طريقا لدفع القتل عن نفسه فله قتله وقوله فعليهم وقول محمد في الجامع الصغير فحق على المسلمين أن يقتلوه إشارة إلى الوجوب، والمعنى وجوب دفع الضرر وفي سرقة الجامع الصغير: ومن شهر على رجل سلاحا ليلا أو نهارا أو شهر عليه عصا ليلا في مصر أو نهارا في طريق في غير مصر فقتله المشهور عليه عمدا فلا شيء عليه لما بينا، وهذا؛ لأن السلاح لا يلبث فيحتاج إلى دفعه بالقتل والعصا الصغيرة، وإن كانت تلبث ولكن في الليل لا يلحقه الغوث فيضطر إلى دفعه بالقتل، وكذا في النهار في غير المصر في الطريق لا يلحقه الغوث فإذا قتله كان دمه هدرا قالوا: فإن كان عصا لا تلبث يحتمل أن تكون مثل السلاح عندهما. قال: "وإن شهر المجنون على غيره سلاحا فقتله المشهور عليه عمدا فعليه الدية في ماله" وقال الشافعي: لا شيء عليه، وعلى هذا الخلاف الصبي والدابة وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان في الدابة ولا يجب في الصبي والمجنون للشافعي أنه قتله دافعا عن نفسه فيعتبر بالبالغ الشاهر، ولأنه يصير محمولا على قتله بفعله فأشبه المكره ولأبي يوسف أن فعل الدابة غير معتبر أصلا حتى لو تحقق لا يوجب الضمان أما فعلهما معتبر في الجملة حتى لو حققناه يجب عليهما الضمان، وكذا عصمتهما لحقهما وعصمة الدابة لحق مالكها فكان فعلهما مسقطا للعصمة دون فعل الدابة، ولنا أنه قتل شخصا معصوما أو أتلف مالا معصوما حقا للمالك وفعل الدابة لا يصلح مسقطا وكذا فعلهما، وإن كانت عصمتهما حقهما لعدم اختيار صحيح ولهذا لا يجب القصاص بتحقق الفعل منهما، بخلاف العاقل البالغ؛ لأن له اختيارا صحيحا، وإنما لا يجب القصاص لوجود المبيح وهو دفع الشر فتجب الدية. قال: "ومن شهر على غيره سلاحا في المصر فضربه ثم قتله الآخر فعلى القاتل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 القصاص" معناه: إذا ضربه فانصرف؛ لأنه خرج من أن يكون محاربا بالانصراف فعادت عصمته. قال: "ومن دخل عليه غيره ليلا وأخرج السرقة فاتبعه وقتله فلا شيء عليه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "قاتل دون مالك" ولأنه يباح له القتل دفعا في الابتداء فكذا استردادا في الانتهاء، وتأويل المسألة إذا كان لا يتمكن من الاسترداد إلا بالقتل، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 باب القصاص فيما دون النفس مدخل ... باب القصاص فيما دون النفس قال: "ومن قطع يد غيره عمدا من المفصل قطعت يده وإن كانت يده أكبر من اليد المقطوعة" لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] وهو ينبئ عن المماثلة، فكل ما أمكن رعايتها فيه يجب فيه القصاص وما لا فلا، وقد أمكن في القطع من المفصل فاعتبر، ولا معتبر بكبر اليد وصغرها لأن منفعة اليد لا تختلف بذلك، وكذلك الرجل ومارن الأنف والأذن لإمكان رعاية المماثلة. قال: "ومن ضرب عين رجل فقلعها لا قصاص عليه" لامتناع المماثلة في القلع، وإن كانت قائمة فذهب ضوءها فعليه القصاص لإمكان المماثلة على ما قال في الكتاب: تحمى له المرآة ويجعل على وجهه قطن رطب وتقابل عينه بالمرآة فيذهب ضوءها، وهو مأثور عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال: "وفي السن القصاص" لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] "وإن كان سن من يقتص منه أكبر من سن الآخر" لأن منفعة السن لا تتفاوت بالصغر والكبر. قال: "وفي كل شجة تتحقق فيها المماثلة القصاص" لما تلونا. قال: "ولا قصاص في عظم إلا في السن" وهذا اللفظ مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا قصاص في العظم" والمراد غير السن، ولأن اعتبار المماثلة في غير السن متعذر لاحتمال الزيادة والنقصان، بخلاف السن لأنه يبرد بالمبرد، ولو قلع من أصله يقلع الثاني فيتماثلان. قال: "وليس فيما دون النفس شبه عمد إنما هو عمد أو خطأ" لأن شبه العمد يعود إلى الآلة، والقتل هو الذي يختلف باختلافها دون ما دون النفس لأنه لا يختلف إتلافه باختلاف الآلة فلم يبق إلا العمد والخطأ. "ولا قصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس، ولا بين الحر والعبد، ولا بين العبدين" خلافا للشافعي في جميع ذلك إلا في الحر يقطع طرف العبد. ويعتبر الأطراف بالأنفس لكونها تابعة لها. ولنا أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة، وهو معلوم قطعا بتقويم الشرع فأمكن اعتباره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 بخلاف التفاوت في البطش لأنه لا ضابط له فاعتبر أصله، وبخلاف الأنفس لأن المتلف إزهاق الروح ولا تفاوت فيه. "ويجب القصاص في الأطراف بين المسلم والكافر" للتساوي بينهما في الأرش. قال: "ومن قطع يد رجل من نصف الساعد أو جرحه جائفة فبرأ منها فلا قصاص عليه" لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، إذ الأول كسر العظم ولا ضابط فيه، وكذا البرء نادر فيفضي الثاني إلى الهلاك ظاهرا. قال: "وإذا كانت يد المقطوع صحيحة ويد القاطع شلاء أو ناقصة الأصابع فالمقطوع بالخيار إن شاء قطع اليد المعيبة ولا شيء له غيرها وإن شاء أخذ الأرش كاملا" لأن استيفاء الحق كاملا متعذر فله أن يتجوز بدون حقه وله أن يعدل إلى العوض كالمثلي إذا انصرم عن أيدي الناس بعد الإتلاف ثم إذا استوفاها ناقصا فقد رضي به فيسقط حقه كما إذا رضي بالرديء مكان الجيد "ولو سقطت المؤنة قبل اختيار المجني عليه أو قطعت ظلما فلا شيء له" عندنا لأن حقه متعين في القصاص، وإنما ينتقل إلى المال باختياره فيسقط بفواته، بخلاف ما إذا قطعت بحق عليه من قصاص أو سرقة حيث يجب عليه الأرش لأنه أوفى به حقا مستحقا فصارت سالمة له معنى. قال: "ومن شج رجلا فاستوعبت الشجة ما بين قرنيه وهي لا تستوعب ما بين قرني الشاج فالمشجوج بالخيار، إن شاء اقتص بمقدار شجته يبتدئ من أي الجانبين شاء، وإن شاء أخذ الأرش" لأن الشجة موجبة لكونها مشينة فقط فيزداد الشين بزيادتها، وفي استيفائه ما بين قرني الشاج زيادة على ما فعل، ولا يلحقه من الشين باستيفائه قدر حقه ما يلحق المشجوج فينتقص فيخير كما في الشلاء والصحيحة، وفي عكسه يخير أيضا لأنه يتعذر الاستيفاء كاملا للتعدي إلى غير. حقه، وكذا إذا كانت الشجة في طول الرأس وهي تأخذ من جبهته إلى قفاه ولا تبلغ إلى قفا الشاج فهو بالخيار لأن المعنى لا يختلف. قال: "ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر" وعن أبي يوسف أنه إذا قطع من أصله يجب لأنه يمكن اعتبار المساواة. ولنا أنه ينقبض وينبسط فلا يمكن اعتبار المساواة "إلا أن تقطع الحشفة" لأن موضع القطع معلوم كالمفصل، ولو قطع بعض الحشفة أو بعض الذكر فلا قصاص فيه لأن البعض لا يعلم مقداره، بخلاف الأذن إذا قطع كله أو بعضه لأنه لا ينقبض ولا ينبسط وله حد يعرف فيمكن اعتبار المساواة، والشفة إذا استقصاها بالقطع يجب القصاص لإمكان اعتبار المساواة، بخلاف ما إذا قطع بعضها لأنه يتعذر اعتبارها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 فصل: وإذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص ووجب المال قليلا كان أو كثيرا ... فصل: قال: "وإذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص ووجب المال قليلا كان أو كثيرا" لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] الآية على ما قيل نزلت الآية في الصلح. وقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل له قتيل" الحديث، والمراد والله أعلم الأخذ بالرضا على ما بيناه وهو الصلح بعينه، ولأنه حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفوا فكذا تعويضا لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل فيجوز بالتراضي. والقليل والكثير فيه سواء لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما كالخلع وغيره، وإن لم يذكروا حالا ولا مؤجلا فهو حال لأنه مال واجب بالعقد، والأصل في أمثاله الحلول نحو المهر والثمن، بخلاف الدية لأنها ما وجبت بالعقد. قال: "وإن كان القاتل حرا وعبدا فأمر الحر ومولى العبد رجلا بأن يصالح عن دمهما على ألف درهم ففعل فالألف على الحر والمولى نصفان" لأن عقد الصلح أضيف إليهما. "وإذا عفا أحد الشركاء من الدم أو صالح من نصيبه على عوض سقط حق الباقين عن القصاص وكان لهم نصيبهم من الدية". وأصل هذا أن القصاص حق جميع الورثة، وكذا الدية خلافا لمالك والشافعي في الزوجين. لهما أن الوراثة خلافة وهي بالنسب دون السبب لانقطاعه بالموت، ولنا أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم، ولأنه حق يجري فيه الإرث، حتى أن من قتل وله ابنان فمات أحدهما عن ابن كان القصاص بين الصلبي وابن الابن فيثبت لسائر الورثة، والزوجية تبقى بعد الموت حكما في حق الإرث أو يثبت بعد الموت مستندا إلى سببه وهو الجرح، وإذا ثبت للجميع فكل منهم يتمكن من الاستيفاء والإسقاط عفوا وصلحا ومن ضرورة سقوط حق البعض في القصاص سقوط حق الباقين فيه، لأنه لا يتجزأ، بخلاف ما إذا قتل رجلين وعفا أحد الوليين لأن الواجب هناك قصاصان من غير شبهة لاختلاف القتل والمقتول وهاهنا واحد لاتحادهما، وإذا سقط القصاص ينقلب نصيب الباقين مالا لأنه امتنع لمعنى راجع إلى القاتل، وليس للعافي شيء من المال لأنه أسقط حقه بفعله ورضاه، ثم يجب ما يجب من المال في ثلاث سنين وقال زفر: يجب في سنتين فيما إذا كان بين الشريكين وعفا أحدهما، لأن الواجب نصف الدية فيعتبر بما إذا قطعت يده خطأ. ولنا أن هذا بعض بدل الدم وكله مؤجل إلى ثلاث سنين فكذلك بعضه، والواجب في اليد كل بدل الطرف وهو في سنتين في الشرع ويجب في ماله لأنه عمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 قال: "وإذا قتل جماعة واحدا عمدا اقتص من جميعهم" لقول عمر رضي الله عنه فيه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولأن القتل بطريق التغالب غالب، والقصاص مزجرة للسفهاء فيجب تحقيقا لحكمة الإحياء. "وإذا قتل واحد جماعة فحضر أولياء المقتولين قتل لجماعتهم ولا شيء لهم غير ذلك، فإن حضر واحد منهم قتل له وسقط حق الباقين" وقال الشافعي: يقتل بالأول منهم ويجب للباقين المال، وإن اجتمعوا ولم يعرف الأول قتل لهم وقسمت الديات بينهم، وقيل يقرع بينهم فيقتل لمن خرجت قرعته. له أن الموجود من الواحد قتلات والذي تحقق في حقه قتل واحد فلا تماثل، وهو القياس في الفصل الأول، إلا أنه عرف بالشرع. ولنا أن كل واحد منهم قاتل بوصف الكمال فجاء التماثل أصله الفصل الأول، إذ لو لم يكن كذلك لما وجب القصاص، ولأنه وجد من كل واحد منهم جرح صالح للإزهاق فيضاف إلى كل منهم إذ هو لا يتجزأ، ولأن القصاص شرع مع المنافي لتحقيق الإحياء وقد حصل بقتله فاكتفى به. قال: "ومن وجب عليه القصاص إذا مات سقط القصاص" لفوات محل الاستيفاء فأشبه موت العبد الجاني، ويتأتى فيه خلاف الشافعي إذ الواجب أحدهما عنده. قال: "وإذا قطع رجلان يد رجل واحد فلا قصاص على واحد منهما وعليهما نصف الدية" وقال الشافعي: تقطع يداهما، والمفرض إذا أخذ سكينا وأمره على يده حتى انقطعت له الاعتبار بالأنفس، والأيدي تابعة لها فأخذت حكمها، أو يجمع بينهما بجامع الزجر. ولنا أن كل واحد منهما قاطع بعض اليد، لأن الانقطاع حصل باعتماديهما والمحل متجزئ فيضاف إلى كل واحد منهما البعض فلا مماثلة، بخلاف النفس لأن الانزهاق لا يتجزأ، ولأن القتل بطريق الاجتماع غالب حذار الغوث، والاجتماع على قطع اليد من المفصل في حيز الندرة لافتقاره إلى مقدمات بطيئة فيلحقه الغوث. قال: "وعليهما نصف الدية" لأنه دية اليد الواحدة وهما قطعاها. "وإن قطع واحد يميني رجلين فحضرا فلهما أن يقطعا يده ويأخذا منه نصف الدية يقسمانه نصفين سواء قطعهما معا أو على التعاقب" وقال الشافعي: في التعاقب يقطع بالأول، وفي القران يقرع لأن اليد استحقها الأول فلا يثبت الاستحقاق فيها للثاني كالرهن بعد الرهن، وفي القران اليد الواحدة لا تفي بالحقين فترجح بالقرعة. ولنا أنهما استويا في سبب الاستحقاق فيستويان في حكمه كالغريمين في التركة، والقصاص ملك الفعل يثبت مع المنافي فلا يظهر إلا في حق الاستيفاء. أما المحل فخلو عنه فلا يمنع ثبوت الثاني، بخلاف الرهن لأن الحق ثابت في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 المحل. فصار كما إذا قطع العبد يمينيهما على التعاقب فتستحق رقبته لهما، وإن حضر واحد منهما فقطع يده فللآخر عليه نصف الدية، لأن للحاضر أن يستوفي لثبوت حقه وتردد حق الغائب، وإذا استوفى لم يبق محل الاستيفاء فيتعين حق الآخر في الدية لأنه أوفى به حقا مستحقا. قال: "وإذا أقر العبد بقتل العمد لزمه القود" وقال زفر: لا يصح إقراره لأنه يلاقي حق المولى بالإبطال فصار كما إذا أقر بالمال. ولنا أنه غير متهم فيه لأنه مضر به فيقبل، ولأن العبد مبقى على أصل الحرية في حق الدم عملا بالآدمية حتى لا يصح إقرار المولى عليه بالحد والقصاص، وبطلان حق المولى بطريق الضمن فلا يبالى به. "ومن رمى رجلا عمدا فنفذ السهم منه إلى آخر فماتا فعليه القصاص للأول والدية للثاني على عاقلته" لأن الأول عمد والثاني أحد نوعي الخطأ، كأنه رمى إلى صيد فأصاب آدميا والفعل يتعدد بتعدد الأثر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 فصل: ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده الخ ... فصل: قال: "ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده أو قطع يده عمدا ثم قتله خطأ أو قطع يده خطأ فبرئت يده ثم قتله خطأ أو قطع يده عمدا فبرأت ثم قتله عمدا فإنه يؤخذ بالأمرين جميعا" والأصل فيه أن الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن تتميما للأول، لأن القتل في الأعم يقع بضربات متعاقبة، وفي اعتبار كل ضربة بنفسها بعض الحرج، إلا أن لا يمكن الجمع فيعطى كل واحد حكم نفسه، وقد تعذر الجمع في هذه الفصول في الأولين لاختلاف حكم الفعلين، وفي الآخرين لتخلل البرء وهو قاطع للسراية، حتى لو لم يتخلل وقد تجانسا بأن كانا خطأين يجمع بالإجماع لإمكان الجمع واكتفى بدية واحدة "وإن كان قطع يده عمدا ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده، فإن شاء الإمام قال: اقطعوه ثم اقتلوه، وإن شاء قال: اقتلوه" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يقتل ولا تقطع يده لأن الجمع ممكن لتجانس الفعلين وعدم تخلل البرء فيجمع بينهما. وله أن الجمع متعذر، إما للاختلاف بين الفعلين هذين لأن الموجب القود وهو يعتمد المساواة في الفعل وذلك بأن يكون القتل بالقتل والقطع بالقطع وهو متعذر، أو لأن الحز يقطع إضافة السراية إلى القطع، حتى لو صدر من شخصين يجب القود على الحاز فصار كتخلل البرء، بخلاف ما إذا قطع وسرى لأن الفعل واحد، وبخلاف ما إذا كانا خطأين لأن الموجب الدية وهي بدل النفس من غير اعتبار المساواة، ولأن أرش اليد إنما يجب عند استحكام أثر الفعل وذلك بالحز القاطع للسراية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 فيجتمع ضمان الكل وضمان الجزء في حالة واحدة ولا يجتمعان. أما القطع والقتل قصاصا يجتمعان. قال: "ومن ضرب رجلا مائة سوط فبرأ من تسعين ومات من عشرة ففيه دية واحدة" لأنه لما برأ منها لا تبقى معتبرة في حق الأرش وإن بقيت معتبرة في حق التعزير فبقي الاعتبار للعشرة، وكذلك كل جراحة اندملت ولم يبق لها أثر على أصل أبي حنيفة. وعن أبي يوسف في مثله حكومة عدل. وعن محمد أنه تجب أجرة الطبيب "وإن ضرب رجلا مائة سوط وجرحته وبقي له أثر تجب حكومة العدل" لبقاء الأثر والأرش إنما يجب باعتبار الأثر في النفس. قال: "ومن قطع يد رجل فعفا المقطوعة يده عن القطع ثم مات من ذلك فعلى القاطع الدية في ماله، وإن عفا عن القطع وما يحدث منه ثم مات من ذلك فهو عفو عن النفس، ثم إن كان خطأ فهو من الثلث، وإن كان عمدا فهو من جميع المال" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إذا عفا عن القطع فهو عفو عن النفس أيضا، وعلى هذا الخلاف إذا عفا عن الشجة ثم سرى إلى النفس ومات، لهما أن العفو عن القطع عفو عن موجبه، وموجبه القطع لو اقتصر أو القتل إذا سرى، فكان العفو عنه عفوا عن أحد موجبيه أيهما كان، ولأن اسم القطع يتناول الساري والمقتصر فيكون العفو عن قطع عفوا عن نوعيه وصار كما إذا عفا عن الجناية فإنه يتناول الجناية السارية والمقتصرة. كذا هذا. وله أن سبب الضمان قد تحقق وهو قتل نفس معصومة متقومة والعفو لم يتناوله بصريحه لأنه عفا عن القطع وهو غير القتل، وبالسراية تبين أن الواقع قتل وحقه فيه ونحن نوجب ضمانه. وكان ينبغي أن يجب القصاص وهو القياس لأنه هو الموجب للعمد، إلا أن في الاستحسان تجب الدية، لأن صورة العفو أورثت شبهة وهي دارئة للقود. ولا نسلم أن الساري نوع من القطع، وأن السراية صفة له، بل الساري قتل من الابتداء، وكذا لا موجب له من حيث كونه قطعا فلا يتناوله العفو، بخلاف العفو عن الجناية لأنه اسم جنس، وبخلاف العفو عن الشجة وما يحدث منها لأنه صريح في العفو عن السراية والقتل، ولو كان القطع خطأ فقد أجراه مجرى العمد في هذه الوجوه وفاقا وخلافا، آذن بذلك إطلاقه، إلا أنه إن كان خطأ فهو من الثلث، وإن كان عمدا فهو من جميع المال، لأن موجب العمد القود ولم يتعلق به حق الورثة لما أنه ليس بمال فصار كما إذا أوصى بإعارة أرضه. أما الخطأ فموجبه المال، وحق الورثة يتعلق به فيعتبر من الثلث. قال: "وإذا قطعت المرأة يد رجل فتزوجها على يده ثم مات فلها مهر مثلها، وعلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 عاقلتها الدية إن كان خطأ، وإن كان عمدا ففي مالها" وهذا عند أبي حنيفة، لأن العفو عن اليد إذا لم يكن عفوا عما يحدث منه عنده فالتزوج على اليد لا يكون تزوجا على ما يحدث منه. ثم القطع إذا كان عمدا يكون هذا تزوجا على القصاص في الطرف وهو ليس بمال فلا يصلح مهرا، لا سيما على تقدير السقوط فيجب مهر المثل، وعليها الدية في مالها لأن التزوج وإن كان يتضمن العفو على ما نبين إن شاء الله تعالى لكن عن القصاص في الطرف في هذه الصورة، وإذا سرى تبين أنه قتل النفس ولم يتناوله العفو فتجب الدية وتجب في مالها لأنه عمد. والقياس أن يجب القصاص على ما بيناه. وإذا وجب لها مهر المثل وعليها الدية تقع المقاصة إن كانا على السواء، وإن كان في الدية فضل ترده على الورثة، وإن كان في المهر فضل يرده الورثة عليها، وإذا كان القطع خطأ يكون هذا تزوجا على أرش اليد، وإذا سرى إلى النفس تبين أنه لا أرش لليد وأن المسمى معدوم فيجب مهر المثل، كما إذا تزوجها على ما في اليد ولا شيء فيها. ولا يتقاصان لأن الدية تجب على العاقلة في الخطأ والمهر لها. قال: "ولو تزوجها على اليد وما يحدث منها أو على الجناية ثم مات من ذلك والقطع عمد فلها مهر مثلها" لأن هذا تزوج على القصاص وهو لا يصلح مهرا فيجب مهر المثل على ما بيناه، وصار كما إذا تزوجها على خمر أو خنزير ولا شيء له عليها، لأنه لما جعل القصاص مهرا فقد رضي بسقوطه بجهة المهر فيسقط أصلا كما إذا أسقط القصاص بشرط أن يصير مالا فإنه يسقط أصلا "وإن كان خطأ يرفع عن العاقلة مهر مثلها، ولهم ثلث ما ترك وصية" لأن هذا تزوج على الدية وهي تصلح مهرا إلا أنه يعتبر بقدر مهر المثل من جميع المال لأنه مريض مرض الموت والتزوج من الحوائج الأصلية ولا يصح في حق الزيادة على مهر المثل لأنه محاباة فيكون وصية فيرفع عن العاقلة لأنهم يتحملون عنها، فمن المحال أن ترجع عليهم بموجب جنايتها، وهذه الزيادة وصية لهم لأنهم من أهل الوصية لما أنهم ليسوا بقتلة، فإن كانت تخرج من الثلث تسقط، وإن لم تخرج يسقط ثلثه. وقال أبو يوسف ومحمد: كذلك الجواب فيما إذا تزوجها على اليد، لأن العفو عن اليد عفو عما يحدث منه عندهما فاتفق جوابهما في الفصلين. قال: "ومن قطعت يده فاقتص له من اليد ثم مات فإنه يقتل المقتص منه" لأنه تبين أن الجناية كانت قتل عمد وحق المقتص له القود، واستيفاء القطع لا يوجب سقوط القود كمن كان له القود إذا استوفى طرف من عليه القود. وعن أبي يوسف أنه يسقط حقه في القصاص، لأنه لما أقدم على القطع فقد أبرأه عما وراءه. ونحن نقول: إنما أقدم على القطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 ظنا منه أن حقه فيه وبعد السراية تبين أنه في القود فلم يكن مبرئا عنه بدون العلم به. قال: "ومن قتل وليه عمدا فقطع يد قاتله ثم عفا وقد قضي له بالقصاص أو لم يقض فعلى قاطع اليد دية اليد عند أبي حنيفة، وقالا: لا شيء عليه" لأنه استوفى حقه فلا يضمنه، وهذا لأنه استحق إتلاف النفس بجميع أجزائها، ولهذا لو لم يعف لا يضمنه، وكذا إذا سرى وما برأ أو ما عفا وما سرى، أو قطع ثم حز رقبته قبل البرء أو بعده وصار كما إذا كان له قصاص في الطرف فقطع أصابعه ثم عفا لا يضمن الأصابع. وله أنه استوفى غير حقه، لأن حقه في القتل. وهذا قطع وإبانة، وكان القياس أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فإن له أن يتلفه تبعا، وإذا سقط وجب المال، وإنما لا يجب في الحال لأنه يحتمل أن يصير قتلا بالسراية فيكون مستوفيا حقه، وملك القصاص في النفس ضروري لا يظهر إلا عند الاستيفاء أو العفو أو الاعتياض لما أنه تصرف فيه، فأما قبل ذلك لم يظهر لعدم الضرورة بخلاف ما إذا سرى لأنه استيفاء. وأما إذا لم يعف وما سرى، قلنا: إنما يتبين كونه قطعا بغير حق بالبرء حتى لو قطع وما عفا وبرأ الصحيح أنه على هذا الخلاف، وإذا قطع ثم حز رقبته قبل البرء فهو استيفاء ولو حز بعد البرء فهو على هذا الخلاف هو الصحيح، والأصابع وإن كانت تابعة قياما بالكف فالكف تابعة لها غرضا، بخلاف الطرف لأنها تابعة للنفس من كل وجه. قال: "ومن له القصاص في الطرف إذا استوفاه ثم سرى إلى النفس ومات يضمن دية النفس عند أبي حنيفة وقالا: لا يضمن" لأنه استوفى حقه وهو القطع، ولا يمكن التقييد بوصف السلامة لما فيه من سد باب القصاص، إذ الاحتراز عن السراية ليس في وسعه فصار كالإمام والبزاغ والحجام والمأمور بقطع اليد. وله أنه قتل بغير حق لأن حقه في القطع وهذا وقع قتلا ولهذا لو وقع ظلما كان قتلا. ولأنه جرح أفضى إلى فوات الحياة في مجرى العادة وهو مسمى القتل، إلا أن القصاص سقط للشبهة فوجب المال بخلاف ما استشهدا به من المسائل إلا أنه مكلف فيها بالفعل، إما تقلدا كالإمام أو عقدا كما في غيره منها. والواجبات لا تتقيد بوصف السلامة كالرمي إلى الحربي، وفيما نحن فيه لا التزام ولا وجوب، إذ هو مندوب إلى العفو فيكون من باب الإطلاق فأشبه الاصطياد، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 باب الشهادة في القتل قال: "ومن قتل وله ابنان حاضر وغائب فأقام الحاضر البينة على القتل ثم قدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 الغائب فإنه يعيد البينة" عند أبي حنيفة، وقالا: لا يعيد "وإن كان خطأ لم يعدها بالإجماع" وكذلك الدين يكون لأبيهما على آخر. لهما في الخلافية أن القصاص طريقه طريق الوراثة كالدين، وهذا لأنه عوض عن نفسه فيكون الملك فيه لمن له الملك في المعوض كما في الدية، ولهذا لو انقلب مالا يكون للميت، ولهذا يسقط بعفوه بعد الجرح قبل الموت فينتصب أحد الورثة خصما عن الباقين. وله أن القصاص طريقه الخلافة دون الوراثة؛ ألا ترى أن ملك القصاص يثبت بعد الموت والميت ليس من أهله، بخلاف الدين والدية لأنه من أهل الملك في الأموال، كما إذا نصب شبكة فتعلق بها صيد بعد موته فإنه يملكه، وإذا كان طريقه الإثبات ابتداء لا ينتصب أحدهم خصما عن الباقين فيعيد البينة بعد حضوره "فإن كان أقام القاتل البينة أن الغائب قد عفا فالشاهد خصم ويسقط القصاص" لأنه ادعى على الحاضر سقوط حقه في القصاص إلى مال، ولا يمكنه إثباته إلا بإثبات العفو من الغائب فينتصب الحاضر خصما عن الغائب "وكذلك عبد بين رجلين قتل عمدا وأحد الرجلين غائب فهو على هذا" لما بيناه. قال: "فإن كان الأولياء ثلاثة فشهد أثنان منهم على الآخر أنه قد عفا فشهادتهما باطلة وهو عفو منهما" لأنهما يجران بشهادتهما إلى أنفسهما مغنما وهو انقلاب القود مالا "فإن صدقهما القاتل فالدية بينهم أثلاثا" معناه: إذا صدقهما وحده، لأنه لما صدقهما فقد أقر بثلثي الدية لهما فصح إقراره، إلا أنه يدعي سقوط حق المشهود عليه وهو ينكر فلا يصدق ويغرم نصيبه "وإن كذبهما فلا شيء لهما وللآخر ثلث الدية" ومعناه: إذا كذبهما القاتل أيضا، وهذا لأنهما أقرا على أنفسهما بسقوط القصاص فقبل وادعيا انقلاب نصيبهما مالا فلا يقبل إلا بحجة، وينقلب نصيب المشهود عليه مالا لأن دعواهما العفو عليه وهو ينكر بمنزلة ابتداء العفو منهما في حق المشهود عليه، لأن سقوط القود مضاف إليهما، وإن صدقهما المشهود عليه وحده غرم القاتل ثلث الدية للمشهود عليه لإقراره له بذلك. قال: "وإذا شهد الشهود أنه ضربه فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القود إذا كان عمدا" لأن الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وفي ذلك القصاص على ما بيناه، والشهادة على قتل العمد تتحقق على هذا الوجه، لأن الموت بسبب الضرب إنما يعرف إذا صار بالضرب صاحب فراش حتى مات، وتأويله إذا شهدوا أنه ضربه بشيء جارح. قال: " وإذا اختلف شاهدا القتل في الأيام أو في البلد أو في الذي كان به القتل فهو باطل" لأن القتل لا يعاد ولا يكرر، والقتل في زمان أو في مكان غير القتل في زمان أو مكان آخر، والقتل بالعصا غير القتل بالسلاح لأن الثاني عمد والأول شبه العمد، ويختلف أحكامهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 فكان على كل قتل شهادة فرد "وكذا إذا قال أحدهما: قتله بعصا وقال الآخر لا أدري بأي شيء قتله فهو باطل" لأن المطلق يغاير المقيد. قال: "وإن شهدا أنه قتله وقالا: لا ندري بأي شيء قتله ففيه الدية استحسانا" والقياس أن لا تقبل هذه الشهادة لأن القتل يختلف باختلاف الآلة فجهل المشهود به. وجه الاستحسان أنهم شهدوا بقتل مطلق والمطلق ليس بمجمل فيجب أقل موجبيه وهو الدية ولأنه يحمل إجمالهم في الشهادة على إجمالهم بالمشهود عليه سترا عليه. وأولوا كذبهم في نفي العلم بظاهر ما ورد بإطلاقه في إصلاح ذات البين وهذا في معناه، فلا يثبت الاختلاف بالشك، وتجب الدية في ماله لأن الأصل في الفعل العمد فلا يلزم العاقلة. قال: "وإذا أقر رجلان كل واحد منهما أنه قتل فلانا فقال الولي: قتلتماه جميعا فله أن يقتلهما، وإن شهدوا على رجل أنه قتل فلانا وشهد آخرون على آخر بقتله وقال الولي: قتلتماه جميعا بطل ذلك كله" والفرق أن الإقرار والشهادة يتناول كل واحد منهما وجود كل القتل ووجوب القصاص، وقد حصل التكذيب في الأولى من المقر له وفي الثانية من المشهود له، غير أن تكذيب المقر له المقر في بعض ما أقر به لا يبطل إقراره في الباقي، وتكذيب المشهود له الشاهد في بعض ما شهد به يبطل شهادته أصلا، لأن التكذيب تفسيق وفسق الشاهد يمنع القبول، أما فسق المقر لا يمنع صحة الإقرار، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 باب في اعتبار حالة القتل قال: "ومن رمى مسلما فارتد المرمي إليه والعياذ بالله ثم وقع به السهم فعلى الرامي الدية عند أبي حنيفة. وقالا: لا شيء عليه" لأنه بالارتداد أسقط تقوم نفسه فيكون مبرئا للرامي عن موجبه كما إذا أبرأه بعد الجرح قبل الموت. وله أن الضمان يجب بفعله وهو الرمي إذ لا فعل منه بعد فتعتبر حالة الرمي والمرمي إليه فيها متقوم. ولهذا تعتبر حالة الرمي في حق الحل حتى لا يحرم بردة الرامي بعد الرمي، وكذا في حق التكفير حتى جاز بعد الجرح قبل الموت. والفعل وإن كان عمدا فالقود سقط للشبهة ووجبت الدية. "ولو رمى إليه وهو مرتد فأسلم ثم وقع به السهم فلا شيء عليه في قولهم جميعا، وكذا إذا رمى حربيا فأسلم" لأن الرمي ما انعقد موجبا للضمان لعدم تقوم المحل فلا ينقلب موجبا لصيرورته متقوما بعد ذلك. قال: "وإن رمى عبدا فأعتقه مولاه ثم وقع السهم به فعليه قيمته للمولى" عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 أبي حنيفة. وقال محمد: عليه فضل ما بين قيمته مرميا إلى غير مرمي، وقول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة. له أن العتق قاطع للسراية، وإذا انقطعت بقي مجرد الرمي وهو جناية ينتقص بها قيمة المرمي إليه بالإضافة إلى ما قبل الرمي فيجب ذلك. ولهما أنه يصير قاتلا من وقت الرمي لأن فعله الرمي وهو مملوك في تلك الحالة فتجب قيمته، بخلاف القطع والجرح لأنه إتلاف بعض المحل، وأنه يوجب الضمان للمولى، وبعد السراية لو وجب شيء لوجب للعبد فتصير النهاية مخالفة للبداية. أما الرمي قبل الإصابة ليس بإتلاف شيء منه لأنه لا أثر له في المحل. وإنما قلت الرغبات فيه فلا يجب به ضمان فلا تتخالف النهاية والبداية فتجب قيمته للمولى. وزفر وإن كان يخالفنا في وجوب القيمة نظرا إلى حالة الإصابة فالحجة عليه ما حققناه. قال: "ومن قضي عليه بالرجم فرماه رجل ثم رجع أحد الشهود ثم وقع به الحجر فلا شيء على الرامي" لأن المعتبر حالة الرمي وهو مباح الدم فيها. "وإذا رمى المجوسي صيدا ثم أسلم ثم وقعت الرمية بالصيد لم يؤكل، وإن رماه وهو مسلم ثم تمجس والعياذ بالله أكل" لأن المعتبر حال الرمي في حق الحل والحرمة إذ الرمي هو الذكاة فتعتبر الأهلية وانسلابها عنده. "ولو رمى المحرم صيدا ثم حل فوقعت الرمية بالصيد فعليه الجزاء، وإن رمى حلال صيدا ثم أحرم فلا شيء عليه" لأن الضمان إنما يجب بالتعدي وهو رميه في حالة الإحرام، وفي الأول هو محرم وقت الرمي وفي الثاني حلال فلهذا افترقا، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 كتاب الديات قتل الخطأ تجب به الدية مدخل ... كتاب الديات قال: "وفي شبه العمد دية مغلظة على العاقلة وكفارة على القاتل" وقد بيناه في أول الجنايات. قال: "وكفارته عتق رقبة مؤمنة" لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] الآية "فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" بهذا النص "ولا يجزئ فيه الإطعام" لأنه لم يرد به نص والمقادير تعرف بالتوقيف، ولأنه جعل المذكور كل الواجب بحرف الفاء، أو لكونه كل المذكور على ما عرف "ويجزئه رضيع أحد أبويه مسلم" لأنه مسلم به والظاهر بسلامة أطرافه "ولا يجزئ ما في البطن" لأنه لا تعرف حياته ولا سلامته. قال: "وهو الكفارة في الخطأ" لما تلوناه "وديته عند أبي حنيفة وأبي يوسف مائة من الإبل أرباعا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة" وقال محمد والشافعي أثلاثا: ثلاثون جذعة وثلاثون حقة، وأربعون ثنية، كلها خلفات في بطونها أولادها، لقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا، وفيه مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها" وعن عمر رضي الله عنه: ثلاثون حقة وثلاثون جذعة، ولأن دية شبه العمد أغلظ وذلك فيما قلنا. ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وما روياه غير ثابت لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في صفة التغليظ، وابن مسعود رضي الله عنه قال بالتغليظ أرباعا كما ذكرنا وهو كالمرفوع فيعارض به. قال: "ولا يثبت التغليظ إلا في الإبل خاصة" لأن التوقيف فيه، فإن قضى بالدية في غير الإبل لم تتغلظ لما قلنا. قال: "وقتل الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة على القاتل" لما بينا من قبل. قال: "والدية في الخطأ مائة من الإبل أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض وعشرون حقة وعشرون جذعة" وهذا قول ابن مسعود رضي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 عنه، وأخذنا نحن والشافعي به لروايته "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل قتل خطأ أخماسا" على نحو ما قال، ولأن ما قلناه أخف فكان أليق بحالة الخطإ لأن الخاطئ معذور، غير أن عند الشافعي يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض والحجة عليه ما رويناه. قال: "ومن العين ألف دينار ومن الورق عشرة آلاف درهم" وقال الشافعي: من الورق اثنا عشر ألفا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بذلك. ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه "أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم". وتأويل ما روي أنه قضى من دراهم كان وزنها وزن ستة وقد كانت كذلك. قال: "ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة عند أبي حنيفة، وقالا منها ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، ومن الحلل مائتا حلة كل حلة ثوبان". لأن عمر رضي الله عنه هكذا جعل على أهل كل مال منها. وله أن التقدير إنما يستقيم بشيء معلوم المالية، وهذه الأشياء مجهولة المالية ولهذا لا يقدر بها ضمان، والتقدير بالإبل عرف بالآثار المشهورة وعدمناها في غيرها. وذكر في المعاقل أنه لو صالح على الزيادة على مائتي حلة أو مائتي بقرة لا يجوز، وهذا آية التقدير بذلك. ثم قيل: هو قول الكل فيرتفع الخلاف، وقيل هو قولهما خاصة. قال: "ودية المرأة على النصف من دية الرجل" وقد ورد هذا اللفظ موقوفا على علي رضي الله عنه ومرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وقال الشافعي: ما دون الثلث لا يتنصف، وإمامه فيه زيد بن ثابت رضي الله عنه، والحجة عليه ما رويناه بعمومه، ولأن حالها أنقص من حال الرجل ومنفعتها أقل، وقد ظهر أثر النقصان بالتنصيف في النفس فكذا في أطرافها وأجزائها اعتبارا بها وبالثلث وما فوقه. قال: "ودية المسلم والذمي سواء" وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وقال مالك: دية اليهودي والنصراني ستة آلاف درهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "عقل الكافر نصف عقل المسلم" والكل عنده اثنا عشر ألفا. وللشافعي ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار" وكذلك قضى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وما رواه الشافعي رحمه الله لم يعرف راويه ولم يذكر في كتب الحديث، وما رويناه أشهر مما رواه مالك فإنه ظهر به عمل الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 فصل: فيما دون النفس قال: "وفي النفس الدية" وقد ذكرناه. قال: "وفي المارن الدية، وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية" والأصل فيه ما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في النفس الدية، وفي اللسان الدية، وفي المارن الدية" وهكذا هو في الكتاب الذي كتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم رضي الله عنه. والأصل في الأطراف أنه إذا فوت جنس منفعة على الكمال أو أزال جمالا مقصودا في الآدمي على الكمال يجب كل الدية لإتلافه النفس من وجه وهو ملحق بالإتلاف من كل وجه تعظيما للآدمي. أصله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية كلها في اللسان والأنف، وعلى هذا تنسحب فروع كثيرة. فنقول: في الأنف الدية لأنه أزال الجمال على الكمال وهو مقصود، وكذا إذا قطع المارن أو الأرنبة لما ذكرنا، ولو قطع المارن مع القصبة لا يزاد على دية واحدة لأنه عضو واحد، وكذا اللسان لفوات منفعة مقصودة وهو النطق، وكذا في قطع بعضه إذا منع الكلام لتفويت منفعة مقصودة وإن كانت الآلة قائمة، ولو قدر على التكلم ببعض الحروف قيل: تقسم على عدد الحروف، وقيل: على عدد حروف تتعلق باللسان؛ فبقدر ما لا يقدر تجب، وقيل: إن قدر على أداء أكثرها تجب حكومة عدل لحصول الإفهام مع الاختلال، وإن عجز عن أداء الأكثر يجب كل الدية لأن الظاهر أنه لا تحصل منفعة الكلام، وكذا الذكر لأنه يفوت به منفعة الوطء والإيلاد واستمساك البول والرمي به ودفق الماء والإيلاج الذي هو طريق الإعلاق عادة، وكذا في الحشفة الدية كاملة، لأن الحشفة أصل في منفعة الإيلاج والدفق والقصبة كالتابع له. قال: "وفي العقل إذا ذهب بالضرب الدية" لفوات منفعة الإدراك إذ به ينتفع بنفسه في معاشه ومعاده. قال: "وكذا إذا ذهب سمعه أو بصره أو شمه أو ذوقه" لأن كل واحد منها منفعة مقصودة، وقد روي: أن عمر رضي الله عنه قضى بأربع ديات في ضربة واحدة ذهب بها العقل والكلام والسمع والبصر. قال: "وفي اللحية إذا حلقت فلم تنبت الدية" لأنه يفوت به منفعة الجمال. قال: "وفي شعر الرأس الدية" لما قلنا. وقال مالك: وهو قول الشافعي تجب فيهما حكومة عدل، لأن ذلك زيادة في الآدمي، ولهذا يحلق شعر الرأس كله، واللحية بعضها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 في بعض البلاد وصار كشعر الصدر والساق ولهذا يجب في شعر العبد نقصان القيمة. ولنا أن اللحية في وقتها جمال وفي حلقها تفويته على الكمال فتجب الدية كما في الأذنين الشاخصتين، وكذا شعر الرأس جمال؛ ألا ترى أن من عدمه خلقة يتكلف في ستره، بخلاف شعر الصدر والساق لأنه لا يتعلق به جمال. وأما لحية العبد فعن أبي حنيفة أنه يجب فيها كمال القيمة، والتخريج على الظاهر أن المقصود بالعبد المنفعة بالاستعمال دون الجمال بخلاف الحر. قال: "وفي الشارب حكومة عدل هو الأصح" لأنه تابع للحية فصار كبعض أطرافها. قال: "ولحية الكوسج إن كان على ذقنه شعرات معدودة فلا شيء في حلقه" لأن وجوده يشينه ولا يزينه "وإن كان أكثر من ذلك وكان على الخد والذقن جميعا لكنه غير متصل ففيه حكومة عدل" لأن فيه بعض الجمال "وإن كان متصلا ففيه كمال الدية" لأنه ليس بكوسج وفيه معنى الجمال، وهذا كله إذا فسد المنبت، فإن نبتت حتى استوى كما كان لا يجب شيء لأنه لم يبق أثر الجناية ويؤدب على ارتكابه ما لا يحل، وإن نبتت بيضاء فعن أبي حنيفة أنه لا يجب شيء في الحر لأنه يزيد جمالا، وفي العبد تجب حكومة عدل لأنه ينقص قيمته، وعندهما تجب حكومة عدل لأنه في غير أوانه يشينه ولا يزينه، ويستوي العمد والخطأ على هذا الجمهور. "وفي الحاجبين الدية وفي إحداهما نصف الدية" وعند مالك والشافعي رحمهما الله تجب حكومة عدل، وقد مر الكلام فيه في اللحية. قال: "وفي العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الأذنين الدية، وفي الأنثيين الدية" كذا روي في حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام. قال: "وفي كل واحد من هذه الأشياء نصف الدية" وفيما كتبه النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم: "وفي العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية" ولأن في تفويت الاثنين من هذه الأشياء تفويت جنس المنفعة أو كمال الجمال فيجب كل الدية، وفي تفويت إحداهما تفويت النصف فيجب نصف الدية. قال: "وفي ثديي المرأة الدية" لما فيه من تفويت جنس المنفعة "وفي إحداهما نصف دية المرأة" لما بينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 قال: "وفي أشفار العينين الدية وفي إحداها ربع الدية" قال رضي الله عنه: يحتمل أن مراده الأهداب مجازا كما ذكره محمد في الأصل للمجاورة كالراوية للقربة وهي حقيقة في البعير، وهذا لأنه يفوت الجمال على الكمال وجنس المنفعة وهي منفعة دفع الأذى والقذى عن العين إذ هو يندفع بالهدب، وإذا كان الواجب في الكل كل الدية وهي أربعة كان في أحدها ربع الدية وفي ثلاثة منها ثلاثة أرباعها، ويحتمل أن يكون مراده منبت الشعر والحكم فيه هكذا. "ولو قطع الجفون بأهدابها ففيه دية واحدة" لأن الكل كشيء واحد وصار كالمارن مع القصبة. قال: "وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر الدية" لقوله عليه الصلاة والسلام: "في كل أصبع عشر من الإبل" ولأن في قطع الكل تفويت جنس المنفعة وفيه دية كاملة وهي عشر فتنقسم الدية عليها. قال: "والأصابع كلها سواء" لإطلاق الحديث، ولأنها سواء في أصل المنفعة فلا تعتبر الزيادة فيه كاليمين مع الشمال، وكذا أصابع الرجلين لأنه يفوت بقطع كلها منفعة المشي فتجب الدية كاملة، ثم فيهما عشر أصابع فتنقسم الدية عليها أعشارا. قال: "وفي كل أصبع فيها ثلاثة مفاصل؛ ففي أحدها. ثلث دية الأصبع وما فيها مفصلان ففي أحدهما نصف دية الأصبع" وهو نظير انقسام دية اليد على الأصابع. قال: "وفي كل سن خمس من الإبل" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "وفي كل سن خمس من الإبل" والأسنان والأضراس كلها سواء لإطلاق ما روينا، ولما روي في بعض الروايات: والأسنان كلها سواء، ولأن كلها في أصل المنفعة سواء فلا يعتبر التفاضل كالأيدي والأصابع، وهذا إذا كان خطأ، فإن كان عمدا ففيه القصاص وقد مر في الجنايات. قال: "ومن ضرب عضوا فأذهب منفعته ففيه دية كاملة كاليد إذا شلت والعين إذا ذهب ضوءها" لأن المتعلق تفويت جنس المنفعة لا فوات الصورة. "ومن ضرب صلب غيره فانقطع ماؤه تجب الدية" لتفويت جنس المنفعة "وكذا لو أحدبه" لأنه فوت جمالا على الكمال وهو استواء القامة "فلو زالت الحدوبة لا شيء عليه" لزوالها لا عن أثر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 فصل: في الشجاج قال: "الشجاج عشرة: الحارصة" وهي التي تحرص الجلد: أي تخدشه ولا تخرج الدم "والدامعة" وهي التي تظهر الدم ولا تسيله كالدمع من العين "والدامية" وهي التي تسيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 الدم "والباضعة" وهي التي تبضع الجلد أي تقطعه "والمتلاحمة" وهي التي تأخذ في اللحم "والسمحاق" وهي التي تصل إلى السمحاق وهي جلدة رقيقة بين اللحم وعظم الرأس "والموضحة" وهي التي توضح العظم أي تبينه "والهاشمة" وهي التي تهشم العظم: أي تكسره "والمنقلة" وهي التي تنقل العظم بعد الكسر: أي تحوله "والآمة" وهي التي تصل إلى أم الرأس وهو الذي فيه الدماغ. قال: "ففي الموضحة القصاص إن كانت عمدا" لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالقصاص في الموضحة ولأنه يمكن أن ينتهي السكين إلى العظم فيتساويان فيتحقق القصاص. قال: "ولا قصاص في بقية الشجاج" لأنه لا يمكن اعتبار المساواة فيها لأنه لا حد ينتهي السكين إليه، ولأن فيما فوق الموضحة كسر العظم ولا قصاص فيه، وهذا رواية عن أبي حنيفة. وقال محمد في الأصل وهو ظاهر الرواية: يجب القصاص فيما قبل الموضحة لأنه يمكن اعتبار المساواة فيه، إذ ليس فيه كسر العظم ولا خوف هلاك غالب فيسبر غورها بمسبار ثم تتخذ حديدة بقدر ذلك فيقطع بها مقدار ما قطع فيتحقق استيفاء القصاص. قال: "وفيما دون الموضحة حكومة عدل" لأنه ليس فيها أرش مقدر ولا يمكن إهداره فوجب اعتباره بحكم العدل، وهو مأثور عن النخعي وعمر بن عبد العزيز رحمه الله. قال: "وفي الموضحة إن كانت خطأ نصف عشر الدية، وفي الهاشمة عشر الدية، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشر الدية، وفي الآمة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، فإن نفذت فهما جائفتان ففيهما ثلثا الدية" لما روي في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمسة عشر، وفي الآمة" ويروى: "المأمومة ثلث الدية" وقال عليه الصلاة والسلام: "في الجائفة ثلث الدية" وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية، ولأنها إذا نفذت نزلت منزلة جائفتين إحداهما من جانب البطن والأخرى من جانب الظهر وفي كل جائفة ثلث الدية فلهذا وجب في النافذة ثلثا الدية. وعن محمد رحمه الله أنه جعل المتلاحمة قبل الباضعة وقال: هي التي يتلاحم فيها الدم ويسود. وما ذكرناه بدءا مروي عن أبي يوسف وهذا اختلاف عبارة لا يعود إلى معنى وحكم وبعد هذا شجة أخرى تسمى الدامغة، وهي التي تصل إلى الدماغ، وإنما لم يذكرها لأنها تقع قتلا في الغالب لا جناية مقتصرة منفردة بحكم على حدة، ثم هذه الشجاج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 تختص بالوجه والرأس لغة، وما كان في غير الوجه والرأس يسمى جراحة، والحكم مرتب على الحقيقة في الصحيح، حتى لو تحققت في غيرهما نحو الساق واليد لا يكون لها أرش مقدر، وإنما تجب حكومة العدل لأن التقدير بالتوقيف وهو إنما ورد فيما يختص بهما، ولأنه إنما ورد الحكم فيها لمعنى الشين الذي يلحقه ببقاء أثر الجراحة، والشين يختص بما يظهر منها في الغالب وهو العضوان هذان لا سواهما. وأما اللحيان فقد قيل ليسا من الوجه وهو قول مالك، حتى لو وجد فيهما ما فيه أرش مقدر لا يجب المقدر. وهذا لأن الوجه مشتق من المواجهة، ولا مواجهة للناظر فيهما إلا أن عندنا هما من الوجه لاتصالهما به من غير فاصلة، وقد يتحقق فيه معنى المواجهة أيضا. وقالوا: الجائفة تختص بالجوف: جوف الرأس أو جوف البطن، وتفسير حكومة العدل على ما قاله الطحاوي أن يقوم مملوكا بدون هذا الأثر ويقوم وبه هذا الأثر، ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين، فإن كان نصف عشر القيمة يجب نصف عشر الدية، وإن كان ربع عشر فربع عشر. وقال الكرخي: ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية، لأن ما لا نص فيه يرد إلى المنصوص عليه والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 فصل: وفي أصابع اليد نصف الدية ... فصل: قال: "وفي أصابع اليد نصف الدية" لأن في كل أصبع عشر الدية على ما روينا، فكان في الخمس نصف الدية ولأن في قطع الأصابع تفويت جنس منفعة البطش وهو الموجب على ما مر "فإن قطعها مع الكف ففيه أيضا نصف الدية" لقوله عليه الصلاة والسلام: "وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية" ولأن الكف تبع للأصابع لأن البطش بها "وإن قطعها مع نصف الساعد ففي الأصابع والكف نصف الدية، وفي الزيادة حكومة عدل" وهو رواية عن أبي يوسف، وعنه أن ما زاد على أصابع اليد والرجل فهو تبع للأصابع إلى المنكب وإلى الفخذ لأن الشرع أوجب في اليد الواحدة نصف الدية، واليد اسم لهذه الجارحة إلى المنكب فلا يزاد على تقدير الشرع ولهما أن اليد آلة باطشة والبطش يتعلق بالكف، والأصابع دون الذراع فلم يجعل الذراع تبعا في حق التضمين ولأنه لا وجه إلى أن يكون تبعا للأصابع لأن بينهما عضوا كاملا ولا إلى أن يكون تبعا للكف لأنه تابع ولا تبع للتبع. قال: "وإن قطع الكف من المفصل وفيها أصبع واحدة ففيه عشر الدية، وإن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 أصبعين فالخمس، ولا شيء في الكف" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: ينظر إلى أرش الكف والأصبع فيكون عليه الأكثر، ويدخل القليل في الكثير لأنه لا وجه إلى الجمع بين الأرشين لأن الكل شيء واحد، ولا إلى إهدار أحدهم لأن كل واحد منهما أصل من وجه فرجحنا بالكثرة. وله أن الأصابع أصل والكف تابع حقيقة وشرعا، لأن البطش يقوم بها، وأوجب الشرع في أصبع واحدة عشرا من الإبل، والترجيح من حيث الذات والحكم أولى من الترجيح من حيث مقدار الواجب "ولو كان في الكف ثلاثة أصابع يجب أرش الأصابع ولا شيء في الكف بالإجماع" لأن الأصابع أصول في التقويم، وللأكثر حكم الكل فاستتبعت الكف، كما إذا كانت الأصابع قائمة بأسرها. قال: "وفي الأصبع الزائدة حكومة عدل" تشريفا للآدمي لأنه جزء من يده، ولكن لا منفعة فيه ولا زينة "وكذلك السن الشاغية" لما قلنا. "وفي عين الصبي وذكره ولسانه إذا لم تعلم صحته حكومة عدل" وقال الشافعي: تجب فيه دية كاملة، لأن الغالب فيه الصحة فأشبه قطع المارن والأذن. ولنا أن المقصود من هذه الأعضاء المنفعة، فإن لم يعلم صحتها لا يجب الأرش الكامل بالشك، والظاهر لا يصلح حجة للإلزام بخلاف المارن والأذن الشاخصة، لأن المقصود هو الجمال وقد فوته على الكمال "وكذا لو استهل الصبي" لأنه ليس بكلام وإنما هو مجرد صوت ومعرفة الصحة فيه بالكلام وفي الذكر بالحركة وفي العين بما يستدل به على النظر فيكون حكمه بعد ذلك حكم البالغ في العمد والخطإ. قال: "ومن شج رجلا فذهب عقله أو شعر رأسه دخل أرش الموضحة في الدية" لأن بفوات العقل تبطل منفعة جميع الأعضاء فصار كما إذا أوضحه فمات، وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر، حتى لو نبت يسقط، والدية بفوات كل الشعر وقد تعلقا بسبب واحد فدخل الجزء في الجملة كما إذا قطع أصبع رجل فشلت يده. وقال زفر: لا يدخل لأن كل واحد منهما جناية فيما دون النفس فلا يتداخلان كسائر الجنايات. وجوابه ما ذكرناه. قال: "وإن ذهب سمعه أو بصره أو كلامه فعليه أرش الموضحة مع الدية" قالوا: هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وعن أبي يوسف أن الشجة تدخل في دية السمع والكلام ولا تدخل في دية البصر. وجه الأول أن كلا منهما جناية فيما دون النفس والمنفعة مختصة به فأشبه الأعضاء المختلفة، بخلاف العقل لأن منفعته عائدة إلى جميع الأعضاء على ما بينا. ووجه الثاني أن السمع والكلام مبطن فيعتبر بالعقل، والبصر ظاهر فلا يلحق به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 قال: "وفي الجامع الصغير: ومن شج رجلا موضحة فذهبت عيناه فلا قصاص في ذلك" عند أبي حنيفة. قالوا: وينبغي أن تجب الدية فيهما "وقالا: في الموضحة القصاص" قالوا: وينبغي أن تجب الدية في العينين. قال: "وإن قطع أصبع رجل من المفصل الأعلى فشل ما بقي من الأصبع أو اليد كلها لا قصاص عليه في شيء من ذلك" وينبغي أن تجب الدية في المفصل الأعلى وفيما بقي حكومة عدل "وكذلك لو كسر سن رجل فاسود ما بقي" ولم يحك خلافا وينبغي أن تجب الدية في السن كله "ولو قال: اقطع المفصل واترك ما يبس أو اكسر القدر المكسور واترك الباقي لم يكن له ذلك" لأن الفعل في نفسه ما وقع موجبا للقود فصار كما لو شجه منقلة فقال: أشجه موضحة أترك الزيادة. لهما في الخلافية أن الفعل في محلين فيكون جنايتين مبتدأتين فالشبهة في إحداهما لا تتعدى إلى الأخرى، كمن رمى إلى رجل عمدا فأصابه ونفذ منه إلى غيره فقتله يجب القود في الأول والدية في الثاني. وله أن الجراحة الأولى سارية والجزاء بالمثل، وليس في وسعه الساري فيجب المال، ولأن الفعل واحد حقيقة وهو الحركة القائمة، وكذا المحل متحد من وجه لاتصال أحدهما بالآخر فأورثت نهايته شبهة الخطأ في البداية، بخلاف النفسين لأن أحدهما ليس من سراية صاحبه، وبخلاف ما إذا وقع السكين على الأصبع لأنه ليس فعلا مقصودا. قال: "وإن قطع أصبعا فشلت إلى جنبها أخرى فلا قصاص في شيء من ذلك" عند أبي حنيفة. وقالا هما وزفر والحسن: يقتص من الأولى وفي الثانية أرشها. والوجه من الجانبين قد ذكرناه. وروى ابن سماعة عن محمد في المسألة الأولى وهو ما إذا شج موضحة فذهب بصره أنه يجب القصاص فيهما لأن الحاصل بالسراية مباشرة كما في النفس والبصر يجري فيه القصاص، بخلاف الخلافية الأخيرة لأن الشلل لا قصاص فيه، فصار الأصل عند محمد على هذه الرواية أن سراية ما يجب فيه القصاص إلى ما يمكن فيه القصاص يوجب الاقتصاص كما لو آلت إلى النفس وقد وقع الأول ظلما. ووجه المشهور أن ذهاب البصر بطريق التسبيب؛ ألا يرى أن الشجة بقيت موجبة في نفسها ولا قود في التسبيب، بخلاف السراية إلى النفس لأنه لا تبقى الأولى فانقلبت الثانية مباشرة. قال: "ولو كسر بعض السن فسقطت فلا قصاص" إلا على رواية ابن سماعة "ولو أوضحه موضحتين فتآكلتا فهو على الروايتين هاتين". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 قال: "ولو قلع سن رجل فنبتت مكانها أخرى سقط الأرش في قول أبي حنيفة، وقال: عليه الأرش كاملا" لأن الجناية قد تحققت والحادث نعمة مبتدأة من الله تعالى. وله أن الجناية انعدمت معنى فصار كما إذا قلع سن صبي فنبتت لا يجب الأرش بالإجماع لأنه لم يفت عليه منفعة ولا زينة "وعن أبي يوسف أنه تجب حكومة عدل" لمكان الألم الحاصل "ولو قلع سن غيره فردها صاحبها في مكانها ونبت عليه اللحم فعلى القالع الأرش بكماله" لأن هذا مما لا يعتد به إذ العروق لا تعود "وكذا إذا قطع أذنه فألصقها فالتحمت" لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه. "ومن نزع سن رجل فانتزع المنزوعة سنه سن النازع فنبتت سن الأول فعلى الأول لصاحبه خمسمائة درهم" لأنه تبين أنه استوفى بغير حق لأن الموجب فساد المنبت ولم يفسد حيث نبت مكانها أخرى فانعدمت الجناية، ولهذا يستأنى حولا بالإجماع، وكان ينبغي أن ينتظر اليأس في ذلك للقصاص، إلا أن في اعتبار ذلك تضييع الحقوق فاكتفينا بالحول لأنه تنبت فيه ظاهرا، فإذا مضى الحول ولم تنبت قضينا بالقصاص، وإذا نبتت تبين أنا أخطأنا فيه والاستيفاء كان بغير حق، إلا أنه لا يجب القصاص للشبهة فيجب المال. قال: "ولو ضرب إنسان سن إنسان فتحركت يستأنى حولا" ليظهر أثر فعله "فلو أجله القاضي سنة ثم جاء المضروب وقد سقطت سنه فاختلفا قبل السنة فيما سقط بضربه فالقول للمضروب" ليكون التأجيل مفيدا، وهذا بخلاف ما إذا شجه موضحة فجاء وقد صارت منقلة فاختلفا حيث يكون القول قول الضارب لأن الموضحة لا تورث المنقلة، أما التحريك فيؤثر في السقوط فافترقا "وإن اختلفا في ذلك بعد السنة فالقول للضارب" لأنه ينكر أثر فعله وقد مضى الأجل الذي وقته القاضي لظهور الأثر فكان القول للمنكر "ولو لم تسقط لا شيء على الضارب" وعن أبي يوسف أنه تجب حكومة الألم، وسنبين الوجهين بعد هذا إن شاء الله تعالى "ولو لم تسقط ولكنها اسودت يجب الأرش في الخطإ على العاقلة وفي العمد في ماله، ولا يجب القصاص" لأنه لا يمكنه أن يضربه ضربا تسود منه "وكذا إذا كسر بعضه واسود الباقي" لا قصاص لما ذكرنا "وكذا لو احمر أو اخضر" ولو اصفر فيه روايتان. قال: "ومن شج رجلا فالتحمت ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش" عند أبي حنيفة لزوال الشين الموجب. وقال أبو يوسف: يجب عليه أرش الألم وهو حكومة عدل، لأن الشين إن زال فالألم الحاصل ما زال فيجب تقويمه. وقال محمد: عليه أجرة الطبيب، لأنه إنما لزمه الطبيب وثمن الدواء بفعله فصار كأنه أخذ ذلك من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 ماله، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن المنافع على أصلنا لا تتقوم إلا بعقد أو بشبهة، ولم يوجد في حق الجاني فلا يغرم شيئا. قال: "ومن ضرب رجلا مائة سوط فجرحه فبرئ منها فعليه أرش الضرب" معناه: إذا بقي أثر الضرب، فأما إذا لم يبق أثره فهو على اختلاف قد مضى في الشجة الملتحمة. قال: "ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله خطأ قبل البرء فعليه الدية وسقط عنه أرش اليد" لأن الجناية من جنس واحد والموجب واحد وهو الدية وإنها بدل النفس بجميع أجزائها فدخل الطرف في النفس كأنه قتله ابتداء. قال: "ومن جرح رجلا جراحة لم يقتص منه حتى يبرأ" وقال الشافعي رحمه الله: يقتص منه في الحال اعتبارا بالقصاص في النفس، وهذا لأن الموجب قد قد تحقق فلا يعطل. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "يستأنى في الجراحات سنة" ولأن الجراحات يعتبر فيها مآلها لا حالها لأن حكمها في الحال غير معلوم فلعلها تسري إلى النفس فيظهر أنه قتل وإنما يستقر الأمر بالبرء. قال: "وكل عمد سقط القصاص فيه بشبهة فالدية في مال القاتل، وكل أرش وجب بالصلح فهو في مال القاتل" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تعقل العواقل عمدا" الحديث. وهذا عمد، غير أن الأول يجب في ثلاث سنين لأنه مال وجب بالقتل ابتداء فأشبه شبه العمد. والثاني يجب حالا لأنه مال وجب بالعقد فأشبه الثمن في البيع. قال: "وإن قتل الأب ابنه عمدا فالدية في ماله في ثلاث سنين" وقال الشافعي رحمه الله: تجب حالة لأن الأصل أن ما يجب بالإتلاف يجب حالا، والتأجيل للتخفيف في الخاطئ وهذا عامد فلا يستحقه، ولأن المال وجب جبرا لحقه، وحقه في نفسه حال فلا ينجبر بالمؤجل. ولنا أنه مال واجب بالقتل فيكون مؤجلا كدية الخطإ وشبه العمد، وهذا لأن القياس يأبى تقوم الآدمي بالمال لعدم التماثل، والتقويم ثبت بالشرع وقد ورد به مؤجلا لا معجلا فلا يعدل عنه لا سيما إلى زيادة، ولما لم يجز التغليط باعتبار العمدية قدرا لا يجوز وصفا "وكل جناية اعترف بها الجاني فهي في ماله ولا يصدق على عاقلته" لما روينا، ولأن الإقرار لا يتعدى المقر لقصور ولايته عن غيره فلا يظهر في حق العاقلة. قال: "وعمد الصبي والمجنون خطأ وفيه الدية" على العاقلة، وكذلك كل جناية موجبها خمسمائة فصاعدا والمعتوه كالمجنون "وقال الشافعي رحمه الله: عمده عمد حتى تجب الدية في ماله حالة" لأنه عمد حقيقة، إذ العمد هو القصد غير أنه تخلف عنه أحد حكميه وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 القصاص فينسحب عليه حكمه الآخر وهو الوجوب في ماله، ولهذا تجب الكفارة به، ويحرم عن الميراث على أصله لأنهما يتعلقان بالقتل. ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل عقل المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، ولأن الصبي مظنة المرحمة، والعاقل الخاطئ لما استحق التخفيف حتى وجبت الدية على العاقلة فالصبي وهو أعذر أولى بهذا التخفيف. ولا نسلم تحقق العمدية فإنها تترتب على العلم والعلم بالعقل، والمجنون عديم العقل والصبي قاصر العقل فأنى يتحقق منهما القصد وصار كالنائم. وحرمان الميراث عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة والكفارة كاسمها ستارة: ولا ذنب تستره لأنهما مرفوعا القلم والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 فصل: في الجنين قال: "وإذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة وهي نصف عشر الدية" قال رضي الله عنه: معناه دية الرجل، وهذا في الذكر، وفي الأنثى عشر دية المرأة وكل منهما خمسمائة درهم. والقياس أن لا يجب شيء لأنه لم يتيقن بحياته، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق. وجه الاستحسان ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة" ويروى "أو خمسمائة" فتركنا القياس بالأثر، وهو حجة على من قدرها بستمائة نحو مالك والشافعي "وهي على العاقلة" عندنا إذا كانت خمسمائة درهم. وقال مالك: في ماله لأنه بدل الجزء. ولنا أنه عليه الصلاة والسلام: "قضى بالغرة على العاقلة"، ولأنه بدل النفس ولهذا سماه عليه الصلاة والسلام دية حيث قال: "دوه" وقالوا: "أندي من لا صاح ولا استهل" الحديث، إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة. "وتجب في سنة" وقال الشافعي رحمه الله: في ثلاث سنين لأنه بدل النفس ولهذا يكون موروثا بين ورثته. ولنا ما روي عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه قال: "بلغنا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام جعله على العاقلة في سنة" ولأنه إن كان بدل النفس من حيث إنه نفس على حدة فهو بدل العضو من حيث الاتصال بالأم فعملنا بالشبه الأول في حق التوريث، وبالثاني في حق التأجيل إلى سنة، لأن بدل العضو إذا كان ثلث الدية أو أقل أكثر من نصف العشر يجب في سنة، بخلاف أجزاء الدية لأن كل جزء منها على من وجب يجب في ثلاث سنين "ويستوي فيه الذكر والأنثى" لإطلاق ما روينا، ولأن في الحيين إنما ظهر التفاوت لتفاوت معاني الآدمية ولا تفاوت في الجنين فيقدر بمقدار واحد وهو خمسمائة. "فإن ألقته حيا ثم مات ففيه دية كاملة" لأنه أتلف حيا بالضرب السابق "وإن ألقته ميتا ثم ماتت الأم فعليه دية بقتل الأم وغرة بإلقائها" وقد صح "أنه عليه الصلاة والسلام قضى في هذا بالدية والغرة" "وإن ماتت الأم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 الضربة ثم خرج الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه دية في الأم ودية في الجنين" لأنه قاتل شخصين "وإن ماتت ثم ألقت ميتا فعليه دية في الأم ولا شيء في الجنين" وقال الشافعي: تجب الغرة في الجنين لأن الظاهر موته بالضرب فصار كما إذا ألقته ميتا وهي حية. ولنا أن موت الأم أحد سببي موته لأنه يختنق بموتها إذ تنفسه بتنفسها فلا يجب الضمان بالشك. قال: "وما يجب في الجنين موروث عنه" لأنه بدل نفسه فيرثه ورثته "ولا يرثه الضارب، حتى لو ضرب بطن امرأته فألقت ابنه ميتا فعلى عاقلة الأب غرة ولا يرث منها" لأنه قاتل بغير حق مباشرة ولا ميراث للقاتل. قال: "وفي جنين الأمة إذا كان ذكرا نصف عشر قيمته لو كان حيا وعشر قيمته لو كان أنثى" وقال الشافعي: فيه عشر قيمة الأم، لأنه جزء من وجه، وضمان الأجزاء يؤخذ مقدارها من الأصل. ولنا أنه بدل نفسه لأن ضمان الطرف لا يجب إلا عند ظهور النقصان، ولا معتبر في ضمان الجنين فكان بدل نفسه فيقدر بها. وقال أبو يوسف: يجب ضمان النقصان لو انتقصت الأم اعتبارا بجنين البهائم، وهذا لأن الضمان في قتل الرقيق ضمان مال عنده على ما نذكر إن شاء الله تعالى، فصح الاعتبار على أصله. قال: "فإن ضربت فأعتق المولى ما في بطنها ثم ألقته حيا ثم مات ففيه قيمته حيا ولا تجب الدية وإن مات بعد العتق" لأنه قتله بالضرب السابق وقد كان في حالة الرق فلهذا تجب القيمة دون الدية، وتجب قيمته حيا لأنه بالضرب صار قاتلا إياه وهو حي فنظرنا إلى حالتي السبب والتلف. وقيل: هذا عندهما، وعند محمد تجب قيمته ما بين كونه مضروبا إلى كونه غير مضروب، لأن الإعتاق قاطع للسراية على ما يأتيك بعد إن شاء الله تعالى. قال: "ولا كفارة في الجنين" وعند الشافعي تجب لأنه نفس من وجه فتجب الكفارة احتياطا. ولنا أن الكفارة فيها معنى العقوبة وقد عرفت في النفوس المطلقة فلا تتعداها ولهذا لم يجب كل البدل. قالوا: إلا أن يشاء ذلك لأنه ارتكب محظورا، فإذا تقرب إلى الله تعالى كان أفضل له ويستغفر مما صنع "والجنين الذي قد استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في جميع هذه الأحكام" لإطلاق ما روينا، ولأنه ولد في حق أمومية الولد وانقضاء العدة والنفاس وغير ذلك، فكذا في حق هذا الحكم، ولأن بهذا القدر يتميز من العلقة والدم فكان نفسها، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 باب ما يحدث الرجل في الطريق مدخل ... باب ما يحدث الرجل في الطريق قال: "ومن أخرج إلى الطريق الأعظم كنيفا أو ميزابا أو جرصنا أو بنى دكانا فلرجل من عرض الناس أن ينزعه" لأن كل واحد صاحب حق بالمرور بنفسه وبدوابه فكان له حق النقض، كما في الملك المشترك فإن لكل واحد حق النقض لو أحدث غيرهم فيه شيئا فكذا في الحق المشترك. قال: "ويسع للذي عمله أن ينتفع به ما لم يضر بالمسلمين" لأن له حق المرور ولا ضرر فيه فليلحق ما في معناه به، إذ المانع متعنت، فإذا أضر بالمسلمين كره له ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". قال: "وليس لأحد من أهل الدرب الذي ليس بنافذ أن يشرع كنيفا أو ميزابا إلا بإذنهم" لأنها مملوكة لهم ولهذا وجبت الشفعة لهم على كل حال، فلا يجوز التصرف أضر بهم أو لم يضر إلا بإذنهم. وفي الطريق النافذ له التصرف إلا إذا أضر لأنه يتعذر الوصول إلى إذن الكل، فجعل في حق كل واحد كأنه هو المالك وحده حكما كي لا يتعطل عليه طريق الانتفاع، ولا كذلك غير النافذ لأن الوصول إلى إرضائهم ممكن فبقي على الشركة حقيقة وحكما. قال: "وإذا أشرع في الطريق روشنا أو ميزابا أو نحوه فسقط على إنسان فعطب فالدية على عاقلته" لأنه سبب لتلفه متعد بشغله هواء الطريق، وهذا من أسباب الضمان وهو الأصل، وكذلك إذا سقط شيء مما ذكرنا في أول الباب "وكذا إذا تعثر بنقضه إنسان أو عطبت به دابة، وإن عثر بذلك رجل فوقع على آخر فماتا فالضمان على الذي أحدثه فيهما" لأنه يصير كالدافع إياه عليه "وإن سقط الميزاب بطرفان أصاب ما كان منه في الحائط رجلا فقتله فلا ضمان عليه" لأنه غير متعد فيه لما أنه وضعه في ملكه "وإن أصابه ما كان خارجا من الحائط فالضمان على الذي وضعه فيه" لكونه متعديا فيه، ولا ضرورة لأنه يمكنه أن يركبه في الحائط ولا كفارة عليه، ولا يحرم عن الميراث لأنه ليس بقاتل حقيقة. "ولو أصابه الطرفان جميعا وعلم ذلك وجب نصف الدية وهدر النصف كما إذا جرحه سبع وإنسان، ولو لم يعلم أي طرف أصابه يضمن النصف" اعتبارا للأحوال. "ولو أشرع جناحا إلى الطريق ثم باع الدار فأصاب الجناح رجلا فقتله أو وضع خشبة في الطريق ثم باع الخشبة وبرئ إليه منها فتركها المشتري حتى عطب بها إنسان فالضمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 على البائع" لأن فعله وهو الوضع لم ينفسخ بزوال ملكه وهو الموجب "ولو وضع في الطريق جمرا فأحرق شيئا يضمنه" لأنه متعد فيه. "ولو حركته الريح إلى موضع آخر ثم أحرق شيئا لا يضمنه" لنسخ الريح فعله، وقيل إذا كان اليوم ريحا يضمنه لأنه فعله مع علمه بعاقبته وقد أفضى إليها فجعل كمباشرته. "ولو استأجر رب الدار الفعلة لإخراج الجناح أو الظلة فوقع فقتل إنسانا قبل أن يفرغوا من العمل فالضمان عليهم" لأن التلف بفعلهم "وما لم يفرغوا لم يكن العمل مسلما إلى رب الدار" وهذا لأنه انقلب فعلهم قتلا حتى وجبت عليهم الكفارة، والقتل غير داخل في عقده فلم يتسلم فعلهم إليه فاقتصر عليهم "وإن سقط بعد فراغهم فالضمان على رب الدار استحسانا" لأنه صح الاستئجار حتى استحقوا الأجر ووقع فعلهم عمارة وإصلاحا فانتقل فعلهم إليه فكأنه فعل بنفسه فلهذا يضمنه "وكذا إذا صب الماء في الطريق فعطب به إنسان أو دابة، وكذا إذا رش الماء أو توضأ" لأنه متعد فيه بإلحاق الضرر بالمارة "بخلاف ما إذا فعل ذلك في سكة غير نافذة وهو من أهلها أو قعد أو وضع متاعه" لأن لكل واحد أن يفعل ذلك فيها لكونه من ضرورات السكنى كما في الدار المشتركة. قالوا: هذا إذا رش ماء كثيرا بحيث يزلق به عادة، أما إذا رش ماء قليلا كما هو المعتاد والظاهر أنه لا يزلق به عادة لا يضمن. "ولو تعمد المرور في موضع صب الماء فسقط لا يضمن الراش" لأنه صاحب علة. وقيل: هذا إذا رش بعض الطريق لأنه يجد موضعا للمرور لا أثر للماء فيه، فإذا تعمد المرور على موضع صب الماء مع علمه بذلك لم يكن على الراش شيء، وإن رش جميع الطريق يضمن لأنه مضطر في المرور؛ وكذلك الحكم في الخشبة الموضوعة في الطريق في أخذها جميعه أو بعضه. "ولو رش فناء حانوت بإذن صاحبه فضمان ما عطب على الآمر استحسانا. وإذا استأجر أجيرا ليبني له في فناء حانوته فتعقل به إنسان بعد فراغه فمات يجب الضمان على الآمر استحسانا، ولو كان أمره بالبناء في وسط الطريق فالضمان على الأجير" لفساد الأمر. قال: "ومن حفر بئرا في طريق المسلمين أو وضع حجرا فتلف بذلك إنسان فديته على عاقلته، وإن تلفت به بهيمة فضمانها في ماله" لأنه متعد فيه فيضمن ما يتولد منه، غير أن العاقلة تتحمل النفس دون المال فكان ضمان البهيمة في ماله وإلقاء التراب واتخاذ الطين في الطريق بمنزلة إلقاء الحجر والخشبة لما ذكرنا، بخلاف ما إذا كنس الطريق فعطب بموضع كنسه إنسان حيث لم يضمن لأنه ليس بمتعد فإنه ما أحدث شيئا فيه إنما قصد دفع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 الأذى عن الطريق، حتى لو جمع الكناسة في الطريق وتعقل بها إنسان كان ضامنا لتعديه بشغله. "ولو وضع حجرا فنحاه غيره عن موضعه فعطب به إنسان فالضمان على الذي نحاه" لأن حكم فعله قد انتسخ لفراغ ما شغله، وإنما اشتغل بالفعل الثاني موضع آخر. "وفي الجامع الصغير في البالوعة يحفرها الرجل في الطريق، فإن أمره السلطان بذلك أو أجبره عليه لم يضمن" لأنه غير متعد حيث فعل ما فعل بأمر من له الولاية في حقوق العامة "وإن كان بغير أمره فهو متعد" إما بالتصرف في حق غيره أو بالافتيات على رأي الإمام أو هو مباح مقيد بشرط السلامة، وكذا الجواب على هذا التفصيل في جميع ما فعل في طريق العامة مما ذكرناه وغيره لأن المعنى لا يختلف "وكذا إن حفره في ملكه لا يضمن" لأنه غير متعد "وكذا إذا حفره في فناء داره" لأن له ذلك لمصلحة داره والفناء في تصرفه. وقيل هذا إذا كان الفناء مملوكا له أو كان له حق الحفر فيه لأنه غير متعد، أما إذا كان لجماعة المسلمين أو مشتركا بأن كان في سكة غير نافذة فإنه يضمنه لأنه مسبب متعد وهذا صحيح. "ولو حفر في الطريق ومات الواقع فيه جوعا أو غما لا ضمان على الحافر" عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه مات لمعنى في نفسه فلا يضاف إلى الحفر، والضمان إنما يجب إذا مات من الوقوع. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن مات جوعا فكذلك، وإن مات غما فالحافر ضامن له لأنه لا سبب للغم سوى الوقوع، أما الجوع فلا يختص بالبئر. وقال محمد: هو ضامن في الوجوه كلها، لأنه إنما حدث بسبب الوقوع، إذ لولاه لكان الطعام قريبا منه. قال: "وإن استأجر أجراء فحفروها له في غير فنائه فذلك على المستأجر ولا شيء على الأجراء إن لم يعلموا أنها في غير فنائه" لأن الإجارة صحت ظاهرا إذا لم يعلموا فنقل فعلهم إليه لأنهم كانوا مغرورين، فصار كما إذا أمر آخر بذبح هذه الشاة فذبحها ثم ظهر أن الشاة لغيره، إلا أن هناك يضمن المأمور ويرجع على الآمر لأن الذابح مباشر والآمر مسبب والترجيح للمباشرة فيضمن المأمور ويرجع المغرور، وهنا يجب الضمان على المستأجر ابتداء لأن كل واحد منهما مسبب والأجير غير متعد والمستأجر متعد فيرجح جانبه "وإن علموا ذلك فالضمان على الأجراء" لأنه لم يصح أمره بما ليس بمملوك له ولا غرور فبقي الفعل مضافا إليهم "وإن قال لهم: هذا فنائي وليس لي فيه حق الحفر فحفروا ومات فيه إنسان فالضمان على الأجراء قياسا" لأنهم علموا بفساد الأمر فما غرهم "وفي الاستحسان الضمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 على المستأجر" لأن كونه فناء له بمنزلة كونه مملوكا له لانطلاق يده في التصرف فيه من إلقاء الطين والحطب وربط الدابة والركوب وبناء الدكان فكان الأمر بالحفر في ملكه ظاهرا بالنظر إلى ما ذكرنا فكفى ذلك لنقل الفعل إليه. قال: "ومن جعل قنطرة بغير إذن الإمام فتعمد رجل المرور عليها فعطب فلا ضمان على الذي عمل القنطرة، وكذلك إذا وضع خشبة في الطريق فتعمد رجل المرور عليها" لأن الأول تعد هو تسبيب، والثاني تعد هو مباشرة فكانت الإضافة إلى المباشر أولى، ولأن تخلل فعل فاعل مختار يقطع النسبة كما في الحافر مع الملقي. قال: "ومن حمل شيئا في الطريق فسقط على إنسان فعطب به إنسان فهو ضامن، وكذا إذا سقط فتعثر به إنسان وإن كان رداء قد لبسه فسقط عنه فعطب به إنسان لم يضمن" وهذا اللفظ يشمل الوجهين، والفرق أن حامل الشيء قاصد حفظه فلا حرج في التقييد بوصف السلامة، واللابس لا يقصد حفظ ما يلبسه فيخرج بالتقييد بما ذكرنا فجعلناه مباحا مطلقا. وعن محمد أنه إذا لبس ما لا يلبسه عادة فهو كالحامل لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه. قال: "وإذا كان المسجد للعشيرة فعلق رجل منهم فيه قنديلا أو جعل فيه بواري أو حصاة فعطب به رجل لم يضمن، وإن كان الذي فعل ذلك من غير العشيرة ضمن" قالوا: هذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن في الوجهين جميعا، لأن هذه من القرب وكل أحد مأذون في إقامتها فلا يتقيد بشرط السلامة، كما إذا فعله بإذن واحد من أهل المسجد. ولأبي حنيفة وهو الفرق أن التدبير فيما يتعلق بالمسجد لأهله دون غيرهم كنصب الإمام واختيار المتولي وفتح بابه وإغلاقه وتكرار الجماعة إذا سبقهم بها غير أهله فكان فعلهم مباحا مطلقا غير مقيد بشرط السلامة وفعل غيرهم تعديا أو مباحا مقيدا بشرط السلامة، وقصد القربة لا ينافي الغرامة إذا أخطأ الطريق كما إذا تفرد بالشهادة على الزنا والطريق فيما نحن فيه الاستئذان من أهله. قال: "وإن جلس فيه رجل منهم فعطب به رجل لم يضمن إن كان في الصلاة، وإن كان في غير الصلاة ضمن" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن على كل حال. ولو كان جالسا لقراءة القرآن أو للتعليم أو للصلاة أو نام فيه في أثناء الصلاة أو في غير الصلاة أو مر فيه مارا أو قعد فيه لحديث فهو على هذا الاختلاف. وأما المعتكف فقد قيل على هذا الاختلاف، وقيل لا يضمن بالاتفاق. لهما أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 المسجد إنما بني للصلاة والذكر ولا يمكنه أداء الصلاة بالجماعة إلا بانتظارها فكان الجلوس فيه مباحا لأنه من ضرورات الصلاة، أو لأن المنتظر للصلاة في الصلاة حكما بالحديث فلا يضمن كما إذا كان في الصلاة. وله أن المسجد إنما بني للصلاة، وهذه الأشياء ملحقة بها فلا بد من إظهار التفاوت فجعلنا الجلوس للأصل مباحا مطلقا والجلوس لما يلحق به مباحا مقيدا بشرط السلامة ولا غرو أن يكون الفعل مباحا أو مندوبا إليه وهو مقيد بشرط السلامة كالرمي إلى الكافر أو إلى الصيد والمشي في الطريق والمشي في المسجد إذا وطئ غيره والنوم فيه إذا انقلب على غيره. "وإن جلس رجل من غير العشيرة فيه للصلاة فتعقل به إنسان ينبغي أن لا يضمن" لأن المسجد بني للصلاة وأمر الصلاة بالجماعة إن كان مفوضا إلى أهل المسجد فلكل واحد من المسلمين أن يصلي فيه وحده، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 فصل: في الحائط المائل قال: "وإذا مال الحائط إلى طريق المسلمين فطولب صاحبه بنقضه وأشهد عليه فلم ينقضه في مدة يقدر على نقضه حتى سقط ضمن ما تلف به من نفس أو مال" والقياس أن لا يضمن لأنه لا صنع منه مباشرة، والمباشرة شرط هو متعد فيه، لأن أصل البناء كان في ملكه، والميلان وشغل الهواء ليس من فعله فصار كما قبل الإشهاد. وجه الاستحسان أن الحائط لما مال إلى الطريق فقد اشتمل هواء طريق المسلمين بملكه ورفعه في يده، فإذا تقدم إليه وطولب بتفريغه يجب عليه فإذا امتنع صار متعديا بمنزلة ما لو وقع ثوب إنسان في حجره يصير متعديا بالامتناع عن التسليم إذا طولب به كذا هذا، بخلاف ما قبل الإشهاد لأنه بمنزلة هلاك الثوب قبل الطلب، ولأنا لو لم نوجب عليه الضمان يمتنع عن التفريغ فينقطع المارة حذرا على أنفسهم فيتضررون به، ودفع الضرر العام من الواجب وله تعلق بالحائط فيتعين لدفع هذا الضرر، وكم من ضرر خاص يتحمل لدفع العام منه، ثم فيما تلف به من النفوس تجب الدية وتتحملها العاقلة، لأنه في كونه جناية دون الخطأ فيستحق فيه التخفيف بالطريق الأولى كي لا يؤدي إلى استئصاله والإجحاف به، وما تلف به من الأموال كالدواب والعروض يجب ضمانها في ماله، لأن العواقل لا تعقل المال والشرط التقدم إليه وطلب النقض منه دون الإشهاد، وإنما ذكر الإشهاد ليتمكن من إثباته عند إنكاره فكان من باب الاحتياط. وصورة الإشهاد أن يقول الرجل: اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا، ولا يصح الإشهاد قبل أن يهي الحائط لانعدام التعدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 قال: "ولو بنى الحائط مائلا في الابتداء قالوا: يضمن ما تلف بسقوطه من غير إشهاد" لأن البناء تعد ابتداء كما في إشراع الجناح. قال: "وتقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين على التقدم" لأن هذه ليست بشهادة على القتل، وشرط الترك في مدة يقدر على نقضه فيها لأنه لا بد من إمكان النقض ليصير بتركه جانيا، ويستوي أن يطالبه بنقضه مسلم أو ذمي، لأن الناس كلهم شركاء في المرور فيصح التقدم إليه من كل واحد منهم رجلا كان أو امرأة حرا كان أو مكاتبا، ويصح التقدم إليه عند السلطان وغيره لأنه مطالبة بالتفريغ فيتفرد كل صاحب حق به. قال: "وإن مال إلى دار رجل فالمطالبة إلى مالك الدار خاصة" لأن الحق له على الخصوص، وإن كان فيها سكان لهم أن يطالبوه لأن لهم المطالبة بإزالة ما شغل الدار فكذا بإزالة ما شغل هواءها، ولو أجله صاحب الدار أو أبرأه منها أو فعل ذلك ساكنوها فذلك جائز، ولا ضمان عليه فيما تلف بالحائط لأن الحق لهم، بخلاف ما إذا مال إلى الطريق فأجله القاضي أو من أشهد عليه حيث لا يصح، لأن الحق لجماعة المسلمين وليس إليهما إبطال حقهم. ولو باع الدار بعدما أشهد عليه وقبضها المشتري برئ من ضمانه لأن الجناية بترك الهدم مع تمكنه وقد زال تمكنه بالبيع، بخلاف إشراع الجناح لأنه كان جانيا بالوضع ولم ينفسخ بالبيع فلا يبرأ على ما ذكرنا، ولا ضمان على المشتري لأنه لم يشهد عليه، ولو أشهد عليه بعد شرائه فهو ضامن لتركه التفريغ مع تمكنه بعدما طولب به، والأصل أنه يصح التقدم إلى كل من يتمكن من نقض الحائط وتفريغ الهواء، ومن لا يتمكن منه لا يصح التقدم إليه كالمرتهن والمستأجر والمودع وساكن الدار، ويصح التقدم إلى الراهن لقدرته على ذلك بواسطة الفكاك وإلى الوصي وإلى أبي اليتيم أو أمه في حائط الصبي لقيام الولاية، وذكر الأم في الزيادات والضمان في مال اليتيم لأن فعل هؤلاء كفعله، وإلى المكاتب لأن الولاية له، وإلى العبد التاجر سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن ولاية النقض له، ثم التلف بالسقوط إن كان ما لا فهو في عتق العبد، وإن كان نفسا فهو على عاقلة المولى لأن الإشهاد من وجه على المولى وضمان المال أليق بالعبد وضمان النفس بالمولى، ويصح التقدم إلى أحد الورثة في نصيبه وإن كان لا يتمكن من نقض الحائط وحده لتمكنه من إصلاح نصيبه بطريقه وهو المرافعة إلى القاضي. "ولو سقط الحائط المائل على إنسان بعد الإشهاد فقتله فتعثر بالقتيل غيره فعطب لا يضمنه" لأن التفريغ عنه إلى الأولياء لا إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 قال: "وإن عطب بالنقض ضمنه" لأن التفريغ إليه إذ النقض ملكه والإشهاد على الحائط إشهاد على النقض لأن المقصود امتناع الشغل. قال: "ولو عطب بجرة كانت على الحائط فسقطت بسقوطه وهي ملكه ضمنه" لأن التفريغ إليه "وإن كان ملك غيره لا يضمنه" لأن التفريغ إلى مالكها. قال: "وإن كان الحائط بين خمسة رجال أشهد على أحدهم فقتل إنسانا ضمن خمس الدية ويكون ذلك على عاقلته، وإن كانت دار بين ثلاثة نفر فحفر أحدهم فيها بئرا والحفر كان بغير رضا الشريكين الآخرين أو بنى حائطا فعطب به إنسان فعليه ثلثا الدية على عاقلته، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: عليه نصف الدية على عاقلته في الفصلين" لهما أن التلف بنصيب من أشهد عليه معتبر، وبنصيب من لم يشهد عليه هدر، فكانا قسمين فانقسم نصفين كما مر في عقر الأسد ونهش الحية وجرح الرجل. وله أن الموت حصل بعلة واحدة وهو الثقل المقدر والعمق المقدر، لأن أصل ذلك ليس بعلة وهو القليل حتى يعتبر كل جزء علة فتجتمع العلل، وإذا كان كذلك يضاف إلى العلة الواحدة ثم تقسم على أربابها بقدر الملك، بخلاف الجراحات فإن كل جراحة علة للتلف بنفسها صغرت أو كبرت على ما عرف، إلا أن عند المزاحمة أضيف إلى الكل لعدم الأولوية، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 باب جناية البهيمة والجناية عليها قال: "الراكب ضامن لما أوطأت الدابة ما أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت، وكذا إذا صدمت ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها" والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة لأنه يتصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه لكونه مشتركا بين كل الناس فقلنا بالإباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه ولا يتقيد بها فيما لا يمكن التحرز عنه لما فيه من المنع عن التصرف وسد بابه وهو مفتوح، والاحتراز عن الإيطاء وما يضاهيه ممكن، فإنه ليس من ضرورات التيسير فقيدناه بشرط السلامة عنه، والنفحة بالرجل والذنب ليس يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به. قال: "فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا" لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف وإن لم يمكنه عن النفحة فصار متعديا في الإيقاف وشغل الطريق به فيضمنه. قال: "وإن أصابت بيدها أو برجلها حصاة أو نواة أو أثارت غبارا أو حجرا صغيرا ففقأ عين إنسان أو أفسد ثوبه لم يضمن، وإن كان حجرا كبيرا ضمن" لأنه في الوجه الأول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 لا يمكن التحرز عنه، إذ سير الدواب لا يعرى عنه، وفي الثاني ممكن لأنه ينفك عن السير عادة، وإنما ذلك بتعنيف الراكب، والمرتدف فيما ذكرنا كالراكب لأن المعنى لا يختلف. قال: "فإن راثت أو بالت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن" لأنه من ضرورات السير فلا يمكنه الاحتراز عنه. قال: "وكذا إذا أوقفها لذلك" لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك إلا بالإيقاف، وإن أوقفها لغير ذلك فعطب إنسان بروثها أو بولها ضمن لأنه متعد في هذا الإيقاف لأنه ليس من ضرورات السير، ثم هو أكثر ضررا بالمارة من السير لما أنه أدوم منه فلا يلحق به. قال: "والسائق ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها والقائد ضامن لما أصابت بيدها دون رجلها" والمراد النفحة. قال رضي الله عنه: هكذا ذكره القدوري في مختصره، وإليه مال بعض المشايخ. ووجهه أن النفحة بمرأى عين السائق فيمكنه الاحتراز عنه وغائب عن بصر القائد فلا يمكنه التحرز عنه. وقال أكثر المشايخ: إن السائق لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها، إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه، بخلاف الكدم لإمكانه كبحها بلجامها. وبهذا ينطق أكثر النسخ وهو الأصح. وقال الشافعي: يضمنون النفحة كلهم لأن فعلها مضاف إليهم، والحجة عليه ما ذكرناه، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الرجل جبار" ومعناه النفحة بالرجل، وانتقال الفعل بتخويف القتل كما في المكره وهذا تخويف بالضرب. قال: "وفي الجامع الصغير وكل شيء ضمنه الراكب ضمنه السائق والقائد" لأنهما مسببان بمباشرتهما شرط التلف وهو تقريب الدابة إلى مكان الجناية فيتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه كالراكب. قال: "إلا أن على الراكب الكفارة" فيما أوطأته الدابة بيدها أو برجلها "ولا كفارة عليها" ولا على الراكب فيما وراء الإبطاء، لأن الراكب مباشر فيه لأن التلف بثقله وثقل الدابة تبع له، لأن سير الدابة مضاف إليه وهي آلة له وهما مسببان لأنه لا يتصل منهما إلى المحل شيء، وكذا الراكب في غير الإيطاء، والكفارة حكم المباشرة لا حكم التسبب، وكذا يتعلق بالإيطاء في حق الراكب حرمان الميراث والوصية دون السائق والقائد لأنه يختص بالمباشرة. قال: "ولو كان راكب وسائق قيل: لا يضمن السائق ما أوطأت الدابة" لأن الراكب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 مباشر فيه لما ذكرناه والسائق مسبب، والإضافة إلى المباشر أولى. وقيل: الضمان عليهما لأن كل ذلك سبب الضمان. قال: "وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر" وقال زفر والشافعي: يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر لما روي ذلك عن علي رضي الله عنه، ولأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه، لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه فيهدر نصفه ويعتبر نصفه، كما إذا كان الاصطدام عمدا، أو جرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه جراحة أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهار عليهما يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا. ولنا أن الموت يضاف إلى فعل صاحبه لأن فعله في نفسه مباح وهو المشي في الطريق فلا يصلح مستندا للإضافة في حق الضمان، كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقع فيها لا يهدر شيء من دمه، وفعل صاحبه وإن كان مباحا، لكن الفعل المباح في غيره سبب للضمان كالنائم إذا انقلب على غيره. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا، وفيما ذكر من المسائل الفعلان محظوران فوضح الفرق. هذا الذي ذكرنا إذا كانا حرين في العمد والخطإ، ولو كانا عبدين يهدر الدم في الخطإ لأن الجناية تعلقت برقبته دفعا وفداء، وقد فاتت لا إلى خلف من غير فعل المولى فهدر ضرورة، وكذا في العمد لأن كل واحد منهما هلك بعدما جنى ولم يخلف بدلا، ولو كان أحدهما حرا والآخر عبدا ففي الخطإ تجب على عاقلة الحر المقتول قيمة العبد فيأخذها ورثة المقتول الحر، ويبطل حق الحر المقتول في الدية فيما زاد على القيمة؛ لأن أصل أبي حنيفة ومحمد تجب القيمة على العاقلة لأنه ضمان الآدمي فقد أخلف بدلا بهذا القدر فيأخذه ورثة الحر المقتول ويبطل ما زاد عليه لعدم الخلف، وفي العمد يجب على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن المضمون هو النصف في العمد، وهذا القدر يأخذه ولي المقتول، وما على العبد في رقبته وهو نصف دية الحر يسقط بموته إلا قدر ما أخلف من البدل وهو نصف القيمة. قال: "ومن ساق دابة فوقع السرج على رجل فقتله ضمن، وكذا على هذا سائر أدواته كاللجام ونحوه، وكذا ما يحمل عليها" لأنه متعد في هذا التسبيب، لأن الوقوع بتقصير منه وهو ترك الشد أو الإحكام فيه، بخلاف الرداء لأنه لا يشد في العادة، ولأنه قاصد لحفظ هذه الأشياء كما في المحمول على عاتقه دون اللباس على ما مر من قبل فيقيد بشرط السلامة. قال: "ومن قاد قطارا فهو ضامن لما أوطأ"، فإن وطئ بعير إنسانا ضمن به القائد والدية على العاقلة لأن القائد عليه حفظ القطار كالسائق وقد أمكنه ذلك وقد صار متعديا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 بالتقصير فيه، والتسبب بوصف التعدي سبب للضمان، إلا أن ضمان النفس على العاقلة فيه وضمان المال في ماله "وإن كان معه سائق فالضمان عليهما" لأن قائد الواحد قائد للكل، وكذا سائقه لاتصال الأزمة، وهذا إذا كان السائق في جانب من الإبل. أما إذا كان توسطها وأخذ بزمام واحد يضمن ما عطب بما هو خلفه، ويضمنان ما تلف بما بين يديه لأن القائد لا يقود ما خلف السائق لانفصام الزمام، والسائق يسوق ما يكون قدامه. قال: "وإن ربط رجل بعيرا إلى القطار والقائد لا يعلم فوطئ المربوط إنسانا فقتله فعلى عاقلة القائد الدية" لأنه يمكنه صيانة القطار عن ربط غيره، فإذا ترك الصيانة صار متعديا، وفي التسبيب الدية على العاقلة كما في القتل الخطإ "ثم يرجعون بها على عاقلة الرابط" لأنه هو الذي أوقعهم في هذه العهدة، وإنما لا يجب الضمان عليهما في الابتداء وكل منهما مسبب لأن الربط من القود بمنزلة التسيب من المباشرة لاتصال التلف بالقود دون الربط. قالوا: هذا إذا ربط والقطار يسير لأنه أمر بالقود دلالة، فإذا لم يعلم به لا يمكنه التحفظ من ذلك فيكون قرار الضمان على الرابط. أما إذا ربط والإبل قيام ثم قادها ضمنها القائد لأنه قاد بعير غيره بغير إذنه لا صريحا ولا دلالة فلا يرجع بما لحقه عليه. قال: "ومن أرسل بهيمة وكان لها سائقا فأصابت في فورها يضمنه" لأن الفعل انتقل إليه بواسطة السوق. قال: "ولو أرسل طيرا وساقه فأصاب في فوره لم يضمن" والفرق أن بدن البهيمة يحتمل السوق فاعتبر سوقه والطير لا يحتمل السوق فصار وجود السوق وعدمه بمنزلة، وكذا لو أرسل كلبا ولم يكن له سائقا لم يضمن، ولو أرسله إلى صيد ولم يكن له سائقا فأخذ الصيد وقتله حل. ووجه الفرق أن البهيمة مختارة في فعلها ولا تصلح نائبة عن المرسل فلا يضاف فعلها إلى غيرها، هذا هو الحقيقة، إلا أن الحاجة مست في الاصطياد فأضيف إلى المرسل لأن الاصطياد مشروع ولا طريق له سواه ولا حاجة في حق ضمان العدوان. وروي عن أبي يوسف أنه أوجب الضمان في هذا كله احتياطا صيانة لأموال الناس. قال رضي الله عنه: وذكر في المبسوط إذا أرسل دابة في طريق المسلمين فأصابت في فورها فالمرسل ضامن؛ لأن سيرها مضاف إليه ما دامت تسير على سننها، ولو انعطفت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 يمنة أو يسرة انقطع حكم الإرسال إلا إذا لم يكن له طريق آخر سواه وكذا إذا وقفت ثم سارت بخلاف ما إذا وقفت بعد الإرسال في الاصطياد ثم سارت فأخذت الصيد، لأن تلك الوقفة تحقق مقصود المرسل لأنه لتمكنه من الصيد، وهذه تنافي مقصود المرسل وهو السير فينقطع حكم الإرسال، وبخلاف ما إذا أرسله إلى صيد فأصاب نفسا أو مالا في فوره لا يضمنه من أرسله، وفي الإرسال في الطريق يضمنه لأن شغل الطريق تعد فيضمن ما تولد منه، أما الإرسال للاصطياد فمباح ولا تسبيب إلا بوصف التعدي. قال: "ولو أرسل بهيمة فأفسدت زرعا على فوره ضمن المرسل، وإن مالت يمينا أو شمالا" وله طريق آخر لا يضمن لما مر، ولو انفلتت الدابة فأصابت مالا أو آدميا ليلا أو نهارا "لا ضمان على صاحبها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "جرح العجماء جبار" وقال محمد رحمه الله: هي المنفلتة، ولأن الفعل غير مضاف إليه لعدم ما يوجب النسبة إليه من الإرسال وأخواته. قال: "شاة لقصاب فقئت عينها ففيها ما نقصها" لأن المقصود منها هو اللحم فلا يعتبر إلا النقصان "وفي عين بقرة الجزار وجزوره ربع القيمة، وكذا في عين الحمار والبغل والفرس" وقال الشافعي: فيه النقصان أيضا اعتبارا بالشاة. ولنا ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى في عين الدابة بربع القيمة" وهكذا قضى عمر رضي الله عنه، ولأن فيها مقاصد سوى اللحم كالحمل والركوب والزينة والجمال والعمل، فمن هذا الوجه تشبه الآدمي وقد تمسك للأكل، فمن هذا الوجه تشبه المأكولات فعملنا بالشبهين بشبه الآدمي في إيجاب الربع وبالشبه الآخر في نفي النصف، ولأنه إنما يمكن إقامة العمل بها بأربعة أعين عيناها وعينا المستعمل فكأنها ذات أعين أربعة فيجب الربع بفوات إحداها. قال: "ومن سار على دابة في الطريق فضربها رجل أو نخسها فنفحت رجلا أو ضربته بيدها أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب" هو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولأن الراكب والمركب مدفوعان بدفع الناخس فأضيف فعل الدابة إليه كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه والراكب في فعله غير متعد فيترجح جانبه في التغريم للتعدي، حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا. قال: "وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا" لأنه بمنزلة الجاني على نفسه "وإن ألقت الراكب فقتلته كان ديته على عاقلة الناخس" لأنه متعد في تسبيبه وفيه الدية على العاقلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 قال: "ولو وثبت بنخسه على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب" لما بيناه، والواقف في ملكه والذي يسير في ذلك سواء. وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان على الناخس والراكب نصفين، لأن التلف حصل بثقل الراكب ووطء الدابة، والثاني مضاف إلى الناخس فيجب الضمان عليهما، وإن نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها، ولا ضمان عليه في نفحتها لأنه أمره بما يملكه، إذ النخس في معنى السوق فصح أمره به، وانتقل إليه لمعنى الأمر. قال: "ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها الناخس بإذن الراكب فالدية عليهما نصفين جميعا إذا كانت في فورها الذي نخسها" لأن سيرها في تلك الحالة مضاف إليهما، والإذن يتناول فعله من حيث السوق ولا يتناوله من حيث إنه إتلاف، فمن هذا الوجه يقتصر عليه، والركوب وإن كان علة للوطء فالنخس ليس بشرط لهذه العلة بل هو شرط أو علة للسير والسير علة للوطء وبهذا لا يترجح صاحب العلة، كمن جرح إنسانا فوقع في بئر حفرها غيره على قارعة الطريق ومات فالدية عليهما لما أن الحفر شرط علة أخرى دون علة الجرح كذا هذا. ثم قيل: يرجع الناخس على الراكب بما ضمن في الإيطاء لأنه فعله بأمره. وقيل: لا يرجع وهو الأصح فيما أراه، لأنه لم يأمره بالإيطاء والنخس ينفصل عنه، وصار كما إذا أمر صبيا يستمسك على الدابة بتسييرها فوطئت إنسانا ومات حتى ضمن عاقلة الصبي فإنهم لا يرجعون على الآمر لأنه أمره بالتسيير والإيطاء ينفصل عنه، وكذا إذا ناوله سلاحا فقتل به آخر حتى ضمن لا يرجع على الآمر، ثم الناخس إنما يضمن إذا كان الإيطاء في فور النخس حتى يكون السوق مضافا إليه، وإذا لم يكن في فور ذلك فالضمان على الراكب لانقطاع أثر النخس فبقي السوق مضافا إلى الراكب على الكمال. "ومن قاد دابة فنخسها رجل فانفلتت من يد القائد فأصابت في فورها فهو على الناخس وكذا إذا كان لها سائق فنخسها غيره" لأنه مضاف إليه، والناخس إذا كان عبدا فالضمان في رقبته، وإن كان صبيا ففي ماله لأنهما مؤاخذان بأفعالهما "ولو نخسها شيء منصوب في الطريق فنفحت إنسانا فقتلته فالضمان على من نصب ذلك الشيء" لأنه متعد بشغل الطريق فأضيف إليه كأنه نخسها بفعله، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 باب جناية المملوك والجناية عليه مدخل ... باب جناية المملوك والجناية عليه قال: "وإذا جنى العبد جناية خطإ قيل لمولاه: إما أن تدفعه بها أو تفديه" وقال الشافعي: جنايته في رقبته يباع فيها إلا أن يقضي المولى الأرش، وفائدة الاختلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 في اتباع الجاني بعد العتق. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضوان الله عليهم. له أن الأصل في موجب الجناية أن يجب على المتلف لأنه هو الجاني، إلا أن العاقلة تتحمل عنه، ولا عاقلة للعبد لأن العقل عندي بالقرابة ولا قرابة بين العبد ومولاه فتجب في ذمته كما في الدين. ويتعلق برقبته يباع فيه كما في الجناية على المال. ولنا أن الأصل في الجناية على الآدمي حالة الخطإ أن تتباعد عن الجاني تحرزا عن استئصاله والإجحاف به، إذ هو معذور فيه حيث لم يتعمد الجناية، وتجب على عاقلة الجاني إذا كان له عاقلة، والمولى عاقلته لأن العبد يستنصر به. والأصل في العاقلة عندنا النصرة حتى تجب على أهل الديوان. بخلاف الذمي لأنهم لا يتعاقلون فيما بينهم فلا عاقلة فتجب في ذمته صيانة للدم عن الهدر، وبخلاف الجناية على المال؛ لأن العواقل لا تعقل المال، إلا أنه يخير بين الدفع والفداء لأنه واحد، وفي إثبات الخيرة نوع تخفيف في حقه كي لا يستأصل، غير أن الواجب الأصلي هو الدفع في الصحيح، ولهذا يسقط الموجب بموت العبد لفوات محل الواجب وإن كان له حق النقل إلى الفداء كما في مال الزكاة، بخلاف موت الجاني الحر لأن الواجب لا يتعلق بالحر استيفاء فصار كالعبد في صدقة الفطر. قال: "فإن دفعه ملكه ولي الجناية وإن فداه فداه بأرشها وكل ذلك يلزم حالا" أما الدفع فلأن التأجيل في الأعيان باطل وعند اختياره الواجب عين. وأما الفداء فلأنه جعل بدلا عن العبد في الشرع وإن كان مقدرا بالمتلف ولهذا سمي فداء فيقوم مقامه ويأخذ حكمه فلهذا وجب حالا كالمبدل "وأيهما اختاره وفعله لا شيء لولي الجناية غيره" أما الدفع فلأن حقه متعلق به، فإذا خلى بينه وبين الرقبة سقط. وأما الفداء فلأنه لا حق له إلا الأرش، فإذا أوفاه حقه سلم العبد له، فإن لم يختر شيئا حتى مات العبد بطل حق المجني عليه لفوات محل حقه على ما بيناه، وإن مات بعدما اختار الفداء لم يبرأ لتحول الحق من رقبة العبد إلى ذمة المولى. قال: "فإن عاد فجنى كان حكم الجناية الثانية كحكم الجناية الأولى" معناه بعد الفداء لأنه لما طهر عن الجناية بالفداء جعل كأن لم تكن، وهذا ابتداء جناية. قال: "وإن جنى جنايتين قيل للمولى إما أن تدفعه إلى ولي الجنايتين يقتسمانه على قدر حقيهما وإما أن تفديه بأرش كل واحد واحد منهما" لأن تعلق الأول برقبته لا يمنع تعلق الثانية بها كالديون المتلاحقة؛ ألا ترى أن ملك المولى لم يمنع تعلق الجناية فحق المجني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 عليه الأول أولى أن لا يمنع، ومعنى قوله على قدر حقيهما على قدر أرش جنايتهما "وإن كانوا جماعة يقتسمون العبد المدفوع على قدر حصصهم وإن فداه فداه بجميع أروشهم" لما ذكرنا "ولو قتل واحدا وفقأ عين آخر" يقتسمانه أثلاثا "لأن أرش العين على النصف من أرش النفس"، وعلى هذا حكم الشجات "وللمولى أن يفدي من بعضهم ويدفع إلى بعضهم مقدار ما تعلق به حقه من العبد" لأن الحقوق مختلفة باختلاف أسبابها وهي الجنايات المختلفة، بخلاف مقتول العبد إذا كان له وليان لم يكن له أن يفدي من أحدهما ويدفع إلى الآخر لأن الحق متحد لاتحاد سببه وهي الجناية المتحدة، والحق يجب للمقتول ثم للوارث خلافة عنه فلا يملك التفريق في موجبها. قال: "فإن أعتقه المولى وهو لا يعلم بالجناية ضمن الأقل من قيمته ومن أرشها، وإن أعتقه بعد العلم بالجناية وجب عليه الأرش" لأن في الأول فوت حقه فيضمنه وحقه في أقلهما، ولا يصير مختارا للفداء لأنه لا اختيار بدون العلم، وفي الثاني صار مختارا لأن الإعتاق يمنعه من الدفع فالإقدام عليه اختيار منه للآخر، وعلى هذين الوجهين البيع والهبة والتدبير والاستيلاد، لأن كل ذلك مما يمنع الدفع لزوال الملك به، بخلاف الإقرار على رواية الأصل لأنه لا يسقط به حق ولي الجناية، فإنه المقر له يخاطب بالدفع إليه. وليس فيه نقل الملك لجواز أن يكون الأمر كما قاله المقر وألحقه الكرخي بالبيع وأخواته لأنه ملكه في الظاهر فيستحقه المقر له بإقراره فأشبه البيع. وإطلاق الجواب في الكتاب ينتظم النفس وما دونها، وكذا المعنى لا يختلف وإطلاق البيع ينتظم البيع بشرط الخيار للمشتري لأنه يزيل الملك، بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع ونقضه، وبخلاف العرض على البيع لأن الملك ما زال، ولو باعه بيعا فاسدا لم يصر مختارا حتى يسلمه لأن الزوال به، بخلاف الكتابة الفاسدة لأن موجبه يثبت قبل قبض البدل فيصير بنفسه مختارا، ولو باعه مولاه من المجني عليه فهو مختار، بخلاف ما إذا وهبه منه؛ لأن المستحق له أخذه بغير عوض وهو متحقق في الهبة دون البيع، وإعتاق المجني عليه بأمر المولى بمنزلة إعتاق المولى فيما ذكرناه، لأن فعل المأمور مضاف إليه، ولو ضربه فنقصه فهو مختار إذا كان عالما بالجناية لأنه حبس جزءا منه وكذا إذا كانت بكرا فوطئها وإن لم يكن معلقا لما قلنا بخلاف التزويج لأنه عيب من حيث الحكم، وبخلاف وطء الثيب على ظاهر الرواية لأنه لا ينقص من غير إعلاق، وبخلاف الاستخدام لأنه لا يختص بالملك، ولهذا لا يسقط به خيار الشرط ولا يصير مختارا بالإجارة والرهن في الأظهر من الروايات، وكذا بالإذن في التجارة وإن ركبه دين، لأن الإذن لا يفوت الدفع ولا ينقص الرقبة، إلا أن لولي الجناية أن يمتنع من قبوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 لأن الدين لحقه من جهة المولى فلزم المولى قيمته. قال: "ومن قال لعبده إن قتلت فلانا أو رميته أو شججته فأنت حر فهو مختار للفداء إن فعل ذلك" وقال زفر: لا يصير مختارا للفداء لأن وقت تكلمه لا جناية ولا علم له بوجوده، وبعد الجناية لم يوجد منه فعل يصير به مختارا. ألا ترى أنه لو علق الطلاق أو العتاق بالشرط ثم حلف أن لا يطلق أو لا يعتق وجد الشرط وثبت العتق والطلاق لا يحنث في يمينه تلك، كذا هذا. ولنا أنه علق الإعتاق بالجناية والمعلق بالشرط ينزل عند وجود الشرط كالمنجز فصار كما إذا أعتقه بعد الجناية. ألا يرى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار فوالله لا أقربك يصير ابتداء الإيلاء من وقت الدخول، وكذا إذا قال لها إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا فمرض حتى طلقت ومات من ذلك المرض يصير فارا لأنه يصير مطلقا بعد وجود المرض، بخلاف ما أورد لأن غرضه طلاق أو عتق يمكنه الامتناع عنه، إذ اليمين للمنع فلا يدخل تحته ما لا يمكنه الامتناع عنه، ولأنه حرضه على مباشرة الشرط بتعليق أقوى الدواعي إليه والظاهر أنه يفعله، فهذا دلالة الاختيار. قال: "وإذا قطع العبد يد رجل عمدا فدفع إليه بقضاء أو بغير قضاء فأعتقه ثم مات من قطع اليد فالعبد صلح بالجناية، وإن لم يعتقه رد على المولى وقيل للأولياء اقتلوه أو اعفوا عنه" ووجه ذلك وهو أنه إذا لم يعتقه وسرى تبين أن الصلح وقع باطلا لأن الصلح كان عن المال؛ لأن أطراف العبد لا يجري القصاص بينها وبين أطراف الحر فإذا سرى تبين أن المال غير واجب، وإنما الواجب هو القود فكان الصلح واقعا بغير بدل فبطل والباطل لا يورث الشبهة، كما إذا وطئ المطلقة الثلاث في عدتها مع العلم بحرمتها عليه فوجب القصاص، بخلاف ما إذا أعتقه لأن إقدامه على الإعتاق يدل على قصده تصحيح الصلح لأن الظاهر أن من أقدم على تصرف يقصد تصحيحه ولا صحة له إلا وأن يجعل صلحا عن الجناية وما يحدث منها ولهذا لو نص عليه ورضي المولى به يصح وقد رضي المولى به لأنه لما رضي بكون العبد عوضا عن القليل يكون أرضى بكونه عوضا عن الكثير فإذا أعتق يصح الصلح في ضمن الإعتاق ابتداء وإذا لم يعتق لم يوجد الصلح ابتداء والصلح الأول وقع باطلا فيرد العبد إلى المولى والأولياء على خيرتهم في العفو والقتل. وذكر في بعض النسخ: رجل قطع يد رجل عمدا فصالح القاطع المقطوعة يده على عبد ودفعه إليه فأعتقه المقطوعة يده ثم مات من ذلك فالعبد صلح بالجناية إلى آخر ما ذكرنا من الرواية. وهذا الوضع يرد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 إشكالا فيما إذا عفا عن اليد ثم سرى إلى النفس ومات حيث لا يجب القصاص هنالك، وهاهنا قال يجب. قيل ما ذكر هاهنا جواب القياس فيكون الوضعان جميعا على القياس والاستحسان. وقيل بينهما فرق، ووجهه أن العفو عن اليد صح ظاهرا لأن الحق كان له في اليد من حيث الظاهر فيصح العفو ظاهرا، فبعد ذلك وإن بطل حكما يبقى موجودا حقيقة فكفى ذلك لمنع وجوب القصاص. أما هاهنا الصلح لا يبطل الجناية بل يقررها حيث صالح عنها على مال، فإذا لم يبطل الجناية لم تمتنع العقوبة، هذا إذا لم يعتقه، أما إذا أعتقه فالتخريج ما ذكرناه من قبل. قال: "وإذا جنى العبد المأذون له جناية وعليه ألف درهم فأعتقه المولى ولم يعلم بالجناية فعليه قيمتان: قيمة لصاحب الدين، وقيمة لأولياء الجناية" لأنه أتلف حقين كل واحد منهما مضمون بكل القيمة على الانفراد: الدفع للأولياء، والبيع للغرماء، فكذا عند الاجتماع. ويمكن الجمع بين الحقين إيفاء من الرقبة الواحدة بأن يدفع إلى ولي الجناية ثم يباع للغرماء فيضمنها بالإتلاف بخلاف ما إذا أتلفه أجنبي حيث تجب قيمة واحدة للمولى ويدفعها المولى إلى الغرماء، لأن الأجنبي إنما يضمن للمولى بحكم الملك فلا يظهر في مقابلته الحق لأنه دونه، وهاهنا يجب لكل واحد منهما بإتلاف الحق فلا ترجيح فيظهران فيضمنهما. قال: "وإذا استدانت الأمة المأذون لها أكثر من قيمتها ثم ولدت فإنه يباع الولد معها في الدين، وإن جنت جناية لم يدفع الولد معها" والفرق أن الدين وصف حكمي فيها واجب في ذمتها متعلق برقبتها استيفاء فيسري إلى الولد كولد المرهونة، بخلاف الجناية لأن وجوب الدفع في ذمة المولى لا في ذمتها، وإنما يلاقيها أثر الفعل الحقيقي وهو الدفع والسراية في الأوصاف الشرعية دون الأوصاف الحقيقية. قال: "وإذا كان العبد لرجل زعم رجل آخر أن مولاه أعتقه فقتل العبد وليا لذلك الرجل الزاعم خطأ فلا شيء له" لأنه لما زعم أن مولاه أعتقه فقد ادعى الدية على العاقلة وأبرأ العبد والمولى إلا أنه لا يصدق على العاقلة من غير حجة. قال: "وإذا أعتق العبد فقال لرجل قتلت أخاك خطأ وأنا عبد وقال الآخر قتلته وأنت حر فالقول قول العبد" لأنه منكر للضمان لما أنه أسنده إلى حالة معهودة منافية للضمان، إذ الكلام فيما إذا عرف رقه، والوجوب في جناية العبد على المولى دفعا أو فداء، وصار كما إذا قال البالغ العاقل طلقت امرأتي وأنا صبي أو بعت داري وأنا صبي، أو قال طلقت امرأتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 وأنا مجنون أو بعت داري وأنا مجنون وقد كان جنونه معروفا كان القول قوله لما ذكرنا. قال: "ومن أعتق جارية ثم قال لها قطعت يدك وأنت أمتي وقالت قطعتها وأنا حرة فالقول قولها، وكذلك كل ما أخذ منها إلا الجماع والغلة استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد: لا يضمن إلا شيئا قائما بعينه يؤمر برده عليها" لأنه منكر وجوب الضمان لإسناده الفعل إلى حالة معهودة منافية له كما في المسألة الأولى وكما في الوطء والغلة. وفي الشيء القائم أقر بيدها حيث اعترف بالأخذ منها ثم ادعى التملك عليها وهي منكرة والقول قول المنكر فلهذا يؤمر بالرد إليها، ولهما أنه أقر بسبب الضمان ثم ادعى ما يبرئه فلا يكون القول قوله كما إذا قال لغيره فقأت عينك اليمنى وعيني اليمنى صحيحة ثم فقئت وقال المقر له: لا بل فقأتها وعينك اليمنى مفقوءة فإن القول قول المقر له، وهذا لأنه ما أسنده إلى حالة منافية للضمان لأنه يضمن يدها لو قطعها وهي مديونة، وكذا يضمن مال الحربي إذا أخذه وهو مستأمن، بخلاف الوطء والغلة لأن وطء المولى أمته المديونة لا يوجب العقر، وكذا أخذه من غلتها، وإن كانت مديونة لا يوجب الضمان عليه فحصل الإسناد إلى حالة معهودة منافية للضمان. قال: "وإذا أمر العبد المحجور عليه صبيا حرا بقتل رجل فقتله فعلى عاقلة الصبي الدية" لأنه هو القاتل حقيقة، وعمده وخطؤه سواء على ما بينا من قبل "ولا شيء على الآمر" وكذا إذا كان الآمر صبيا لأنهما لا يؤاخذان بأقوالهما؛ لأن المؤاخذة فيها باعتبار الشرع وما اعتبر قولهما، ولا رجوع لعاقلة الصبي على الصبي الآمر أبدا، ويرجعون على العبد الآمر بعد الإعتاق لأن عدم الاعتبار لحق المولى وقد زال لا لنقصان أهلية العبد، بخلاف الصبي لأنه قاصر الأهلية. قال: "وكذلك إن أمر عبدا" معناه أن يكون الآمر عبدا والمأمور عبدا محجورا عليهما "يخاطب مولى القاتل بالدفع أو الفداء" ولا رجوع له على الأول في الحال، ويجب أن يرجع بعد العتق بأقل من الفداء وقيمة العبد لأنه غير مضطر في دفع الزيادة، وهذا إذا كان القتل خطأ، وكذا إذا كان عمدا والعبد القاتل صغيرا لأن عمده خطأ، أما إذا كان كبيرا يجب القصاص لجريانه بين الحر والعبد. قال: "وإذا قتل العبد رجلين عمدا ولكل واحد منهما وليان فعفا أحد وليي كل واحد منهما فإن المولى يدفع نصفه إلى الآخرين أو يفديه بعشرة آلاف درهم" لأنه لما عفا أحد ولي كل واحد منهما سقط القصاص وانقلب مالا فصار كما لو وجب المال من الابتداء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 وهذا لأن حقهم في الرقبة أو في عشرين ألفا وقد سقط نصيب العافيين وهو النصف وبقي النصف. "فإن كان قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فعفا أحد وليي العمد فإن فداه المولى فداه بخمسة عشر ألفا خمسة آلاف للذي لم يعف من وليي العمد وعشرة آلاف لوليي الخطأ" لأنه لما انقلب العمد مالا كان حق وليي الخطإ في كل الدية عشرة آلاف، وحق أحد وليي العمد في نصفها خمسة آلاف، ولا تضايق في الفداء فيجب خمسة عشر ألفا "وإن دفعه دفعه إليهم أثلاثا: ثلثاه لوليي الخطإ، وثلثه لغير العافي من وليي العمد عند أبي حنيفة وقالا: يدفعه أرباعا: ثلاثة أرباعه لوليي الخطإ، وربعه لولي العمد" فالقسمة عندهما بطريق المنازعة، فيسلم النصف لوليي الخطإ بلا منازعة، واستوت منازعة الفريقين في النصف الآخر فيتنصف، فلهذا يقسم أرباعا. وعنده يقسم بطريق العول والمضاربة أثلاثا، لأن الحق تعلق بالرقبة أصله التركة المستغرقة بالديون فيضرب هذا بالكل وذلك بالنصف، ولهذه المسألة نظائر وأضداد ذكرناها في الزيادات. قال: "وإذا كان عبد بين رجلين فقتل مولى لهما" أي قريبا لهما "فعفا أحدهما بطل الجميع عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع الذي عفا نصف نصيبه إلى الآخر أو يفديه بربع الدية" وذكر في بعض النسخ قتل وليا لهما، والمراد القريب أيضا، وذكر في بعض النسخ قول محمد مع أبي حنيفة، وذكر في الزيادات: عبد قتل مولاه وله ابنان فعفا أحد الابنين بطل ذلك كله عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف الجواب فيه كالجواب في مسألة الكتاب. ولم يذكر اختلاف الرواية. لأبي يوسف رحمه الله أن حق القصاص ثبت في العبد على سبيل الشيوع، لأن ملك المولى لا يمنع استحقاق القصاص له فإذا عفا أحدهما انقلب نصيب الآخر وهو النصف مالا، غير أنه شائع في الكل فيكون نصفه في نصيبه والنصف في نصيب صاحبه، فما يكون في نصيبه سقط ضرورة أن المولى لا يستوجب على عبده مالا، وما كان في نصيب صاحبه بقي ونصف النصف هو الربع فلهذا يقال: ادفع نصف نصيبك أو افتداه بربع الدية. ولهما أن ما يجب من المال يكون حق المقتول لأنه بدل دمه، ولهذا تقضى منه ديونه وتنفذ به وصاياه، ثم الورثة يخلفونه فيه عند الفراغ من حاجته والمولى لا يستوجب على عبده دينا فلا تخلفه الورثة فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 فصل: ومن قتل عبدا خطأ فعليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف درهم الخ ... فصل: "ومن قتل عبدا خطأ فعليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف درهم، فإن كانت قيمته عشرة آلاف درهم أو أكثر قضى له بعشرة آلاف إلا عشرة، وفي الأمة إذا زادت قيمتها على الدية خمسة آلاف إلا عشرة" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف والشافعي: تجب قيمته بالغة ما بلغت، ولو غصب عبدا قيمته عشرون ألفا فهلك في يده تجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع. لهما أن الضمان بدل المالية ولهذا يجب للمولى وهو لا يملك العبد إلا من حيث المالية، ولو قتل العبد المبيع قبل القبض يبقى العقد وبقاؤه ببقاء المالية أصلا أو بدله وصار كقليل القيمة وكالغصب. ولأبي حنيفة ومحمد قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] أوجبها مطلقا، وهي اسم للواجب بمقابلة الآدمية، ولأن فيه معنى الآدمية حتى كان مكلفا، وفيه معنى المالية، والآدمية أعلاهما فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذر الجمع بينهما وضمان الغصب بمقابلة المالية، إذ الغصب لا يرد إلا على المال، وبقاء العقد يتبع الفائدة حتى يبقى بعد قتله عمدا وإن لم يكن القصاص بدلا عن المالية فكذلك أمر الدية، وفي قليل القيمة الواجب بمقابلة الآدمية إلا أنه لا سمع فيه فقدرناه بقيمته رأيا، بخلاف كثير القيمة لأن قيمة الحر مقدرة بعشرة آلاف درهم ونقصنا منها في العبد إظهارا لانحطاط رتبته، وتعيين العشرة بأثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. قال: "وفي يد العبد نصف قيمته لا يزاد على خمسة آلاف إلا خمسة" لأن اليد من الآدمي نصفه فتعتبر بكله، وينقص هذا المقدار إظهارا لانحطاط رتبته، وكل ما يقدر من دية الحر فهو مقدر من قيمة العبد لأن القيمة في العبد كالدية في الحر إذ هو بدل الدم على ما قررناه، وإن غصب أمة قيمتها عشرون ألفا فماتت في يده فعليه تمام قيمتها لما بينا أن ضمان الغصب ضمان المالية. قال: "ومن قطع يد عبد فأعتقه المولى ثم مات من ذلك، فإن كان له ورثة غير المولى فلا قصاص فيه وإلا اقتص منه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا قصاص في ذلك، وعلى القاطع أرش اليد، وما نقصه ذلك إلى أن يعتقه ويبطل الفضل" وإنما لم يجب القصاص في الوجه الأول لاشتباه من له الحق، لأن القصاص يجب عند الموت مستندا إلى وقت الجرح، فعلى اعتبار حالة الجرح يكون الحق للمولى، وعلى اعتبار الحالة الثانية يكون للورثة فتحقق الاشتباه وتعذر الاستيفاء فلا يجب على وجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 يستوفى، وفيه الكلام، واجتماعهما لا يزيل الاشتباه لأن الملكين في الحالين، بخلاف العبد الموصى بخدمته لرجل وبرقبته لآخر إذا قتل، لأن ما لكل منهما من الحق ثابت من وقت الجرح إلى وقت الموت، فإذا اجتمعا زال الاشتباه. ولمحمد في الخلافية وهو ما إذا لم يكن للعبد ورثة سوى المولى أن سبب الولاية قد اختلف لأنه الملك على اعتبار إحدى الحالتين والوراثة بالولاء على اعتبار الأخرى، فنزل منزلة اختلاف المستحق فيما يحتاط فيه كما إذا قال لآخر بعتني هذه الجارية بكذا فقال المولى زوجتها منك لا يحل له وطؤها ولأن الإعتاق قاطع للسراية، وبانقطاعها يبقى الجرح بلا سراية، والسراية بلا قطع فيمتنع القصاص. ولهما أنا تيقنا بثبوت الولاية للمولى فيستوفيا وهذا لأن المقضي له معلوم والحكم متحد فوجب القول بالاستيفاء، بخلاف الفصل الأول، لأن المقضي له مجهول، ولا معتبر باختلاف السبب هاهنا لأن الحكم لا يختلف، بخلاف تلك المسألة لأن ملك اليمين يغاير ملك النكاح حكما، والإعتاق لا يقطع السراية لذاته بل لاشتباه من له الحق، وذلك في الخطإ دون العمد لأن العبد لا يصلح مالكا للمال، فعلى اعتبار حالة الجرح يكون الحق للمولى، وعلى اعتبار حالة الموت يكون للميت لحريته فيقضى منه ديونه وينفذ وصاياه فجاء الاشتباه. أما العمد فموجبه القصاص والعبد مبقى على أصل الحرية فيه، وعلى اعتبار أن يكون الحق له فالمولى هو الذي يتولاه إذ لا وارث له سواه فلا اشتباه فيمن له الحق، وإذا امتنع القصاص في الفصلين عند محمد يجب أرش اليد، وما نقصه من وقت الجرح إلى وقت الإعتاق كما ذكرنا لأنه حصل على ملكه ويبطل الفضل، وعندهما الجواب في الفصل الأول كالجواب عند محمد في الثاني. قال: "ومن قال لعبديه أحدكما حر ثم شجا فأوقع العتق على أحدهما فأرشهما للمولى" لأن العتق غير نازل في المعين والشجة تصادف المعين فبقيا مملوكين في حق الشجة "ولو قتلهما رجل تجب دية حر وقيمة عبد" والفرق أن البيان إنشاء من وجه وإظهار من وجه على ما عرف، وبعد الشجة بقي محلا للبيان فاعتبر إنشاء في حقهما، وبعد الموت لم يبق محلا للبيان فاعتبرناه إظهارا محضا، وأحدهما حر بيقين فتجب قيمة عبد ودية حر، بخلاف ما إذا قتل كل واحد منهما رجل حيث قيمة المملوكين، لأنا لم نتيقن بقتل كل واحد منهما حرا وكل منهما ينكر ذلك، ولأن القياس يأبى ثبوت العتق في المجهول لأنه لا يفيد فائدة، وإنما صححناه ضرورة صحة التصرف وأثبتنا له ولاية النقل من المجهول إلى المعلوم فيتقدر بقدر الضرورة وهي في النفس دون الأطراف فبقي مملوكا في حقها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 قال: "ومن فقأ عيني عبد، فإن شاء المولى دفع عبده وأخذ قيمته وإن شاء أمسكه، ولا شيء له من النقصان عند أبي حنيفة، وقالا: إن شاء أمسك العبد وأخذ ما نقصه، وإن شاء دفع العبد وأخذ قيمته" وقال الشافعي: يضمنه كل القيمة ويمسك الجثة لأنه يجعل الضمان مقابلا بالفائت فبقي الباقي على ملكه، كما إذا قطع إحدى يديه أو فقأ إحدى عينيه. ونحن نقول: إن المالية قائمة في الذات وهي معتبرة في حق الأطراف لسقوط اعتبارها في حق الذات قصرا عليه. وإذا كانت معتبرة وقد وجد إتلاف النفس من وجه بتفويت جنس المنفعة والضمان يتقدر بقيمة الكل فوجب أن يتملك الجثة دفعا للضرر ورعاية للمماثلة، بخلاف ما إذا فقأ عيني حر لأنه ليس فيه معنى المالية، وبخلاف عيني المدبر لأنه لا يقبل الانتقال من الملك إلى ملك، وفي قطع إحدى اليدين وفقء إحدى العينين لم يوجد تفويت جنس المنفعة. ولهما أن معنى المالية لما كان معتبرا وجب أن يتخير المولى على الوجه الذي قلناه كما في سائر الأموال فإن من خرق ثوب غيره خرقا فاحشا إن شاء المالك دفع الثوب إليه وضمنه قيمته، وإن شاء أمسك الثوب وضمنه النقصان. وله أن المالية وإن كانت معتبرة في الذات فالآدمية غير مهدرة فيه وفي الأطراف أيضا، ألا ترى أن عبدا لو قطع يد عبد آخر يؤمر المولى بالدفع أو الفداء وهذا من أحكام الآدمية، لأن موجب الجناية على المال أن تباع رقبته فيها ثم من أحكام الأولى أن لا ينقسم على الأجزاء، ولا يتملك الجثة، ومن أحكام الثانية أن ينقسم ويتملك الجثة فوفرنا على الشبهين حظهما من الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 فصل: في جناية المدبر وأم الولد قال: "وإذا جنى المدبر أو أم الولد جناية ضمن المولى الأقل من قيمته ومن أرشها" لما روي عن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه قضى بجناية المدبر على مولاه، ولأنه صار مانعا عن تسليمه في الجناية بالتدبير أو الاستيلاد من غير اختياره الفداء فصار كما إذا فعل ذلك بعد الجناية وهو لا يعلم. وإنما يجب الأقل من قيمته ومن الأرش؛ لأنه لا حق لولي الجناية في أكثر من الأرش، ولا منع من المولى في أكثر من القيمة، ولا تخيير بين الأقل والأكثر لأنه لا يفيد في جنس واحد لاختياره الأقل لا محالة، بخلاف القن لأن الرغبات صادقة في الأعيان فيفيد التخيير بين الدفع والفداء "وجنايات المدبر وإن توالت لا توجب إلا قيمة واحدة" لأنه لا منع منه إلا في رقبة واحدة، ولأن دفع القيمة كدفع العبد وذلك لا يتكرر فهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 كذلك ويتضاربون بالحصص فيها، وتعتبر قيمته لكل واحد في حال الجناية عليه لأن المنع في هذا الوقت يتحقق. قال: "فإن جنى جناية أخرى وقد دفع المولى القيمة إلى ولي الأولى بقضاء فلا شيء عليه" لأنه مجبور على الدفع. قال: "وإن كان المولى دفع القيمة بغير قضاء فالولي بالخيار، إن شاء اتبع المولى وإن شاء اتبع ولي الجناية، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا شيء على المولى" لأنه حين دفع لم تكن الجناية الثانية موجودة فقد دفع كل الحق إلى مستحقة وصار كما إذا دفع القضاء. ولأبي حنيفة أن المولى جان بدفع حق ولي الجناية الثانية طوعا، وولي الأولى ضامن بقبض حقه ظلما فيتخير، وهذا لأن الثانية مقارنة حكما من وجه ولهذا يشارك ولي الجناية الأولى، ومتأخرة حكما من حيث إنه تعتبر قيمته يوم الجناية الثانية في حقها فجعلت كالمقارنة في حق التضمين لإبطاله ما تعلق به من حق ولي الثانية عملا بالشبهين. "وإذا أعتق المولى المدبر وقد جنى جنايات لم تلزمه إلا قيمة واحدة" لأن الضمان إنما وجب عليه بالمنع فصار وجود الإعتاق من بعد وعدمه بمنزلة "وأم الولد بمنزلة المدبر في جميع ما وصفنا" لأن الاستيلاد مانع من الدفع كالتدبير "وإذا أقر المدبر بجناية الخطإ لم يجز إقراره ولا يلزمه به شيء عتق أو لم يعتق" لأن موجب جناية الخطإ على سيده وإقراره به لا ينفذ على السيد، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 باب غصب العبد والمدبر والصبي والجناية في ذلك قال: "ومن قطع يد عبده ثم غصبه رجل ومات في يده من القطع فعليه قيمته أقطع، وإن كان المولى قطع يده في يد الغاصب فمات من ذلك في يد الغاصب لا شيء عليه" والفرق أن الغصب قاطع للسراية لأنه سبب الملك كالبيع فيصير كأنه هلك بآفة سماوية فتجب قيمته أقطع، ولم يوجد القاطع في الفصل الثاني فكانت السراية مضافة إلى البداية فصار المولى متلفا فيصير مستردا، كيف وأنه استولى عليه وهو استرداد فيبرأ الغاصب عن الضمان. قال: "وإذا غصب العبد المحجور عليه عبدا محجورا عليه فمات في يده فهو ضامن" لأن المحجور عليه مؤاخذ بأفعاله. قال: "ومن غصب مدبرا فجنى عنده جناية ثم رده على المولى فجنى عنده جناية أخرى فعلى المولى قيمته بينهما نصفان" لأن المولى بالتدبير السابق أعجز نفسه عن الدفع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 من غير أن يصير مختارا للفداء فيصير مبطلا حق أولياء الجناية إذ حقهم فيه ولم يمنع إلا رقبة واحدة فلا يزاد على قيمتها، ويكون بين ولي الجنايتين نصفين لاستوائهما في الموجب. قال: "ويرجع المولى بنصف قيمته على الغاصب" لأنه استحق نصف البدل بسبب كان في يد الغاصب فصار كما إذا استحق نصف العبد بهذا السبب. قال: "ويدفعه إلى ولي الجناية الأولى ثم يرجع بذلك على الغاصب، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بنصف قيمته فيسلم له" لأن الذي يرجع به المولى على الغاصب عوض ما سلم لولي الجناية الأولى فلا يدفعه إليه كي لا يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد، وكيلا يتكرر الاستحقاق. ولهما أن حق الأول في جميع القيمة لأنه حين جنى في حقه لا يزاحمه أحد، وإنما انتقص باعتبار مزاحمة الثاني فإذا وجد شيئا من بدل العبد في يد المالك فارغا يأخذه ليتم حقه فإذا أخذه منه يرجع المولى بما أخذه على الغاصب لأنه استحق من يده بسبب كان في يد الغاصب. قال: "وإن كان جنى عند المولى فغصبه رجل فجنى عنده جناية أخرى فعلى المولى قيمته بينهما نصفان ويرجع بنصف القيمة على الغاصب" لما بينا في الفصل الأول، غير أن استحقاق النصف حصل بالجناية الثانية إذ كانت هي في يد الغاصب فيدفعه إلى ولي الجناية الأولى ولا يرجع به على الغاصب وهذا بالإجماع. ثم وضع المسألة في العبد فقال: "ومن غصب عبدا فجنى في يده ثم رده فجنى جناية أخرى فإن المولى يدفعه إلى ولي الجنايتين ثم يرجع على الغاصب بنصف القيمة فيدفعه إلى الأول ويرجع به على الغاصب، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بنصف القيمة فيسلم له، وإن جنى عند المولى ثم غصبه فجنى في يده دفعه المولى نصفين ويرجع بنصف قيمته فيدفعه إلى الأول ولا يرجع به" والجواب في العبد كالجواب في المدبر في جميع ما ذكرنا، إلا أن في هذا الفصل يدفع المولى العبد وفي الأول يدفع القيمة. قال: "ومن غصب مدبرا فجنى عنده جناية ثم رده على المولى ثم غصبه ثم جنى عنده جناية فعلى المولى قيمته بينهما نصفان" لأنه منع رقبة واحدة بالتدبير فيجب عليه قيمة واحدة "ثم يرجع بقيمته على الغاصب" لأن الجنايتين كانتا في يد الغاصب "فيدفع نصفها إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 الأول" لأنه استحق كل القيمة، لأن عند وجود الجناية عليه لا حق لغيره، وإنما انتقص بحكم المزاحمة من بعد. قال: "ويرجع به على الغاصب" لأن الاستحقاق بسبب كان في يده ويسلم له، ولا يدفعه إلى ولي الجناية الأولى، ولا إلى ولي الجناية الثانية لأنه لا حق له إلا في النصف لسبق حق الأول وقد وصل ذلك إليه. ثم قيل: هذه المسألة على الاختلاف كالأولى، وقيل على الاتفاق. والفرق لمحمد أن في الأولى الذي يرجع به عوض عما سلم لولي الجناية الأولى لأن الجناية الثانية كانت في يد المالك، فلو دفع إليه ثانيا يتكرر الاستحقاق، فأما في هذه المسألة فيمكن أن يجعل عوضا عن الجناية الثانية لحصولها في يد الغاصب فلا يؤدي إلى ما ذكرناه. قال: "ومن غصب صبيا حرا فمات في يده فجأة أو بحمى فليس عليه شيء، وإن مات من صاعقة أو نهسة حية فعلى عاقلة الغاصب الدية" وهذا استحسان. والقياس أن لا يضمن في الوجهين وهو قول زفر والشافعي، لأن الغصب في الحر لا يتحقق؛ ألا يرى أنه لو كان مكاتبا صغيرا لا يضمن مع أنه حر يدا، فإذا كان الصغير حرا رقبة ويدا أولى. وجه الاستحسان أنه لا يضمن بالغصب ولكن يضمن بالإتلاف، وهذا إتلاف تسببيا لأنه نقله إلى أرض مسبعة أو إلى مكان الصواعق، وهذا لأن الصواعق والحيات والسباع لا تكون في كل مكان، فإذا نقله إليه فهو متعد فيه وقد أزال حفظ الولي فيضاف إليه، لأن شرط العلة ينزل منزلة العلة إذا كان تعديا كالحفر في الطريق، بخلاف الموت فجأة أو بحمى، لأن ذلك لا يختلف باختلاف الأماكن، حتى لو نقله إلى موضع يغلب فيه الحمى والأمراض نقول بأنه يضمن فتجب الدية على العاقلة لكونه قتلا تسبيبا. قال: "وإذا أودع صبي عبدا فقتله فعلى عاقلته الدية، وإن أودع طعاما فأكله لم يضمن" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف والشافعي: يضمن في الوجهين جميعا، وعلى هذا إذا أودع العبد المحجور عليه مالا فاستهلكه لا يؤاخذ بالضمان في الحال عند أبي حنيفة ومحمد، ويؤاخذ به بعد العتق. وعند أبي يوسف والشافعي يؤاخذ به في الحال. وعلى هذا الخلاف الإقراض والإعارة في العبد والصبي. وقال محمد في أصل الجامع الصغير: صبي قد عقل، وفي الجامع الكبير وضع المسألة في صبي ابن اثنتي عشرة سنة، وهذا يدل على أن غير العاقل يضمن بالاتفاق لأن التسليط غير معتبر وفعله معتبر لهما أنه أتلف مالا متقوما معصوما حقا لمالكه فيجب عليه الضمان كما إذا كانت الوديعة عبدا وكما إذا أتلفه غير ش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 الصبي في يد الصبي المودع، ولأبي حنيفة ومحمد أنه أتلف مالا غير معصوم فلا يجب الضمان كما إذا أتلفه بإذنه ورضاه، وهذا لأن العصمة تثبت حقا له وقد فوتها على نفسه حيث وضع المال في يد مانعة فلا يبقى مستحقا للنظر إلا إذا أقام غيره مقام نفسه في الحفظ، ولا إقامة هاهنا لأنه لا ولاية له على الاستقلال على الصبي ولا للصبي على نفسه، بخلاف البالغ والمأذون له لأن لهما ولاية على أنفسهما وبخلاف ما إذا كانت الوديعة عبدا لأن عصمته لحقه إذ هو مبقى على أصل الحرية في حق الدم، وبخلاف ما إذا أتلفه غير الصبي في يد الصبي لأنه سقطت العصمة بالإضافة إلى الصبي الذي وضع في يده المال دون غيره. قال: "وإن استهلك مالا ضمن" يريد به من غير إيداع؛ لأن الصبي يؤاخذ بأفعاله، وصحة القصد لا معتبر بها في حقوق العباد، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 باب القسامة قال: "وإذا وجد القتيل في محلة ولا يعلم من قتله استحلف خمسون رجلا منهم. يتخيرهم الولي بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا" وقال الشافعي: إذا كان هناك لوث استحلف الأولياء خمسين يمينا ويقضي لهم بالدية على المدعى عليه عمدا كانت الدعوى أو خطأ. وقال مالك: يقضي بالقود إذا كانت الدعوى في القتل العمد وهو أحد قولي الشافعي، والموت عندهما أن يكون هناك علامة القتل على واحد بعينه أو ظاهر يشهد للمدعي من عداوة ظاهرة أو شهادة عدل أو جماعة غير عدول أن أهل المحلة قتلوه، وإن لم يكن الظاهر شاهدا له فمذهبه مثل مذهبنا، غير أنه لا يكرر اليمين بل يردها على الولي، فإن حلفوا لا دية عليهم للشافعي في البداء بيمين الولي قوله عليه الصلاة والسلام للأولياء: "فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه" ولأن اليمين تجب على من يشهد له الظاهر ولهذا تجب على صاحب اليد، فإذا كان الظاهر شاهدا للولي يبدأ بيمينه ورد اليمين على المدعي أصل له كما في النكول، غير أن هذه دلالة فيها نوع شبهة والقصاص لا يجامعها والمال يجب معها فلهذا وجبت الدية. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وفي رواية: "على المدعى عليه" وروى سعيد بن المسيب "أن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ باليهود بالقسامة وجعل الدية عليهم لوجود القتيل بين أظهرهم" ولأن اليمين حجة للدفع دون الاستحقاق وحاجة الولي إلى الاستحقاق ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل فأولى أن لا يستحق به النفس المحترمة. وقوله يتخيرهم الولي إشارة إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 أن خيار تعيين الخمسين إلى الولي لأن اليمين حقه، والظاهر أنه يختار من يتهمه بالقتل أو يختار صالحي أهل المحلة لما أن تحرزهم عن اليمين الكاذبة أبلغ التحرز فيظهر القاتل، وفائدة اليمين النكول، فإن كانوا لا يباشرون ويعلمون يفيد يمين الصالح على العلم بأبلغ مما يفيد يمين الطالح، ولو اختاروا أعمى أو محدودا في قذف جاز لأنه يمين وليس بشهادة. قال: "وإذا حلفوا قضى على أهل المحلة بالدية ولا يستحلف الولي" وقال الشافعي لا تجب الدية لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن سهل رضي الله عنه: "تبرئكم اليهود بأيمانها" ولأن اليمين عهد في الشرع مبرئا للمدعى عليه لا ملزما كما في سائر الدعاوى. ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بين الدية والقسامة في حديث ابن سهل وفي حديث زياد بن أبي مريم، وكذا جمع عمر رضي الله عنه بينهما على وادعة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "تبرئكم اليهود" محمول على الإبراء عن القصاص والحبس، وكذا اليمين مبرئة عما وجب له اليمين والقسامة ما شرعت لتجب الدية إذا نكلوا، بل شرعت ليظهر القصاص بتحرزهم عن اليمين الكاذبة فيقروا بالقتل، فإذا حلفوا حصلت البراءة عن القصاص. ثم الدية تجب بالقتل الموجود منهم ظاهرا لوجود القتيل بين أظهرهم لا بنكولهم، أو وجبت بتقصيرهم في المحافظة كما في القتل الخطإ "ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف" لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم ولهذا يجمع بينه وبين الدية، بخلاف النكول في الأموال لأن اليمين بدل عن أصل حقه ولهذا يسقط ببذل المدعي وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد أو الخطإ لأنهم لا يتميزون عن الباقي، ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ فكذلك الجواب، يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب، وهكذا الجواب في المبسوط. وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل أن في القياس تسقط القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة، ويقال للولي ألك بينة؟ فإن قال لا يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة. ووجهه أن القياس يأباه لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم. وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 تكن استحلفه يمينا واحدة لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس. ثم إن حلف برئ وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، وإن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى. قال: "وإن لم يكمل أهل المحلة كررت الأيمان عليهم حتى تتم خمسين" لما روي أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلا فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين ثم قضى بالدية. وعن شريح والنخعي رحمهما الله مثل ذلك، ولأن الخمسين واجب بالسنة فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يطلب فيه الوقوف على الفائدة لثبوتها بالسنة، ثم فيه استعظام أمر الدم، فإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر على أحدهم فليس له ذلك، لأن المصير إلى التكرار ضرورة الإكمال. قال: "ولا قسامة على صبي ولا مجنون" لأنهما ليسا من أهل القول الصحيح واليمين قول صحيح. قال: "ولا امرأة ولا عبد" لأنهما ليسا من أهل النصرة واليمين على أهلها. قال: "وإن وجد ميتا لا أثر به فلا قسامة ولا دية" لأنه ليس بقتيل، إذ القتيل في العرف من فاتت حياته بسبب يباشره حي وهذا ميت حتف أنفه، والغرامة تتبع فعل العبد والقسامة تتبع احتمال القتل ثم يجب عليهم القسم فلا بد من أن يكون به أثر يستدل به على كونه قتيلا، وذلك بأن يكون به جراحة أو أثر ضرب أو خنق، وكذا إذا كان خرج الدم من عينه أو أذنه لأنه لا يخرج منها إلا بفعل من جهة الحي عادة، بخلاف ما إذا خرج من فيه أو دبره أو ذكره لأن الدم يخرج من هذه المخارج عادة بغير فعل أحد، وقد ذكرناه في الشهيد. "ولو وجد بدن القتيل أو أكثر من نصف البدن أو النصف ومعه الرأس في محلة فعلى أهلها القسامة والدية، وإن وجد نصفه مشقوقا بالطول أو وجد أقل من النصف ومعه الرأس أو وجد يده أو رجله أو رأسه فلا شيء عليهم" لأن هذا حكم عرفناه بالنص وقد ورد به في البدن، إلا أن للأكثر حكم الكل تعظيما للآدمي، بخلاف الأقل لأنه ليس ببدن ولا ملحق به فلا تجري فيه القسامة، ولأنا لو اعتبرناه تتكرر القسامتان والديتان بمقابلة نفس واحدة ولا تتواليان، والأصل فيه أن الموجود الأول إن كان بحال لو وجد الباقي تجري فيه القسامة لا تجب فيه، وإن كان بحال لو وجد الباقي لا تجري فيه القسامة تجب، والمعنى ما أشرنا إليه، وصلاة الجنازة في هذا تنسحب على هذا الأصل لأنها لا تتكرر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 "ولو وجد فيهم جنين أو سقط ليس به أثر الضرب فلا شيء على أهل المحلة" لأنه لا يفوق الكبير حالا "وإن كان به أثر الضرب وهو تام الخلق وجبت القسامة والدية عليهم" لأن الظاهر أن تام الخلق ينفصل حيا "وإن كان ناقص الخلق فلا شيء عليهم" لأنه ينفصل ميتا لا حيا. قال: "وإذا وجد القتيل على دابة يسوقها رجل فالدية على عاقلته دون أهل المحلة" لأنه في يده فصار كما إذا كان في داره، وكذا إذا كان قائدها أو راكبها "فإن اجتمعوا فعليهم" لأن القتيل في أيديهم فصار كما إذا وجد في دارهم. قال: "وإن مرت دابة بين القريتين وعليها قتيل فهو على أقربهما" لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بقتيل وجد بين قريتين فأمر أن يذرع". وعن عمر رضي الله عنه أنه لما كتب إليه في القتيل الذي وجد بين وداعة وأرحب كتب بأن يقيس بين قريتين، فوجد القتيل إلى وادعة أقرب فقضى عليهم بالقسامة. قيل هذا محمول على ما إذا كان بحيث يبلغ أهله الصوت، لأنه إذا كان بهذه الصفة يلحقه الغوث فتمكنهم النصرة وقد قصروا. قال: "وإذا وجد القتيل في دار إنسان فالقسامة عليه" لأن الدار في يده "والدية على عاقلته" لأن نصرته منهم وقوته بهم. قال: "ولا تدخل السكان في القسامة مع الملاك عند أبي حنيفة" وهو قول محمد "وقال أبو يوسف هو عليهم جميعا" لأن ولاية التدبير كما تكون بالملك تكون بالسكنى ألا ترى "أنه عليه الصلاة والسلام جعل القسامة والدية على اليهود وإن كانوا سكانا بخيبر". ولهما أن المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان لأن سكنى الملاك ألزم وقرارهم أدوم فكانت ولاية التدبير إليهم فيتحقق التقصير منهم. وأما أهل خيبر فالنبي عليه الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم فكان يأخذ منهم على وجه الخراج. قال: "وهي على أهل الخطة دون المشترين" وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: الكل مشتركون لأن الضمان إنما يجب بترك الحفظ ممن له ولاية الحفظ وبهذا الطريق يجعل جانبا مقصرا، والولاية باعتبار الملك وقد استووا فيه. ولهما أن صاحب الخطة هو المختص بنصرة البقعة هو المتعارف، ولأنه أصيل والمشتري دخيل وولاية التدبير إلى الأصيل، وقيل: أبو حنيفة بنى ذلك على ما شاهد بالكوفة. قال: "وإن بقي واحد منهم بأن باعوا كلهم فهو على المشترين" لأن الولاية انتقلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 إليهم أو خلصت لهم لزوال من يتقدمهم أو يزاحمهم. "وإذا وجد قتيل في دار فالقسامة على رب الدار وعلى قومه وتدخل العاقلة في القسامة إن كانوا حضورا، وإن كانوا غيبا فالقسامة على رب الدار يكرر عليه الأيمان" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا قسامة على العاقلة؛ لأن رب الدار أخص به من غيره فلا يشاركه غيره فيها كأهل المحلة لا يشاركهم فيها عواقلهم. ولهما أن الحضور لزمتهم نصرة البقعة كما تلزم صاحب الدار فيشاركونه في القسامة. قال: "وإن وجد القتيل في دار مشتركة نصفها لرجل وعشرها لرجل ولآخر ما بقي فهو على رءوس الرجال" لأن صاحب القليل يزاحم صاحب الكثير في التدبير فكانوا سواء في الحفظ والتقصير فيكون على عدد الرءوس بمنزلة الشفعة. قال: "ومن اشترى دارا ولم يقبضها حتى وجد فيها قتيل فهو على عاقلة البائع وإن كان في البيع خيار لأحدهما فهو على عاقلة الذي في يده" وهذا عند أبي حنيفة وقالا: إن لم يكن فيه خيار فهو على عاقلة المشتري وإن كان فيه خيار فهو على عاقلة الذي تصير له، لأنه إنما أنزل قاتلا باعتبار التقصير في الحفظ ولا يجب إلا على من له ولاية الحفظ، والولاية تستفاد بالملك ولهذا كانت الدية على عاقلة صاحب الدار دون المودع، والملك للمشتري قبل القبض في البيع البات، وفي المشروط فيه الخيار يعتبر قرار الملك كما في صدقة الفطر. وله أن القدرة على الحفظ باليد لا بالملك؛ ألا يرى أنه يقتدر على الحفظ باليد دون الملك ولا يقتدر بالملك دون اليد، وفي البات اليد للبائع قبل القبض، وكذا فيما فيه الخيار لأحدهما قبل القبض؛ لأنه دون البات، ولو كان المبيع في يد المشتري والخيار له فهو أخص الناس به تصرفا، ولو كان الخيار للبائع فهو في يده مضمون عليه بالقيمة كالمغصوب فتعتبر يده إذ بها يقدر على الحفظ. قال: "ومن كان في يده دار فوجد فيها قتيل لم تعقله العاقلة حتى تشهد الشهود أنها للذي في يده" لأنه لا بد من الملك لصاحب اليد حتى تعقل العواقل عنه، واليد وإن كانت دليلا على الملك لكنها محتملة فلا تكفي لإيجاب الدية على العاقلة كما لا تكفي لاستحقاق الشفعة به في الدار المشفوعة فلا بد من إقامة البينة. قال: "وإن وجد قتيل في سفينة فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين" لأنها في أيديهم واللفظ يشمل أربابها حتى تجب على الأرباب الذين فيها وعلى السكان، وكذا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 من يمدها والمالك في ذلك وغير المالك سواء، وكذا العجلة، وهذا على ما روي عن أبي يوسف ظاهر. والفرق لهما أن السفينة تنقل وتحول فيعتبر فيها اليد دون الملك كما في الدابة، بخلاف المحلة والدار لأنها لا تنقل. قال: "وإن وجد في مسجد محلة فالقسامة على أهلها" لأن التدبير فيه إليهم "وإن وجد في المسجد الجامع أو الشارع الأعظم فلا قسامة فيه والدية على بيت المال" لأنه للعامة لا يختص به واحد منهم، وكذلك الجسور العامة ومال بيت المال مال عامة المسلمين. "ولو وجد في السوق إن كان مملوكا فعند أبي يوسف تجب على السكان وعندهما على المالك، وإن لم يكن مملوكا كالشوارع العامة التي بنيت فيها فعلى بيت المال" لأنه لجماعة المسلمين "ولو وجد في السجن فالدية على بيت المال، وعلى قول أبي يوسف الدية والقسامة على أهل السجن" لأنهم سكان وولاية التدبير إليهم، والظاهر أن القتل حصل منهم، وهما يقولان: إن أهل السجن مقهورون فلا يتناصرون فلا يتعلق بهم ما يجب لأجل النصرة، ولأنه بني لاستيفاء حقوق المسلمين، فإذا كان غنمه يعود إليهم فغرمه يرجع عليهم. قالوا: وهذه فريعة المالك والساكن وهي مختلف فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. قال: "وإن وجد في برية ليس بقربها عمارة فهو هدر" وتفسير القرب ما ذكرنا من استماع الصوت لأنه إذا كان بهذه الحالة لا يلحقه الغوث من غيره فلا يوصف أحد بالتقصير، وهذا إذا لم تكن مملوكة لأحد. أما إذا كانت فالدية والقسامة على عاقلته "وإن وجد بين قريتين كان على أقربهما" وقد بيناه. "وإن وجد في وسط الفرات يمر به الماء فهو هدر" لأنه ليس في يد أحد ولا في ملكه "وإن كان محتبسا بالشاطئ فهو على أقرب القرى من ذلك المكان" على التفسير الذي تقدم لأنه اختص بنصرة هذا الموضع فهو كالموضوع على الشط والشط في يد من هو أقرب منه؛ ألا ترى أنهم يستقون منه الماء ويوردون بهائمهم فيها، بخلاف النهر الذي يستحق به الشفعة لاختصاص أهلها به لقيام يدهم عليه فتكون القسامة والدية عليهم. قال: "وإن ادعى الولي على واحد من أهل المحلة بعينه لم تسقط القسامة عنهم" وقد ذكرناه وذكرنا فيه القياس والاستحسان. قال: "وإن ادعى على واحد من غيرهم سقطت عنهم" وقد بيناه من قبل ووجه الفرق هو أن وجوب القسامة عليهم دليل على أن القاتل منهم فتعيينه واحدا منهم لا ينافي ابتداء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 الأمر لأنه منهم بخلاف ما إذا عين من غيرهم لأن ذلك بيان أن القاتل ليس منهم، وهم إنما يغرمون إذا كان القاتل منهم لكونهم قتلة تقديرا حيث لم يأخذوا على يد الظالم، ولأن أهل المحلة لا يقومون بمجرد ظهور القتيل بين أظهرهم إلا بدعوى الولي، فإذا ادعى القتل على غيرهم امتنع دعواه عليهم وسقط لفقد شرطه. قال: "وإذا التقى قوم بالسيوف فأجلوا عن قتيل فهو على أهل المحلة" لأن القتيل بين أظهرهم والحفظ عليهم "إلا أن يدعي الأولياء على أولئك أو على رجل منهم بعينه فلم يكن على أهل المحلة شيء" لأن هذه الدعوى تضمنت براءة أهل المحلة عن القسامة. قال: "ولا على أولئك حتى يقيموا البينة" لأن بمجرد الدعوى لا يثبت الحق للحديث الذي رويناه، أما يسقط به الحق عن أهل المحلة لأن قوله حجة على نفسه. "ولو وجد قتيل في معسكر أقاموه بفلاة من الأرض لا ملك لأحد فيها، فإن وجد في خباء أو فسطاط فعلى من يسكنها الدية والقسامة، وإن كان خارجا من الفسطاط فعلى أقرب الأخبية" اعتبارا لليد عند انعدام الملك "وإن كان القوم لقوا قتالا ووجد قتيل بين أظهرهم فلا قسامة ولا دية" لأن الظاهر أن العدو قتله فكان هدرا، وإن لم يلقوا عدوا فعلى ما بيناه "وإن كان للأرض مالك فالعسكر كالسكان فيجب على المالك عند أبي حنيفة" خلافا لأبي يوسف وقد ذكرناه. قال: "وإذا قال المستحلف قتله فلان استحلف بالله ما قتلت ولا عرفت له قاتلا غير فلان" لأنه يريد إسقاط الخصومة عن نفسه بقوله فلا يقبل فيحلف على ما ذكرنا، لأنه لما أقر بالقتل على واحد صار مستثنى عن اليمين فبقي حكم من سواه فيحلف عليه. قال: "وإذا شهد اثنان من أهل المحلة على رجل من غيرهم أنه قتل لم تقبل شهادتهما" وهكذا عند أبي حنيفة، وقالا: تقبل لأنهم كانوا بعرضية أن يصيروا خصماء وقد بطلت العرضية بدعوى الولي القتل على غيرهم فتقبل شهادتهم كالوكيل بالخصومة إذا عزل قبل الخصومة. وله أنهم خصماء بإنزالهم قاتلين للتقصير الصادر منهم فلا تقبل شهادتهم وإن خرجوا من جملة الخصوم كالوصي إذا خرج من الوصاية بعدما قبلها ثم شهد. قال رضي الله عنه: وعلى هذين الأصلين يتخرج كثير من المسائل من هذا الجنس. قال: "ولو ادعى على واحد من أهل المحلة بعينه فشهد شاهدان من أهلها عليه لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 تقبل الشهادة" لأن الخصومة قائمة مع الكل على ما بيناه والشاهد يقطعها عن نفسه فكان متهما. وعن أبي يوسف أن الشهود يحلفون بالله ما قتلناه ولا يزدادون على ذلك لأنهم أخبروا أنهم عرفوا القاتل. قال: "ومن جرح في قبيلة فنقل إلى أهله فمات من تلك الجراحة، فإن كان صاحب فراش حتى مات فالقسامة والدية على القبيلة، وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: لا قسامة ولا دية" لأن الذي حصل في القبيلة والمحلة ما دون النفس ولا قسامة فيه، فصار كما إذا لم يكن صاحب فراش. وله أن الجرح إذا اتصل به الموت صار قتلا ولهذا وجب القصاص، فإن كان صاحب فراش أضيف إليه، وإن لم يكن احتمل أن يكون الموت من غير الجرح فلا يلزم بالشك. قال: "ولو أن رجلا معه جريح به رمق حمله إنسان إلى أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لم يضمن الذي حمله إلى أهله في قول أبي يوسف وفي قياس قول أبي حنيفة يضمن" لأن يده بمنزلة المحلة فوجوده جريحا في يده كوجوده فيها، وقد ذكرنا وجهي القولين فيما قبله من مسألة القبيلة. قال: "ولو وجد رجل قتيلا في دار نفسه فديته على عاقلته لورثته عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد وزفر لا شيء فيه" لأن الدار في يده حين وجد الجريح فيجعل كأنه قتل نفسه فيكون هدرا. وله أن القسامة إنما تجب بناء على ظهور القتل، ولهذا لا يدخل في الدية من مات قبل ذلك، وحال ظهور القتل الدار للورثة فتجب على عاقلتهم، بخلاف المكاتب إذا وجد قتيلا في دار نفسه لأن حال ظهور قتله بقيت الدار على حكم ملكه فيصير كأنه قتل نفسه فيهدر دمه. "ولو أن رجلين كانا في بيت وليس معهما ثالث فوجد أحدهما مذبوحا، قال أبو يوسف: يضمن الآخر الدية، وقال محمد: لا يضمنه" لأنه يحتمل أنه قتل نفسه فكان التوهم. ويحتمل أنه قتله الآخر فلا يضمنه بالشك. ولأبي يوسف أن الظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه فكان التوهم ساقطا كما إذا وجد قتيل في محلة. "ولو وجد قتيل في قرية لامرأة فعند أبي حنيفة ومحمد عليها القسامة تكرر عليها الأيمان، والدية على عاقلتها أقرب القبائل إليها في النسب. وقال أبو يوسف: على العاقلة أيضا" لأن القسامة إنما تجب على من كان من أهل النصرة والمرأة ليست من أهلها فأشبهت الصبي. ولهما أن القسامة لنفي التهمة وتهمة القتل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 المرأة متحققة. قال المتأخرون: إن المرأة تدخل مع العاقلة في التحمل في هذه المسألة لأنا أنزلناها قاتلة والقاتل يشارك العاقلة. "ولو وجد رجل قتيلا في أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهلها، قال: هو على صاحب الأرض" لأنه أحق بنصرة أرضه من أهل القرية، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 كتاب المعاقل والعاقلة أهل الديوان إن كان القاتل من أهل الديوان الخ ... كتاب المعاقل المعاقل جمع معقلة، وهي الدية، وتسمى الدية عقلا لأنها تعقل الدماء من أن تسفك: أي تمسك. قال: "والدية في شبه العمد والخطإ، وكل دية تجب بنفس القتل على العاقلة، والعاقلة الذين يعقلون" يعني يؤدون العقل وهو الدية، وقد ذكرناه في الديات. والأصل في وجوبها على العاقلة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث حمل بن مالك رضي الله عنه للأولياء "قوموا فدوه" ولأن النفس محترمة لا وجه إلى الإهدار والخاطئ معذور، وكذا الذي تولى شبه العمد نظرا إلى الآلة فلا وجه إلى إيجاب العقوبة عليه، وفي إيجاب مال عظيم إجحافه واستئصاله فيصير عقوبة فضم إليه العاقلة تحقيقا للتخفيف. وإنما خصوا بالضم لأنه إنما قصر لقوة فيه وتلك بأنصاره وهم العاقلة فكانوا هم المقصرين في تركهم مراقبته فخصوا به. قال: "والعاقلة أهل الديوان إن كان القاتل من أهل الديوان يؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين" وأهل الديوان أهل الرايات وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان وهذا عندنا. وقال الشافعي: الدية على أهل العشيرة لأنه كان كذلك على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا نسخ بعده ولأنه صلة والأولى بها الأقارب. ولنا قضية عمر رضي الله عنه فإنه لما دون الدواوين جعل العقل على أهل الديوان، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير منهم، وليس ذلك بنسخ بل هو تقرير معنى لأن العقل كان على أهل النصرة وقد كانت بأنواع: بالقرابة والحلف والولاء والعد. وفي عهد عمر رضي الله عنه قد صارت بالديوان فجعلها على أهله اتباعا للمعنى ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلف فأهله والدية صلة كما قال، لكن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء أولى منه في أصول أموالهم، والتقدير بثلاث سنين مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام ومحكي عن عمر رضي الله عنه، ولأن الأخذ من العطاء للتخفيف والعطاء يخرج في كل سنة مرة "فإن خرجت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 العطايا في أكثر من ثلاث سنين أو أقل أخذ منها" لحصول المقصود. وتأويله: إذا كانت العطايا للسنين المستقبلة بعد القضاء، حتى لو اجتمعت في السنين الماضية قبل القضاء ثم خرجت بعد القضاء لا يؤخذ منها لأن الوجوب بالقضاء على ما نبين إن شاء الله تعالى. ولو خرج للقاتل ثلاث عطايا في سنة واحدة معناه في المستقبل يؤخذ منها كل الدية لما ذكرنا، وإذا كان جميع الدية في ثلاث سنين فكل ثلث منها في سنة، وإن كان الواجب بالعقل ثلث دية النفس أو أقل كان في سنة واحدة وما زاد على الثلث إلى تمام الثلثين في السنة الثانية، وما زاد على ذلك إلى تمام الدية في السنة الثالثة. وما وجب على العاقلة من الدية أو على القاتل بأن قتل الأب ابنه عمدا فهو في ماله في ثلاث سنين. وقال الشافعي رحمه الله: وما وجب على القاتل في ماله فهو حال، لأن التأجيل للتخفيف لتحمل العاقلة فلا يلحق به العمد المحض. ولنا أن القياس يأباه والشرع ورد به مؤجلا فلا يتعداه. ولو قتل عشرة رجلا خطأ فعلى كل واحد عشر الدية في ثلاث سنين اعتبارا للجزء بالكل إذ هو بدل النفس، وإنما يعتبر مدة ثلاث سنين من وقت القضاء بالدية لأن الواجب الأصلي المثل والتحول إلى القيمة بالقضاء فيعتبر ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور. قال: "ومن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته" لأن نصرته بهم وهي المعتبرة في التعاقل. قال: "وتقسم عليهم في ثلاث سنين لا يزاد الواحد على أربعة دراهم في كل سنة وينقص منها" قال رضي الله عنه: كذا ذكره القدوري رحمه الله في مختصره، وهذا إشارة إلى أنه يزاد على أربعة من جميع الدية، وقد نص محمد رحمه الله على أنه لا يزاد على كل واحد من جميع الدية في ثلاث سنين على ثلاثة أو أربعة فلا يؤخذ من كل واحد في كل سنة إلا درهم أو درهم وثلث درهم وهو الأصح. قال: "وإن لم يكن تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل" معناه: نسبا كل ذلك لمعنى التخفيف ويضم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات: الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم. وأما الآباء والأبناء فقيل يدخلون لقربهم، وقيل لا يدخلون لأن الضم لنفي الحرج حتى لا يصيب كل واحد أكثر من ثلاثة أو أربعة، وهذا المعنى إنما يتحقق عند الكثرة والآباء والأبناء لا يكثرون، وعلى هذا حكم الرايات إذا لم يتسع لذلك أهل راية ضم إليهم أقرب الرايات: يعني أقربهم نصرة إذا حزبهم أمر الأقرب فالأقرب، ويفوض ذلك إلى الإمام لأنه هو العالم به، ثم هذا كله عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجب على كل واحد نصف دينار فيسوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 بين الكل لأنه صلة فيعتبر بالزكاة وأدناها ذلك إذ خمسة دراهم عندهم نصف دينار، ولكنا نقول: هي أحط رتبة منها؛ ألا ترى أنها لا تؤخذ من أصل المال فينتقص منها تحقيقا لزيادة التخفيف. "ولو كانت عاقلة الرجل أصحاب الرزق يقضى بالدية في أرزاقهم في ثلاث سنين في كل سنة الثلث" لأن الرزق في حقهم بمنزلة العطاء قائم مقامه إذ كل منهما صلة من بيت المال، ثم ينظر إن كانت أرزاقهم تخرج في كل سنة، فكما يخرج رزق يؤخذ منه الثلث بمنزلة العطاء، وإن كان يخرج في كل ستة أشهر وخرج بعد القضاء يؤخذ منه سدس الدية وإن كان يخرج في كل شهر يؤخذ من كل رزق بحصته من الشهر حتى يكون المستوفي في كل سنة مقدار الثلث، وإن خرج بعد القضاء بيوم أو أكثر أخذ من رزق ذلك الشهر بحصة الشهر، وإن كانت لهم أرزاق في كل شهر وأعطية في كل سنة فرضت الدية في الأعطية دون الأرزاق لأنه أيسر، إما لأن الأعطية أكثر، أو لأن الرزق لكفاية الوقت فيتعسر الأداء منه والأعطيات ليكونوا في الديوان قائمين بالنصرة فيتيسر عليهم. قال: "وأدخل القاتل مع العاقلة فيكون فيما يؤدي كأحدهم" لأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره. وقال الشافعي: لا يجب على القاتل شيء من الدية اعتبارا للجزء بالكل في النفي عنه والجامع كونه معذورا. قلنا: إيجاب الكل إجحاف به ولا كذلك إيجاب الجزء، ولو كان الخاطئ معذورا فالبريء منه أولى، قال الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [الأنعام:164] "وليس على النساء والذرية ممن كان له حظ في الديوان عقل" لقول عمر رضي الله عنه: لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة، ولأن العقل إنما يجب على أهل النصرة لتركهم مراقبته، والناس لا يتناصرون بالصبيان والنساء ولهذا لا يوضع عليهم ما هو خلف عن النصرة وهو الجزية، وعلى هذا لو كان القاتل صبيا أو امرأة لا شيء عليهما من الدية بخلاف الرجل، لأن وجوب جزء من الدية على القاتل باعتبار أنه أحد العواقل لأنه ينصر نفسه وهذا لا يوجد فيهما، والفرض لهما من العطاء للمعونة لا للنصرة كفرض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن. "ولا يعقل أهل مصر عن مصر آخر" يريد به أنه إذا كان لأهل كل مصر ديوان على حدة لأن التناصر بالديوان عند وجوده، ولو كان باعتبار القرب في السكنى فأهل مصره أقرب إليه من أهل مصر آخر "ويعقل أهل كل مصر من أهل سوادهم" لأنهم أتباع لأهل المصر، فإنهم إذا حزبهم أمر استنصروا بهم فيعقلهم أهل المصر باعتبار معنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 القرب في النصرة "ومن كان منزله بالبصرة وديوانه بالكوفة عقل عنه أهل الكوفة" لأنه يستنصر بأهل ديوانه لا بجيرانه. والحاصل: أن الاستنصار بالديوان أظهر فلا يظهر معه حكم النصرة بالقرابة والنسب والولاء وقرب السكنى وغيره وبعد الديوان النصرة بالنسب على ما بيناه، وعلى هذا يخرج كثير من صور مسائل المعاقل "ومن جنى جناية من أهل المصر وليس له في الديوان عطاء وأهل البادية أقرب إليه ومسكنه المصر عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر" ولم يشترط أن يكون بينه وبين أهل الديوان قرابة، قيل هو صحيح لأن الذين يذبون عن أهل المصر ويقومون بنصرتهم ويدفعون عنهم أهل الديوان من أهل المصر ولا يخصون به أهل العطاء. وقيل تأويله إذا كان قريبا لهم، وفي الكتاب إشارة إليه حيث قال: وأهل البادية أقرب إليه من أهل مصر، وهذا لأن الوجوب عليهم بحكم القرابة وأهل المصر أقرب منهم مكانا فكانت القدرة على النصرة لهم وصار نظير مسألة الغيبة المنقطعة "ولو كان البدوي نازلا في المصر لا مسكن له فيه لا يعقله أهل المصر" لأن أهل العطاء لا ينصرون من لا مسكن له فيه، كما أن أهل البادية لا تعقل عن أهل المصر النازل فيهم لأنه لا يستنصر بهم "وإن كان لأهل الذمة عواقل معروفة يتعاقلون بها فقتل أحدهم قتيلا فديته على عاقلته بمنزلة المسلم" لأنهم التزموا أحكام الإسلام في المعاملات لا سيما في المعاني العاصمة عن الإصرار، ومعنى التناصر موجود في حقهم "وإن لم تكن لهم عاقلة معروفة فالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى بها عليه" كما في حق المسلم لما بينا أن الوجوب على القاتل وإنما يتحول عنه إلى العاقلة أن لو وجدت، فإذا لم توجد بقيت عليه بمنزلة تاجرين مسلمين في دار الحرب قتل أحدهما صاحبه يقضى بالدية عليه في ماله لأن أهل دار الإسلام لا يعقلون عنه، وتمكنه من هذا القتل ليس بنصرتهم. "ولا يعقل كافر عن مسلم ولا مسلم عن كافر" لعدم التناصر والكفار يتعاقلون فيما بينهم وإن اختلفت مللهم لأن الكفر كله ملة واحدة. قالوا: هذا إذا لم تكن المعاداة فيما بينهم ظاهرة، أما إذا كانت ظاهرة كاليهود والنصارى ينبغي أن لا يتعاقلون بعضهم عن بعض، وهكذا عن أبي يوسف لانقطاع التناصر. ولو كان القاتل من أهل الكوفة وله بها عطاء فحول ديوانه إلى البصرة ثم رفع إلى القاضي فإنه يقضى بالدية على عاقلته من أهل البصرة. وقال زفر رحمه الله تعالى: يقضى على عاقلته من أهل الكوفة وهو رواية عن أبي يوسف، لأن الموجب هو الجناية وقد تحقق وعاقلته أهل الكوفة، وصار كما إذا حول بعد القضاء. ولنا أن المال إنما يجب عند القضاء لما ذكرنا أن الواجب هو المثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 وبالقضاء ينتقل إلى المال، وكذا الوجوب على القاتل وتتحمل عنه عاقلته، وإذا كان كذلك يتحمل عنه من يكون عاقلته عند القضاء، بخلاف ما بعد القضاء لأن الواجب قد تقرر بالقضاء فلا ينتقل بعد ذلك، لكن حصة القاتل تؤخذ من عطائه بالبصرة لأنها تؤخذ من العطاء وعطاؤه بالبصرة، بخلاف ما إذا قلت العاقلة بعد القضاء عليهم حيث يضم إليهم أقرب القبائل في النسب، لأن في النقل إبطال حكم الأول فلا يجوز بحال، وفي الضم تكثير المتحملين لما قضي به عليهم فكان فيه تقرير الحكم الأول لا إبطاله، وعلى هذا لو كان القاتل مسكنه بالكوفة وليس له عطاء فلم يقض عليه حتى استوطن البصرة قضي بالدية على أهل البصرة، ولو كان قضى بها على أهل الكوفة لم ينتقل عنهم، وكذا البدوي إذا ألحق بالديوان بعد القتل قبل القضاء يقضى بالدية على أهل الديوان، وبعد القضاء على عاقلته بالبادية لا يتحول عنهم، وهذا بخلاف ما إذا كان قوم من أهل البادية قضي بالدية عليهم في أموالهم في ثلاث سنين ثم جعلهم الإمام في العطاء حيث تصير الدية في أعطياتهم وإن كان قضى بها أول مرة في أموالهم لأنه ليس فيه نقض القضاء الأول لأنه قضى بها في أموالهم وأعطياتهم أموالهم، غير أن الدية تقضى من أيسر الأموال أداء، والأداء من العطاء أيسر إذا صاروا من أهل العطاء إلا إذا لم يكن مال العطاء من جنس ما قضي به عليه بأن كان القضاء بالإبل والعطاء دراهم فحينئذ لا تتحول إلى الدراهم أبدا لما فيه من إبطال القضاء الأول، لكن يقضى ذلك من مال العطاء لأنه أيسر. قال: "وعاقلة المعتق قبيلة مولاه" لأن النصرة بهم يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "مولى القوم منهم". قال: "ومولى الموالاة يعقل عنه مولاه وقبيلته" لأنه ولاء يتناصر به فأشبه ولاء العتاقة، وفيه خلاف الشافعي وقد مر في كتاب الولاء. قال: "ولا تعقل العاقلة أقل من نصف عشر الدية وتتحمل نصف العشر فصاعدا" والأصل فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لا تعقل العواقل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة" وأرش الموضحة نصف عشر بدل النفس، ولأن التحمل للتحرز عن الإجحاف ولا إجحاف في القليل وإنما هو في الكثير، والتقدير الفاصل عرف بالسمع. قال: "وما نقص من ذلك يكون في مال الجاني" والقياس فيه التسوية بين القليل والكثير فيجب الكل على العاقلة كما ذهب إليه الشافعي، أو التسوية في أن لا يجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 على العاقلة شيء، إلا أنا تركناه بما روينا، وبما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أوجب أرش الجنين على العاقلة" وهو نصف عشر بدل الرجل على ما مر في الديات، فما دونه يسلك به مسلك الأموال لأنه يجب بالتحكيم كما يجب ضمان المال بالتقويم فلهذا كان في مال الجاني أخذا بالقياس. قال: "ولا تعقل العاقلة جناية العبد ولا ما لزم بالصلح أو باعتراف الجاني" لما روينا، ولأنه لا تناصر بالعبد والإقرار والصلح لا يلزمان العاقلة لقصور الولاية عنهم. قال: "إلا أن يصدقوه" لأنه ثبت بتصادقهم والامتناع كان لحقهم ولهم ولاية على أنفسهم. "ومن أقر بقتل خطإ ولم يرفعوا إلى القاضي إلا بعد سنين قضي عليه بالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى" لأن التأجيل من وقت القضاء في الثابت بالبينة ففي الثابت بالإقرار أولى "ولو تصادق القاتل وولي الجناية على أن قاضي بلد كذا قضى بالدية على عاقلته بالكوفة بالبينة وكذبهما العاقلة فلا شيء على العاقلة" لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم "ولم يكن عليه شيء في ماله" لأن الدية بتصادقهما تقررت على العاقلة بالقضاء وتصادقهما حجة في حقهما، بخلاف الأول "إلا أن يكون له عطاء معهم فحينئذ يلزمه بقدر حصته" لأنه في حق حصته مقر على نفسه وفي حق العاقلة مقر عليهم. قال: "وإذا جنى الحر على العبد فقتله خطأ كان على عاقلته قيمته" لأنه بدل النفس على ما عرف من أصلنا. وفي أحد قولي الشافعي تجب في ماله لأنه بدل المال عنده ولهذا يوجب قيمته بالغة ما بلغت، وما دون النفس من العبد لا تتحمله العاقلة لأنه يسلك به مسلك الأموال عندنا على ما عرف، وفي أحد قوليه العاقلة تتحمله كما في الحر وقد مر من قبل. قال أصحابنا: إن القاتل إذا لم يكن له عاقلة فالدية في بيت المال لأن جماعة المسلمين هم أهل نصرته وليس بعضهم أخص من بعض بذلك، ولهذا لو مات كان ميراثه لبيت المال فكذا ما يلزمه من الغرامة يلزم بيت المال. وعن أبي حنيفة رواية شاذة أن الدية في ماله، ووجهه أن الأصل أن تجب الدية على القاتل لأنه بدل متلف والإتلاف منه، إلا أن العاقلة تتحملها تحقيقا للتخفيف على ما مر. وإذا لم يكن له عاقلة عاد الحكم إلى الأصل. "وابن الملاعنة تعقله عاقلة أمه" لأن نسبه ثابت منها دون الأب "فإن عقلوا عنه ثم ادعاه الأب رجعت عاقلة الأم بما أدت على عاقلة الأب في ثلاث سنين من يوم يقضي القاضي لعاقلة الأم على عاقلة الأب" لأنه تبين أن الدية واجبة عليهم لأن عند الإكذاب ظهر أن النسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 لم يزل كان ثابتا من الأب حيث بطل اللعان بالإكذاب، ومتى ظهر من الأصل فقوم الأم تحملوا ما كان واجبا على قوم الأب فيرجعون عليهم لأنهم مضطرون في ذلك، وكذلك إن مات المكاتب عن وفاء وله ولد حر فلم يؤد كتابته حتى جنى ابنه وعقل عنه قوم أمه ثم أديت الكتابة لأنه عند الأداء يتحول ولاؤه إلى قوم أبيه من وقت حرية الأب وهو آخر جزء من أجزاء حياته فيتبين أن قوم الأم عقلوا عنهم فيرجعون عليهم، وكذلك رجل أمر صبيا بقتل رجل فقتله فضمنت عاقلة الصبي الدية رجعت بها على عاقلة الآمر إن كان الأمر ثبت بالبينة، وفي مال الآمر إن كان ثبت بإقراره في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي على الآمر، أو على عاقلته لأن الديات تجب مؤجلة بطريق التيسير. قال رضي الله عنه: هاهنا عدة مسائل