الكتاب: الملخص الفقهي المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1423هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الملخص الفقهي صالح الفوزان الكتاب: الملخص الفقهي المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1423هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فهذا ملخص في الفقه، مقرون بأدلته من الكتاب والسنة، كنت ألقيته في الإذاعة على حلقات، وقد تكرر الطلب ممن سمعوه وألحوا علي بطباعته، ليبقى الانتفاع به إن شاء الله، وما كنت أنوي ذلك حال إعداده، ولكن نزولاً عند رغبة الكثير، أعدت النظر فيه، ورتبته، وقدمته للطباعة. وها هو بين يديك أيها القارئ الكريم، فما وجدت فيه من صواب وفائدة، فالفضل فيه راجع إلى الله وحده، وما وجدت فيه من خطأ، فهو مني، وأستغفر الله. وقد لخصته من كتاب "شرح الزاد/ الروض المربع"، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 حاشيته، للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مع بعض التنبيهات مني إذا مرت مناسبة. هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا للعم النافع والعمل الصالح. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فضل التفقه في الدين فضل التفقه في الدين ... فضل التفقه في الدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير: قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد به خيراً، يفقهه في الدين"، وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ} ، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الزيادة من العلم: قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} . قال الحافظ ابن حجر: "وهذا واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله لم يأمر نبيهصلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء، إلا من العلم، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المجالس التي يتعلم فيها العلم النافع ب "رياض الجنة"، وأخبر أن العلماء هم ورثة الأنبياء. ولا شك أن الإنسان قبل أن يقدم على أداء عمل ما، لا بد أن يعرف الطريقة التي يؤدي بها العمل على وجهه الصحيح، حتى يكون هذا العمل صحيحا، مؤديا لنتيجة التي ترجى من ورائه، فكيف يقدم الإنسان على عبادة ربه التي تتوقف عليها نجاته من النار ودخوله الجنة، كيف يقدم على ذلك بدون علم؟!. ومن ثم افترق الناس بالنسبة للعلم والعمل ثلاث فرق: الفريق الأول: الذين جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، وهؤلاء قد هداهم الله صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. الفريق الثاني: الذين تعلموا النافع ولم يعملوا به، وهؤلاء هم المغضوب عليهم من اليهود ومن نحا نحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفريق الثالث: الذين يعلمون بلا علم، وهؤلاء هم أهل الضلال من النصارى ومن نحا نحوهم. ويشمل هذه الفرق قوله تعالى في سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلواتنا: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} . قال الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وأما قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، فالمغضوب عليهم هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقرأ أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق هذه الصفات!!، فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو ربه دائما، مع أته لا حذر عليه منه، ولا يتصور أن فعله هذا هو ظن السوء بالله؟! " انتهى كلام الشيخ رحمه الله. وهو يبين لنا الحكمة في فريضة قراءة هذه السورة العظيمة سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الفاتحة في كل ركعة من صلاتنا، فرضها، ونفلها، لما تشمل عليه من الأسرار العظيمة، التي من جملتها هذا الدعاء العظيم: أن يوفقنا الله لسلوك طريق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذي هو النجاة في الدنيا والآخرة، وأن يجنبنا طريق الهالكين، الذين فرطوا بالعمل الصالح أو بالعلم النافع. ثم اعلم أيها القارئ الكريم أن العلم النافع إنما يستمد من الكتاب والسنة، تفهما وتدبراً، مع الاستعانة على ذلك بالمدرسين الناصحين وكتب التفسير وشرح الحديث وكتب الفقه وكتب النحو واللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، فإن هذه الكتب طريق لفهم الكتاب والسنة. فواجب عليك يا أخي المسلم ليكون عملك صحيحا أن تتعلم ما يستقيم به دينك، من صلاتك وصومك وحجك، وتتعلم أحكام زكاة مالك، وكذلك تتعلم من أحكام المعاملات ما تحتاج إليه، لتأخذ منها ما أباح الله لك، وتتجنب منها ما حرم الله عليك، ليكون كسبك حلالاً، وطعامك حلالاً، لتكون مجاب الدعوة، كل ذلك مما تمس حاجتك إلى تعلمه، وهو ميسور بإذن الله متى ما صحت عزيمتك وصلحت نيتك. فاحرص على قراءة الكتب النافعة، واتصل بالعلماء، لتسألهم عما أشكل عليك، وتتلقى عنهم أحكام دينك، وكذلك تعنى بحضور الندوات والمحاضرات الدينية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 التي تقام في المساجد وغيرها، وتستمع إلى البرامج الدينية من الإذاعة، وتقرأ المجلات الدينية والنشرات التي تعني بمسائل الدين، فإذا حرصت وتتبعت هذه الروافد الخيرية، نمت معلوماتك، واستنارت بصيرتك. ولا تنس يا أخي أن العلم ينمو ويزكو مع العمل، فإذا علمت، زادك علما، كما تقول الحكمة المأثورة: "من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم"، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . والعلم أحق ما تصرف فيه الأوقات، ويتنافس في نيله ذوو العقول، فبه تحيا القلوب وتزكو الأعمال. ولقد أثنى الله جل ذكره وتقدست أسماؤه على العلماء العاملين، من شأنهم في كتابه المبين. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ؛ فبين سبحانه وتعالى ميزة الذين أوتوا العلم المقرون الإيمان، ثم أخبر أنه خبير بما نعمله، ومطلع عليه؛ ليدلنا على أنه لابد من العلم والعمل معا، وأن يكون كل ذلك صادرًا عن الإيمان ومراقبة الله سبحانه. ونحن عملاً بواجب التعاون على البر والتقوى سنقدم لك بحول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الله من خلال هذا الكتاب بعض المعلومات من الرصيد الفقهي الذي استنبطه لنا علماءنا ودونوه في كتبهم، سنقدم لك ما تيسر من ذلك، لعله يكون دافعا لك على الاستفادة والاستزادة من العلم النافع. ونسأل الله أن يمدنا وإياك بالعلم النافع، ويوفقنا للعمل الصالح، ونسأله سبحانه أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 كتاب الطهارة باب في أحكام الطهارة والمياه إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الفارقة بين المسلم والكافر، وهي عمود الإسلام، وأول ما يحاسب عنه العبد، فإن صحت وقبلت؛ قبل سائر عمله، وإن ردت؛ رد سائر علمه. وقد ذكرت الصلاة في مواطن كثيرة من القرآن الكريم على صفات متنوعة؛ فتارة يأمر الله بإقامتها، وتارة يبين مزيتها، وتارة يبين ثوابها، وتارة يقرنها مع الصبر ويأمر بالاستعانة بهما على الشدائد. ومن ثم كانت قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؛ فهي حلية النبيين، وشعار الصالحين، وهي صلة بين العبد وبين رب العالمين، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر. ولما كانت هذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة المصلي من الحدث والنجس حسب القدرة على ذلك، وكانت مادة التطهر هي الماء أو ما يقوم مقامه من التيمم عند عدم الماء؛ صار الفقهاء رحمه الله يبدؤون بكتاب الطهارة؛ لأنها لما قدمت الصلاة بعد الشهادتين على غيرها من بقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أركان الإسلام؛ ناسب تقديم مقدماتها، ومنها الطهارة، فهي مفتاح الصلاة؛ كما في الحديث: "مفتاح الصلاة الطهور"، وذلك لأن الحدث يمنع الصلاة؛ فهو كالقفل يوضع على المحدث، فإذا توضأ؛ انحل القفل. فالطهارة أوكد شروط الصلاة، والشرط لا بد أن يقدم على المشروط. ومعنى الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية. ومعناها شرعا: ارتفاع الحدث وزوال النجس. وارتفاع الحدث يحل باستعمال الماء مع النية في جميع البدن إن كان حدثا أكبر، أو في الأعضاء الأربعة إن كان حدثا أصغر، أو استعمال ما ينوب عن الماء عند عدمه أو العجز عن استعماله وهو التراب على صفة مخصوصة، وسيأتي إن شاء الله بيان لصفة التطهر من الحدثين. وغرضنا الآن بيان صفة الماء الذي يحصل به التطهر والماء الذي لا يحصل به ذلك. قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} ، وقال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 والطهور هو الطاهر في ذاته المطهر لغيره، وهو الباقي على خلقته أي صفته التي حلق عليها، سواء كان نازلاً من السماء كالمطر وذوب الثلوج والبرد، أو جاريا في الأرض كماء الأنهار والعيون والآبار والبحار، أو كام مقطرًا. فهذا هو الذي يصح التطهر به من الحدث والنجاسة، فإن تغير بنجاسة؛ لم يجز التطهر به؛ من غير خلاف وإن تغير بشيء طاهر لم يغلب عليه؛ فالصحيح من قولي العلماء صحة التطهر به أيضا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات؛ كالإشنان، والصابون، والسدر، والخطمي، والتراب، والعجين ... وغير ذلك مما قد يغير الماء، مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمى، ووضع فيه ماء، فتغير به، مع بقاء اسم الماء؛ فهذا فيه قولان معروفان للعلماء". ثم ذكرها مع بيان وجه كل قول، ورجح القول بصحة التطهر به، وقال: "هو الصواب؛ لأن الله سبحانه تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} نكرة في سياق النفي، فيعم كل ما هو ماء، لا فرق في ذلك بين نوع ونوع" انتهى. فإذا عدم الماء، أو عجز عن استعماله مع وجوده؛ فإن الله قد جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بدله التراب، على صفة لاستعماله بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله في بابه. وهذا من لطف الله بعباده، ورفع الحرج عنهم، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} . قال ابن هبيرة: "وأجمعوا على أن الطهارة بالماء تجب على كل من لزمته الطهارة مع وجوده فإن عدمه؛ فبدله؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ، ولقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} انتهى. وهذا مما يدل على عظمة هذا الإسلام، الذي هو دين الطهارة والنزاهة الحسية والمعنوية، كما يدل ذلك على عظمة هذه الصلاة، حيث لم يصح الدخول فيها بدون الطهارتين: الطهارة المعنوية من الشرك، وذلك بالتوحيد وإخلاص العبادة لله، والطهارة الحسية من الحدث والنجاسة، وذلك يكون بالماء أو ما يقوم مقامه. واعلم أن الماء إذا كان باقيا على خلقته، لم تخالطه مادة أخرى؛ فهو طهور بالإجماع، وإن تغير أحد أوصافه الثلاثة ريح أو طعمه أو لونه بنجاسة؛ فهو نجس بالإجماع، لا يجوز استعماله، وإن تغير أحد أوصافه بمخالطة مادة طاهرة كأوراق الأشجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أو الصابون أو الإشنان والسدر أو غير ذلك من المواد الطاهرة، ولم يغلب ذلك المخالط عليه؛ فلبعض العلماء في ذلك تفاصيل وخلاف، والصحيح أنه طهور، يجوز التطهر به من الحدث، والتطهر به من النجس. فعلى هذا؛ يصح لنا أن نقول: إن الماء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: طهور يصح التطهر به، سواء كان باقيا على خلقته أو خالطته مادة طاهرة لم تغلب عيه ولم تسلبه اسمه. القسم الثاني: نجس لا يجوز استعماله؛ فلا يرفع الحدث، ولا يزيل النجاسة، وهو مما تغير بالنجاسة. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 باب في أحكام الآنية وثياب الكفار الآنية هي الأوعية التي يحفظ فيها الماء وغيره، سواء كانت من الحديد أو الخشب أو الجلود أو غير ذلك. والأصل فيها الإباحة، فيباح استعمال واتخاذ كل إناء طاهر، ما عدا نوعين، هما: 1" إناء الذهب والفضة، والإناء الذي فيه ذهب أو فضة، طلاء أو تمويها أو غير ذلك من أنواع جعل الذهب والفضة في الإناء، ما عدا اليسيرة من الفضة تجعل في الإناء للحاجة إلى إصلاحه. ودليل تحريم إناء الذهب والفضة قولهصلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة"، رواه الجماعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقوله صلى الله عليه وسلم: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"، متفق عليه، والنهي عن الشيء يتناوله خالصا أو مجزءًا، فيحرم الإناء المطلي أو المموه بالذهب أو الفضة أو الذي فيه شيء من الذهب والفضة، ما عدا الضبة اليسيرة من الفضة كما سبق؛ بدليل حديث أنس رضي الله عنه: "أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة"، رواه البخاري. قال النووي رحمه الله: "انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيها، وجميع أنواع الاستعمال في معنى الأكل والشرب بالإجماع". انتهى. وتحريم الاستعمال والاتخاذ يشمل الذكور والإناث؛ لعموم الأخبار، وعدم المخصص، وإنما أبيح التحي للنساء لحاجتهن إلى التزين للزوج. وتباح آنية الكفار التي يستعملونها ما لم تعلم نجاستها، فإن علمت نجاستها؛ فإنها تغسل وتستعمل بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 2" جلود الميتة يحرم استعمالها؛ إلا إذا دبغت؛ فقد اختلف العلماء في جواز استعمالها بعد الدبغ، والصحيح الجواز، وهو قول الجمهور؛ لورود الأحاديث الصحيحة بجواز استعماله بعد الدبغ، لأن نجاسته طارئه، فتزول بالدبغ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يطهره الماء والقرظ"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "دباغ الأديم طهوره". وتباح ثياب الكفار إذا لم تعلم نجاستها، لأن الأصل الطهارة؛ فلا تزول بالشك، ويباح ما نسجوه أو صبغوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون ما نسجه الكفار وصبغوه. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 باب فيما يحرم على المحدث مزاولته من الأعمال هناك بعض من الأعمال التي يحرم على المسلم إذا لم يكن على طهارة أن يزاولها لشرفها ومكانتها، وهذه الأعمال نبينها لك بأدلتها؛ لتكون منك على بال؛ فلا تقدم على واحد منها إلا بعد التهيؤ له بالطهارة المطلوبة. اعلم يا أخي أن هناك أشياء تحرم على المحدث، سواء كان حدثه أكبر أو أصغر، وهناك أشياء يختص تحريمها بمن محدث حدثا أكبر. فالأشياء التي تحرم على المحدث أي الحدثين: 1 مس المصحف الشريف؛ فلا يمسه المحدث بدون حائل؛ لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} ؛ أي: المتطهرون من الحدث جنابة أو غيرها، على القول بأن المراد بهم المطهرون من البشر، وهنالك من يرى أن المراد بهم الملائكة الكرام. وحتى لو فسرت الآية بأن المراد بهم الملائكة؛ فإن ذلك يتناول البشر بدلالة الإشارة، وكما وردفي الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أهل اليمن من حديث عمرو بن حزم؛ قوله: "لا يمس المصحف إلا طاهر"، رواه النسائي وغيره متصلاً. قال ابن عبد البر "إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول". قال شيخ إسلام عن منع مس المصحف لغير المتطهر: "هو مذهب الأئمة الأربعة". وقال ابن هبيرة في "الإفصاح": "أجمعوا "يعني: الأئمة الأربعة" أنه لا يجوز للمحدث مس المصحف" انتهى. ولا بأس أن يحمل غير المتطهر المصحف في غلاف أو كيس من غير أن يمسه، وكذلك لا بأس أن ينظر فيه ويتصفحه من غير مس. 2 ويحرم على المحدث الصلاة فرضا أو نفلاً، وهذا بإجماع أهل العلم، إذا استطاع الطهارة؛ لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} الآية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور"، رواه مسلم وغيره، وحديث: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ"؛ فلا يجوز له أن يصلي من غير طهارة مع القدرة عليها، ولا تصح صلاته، سواء كان جاهلا أو عالما، ناسيا أو عامداً، لكن العلم العامد إذا صلى من غير طهارة؛ يأثم ويعزر، وإن كان جاهلاً أو ناسيا؛ فإنه لا يأثم، لكن؛ لا تصح صلاته. 3 يحرم على المحدث الطواف بالبيت العتيق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة؛ إلا أن أباح فيه الكلام"، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم للطواف، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر، كل ذلك مما يدل على تحريم الطواف على المحدث حتى يتطهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ومما يدل على تحريمه على المحدث حدثا أكبر قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ؛ أي: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا ماري طريق، فمنعه من دخول المسجد للبقاء فيه يقتضي منعه من الطواف من باب أولى. وهذه الأعمال تحرم على المحدث سواء كان حدثه أكبر أو أصغر. وأما الأشياء التي تحرم على المحدث حدثا أكبر خاصة؛ فهي: 1 يحرم على المحدث حدثا أكبر قراءة القرآن؛ لحديث علي رضي الله عنه: "لا يحجبه" يعني: النبي صلى الله عليه وسلم "عن القرآن شيء، ليس الجنابة"، رواه الترمذي وغيره، ولفظ الترمذي: "يقرئنا مالم يكن جنبا"؛ فهذا يدل على تحريم قراءة القرآن على الجنب، وبمعناه الحائض والنفساء، ولكن رخص بعض العلماء كشيخ الإسلام للحائض أن تقرأ القرآن إذا خشيت نسيانه. ولا بأس أن يتكلم المحدث بما وافق القرآن إن لم يقصد القرآن بل على وجه الذكر؛ مثل: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 العالمين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه". 2 ويحرم على المحدث حدثا أكبر من جنابه أو حيض أو نفاس اللبث في المسجد بغير وضوء؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ؛ أي: لا تدخلوا المسجد للبقاء فيه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لحائض ولاجنب"، رواه أبو داود من حديث عائشة، وصححه ابن خزيمة. فإذا توضأ من عليه حدث أكبر؛ جاز له اللبث في المسجد؛ لقول عطاء: "رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة"، الحكمة من هذا الوضوء الجنابة. وكذلك يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمر بالمسجد لمجرد العبور منه من غير جلوس فيه؛ لقوله تعالى: {إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ} ؛ أي: متجاوزين فيه للخروج منه، والاستثناء من النهي إباحة، فيكون ذلك مخصصا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وكذلك مصلى العيد لا يلبث فيه من عليه حدث أكبر بغير وضوء، ويجوز له المرور منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليعتزل الحيض المصلى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 باب في آداب قضاء الحاجة اعلم وفقني الله وإياك وجميع المسلمين أن ديننا كامل متكامل، ما ترك شيئا مما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم؛ إلا بينه، ومن ذلك آداب قضاء الحاجة؛ ليتميز الإنسان الذي كرمه الله عن الحيوان بما كرمه الله به؛ فديننا دين النظافة ودين الطهر؛ فهناك آداب شرعية تفعل عند دخول الخلاء وحال قضاء الحاجة. فإذ أراد المسلم دخول الخلاء وهو المحل المعد لقضاء الحاجة؛ فإنه يستحب له أن يقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث. ويقدم رجله اليسرى حال الدخول، وعند الخروج يقدم رجله اليمنى، ويقول: غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. وذلك لأن اليمنى تستعمل فيما من شأنه التكريم والتجميل، واليسرى تستعمل فيما من شأنه إزالة الأذى ونحوه. وإذا أراد أن يقضي حاجته في فضاء أي: في غير معد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 لقضاء الحاجة؛ فإذا يستحب له أن يبعد عن الناس؛ بحيث يكون في مكان خال، ويستتر عن الأنظار بحائط أو شجرة أو غير ذلك، ويحرم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها حال قضاء الحاجة، بل ينحرف عنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، وعليه أن يتحرز من رشاش البول أن يصيب بدنه أو ثوبه، فيرتاد لبوله مكانا رخواً، حتى لا يتطاير عليه شيء منه. ولا يجوز له أن يمس فرجه بيمينه، وكذلك لا يجوز له أن يقضي حاجته في طريق الناس، أو في ظلهم، أو موارد مياههم؛ لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لما فيه من الإضرار بالناس وأذيتهم. ولا يدخل موضع الخلاء بشيء فيه ذكر الله عز وجل أو فيه قرآن، فإن خاف على ما معه مما فيه ذكر الله؛ جاز له الدخول به، ويغطيه. ولا ينبغي له أن يتكلم حال قضاء الحاجة؛ فقد ورد في الحديث أن الله يمقت على ذلك، ويحرم عليه قرآن. فإذا فرغ من قضاء الحاجة؛ فإنه ينظف المخرج بالاستنجاء بالماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أو الاستجمار بالأحجار أو ما يقوم مقامها، وإن جمع بينهما؛ فهو أفضل، وإن اقتصر على أحدهما؛ كفى. والاستجمار يكون بالأحجار أو ما يقوم مقامها مه الورق الخشن والخرق ونحوها مما ينقى المخرج وينشفه، ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر إذا أراد الزيادة، ولا يجوز الاستجمار بالعظام ورجيع الدواب أي: روثها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وعليه أن يزيل أثر الخارج وينشفه؛ لئلا يبقى شيء من النجاسة على جسده، ولئلا تنتقل النجاسة إلى مكان آخر من جسده أو ثيابه. قال بعض الفقهاء: إن الاستنجمار شرط من شروط صحة الوضوء، لا بد أن يسبقه، فلو توضأ قبله؛ لم يصح وضوؤه؛ لحديث المقداد المتفق عليه: "يغسل ذكره، ثم يتوضأ". قال النووي: "والسنة أن يستنجي قبل الوضوء؛ ليخرج من الخلاف، ويأمن انتقاض طهره". أيها المسلم! احرص على التنزه من البول؛ فإن عدم التنزه منه من موجبات عذاب القبر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه"، رواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الدارقطني، قال الحافظ: "صحيح الإسناد، وله شواهد، وأصله في الصحيحين". أيها المسلم! إن كمال الطهارة يسهل القيام بالعبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها. روى الإمام أحمد رحمه الله عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فيها، فأوهم، فلما انصرف؛ قال: "إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواما منكم يصلون منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا؛ فليحسن الوضوء". وقد أثنى الله على أهل مسجد قباء بقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} ، ولما سئلوا عن صفة هذا التطهر؛ قالوا: "إنا نتبع الحجارة الماء"، رواه البزار. وهنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن بعض العوام يظن أن الاستنجاء من الوضوء، فإذا أراد يتوضأ؛ بدأ بالاستنجاء، ولو كان قد استنجى سابقا بعد قضاء الحاجة، وهذا خطأ؛ لأن الاستنجاء ليس من الوضوء، وإنما هو من شروطه؛ كما سبق، ومحله بعد الفراغ من قضاء الحاجة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ولا داعي لتكراره من غير وجود موجبه وهو قضاء الحاجة وتلوث المخرج بالنجاسة. أيها المسلم! هذا ديننا دين الطهارة والنظافة والنزاهة، أتى بأحسن الآداب وأكرم الأخلاق، استوعب كل ما يحتاجه المسلم، وكل ما يصلحه، ولم يغفل شيئا فيه مصلحة لنا؛ فلله الحمد والمنة، ونسأله الثبات على هذا الدين، والتبصر في أحكامه، والعمل بشرائعه، مع الإخلاص لله في ذلك، حتى يكون والتبصر في أحكامه، والعمل بشرائعه، مع الإخلاص لله في ذلك، حتى يكون عملنا صحيحا مقبولاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 باب في السواك وخصال الفطرة روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"، رواه أحمد وغيره. وثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر". وفي "الصحيحين" أيضا عن ابن رضي الله عنهما مرفوعا: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 من هذا الأحاديث وما جاء بمعناها أخذ الفقهاء الأحكام التالية: مشروعية السواك، وهو استعمال عود أو نحوه في الأسنان واللثة، ليذهب ما علق بهما من صفرة ورائحة. وقد ورد أنه من سنن المرسلين؛ فأول من استاك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد بين الرسولصلى الله عليه وسلم أنه مطهرة للفم؛ أي: منظف له مما يستكره، وأنه مرضاة للرب؛ أي: يرضي الرب تبارك وتعالى، وقد ورد في بيانه والحث عليه أكثر من مئة حديث، مما يدل على أنه سنه مؤكدة، حث الشارع عليه، ورغب فيه، وله فوائد عظيمة، من أعمها وأجمعها ما أشار إليه في هذا الحديث: أنه مطهر للفم مرضاة للرب. ويكون التسوك بعود لين من أراك أو زيتون أو عرجون أو غيرها مما لا يتفتت ولا يجرح الفم. ويسن السواك في جميع الأوقات، حتى للصائم في جميع اليوم، على الصحيح، ويتأكد في أوقات مخصوصة؛ فيتأكد عند الوضوء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بالسواك عند كل وضوء"؛ فالحديث يدل على تأكد استحباب السواك عند الوضوء، ويكون ذلك حال المضمضة؛ لأن ذلك أبلغ في الإنقاء وتنظيف الفم، ويتأكد السواك أيضا عند الصلاة فرضا أو نفلاً؛ لأننا مأمورون عند التقرب إلى الله أن نكون في حال كمال ونظافة؛ إظهاراً لشرف العبادة، ويتأكد السواك أيضا عند الانتباه من نوم الليل أو نوم النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل؛ يشوص فاه بالسواك، والشوص: الدلك، وذلك لأن النوم تتغير معه رائحة الفم؛ لتصاعد أبخرة المعدة، والسواك في هذه الحالة ينظف الفم من آثارها، ويتأكد السواك أيضا عند تغير رائحة الفم بأكل أو غيره، ويتأكد أيضا عند قراءة قرآن؛ لتنظيف الفم وتطيبه لتلاوة كلام الله عز وجل وصفة التسوك أن يمر المسواك على لثته وأسنانه؛ فيبتدئ من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر، ويمسك المسواك بيده اليسرى. ومن المزايا التي جاء بها ديننا الحنيف خصال الفطرة التي مر ذكرها في الحديث، وسميت خصال الفطرة؛ لأن فاعلها يتصف بالفطرة التي فطر الله عليها العباد، وحثهم عليها، واستحبها لهم؛ ليكونوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أكمل الصفات وأشرفها، وليكونوا على أجل هيئة وأحسن خلقة، وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع، وهذه الخصال هي: 1 الاستحداد: وهو حلق العانة، وهي الشعر النابت حول الفرج، سمي استحدادًا؛ لاستعمال الحديدة فيه، وهي الموس، وفي إزالته تجميل ونظافة؛ فيزيله بما شاء من حلق أو غيره. 2 الختان: وهو إزالة الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تبرز الحشفة، ويكون زمن الصغر؛ لأنه أسرع برأً، ولينشأ الصغير على أكمل الأحوال. ومن الحكمة في الختان تطهير الذكر من النجاسة المتحقنة في القلفة وغير ذلك من الفوائد. 3 قص الشارب وإخفاؤه: وهو المبالغة في قصة؛ لما في ذلك من التجميل والنظافة ومخالفة الكفار. وقد وردت الأحاديث في الحث على قصه وإخفائه وإعفاء اللحية وإرسالها وإكرامها؛ لما في بقاء اللحية من الجمال ومظهر الجولة، وقد عكس كثير من الناس الأمر؛ فصاروا يوفرون شواربهم ويحلقون لحاهم أو يقصونها أو يحاصرونها في نطاق ضيق؛ إمعانا في المخالفة للهدي النبوي، وتقليدًا لأعداء الله ورسوله، ونزولاً عن سمات الرجولة والشهامة إلى سمات النساء والسفلة، حتى صدق عليهم قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 يُقضَى على المَرءِ في أيّامِ مِحنَتِه ... حتى يَرَى حَسنا ما لَيس بالحَسنِ وقول الآخر: ولا عَجَبُ أنَّ النساءَ تَرَجَّلت ... ولكِنَّ تَأنيثَ الرِّجالِ عَجيبُ 4 ومن خصال الفطرة: تقليم الأظافر، وهو قطعها؛ بحيث لا تترك تطول؛ لما في ذلك من التجميل وإزالة الوسخ المتراكم تحتها، والبعد عن مشابهة السباع البهيمية، وقد خالف هذه الفطرة النبوية طوائف من الشباب المتخنفس والنساء الهمجيات؛ فصاروا يطيلون أظافرهم؛ مخالفة للهدي النبوي، وإمعانا في التقليد الأعمى. 