ذكرها محمد متفرقة، والأصل الذي يخرج عليه أن يقال: حال القاتل إذا تبدل حكما فانتقل ولاؤه إلى ولاء بسبب أمر حادث لم تنتقل جنايته عن الأول قضى بها أو لم يقض، وإن ظهرت حالة خفية مثل دعوة ولد الملاعنة حولت الجناية إلى الأخرى وقع القضاء بها أو لم يقع، ولو لم يختلف حال الجاني ولكن العاقلة تبدلت كان الاعتبار في ذلك لوقت القضاء، فإن كان قضى بها على الأولى لم تنتقل إلى الثانية، وإن لم يكن قضى بها على الأولى فإنه يقضي بها على الثانية، وإن كانت العاقلة واحدة فلحقها زيادة أو نقصان اشتركوا في حكم الجناية قبل القضاء وبعده إلا فيما سبق أداؤه فمن أحكم هذا الأصل متأملا يمكنه التخريج فيما ورد عليه من النظائر والأضداد، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 كتاب الوصايا باب في صفة الوصية ما يجوز من ذاك وما يستحب منه وما يكون رجوعا عنه ... كتاب الوصايا باب في صفة الوصية: ما يجوز من ذلك وما يستحب منه وما يكون رجوعا عنه قال: "الوصية غير واجبة وهي مستحبة" والقياس يأبى جوازها لأنه تمليك مضاف إلى حال زوال مالكيته، ولو أضيف إلى حال قيامها بأن قيل ملكتك غدا كان باطلا فهذا أولى، إلا أنا استحسناه لحاجة الناس إليها، فإن الإنسان مغرور بأمله مقصر في عمله، فإذا عرض له المرض وخاف البيان يحتاج إلى تلافي بعض ما فرط منه من التفريط بماله على وجه لو مضى فيه يتحقق مقصده المآلي، ولو أنهضه البرء يصرفه إلى مطلبه الحالي، وفي شرع الوصية ذلك فشرعناه، ومثله في الإجارة بيناه، وقد تبقى المالكية بعد الموت باعتبار الحاجة كما في قدر التجهيز والدين، وقد نطق به الكتاب وهو قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] والسنة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم تضعونها حيث شئتم" أو قال "حيث أحببتم" وعليه إجماع الأمة. ثم تصح للأجنبي في الثلث من غير إجازة الورثة لما روينا، وسنبين ما هو الأفضل فيه إن شاء الله تعالى. قال: "ولا تجوز بما زاد على الثلث" لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "الثلث والثلث كثير" بعد ما نفى وصيته بالكل والنصف، ولأنه حق الورثة، وهذا لأنه انعقد سبب الزوال إليهم وهو استغناؤه عن المال فأوجب تعلق حقهم به، إلا أن الشرع لم يظهره في حق الأجانب بقدر الثلث ليتدارك مصيره على ما بيناه، وأظهره في حق الورثة لأن الظاهر أنه لا يتصدق به عليهم تحرزا عما يتفق من الإيثار على ما نبينه، وقد جاء في الحديث "الحيف في الوصية من أكبر الكبائر" وفسروه بالزيادة على الثلث وبالوصية للوارث. قال: "إلا أن يجيزه الورثة بعد موته وهم كبار" لأن الامتناع لحقهم وهم أسقطوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 "ولا معتبر بإجازتهم في حال حياته" لأنها قبل ثبوت الحق إذ الحق يثبت عند الموت فكان لهم أن يردوه بعد وفاته، بخلاف ما بعد الموت لأنه بعد ثبوت الحق فليس لهم أن يرجعوا عنه، لأن الساقط متلاش. غاية الأمر أنه يستند عند الإجازة، لكن الاستناد يظهر في حق القائم وهذا قد مضى وتلاشى، ولأن الحقيقة تثبت عند الموت وقبله يثبت مجرد الحق، فلو استند من كل وجه ينقلب حقيقة قبله، والرضا ببطلان الحق لا يكون رضا ببطلان الحقيقة وكذا إن كانت الوصية للوارث وأجازه البقية فحكمه ما ذكرناه. "وكل ما جاز بإجازة الوارث يتملكه المجاز له من قبل الموصي" عندنا، وعند الشافعي من قبل الوارث، والصحيح قولنا لأن السبب صدر من الموصي، والإجازة رفع المانع وليس من شرطه القبض فصار كالمرتهن إذا أجاز بيع الراهن. قال: "ولا يجوز للقاتل عامدا كان أو خاطئا بعد أن كان مباشرا" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية للقاتل" ولأنه استعجل ما أخره الله تعالى فيحرم الوصية كما يحرم الميراث. وقال الشافعي: تجوز للقاتل وعلى هذا الخلاف إذا أوصى لرجل ثم إنه قتل الموصي تبطل الوصية عندنا، وعنده لا تبطل، والحجة عليه في الفصلين ما بيناه "ولو أجازتها الورثة جاز عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا تجوز" لأن جنايته باقية والامتناع لأجلها. ولهما أن الامتناع لحق الورثة لأن نفع بطلانها يعود إليهم كنفع بطلان الميراث، ولأنهم لا يرضونها للقاتل كما لا يرضونها لأحدهم. قال: "ولا تجوز لوارثه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث" ولأنه يتأذى البعض بإيثار البعض ففي تجويزه قطيعة الرحم ولأنه حيف بالحديث الذي رويناه، ويعتبر كونه وارثا أو غير وارث وقت الموت لا وقت الوصية لأنه تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، وحكمه يثبت بعد الموت. "والهبة من المريض للوارث في هذا نظير الوصية" لأنها وصية حكما حتى تنفذ من الثلث، وإقرار المريض للوارث على عكسه لأنه تصرف في الحال فيعتبر ذلك وقت الإقرار. قال: "إلا أن تجيزها الورثة" ويروى هذا الاستثناء فيما رويناه، ولأن الامتناع لحقهم فتجوز بإجازتهم؛ ولو أجاز بعض ورد بعض تجوز على المجيز بقدر حصته لولايته عليه وبطل في حق الراد. قال: "ويجوز أن يوصي المسلم للكافر والكافر للمسلم" فالأولى لقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] الآية. والثاني لأنهم بعقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 الذمة ساووا المسلمين في المعاملات ولهذا جاز التبرع من الجانبين في حالة الحياة فكذا بعد الممات "وفي الجامع الصغير الوصية لأهل الحرب باطلة" لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9] الآية. قال: "وقبول الوصية بعد الموت فإن قبلها الموصى له حال الحياة أو ردها فذلك باطل" لأن أوان ثبوت حكمه بعد الموت لتعلقه به فلا يعتبر قبله كما لا يعتبر قبل العقد. قال: "ويستحب أن يوصي الإنسان بدون الثلث" سواء كانت الورثة أغنياء أو فقراء، لأن في التنقيص صلة القريب بترك ما له عليهم، بخلاف استكمال الثلث، لأنه استيفاء تمام حقه فلا صلة ولا منة، ثم الوصية بأقل من الثلث أولى أم تركها؟ قالوا: إن كانت الورثة فقراء ولا يستغنون بما يرثون فالترك أولى لما فيه من الصدقة على القريب. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" ولأن فيه رعاية حق الفقراء والقرابة جميعا، وإن كانوا أغنياء أو يستغنون بنصيبهم فالوصية أولى لأنه يكون صدقة على الأجنبي، والترك هبة من القريب والأولى أولى لأنه يبتغي بها وجه الله تعالى. وقيل في هذا الوجه يخير لاشتمال كل منهما على فضيلة وهو الصدقة والصلة فيخير بين الخيرين. قال: "والموصى به يملك بالقبول" خلافا لزفر، وهو أحد قولي الشافعي. هو يقول: الوصية أخت الميراث، إذ كل منهما خلافة لما أنه انتقال، ثم الإرث يثبت من غير قبول فكذلك الوصية. ولنا أن الوصية إثبات ملك جديد، ولهذا لا يرد الموصى له بالعيب، ولا يرد عليه بالعيب، ولا يملك أحد إثبات الملك لغيره إلا بقبوله، أما الوراثة فخلافة حتى يثبت فيها هذه الأحكام فيثبت جبرا من الشرع من غير قبول. قال: "إلا في مسألة واحدة وهي أن يموت الموصي ثم يموت الموصى له قبل القبول فيدخل الموصى به في ملك ورثته" استحسانا والقياس أن تبطل الوصية لما بينا أن الملك موقوف على القبول فصار كموت المشتري قبل قبوله بعد إيجاب البائع. وجه الاستحسان أن الوصية من جانب الموصي قد تمت بموته تماما لا يلحقه الفسخ من جهته، وإنما توقفت لحق الموصى له، فإذا مات دخل في ملكه كما في البيع المشروط فيه الخيار إذا مات قبل الإجازة. قال: "ومن أوصى وعليه دين يحيط بماله لم تجز الوصية" لأن الدين يقدم على الوصية لأنه أهم الحاجتين فإنه فرض والوصية تبرع، وأبدا يبدأ بالأهم فالأهم. "إلا أن يبرئه الغرماء" لأنه لم يبق الدين فتنفذ الوصية على الحد المشروع لحاجته إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 قال: "ولا تصح وصية الصبي" وقال الشافعي: تصح إذا كان في وجوه الخير لأن عمر رضي الله عنه أجاز وصية يفاع أو يافاع وهو الذي راهق الحلم، ولأنه نظر له بصرفه إلى نفسه في نيل الزلفى، ولو لم تنفذ يبقى على غيره. ولنا أنه تبرع والصبي ليس من أهله، ولأن قوله غير ملزوم وفي تصحيح وصيته قول بإلزام قوله والأثر محمول على أنه كان قريب العهد بالحلم مجازا أو كانت وصيته في تجهيزه وأمر دفنه، وذلك جائز عندنا، وهو يحرز الثواب بالترك على ورثته كما بيناه، والمعتبر في النفع والضرر النظر إلى أوضاع التصرفات لا إلى ما يتفق بحكم الحال اعتبره بالطلاق فإنه لا يملكه ولا وصيه وإن كان يتفق نافعا في بعض الأحوال، وكذا إذا أوصى ثم مات بعد الإدراك لعدم الأهلية وقت المباشرة وكذا إذا قال إذا أدركت فثلث مالي لفلان وصية لقصور أهليته فلا يملكه تنجيزا وتعليقا كما في الطلاق والعتاق، بخلاف العبد والمكاتب لأن أهليتهما مستتمة والمانع حق المولى فتصح إضافته إلى حال سقوطه. قال: "ولا تصح وصية المكاتب وإن ترك وفاء" لأن ماله لا يقبل التبرع، وقيل على قول أبي حنيفة لا تصح، وعندهما تصح ردا لها إلى مكاتب يقول كل مملوك أملكه فيما أستقبل فهو حر ثم عتق فملك، والخلاف فيها معروف عرف في موضعه. قال: "وتجوز الوصية للحمل وبالحمل إذا وضع لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية" أما الأول فلأن الوصية استخلاف من وجه لأنه يجعله خليفة في بعض ماله والجنين صلح خليفة في الإرث فكذا في الوصية إذ هي أخته، إلا أن يرتد بالرد لما فيه من معنى التمليك، بخلاف الهبة، لأنها تمليك محض ولا ولاية لأحد عليه ليملكه شيئا. وأما الثاني فلأنه بعرض الوجود، إذ الكلام فيما إذا علم وجوده وقت الوصية، وبابها أوسع لحاجة الميت وعجزه، ولهذا تصح في غير الموجود كالثمرة فلأن تصح في الموجود أولى. قال: "ومن أوصى بجارية إلا حملها صحت الوصية والاستثناء" لأن اسم الجارية لا يتناول الحمل لفظا ولكنه يستحق بالإطلاق تبعا، فإذا أفرد الأم بالوصية صح إفرادها، ولأنه يصح إفراد الحمل بالوصية فجاز استثناؤه، وهذا هو الأصل أن ما يصح إفراده بالعقد يصح استثناؤه منه، إذ لا فرق بينهما، وما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه منه، وقد مر في البيوع. قال: "ويجوز للموصي الرجوع عن الوصية" لأنه تبرع لم يتم فجاز الرجوع عنه كالهبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 وقد حققناه في كتاب الهبة، ولأن القبول يتوقف على الموت والإيجاب يصح إبطاله قبل القبول كما في البيع. قال: "وإذا صرح بالرجوع أو فعل ما يدل على الرجوع كان رجوعا" أما الصريح فظاهر، وكذا الدلالة لأنها تعمل عمل الصريح فقام مقام قوله قد أبطلت، وصار كالبيع بشرط الخيار فإنه يبطل الخيار فيه بالدلالة، ثم كل فعل لو فعله الإنسان في ملك الغير ينقطع به حق المالك، فإذا فعله الموصي كان رجوعا، وقد عددنا هذه الأفاعيل في كتاب الغصب. وكل فعل يوجب زيادة في الموصى به ولا يمكن تسليم العين إلا بها فهو رجوع إذا فعله، مثل السويق يلته بالسمن والدار يبني فيه الموصي والقطن يحشو به والبطانة يبطن بها والظهارة يظهر بها، لأنه لا يمكنه تسليمه بدون الزيادة، ولا يمكن نقضها لأنه حصل في ملك الموصي من جهته، بخلاف تخصيص الدار الموصى بها وهدم بنائها لأنه تصرف في التابع، وكل تصرف أوجب زوال ملك الموصي فهو رجوع، كما إذا باع العين الموصى به ثم اشتراه أو وهبه تم رجع فيه لأن الوصية لا تنفذ إلا في ملكه، فإذا أزاله كان رجوعا. وذبح الشاة الموصى بها رجوع لأنه للصرف إلى حاجته عادة، فصار هذا المعنى أصلا أيضا، وغسل الثوب الموصى به لا يكون رجوعا لأن من أراد أن يعطي ثوبه غيره يغسله عادة فكان تقريرا. قال: "وإن جحد الوصية لم يكن رجوعا" كذا ذكره محمد. وقال أبو يوسف: يكون رجوعا، لأن الرجوع نفي في الحال والجحود نفي في الماضي والحال، فأولى أن يكون رجوعا، ولمحمد أن الجحود نفي في الماضي والانتفاء في الحال ضرورة ذلك، وإذا كان ثابتا في الحال كان الجحود لغوا، أو لأن الرجوع إثبات في الماضي ونفي في الحال والجحود نفي في الماضي والحال فلا يكون رجوعا حقيقة ولهذا لا يكون جحود النكاح فرقة "ولو قال كل وصية أوصيت بها لفلان فهو حرام وربا لا يكون رجوعا" لأن الوصف يستدعي بقاء الأصل "بخلاف ما إذا قال فهي باطلة" لأنه الذاهب المتلاشي "ولو قال أخرتها لا يكون رجوعا" لأن التأخير ليس للسقوط كتأخير الدين "بخلاف ما إذا قال تركت" لأنه إسقاط "ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان فهو لفلان كان رجوعا" لأن اللفظ يدل على قطع الشركة "بخلاف ما إذا أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر" لأن المحل يحتمل الشركة واللفظ صالح لها "وكذا إذا قال فهو لفلان وارثي يكون رجوعا عن الأول" لما بينا ويكون وصية للوارث. وقد ذكرنا حكمه "ولو كان فلان الآخر ميتا حين أوصى فالوصية الأولى على حالها" لأن الوصية الأولى إنما تبطل ضرورة كونها للثاني ولم يتحقق فبقي للأول "ولو كان فلان حين قال ذلك حيا ثم مات قبل موت الموصي فهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 للورثة" لبطلان الوصيتين الأولى بالرجوع والثانية بالموت، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 باب الوصية بثلث المال مدخل ... باب الوصية بثلث المال قال: "ومن أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بثلث ماله ولم تجز الورثة فالثلث بينهما" لأنه يضيق الثلث عن حقهما إذ لا يزاد عليه عند عدم الإجازة على ما تقدم وقد تساويا في سبب الاستحقاق فيستويان في الاستحقاق، والمحل يقبل الشركة فيكون بينهما "وإن أوصى لأحدهما بالثلث وللآخر بالسدس فالثلث بينهما أثلاثا" لأن كل واحد منها يدلي بسبب صحيح وضاق الثلث عن حقيهما فيقتسمانه على قدر حقيهما كما في أصحاب الديون فيجعل الأقل سهما والأكثر سهمين فصار ثلاثة أسهم: سهم لصاحب الأقل وسهمان لصاحب الأكثر "وإن أوصى لأحدهما بجميع ماله وللآخر بثلث ماله ولم تجز الورثة، فالثلث بينهما على أربعة أسهم عندهما. وقال أبو حنيفة: الثلث بينهما نصفان، ولا يضرب أبو حنيفة للموصى له بما زاد على الثلث إلا في المحاباة والسعاية والدراهم المرسلة" لهما في الخلافية أن الموصي قصد شيئين الاستحقاق والتفضيل، وامتنع الاستحقاق لحق الورثة ولا مانع من التفضيل فيثبت كما في المحاباة وأختيها. وله أن الوصية وقعت بغير المشروع عند عدم الإجازة من الورثة، إذ لا نفاذ لها بحال فيبطل أصلا، والتفضيل يثبت في ضمن الاستحقاق فبطل ببطلانه كالمحاباة الثابتة في ضمن البيع، بخلاف مواضع الإجماع لأن لها نفاذا في الجملة بدون إجازة الورثة بأن كان في المال سعة فتعتبر في التفاضل لكونه مشروعا في الجملة، بخلاف ما نحن فيه. وهذا بخلاف ما إذا أوصى بعين من تركته وقيمته تزيد على الثلث فإنه يضرب بالثلث وإن احتمل أن يزيد المال فيخرج من الثلث، لأن هناك الحق تعلق بعين التركة، بدليل أنه لو هلك واستفاد مالا آخر تبطل الوصية، وفي الألف المرسلة لو هلكت التركة تنفذ فيما يستفاد فلم يكن متعلقا بعين ما تعلق به حق الورثة. قال: "وإذا أوصى بنصيب ابنه فالوصية باطلة. ولو أوصى بمثل نصيب ابنه جاز" لأن الأول وصية بمال الغير، لأن نصيب الابن ما يصيبه بعد الموت والثاني وصية بمثل نصيب الابن ومثل الشيء غيره وإن كان يتقدر به فيجوز، وقال زفر: يجوز في الأول أيضا فينظر إلى الحال والكل ماله فيه وجوابه ما قلنا. قال: "ومن أوصى بسهم من ماله فله أخس سهام الورثة إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس ولا يزاد عليه، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: له مثل نصيب أحد الورثة ولا يزاد على الثلث إلا أن يجيز الورثة" لأن السهم يراد به أحد سهام الورثة عرفا لا سيما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 الوصية، والأقل متيقن به فيصرف إليه، إلا إذا زاد على الثلث فيرد عليه لأنه لا مزيد عليه عند عدم إجازة الورثة. وله أن السهم هو السدس هو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيما يروى، ولأنه يذكر ويراد به السدس، فإن إياسا قال: السهم في اللغة عبارة عن السدس، ويذكر ويراد به سهم من سهام الورثة فيعطى ما ذكرنا، قالوا: هذا كان في عرفهم، وفي عرفنا السهم كالجزء. قال: "ولو أوصى بجزء من ماله قيل للورثة أعطوه ما شئتم" لأنه مجهول يتناول القليل والكثير، غير أن الجهالة لا تمنع صحة الوصية والورثة قائمون مقام الموصي فإليهم البيان. قال: "ومن قال سدس مالي لفلان ثم قال في ذلك المجلس أو في مجلس آخر له ثلث مالي وأجازت الورثة فله ثلث المال ويدخل السدس فيه، ومن قال سدس مالي لفلان ثم قال في ذلك المجلس أو في غيره سدس مالي لفلان فله سدس واحد" لأن السدس ذكر معرفا بالإضافة إلى المال، والمعرفة إذا أعيدت يراد بالثاني عين الأول هو المعهود في اللغة. قال: "ومن أوصى بثلث دراهمه أو بثلث غنمه فهلك ثلثا ذلك وبقي ثلثه وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله فله جميع ما بقي" وقال زفر: له ثلث ما بقي، لأن كل واحد منهما مشترك بينهم والمال المشترك يتوى ما توي منه على الشركة ويبقى ما بقي عليها وصار كما إذا كانت التركة أجناسا مختلفة. ولنا أن في الجنس الواحد يمكن جميع حق أحدهم في الواحد ولهذا يجري فيه الجبر على القسمة وفيه جمع والوصية مقدمة فجمعناها في الواحد الباقي وصارت الدراهم كالدرهم، بخلاف الأجناس المختلفة لأنه لا يمكن الجمع فيها جبرا فكذا تقديما. قال: "ولو أوصى بثلث ثيابه فهلك ثلثاها وبقي ثلثها وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله لم يستحق إلا ثلث ما بقي من الثياب"، قالوا: هذا إذا كانت الثياب من أجناس مختلفة، ولو كانت من جنس واحد فهو بمنزلة الدراهم، وكذلك المكيل والموزون بمنزلتها لأنه يجري فيه الجمع جبرا بالقسمة "ولو أوصى بثلث ثلاثة من رقيقه فمات اثنان لم يكن له إلا ثلث الباقي، وكذا الدور المختلفة" وقيل هذا على قول أبي حنيفة وحده لأنه لا يرى الجبر على القسمة فيها. وقيل هو قول الكل لأن عندهما القاضي أن يجتهد ويجمع وبدون ذلك يتعذر الجمع، والأول أشبه للفقه المذكور. قال: "ومن أوصى لرجل بألف درهم وله مال عين ودين فإن خرج الألف من ثلث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 العين دفع إلى الموصى له" لأنه أمكن إيفاء كل ذي حق حقه من غير بخس فيصار إليه، وإن لم يخرج دفع إليه ثلث العين، وكلما خرج شيء من الدين أخذ ثلثه حتى يستوفي الألف لأن الموصى له شريك الوارث، وفي تخصيصه بالعين بخس في حق الورثة لأن للعين فضلا عن الدين، ولأن الدين ليس بمال في مطلق الحال وإنما يصير مالا عند الاستيفاء فإنما يعتدل النظر بما ذكرناه. قال: "ومن أوصى لزيد وعمرو بثلث ماله فإذا عمرو ميت فالثلث كله لزيد" لأن الميت ليس بأهل للوصية فلا يزاحم الحي الذي هو من أهلها، كما إذا أوصى لزيد وجدار. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا لم يعلم بموته فله نصف الثلث، لأن الوصية عنده صحيحة لعمرو فلم يرض للحي إلا نصف الثلث بخلاف ما إذا علم بموته لأن الوصية للميت لغو فكان راضيا بكل الثلث للحي، وإن قال ثلث مالي بين زيد وعمرو وزيد ميت كان لعمرو نصف الثلث، لأن قضية هذا اللفظ أن يكون لكل واحد منهما نصف الثلث بخلاف ما تقدم، ألا ترى أن من قال ثلث مالي لزيد وسكت كان له كل الثلث، ولو قال ثلث مالي بين فلان وسكت لم يستحق الثلث. قال: "ومن أوصى بثلث ماله ولا مال له واكتسب مالا استحق الموصى له ثلث ما يملكه عند الموت" لأن الوصية عقد استخلاف مضاف إلى ما بعد الموت ويثبت حكمه بعد فيشترط وجود المال عند الموت لا قبله، وكذلك إذا كان له مال فهلك ثم اكتسب مالا لما بينا. ولو أوصى له بثلث غنمه فهلك الغنم قبل موته أو لم يكن له غنم في الأصل فالوصية باطلة لما ذكرنا أنه إيجاب بعد الموت فيعتبر قيامه حينئذ، وهذه الوصية تعلقت بالعين فتبطل بفواته عند الموت، وإن لم يكن له غنم فاستفاد ثم مات فالصحيح أن الوصية تصح، لأنها لو كانت بلفظ المال تصح، فكذا إذا كانت باسم نوعه، وهذا لأن وجوده قبل الموت فضل والمعتبر قيامه عند الموت؛ ولو قال له شاة من مالي وليس له غنم يعطي قيمة شاة لأنه لما أضافه إلى المال علمنا أن مراده الوصية بمالية الشاة إذ ماليتها توجد في مطلق المال، ولو أوصى بشاة ولم يضفه إلى ماله ولا غنم قيل لا يصح لأن المصحح إضافته إلى المال وبدونها تعتبر صورة الشاة ومعناها، وقيل تصح لأنه لما ذكر الشاة وليس في ملكه شاة علم أن مراده المالية؛ ولو قال شاة من غنمي ولا غنم له فالوصية باطلة، لأنه لما أضافه إلى الغنم علمنا أن مراده عين الشاة حيث جعلها جزءا من الغنم، بخلاف ما إذا أضافه إلى المال وعلى هذا يخرج كثير من المسائل. قال: "ومن أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده وهن ثلاث وللفقراء والمساكين فلهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 ثلاثة أسهم من خمسة أسهم" قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وعن محمد رحمه الله أنه يقسم على سبعة أسهم لهن ثلاثة ولكل فريق سهمان، وأصله أن الوصية لأمهات الأولاد جائزة والفقراء والمساكين جنسان، وفسرناهما في الزكاة لمحمد رحمه الله أن المذكور لفظ الجمع وأدناه في الميراث اثنان نجد ذلك في القرآن فكان من كل فريق اثنان وأمهات الأولاد ثلاث فلهذا يقسم على سبعة. ولهما أن الجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس، وأنه بتناول الأدنى مع احتمال الكل، لا سيما عند تعذر صرفه إلى الكل فيعتبر من كل فريق واحد فبلغ الحساب خمسة والثلاثة للثلاث. قال: "ولو أوصى بثلثه لفلان وللمساكين فنصفه لفلان ونصفه للمساكين عندهما" وعند محمد ثلثه لفلان وثلثاه للمساكين، ولو أوصى للمساكين له صرفه إلى مسكين واحد عندهما، وعنده لا يصرف إلا إلى مسكينين بناء على ما بيناه. قال: "ومن أوصى لرجل بمائة درهم ولآخر بمائة ثم قال لآخر قد أشركتك معهما فله ثلث كل مائة" لأن الشركة للمساواة لغة، وقد أمكن إثباته بين الكل بما قلناه لاتحاد المال لأنه يصيب كل واحد منهم ثلثا مائة، بخلاف ما إذا أوصى لرجل بأربعمائة ولآخر بمائتين ثم كان الإشراك لأنه لا يمكن تحقيق المساواة بين الكل لتفاوت المالين فحملناه على مساواته كل واحد بتنصيف نصيبه عملا باللفظ بقدر الإمكان. قال: "ومن قال لفلان علي دين فصدقوه" معناه قال ذلك لورثته "فإنه يصدق إلى الثلث" وهذا استحسان. وفي القياس لا يصدق لأن الإقرار بالمجهول وإن كان صحيحا لكنه لا يحكم به إلا بالبيان وقوله فصدقوه صدر مخالفا للشرع لأن المدعي لا يصدق إلا بحجة فتعذر إثباته إقرارا مطلقا فلا يعتبر، وجه الاستحسان أنا نعلم أن من قصده تقديمه على الورثة وقد أمكن تنفيذ قصده بطريق الوصية وقد يحتاج إليه من يعلم بأصل الحق عليه دون مقداره سعيا منه في تفريغ ذمته فبجعلها وصية جعل التقدير فيها إلى الموصى له كأنه قال إذا جاءكم فلان وادعى شيئا فأعطوه من مالي ما شاء، وهذه معتبرة من الثلث فلهذا يصدق على الثلث دون الزيادة. قال: "وإن أوصى بوصايا غير ذلك يعزل الثلث لأصحاب الوصايا والثلثان للورثة" لأن ميراثهم معلوم. وكذا الوصايا معلومة وهذا مجهول فلا يزاحم المعلوم فيقدم عزل المعلوم، وفي الإفراز فائدة أخرى وهو أن أحد الفريقين قد يكون أعلم بمقدار هذا الحق وأبصر به، والآخر ألد خصاما، وعساهم يختلفون في الفضل إذا ادعاه الخصم وبعد الإفراز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 يصح إقرار كل واحد فيما في يده من غير منازعة "وإذا عزل يقال لأصحاب الوصايا صدقوه فيما شئتم ويقال للورثة صدقوه فيما شئتم" لأن هذا دين في حق المستحق وصية في حق التنفيذ، فإذا أقر كل فريق بشيء ظهر أن في التركة دينا شائعا في النصيبين "فيؤخذ أصحاب الثلث بثلث ما أقروا والورثة بثلثي ما أقروا" تنفيذا لإقرار كل فريق في قدر حقه وعلى كل فريق منهما اليمين على العلم إن ادعى المقر له زيادة على ذلك لأنه يحلف على ما جرى بينه وبين غيره. قال: "ومن أوصى لأجنبي ولوارثه فللأجنبي نصف الوصية وتبطل وصية الوارث" لأنه أوصى بما يملك الإيصاء به وبما لا يملك فصح في الأول وبطل في الثاني، بخلاف ما إذا أوصى لحي وميت لأن الميت ليس بأهل للوصية فلا يصلح مزاحما فيكون الكل للحي والوارث من أهلها ولهذا تصح بإجازة الورثة فافترقا، وعلى هذا إذا أوصى للقاتل وللأجنبي، وهذا بخلاف ما إذا أقر بعين أو دين لوارثه وللأجنبي حيث لا يصح في حق الأجنبي أيضا، لأن الوصية إنشاء تصرف والشركة تثبت حكما له فتصح في حق من يستحقه منهما وأما الإقرار فإخبار عن كائن، وقد أخبر بوصف الشركة في الماضي، ولا وجه إلى إثباته بدون هذا الوصف لأنه خلاف ما أخبر به، ولها إلى إثبات الوصف لأنه يصير الوارث فيه شريكا ولأنه لو قبض الأجنبي شيئا كان للوارث أن يشاركه فيبطل في ذلك القدر ثم لا يزال يقبض ويشاركه الوارث حتى يبطل الكل فلا يكون مفيدا وفي الإنشاء حصة أحدهما ممتازة عن حصة الآخر بقاء وبطلانا. قال: "ومن كان له ثلاثة أثواب جيد ووسط ورديء فأوصى بكل واحد لرجل فضاع ثوب ولا يدري أيها هو والورثة تجحد ذلك فالوصية باطلة" ومعنى جحودهم أن يقول الوارث لكل واحد منهم بعينه الثوب الذي هو حقك قد هلك فكان المستحق مجهولا وجهالته تمنع صحة القضاء وتحصيل المقصود فبطل. قال: "إلا أن يسلم الورثة الثوبين الباقيين، فإن سلموا زال المانع وهو الجحود فيكون لصاحب الجيد ثلثا الثوب الأجود، ولصاحب الأوسط ثلث الجيد وثلث الأدون فثبت الأدون، ولصاحب الأدون ثلثا الثوب الأدون" لأن صاحب الجيد لا حق له في الرديء بيقين، لأنه إما أن يكون وسطا أو رديئا ولا حق له فيهما، وصاحب الرديء لا حق له في الجيد الباقي بيقين، لأنه إما أن يكون جيدا أو وسطا ولا حق له فيهما، ويحتمل أن يكون الرديء هو الرديء الأصلي فيعطى من محل الاحتمال، وإذا ذهب ثلثا الجيد وثلثا الأدون لم يبق إلا ثلث الجيد وثلث الرديء فيتعين حق صاحب الوسط فيه بعينه ضرورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 قال: "وإذا كانت الدار بين رجلين فأوصى أحدهما ببيت بعينه لرجل فإنها تقسم، فإن وقع البيت في نصيب الموصي فهو للموصى له" عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد نصفه للموصى له، وإن وقع في نصيب الآخر فللوصي له مثل درع البيت، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: مثل ذرع نصف البيت له أنه أوصى بملكه وبملك غيره، لأن الدار بجميع أجزائها مشتركة فينفذ الأول ويوقف الثاني، وهو أن ملكه بعد ذلك بالقسمة التي هي مبادلة لا تنفذ الوصية السالفة، كما إذا أوصى بملك الغير ثم اشتراه، ثم إذا اقتسموها ووقع البيت في نصيب الموصي تنفذ الوصية في عين الموصى به وهو نصف البيت، وإن وقع في نصيب صاحبه له مثل ذرع نصف البيت تنفيذا للوصية في بدل الموصى به عند فواته كالجارية الموصى بها إذا قتلت خطأ تنفذ الوصية في بدلها، بخلاف ما إذا بيع العبد الموصى به حيث لا تتعلق الوصية بثمنه، لأن الوصية تبطل بالإقدام على البيع على ما بيناه ولا تبطل بالقسمة. ولهما أنه أوصى بما يستقر ملكه فيه بالقسمة، لأن الظاهر أنه بقصد الإيصاء بملك منتفع به من كل وجه وذلك يكون بالقسمة، لأن الانتفاع بالمشاع قاصر وقد استقر ملكه في جميع البيت إذا وقع في نصيبه فتنفذ الوصية فيه، ومعنى المبادلة في هذه القسمة تابع، وإنما المقصود الإفراز تكميلا للمنفعة ولهذا يجبر على القسمة فيه، وعلى اعتبار الإفراز يصير كأن البيت ملكه من الابتداء. وإن وقع في نصيب الآخر تنفذ في قدر ذرعان جميعه مما وقع في نصيبه، إما لأنه عوضه كما ذكرناه، أو لأن مراد الموصي من ذكر البيت التقدير به تحصيلا لمقصوده ما أمكن، إلا أنه يتعين البيت إذا وقع في نصيبه جمعا بين الجهتين التقدير والتمليك، وإن وقع في نصيب الآخر عملنا بالتقدير، أو لأنه أراد التقدير على اعتبار أحد الوجهين والتمليك بعينه على اعتبار الوجه الآخر، كما إذا علق عتق الولد وطلاق المرأة بأول ولد تلده أمته، فالمراد في جزاء الطلاق مطلق الولد وفي العتق ولد حي ثم إذا وقع البيت في نصيب غير الموصي والدار مائة ذراع والبيت عشرة أذرع يقسم نصيبه بين الموصى له وبين الورثة على عشرة أسهم: تسعة منها للورثة وسهم للموصى له، وهذا عند محمد فيضرب الموصى له بخمسة أذرع نصف البيت وهم بنصف الدار سوى البيت وهو خمسة وأربعون فيجعل كل خمسة سهما فيصير عشرة، وعندهما يقسم على أحد عشر سهما لأن الموصى له يضرب بالعشرة وهم بخمسة وأربعين فتصير السهام أحد عشر للموصى له سهمان ولهم تسعة، ولو كان مكان الوصية إقرار قيل هو على الخلاف، وقيل لا خلاف فيه لمحمد. والفرق له أن الإقرار بملك الغير صحيح، حتى إن من أقر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 بملك الغير لغيره ثم ملكه يؤمر بالتسليم إلى المقر له، والوصية بملك الغير لا تصح، حتى لو ملكه بوجه من الوجوه ثم مات لا تصح وصيته ولا تنفذ. قال: "ومن أوصى من مال رجل لآخر بألف بعينه فأجاز صاحب المال بعد موت الموصي فإن دفعه فهو جائز وله أن يمنع" لأن هذا تبرع بمال الغير فيتوقف على إجازته، وإذا أجاز يكون تبرعا منه أيضا فله أن يمتنع من التسليم، بخلاف ما إذا أوصى بالزيادة على الثلث وأجازت الورثة لأن الوصية في مخرجها صحيحة لمصادفتها ملك نفسه والامتناع لحق الورثة، فإذا أجازوها سقط حقهم فنفذ من جهة الموصي. قال: "وإذا اقتسم الابنان تركة الأب ألفا ثم أقر أحدهما لرجل أن الأب أوصى له بثلث ماله فإن المقر يعطيه ثلث ما في يده" وهذا استحسان والقياس أن يعطيه نصف ما في يده وهو قول زفر رحمه الله، لأن إقراره بالثلث له تضمن إقراره بمساواته إياه، والتسوية في إعطاء النصف ليبقى له النصف. وجه الاستحسان أنه أقر له بثلث شائع في التركة وهي في أيديهما فيكون مقرا بثلث ما في يده، بخلاف ما إذا أقر أحدهما بدين لغيره لأن الدين مقدم على الميراث فيكون مقرا بتقديمه فيقدم عليه، أما الموصى له بالثلث شريك الوارث فلا يسلم له شيء إلا أن يسلم للورثة مثلاه، ولأنه لو أخذ منه نصف ما في يده فربما يقر الابن الآخر به أيضا فيأخذ نصف ما في يده فيصير نصف التركة فيزاد على الثلث. قال: "ومن أوصى لرجل بجارية فولدت بعد موت الموصي ولدا وكلاهما يخرجان من الثلث فهما للموصى له" لأن الأم دخلت في الوصية أصالة والولد تبعا حين كان متصلا بالأم، فإذا ولدت قبل القسمة والتركة قبلها مبقاة على ملك الميت حتى يقضى بها ديونه دخل في الوصية فيكونان للموصي له "وإن لم يخرجا من الثلث ضرب بالثلث وأخذ ما يخصه منهما جميعا في قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يأخذ ذلك من الأم، فإن فضل شيء أخذه من الولد". وفي الجامع الصغير عين صورة وقال: رجل له ستمائة درهم وأمة تساوي ثلاثمائة درهم فأوصى بالجارية لرجل ثم مات فولدت ولدا يساوي ثلاثمائة درهم قبل القسمة فللموصى له الأم وثلث الولد عنده. وعندهما له ثلثا كل واحد منهما. لهما ما ذكرنا أن الولد دخل في الوصية تبعا حالة الاتصال فلا يخرج عنها بالانفصال كما في البيع والعتق فتنفذ الوصية فيهما على السواء من غير تقديم الأم. وله أن الأم أصل والولد تبع والتبع لا يزاحم الأصل، فلو نفذنا الوصية فيهما جميعا تنتقض الوصية في بعض الأصل وذلك لا يجوز بخلاف البيع لأن تنفيذ البيع في التبع لا يؤدي إلى نقضه في الأصل بل يبقى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 تاما صحيحا فيه، إلا أنه لا يقابله بعض الثمن ضرورة مقابلته بالولد إذا اتصل به القبض ولكن الثمن تابع في البيع حتى ينعقد البيع بدون ذكره وإن كان فاسدا "هذا إذا ولدت قبل القسمة، فإن ولدت بعد القسمة فهو للموصى له" لأنه نماء خالص ملكه لتقرر ملكه فيه بعد القسمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 فصل: في اعتبار حالة الوصية