5 ومن خصال الفطرة: نتف الإبط أي: إزالة الشعر النابت في الإبط، فيسن إزالة هذا الشعر بالنتف أو الحلق أو غير ذلك؛ لما في إزالة هذا الشعر من لنظافة وقطع الرائحة الكريهة التي تتضاعف مع وجود هذا الشعر. أيها المسلم! هكذا جاء ديننا بتشريع هذه الخصال؛ لما فيها من التجمل والتنظف؛ ليكون المسلم على أحسن حال وأجمل مظهر؛ مخالفا بذلك هدى المشركين، ولما في بعضها من تمييز بين الرجال والنساء؛ ليبقى لكل منهما شخصيته المناسبة لوظيفته في الحياة، لكن؛ أبى كثير من المخدوعين، الذين يظلمون أنفسهم، فأبوا إلا مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستيراد التقاليد التي لا تتناسب مع ديننا وشخصيتنا الإسلامية، واتخذوا من سفلة الغرب أو الشرق قدوة لهم في شخصيتهم؛ فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 خير، بل استبدلوا الخبيث بالطيب، والكمال بالنقص؛ فجنوا على أنفسهم وعلى مجتمعهم، وجاؤوا بسنة سيئة، باؤوا بإثمها وإثم من عمل بها تبعا لهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم وفق المسلمين لإصلاح أعمالهم وأقوالهم، وارزقهم الإخلاص لوجهك الكريم، والتمسك بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 باب في أحكام الوضوء يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الآية؛ فهذه الآية الكريمة أوجبت الوضوء للصلاة، وبينت الأعضاء التي يجب غسلها أو مسحها في الوضوء، وحددت مواقع الوضوء منها، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة الوضوء بقوله بيانا كافيا. فالشروط ثمانية هي: الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية؛ فلا يصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الوضوء من كافر، ولا من مجنون ولا من صغير لا يميزه، ولا ممن لم ينو الوضوء؛ بأن نوى تبردًا، أو عسل أعضاءه ليزيل عنها نجاسة أو وسخا. ويشترط للوضوء أيضا أن يكون الماء طهورًا كما سبق، فإن كان نجسا؛ لم يجزئه. ويشترط للوضوء أيضا أن يكون الماء مباحا، فإن كان مغصوبا أو تحصل عليه بغير طريق شرعي؛ لم يصح الوضوء به. وكذلك يشترط للوضوء أيضا إزالة ما يمنع وصول الماء إلى الجلد؛ فلا بد للمتوضئ أن يزيل ما على أعضاء الوضوء من طين أو عجين أو شمع أو وسخ متراكم أو أصباغ سميكة؛ ليجري الماء على جلد العضو مباشرة من غير حائل. وأما فروض الوضوء وهي أعضاؤه؛ فهي ستة: أحدها: غسل الوجه بكامله، ومنه المضمضة والاستنشاق، فمن عسل وجهه وترك المضمضة والاستنشاق أو أحدهما؛ لم يصح وضوءه؛ لأن الفم والأنف من الوجه، والله تعالى يقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ؛ فأمر بغسل الوجه كله، فمن ترك شيئا منه؛ لم يكن ممتثلاً أمر الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق. الثاني: عسل اليدين مع المرفقين؛ لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ؛ أي: مع المرافق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مرفقيه، وفي حديث آخر: "غسل يديه حتى أشرع في العضد"، مما يدل على دخول المرفقين في المغسول. والثالث: مسح الرأس كله، ومنه الأذنان؛ لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "الأذنان من الرأس"، رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما؛ فلا يجزء مسح بعض الرأس. والرابع: غسل الرجلين مع الكعبين؛ لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، و "إلى" بمعنى "مع"، وذلك للأحاديث الواردة في صفة الوضوء؛ فإنها تدل على دخول الكعبين في المغسول. والخامس: الترتيب؛ بأن يغسل الوجه أولاً، ثم اليدين، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل رجليه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، والنبي صلى الله عليه وسلم رتب الوضوء على هذه الكيفية، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة به"، رواه أبو داود وغيره. السادس: الموالاة، وهي أن يكون غسل الأعضاء المذكورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 متواليا، بحيث لا يفصل بين غسل عضو وغسل العضو الذي قبله، بل يتابع غسل الأعضاء الواحد تلو الآخر حسب الإمكان. هذه فروض الوضوء التي لا بد منها فيه على وفق ما ذكره الله في كتابه. وقد اختلف العلماء في حكم التسمية في ابتداء الوضوء؛ هل هي واجبة أو سنة؟ فهي عند الجميع مشروعة، ولا ينبغي تركها، وصفتها أن يقول: بسم الله وإن زاد: الرحمن الرحيم؛ فلا بأس. والحكمة والله أعلم في اختصاص هذه الأعضاء الأربعة بالوضوء؛ لأنها أسرع ما يتحرك من البدن؛ لاكتساب الذنوب، فكان تطهير ظاهرها تنبيه على تطهير باطنها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم كلما غسل عضوًا منها؛ حط عنه كل خطيئة أصابها بذلك العضو، وأنها تخرج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ز ثم أرشد صلى الله عليه وسلم بعد غسل هذه الأعضاء إلى تجديد الإيمان بالشهادتين؛ إشارة إلى الجمع بين الطهارتين الحسية والمعنوية. فالحسية تكون بالماء على الصفة التي بينها الله في كتابه مع غسل هذه الأعضاء، والمعنوية تكون بالشهادتين اللتين تطهران من الشرك. وقد قال تعالى في آخر آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وهكذا أيها المسلم شرع الله لك الوضوء؛ ليطهرك به من خطاياك، وليتم به نعمته عليك. وتأمل افتتاح آية الوضوء بهذا النداء الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ؛ فقد وجه سبحانه الخطاب إلى من يتصف بالإيمان؛ لأنه هو الذي يصغى لأوامر الله، وينتفع بها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". وما زاد عما ذكر في صفة الوضوء؛ فهو مستحب: من فعله؛ فله زيادة أجر، ومن تركه؛ فلا حرج عليه، ومن سمى الفقهاء تلك الأفعال: سنن الوضوء؛ أي: مستحباته؛ فسنن الوضوء هي: أولاً: السواك، وتقدم بيان فضيلته وكيفيته، ومحله عند المضمضة؛ ليحصل به والمضمضة تنظيف الفم لاستقبال العبادة والتهيؤ لتلاوة القرآن ومناجاة الله عز وجل. ثانياً: غسل الكفين ثلاثا في أول الوضوء قبل غسل الوجه؛ لورود الأحاديث به، ولأن اليدين آله نقل الماء إلى الأعضاء؛ ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء. ثالثا: البداءة بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه؛ لورود البداءة بهما في الأحاديث، ويبالغ فيها إن كان غير صائم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومعنى المبالغة في المضمضة: إدارة الماء في جميع فمه، وفي الاستنشاق: جذب الماء إلى أقصى أنقه. رابعا: ومن سنن الوضوء تخليل اللحية الكثيفة بالماء حتى يبلغ داخلها، وتخليل أصابع اليدين والرجلين. خامسا: التيامن، وهو البدء باليمنى من اليدين والرجلين قبل اليسرى. سادسا: الزيادة على الغسلة الواحدة إلى ثلاث غسلات في عسل الوجه واليدين والرجلين. هذه شروط الوضوء وفروضه وسننه، يجدر بك أن تتعلمها وتحرص على تطبيقها في كل وضوء، ليكون وضوؤك مستكملاً للصفة المشروعة، لتحوز على الثواب. ونسأل الله لنا ولك المزيد من العلم النافع والعمل الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 باب في بيان صفة الضوء بعد أن عرفت شرائط الوضوء وفرائضه وسننه على ما سبق بيانه، كأنك تطلعت إلى بيان صفة الوضوء التي تطبق فيها تلك الأحكام، وهي صفة الوضوء الكامل المشتمل على الفروض والسنن المستوحاة من نصوص الشرع؛ لتعمل على تطبيقها إن شاء الله؛ فصفة الوضوء: أن ينوي الوضوء لما يشرع له الوضوء من صلاة ونحوها. ثم يقول: بسم الله. ثم يغسل كفيه ثلاث مرات. ثم يتمضمض ثلاث مرات، ويستنشق ثلاث مرات، وينثر الماء من أنفه بيساره. ويغسل وجهه ثلاث مرات، وحد الوجه طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 واللحيان عظمان في أسفل الوجه: أحدهما من جهة اليمين، والثاني من جهة اليسار، والذقن مجمعهما، وشعر اللحية من الوجه؛ فيجب غسله، ولو طال، فإن كانت اللحية خفيفة الشعر؛ وجب غسل باطنها وظاهرا، وإن كانت كثيفة "أي: ساترة للجلد"؛ وجب غسل ظاهرا، ويستحب تخليل باطنها كما تقدم، وحد الوجه عرضا من الأذن إلى الأذن، والأذنان من الرأس؛ فيمسحان مع كما تقدم. ثم يغسل يديه مع المرفقين ثلاث مرات، وحد اليد هنا: من رؤوس الأصابع مع الأظافر إلى أول العضد، ولا بد أن يزيل ما علق باليدين قبل الغسل من عجين وطين وصبغ كثيف على الأظافر حتى يتبلغ بماء الوضوء. ثم يمسح كل رأسه وأذنيه مرة واحدة بماء جدير غير البلل الباقي من غسل يديه، وصفة مسح الرأس أن يضع يديه مبلولتين بالماء على مقدم رأسه، ويمرهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يدخل أصبعيه السبابتين في خرقي أذنيه، ويمسح ظاهرهما بإبهاميه. ثم يغسل رجليه ثلاث مرات مع الكعبين، والكعبان: هما العظمان الناتئان في أسفل الساق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومن كان مقطوع اليد أو الرجل؛ فإنه يغسل ما بقى من الذراع أو الرجل، فإن قطع من مفصل المرفق؛ غسل راس العضد، وإن قطع من الكعب؛ غسل طرف الساق؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بامر؛ فأتوا منه ما استطعتم"، فإذا غسل بقية المفروض؛ فقد أتى بما استطاع. ثم بعد الفراغ من الوضوء على الصفة التي ذكرنا، يرفع بصره إلى السماء، ويقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأدعية في هذه الحالة، ومن ذلك: "أشهد لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، واستغفرك وأتوب إليك". والمناسبة في الإتيان بهذا الذكر والدعاء بعد الوضوء: أنه لما كان الوضوء طهارة للظاهر؛ ناسب ذكر طهارة الباطن؛ بالتوحيد والتوبة، وهما أعظم المطهرات، فإذا اجتمع له الطهوران؛ طهور الظاهر بالوضوء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وطهور الباطن بالتوحيد والتوبة؛ صلح للدخول على الله، والوقوف بين يديه، ومناجاته. ولا بأس أن ينشف المتوضئ أعضاءه من ماء الوضوء بمسحه بخرقة ونحوها. ثم اعلم أيها المسلم: أنه يجب إسباغ الوضوء، وهو إتمامه باستكمال الأعضاء وتعميم كل عضو بالماء، ولا يترك منه شيئا لم يصبه الماء: فقد رأي النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ترك موضع ظفر على قدمه؛ فقال له: "ارجع؛ فأحسن وضوءك". وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه رأى رجلاً يصلي وفي بعض قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء؛ فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" أو تبقى فيهما بقية لا يعمها الماء؛ فيعذبان بالنار بسبب ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: "إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله؛ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم يمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين". ثم اعلم أيها المسلم: أنه ليس معنى إسباغ الوضوء كثرة صب الماء، بل معناه تعميم العضو بجريان الماء عليه كله، وأما كثرة صب الماء؛ فهذا إسراف منهي عنه، بل قد يكثر صب الماء ولا يتطهر الطهارة الواجبة، وإذا حصل إسباغ الوضوء مع تقليل الماء؛ فهذا هو المشروع: فقد ثبت في "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. ونهى صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الماء؛ فقد مر صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ؛ فقال: "ما هذا السرف؟ "، فقال: أفي الوضوء إسراف؟! فقال: "نعم، ولو كنت على نهر جار" رواه أحمد وابن ماجه، وله شواهد، والسرف ضد القصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 واخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في أمته من يتعدى في الطهور، وقال: "إن للوضوء شيطانا يقال له: الولهان؛ فاتقوا وسواس الماء". والسرف في صب الماء مع أنه يضيع الماء من غير فائدة يوقع في مفاسد أخرى: منها: أنه قد يعتمد على كثرة الماء؛ فلا يتعاهد وصول الماء إلى أعضائه؛ فربما تبقى بقية لم يصبها الماء، ولا يدري عنها، فيبقى وضوؤه ناقصا، فيصلي بغير طهارة. ومنها: الخوف عليه من الغلو في العبادة؛ فإن الوضوء عبادة، والعبادة إذا دخلها الغلو؛ فسدت. ومنها: أنه قد يحدث له الوسواس في الطهارة بسبب الإسراف في صب الماء. والخير كله في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. فعليك أيها المسلم بالحرص على يكون وضوؤك وجميع عباداتك على الوجه المشروع؛ من غير إفراط ولا تفريط؛ فكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والمتساهل في العبادة ينتقصها، والغالي فيها يزيد عليها ما ليس منها، والمستن فيها بسنة الرسولصلى الله عليه وسلم هو الذي يوفيها حقها. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا؛ فنضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 باب في أحكام المسح على الخفين وغيرهما من الحوائل إن ديننا دين يسر لا دين مشقة وحرج، يضع لكل حالة ما يناسبها من الأحكام مما به تتحقق المصلحة وتنتفي المشقة، ومن ذلك ما شرعه الله في حالة الوضوء، إذا كان على شيء من أعضاء المتوضئ حائل يشق نزعه ويحتاج إلى بقائه: إما لوقاية الرجلين كالخفين ونحوهما، أو لوقاية الرأس كالعمامة، وإما لوقاية جرح ونحوه كالجبيرة ونحوها؛ فإن الشارع رخص للمتوضئ أن يمسح على هذه الحوائل، ويكتفي بذلك عن نزعها وغسل ما تحتها؛ تخفيفا منه سبحانه تعالى على عباده، ودفعا للحرج عنهم. فأما مسح الخفين أو ما يقوم مقامهما من الجوربين والاكتفاء به عن غسل الرجلين؛ فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة في مسحه صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، وأمره بذلك، وترخيصه فيه. قال الحسن: "حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 على الخفين". وقال النووي: "روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة". وقال الإمام أحمد: "ليس في نفسي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ". وقال ابن المبارك وغيره: "ليس في المسح على الخفين بن الصحابة اختلاف، هو جائز". ونقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جوازه، واتفق عليه أهل السنة والجماعة؛ بخلاف المبتدعة الذين لا يرون جوازه. وحكم المسح على الخفين: أنه رخصة، فعله أفضل من نزع الخفين وغسل الرجلين؛ أخذاً برخصة الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلف ضد حالة التي عليه قدماء، بل إن كانتا في الخفين؛ مسح على الخفين، وغن كانتا مكشوفتين؛ غسل القدمين؛ فلا يشرع لبس الخف ليمسح عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ومدة المسح على الخفين بالنسبة للمقيم ومن سفره لا يبيح له القصر يوم وليلة، وبالنسبة لمسافر سفرًا يبيح له القصر ثلاثة أيام بلياليها؛ لما رواه مسلم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة". وابتداء المدة في الحالتين يكون من الحدث بعد اللبس؛ لأن الحدث هو الموجب للوضوء، ولأن جواز المسح يبتدئ من الحدث، فيكون ابتداء المدة من أول جواز المسح، ومن العلماء من يرى أن ابتداء المدة يكون من المسح بعد الحدث. شروط المسح على الخفين ونحوهما: 1 يشترط للمسح على الخفين وما يقوم مقامها من الجوارب ونحوها أن يكون الإنسان حال لبسهما على طهارة من الحدث؛ لما في الصحيحين وغيرهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد نزع خفيه وهو يتوضأ: "دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين"، وحديث: "أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلنا هما على طهر"، وهذا واضح الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس للخفين، فلو كنا حال لبسهما محدثا؛ لم يجز المسح عليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 2 ويشترط أن يكون الخف ونحوه مباحا، فإن كان مغصوبا أو حريراً بالنسبة للرجل؛ لم يجز المسح عليه؛ لأن المحرم لا تستباح به الرخصة. 3 ويشترط أن يكون الخف ونحوه ساتراً للرجل؛ فلا يمسح عليه إذا لم يكن ضافيا مغطيا لما يجب غسله؛ بأن كان نازلاً عن الكعب أو كان ضافيا لكنه لا يستر الرجل؛ لصفائه أو خفته؛ كجورب غير صفيق؛ فلا يمسح على ذلك كله؛ لعدم ستره. ويمسح على ما تقوم مقام الخفين؛ فيجوز المسح على الجورب الصفيق الذي يستر الرجل من صوف أو غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين، رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي، ويستمر المسح عليه إلى تمام المدة؛ دون ما يلبس فوقه من خف أو نعل ونحوه، ولا تأثير لتكرار خلعه ولبسه إذا كان قد بدأ المسح على الجورب. ويجوز المسح على العمامة بشرطين: أحدهما: تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه من الرأس. الشرط الثاني: أن تكون العمامة محنكة، وهي التي يدار منها تحت الحنك دور فاكثر، أو تكون ذات ذؤابة، وهي التي يرخى طرفها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الخلف؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة بأحاديث أخرجها غير واحد من الأئمة، وقال عمر: "من لم يطهره المسح على العمامة؛ فلا طهره الله". وإنما يجوز المسح على الخفين والعمامة في الطهارة من الحدث الأصغر، وأما الحدث الأكبر؛ فلا يمسح على شيء من ذلك فيه، بل يجب غسل ما تحتهما. ويمسح على الجبيرة، وهي أعواد ونحوها تربط على الكسر، ويمسح على الضماد الذي يكون على الجرح، وكذلك يمسح على اللصوق الذي يجعل على القروح، كل هذه الأشياء يمسح عليها؛ بشرط أن تكون على قدر الحاجة؛ بحيث تكون على الكسر أو الجرح وما قرب منه مما لا بد منن وضعها عليه لتؤدي مهمتها، فإن تجاوزت قدر الحاجة؛ لزمه نزع ما زاد عن الحاجة. ويجوز المسح على الجبيرة ونحوها في الحدث الأصغر والأكبر، وليس للمسح عليها وقت محدد، بل يمسح عليها إلى نزعها أو برء ما تحتها؛ لأن مسحها لأجل الضرورة إليها، فيقتدر بقدر الضرورة. والدليل على مسح الجبيرة حديث جابر رضي الله عنه قال: "خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخبر بذلك، فقال "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؛ فإنما شفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها"، رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه ابن السكن. محل المسح من هذه الحوائل: يمسح ظاهر الخف والجورب، ويمسح أكثر العمامة، ويختص ذلك بدوائرها، ويمسح على جميع الجبيرة. وصفة المسح على الخفين أن يضع أصابع يديه مبلولتين بالماء على أصابع رجليه ثم يمرهما إلى ساقه، يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى، والرجل اليسرى باليد اليسرى، ويفرج أصابعه إذا مسح، ولا يكرر المسح. وفقنا الله جميعا للعلم النافع والعمل الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 باب في بيان نواقض الوضوء عرفت مما سبق كيف يتم الوضوء بشروطه وفروضه وسننه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم فكنت بحاجة إلى معرفة ما يفسد هذا الوضوء وينقضه؛ لئلا تستمر على وضوء قد بطل مفعوله، فتؤدي به عبادة لا تصح منك. فاعلم أيها المسلم: أن للوضوء مفسدات لا يبقى مع واحد منها له تأثير، فيحتاج إلى استئنافه من جديد عند إرادته مزاولة عمل من الأعمال التي يشرع لها الوضوء، وهذه المفسدات تسمى نواقض وتسمى مبطلات، والمعنى واحد، وهذه المفسدات أو النواقض أو المبطلات أمور عينها الشارع، وهي علل تؤثر في إخراج الوضوء عما هو المطلوب منه، وهي إما أحداث تنقض الوضوء بنفسها كالبول والغائط وسائر الخارج من السبيلين، وغما أسباب للأحداث؛ بحث إذا وقعت؛ تكون مظنة لحصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الأحداث؛ كزوال العقل، أو تغطيته بالنوم والإغماء والجنون؛ فإن زائل العقل لا يحس بما يحصل منه، فأقيمت المظنة مقام الحدث. وإليك بيان ذلك بالتفصيل: 1 الخارج من سبيل؛ أي: من مخرج البول والغائط والخارج من السبيل إما أن يكون بولاً أو منيا أو مذيا أو دم استحاضة أو غائطا أو ريحا. فإن كان الخارج بولاً أو غائطا؛ فهو ناقض للوضوء بالنص والإجماع، قال تعالى في موجبات الوضوء: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِط} . وإن كان منيا أو مذيا؛ فهو ينقض الوضوء بدلالة الأحاديث الصحيحة، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر وغيره. وكذا ينقض خروج دم الاستحاضة، وهو دم فساد، لا دم حيض؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش؛ أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فتوضئي وصلي؛ فإنما هو دم عرق"، رواه أبو داود والدارقطني، وقال: "إسناده كلهم ثقات". وكذا ينقص الوضوء خروج الريح بدلالة الأحاديث الصحيحة وبالإجماع، قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وقال صلى الله عليه وسلم فيمن شك هل خرج منه ريح أولا: "فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". وأما الخارج من البدن من غير السبيلين كالدم والقيء والرعاف؛ فموضع خلاف بين أهل العلم؛ هل ينقض الوضوء أولا ينقضه؟ على قولين، والراجح أنه لا ينقض، لكن خروجا من الخلاف؛ لكان أحسن. 2 من النواقض زوال العقل أو تغطيته، وزوال العقل يكون بالجنون ونحوه، وتغطيته تكون بالنوم أو الإغماء ونحوهما، فمن زال عقله أو غطي بنوم ونحوه؛ انتقض وضؤه؛ لأن ذلك مظنة خروج الحدث، وهو لا يحسن به؛ إلا يسير النوم؛ فإنه لا ينقض الوضوء؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كان يصيبهم النعاس وهم ينتظرون الصلاة، وإنما ينقضه النوم المستغرق؛ جمعا بين الأدلة. 3 من نواقض الوضوء أكل لحم الإبل، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لصحة الحديث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصراحتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قال الإمام أحمد رحمه الله: "فيه حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأما أكل اللحم من غير الإبل؛ فلا ينقض الوضوء. وهناك أشياء قد اختلف العلماء فيها؛ هل تنقض الوضوء أو لا؟: وهي: مس الذكر، ومس المرأة بشهوة، وتغسيل الميت، والردة عن الإسلام، فمن العلماء من قال: لأن كل واحد من هذه الأشياء ينقض الوضوء، ومنهم من قال: لا ينقض، والمسألة محل نظر واجتهاد، لكن لو توضأ من هذه الأشياء خروجا من الخلاف؛ لكان أحسن. هذا، وقد بقيت مسألة مهمة تتعلق بهذا الموضوع، وهي: من تيقن الطهارة، شك في حصول ناقض من نواقضها؛ ماذا يفعل؟. لقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؛ فلا يخرج من المسجد، حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا". فدل هذا الحديث الشريف وما جاء بمعناه على أن المسلم إذا تيقن الطهارة وشك في انتقاضها؛ أنه يبقى على الطهارة؛ لأنها الأصل، ولأنها متيقنة، وحصول الناقض مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وهذه قاعدة عظيمة عامة في جميع الأشياء؛ أنها تبقى على أصولها حتى يتيقن خلافها، وكذلك العكس، فإذا يتقن الحدث وشك في الطهارة؛ فإنه يتوضأ؛ لأن الأصل بقاء الحدث؛ فلا يرفع بالشك. أخي المسلم، عليك بالمحافظة على الطهارة للصلاة والاهتمام بها، لأنها لا تصح صلاة بدون طهور، كما يجب عليك أن تحذر من الوسواس وتسلط الشيطان عليك؛ بحيث يخيل إليك انتقاض طهارتك ويلبس عليك؛ فاستعذ بالله من شره، ولا تلتفت إلى وساوسه، واسأل أهل العلم عما أشكل عليك من أمور الطهارة؛ لتكون على بصيرة من أمرك، واهتم أيضا بطهارة ثيابك من النجاسة؛ لتكون صلاتك صحيحة وعبادتك مستقيمة؛ فإن الله سبحانه وتعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . وفقنا الله جميعا للعلم النافع والعمل الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 باب في أحكام الغسل عرفت مما سبق أحكام الطهارة من الحدث الأصغر ونواقضها؛ فكنت بحاجة إلى أن تعرف أحكام الطهارة من الحدث الأكبر؛ جنابة كان أو حيضا أو نفاسا، وهذه الطهارة تسمى بالغسل بضم الغين، وهو استعمال الماء في جميع البدن على صفة مخصوصة يأتي بيانها. والدليل على وجوبه: قول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . وقد ذكروا أن الغسل من الجنابة كان معمولاً به في الجاهلية، وهو من بقايا دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيهم. وموجبات الغسل ستة أشياء، إذا حصل واحد منها؛ وجب على المسلم الاغتسال: أحدها: خروج المني من مخرجه من الذكر أو الأنثى، ولا يخلو: إما أن يخرج في حال اليقظة، أو حال النوم، فإن خرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 في حال اليقظة، أو حال النوم، فإن خرج في حال اليقظة؛ اشترط وجود اللذة بخروجه، فإن خرج بدون لذة؛ لم يوجب الغسل؛ كالذي يخرج بسبب مرض أو عدم إمساك، وإن خرج في حال النوم، وهو ما يسمى بالاحتلام؛ وجب الغسل مطلقا؛ لفقد إدراكه؛ فقد لا يشعر باللذة؛ فالنائم إذا استيقظ ووجد أثر المني؛ وجب عليه الغسل، وإن احتلم، ولم يخرج منه مني، ولم يجد له أثراً؛ لم يجب عليه الغسل. الثاني: من موجبات الغسل إيلاج الذكر في الفرج، ولو لم يحصل إنزال؛ للحديث الذي رواه مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قعد بين شعبها الأربع، ثم مس الختان الختان؛ فقد وجب الغسل"، فيجب الغسل على الواطئ والموطوءة بالإيلاج، ولو لم يحصل إنزال؛ لهذا الحديث، ولإجماع أهل العلم على ذلك. الثالث: من موجبات الغسل عند طائفة من العلماء: إسلام الكافر، فإذا اسلم الكافر؛ وجب عليه الغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض الذين أسلموا أن يغتسلوا، ويرى كثير من أهل العلم أن اغتسال الكافر إذا أسلم مستحب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وليس بواجب؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر به كل من أسلم، فيحمل الأمر به على الاستحباب؛ جمعا بين الأدلة، والله أعلم. الرابع: من موجبات الغسل: الموت، فيجب تغسيل الميت؛ غير الشهيد في المعركة؛ فإنه لا يغسل، وتفاصيل ذلك تأتي في أحكام الجنائز أن شاء الله. الخامس والسادس: من موجبات الغسل الحيض والنفاس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا ذهبت حيضتك؛ فاغتسلي وصلي"، وقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْن} ؛ يعني: الحيض بتطهرن بالاغتسال بعد انتهاء الحيض. وصفة الغسل الكامل: أن ينوي بقلبه. ثم يمسي ويغسل يديه ثلاثا ويغسل فرجه. ثم يتوضأ وضوءًا كاملاً. ثم يحثي الماء على رأسه ثلاث مرات، يروي أصول شعره. ثم يعم بدنه بالغسل، ويدلك بدنه بيديه؛ ليصل الماء إليه. والمرأة الحائض أو النفساء تنقض رأسها للغسل من الحيض والنفاس، وأما الجنابة؛ فلا تنقضه حين تغتسل لها؛ لمشقة التكرار، وكلن؛ يجب عليها أن تروي أصول شعرها بالماء. ويجب على المغتسل رجلاً كان أو امرأة أن يتفقد أصول شعره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومغابن بدنه وما تحت حلقه وإبطيه وسرته وطي ركبتيه، وإن كان لابسا ساعة أو خاتما؛ فإنه يحركهما ليصل الماء إلى ما تحتهما. وهكذا يجب أن يهتم بإسباغ الغسل؛ بحيث لا يبقى من بدنه شيء لا يصل إليه الماء، وقال صلى الله عليه وسلم: "تحت كل شعرة جنابة؛ فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر"، رواه أبو داود والترمذي. ولا ينبغي له أن يسرف في صب الماء؛ فالمشروع تقليل الماء مع الإسباغ؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع؛ فينبغي الاقتداء به في تقليل الماء وعدم الإسراف. كما يجب على المغتسل أن يستتر؛ فلا يجوز أن يغتسل عريانا بين الناس؛ لحديث: "إن الله حيي يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم؛ فليستتر"، رواه أبو داود والنسائي. والغسل من الحدث الأكبر أمانة من جملة الأمانات التي بين العبد وبين ربه، يجب عليه أن يحافظ عليه، وأن يهتم بأحكامه؛ ليؤديه على الوجه المشروع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وما أشكل عليه من أحكامه وموجباته؛ سأل عنه، ولا يمنعه الحياء من ذل؛ فإن الله لا يستحي من الحق، فالحياء الذي يمنع صاحبه من السؤال عن أمور دينه حياء مذموم، وهو جبن من الشيطان؛ ليثبط به الإنسان عن استكمال دينه ومعرفة ما يلزمه من أحكامه. وأمر الطهارة عظيم، والتفريط في شأنها خطير؛ لأنها تترتب عليها صحة الصلاة التي هي عمود الإسلام. نسأل الله لنا ولجميع المسلمين البصيرة في دينه والإخلاص له في القول والعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 باب في أحكام التيمم إن الله سبحانه وتعالى قد شرع التطهر للصلاة من الحدثين الأصغر والأكبر بالماء الذي أنزله الله لنا طهورًا، وهذا واجب لابد منه مع الإمكان، لكن قد تعرض حالات يكون الماء فيها معدوما، أو في حكم المعدوم، أو موجودًا، لكن يتعذر استعماله لعذر من الأعذار الشرعية، وهنا قد جعل الله ما ينوب عنه، وهو التيمم بالتراب؛ تيسيرًا على الخلف، ورفعا للحرج. يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والتيمم في اللغة: القصد. والتيمم في الشرع: هو مسح الوجه واليدين بصعيد على وجه مخصوص. وكما هو ثابت في القرآن الكريم؛ فهو ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهو فضيلة لهذه الأمة المحمدية، اختصها الله به، ولم يجعله طهورًا لغيرها؛ توسعة عليها، وإحسانا منه إليها. ففي "الصحيحين" وغيرهما: قال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة؛ فليصل"، وفي لفظ: "فعنده مسجده وطهوره". فالتيمم بدل طهارة الماء عند العجز عنه شرعا، يفعل بالتطهر به كل ما يفعل بالتطهر بالماء من الصلاة والطواف وقراءة القرآن وغير ذلك، فإن الله جعل التيمم مطهرًا كما جعل الماء مطهرًا، قال عليه الصلاة والسلام: "وجعلت تربتها" يعني: الأرض "لنا طهورًا ... ". وينوب التيمم عن الماء في أحوال هي: أولاً: إذا عدم الماء: لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، سواء عدمه في الحضر أو السفر، وطلبه، ولم يجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ثانيا: إذا كان معه ماء يحتاجه لشرب وطبخ، فلو تطهر منه؛ لأضر حاجته؛ بحيث يخاف العطش على نفسه، أو عطش غيره من آدمي أو بهيمة محترمين. ثالثا: إذا خاف باستعمال الماء الضرر في بدنه بمرض أو تأخر برء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} الآية. رابعا: إذا عجز عن استعمال الماء، لمرض لا يستطيع معه الحركة، وليس عنده من يوضئه، وخاف خروج الوقت. خامسا: إذا خاف بردًا باستعمال الماء ولم يجد ما يسخنه به؛ تيمم وصلى؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} ؛ ففي تلك الأحوال يتيمم ويصلي. وإن وجد ماء يكفي بعض طهره؛ استعمله فيما يمكنه من أعضائه أو بدنه، وتيمم عن الباقي الذي قصر عنه الماء؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وإن كان به جرح يتضرر بغسله أو مسحه بالماء؛ تيمم له، وغسل الباقي لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} . وإن كان جرحه لا يتضرر بالمسح؛ مسح الضماد الذي فوقه بالماء، وكفاه المسح عن التيمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ويجوز التيمم بما على وجه الأرض من تراب وسبخه ورمل وغيره، هذا