قال: "وإذا أقر المريض لامرأة بدين أو أوصى لها بشيء أو وهب لها ثم تزوجها ثم مات جاز الإقرار وبطلت الوصية والهبة" لأن الإقرار ملزم بنفسه وهي أجنبية عند صدوره، ولهذا يعتبر من جميع المال، ولا يبطل بالدين إذا كان في حالة الصحة أو في حالة المرض، إلا أن الثاني يؤخر عنه، بخلاف الوصية لأنها إيجاب عند الموت وهي وارثة عند ذلك، ولا وصية للوارث، والهبة وإن كانت منجزة صورة فهي كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما لأن حكمها يتقرر عند الموت؛ ألا ترى أنها تبطل بالدين المستغرق وعند عدم الدين تعتبر من الثلث. قال: "وإذا أقر المريض لابنه بدين وابنه نصراني أو وهب له أو أوصى له فأسلم الابن قبل موته بطل ذلك كله". أما الهبة والوصية فلما قلنا إنه وارث عند الموت وهما إيجابان عنده أو بعده، والإقرار وإن كان ملزما بنفسه ولكن سبب الإرث وهو البنوة قائم وقت الإقرار فيعتبر في إيراث تهمة الإيثار، بخلاف ما تقدم لأن سبب الإرث الزوجية وهي طارئة حتى لو كانت الزوجية قائمة وقت الإقرار وهي نصرانية ثم أسلمت قبل موته لا يصح الإقرار لقيام السبب حال صدوره، وكذا لو كان الابن عبدا أو مكاتبا فأعتق لما ذكرنا وذكر في كتاب الإقرار إن لم يكن عليه دين يصح لأنه أقر لمولاه وهو أجنبي، وإن كان عليه دين لا يصح لأنه إقرار له وهو ابنه، والوصية باطلة لما ذكرنا أن المعتبر فيها وقت الموت. وأما الهبة فيروى أنها تصح لأنها تمليك في الحال وهو رقيق، وفي عامة الروايات هي في مرض الموت بمنزلة الوصية فلا تصح. قال: "والمقعد والمفلوج والأشل والمسلول إذا تطاول ذلك ولم يخف منه الموت فهبته من جميع المال" لأنه إذا تقادم العهد صار طبعا من طباعه ولهذا لا يشتغل بالتداوي، ولو صار صاحب فراش بعد ذلك فهو كمرض حادث "وإن وهب عند ما أصابه ذلك ومات من أيامه فهو من الثلث إذا صار صاحب فراش" لأنه يخاف منه الموت ولهذا يتداوى فيكون مرض الموت، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 باب العتق في مرض الموت مدخل ... باب العتق في مرض الموت قال: "ومن أعتق في مرضه عبدا أو باع وحابى أو وهب فذلك كله جائز وهو معتبر من الثلث، ويضرب به مع أصحاب الوصايا". وفي بعض النسخ فهو وصية مكان قوله جائز، والمراد الاعتبار من الثلث والضرب مع أصحاب الوصايا لا حقيقة الوصية لأنها إيجاب بعد الموت وهذا منجز غير مضاف، واعتباره من الثلث لتعلق حق الورثة، وكذلك ما ابتدأ المريض إيجابه على نفسه كالضمان والكفالة في حكم الوصية لأنه يتهم فيه كما في الهبة، وكل ما أوجبه بعد الموت فهو من الثلث، وإن أوجبه في حال صحته اعتبارا بحالة الإضافة دون حالة العقد، وما نفذه من التصرف فالمعتبر فيه حالة العقد، فإن كان صحيحا فهو من جميع المال وإن كان مريضا فمن الثلث، وكل مرض صح منه فهو كحال الصحة لأن بالبرء تبين أنه لا حق في ماله. قال: "وإن حابى ثم أعتق وضاق الثلث عنهما فالمحاباة أولى عند أبي حنيفة، وإن أعتق ثم حابى فهما سواء، وقالا: العتق أولى في المسألتين" والأصل فيه أن الوصايا إذا لم يكن فيها ما جاوز الثلث فكل من أصحابها يضرب بجميع وصيته في الثلث لا يقدم البعض على البعض إلا الموقع في المرض، والعتق المعلق بموت الموصي كالتدبير الصحيح والمحاباة في البيع إذا وقعت في المرض لأن الوصايا قد تساوت، والتساوي في سبب الاستحقاق يوجب التساوي في نفس الاستحقاق، وإنما قدم العتق الذي ذكرناه آنفا لأنه أقوى فإنه لا يلحقه الفسخ من جهة الموصي، وغيره يلحقه. وكذلك المحاباة لا يلحقها الفسخ من جهة الموصي، وإذا تقدم ذلك فما بقي من الثلث بعد ذلك يستوي فيه من سواهما من أهل الوصايا، ولا يقدم البعض على البعض. لهما في الخلافية أن العتق أقوى لأنه لا يلحقه الفسخ والمحاباة يلحقها، ولا معتبر بالتقديم الذكر لأنه لا يوجب التقدم في الثبوت. وله أن المحاباة أقوى، لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة فكان تبرعا بمعناه لا بصيغته، والإعتاق تبرع صيغة ومعنى، فإذا وجدت المحاباة أولا دفع الأضعف، وإذا وجد العتق أولا وثبت وهو لا يحتمل الدفع كان من ضرورته المزاحمة، وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حابى ثم أعتق ثم حابى قسم الثلث بين المحاباتين نصفين لتساويهما، ثم ما أصاب المحاباة الأخيرة قسم بينها وبين العتق لأن العتق مقدم عليها فيستويان، ولو أعتق ثم حابى ثم أعتق قسم الثلث بين العتق الأول والمحاباة نصفين، وما أصاب العتق قسم بينه وبين العتق الثاني، وعندهما العتق أولى بكل حال. قال: "ومن أوصى بأن يعتق عنه بهذه المائة عبد فهلك منها درهم لم يعتق عنه بما بقي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كانت وصيته بحجة يحج عنه بما بقي من حيث يبلغ، وإن لم يهلك منها وبقي شيء من الحجة يرد على الورثة. وقالا: يعتق عنه بما بقي" لأنه وصية بنوع قربة فيجب تنفيذها ما أمكن اعتبارا بالوصية بالحج. وله أنه وصية بالعتق لعبد يشتري بمائة وتنفيذها فيمن يشتري بأقل منه تنفيذ لغير الموصى له، وذلك لا يجوز، بخلاف الوصية بالحج لأنها قربة محضة وهي حق الله تعالى والمستحق لم يتبدل فصار كما إذا أوصى لرجل بمائة فهلك بعضها يدفع الباقي إليه. وقيل هذه المسألة بناء على أصل آخر مختلف فيه وهو أن العتق حق الله تعالى عندهما حتى تقبل الشهادة عليه من غير دعوى فلم يتبدل المستحق، وعنده حق العبد حتى لا تقبل البينة عليه من غير دعوى، فاختلف المستحق وهذا أشبه. قال: "ومن ترك ابنين ومائة درهم وعبدا قيمته مائة درهم وقد كان أعتقه في مرضه فأجاز الوارثان ذلك لم يسع في شيء" لأن العتق في مرض الموت وإن كان في حكم الوصية وقد وقعت بأكثر من الثلث إلا أنها تجوز بإجازة الورثة، لأن الامتناع لحقهم وقد أسقطوه. قال: "ومن أوصى بعتق عبده ثم مات فجنى جناية ودفع بها بطلت الوصية" لأن الدفع قد صح لما أن حق ولي الجناية مقدم على حق الموصي، فكذلك على حق الموصى له لأنه يتلقى الملك من جهته إلا أن ملكه فيه باق، وإنما يزول بالدفع فإذا خرج به عن ملكه بطلت الوصية كما إذا باعه الموصي أو وارثه بعد موته، فإن فداه الورثة كان الفداء في مالهم لأنهم هم الذين التزموه، وجازت الوصية لأن العبد طهر عن الجناية بالفداء كأنه لم يجن فتنفذ الوصية. قال: "ومن أوصى بثلث ماله لآخر فأقر الموصى له والوارث أن الميت أعتق هذا العبد فقال الموصى له أعتقه في الصحة وقال الوارث أعتقه في المرض فالقول قول الوارث، ولا شيء للموصى له إلا أن يفضل من الثلث شيء أو تقوم له البينة أن العتق في الصحة" لأن الموصى له يدعي استحقاق ثلث ما بقي من التركة بعد العتق لأن العتق في الصحة ليس بوصية ولهذا ينفذ من جميع المال، والوارث ينكر لأن مدعاه العتق في المرض وهو وصية، والعتق في المرض مقدم على الوصية بثلث المال فكان منكرا، والقول قول المنكر مع اليمين؛ ولأن العتق حادث والحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات للتيقن بها فكان الظاهر شاهدا للوارث فيكون القول قوله مع اليمين، إلا أن يفضل شيء من الثلث على قيمة العبد لأنه لا مزاحم له فيه أو تقوم له البينة أن العتق في الصحة لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة وهو خصم في إقامتها لإثبات حقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 قال: "ومن ترك عبدا فقال للوارث أعتقني أبوك في الصحة وقال رجل لي على أبيك ألف درهم فقال صدقتما فإن العبد يسعى في قيمته عند أبي حنيفة وقالا: يعتق ولا يسعى في شيء"، لأن الدين والعتق في الصحة ظهرا معا بتصديق الوارث في كلام واحد فصارا كأنهما كانا معا، والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على المعتق دين. وله أن الإقرار بالدين أقوى لأنه يعتبر من جميع المال، والإقرار بالعتق في المرض يعتبر من الثلث، والأقوى يدفع الأدنى، فقضيته أن يبطل العتق أصلا إلا أنه بعد وقوعه لا يحتمل البطلان فيدفع من حيث المعنى بإيجاب السعاية، ولأن الدين أسبق لأنه لا مانع له من الاستناد فيستند إلى حالة الصحة، ولا يمكن إسناد العتق إلى تلك الحالة لأن الدين يمنع العتق في حالة المرض مجانا فتجب السعاية، وعلى هذا الخلاف إذا مات الرجل وترك ألف درهم فقال رجل لي على الميت ألف درهم دين وقال الآخر كان لي عنده ألف درهم وديعة فعنده الوديعة أقوى وعندهما سواء، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 فصل: ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى قدمت الفرائض منها قدمها الموصي أو أخرها ... فصل: قال: "ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى قدمت الفرائض منها قدمها الموصي أو أخرها مثل الحج والزكاة والكفارات" لأن الفريضة أهم من النافلة، والظاهر منه البداءة بما هو الأهم "فإن تساوت في القوة بدئ بما قدمه الموصي إذا ضاق عنها الثلث" لأن الظاهر أنه يبتدئ بالأهم. وذكر الطحاوي أنه يبتدئ بالزكاة ويقدمها على الحج وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وفي رواية عنه أنه يقدم الحج وهو قول محمد. وجه الأولى أنهما وإن استويا في الفريضة فالزكاة تعلق بها حق العباد فكان أولى. وجه الأخرى أن الحج يقام بالمال والنفس والزكاة بالمال قصرا عليه فكان الحج أقوى، ثم تقدم الزكاة والحج على الكفارات لمزيتهما عليها في القوة، إذ قد جاء فيهما من الوعيد ما لم يأت في الكفارات، والكفارة في القتل والظهار واليمين مقدمة على صدقة الفطر لأنه عرف وجوبها دون صدقة الفطر، وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية للاتفاق على وجوبها بالقرآن والاختلاف في الأضحية، وعلى هذا القياس يقدم بعض الواجبات على البعض. قال: "وما ليس بواجب قدم منه ما قدمه الموصي" لما بينا وصار كما إذا صرح بذلك. قالوا: إن الثلث يقسم على جميع الوصايا ما كان لله تعالى وما كان للعبد، فما أصاب القرب صرف إليها على الترتيب الذي ذكرناه ويقسم على عدد القرب ولا يجعل الجميع كوصية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 واحدة، لأنه إن كان المقصود بجميعها رضا لله تعالى فكل واحدة في نفسها مقصود فتنفرد كما تنفرد وصايا الآدميين. قال: "ومن أوصى بحجة الإسلام أحجوا عنه رجلا من بلده يحج راكبا" لأن الواجب لله تعالى الحج من بلده ولهذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده والوصية لأداء ما هو الواجب عليه وإنما قال راكبا لأنه لا يلزمه أن يحج ماشيا فانصرف إليه على الوجه الذي وجب عليه. قال: "فإن لم تبلغ الوصية النفقة أحجوا عنه من حيث تبلغ" وفي القياس لا يحج عنه، لأنه أمر بالحجة على صفة عدمناها فيه، غير أنا جوزناه لأنا نعلم أن الموصي قصد تنفيذ الوصية فيجب تنفيذها ما أمكن والممكن فيه ما ذكرناه، وهو أولى من إبطالها رأسا، وقد فرقنا بين هذا وبين الوصية بالعتق من قبل. قال: "ومن خرج من بلده حاجا فمات في الطريق وأوصى أن يحج عنه يحج عنه من بلده" عند أبي حنيفة وهو قول زفر. وقال أبو يوسف ومحمد. يحج عنه من حيث بلغ استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا مات الحاج عن غيره في الطريق. لهما أن السفر بنية الحج وقع قربة وسقط فرض قطع المسافة بقدره وقد وقع أجره على الله فيبتدئ من ذلك المكان كأنه من أهله، بخلاف سفر التجارة لأنه لم يقع قربة فيحج عنه من بلده. وله أن الوصية تنصرف إلى الحج من بلده على ما قررناه أداء للواجب على الوجه الذي وجب، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 باب الوصية للأقارب وغيرهم قال: "ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون عند أبي حنيفة، وقالا: هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محلة الموصي ويجمعهم مسجد المحلة" وهذا استحسان. وقوله قياس لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة حقيقة ولهذا يستحق الشفعة بهذا الجوار، ولأنه لما صرفه إلى الجميع يصرف إلى أخص الخصوص وهو الملاصق. وجه الاستحسان أن هؤلاء كلهم يسمون جيرانا عرفا، وقد تأيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وفسره بكل من سمع النداء، ولأن المقصد بر الجيران واستحبابه ينتظم الملاصق وغيره، إلا أنه لا بد من الاختلاط وذلك عند اتحاد المسجد، وما قاله الشافعي رحمه الله: الجوار إلى أربعين دارا بعيد، وما يروى فيه ضعيف. قالوا: ويستوي فيه الساكن والمالك والذكر والأنثى والمسلم الذمي لأن اسم الجار يتناولهم ويدخل فيه العبد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 الساكن عنده لإطلاقه، ولا يدخل عندهما لأن الوصية له وصية لمولاه وهو غير ساكن. قال: "ومن أوصى لأصهاره فالوصية لكل ذي رحم محرم من امرأته" لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تزوج صفية أعتق كل من ملك من ذي رحم محرم منها إكراما لها" وكانوا يسمون أصهار النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا التفسير اختيار محمد وأبي عبيدة، وكذا يدخل فيه كل ذي رحم محرم من زوجة أبيه وزوجة ابنه وزوجة كل ذي رحم محرم منه لأن الكل أصهار. ولو مات الموصي والمرأة في نكاحه أو في عدته من طلاق رجعي فالصهر يستحق الوصية وإن كانت في عدة من طلاق بائن لا يستحقها لأن بقاء الصهرية ببقاء النكاح وهو شرط عند الموت. قال: "ومن أوصى لأختانه فالوصية لزوج كل ذات رحم محرم منه وكذا محارم الأزواج" لأن الكل يسمى ختنا. قيل هذا في عرفهم. وفي عرفنا لا يتناول الأزواج المحارم، ويستوي فيه الحر والعبد والأقرب والأبعد. لأن اللفظ يتناول الكل. قال: "ومن أوصى لأقاربه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم منه، ولا يدخل فيه الوالدان والولد ويكون ذلك للاثنين فصاعدا، وهذا عند أبي حنيفة، وقال صاحباه: الوصية لكل من ينسب إلى أقصى أب له في الإسلام" وهو أول أب أسلم أو أول أب أدرك الإسلام وإن لم يسلم على حسب ما اختلف فيه المشايخ. وفائدة الاختلاف تظهر في أولاد أبي طالب فإنه أدرك الإسلام ولم يسلم. لهما أن القريب مشتق من القرابة فيكون اسما لمن قامت به فينتظم بحقيقة مواضع الخلاف. وله أن الوصية أخت الميراث، وفي الميراث يعتبر الأقرب فالأقرب، والمراد بالجمع المذكور فيه اثنان فكذا في الوصية، والمقصد من هذه الوصية تلاقي ما فرط في إقامة واجب الصلة وهو يختص بذي الرحم المحرم منه، ولا يدخل فيه قرابة الولاد فإنهم لا يسمون أقرباء، ومن سمى والده قريبا كان منه عقوقا، وهذا لأن القريب في عرف اللسان من يتقرب إلى غيره بوسيلة غيره، وتقرب الوالد والولد بنفسه لا بغيره، ولا معتبر بظاهر اللفظ بعد انعقاد الإجماع على تركه، فعنده يقيد بما ذكرناه، وعندهما بأقصى الأب في الإسلام، وعند الشافعي بالأب الأدنى. قال: "وإذا أوصى لأقاربه وله عمان وخالان فالوصية لعميه" عنده اعتبار للأقرب كما في الإرث، وعندهما بينهم أرباعا إذ هما لا يعتبران الأقرب "ولو ترك عما وخالين فللعم نصف الوصية والنصف للخالين" لأنه لا بد من اعتبار معنى الجميع وهو الاثنان في الوصية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 كما في الميراث بخلاف ما إذا أوصى لذي قرابته حيث يكون للعم كل الوصية، لأن اللفظ للفرد فيحرز الواحد كلها إذ هو الأقرب، ولو كان له عم واحد فله الثلث لما بيناه، ولو ترك عما وعمة وخالا وخالة فالوصية للعم والعمة بينهما بالسوية لاستواء قرابتهما وهي أقوى، والعمة وإن لم تكن وارثة فهي مستحقة للوصية كما لو كان القريب رقيقا أو كافرا، وكذا إذا أوصى لذوي قرابته أو لأقربائه أو لأنسبائه في جميع ما ذكرنا، لأن كل ذلك لفظ جمع، ولو انعدم المحرم بطلت الوصية لأنها مقيدة بهذا الوصف. قال: "ومن أوصى لأهل فلان فهي على زوجته عند أبي حنيفة"، وقال: يتناول كل من يعولهم وتضمهم نفقته اعتبارا للعرف وهو مؤيد بالنص، قال الله تعالى: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:93] وله أن اسم الأهل حقيقة في الزوجة يشهد بذلك قوله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] ومنه قولهم تأهل ببلدة كذا، والمطلق ينصرف إلى الحقيقة. قال: "ولو أوصى لآل فلان فهو لأهل بيته" لأن الآل القبيلة التي ينسب إليها، ولو أوصى لأهل بيت فلان يدخل فيه أبوه وجده لأن الأب أصل البيت، ولو أوصى لأهل نسبه أو لجنسه فالنسب عبارة عمن ينسب إليه، والنسب يكون من جهة الآباء، وجنسه أهل بيت أبيه دون أمه لأن الإنسان يتجنس بأبيه، بخلاف قرابته حيث تكون من جانب الأم والأب، ولو أوصى لأيتام بني فلان أو لعميانهم أو لزمناهم أو لأراملهم إن كانوا قوما يحصون دخل في الوصية فقراؤهم وأغنياؤهم ذكورهم وإناثهم، لأنه أمكن تحقيق التمليك في حقهم والوصية تمليك. وإن كانوا لا يحصون فالوصية في الفقراء منهم، لأن المقصود من الوصية القربة وهي في سد الخلة ورد الجوعة. وهذه الأسامي تشعر بتحقق الحاجة فجاز حمله على الفقراء، بخلاف ما إذا أوصى لشبان بني فلان وهم لا يحصون أو لأيامى بني فلان وهم لا يحصون حيث تبطل الوصية، لأنه ليس في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة فلا يمكن صرفه إلى الفقراء، ولا يمكن تصحيحه تمليكا في حق الكل للجهالة المتفاحشة وتعذر الصرف إليهم، وفي الوصية للفقراء والمساكين يجب الصرف إلى اثنين منهم اعتبارا لمعنى الجمع، وأقله اثنان في الوصايا على ما مر. ولو أوصى لبني فلان يدخل فيهم الإناث في قول أبي حنيفة أول قوليه وهو قولهما لأن جمع الذكور يتناول الإناث، ثم رجع وقال: يتناول الذكور خاصة لأن حقيقة الاسم للذكور وانتظامه للإناث تجوز والكلام لحقيقته، بخلاف ما إذا كان بنو فلان اسم قبيلة أو فخذ حيث يتناول الذكور والإناث لأنه ليس يراد بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 أعيانهم إذ هو مجرد الانتساب كبني آدم ولهذا يدخل فيه مولى العتاقة والموالاة وحلفاؤهم. قال: "ومن أوصى لولد فلان فالوصية بينهم والذكر والأنثى فيه سواء" لأن اسم الولد ينتظم الكل انتظاما واحدا. "ومن أوصى لورثة فلان فالوصية بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين" لأنه لما نص على لفظ الورثة آذن ذلك بأن قصده التفضيل كما في الميراث. ومن أوصى لمواليه وله موال أعتقهم وموال أعتقوه فالوصية باطلة. وقال الشافعي في بعض كتبه: إن الوصية لهم جميعا، وذكر في موضع آخر أنه يوقف حتى يصالحوا. له أن الاسم يتناولهم لأن كلا منهم يسمى مولى فصار كالإخوة. ولنا أن الجهة مختلفة لأن أحدهما يسمى مولى النعمة والآخر منعم عليه فصار مشتركا فلا ينتظمهما لفظ واحد في موضع الإثبات، بخلاف ما إذا حلف لا يكلم موالي فلان حيث يتناول الأعلى والأسفل لأنه مقام النفي ولا تنافي فيه، ويدخل في هذه الوصية من أعتقه في الصحة والمرض، ولا يدخل مدبروه وأمهات أولاده لأن عتق هؤلاء يثبت بعد الموت والوصية تضاف إلى حالة الموت فلا بد من تحقق الاسم قبله. وعن أبي يوسف أنهم يدخلون لأن سبب الاستحقاق لازم، ويدخل فيه عبد قال له مولاه إن لم أضربك فأنت حر لأن العتق يثبت قبيل الموت عند تحقق عجزه، ولو كان له موال وأولاده موال وموالي موالاة يدخل فيها معتقوه وأولادهم دون موالي الموالاة وعن أبي يوسف أنهم يدخلون أيضا والكل شركاء لأن الاسم يتناولهم على السواء. ومحمد يقول: الجهة مختلفة، في المعتق الإنعام، وفي الموالي عقد الالتزام والإعتاق لازم فكان الاسم له أحق، ولا يدخل فيهم موالي الموالي لأنهم موالي غيره حقيقة، بخلاف مواليه وأولادهم لأنهم ينسبون إليه بإعتاق وجد منه، وبخلاف ما إذا لم يكن له موال ولا أولاد الموالي لأن اللفظ لهم مجاز فيصرف إليه عند تعذر اعتبار الحقيقة. ولو كان له معتق واحد وموالي الموالي فالنصف لمعتق والباقي للورثة لتعذر الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يدخل فيه موال أعتقهم ابنه أو أبوه لأنهم ليسوا بمواليه لا حقيقة ولا مجازا، وإنما يحرز ميراثهم بالعصوبة، بخلاف معتق البعض لأنه ينسب إليه بالولاء، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 باب الوصية بالسكنى والخدمة والثمرة قال: "وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره سنين معلومة وتجوز بذلك أبدا" لأن المنافع يصح تمليكها في حالة الحياة ببدل وغير بدل، فكذا بعد الممات لحاجته كما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 الأعيان، ويكون محبوسا على ملكه في حق المنفعة حتى يتملكها الموصى له على ملكه كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف على حكم ملك الواقف، وتجوز مؤقتا ومؤبدا كما في العارية فإنها تمليك على أصلنا، بخلاف الميراث لأنه خلافه فيما يتملكه المورث وذلك في عين تبقى والمنفعة عرض لا يبقى، وكذا الوصية بغلة العبد والدار لأنه بدل المنفعة فأخذ حكمها والمعنى يشملهما. قال: "فإن خرجت رقبة العبد من الثلث يسلم إليه ليخدمه" لأن حق الموصى له في الثلث لا يزاحمه الورثة "وإن كان لا مال له غيره خدم الورثة يومين والموصى له يوما" لأن حقه في الثلث وحقهم في الثلثين كما في الوصية في العين ولا تمكن قسمة العبد أجزاء لأنه لا يتجزأ فصرنا إلى المهايأة إيفاء للحقين، بخلاف الوصية بسكنى الدار إذا كانت لا تخرج من الثلث حيث تقسم عين الدار ثلاثا للانتفاع لأنه يمكن القسمة بالأجزاء وهو أعدل للتسوية بينهما زمانا وذاتا، وفي المهايأة تقديم أحدهما زمانا. ولو اقتسموا الدار مهايأة من حيث الزمان تجوز أيضا لأن الحق لهم، إلا أن الأول وهو الأعدل أولى، وليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من ثلثي الدار. وعن أبي يوسف رحمه الله أن لهم ذلك لأنه خالص ملكهم. وجه الظاهر أن حق الموصى له ثابت في سكنى جميع الدار بأن ظهر للميت مال آخر وتخرج الدار من الثلث، وكذا له حق المزاحمة فيما في أيديهم إذا خرب ما في يده. والبيع يتضمن إبطال ذلك فمنعوا عنه. قال: "فإن كان مات الموصى له عاد إلى الورثة" لأن الموصي أوجب الحق للموصى له ليستوفي المنافع على حكم ملكه، فلو انتقل إلى وارث الموصى له استحقها ابتداء من ملك الموصي من غير مرضاته وذلك لا يجوز. "ولو مات الموصى له في حياة الموصي بطلت" لأن إيجابها تعلق بالموت على ما بيناه من قبل. ولو أوصى بغلة عبده أو داره فاستخدمه بنفسه أو سكنها بنفسه قيل يجوز ذلك لأن قيمة المنافع كعينها في تحصيل المقصود. والأصح أنه لا يجوز لأن الغلة دراهم أو دنانير وقد وجبت الوصية بها، وهذا استيفاء المنافع وهما متغايران ومتفاوتان في حق الورثة، فإنه لو ظهر دين يمكنهم أداؤه من الغلة بالاسترداد منه بعد استغلالها ولا يمكنهم من المنافع بعد استيفائها بعينها، وليس للموصى له بالخدمة والسكنى أن يؤاجر العبد أو الدار. وقال الشافعي: له ذلك لأنه بالوصية ملك المنفعة فيملك تمليكها من غيره ببدل أو غير بدل لأنها كالأعيان عنده، بخلاف العارية لأنها إباحة على أصله وليس بتمليك. ولنا أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 الوصية تمليك بغير بدل مضاف إلى ما بعد الموت فلا يملك تمليكه ببدل اعتبارا بالإعارة فإنها تمليك بغير بدل في حالة الحياة على أصلنا، ولا يملك المستعير الإجارة لأنها تمليك ببدل، كذا هذا. وتحقيقه أن التمليك ببدل لازم وبغير بدل غير لازم، ولا يملك الأقوى بالأضعف والأكثر بالأقل، والوصية تبرع غير لازم إلا أن الرجوع للمتبرع لا لغيره والمتبرع بعد الموت لا يمكنه الرجوع فلهذا انقطع، أما هو في وضعه فغير لازم، ولأن المنفعة ليست بمال على أصلنا وفي تمليكها بالمال إحداث صفة المالية فيها تحقيقا للمساواة في عقد المعاوضة، فإنما تثبت هذه الولاية لمن يملكها تبعا لملك الرقبة، أو لمن يملكها بعقد المعاوضة حتى يكون مملكا لها بالصفة التي تملكها، أما إذا تملكها مقصودة بغير عوض ثم ملكها بعوض كان مملكا أكثر مما تملكه معنى وهذا لا يجوز، وليس للموصى له أن يخرج العبد من الكوفة إلا أن يكون الموصى له وأهله في غير الكوفة فيخرجه إلى أهله للخدمة هنالك إذا كان يخرج من الثلث، لأن الوصية إنما تنفذ على ما يعرف من مقصود الموصي، فإذا كانوا في مصره فمقصوده أن يمكنه من خدمته فيه بدون أن يلزمه مشقة السفر، وإذا كانوا في غيره فمقصوده أن يحمل العبد إلى أهله ليخدمهم. ولو أوصى بغلة عبده أو بغلة داره يجوز أيضا لأنه بدل المنفعة فأخذ حكم المنفعة في جواز الوصية به، كيف وأنه عين حقيقة لأنه دراهم أو دنانير فكان بالجواز أولى، ولو لم يكن له مال غيره كان له ثلث غلة تلك السنة لأنه عين مال يحتمل القسمة بالأجزاء، فلو أراد الموصى له قسمة الدار بينه وبين الورثة ليكون هو الذي يستغل ثلثها لم يكن له ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف فإنه يقول: الموصى له شريك الوارث وللشريك ذلك، فكذلك للموصى له، إلا أنا نقول: المطالبة بالقسمة تبتنى على ثبوت الحق للموصى له فيما يلاقيه القسمة إذ هو المطالب، ولا حق له في عين الدار، وإنما حقه في الغلة فلا يملك المطالبة بقسمة الدار، ولو أوصى له بخدمة عبده ولآخر برقبته وهو يخرج من الثلث فالرقبة لصاحب الرقبة والخدمة عليها لصاحب الخدمة، لأنه أوجب لكل واحد منهما شيئا معلوما عطفا منه لأحدهما على الآخر فتعتبر هذه الحالة بحالة الانفراد. ثم لما صحت الوصية لصاحب الخدمة، فلو لم يوص في الرقبة ميراثا للورثة مع كون الخدمة للموصى له، فكذا إذا أوصى بالرقبة لإنسان آخر، إذ الوصية أخت الميراث من حيث إن الملك يثبت فيهما بعد الموت. ولها نظائر: وهو ما إذا أوصى بأمة لرجل وبما في بطنها لآخر وهي تخرج من الثلث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 أو أوصى لرجل بخاتم ولآخر بفصه، أو قال هذه القوصرة لفلان وما فيها من التمر لفلان كان كما أوصى، ولا شيء لصاحب الظرف في المظروف في هذه المسائل كلها، أما إذا فصل أحد الإيجابين عن الآخر فيها فكذلك الجواب عند أبي يوسف. وعلى قول محمد الأمة للموصى له بها والولد بينهما نصفان، وكذلك في أخواتها. لأبي يوسف أن بإيجابه في الكلام الثاني تبين أن مراده من الكلام الأول إيجاب الأمة للموصى له بها دون الولد، وهذا البيان منه صحيح وإن كان مفصولا لأن الوصية لا تلزم شيئا في حال حياة الموصي فكان البيان المفصول فيه والموصول سواء كما في وصية الرقبة والخدمة. ولمحمد أن اسم الخاتم يتناول الحلقة والفص. وكذلك اسم الجارية يتناولها وما في بطنها. واسم القوصرة كذلك، ومن أصلنا أن العام الذي موجبه ثبوت الحكم على سبيل الإحاطة بمنزلة الخاص فقد اجتمع في الفص وصيتان وكل منهما وصية بإيجاب على حدة فيجعل الفص بينهما نصفين، ولا يكون إيجاب الوصية فيه للثاني رجوعا عن الأول، كما إذا أوصى للثاني بالخاتم، بخلاف الخدمة مع الرقبة لأن اسم الرقبة لا يتناول الخدمة وإنما يستخدمه الموصى له بحكم أن المنفعة حصلت على ملكه، فإذا أوجب الخدمة لغيره لا يبقى للموصى له فيه حق، بخلاف ما إذا كان الكلام موصولا لأن ذلك دليل التخصيص والاستثناء، فتبين أنه أوجب لصاحب الخاتم الحلقة خاصة دون الفص. قال: "ومن أوصى لآخر بثمرة بستانه ثم مات وفيه ثمرة فله هذه الثمرة وحدها، وإن قال له ثمرة بستاني أبدا فله هذه الثمرة وثمرته فيما يستقبل ما عاش، وإن أوصى له بغلة بستانه فله الغلة القائمة وغلته فيما يستقبل" والفرق أن الثمرة اسم للموجود عرفا فلا يتناول المعدوم إلا بدلالة زائدة، مثل التنصيص على الأبد لأنه لا يتأبد إلا بتناول المعدوم والمعدوم مذكور وإن لم يكن شيئا، أما الغلة فتنتظم الموجود وما يكون بعرض الوجود مرة بعد أخرى عرفا، يقال فلان يأكل من غلة بستانه ومن غلة أرضه وداره، فإذا أطلقت يتناولهما عرفا غير موقوف على دلالة أخرى. أما الثمرة إذا أطلقت لا يراد بها إلا الموجود فلهذا يفتقر الانصراف إلى دليل زائد. قال: "ومن أوصى لرجل بصوف غنمه أبدا أو بأولادها أو بلبنها ثم مات فله ما في بطونها من الولد وما في ضروعها من اللبن وما على ظهورها من الصوف يوم يموت الموصي سواء قال أبدا أو لم يقل" لأنه إيجاب عند الموت فيعتبر قيام هذه الأشياء يومئذ، وهذا بخلاف ما تقدم. والفرق أن القياس يأبى تمليك المعدوم لأنه لا يقبل الملك، إلا أن في الثمرة والغلة المعدومة جاء الشرع بورود العقد عليها كالمعاملة والإجارة، فاقتضى ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 جوازه في الوصية بالطريق الأولى لأن بابها أوسع. أما الولد المعدوم وأختاه فلا يجوز إيراد العقد عليها أصلا، ولا تستحق بعقد ما، فكذلك لا يدخل تحت الوصية، بخلاف الموجود منها لأنه يجوز استحقاقها بعقد البيع تبعا وبعقد الخلع مقصودا، فكذا بالوصية، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 باب وصية الذمي قال: "وإذا صنع يهودي أو نصراني بيعة أو كنيسة في صحته ثم مات فهو ميراث" لأن هذا بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة، والوقف عنده يورث ولا يلزم فكذا هذا. وأما عندهما فلأن هذه معصية فلا تصح عندهما. قال: "ولو أوصى بذلك لقوم مسمين فهو الثلث" معناه إذا أوصى أن تبنى داره بيعة أو كنيسة فهو جائز من الثلث لأن الوصية فيها معنى الاستخلاف ومعنى التمليك، وله ولاية ذلك فأمكن تصحيحه على اعتبار المعنيين. قال: "وإن أوصى بداره كنيسة لقوم غير مسمين جازت الوصية عند أبي حنيفة، وقالا: الوصية باطلة" لأن هذه معصية حقيقة وإن كان في معتقدهم قربة، والوصية بالمعصية باطلة لما في تنفيذها من تقرير المعصية. ولأبي حنيفة أن هذه قربة في معتقدهم ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون فتجوز بناء على اعتقادهم؛ ألا يرى أنه لو أوصى بما هو قربة حقيقة معصية في معتقدهم لا تجوز الوصية اعتبارا لاعتقادهم فكذا عكسه. ثم الفرق لأبي حنيفة بين بناء البيعة والكنيسة وبين الوصية به أن البناء نفسه ليس بسبب لزوال ملك الباني. وإنما يزول ملكه بأن يصير محررا خالصا لله تعالى كما في مساجد المسلمين، والكنيسة لم تصر محررة لله تعالى حقيقة فتبقى ملكا للباني فتورث عنه، ولأنهم يبنون فيها الحجرات ويسكنونها فلم يتحرر لتعلق حق العباد به، وفي هذه الصورة يورث المسجد أيضا لعدم تحرره، بخلاف الوصية لأنه وضع لإزالة الملك إلا أنه امتنع ثبوت مقتضاه في غير ما هو قربة عندهم فبقي فيما هو قربة على مقتضاه فيزول ملكه فلا يورث. ثم الحاصل أن وصايا الذمي على أربعة أقسام: منها: أن تكون قربة في معتقدهم ولا تكون قربة في حقنا وهو ما ذكرناه، وما إذا أوصى الذمي بأن تذبح خنازيره وتطعم المشركين، وهذه على الخلاف إذا كان لقوم غير مسمين كما ذكرناه والوجه ما بيناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 ومنها: إذا أوصى بما يكون قربة في حقنا ولا يكون قربة في معتقدهم، كما إذا أوصى بالحج أو بأن يبنى مسجد للمسلمين أو بأن يسرج في مساجد المسلمين، فهذه الوصية باطلة بالإجماع اعتبارا لاعتقادهم، إلا إذا كان لقوم بأعيانهم لوقوعه تمليكا لأنهم معلومون والجهة مشورة. ومنها: إذا أوصى بما يكون قربة في حقنا وفي حقهم، كما إذا أوصى بأن يسرج في بيت المقدس أو يغزى الترك وهو من الروم، وهذا جائز سواء كانت لقوم بأعيانهم أو بغير أعيانهم لأنه وصية بما هو قربة حقيقة وفي معتقدهم أيضا. ومنها: إذا أوصى بما لا يكون قربة لا في حقنا ولا في حقهم، كما إذا أوصى للمغنيات والنائحات، فإن هذا غير جائز لأنه معصية في حقنا وفي حقهم، إلا أن يكون لقوم بأعيانهم فيصح تمليكا واستخلافا، وصاحب الهوى إن كان لا يكفر فهو في حق الوصية بمنزلة المسلم لأنا أمرنا ببناء الأحكام على الظاهر، وإن كان يكفر فهو بمنزلة المرتد فيكون على الخلاف المعروف في تصرفاته بين أبي حنيفة وصاحبيه. وفي المرتدة الأصح أنه تصح وصاياها لأنها تبقى على الردة، بخلاف المرتد لأنه يقتل أو يسلم. قال: "وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فأوصى لمسلم أو ذمي بماله كله جاز" لأن امتناع الوصية بما زاد على الثلث لحق الورثة ولهذا تنفذ بإجازتهم، وليس لورثته حق مرعي لكونهم في دار الحرب إذ هم أموات في حقنا، ولأن حرمة ماله باعتبار الأمان، والأمان كان لحقه لا لحق ورثته، ولو كان أوصى بأقل من ذلك أخذت الوصية ويرد الباقي على ورثته وذلك من حق المستأمن أيضا. ولو أعتق عبده عند الموت أو دبر عبده في دار الإسلام فذلك صحيح منه من غير اعتبار الثلث لما بينا، وكذلك لو أوصى له مسلم أو ذمي بوصية جاز لأنه ما دام في دار الإسلام فهو في المعاملات بمنزلة الذمي، ولهذا تصح عقود التمليكات منه في حال حياته، ويصح تبرعه في حياته فكذا بعد مماته. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز لأنه مستأمن من أهل الحرب إذ هو على قصد الرجوع ويمكن منه، ولا يمكن من زيادة المقام على السنة إلا بالجزية. ولو أوصى الذمي بأكثر من الثلث أو لبعض ورثته لا يجوز اعتبارا بالمسلمين لأنهم التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات. ولو أوصى لخلاف ملته جاز اعتبارا بالإرث إذ الكفر كله ملة واحدة، ولو أوصى لحربي. في دار الإسلام لا يجوز لأن الإرث ممتنع لتباين الدارين والوصية أخته، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 باب الوصي وما يملكه قال: "ومن أوصى إلى رجل فقبل الوصي في وجه الموصي وردها في غير وجهه فليس برد" لأن الميت مضى معتمدا عليه، فلو صح رده في غير وجهه في حياته أو بعد مماته صار مغرورا من جهته فرد رده، بخلاف الوكيل بشراء عبد بغير عينه أو ببيع ماله حيث يصح رده في غير وجهه لأنه لا ضرر هناك لأنه حي قادر على التصرف بنفسه "فإن ردها في وجهه فهو رد" لأنه ليس للموصي ولاية إلزامه التصرف، ولا غرور فيه لأنه يمكنه أن ينيب غيره "وإن لم يقبل ولم يرد حتى مات الموصي فهو بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل" لأن الموصي ليس له ولاية الإلزام فبقي مخيرا، فلو أنه باع شيئا من تركته فقد لزمته، لأن ذلك دلالة الالتزام والقبول وهو معتبر بعد الموت، وينفذ البيع لصدوره من الوصي، وسواء علم بالوصاية أو لم يعلم، بخلاف الوكيل إذا لم يعلم بالتوكيل فباع حيث لا ينفذ لأن الوصاية خلافة لأنه يختص بحال انقطاع ولاية الميت فتنتقل الولاية إليه، وإذا كانت خلافة لا تتوقف على العلم كالوراثة. أما التوكيل إنابة لثبوته في حال قيام ولاية المنيب فلا يصح من غير علمه كإثبات الملك بالبيع والشراء وقد بينا طريق العلم وشرط الإخبار فيما تقدم من الكتب. "وإن لم يقبل حتى مات الموصي فقال لا أقبل ثم قال أقبل فله ذلك إن لم يكن القاضي أخرجه من الوصية حين قال لا أقبل" لأن بمجرد قوله لا أقبل لا يبطل الإيصاء، لأن في إبطاله ضررا بالميت وضرر الوصي في الإبقاء مجبور بالثواب، ودفع الأول وهو أعلى أولى، إلا أن القاضي إذا أخرجه عن الوصاية يصح ذلك لأنه مجتهد فيه، إذ للقاضي ولاية دفع الضرر، وربما يعجز عن ذلك فيتضرر ببقاء الوصاية فيدفع القاضي الضرر عنه وينصب حافظا لمال الميت متصرفا فيه فيندفع الضرر من الجانبين فلهذا ينفذ إخراجه، فلو قال بعد إخراج القاضي إياه أقبل لم يلتفت إليه لأنه قبل بعد بطلان الوصاية بإبطال القاضي. "ومن أوصى إلى عبد أو كافر أو فاسق أخرجهم القاضي عن الوصاية ونصب غيرهم" وهذا اللفظ يشير إلى صحة الوصية، لأن الإخراج يكون بعدها. وذكر محمد في الأصل أن الوصية باطلة. قيل معناه في جميع هذه الصور أن الوصية ستبطل، وقيل معناه في العبد باطل حقيقة لعدم ولايته واستبداده، وفي غيره معناه ستبطل، وقيل في الكافر باطل أيضا لعدم ولايته على المسلم. ووجه الصحة ثم الإخراج أن الأصل النظر ثابت لقدرة العبد حقيقة، وولاية الفاسق على أصلنا وولاية الكافر في الجملة، إلا أنه لم يتم النظر لتوقف ولاية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 العبد على إجازة المولى وتمكنه من الحجر بعدها والمعاداة الدينية الباعثة للكافر على ترك النظر في حق المسلم واتهام الفاسق بالخيانة فيخرجه القاضي من الوصاية ويقيم غيره مقامه إتماما للنظر. وشرط في الأصل أن يكون الفاسق مخوفا عليه في المال، وهذا يصلح عذرا في إخراجه وتبديله بغيره. قال: "ومن أوصى إلى عبد نفسه وفي الورثة كبار لم تصح الوصية" لأن للكبير أن يمنعه أو يبيع نصيبه فيمنعه المشتري فيعجز عن الوفاء بحق الوصاية فلا يفيد فائدته وإن كانوا صغارا كلهم فالوصية إليه جائزة عند أبي حنيفة، ولا تجوز عندهما وهو القياس. وقيل قول محمد مضطرب، يروي مرة مع أبي حنيفة، وتارة مع أبي يوسف. وجه القياس: أن الولاية منعدمة لما أن الرق ينافيها، ولأن فيه إثبات الولاية للمملوك على المالك، وهذا قلب المشروع، ولأن الولاية الصادرة من الأب لا تتجزأ، وفي اعتبار هذه تجزئتها لأنه لا يملك بيع رقبته وهذا نقض الموضوع. وله أنه مخاطب مستبد بالتصرف فيكون أهلا للوصاية، وليس لأحد عليه ولاية، فإن الصغار وإن كانوا ملاكا ليس لهم ولاية المنع فلا منافاة، وإيصاء المولى إليه يؤذن بكونه ناظرا لهم وصار كالمكاتب، والوصاية قد تتجزأ على ما هو المروي عن أبي حنيفة، أو نقول: يصار إليه كي لا يؤدي إلى إبطال أصله، وتغيير الوصف لتصحيح الأصل أولى. قال: "ومن يعجز عن القيام بالوصية ضم إليه القاضي غيره" رعاية لحق الموصي والورثة، وهذا لأن تكميل النظر يحصل بضم الآخر إليه لصيانته ونقص كفايته فيتم النظر بإعانة غيره، ولو شكا إليه الوصي ذلك لا يجيبه حتى يعرف ذلك حقيقة، لأن الشاكي قد يكون كاذبا تخفيفا على نفسه، وإذا ظهر عند القاضي عجزه أصلا استبدل به رعاية للنظر من الجانبين؛ ولو كان قادرا على التصرف أمينا فيه ليس للقاضي أن يخرجه، لأنه لو اختار غيره كان دونه لما أنه كان مختار الميت ومرضيه فإبقاؤه أولى ولهذا قدم على أبي الميت مع وفور شفقته فأولى أن يقدم على غيره، وكذا إذا شكا الورثة أو بعضهم الوصي إلى القاضي فإنه لا ينبغي له أن يعزله حتى يبدو له منه خيانة لأنه استفاد الولاية من الميت، غير أنه إذا ظهرت الخيانة فالميت إنما نصبه وصيا لأمانته وقد فاتت، ولو كان في الأحياء لأخرجه منها، فعند عجزه ينوب القاضي منابه كأنه لا وصي له. قال: "ومن أوصى إلى اثنين لم يكن لأحدهما أن يتصرف عند أبي حنيفة ومحمد دون صاحبه" إلا في أشياء معدودة نبينها إن شاء الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 ينفرد كل واحد منهما بالتصرف في جميع الأشياء لأن الوصاية سبيلها الولاية وهي وصف شرعي لا تتجزأ فيثبت لكل منهما كملا كولاية الإنكاح للأخوين، وهذا لأن الوصاية خلافة، وإنما تتحقق إذا انتقلت الولاية إليه على الوجه الذي كان ثابتا للموصي وقد كان بوصف الكمال، ولأن اختيار الأب إياهما يؤذن باختصاص كل واحد منهما بالشفقة فينزل ذلك منزلة قرابة كل واحد منهما. ولهما أن الولاية تثبت بالتفويض فيراعى وصف التفويض وهو وصف الاجتماع إذ هو شرط مقيد، وما رضي الموصي إلا بالمثنى وليس الواحد كالمثنى، بخلاف الأخوين في الإنكاح لأن السبب هنالك القرابة وقد قامت بكل منهما كملا، ولأن الإنكاح حق مستحق لها على الولي، حتى لو طالبته بإنكاحها من كفؤ يخطبها يجب عليه وهاهنا حق التصرف للوصي، ولهذا يبقى مخيرا في التصرف، ففي الأول أوفى حقا على صاحبه فصح، وفي الثاني استوفى حقا لصاحبه فلا يصح أصله الدين الذي عليهما ولهما، بخلاف الأشياء المعدودة لأنها من باب الضرورة لا من باب الولاية. ومواضع الضرورة مستثناة أبدا، وهي ما استثناه في الكتاب وأخواتها. فقال: "إلا في شراء كفن الميت وتجهيزه" لأن في التأخير فساد الميت ولهذا يملكه الجيران عند ذلك "وطعام الصغار وكسوتهم" لأنه يخاف موتهم جوعا وعريا "ورد الوديعة بعينها ورد المغصوب والمشترى شراء فاسدا وحفظ الأموال وقضاء الديون" لأنها ليست من باب الولاية فإنه يملكه المالك، وصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه وحفظ المال يملكه من يقع في يده فكان من باب الإعانة. ولأنه لا يحتاج فيه إلى الرأي "وتنفيذ وصية بعينها وعتق عبد بعينه" لأنه لا يحتاج فيه إلى الرأي "والخصومة في حق الميت" لأن الاجتماع فيها متعذر ولهذا ينفرد بها أحد الوكيلين "وقبول الهبة" لأن في التأخير خيفة الفوات، ولأنه يملكه الأم والذي في حجره فلم يكن من باب الولاية "وبيع ما يخشى عليه التوى والتلف" لأن فيه ضرورة لا تخفى "وجمع الأموال الضائعة" لأن في التأخير خشية الفوات، ولأنه يملكه كل من وقع في يده فلم يكن من باب الولاية. وفي الجامع الصغير: وليس لأحد الوصيين أن يبيع ويتقاضى، والمراد بالتقاضي الاقتضاء، كذا كان المراد منه في عرفهم، وهذا لأنه رضي بأمانتهما جميعا في القبض، ولأنه في معنى المبادلة لا سيما عند اختلاف الجنس على ما عرف فكان من باب الولاية ولو أوصى إلى كل واحد على الانفراد قيل ينفرد كل واحد منهما بالتصرف بمنزلة الوكيلين إذا وكل كل واحد على الانفراد، وهذا لأنه لما أفرد فقد رضي برأي الواحد. وقيل الخلاف في الفصلين واحد، وهو وهو الأصح لأن وجوب الوصية عند الموت بخلاف الوكيلين، لأن الوكالة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 تتعاقب، فإن مات أحدهما جعل القاضي مكانه وصيا آخر، أما عندهما فلأن الباقي عاجز عن التفرد بالتصرف فيضم القاضي إليه وصيا آخر نظرا للميت عند عجزه. وعند أبي يوسف الحي منهما وإن كان يقدر على التصرف فالموصي قصد أن يخلفه متصرفا في حقوقه، وذلك ممكن التحقق بنصب وصي آخر مكان الميت. ولو أن الميت منهما أوصى إلى الحي فللحي أن يتصرف وحده في ظاهر الرواية بمنزلة ما إذا أوصى إلى شخص آخر. ولا يحتاج القاضي إلى نصب وصي آخر لأن رأي الميت باق حكما برأي من يخلفه. وعن أبي حنيفة أنه لا ينفرد بالتصرف لأن الموصي ما رضي بتصرفه وحده، بخلاف ما إذا أوصى إلى غيره لأنه ينفذ تصرفه برأي المثنى كما رضيه المتوفى. وإذا مات الوصي وأوصى إلى آخر فهو وصيه في تركته وتركة الميت الأول عندنا. وقال الشافعي: لا يكون وصيا في تركة الميت الأول اعتبارا بالتوكيل في حالة الحياة، الجامع بينهما أنه رضي برأيه لا برأي غيره. ولنا أن الوصي يتصرف بولاية منتقلة إليه فيملك الإيصاء إلى غيره كالجد؛ ألا يرى أن الولاية التي كانت ثابتة للموصي تنتقل إلى الوصي في المال وإلى الجد في النفس، ثم الجد قائم مقام الأب فيما انتقل إليه فكذا الوصي، وهذا لأن الإيصاء إقامة غيره مقامه فيما له ولايته، وعند الموت كانت له ولاية في التركتين فينزل الثاني منزلته فيهما. ولأنه لما استعان به في ذلك مع علمه أنه قد تعتريه المنية قبل تتميم مقصوده بنفسه وهو تلافي ما فرط منه صار راضيا بإيصائه إلى غيره، بخلاف الوكيل لأن الموكل حي يمكنه أن يحصل مقصوده بنفسه فلا يرضى بتوكيل غيره والإيصاء إليه. قال: "ومقاسمة الوصي الموصى له عن الورثة جائزة ومقاسمته الورثة عن الموصى له باطلة" لأن الوارث خليفة الميت حتى يرد بالعيب ويرد عليه به ويصير مغرورا بشراء المورث والوصي خليفة الميت أيضا فيكون خصما عن الوارث إذا كان غائبا فصحت قسمته عليه، حتى لو حضر وقد هلك ما في يد الوصي ليس له أن يشارك الموصى له. أما الموصى له فليس بخليفة عن الميت من كل وجه لأنه ملكه بسبب جديد، ولهذا لا يرد بالعيب ولا يرد عليه، ولا يصير مغرورا بشراء الموصي فلا يكون الوصي خليفة عنه عند غيبته، حتى لو هلك ما أفرز له عند الوصي كان له ثلث ما بقي لأن القسمة لم تنفذ عليه، غير أن الوصي لا يضمن لأنه أمين فيه، وله ولاية الحفظ في التركة فصار كما إذا هلك بعض التركة قبل القسمة فيكون له ثلث الباقي لأن الموصى له شريك الوارث فيتوى ما توي من المال المشترك على الشركة ويبقى ما بقي على الشركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 قال: "فإن قاسم الورثة وأخذ نصيب الموصى له فضاع رجع الموصى له بثلث ما بقي" لما بينا. قال: "وإن كان الميت أوصى بحجة فقاسم في الورثة فهلك ما في يده حج عن الميت من ثلث ما بقي، وكذلك إن دفعه إلى رجل ليحج عنه فضاع في يده" وقال أبو يوسف: إن كان مستغرقا للثلث لم يرجع بشيء، وإلا يرجع بتمام الثلث. وقال محمد: لا يرجع بشيء لأن القسمة حق الموصي، ولو أفرز الموصي بنفسه مالا ليحج عنه فهلك لا يلزمه شيء وبطلت الوصية، فكذا إذا أفرزه وصيه الذي قام مقامه. ولأبي يوسف أن محل الوصية الثلث فيجب تنفيذها ما بقي محلها، وإذا لم يبق بطلت لفوات محلها. ولأبي حنيفة أن القسمة لا تراد لذاتها بل لمقصودها وهو تأدية الحج فلم تعتبر دونه وصار كما إذا هلك قبل القسمة فيحج بثلث ما بقي، ولأن تمامها بالتسليم إلى الجهة المسماة، إذ لا قابض لها، فإذا لم يصرف إلى ذلك الوجه لم يتم فصار كهلاكه قبلها. قال: "ومن أوصى بثلث ألف درهم فدفعها الورثة إلى القاضي فقسمها والموصى له غائب فقسمته جائزة" لأن الوصية صحيحة، ولهذا لو مات الموصى له قبل القبول تصير الوصية ميراثا لورثته والقاضي نصب ناظرا لا سيما في حق الموتى والغيب، ومن النظر إفراز نصيب الغائب وقبضه فنفذ ذلك وصح، حتى لو حضر الغائب وقد هلك المقبوض لم يكن له على الورثة سبيل. قال: "وإذا باع الوصي عبدا من التركة بغير محضر من الغرماء فهو جائز" لأن الوصي قائم مقام الموصي، ولو تولى حيا بنفسه يجوز بيعه بغير محضر من الغرماء وإن كان في مرض موته فكذا إذا تولاه من قام مقامه، وهذا لأن حق الغرماء متعلق بالمالية لا بالصورة والبيع لا يبطل المالية لفواتها إلى خلف وهو الثمن. بخلاف العبد المديون لأن للغرماء حق الاستسعاء وأما هاهنا فبخلافه. قال: "ومن أوصى بأن يباع عبده ويتصدق بثمنه على المساكين فباعه الوصي وقبض الثمن فضاع في يده فاستحق العبد ضمن الوصي" لأنه هو العاقد فتكون العهدة عليه، وهذه عهدة لأن المشتري منه ما رضي ببذل الثمن إلا ليسلم له المبيع ولم يسلم فقد أخذ الوصي البائع مال الغير بغير رضاه فيجب عليه رده. قال: "ويرجع فيما ترك الميت" لأنه عامل له فيرجع عليه كالوكيل، وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 أبو حنيفة يقول أولا: لا يرجع لأنه ضمن بقبضه، ثم رجع إلى ما ذكرنا ويرجع في جميع التركة. وعن محمد أنه يرجع في الثلث لأن الرجوع بحكم الوصية فأخذ حكمها، ومحل الوصية الثلث. وجه الظاهر أنه يرجع عليه بحكم الغرور وذلك دين عليه والدين يقضى من جميع التركة، بخلاف القاضي أو أمينه إذا تولى البيع حيث لا عهدة عليه، لأن في إلزامها القاضي تعطيل القضاء، إذ يتحامى عن تقلد هذه الأمانة حذرا عن لزوم الغرامة فتتعطل مصلحة العامة وأمينه سفير عنه كالرسول، ولا كذلك الوصي لأنه بمنزلة الوكيل وقد مر في كتاب القضاء، فإن كانت التركة قد هلكت أو لم يكن بها وفاء لم يرجع بشيء كما إذا كان على الميت دين آخر. قال: "وإن قسم الوصي الميراث فأصاب صغيرا من الورثة عبد فباعه وقبض الثمن فهلك واستحق العبد رجع في مال الصغير" لأنه عامل له، ويرجع الصغير على الورثة بحصته لانتقاض القسمة باستحقاق ما أصابه. قال: "وإذا احتال الوصي بمال اليتيم فإن كان خيرا لليتيم جاز" وهو أن يكون أملأ، إذ الولاية نظرية، وإن كان الأول أملأ لا يجوز لأن فيه تضييع مال اليتيم على بعض الوجوه. قال: "ولا يجوز بيع الوصي ولا شراؤه إلا بما يتغابن الناس في مثله" لأنه لا نظر في الغبن الفاحش، بخلاف اليسير لأنه لا يمكن التحرز عنه، ففي اعتباره انسداد بابه. والصبي المأذون والعبد المأذون والمكاتب يجوز بيعهم وشراؤهم بالغبن الفاحش عند أبي حنيفة لأنهم يتصرفون بحكم المالكية، والإذن فك الحجر، بخلاف الوصي لأنه يتصرف بحكم النيابة الشرعية نظرا فيتقيد بموضع النظر. وعندهما لا يملكونه لأن التصرف بالفاحش منه تبرع لا ضرورة فيه وهم ليسوا من أهله "وإذا كتب كتاب الشراء على وصي كتب كتاب الوصية على حدة وكتاب الشراء على حدة" لأن ذلك أحوط، ولو كتب جملة عسى أن يكتب الشاهد شهادته في آخره من غير تفصيل فيصير ذلك حملا له على الكذب. ثم قيل: يكتب اشترى من فلان بن فلان ولا يكتب من فلان وصي فلان لما بينا. وقيل لا بأس بذلك لأن الوصاية تعلم ظاهرا. قال: "وبيع الوصي على الكبير الغائب جائز في كل شيء إلا في العقار" لأن الأب يلي ما سواه ولا يليه، فكذا وصيه فيه. وكان القياس أن لا يملك الوصي غير العقار أيضا لأنه لا يملكه الأب على الكبير، إلا أنا استحسناه لما أنه حفظ لتسارع الفساد إليه، وحفظ الثمن أيسر وهو يملك الحفظ، أما العقار فمحصن بنفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 قال: "ولا يتجر في المال" لأن المفوض إليه الحفظ دون التجارة. وقال أبو يوسف ومحمد: وصي الأخ في الصغير والكبير الغائب بمنزلة وصي الأب في الكبير الغائب، وكذا وصي الأم ووصي العم. وهذا الجواب في تركة هؤلاء لأن وصيهم قائم مقامهم وهم يملكون ما يكون من باب الحفظ فكذا وصيهم. قال: "والوصي أحق بمال الصغير من الجد" وقال الشافعي: الجد أحق لأن الشرع أقامه مقام الأب حال عدمه حتى أحرز الميراث فيقدم على وصيه. ولنا أن بالإيصاء تنتقل ولاية الأب إليه فكانت ولايته قائمة معنى فيقدم عليه كالأب نفسه، وهذا لأن اختياره الوصي مع علمه بقيام الجد يدل على أن تصرفه أنظر لبنيه من تصرف أبيه "فإن لم يوص الأب فالجد بمنزلة الأب" لأنه أقرب الناس إليه وأشفقهم عليه حتى يملك الإنكاح دون وصي، غير أنه يقدم عليه وصي الأب في التصرف لما بيناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 فصل: في الشهادة قال: "وإذا شهد الوصيان أن الميت أوصى إلى فلان معهما فالشهادة باطلة" لأنهما متهمان فيها لإثباتهما معينا لأنفسهما. قال: "إلا أن يدعيها المشهود له" وهذا استحسان، وهو في القياس كالأول لما بينا من التهمة. وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي ابتداء أو ضم آخر إليهما برضاه بدون شهادتهما فيسقط بشهادتهما مؤنة التعيين عنه، أما الوصاية تثبت بنصب القاضي. قال: "وكذلك الابنان" معناه إذا شهدا أن الميت أوصى إلى رجل وهو ينكر لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا بنصب حافظ للتركة. "ولو شهدا" يعني الوصيين "لوارث صغير بشيء من مال الميت أو غيره فشهادتهما باطلة" لأنهما يظهران ولاية التصرف لأنفسهما في المشهود به. قال: "وإن شهد لوارث كبير في مال الميت لم يجز، وإن كان في غير مال الميت جاز" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إن شهدا لوارث كبير تجوز في الوجهين، لأنه لا يثبت لهما ولاية التصرف في التركة إذا كانت الورثة كبارا فعريت عن التهمة. وله أنه يثبت لهما ولاية الحفظ وولاية بيع المنقول عند غيبة الوارث فتحققت التهمة بخلاف شهادتها في غير التركة لانقطاع ولاية وصي الأب عنه، لأن الميت أقامه مقام نفسه في تركته لا في غيرها. قال: "وإذا شهد رجلان لرجلين على ميت بدين ألف درهم وشهد الآخران للأولين بمثل ذلك جازت شهادتهما، فإن كانت شهادة كل فريق للآخر بوصية ألف درهم لم تجز" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا تقبل في الدين أيضا. وأبو حنيفة فيما ذكر الخصاف مع أبي يوسف. وعن أبي يوسف مثل قول محمد رحمه الله. وجه القبول أن الدين يجب في الذمة وهي قابلة لحقوق شتى فلا شركة، ولهذا لو تبرع أجنبي بقضاء دين أحدهما ليس للآخر حق المشاركة. وجه الرد أن الدين بالموت يتعلق بالتركة إذ الذمة خربت بالموت، ولهذا لو استوفى أحدهما حقه من التركة يشاركه الآخر فيه فكانت الشهادة مثبتة حق الشركة فتحققت التهمة، بخلاف حال حياة المديون لأنه في الذمة لبقائها لا في المال فلا تتحقق الشركة. قال: "ولو شهدا أنه أوصى لهذين الرجلين بجاريته وشهد المشهود لهما أن الميت أوصى للشاهدين بعبده جازت الشهادة بالاتفاق" لأنه لا شركة فلا تهمة. "ولو شهدا أنه أوصى لهذين الرجلين بثلث ماله وشهد المشهود لهما أنه أوصى للشاهدين بثلث ماله فالشهادة باطلة، وكذا إذا شهد الأولان أن الميت أوصى لهذين الرجلين بعبد وشهد المشهود لهما أنه أوصى للأولين بثلث ماله فهي باطلة" لأن الشهادة في هذه الصورة مثبتة للشركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 كتاب الخنثى فصل: في بيانه قال: "وإذا كان للمولود فرج وذكر فهو خنثى، فإن كان يبول من الذكر فهو غلام، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى" لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عنه كيف يورث؟ فقال: "من حيث يبول" وعن علي رضي الله عنه مثله. ولأن البول من أي عضو كان فهو دلالة على أنه هو العضو الأصلي الصحيح والآخر بمنزلة العيب "وإن بال منهما فالحكم للأسبق" لأن ذلك دلالة أخرى على أنه هو العضو الأصلي "وإن كانا في السبق على السواء فلا معتبر بالكثرة عند أبي حنيفة. وقالا: ينسب إلى أكثرهما بولا" لأنه علامة قوة ذلك العضو وكونه عضوا أصليا، ولأن للأكثر حكم الكل في أصول الشرع فيترجح بالكثرة. وله أن كثرة الخروج ليس يدل على القوة، لأنه قد يكون لاتساع في أحدهما وضيق في الآخر، وإن كان يخرج منهما على السواء فهو مشكل بالاتفاق لأنه لا مرجح. قال: "وإذا بلغ الخنثى وخرجت له اللحية أو وصل إلى النساء فهو رجل" وكذا إذا احتلم كما يحتلم الرجل أو كان له ثدي مستو، لأن هذه من علامات الذكران "ولو ظهر له ثدي كثدي المرأة أو نزل له لبن في ثديه أو حاض أو حبل أو أمكن الوصول إليه من الفرج فهو امرأة" لأن هذه من علامات النساء "وإن لم يظهر إحدى هذه العلامات فهو خنثى مشكل" وكذا إذا تعارضت هذه المعالم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 فصل: في أحكامه قال رضي الله عنه: الأصل في الخنثى المشكل أن يؤخذ فيه بالأحوط والأوثق في أمور الدين، وأن لا يحكم بثبوت حكم وقع الشك في ثبوته. قال: "وإذا وقف خلف الإمام قام بين صف الرجال والنساء" لاحتمال أنه امرأة فلا يتخلل الرجال كي لا يفسد صلاتهم ولا النساء لاحتمال أنه رجل فتفسد صلاته. "فإن قام في صف النساء فأحب إلي أن يعيد صلاته" لاحتمال أنه رجل "وإن قام في صف الرجال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 فصلاته تامة ويعيد الذي عن يمينه وعن يساره والذي خلفه بحذائه صلاتهم احتياطا" لاحتمال أنه امرأة. قال: "وأحب إلينا أن يصلي بقناع" لأنه يحتمل أنه امرأة "ويجلس في صلاته جلوس المرأة" لأنه إن كان رجلا فقد ترك سنة وهو جائز في الجملة، وإن كان امرأة فقد ارتكب مكروها لأن الستر على النساء واجب ما أمكن "وإن صلى بغير قناع أمرته أن يعيد" لاحتمال أنه امرأة وهو على الاستحباب وإن لم يعد أجزأه "وتبتاع له أمة تختنه إن كان له مال" لأنه يباح لمملوكته النظر إليه رجلا كان أو امرأة. ويكره أن يختنه رجل لأنه عساه أنثى أو تختنه امرأة لأنه لعله رجل فكان الاحتياط فيما قلنا "وإن لم يكن له مال ابتاع له الإمام أمة من بيت المال" لأنه أعد لنوائب المسلمين "فإذا ختنته باعها ورد ثمنها في بيت المال" لوقوع الاستغناء عنها. "ويكره له في حياته لبس الحلي والحرير، وأن يتكشف قدام الرجال أو قدام النساء. وأن يخلو به غير محرم من رجل أو امرأة، وأن يسافر من غير محرم من الرجال" توقيا عن احتمال المحرم "وإن أحرم وقد راهق قال أبو يوسف: لا علم لي في لباسه" لأنه إن كان ذكرا يكره له لبس المخيط، وإن كان أنثى يكره له تركه "وقال محمد: يلبس لباس المرأة" لأن ترك لبس المخيط وهو امرأة أفحش من لبسه وهو رجل، ولا شيء عليه لأنه لم يبلغ. "ومن حلف بطلاق أو عتاق إن كان أول ولد تلدينه غلاما فولدت خنثى لم يقع حتى يستبين أمر الخنثى" لأن الخنث لا يثبت بالشك "ولو قال كل عبد لي حر أو قال كل أمة لي حرة وله مملوك خنثى لم يعتق حتى يستبين أمره" لما قلنا "وإن قال القولين جميعا عتق" للتيقن بأحد الوصفين لأنه ليس بمهمل "وإن قال الخنثى أنا رجل أو أنا امرأة لم يقبل قوله إذا كان مشكلا" لأنه دعوى يخالف قضية الدليل "وإن لم يكن مشكلا ينبغي أن يقبل قوله" لأنه أعلم بحاله من غيره "وإن مات قبل أن يستبين أمره لم يغسله رجل ولا امرأة" لأن حل الغسل غير ثابت بين الرجال والنساء "فيتوقى لاحتمال الحرمة وييمم بالصعيد" لتعذر الغسل "ولا يحضر إن كان مراهقا غسل رجل ولا امرأة" لاحتمال أنه ذكر أو أنثى "وإن سجى قبره فهو أحب" لأنه إن كان أنثى يقيم واجبا، وإن كان ذكرا فالتسجية لا تضره. "وإذا مات فصلي عليه وعلى رجل وامرأة وضع الرجل مما يلي الإمام والخنثى خلفه والمرأة خلف الخنثى فيؤخر عن الرجل" لاحتمال أنه امرأة "ويقدم على المرأة" لاحتمال أنه رجل. "ولو دفن مع رجل في قبر واحد من عذر جعل الخنثى خلف الرجل" لاحتمال أنه امرأة "ويجعل بينهما حاجز من صعيد، وإن كان مع امرأة قدم الخنثى" لاحتمال أنه رجل "وإن جعل على السرير نعش المرأة فهو أحب إلي" لاحتمال أنه عورة، "ويكفن كما تكفن الجارية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 وهو أحب إلي" يعني يكفن في خمس أثواب لأنه إذا كان أنثى فقد أقيمت سنة، وإن كان ذكرا فقد زادوا على الثلاث ولا بأس بذلك. "ولو مات أبوه وخلف ابنا فالمال بينهما عند أبي حنيفة أثلاثا للابن سهمان، وللخنثى سهم وهو أنثى عنده في الميراث إلا أن يتبين غير ذلك" وقالا: للخنثى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى وهو قول الشعبي رحمه الله. واختلفا في قياس قوله قال محمد: المال بينهما على اثني عشر سهما للابن سبعة وللخنثى خمسة. وقال أبو يوسف: المال بينهما على سبعة للابن أربعة وللخنثى ثلاثة، لأن الابن يستحق كل الميراث عند الانفراد والخنثى ثلاثة الأرباع، فعند الاجتماع يقسم بينهما على قدر حقيهما هذا يضرب بثلاثة وذلك يضرب بأربعة فيكون سبعة. ولمحمد أن الخنثى لو كان ذكرا يكون المال بينهما نصفين، وإن كان أنثى يكون المال بينهما أثلاثا احتجنا إلى حساب له نصف وثلث، وأقل ذلك ستة، ففي حال يكون المال بينهما نصفين لكل واحد ثلاثة، وفي حال يكون أثلاثا للخنثى سهمان وللابن أربعة، فسهمان للخنثى ثابتان بيقين. ووقع الشك في السهم الزائد فيتنصف فيكون له سهمان ونصف فانكسر فيضعف ليزول الكسر فصار الحساب من اثني عشر للخنثى خمسة وللابن سبعة. ولأبي حنيفة أن الحاجة هاهنا إلى إثبات المال ابتداء، والأقل وهو ميراث الأنثى متيقن به، وفيما زاد عليه شك، فأثبتنا المتيقن قصرا عليه لأن المال لا يجب بالشك وصار كما إذا كان الشك في وجوب المال بسبب آخر فإنه يؤخذ فيه بالمتيقن، كذا هذا، إلا أن يكون نصيبه الأقل لو قدرناه ذكرا فحينئذ يعطى نصيب الابن في تلك الصورة لكونه متيقنا به وهو أن تكون الورثة زوجا، وأما وأختا لأب وأم هي خنثى أو امرأة وأخوين لأم وأختا لأب وأم هي خنثى. فعندنا في الأولى للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للخنثى، وفي الثانية للمرأة الربع وللأخوين لأم الثلث والباقي للخنثى لأنه أقل النصيبين فيهما، والله أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 مسائل شتى قال: "وإذا قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له أنشهد عليك بما في هذا الكتاب فأومأ برأسه: أي نعم أو كتب، فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار فهو جائز، ولا يجوز ذلك في الذي يعتقل لسانه" وقال الشافعي: يجوز في الوجهين لأن المجوز إنما هو العجز وقد شمل الفصلين، ولا فرق بين الأصلي والعارضي كالوحشي والمتوحش من الأهلي في حق الذكاة، والفرق لأصحابنا رحمهم الله أن الإشارة إنما تعتبر إذا صارت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 معهودة معلومة وذلك في الأخرس دون المعتقل لسانه. حتى لو امتد ذلك وصارت له إشارات معلومة قالوا هو بمنزلة الأخرس، ولأن التفريط جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت، أما الأخرس فلا تفريط منه، ولأن العارضي على شرف الزوال دون الأصلي فلا ينقاسان، وفي الآبدة عرفناه بالنص. قال: "وإذا كان الأخرس يكتب كتابا أو يومئ إيماء يعرف به فإنه يجوز نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشراؤه ويقتص له ومنه، ولا يحد ولا يحد له" أما الكتابة فلأنها ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام أدى واجب التبليغ مرة بالعبارة وتارة بالكتابة إلى الغيب، والمجوز في حق الغائب العجز وهو في حق الأخرس أظهر وألزم. ثم الكتاب على ثلاث مراتب: مستبين مرسوم وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا. ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدار وأوراق الأشجار، وينوي فيه لأنه بمنزلة صريح الكتابة فلا بد من النية. وغير مستبين كالكتابة على الهواء والماء، وهو بمنزلة كلام غير مسموع فلا يثبت به الحكم. وأما الإشارة فجعلت حجة في حق الأخرس في حق هذه الأحكام للحاجة إلى ذلك لأنها من حقوق العباد ولا تختص بلفظ دون لفظ، وقد تثبت بدون اللفظ. والقصاص حق العبد أيضا، ولا حاجة إلى الحدود لأنها حق الله تعالى، ولأنها تندرئ بالشبهات، ولعله كان مصدقا للقاذف فلا يحد للشبهة، ولا يحد أيضا بالإشارة في القذف لانعدام القذف صريحا وهو الشرط. ثم الفرق بين الحدود والقصاص أن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة؛ ألا ترى أنهم لو شهدوا بالوطء الحرام أو أقر بالوطء الحرام لا يجب الحد، ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب القصاص وإن لم يوجد لفظ التعمد، وهذا لأن القصاص فيه معنى العوضية لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد. أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة. وذكر في كتاب الإقرار أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه، ويحتمل أن يكون الجواب هنا كذلك فيكون فيهما روايتان، ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك لأنه يمكن الوصول إلى نطق الغائب في الجملة لقيام أهلية النطق، ولا كذلك الأخرس لتعذر الوصول إلى النطق للآفة المانعة، ودلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 كان قادرا على الكتابة، بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا رحمهم الله أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة. لأنه حجة ضرورية، ولا ضرورة لأنه جمع هاهنا بينهما فقال: أشار أو كتب، وإنما استويا لأن كل واحد منهما حجة ضرورية، وفي الكتابة زيادة بيان لم يوجد في الإشارة، وفي الإشارة زيادة أثر لم يوجد في الكتاب لما أنه أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا "وكذلك الذي صمت يوما أو يومين لعارض" لما بينا في المعتقل لسانه أن آلة النطق قائمة، وقيل هذا تفسير لمعتقل اللسان. قال: "وإذا كانت الغنم مذبوحة وفيها ميتة فإن كانت المذبوحة أكثر تحرى فيها وأكل، وإن كانت الميتة أكثر أو كانا نصفين لم يأكل" وهذا إذا كانت الحالة حالة الاختيار. أما في حالة الضرورة يحل له التناول في جميع ذلك. لأن الميتة المتيقنة تحل له في حالة الضرورة، فالتي تحتمل أن تكون ذكية أولى، غير أنه يتحرى لأنه طريق يوصله إلى الذكية في الجملة فلا يتركه من غير ضرورة. وقال الشافعي: لا يجوز الأكل في حالة الاختيار وإن كانت المذبوحة أكثر لأن التحري دليل ضروري فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة لأن الحالة حالة الاختيار. ولنا أن الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة؛ ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرم المسروق والمغصوب ومع ذلك يباح التناول اعتمادا على الغالب، وهذا لأن القليل لا يمكن الاحتراز عنه ولا يستطاع الامتناع منه فسقط اعتباره دفعا للحرج كقليل النجاسة وقليل الانكشاف، بخلاف ما إذا كانا نصفين أو كانت الميتة أغلب لأنه لا ضرورة فيه، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. بعون الله تعالى قد تم طبع كتاب الهداية شرح بداية المبتدى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550