هو الصحيح من قولي العلماء؛ لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} ، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا أدركتهم الصلاة؛ تيمموا بالأرض التي يصلون عليها، ترابا أو غيره، ولم يكونوا يحملون معهم التراب. وصفة التيمم: أن يضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع، ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه، ويمسح كفيه براحتيه، ويعمم الوجه والكفين بالمسح، وإن مسح بضربتين إحداهما يمسح بها وجهه والثانية يمسح بها بدنه؛ جاز، لكن الصفة الأولى هي الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويبطل التيمم عن حدث أصغر بمبطلات الوضوء وعن حدث أكبر بموجبات الغسل من جنابة وحيض ونفاس؛ لأن البدل له حكم المبدل، ويبطل التيمم أيضا بوجود الماء إن كان التيمم لعدمه، وبزوال العذر الذي من أجله شرع التيمم من مرض ونحوه. ومن عدم الماء والتراب أو وصل إلى حال لا يستطيع مع لمس البشرة بماء ولا تراب؛ فإنه يصلي على حسب حاله؛ بلا وضوء ولا تيمم؛ لأن الله لا يكلف نفسا غلا وسعها، ولا يعيد هذه الصلاة؛ لأنه أتى بما أمر به؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 "إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم". هذه جملة من أحكام التيمم سقناها لك، فإن أشكل عليك شيء منها أو من غيرها؛ فعليك أن تسأل أهل العلم، ولا تتساهل في أمر دينك، لا سيما أمر الصلاة التي هي عمود الإسلام؛ فإن الأمر مهم جدًا. وفقنا الله جميعا للصواب والسداد في القول والعمل، وان يكون عملنا خالا لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 باب في أحكام إزالة النجاسة فكما أنه مطلوب من المسلم أن يكون طاهراً من الحدث إذا أراد الصلاة؛ فكذلك مطلوب منه البدن والثوب والبقعة من النجاسة، قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بغسل دم الحيض من ثوبها. لما كان الأمر كذلك؛ تطلب منا أن نلقي الضوء على هذا الموضوع، وهو موضوع إزالة النجاسة، عارضين لأهم أحكامه، رجاء أن ينتفع بذلك من يقرؤه من إخواننا المسلمين، ولقد كان الفقهاء رحمهم الله يعقدون لهذا الموضوع بابا خاصا، يسمونه: باب إزالة النجاسة؛ أي: تطهير موارد النجاسة، أي: تطهير موارد النجاسة، التي تطرأ على محل طاهر من الثياب والأواني والفرش والبقاع ونحوها. والأصل الذي تزال به النجاسة هو الماء؛ فهو الأصل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 التطهير؛ لأن الله وصفه بذلك؛ كما في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} . والنجاسة التي تجب إزالتها: إما أن تكون على وجه الأرض وما اتصل بها من الحيطان والأحواض والصخور: فهذه يكفي في تطهيرها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة؛ بمعنى أنها تغمر بالماء بصبه عليها مرة واحدة؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد، وكذا إذا غمرت بماء المطر والسيول، فإذا زالت بصب الماء عليها أو بماء المطر النازل أو الجاري عليها؛ كفى ذلك في تطهيرها. وإن كانت النجاسة على غير الأرض وما اتصل بها: فإن كانت من كلب أو خنزير وما تولد منهما؛ فتطهيرها بسبع غسلات، إحداهن بالتراب؛ بأن يجعل التراب مع إحدى الغسلات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعا أولاهن بالتراب"، رواه مسلم وغيره، وهذا الحكم عام في الإناء وغيره؛ كالثياب والفرش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وإن كانت نجاسة غير كلب أو خنزير؛ كالبول والغائط والدم ونحوها؛ فإنها تغسل بالماء مع الفرك والعصر، حتى تزول؛ فلا يبقى لها عين ولا لون. فالمغسولات على ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما يمكن عصره؛ مثل الثوب؛ فلا بد من عصره. النوع الثاني: ما لا يمكن عصره، ويمكن تقليبه؛ كالجلود ونحوها؛ فلا بد من تقليبه. النوع الثالث: ما لا يمكن عصره ولا تقليبه؛ فلا بد من دقه وتثقيله؛ بأن يضع عليه شيئا ثقيلاً، حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء. وإن خفي موضع نجاسة في بدون أو ثوب أو بقعة صغيرة كمصلى صغير؛ وجب غسل ما احتمل وجود النجاسة فيه، حتى يجزم بزوالها، وإن لم يدر في أي جهة منه؛ غسله جميعه. ويكفي في تطهير بول الغلام الذي لم يأكل الطعام رشه بالماء؛ لحديث أم قيس؛ أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله. متفق عليه. وإن كان يأكل الطعام لشهوة واختيار؛ فبوله مثل بول الكبير، وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بول الأنثى الصغير مثل بول الكبيرة، وفي جميع هذه الأحوال يغسل كغسل سائر النجاسات. فالنجاسات على ثلاثة أنواع: نجاسة مغلظة، وهي نجاسة الكلب ونحوه. ونجاسة مخففة، وهي نجاسة الغلام الذي لا يأكل الطعام. ونجاسة بين ذلك، وهي بقية النجاسات. ويجب أن نعرف ما هو طاهر وما هو نجس من أرواث وأبوال الحيوانات: فما كان يحل أكل لحمه منها؛ فبوله وروثه طاهر؛ كالإبل والبقر والغنم ونحوها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنين أن يلحقوا بإبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها. متفق عليه. فدل عليه طهارة بولها؛ لأن النجس لايباح التداوي به وشربه، فإن قيل: إنما أبيح للضرورة؛ قلنا: لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة. وفي "الصحيح": أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم وأمر بالصلاة فيها وهي لا شك تبول فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأصل في الأرواث الطهارة؛ إلا ما استثنى ... " انتهى. وسؤر ما يؤكل لحمه طاهر، وهو بقية طعامه وشرابه. وسؤر الهرة طاهر؛ لحديث أبي قتادة في الهرة؛ قال "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، رواه الترمذي وغيره وصححه، شبهها بالمماليك من خدم البيت الذين يطوفون على أهله للخدمة ولعدم التحرز منها؛ ففي ذلك رفع للحرج والمشقة. وألحق بعض العلماء بالهرة ماكان دونها في الخلقة من طير وغيره؛ فسؤره طاهر كسؤر الهرة؛ بجامع الطواف. وماعدا وما ألحق بها لا يؤكل لحمه؛ فروثه وبوله وسؤره نجس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أيها المسلم،: عليك أن تهتم بالطهارة ظاهراً وباطنا: باطنا بالتوحيد والإخلاص لله في القول والعمل، وظاهراً بالطهارة من الحدث والأنجاس؛ فإن ديننا دين الطهارة والنظافة والنزاهة من الأقذار الحسية والمعنوية؛ فالمسلم طاهر نزيه ملازم للطهارة، وقال صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان ... ". فعليك يا عبد الله بالاهتمام بالطهارة، والابتعاد عن الأنجاس؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عامة عذاب القبر من البول حينما لا يتحرز منه الإنسان، فإذا أصابك نجاسة؛ فبادر إلى تطهيرها ما أمكنك؛ لتبقى طاهراً، لا سيما عندما تريد الصلاة؛ فتفقد حالك من الطهارة، وعندما تريد الدخول في المسجد؛ فانظر في نعليك، فإن وجدت فيهما أذى، فامسحهما ونقهما ولا تدخل بهما أو تدخلهما في المسجد وفيهما نجاسة. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه من القول والعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 باب في أحكام الحيض والنفاس أولاً: الحيض وأحكامه: قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . والحيض هو دم طبيعة وجبلة، يخرج من قعر الرحم في أوقات معلومة، خلقه الله لحكمة غذاء الولد في بطن أمه؛ لا فتقاره إلى الغذاء؛ إذ لو شاركها في غذائها؛ لضعفت قواها، فجعل الله له هذا الغذاء؛ لذلك قل أن تحيض الحامل، فإذا ولدت؛ قلبه الله لبنا يدر من ثدييها؛ ليتغذى به ولدها، ولذلك قل أن تحض المرضع، فإذا خلت المرأة من الحمل ورضاع؛ بقي لا مصرف له؛ ليستقر في مكان من رحمها، ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة أيام، وقد يزيد عن ذلك أو يقل، ويطول شهر المرأة ويقصر حسبما ركبه الله من الطباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وللحائض خلال حيضها وعند نهايته أحكام مفصلة في الكتاب والسنة: من هذه الأحكام: أن الحائض لا تصلي ولا تصوم حال حيضها، قال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا أقبلت الحيضة؛ فدعي الصلاة"، فلو صامت الحائض أوصلت حال حيضها؛ لم يصح لها صوم ولا صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن ذلك، والنهي يقتضي عدم الصحة، بل تكون بذلك عاصية لله ولرسوله. فإذا طهرت من حيضها؛ فإنها تقضي الصوم دون الصلاة بإجماع أهل العلم، قالت عائشة رضي الله عنها: "كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، متفق عليه. ومن أحكام الحائض: أنها يجوز لها أن تطوف بالبيت، ولا تقرأ القرآن، ولا تجلس في المسجد، ويحرم على زوجها وطؤها في الفرج حتى ينقطع حيضها وتغتسل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه} ،ومعنى الاعتزال: ترك الوطء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، رواه الجماعة إلا البخاري، وفي لفظ: "إلا الجماع". ويجوز لزوج الحائض أن يستمتع منها بغير الجماع في الفرج؛ كالقبلة واللمس ونحو ذلك. ولا يجوز لزوجها أن يطلقها وهى حائض، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} ؛ أي طاهرات من غير جماع، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من طلق امرأته وهي حائض أن يراجعها ثم يطلقها حال طهرها إن أراد. والطهر هو انقطاع الدم، فإذا انقطع دمها؛ فقد طهرت، وانتهت فترة حيضها؛ فيجب عليها الاغتسال، ثم تزاول ما منعت منه بسبب الحيض، وإن رأت بعد الطهر كدرة أو صفرة؛ لم تلتفت إليها؛ لقول أم عطية رضي الله عنها: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الصفرة شيئا"، رواه البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وغيره، وله حكم الرفع؛ لأنه تقرير منه صلى الله عليه وسلم. تنبيه هام: إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل غروب الشمس؛ لزمها أن تصلي الظهر والعصر من هذا اليوم، ومن طهرت منهما قبل طلوع الفجر؛ لزمها أن تصلي المغرب والعشاء من هذه الليلة؛ لأن وقت الصلاة الثانية وقت للصلاة الأولى في حال العذر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" "22/ 434": "ولهذا كان جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد إذا طهرت الحائض في آخر النهار؛ صلت الظهر والعصر جميعا، وإذا طهرت في آخر الليل؛ صلت المغرب والعشاء جميعا؛ كما نقل ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة ابن عباس؛ لأن الوقت مشترك بين الصلاتين في حال العذر، فإذا طهرت في آخر النهار؛ فوقت الظهر باق، فتصليها قبل العصر، وإذا طهرت في آخر الليل؛ فوقت المغرب باق في حال الغدر، فتصليها قبل العشاء" انتهى. وأما إذا دخل عليها وقت صلاة، ثم حاضت أو نفست قبل أن تصلي؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فالقول الراجح أنه لا يلزمها قضاء تلك الصلاة التي أدركت أول وقتها ثم حاضت أو نفست قبل أن تصليها. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في "مجموع الفتاوي" "23/ 335" في هذه المسألة: "والأظهر في الدليل مذهب أبي حنيفة ومالك؛ أنها لا يلزمها شيء؛ لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنها أخرت تأخيراً جائزاً؛ فهي غير مفرطة، وأما النائم أو الناسي؛ وإن كان غير مفرط أيضا؛ فإن ما يفعله ليس قضاء، بل ذلك وقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ويذكر" انتهى. ثانيا: الاستحاضة وأحكامها: الاستحاضة: سيلان الدم في غير وقته على سبيل النزيف من عرق يسمى العاذل. والمستحاضة أمرها مشكل؛ لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة، فإذا كان الدم ينزل منها باستمرار أو غالب الوقت؛ فما الذي تعتبره منه حيضا وما الذي تعتبره استحاضة لا تترك من أجله الصوم والصلاة؟ فإن المستحاضة يعتبر لها أحكام الطاهرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وبناء على ذلك؛ فإن المستحاضة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون لها عادة معروفة لديها قبل إصابتها بالاستحاضة؛ بأن كانت قبل الاستحاضة تحيض خمسة أيام أو ثمانية أيام مثلاً في أول الشهر أو وسطه، فتعرف عددها ووقتها؛ فهذه تجلس قدر عادتها، وتدع الصلاة والصيام، وتعتبر لها أحكام الحيض، فإذا انتهت عادتها؛ اغتسلت وصلت، واعتبرت الدم الباقي دم استحاضة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي"، رواه مسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك؛ فدعي الصلاة"، متفق عليه. الحالة الثانية: إذا لم يكن لها عادة معروفة، لكن دمها متميز، بعضه يحمل صفة الحيض؛ بأن يكون أسودًا أو ثخينا أو له رائحة، وبقيته لا تحمل صفة الحيض؛ بأن يكون أحمر ليس له رائحة لا ثخينا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ففي هذه الحالة تعتبر الدم الذي يحمل صفة الحيض حيضا، فتجلس، وتدع الصلاة والصيام، وتعتبر ما عاداه استحاضة، تغتسل عند نهاية الذي يحمل صفة الحيض، وتصلي وتصوم، وتعتبر طاهرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا كان دم الحيض؛ فإنه أسود يُعرف؛ فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر؛ فتوضئي وصلي"، رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، ففيه أن المستحاضة تعتبر صفة الدم، فتميز بها بين الحيض وغيره. الحالة الثالثة: إذا لم يكن لها عادة تعرفها ولا صفة تميز بها الحيض من غيره؛ فإنها تجلس غالب الحيض ستة أيام أو سبعة أيام من كل شهر، لأن هذه عادة غالب النساء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، ثم اغتسلي، فإذا استنقأت؛ فصلي أربعة وعشرين أو ثلاثة وعشرين، وصومي وصلي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كما تحيض النساء" رواه الخمسة، وصححه الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 والحاصل مما سبق: أن المعتادة ترد إلى عادتها، والمميزة ترد إلى العمل بالتمييز، والفاقدة لهما تحيض ستا أو سبعا، وفي هذا جمع بين السنن الثلاث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العلامات التي قيل بها ست: إما العادة؛ فإن العادة أقوى العلامات؛ لأن الأصل مقام الحيض دون غيره، وإما التمييز لأن الدم الأسود والثخين المنتن أولى أن يكون حيضا من الأحمر، وأما اعتبار غالب عادة النساء؛ لأن الأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب؛ فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنة والاعتبار"، ثم ذكر بقية العلامات التي قيل بها. وقال في "النهاية": "وأصوب الأقوال اعتبار العلامات التي جاءت بها السنة، وإلغاء ما سوى ذلك" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ما يلزم المستحاضة في حال الحكم بطهارتها: 1 يجب عليها أن تغتسل عند نهاية حيضتها المعتبرة حسبما سبق بيانه. 2 تغسل فرجها لإزالة ماعليه من الخارج عند كل صلاة، وتجعل في المخرج قطنا ونحوه يمنع الخارج، وتشد عليه ما يمسكه من السقوط، ثم تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة. لقوله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام إقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة"، رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: "حديث حسن"، وقال صلى الله عليه وسلم: "انعت لك الكرسف، تحشين به المكان"، والكرسف القطن، ويمكن استعمال الحفائظ الطبية الموجودة الآن. ثالثا: النفاس وأحكامه: والنفاس كالحيض فيما يحل؛ كالاستمتاع منها بما دون الفرج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وفيما يحرم؛ كالوطأ في الفرج ومنع الصوم والصلاة والطلاق والطواف وقراءة القرآن واللبث في المسجد، وفي وجوب الغسل على النفساء عند انقطاع دمها كالحيض، ويجب عليها أن بقضي الصيام دون الصلاة؛ فلا تقضيها كالحائض. والنفاس دم ترخية الرحم للولادة وبعدها، وهو بقية الدم الذي احتبس في مدة الحمل، وأكثر مدته عند الجمهور أربعون يوما. قال الترمذي "أجمع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما؛ إلا أن ترى الطهر قبل ذلك؛ فتغتسل وتصلي" اه. فإذا انقطع دم النفساء قبل الأربعين؛ فقد انتهى نفاسها، فتغتسل وتصلي وتزاول ما منعت منه بسبب النفاس وإذا ألقت الحامل ما تبين فيه خلق إنسان، بأن كان فيه تخطيط، وصار معها دم بعده؛ فلها أحكام النفساء، والمدة التي يتبين فيها خلق الإنسان في الحمل ثلاثة أشهر غالبا، وأقلها واحد وثمانون يوما، وإن ألقت علقة أو مضغة؛ لم يتبين فيها تخطيط إنسان؛ لم تعتبر ما ينزل بعدها من الدم نفاسا؛ فلا تترك الصلاة ولا الصيام، وليست لها أحكام النفساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 تنبيه هام: وهنا مسألة يجب التنبيه عليها، وهي أن البعض من النساء قد تتناول دواء لمنع نزول دم الحيض حتى تتمكن من صيام رمضان أو أداء الحج، فإن كانت هذه الحبوب لمنع نزول الدم فترة ولا تقطعه؛ فلا بأس بتناولها، وإن كانت تقطع الحيض قطعا مؤبدًا؛ فهذا لا يجوز؛ إلا بإذن الزوج؛ لأن هذا يترتب عليه قطع النسل. هذه جمل من أحكام الحيض، مررنا عليها مرًّا سريعا، وتفاصيلها تحتاج إلى وقت طويل، لكن يجب على من أشكل عليه شيء منها أو من غيرها أن يسأل العلماء، فيسجد عندهم إن شاء الله ما يزيل إشكاله، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كتاب الصلاة باب في وجوب الصلوات الخمس الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقد وضعت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها، وقد تضمنت هذه الصلاة كثيرًا من أنواع العبادة؛ من ذكر الله، وتلاوة لكتابه، وقيام بين يدي الله، وركوع، وسجود، ودعاء، وتسبيح، وتكبير، وهي رأس العبادات البدنية، ولم تخل منها شريعة رسول من رسل الله. وقد فرضها الله على نبيه محمدصلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ليلة المعراج في السماء؛ بخلاف سائر الشرائع؛ فدل ذلك على عظمتها وتأكد وجوبها ومكانتها عند الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقد جاء في فضلها ووجوبها على الأعيان أحاديث كثيرة، وفرضيتها معلومة من دين الإسلام بالضرورة، فمن جحدها؛ فقد ارتد عن دين الإسلام، يستتاب، فإن تاب، وإلا؛ قتل بإجماع المسلمين. والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: ادع لهم. ومعناها في الشرع: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. سميت بذلك لاشتمالها على الدعاء؛ فالمصلي لا ينفك عن دعاء عبادة أو ثناء أو طلب؛ فلذلك سميت صلاة، وقد فرضت ليلة الإسراء قبل الهجرة خمس صلوات في اليوم والليلة بدخول أوقاتها على كل مسلم مكلف. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ؛ أي: مفروضا في الأوقات التي بينها رسول الله بقوله وبفعله. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} . وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} ؛ في مواضع كثيرة من كتابه الكريم. وقال تعالى {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقال سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} ، فمن أتى عليه وقتها وهو بالغ عاقل؛ وجبت عليه؛ إلا حائضا ونفساء؛ فلا تجب عليهما، ولا يقضيانها إذا طهرتا إجماعا، ومن كان زائل العقل بنوم أو إغماء ونحوه؛ وجب عليه القضاء حين يصحوا. قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} . وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"، رواه مسلم. ويلزم ولي الصغير أن يأمر بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وغن كانت لا تجب عليهن ولكن؛ ليهتم بها، ويتمرن عليها، وليكتب له ولوليه الأجر إذا صلى؛ لعموم قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، وقوله لما رفعت إليه امرأة صبيا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أحر"، فيعلمه وليه الصلاة والطهارة لها. ويجب على الولي أن يضرب الصغير إذا تهاون بالصلاة وقد بلغ عشر سنين، لقوله: "مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ؛ أي: مفروضة في أوقات معينة، لا يجوز تأخيرها عنها؛ إلا لمن يريد جمعها مع ما بعدها جمع تأخير، إذا كانت مما يجمع، وكان يباح لهم الجمع، وأما تأخير صلاة الليل إلى النهار أو صلاة النهار إلى الليل أو الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس؛ فلا يجوز بحال من الأحوال؛ لا لجنابة، ولا نجاسة، ولا غير ذلك، بل يصليها في وقتها على حسب حاله. وبعض الجهال قد يكون في حالة علاج في المستشفى على سرير يستطيع النزول منه، أو لا يستطيع تغيير ثيابه التي عليها نجاسة، أو ليس عنده تراب يتيمم به، أو لا يجد من يناوله إياه؛ فيؤخر الصلاة عن وقتها، ويقول: أصليها فيما بعد إذا زال العذر، وهذا خطأ عظيم، وتضييع للصلاة، أوقعه فيه الجهل وعدم السؤال؛ فالواجب على مثل هذا أن يصلي على حسب حاله في الوقت، وتجزئه صلاته في هذه الحالة، ولو صلى بدون تيمم أو بثياب نجسة، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} ، حتى ولو صلى إلى غير القبلة إذا كان لا يستطيع استقبال القبلة؛ فصلاته صحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ومن ترك الصلاة تهاونا أو كسلاً من غير جحد لوجوبها؛ كفر على الصحيح من قولي العلماء، بل هو الصواب الذي تدل عليه الأدلة كحديث: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة"، رواه مسلم، وغيره من الأدلة. وينبغي الإشاعة عن تاركها بتركها ليفتضح حتى يصلي، ولا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته، حتى يتوب ويقيم الصلاة؛ لأن الصلاة عمود الدين، وهي الفارقة بين المسلم والكافر؛ فمهما عمل العبد من الأعمال؛ فإنه لا ينفعه ما دام مضيعا للصلاة. نسأل الله العافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 باب في أحكام الأذان والإقامة لما كانت الصلوات الخمس مؤقتة بأوقات معنية لا يجوز فعلها قبل دخول تلك الأوقات، وكان الكثير من الناس لا يعرف دخول الوقت، أو قد يكون مشغولاً لا ينتبه لدخوله؛ شرع الله الأذان للصلاة؛ إعلاما بدخول وقتها. وقد شرع الأذان في السنة الأولى للهجرة النبوية، وسبب مشروعيته أنه لما عسر معرفة الأوقات عليهم؛ تشاوروا في نصب علامة لها؛ فأُرِى عبد الله بن زيد هذا الأذان في المنام، وأقره الوحي، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وكل من الأذان والإقامة لهما ألفاظ مخصوصة من الذكر، وهو كلام جامع لعقيدة الإيمان؛ فأولهما التكبير، وهو إجلال الله عز وجل، ثم إثبات الوحدانية لله عز وجل، وإثبات الرسالة لنبينا محمد بالشهادتين، ثم الدعاء إلى الصلاة التي هي عمود الإسلام، والدعاء إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، ثم يختمه بتكبير الله وإجلاله وكلمة الإخلاص التي هي من أفضل الذكر وأجله، والتي لو وزنت بالسماوات وعامرهن غير الله والأرضين السبع وعامرهن؛ لرجحت بهن لعظمها وفضلها. وقد جاءت أحاديث في فضل الأذان وأن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة. والأذان والإقامة فرض كفاية ما يلزم جميع المسلمين لإقامته، فإذا قام به من يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين، وهما من شعائر الإسلام الظاهرة، وهما مشروعان في حق الرجال حضراً وسفراً للصلوات الخمس، يقاتل أهل بلد تركوهما؛ لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة؛ فلا يجوز تعطيلهما. والصفات المعتبرة في المؤذن: أن يكون صيتا؛ لأنه أبلغ في الإعلام، أمنيا؛ لأنه مؤتمن يعتبر أذانه في دخول وقت الصلاة والصيام والإفطار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ويكون عالما بالوقت؛ ليؤذن في أوله. والأذان خمس عشرة جملة، كما كان بلال يؤذن به بحضرة رسول الله دائما، ويستحب أن يتمهل بألفاظ الأذان من غير تمطيط ولا مد مفرط، ويقف على كل جملة منه، ويستحب أن يستقبل القبلة حال الأذان، ويجعل إصبعيه في أذنيه؛ لأنه أرفع للصوت، ويلتفت يمينا عند قوله: "حي على الصلاة"، وشمالاً عند قوله: "حي إلى الفلاح"، ويقول بعد "حي على الفلاح الثانية" من أذان الفجر خاصة: "الصلاة خير من النوم"، مرتين؛ لأمره بذلك؛ لأنه وقت ينام الناس فيه غالبا، ولا يجوز الزيادة على ألفاظ الأذان بأذكار أخرى قبله ولا بعده، يرفع بها صوته؛ لأن ذلك من البدع المحدثة؛ فكل ما يفعل غير الأذان الثابت عن رسول الله؛ فهو بدعة محرمة؛ كالتسبيح، والنشيد، والدعاء، والصلاة والسلام على الرسول جهراً قبل الأذان أو بعده، كل ذلك محدث مبتدع، يحرم فعله، ويجب إنكاره على من فعله. والإقامة إحدى عشرة جملة، يحدرها أي: يسرع فيها لإنهاء إعلام الحاضرين؛ فلا داعي للترسل فيها، ويستحب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان، ولا يقيم إلا بإذن الإمام؛ لأن الإقامة منوط وقتها بنظر الإمام؛ فلا تقام إلا بإشارته، ولا بجزيء الأذان قبل الوقت؛ لأنه شرع الإعلام بدخوله؛ فلا يحصل به المقصود، ولأن فيه تغريراً لمن يسمعه؛ إلا أذان الفجر؛ فيجوز تقديمه قبل الصبح؛ ليتأهب الناس لصلاة الفجر، لكن ينبغي أن يؤذن آذانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 آخر عند طلوع الفجر؛ ليعرف الناس دخول الوقت وحلول الصلاة والصيام. ويسن لمن سمع المؤذن إجابته؛ بأن يقول مثل ما يقول، ويقول عند حي على الصلاة وحي على الفلاح: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم يقول بعدما يفرغ المؤذن: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته"، ويحرم الخروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر أو نية رجوع، وإذا شرع المؤذن في الأذان والإنسان جالس؛ فلا ينبغي له أن يقوم، بل يصبر حتى فرغ؛ لئلا يتشبه بالشيطان. وينبغي للمسلم إذا سمع الأذان أن يتوجه إلى المسجد ويترك سائر الأعمال الدنيوية. قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} الآيات. والإقامة إحدى عشرة جملة، يحدرها – أي: يسرع فيها – لأنها لإعلام الحاضرين، فلا داعي للترسل فيها، ويستحب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان، ولا يقيم إلا بإذن الإمام، لأن الإقامة منوط وقتها بنظر الإمام، فلا تقام إلا بإشارته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 باب في شروط الصلاة الشرط لغة: العلامة. وشرعا: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، وشروط الصلاة ما تتوقف صحتها عليها مع الإمكان. وللصلاة شرائط لا تصح إلا بها، إذا عدمت أو بعضها؛ لم تصح الصلاة، ومنها: أولا دخول وقتها قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ؛ أي: مفروضا في محددة؛ فالتوقيت هو التحديد، وقد وقت الله الصلاة؛ بمعنى أنه سبحانه حدد لها وقتا من الزمان، وقد أجمع المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتا مخصوصةً محدودة لا يجزىء قبلها. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رصي الله عنه: "الصلاة لها وقت شرطه الله لا تصح إلا به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فالصلاة تجب بدخول وقتها؛ لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، وقد أجمع العلماء على فضيلة الإتيان في أول وقتها في الجملة؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} ، وقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} ، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وفي الصحيحين أنه سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ، ومن المحافظة عليها: الإتيان بها أول وقتها. والصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة، لكل صلاة منها وقت مناسب اختاره الله لها، يتناسب مع أحوال العباد، بحيث يؤدون هذه الصلوات في هذه الأوقات، ولا تحبسهم عن أعمالهم الأخرى، بل تعينهم عليها، وتكفر عنهم خطاياهم التي يصيبونها؛ فقد شبهها النبي بالنهر الجاري، الذي يغتسل منه الإنسان خمس مرات، فلا يبقى من درنه شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وهذه المواقيت كما يلي: 1 صلاة الظهر: ويبدأ وقتها بزوال الشمس؛ أي: ميلها إلى المغرب عن خط المسامتة، وهو الدلوك المذكور في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس} ، ويعرف الزوال بحدوث الظل في جانب المشرق بعد انعدامه من جانب المغرب، ويمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل الشي مثله في الطول، ثم ينتهي بذلك؛ لقوله: "وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله" رواه مسلم. ويستحب تعجيلها في أول الوقت؛ إلا في شدة الحر؛ فيستحب تأخيرها إلى أن ينكسر الحر؛ لقوله: "إذا اشتد الحر؛ فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم". 2 صلاة العصر: يبدأ وقتها في نهاية وقت الظهر؛ أي: من مصير ظل كل شيء مثله، ويمتد إلى اصفرار الشمس على الصحيح من قولي العلماء. ويسن تعجيلها في أول الوقت، وهي الصلاة الوسطى التي نص الله عليها لفضلها، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ، وقد ثبت في الأحاديث أنها صلاة العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 3 وصلاة المغرب: يبدأ وقتها بغروب الشمس؛ أي: غروب قرصها جمعية؛ بحيث لا يرى منه شيء لا من سهل ولا من جبل، ويعرف غروب الشمس أيضا بإقبال ظلمة الليل من المشرق لقوله: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا؛ فقد أفطر الصائم" ثم يمتد وقت المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر، والشفق: بياض تخالطه حمرة، ثم تذهب الحمرة ويبقى بياض خالص ثم يغيب، فيستدل بغيبوبة البياض على مغيب الحمرة. ويسن تعجيل صلاة المغرب في أول وقتها؛ لما روى الترمذي وصححه عن سلمة؛ أن النبي كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب؛ قال: "وهو قول أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم". 4 وصلاة العشاء: يبدأ وقتها بانتهاء وقت المغرب؛ أي: بمغيب الشفق الأحمر، ويمتد إلى طلوع الفجر الثاني، وينقسم إلى قسمين: وقت اختيار يمتد إلى ثلث الليل، ووقت اضطرار من ثلث الليل إلى طلوع الفجر الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وتأخير الصلاة إلى آخر الوقت المختار "إلى ثلث الليل " أفضل إن سهل فإن شق على المأمومين؛ فالمستحب تعجيلها في أول وقتها؛ دفعا للمشقة. ويكره النوم قبل صلاة العشاء؛ لئلا يستغرق النائم فتفوته، ويكره الحديث بعدها، وهو التحادث مع الناس؛ لأنن ذلك يمنعه من المبادرة بالنوم حتى يستيقظ مبكرًا؛ فينبغي النوم بعد صلاة العشاء مباشرة؛ ليقوم في آخر الليل، فيتهجد، ويصلي الفجر بنشاط؛ لأن النبي كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها. وهذا إذا كان سهره بعد العشاء من غير فائدة، أما إذا كان لغرض صحيح وحاجة مفيدة؛ فلا بأس. 5 وصلاة الفجر يبدأ وقتها بطلوع الفجر الثاني، ويمتد إلى طلوع الشمس، ويستحب تعجيلها إذا تحقق طلوع الفجر. هذه مواقيت الصلوات الخمس التي فرضها الله فيها؛ فعليك بالتقيد بها؛ بحيث لا تصليها قبل وقتها، ولا تؤخرها عنه؛ فقال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ؛ أي: الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاّ مَنْ تَابَ} ،ض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ومعنى أضاعوها: أخروها عن وقتها؛ فالذي يؤخر الصلاة عن وقتها سماه الله ساهيا عنها ومضيعا لها، وتوعده بالويل والغي، وهو واد في جهنم، من نسيها أو نم عنها؛ تجب عليه المبادرة إلى قضائها؛ قال: "من نسي صلاة أو نام عنها؛ فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك". فتجب المبادرة لقضاء الصلاة الفائتة على الفور، ولا ينتظر إلى دخول وقت الصلاة التي تشابهها كما يظن بعض العوام، ولا يؤخرها إلى خروج وقت النهي، بل يصليها في الحال. ثانيا: ستر العورة ومن شروط الصلاة ستر العورة، وهي ما يجب تغطيته، ويقبح ظهوره، ويستحي منه، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ؛ أي: عند كل صلاة، وقال النبي: "لا يقبل الله صلاة الحائض" أي: بالغ "؛ إلا بخمار"، رواه أبو داود والترمذي وحسنه. قال ابن عبد البر: "أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانا؛ فلا خلاف في وجوب ستر العورة في الصلاة وبحضرة الناس، وفي الخلوة على الصحيح، قال النبي: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك". قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 استطعت ألا يراها أحد؛ فلا يرينها". قال: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "الله أحق أن يستحى منه"، رواه أبو داود وغيره. وقد سمى الله كشف العورة فاحشة في قوله عن الكفار: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويزعمون أن ذلك من الدين؛ فكشف العورة والنظر إليها يجر إلى شر خطير، ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة وهدم الأخلاق؛ كما هو مشاهد في المجتمعات المتحللة التي ضاعت كرامتها وهدمت أخلاقياتها؛ فانتشرت فيها الرذيلة، وعدمت فيها الفضيلة. فستر العورة إبقاء على الفضيلة والأخلاق، ولهذا يحرص الشيطان على إغراء بني آدم بكشف عوراتهم، وقد حذرنا اله منه في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} فكشف العورات مكيدة شيطانية قد وقع فيها كثير من المجتمعات البشرية اليوم، وربما يسمون ذلك رقيا وتفننا؛ فتكونت نوادي العراة، وتفشي السفور في النساء، فعرضت أجسادها أمام الرجال؛ بلا حياء ولا خجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أيها المسلم، إنه يجب ستر العورة بما لا يصف بشرتها، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} ؛ فمواراة العورة باللباس الساتر أمر مطلوب وواجب، وحد عورة الرجل الذكر من السرة إلى الركبة؛ لحديث على رضي الله عنه: "لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت"، رواه أبوه داود وابن ماجه، وفي الحديث الآخر "غط فخذك، فإن الفخذ عورة"، رواه مالك وأحمد والترمذي وحسنه، ومع هذا كله؛ نرى مع الأسف الشديد كثيرًا من الرجال عندما يزاولون الألعاب يكشفون أفخاذهم ولا يغطون إلا العورة المغلطة، وهذه مخالفة صريحة لهذه النصوص؛ فالواجب عليهم التنبه لذلك، والتقيد بأحكام دينهم، وعدم الالتفات لما يخالفها. والمرأة كلها عورة؛ لقوله: "والمرأة عورة"، صححه الترمذي، ولحديث أم سلمة: أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟، قال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها"، رواه أبو داود، ولأبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشه: "لا يقبل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 صلاة حائض إلا بخمار"، قال الترمذي: "والعمل عليه عند أهل العلم؛ أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من عورتها مكشوف؛ لا تجوز صلاتها ". هذه الأحاديث، مع قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ} الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} ، وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} ، وقول عائشة: "كنا مع النبي محرمات، فإذا مر بنا الرجال؛ سدلت إحدانا خمارها على وجهها، فإذا جاوزونا؛ كشفناه ". هذه النصوص وما جاء بمعناها من الكتاب والسنة، وهي كثيرة شهيرة، تدل على أن المرأة كلها عورة أمام الرجال الأجانب، لا يجوز أن يظهر من بدنها شيء بحضرتهم في الصلاة وغيرها، أما إذا صلت في مكان خال من الرجال الأجانب؛ فإنها تكشف وجهها في الصلاة؛ فهو ليس بعورة في الصلاة، لكنه عورة عند الرجال غبر المحارم؛ فلا يجوز نظرهم إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وإنه لمن المؤسف المحزن ما وصل إليه كثير من نساء العصر المسلمات من تهتك وتساهل في الستر، وتسابق إلى إبراز مفاتنهن، واتخاذ اللباس الذي لا يستر؛ تقليدًا لنساء الكفرة والمرتدين؛ فلا حول ولا قوة غلا بالله العلي العظيم. إن الله تعالى قد أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة، وهو أخذ الزينة؛ وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ؛ فأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة فقط، مما يدل على أن المسلم ينبغي له أن يلبس أحسن ثيابه وأجملها في الصلاة للوقوف بين يدي الله تبارك تعالى؛ فيكون المصلي في هذا الموقف على أكمل هيئة ظاهرًا وباطنا. ثالثا: اجتناب النجاسة ومما يشترط للصلاة اجتناب النجاسة؛ بأن يبتعد عنها المصلي، ويخلو منها تماما في بدنه وثوبه وبقعته التي يقف عليها للصلاة. والنجاسة قذر مخصوص يمنع جنسه الصلاة؛ كالميتة، والدم، والخمر، والبول، والغائط: لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ؛ قال ابن سيرين: "اغسلها بالماء "، وقال: "تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه"، وأمر المرأة أن تغسل ثوبها إذ أصابه دم الحيض وتصلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فيه؛ وأمر بدلك النعلين ثم الصلاة فيهما، وأمر بصب الماء على البول الذي حصل في المسجد ... وغير ذلك من الأدلة الدالة على اجتناب النجاسة؛ فلا تصح صلاة مع وجود النجاسة في بدن المصلي أو ثوبه أو البقعة التي يصلي عليها، وكذلك إذا كان حاملاً لشيء فيه نجاسة. ومن رأى عليه نجاسة بعد الصلاة ولا يدري متى حدثت؛ فصلاته صحيحة، وكذا لو كان عالما بها قبل الصلاة، لكن نسي أن يزيلها؛ فصلاته صحيحة على القول الراجح. وإن علم بالنجاسة في أثناء الصلاة وأمكنة إزالتها من غير عمل كثير؛ كخلع النعل والعمامة ونحوهما؛ أزالهما وبنى، وإن لم يتمكن من إزالتها؛ بطلت الصلاة. ولا تصح الصلاة في المقبرة؛ غير صلاة الجنازة؛ لقوله: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقال: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها"، رواه الجماعة إلا البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: "فلا تتخذوا القبور مساجد". وليس العلة في النهي عن الصلاة في المقابر أو عندها خشية النجاسة، وإنما هي خشية تعظيمها واتخاذها أوثانا؛ فالعلة سد الذريعة عن عبادة المقبورين، وتستثني صلاة الجنازة؛ فيجوز فعلها في المقبرة؛ لفعل النبي، وذلك يخصص النهي، وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه؛ لأن النهي يشمل المقبرة وفنائها الذي حولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسجد المبني على القبر: "لا يصلى فيه فرض ولا نفل، فإن كان المسجد قبل القبر؛ غير: إما بتسوية القبر، أو نبشه إن كان جديدًا وأن كان القبر قبل المسجد؛ فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر". ولا تصح الصلاة في المسجد الذي قبلته إلى قبر؛ لقوله: "تصلوا إلى القبور". ولا تصح الصلاة في الحشوش، وهي المراحيض المعدة لقضاء الحاجة؛ فيمنع من الصلاة في داخل الحش؛ لكونه معدًا للنجاسه، ولأن الشارع منع من ذكر الله فيها؛ والصلاة أولى بالمنع، ولأن الحشوش تحضرها الشياطين. ولا تصح الصلاة في الحمام وهو المحل المعد للاغتسال؛ لأنه محل كشف العورات، ومأوى للشياطين، والمنع يشمل كل ما يغلق عله باب الحمام؛ فلا تجوز الصلاة فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ولا تصح الصلاة في أعطان الإبل، وهي المواطن التي تقيم فيها وتأوي إليها. قال الشيخ تقي الدين: "نهى عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوى الشياطين، وكما نهى عن الصلاة في الحما؛ لأنه مأوى الشياطين؛ فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه". وتكره الصلاة في مكان فيه تصاوير، قال الإمام ابن القيم: "وهو أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام؛ لأن كراهية الصلاة في الحمام: إما لكونه مظنة النجاسة، وإما لكونه بيت الشيطان، وهو الصحيح، وأما محل الصور؛ فمظنه الشرك، وغالب شرك الأمم كان من وجهة الصور والقبور" اهـ. أيها المسلم، عليك بالعناية بصلاتك؛ فتطهر من النجاسة قبل دخولك فيها، وتجنب المواضع المنهي عن الصلاة فيها؛ لتكون صلاتك صحيحة على وفق ما شرعه الله، ولا تتهاون بشيء من أحكامها أو تتساهل فيه؛ فإن صلاتك عمود دينك، متى استقامت؛ استقام لدين، ومتى اختلت؛ اختل الدين. وفقنا الله جميعا لما فيه الخير والاستقامة. رابعا: استقبال القبلة ومن شروط الصلاة استقبال القبلة، وهي الكعبة المشرفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 سميت قبلة لإقبال الناس عليها، ولأن المصلي يقابلها، قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} . فمن قرب من الكعبة، وكان يراها؛ وجب عليه استقبال نفس الكعبة بجميع بدنه؛ لأنه قادر على التوجه إلى عينها قطعا، فلم يجز له العدول عنها، ومن كان قريبا منها، لكن يراها؛ لوجود حائل بينه وبينها؛ اجتهد في إصابتها، والتوجه إليها ما أمكنه، ومن كان بعيدًا عن الكعبة في أي وجهة من جهات الأرض؛ فإنه يستقبل في صلاته الجهة التي فيها الكعبة، ولا يضر التيامن ولا التياسر اليسيران؛ لحديث: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"؛ صححه الترمذي، وروى عن غير واحد من الصحابة، وهذا بالنسبة لأهل المدينة وما وافق قبلتها مما سامتها، ولسائر البلدان مثل ذلك؛ فالذي في المشرق مثلاً تكون قبلته بين الجنوب والشمال والذي في المغرب كذلك. فلا تصح الصلاة بدون استقبال القبلة؛ لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} ؛ أي: في بر أو جو أو بحر أو مشرق أو مغرب؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 إلا العاجز عن استقبال الكعبة: كالمربوط أو المصلوب غير القبلة إذا كان موثقا لا يقدر عليه؛ فإنه يصلي حسب استطاعته، ولو لم يستقبل القبلة؛ لأن هذا الشرط يسقط عنه للعجز بإجماع أهل العلم، وكذا في حال اشتداد الحرب، والهارب من سيل أو نار أو سبع أو عدو، والمريض الذي لا يستطيع استقبال القبلة؛ فكل هؤلاء يصلون حسب حالهم، ولو إلى غير القبلة، وتصح صلاتهم؛ لأنه شرط عجز عنه؛ فسقط، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقال النبي: "وإذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم" وورد في الحديث المتفق عليه؛ أنهم عند اشتداد الخوف يصلون مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. ويستدل على القبلة بأشياء كثيرة؛ منها: الإخبار، فإذا أخبره بالقبلة مكلف ثقة عدل؛ عمل بخبره، إذا كان المخبر متيقنا القبلة؛ وكذا إذا وجد محاريب إسلامية؛ عمل بها، واستدل بها على القبلة؛ لأن دوام التوجه إلى جهة تلك المحاريب يدل على صحة اتجاهها، وكذلك يستدل على القبلة بالنجوم، قال الله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 خامسا: النية ومن شروط الصلاة النية، وهي لغة: القصد، وشرعا: العزم على فعل العبادة تقربا إلى الله تعالى. ومحلها القلب؛ فلا يحتاج إلى التلفظ بها، بل هو بدعة، لم يفعله رسول الله ولا أصحابه؛ فينوي بقلبه الصلاة التي يريدها؛ كالظهر والعصر؛ لحديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وينوي مع تكبيرة الإحرام؛ لتكون النية مقارنة للعبادة، وإن تقدمت بزمن يسير في الوقت؛ فلا بأس. ويشترك أن تستمر النية في جميع الصلاة، فإن قطعها في أثناء الصلاة؛ بطلت الصلاة ويجوز لمن أحرم في صلاة فريضة وهو مأموم أو منفرد أن يقلب صلاته نافلة إذا كان ذلك لغرض صحيح؛ مثل أن يحرم منفردًا، فيريد الصلاة مع الجماعة. واعلم أن بعض الناس قد أحدثوا في النية بدعة وتشددًا ما أنزل الله بهما من سلطان، وذلك بأن يقول أحدهم: نويت أن أصلي فرض كذا عدد كذا من الركعات أداء لله خلف هذه الإمام ... ونحو ذلك من الألفاظ، وهذا شيء لم يفعله رسول الله، فلم ينقل عنه أنه تلفظ بالنية لا سرًا ولا جهرًا، ولا أمر بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه، والجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه، لا سيما إذا آذى به أو كرره ... " إلى أن قال: "بعض المتأخرين خرج وجها من مذهب الشافعي في ذلك، وغلطه جماهير أصحاب الشافعي، قال الشافعي، قال الشافعي: إن الصلاة لا بد من النطق في أولها، فظن الغالط أنه أراد النطق في أولها، فظن الغالط أنه أراد النطق بالنية، وإنما أراد التكبير " اه كلام الشيخ. والتلفظ بالنية كما أنه بدعة؛ فقد يدخل في الرياء أيضا؛ لأن المطلوب إخلاص العمل لله وإخفاؤه؛ إلا ما ورد دليل بإظهاره؛ فالذي ينبغي للمسلم أن يكون وقافا عند حدود الشريعة، عاملاً بالسنن، تاركا للبدع، مهما كان نوعها، وممن كان مصدرها ... وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، والله تعالى يقول: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فالله أعلم بنيات القلوب ومقاصدها؛ فلا حاجة إلى التلفظ بها في الصلاة وفي جميع العبادات، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 باب في آداب المشي إلى الصلاة أيها المسلم، إنك بحاجة ماسة إلى معرفة الآداب المشروعة التي تسبق الصلاة؛ استعداداً لها؛ لأن الصلاة عبادة عظيمة ينبغي أن يسبقها استعداد وتهيؤ مناسب ليدخل المسلم في هذه العبادة على أحسن الهيئات: فإذا مشيت إلى المسجد لتؤدي الصلاة مع جماعة المسلمين؛ فليكن ذلك بسكينة ووقار، والسكينة: هي الطمأنينة والتأني في المشي، والوقار: الرزانة والحلم وغض البصر وخفض الصوت وقلة الالتفات. وقد ورد في "الصحيحين" عن النبي قال: "إذا أتيتم الصلاة " وفي لفظ: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم؛ فصلوا، وما فاتكم؛ فأتموا"، وروى الإمام مسلم؛ قال: "إن أحدكم إذا كان يعمد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الصلاة؛ فهو في صلاة". وليكن خروجك أيها المسلم إلى المسجد مبكراً؛ لتدرك تكبيرة الإحرام، وتحضر الصلاة مع الجماعة من أولها، وقارب بين خطاك في مشيك إلى الصلاة؛ لتكثر حسناتك؛ ففي "الصحيحين" عن النبي؛ أنه قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد؛ لم يخط خطوة؛ إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة". فإذا وصلت باب المسجد؛ فقدم رجلك اليمنى عند الدخول، وقل: بسم الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا أردت الخروج؛ قدم رجلك اليسرى، وقل الدعاء الذي قلته عند الدخول، وتقول بدل: "وافتح لي أبواب رحمتك": "وافتح لي أبواب فضلك"، وذلك لأن المسجد محل الرحمة، وخارج المسجد محل الرزق، وهو فضل من الله. فإذا دخلت المسجد؛ فلا تجلس حتى تصلي ركعتين تحية المسجد؛ لقوله: "إذا دخل المسجد؛ فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ثم تجلس تنتظر الصلاة، ولتكن حال جلوسك في المسجد لانتظار الصلاة مشتغلاً بذكر الله وتلاوة القرآن، وتجنب العبث؛ كتشبيك الأصابع وغيره؛ فقد ورد النهي عنه في حق منتظر الصلاة، قال: "إذا كان أحدكم في المسجد؛ فلا يشبكن؛ فإن التشبيك من الشيطان"؛ أما من كان في المسجد لغير انتظار الصلاة؛ فلا يمنع من تشبيك الأصابع؛ فقد ثبت أن النبي شبك أصابعه في المسجد بعد ما سلم من الصلاة. وفي حال انتظارك الصلاة في المسجد؛ لا تخض في أحاديث الدنيا؛ لأنه ورد في الحديث أن ذلك يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وقد ورد في الحديث الآخر أن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تستغفر له؛ فلا تفرط أيها المسلم في هذا الثواب وتضيعه بالعبث والاشتغال بالقيل والقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وإذا أقيمت الصلاة؛ فقم إليها عند قول المؤذن: "قد قامت الصلاة"؛ لأن النبي كان يفعل ذلك، وإن قمت عند بدء الإقامة؛ فلا بأس بذلك، هذا إذا كان المأموم يرى الإمام، فإن كان لا يراه حال الإقامة؛ فالأفضل أن لا يقوم حتى يراه. أيها المسلم، احرص أن تكون في الصف الأول؛ فقد قال النبي: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه؛ لاستهموا"، متفق عليه، وقال: "خير صفوف الرجال أولا"، واحرص على القرب من الإمام؛ فقد قال: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى"، هذا بالنسبة للرجل، وأما بالنسبة للمرأة؛ فالصف الأخير من صفوف النساء أفضل لها؛ لقوله: "وخير صفوف النساء آخرها"؛ أن ذلك أبعد لها عن رؤية الرجال. ويتأكد في حق الإمام والمصلين الاهتمام بتسوية الصفوف، قال: "سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"، متفق عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وفي الحديث الآخر: "لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"، وتسوية الصفوف هي تعديلها بمحاذاة المناكب والأكعب. ويتأكد في حق المصلين سد الفرج والتراص في الصفوف؛ لقوله: "سووا صفوفكم وتراصوا"، رواه البخاري، ومعناه: لاصقوا الصفوف حتى لا يكون بينكم فرج؛ فالمراصة: التصاق بعض المأمومين ببعض؛ ليتصل ما بينهم؛ وينسد الخلل؛ فلا تبقى فرجات للشيطان. وقد كان النبي يهتم بتسوية الصفوف وتراص المأمومين فيها اهنماما بالغا؛ مما يدل على أهمية ذلك وفائدته، وليس معنى رص الصفوف ما يفعله بعض الجهال اليوم من فحج رجليه حتى يضايق من بجانبه؛ لأن هذا العمل يوجد فرجا في الصفوف1، ويؤذي المصلين، ولا أصل له في الشرع؛ فينبغي للمسلمين الاهتمام بذلك، والحرص عليه؛ اقتداء بنبيهم، وإتماما لصلاتهم، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.   1 بين رجلي الفاحجين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 باب في أركان الصلاة وواجباتها وسننها أيها المسلم، إن الصلاة عبادة عظيمة، تشتمل على أقوال وأفعال مشروعة تتكون منها صفتها الكاملة؛ فهي كما يعرفها العلماء: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. وهذه الأقوال والأفعال ثلاثة أقسام: أركان، وواجبات، وسنن. فالأركان: إذا تُرك منها شيء؛ بطلت الصلاة، سواء كان تركه عمدًا أو سهوًا، أو بطلت الركعة التي تركه منها، وقامت التي تليها مقامها؛ كما يأتي بيانه. والواجبات: إذا ترك منها شيء عمدًا؛ بطلت الصلاة، وإن كان تركه سهوًا لم تبطل، ويجبره سجود السهو. والسنن: لا تبطل الصلاة بترك شيء منها لا عمدًا ولا سهوًا، لكن تنقص هيئة الصلاة بذلك. والنبي صلى صلاة كاملة بجميع أركانها وواجباتها وسننها، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فأركان الصلاة أربعة عشر: وهي كما يلي: الركن الأول: القيام في صلاة الفريضة، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وفي حديث عمران مرفوعا: "صل قائما، فإن لم تستطع؛ فقاعدًا، فإن لم تستطع؛ فعلى جنب"، فدلت الآية والحديث على وجوب القيام في الصلاة المفروضة مع القدرة عليه. فإن لم يقدر على القيام لمرض؛ صلى على حسب حاله قاعدًا أو على جنب، ومثل المريض الخائف والعريان، ومن يحتاج للجلوس أو الأضطجاع لمداواة تتطلب عدم القيام، وكذلك من كان لا يستطيع القيام لقصر سقف فوقه، ولا يستطيع الخروج، ويعذر أيضا بترك القيام من يصلي خلف الإمام الراتب الذي يعجز عن القيام، فإذا صلى قاعدًا؛ فإن من خلفه يصلون قعوداً؛ تبعا لإمامهم؛ لأنه لما مرض؛ صلى قاعدًا، وامر من خلفه بالقعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وصلاة النافلة يجوز أن تصلى قياما وقعودًا؛ فلا يجب القيام فيها؛ لثبوت أن النبي كان يصليها أحيانا جالسا من غير عذر. الركن الثاني: تكبيرة الإحرام في أولها: لقوله: "ثم استقبل القبلة وكبر"، وقوله: "تحريمها التكبير". ولم ينقل عنه أنه افتتح الصلاة بغير التكبير، وصيغتها أن يقول: الله أكبر، لا يجزيه غيرها؛ لأن هذا هو الوارد عن الرسول. الركن الثالث: قراءة الفاتحة، لحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وقراءتها ركن في كل ركعة، وصح عن النبي أنه كان يقرؤها في كل ركعة، وحينما علم المسيء في صلته كيف يصلي؛ أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 بقراءة الفاتحة. وهل هي واجبة في حق كل مصل، أو يختص وجوبها بالإمام والمنفرد؟ فيه خلاف بين العلماء، والأحوط أن المأموم يحرص على قراءتها في الصلوات التي لا يجهر فيها الإمام، وفي سكتات الإمام في الصلاة الجهرية. الركن الرابع: الركوع في كل ركعة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، وقد ثبت الركوع في سنة الرسول؛ فهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع. وهو في اللغة الانحناء، والركوع المجزئ من القائم هو أن ينحني حتى تبلغ كفاه ركبتيه إذا كان وسط الخلقة؛ أي: غير طويل اليدين أو قصيرهما، وقدر ذلك من غير وسط الخلقة، والمجزئ من الركوع في حق الجالس مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض. الركنان الخامس والسادس: الرفع من الركوع والاعتدال واقفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 كحالة قبله، لأنه داوم على فعله، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". الركن السابع: السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض، ويكون على الأعضاء السبعة، في كل ركعة مرتين؛ لقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا} ، وللأحاديث الواردة من أمر النبي به، وفعله له، وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". فالأعضاء السبعة هي: الجبهة، والأنف، واليدان، والركبتان، وأطراف القدمين؛ فلا بد أن يباشر كل واحد من هذه الأعضاء موضع السجود وحسب الإمكان، والسجود أعظم أركان الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأفضل الأحوال حال يكون العبد فيها أرب إلى الله، وهو السجود. الركن الثامن: الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين، لقول عائشة رضي الله عنها: "كان النبي إذا رفع رأسه من السجود؛ لم يسجد حتى يستوي جالساً" رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الركن التاسع: الطمأنينة في كل الأفعال المذكورة، وهي السكون، وغن قل، وقد دل الكتاب والسنة على أن من لا يطمئن في صلاته؛ لا يكون مصليا، ويؤمر بإعادتها. الركنان العاشر والحادي عشر: التشهد الأخير وجلسته، وهو أن يقول: "التحيات .... " إلخ، "اللهم صل على محمد"؛ فقد ثبت أنه لازمه، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد"؛ فقوله: "قبل أن يفرض علينا": دليل على فرضه. الركن الثاني عشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير: بأن يقول:"اللهم صلَّ على محمد"، وما زاد علي ذلك، فهو سنة الركن الثالث عشر: الترتيب بين الأركان: لأن النبي صلى عليه وسلم كان يصليها مرتبة، وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقد علمها للمسيء مرتبة ب"ثمَّ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الركن الرابع عشر: التسليم: لقوله صلى الله عليه وسلم: "وختامها التسليم"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وتحليلها التسليم"؛فالتسليم شرع للتحلل من الصلاة؛ فهو ختامها وعلامة انتهائها أيها القارئ الكريم، من ترك ركنا من هذه الأركان: فإن كان التحريمة؛ لم تنعقد الصلاة، وإن كان غير التحريمة، وقد تركه عمدًا؛ بطلت صلاته أيضا، وإن كان تركه سهوًا كركوع أو سجود، فإن ذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى؛ فإنه يعود ليأتي به وبما بعده من الركعة التي تركه فيها، وإن ذكره بعد شروعه في قراءة الركعة الأخرى؛ ألغيت الركعة التي تركه مها وقامت الركعة التي شرع في قراءتها مقامها، ويسجد للسهو، وإن علم الركن المتروك بعد السلام، فإن كان تشهدًا أخيرًا أو سلاما؛ أبى به، وسجد للسهو وسلم، وإن كان غيرهما كركوع أو سجود؛ فإنه يأتي بركعة كاملة بدل الركعة التي تركه منها، ويسجد للسهو، ما لم يطل الفصل، فإن طال الفصل، أو انتقض وضوؤه؛ أعاد الصلاة كاملة. فما أعظم هذه الصلاة وما تشمل من الأقوال والأفعال الجلية! وفق الله الجميع لإقامتها والمحافظة عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 واجبات الصلاة ثمانية: الأول: جميع التكبيرات التي في الصلاة غير تكبيرة الإحرام واجبة؛ فجميع تكبيرات الانتقال من قبيل الواجب لا من قبيل الركن. الثاني: التحميد؛ أي قول: "ربنا ولك الحمد"، لإمام والمأموم والمنفرد؛ لقوله: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا ولك الحمد". الرابع: قول: "سبحان ربي الأعلى"، في السجود، مرة واحدة، ويسن الزيادة إلى ثلاث هي أوفى الكمال، وإلى عشر وهي أعلاه. الخامس: قوله: "سبحان ربي الأعلى"، في السجود، مرة واحدة، وتسن الزيادة إلى ثلاث. السادس: قول: "رب اغفر لي"، بين السجدتين، مرة واحدة، وتسن الزيادة إلى ثلاث. السابع: التشهد الأول، وهو أن يقول: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، أو نحو ذلك مما ورد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الثامن: الجلوس للتشهد الأول لفعله ذلك، ومداومته عليه، مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ومن ترك واجبا من هذه الواجبات القولية والفعلية الثمانية متعمدًا، بطلت صلاته؛ لأنه متلاعب فيها، ومن تركه سهوًا أو جهلاً؛ فإنه يسجد للسهو؛ لأنه ترك واجبا يحرم تركه، فيجبره بسجود السهو. سنن الصلاة: والقسم الثالث أفعال وأقوال الصلاة غير ما ذكر في القسمين الأولين: سنة، لا تبطل الصلاة بتركه. وسنن الصلاة نوعان: النوع الأول: سنن الأقوال، وهي كثيرة؛ منها: الاستفتاح، والتعوذ، البسملة، والتأمين، والقراءة بعد الفاتحة بما تيسر من القرآن في صلاة الفجر وصلاة الجمعة والعيد وصلاة الكسوف والركعتين الأولين من المغرب والعشاء والظهر والعصر. ومن سنن الأقوال: قول: "ملء السماء وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد"؛ بعد قوله: "بنا ولك الحمد"،وما زاد على المرة الواحدة في تسبيح ركوع وسجود، والزيادة على المرة في قول: "رب اغفر لي"؛ بين الجدتين، وقوله: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 زاد على ذلك الدعاء في التشهد الأخير. والنوع الثاني: سنن الأفعال؛ كرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الهوي إلى الركوع، وعند الرفع منه، ووضع اليد اليمنى على اليسرى، ووضعهما على صدره أو تحت سرته في حال القيام، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومجافاة بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه في السجود، ومد ظهره في الركوع معتدلاً، وجعل رأسه حياله؛ فلا يخفضه ولا يرفعه، وتمكين جبهته وأنفه وبقية الأعضاء من موضع السجود، وغير ذلك من سنن الأقوال والأفعال مما هو مفصل في كتب الفقه. وهذه السنن لا يلزم الإتيان بها في الصلاة، بل من فعلها أوشيئا منها؛ فله زيادة أجر، ومن تركها أو بعضها؛ فلا حرج عليه؛ شأن سائر السنن. ومن هنا لا نرى مررًا لما يفعله بعض الشباب اليوم من التشدد ي أمر السنن في الصلاة، حتى ربما أدى بهم هذا التزيد في تطبيقها بصورة غريبة؛ كأن يحنى أحدهم رأسه في القيام إلى قريب من الركوع، ويجمع يديه على ثغرة نحره بدلاً من وضعها على صدره أو تحت سرته؛ كما وردت به السنة، وتشددهم في شأن السترة، حتى إن بعضهم يترك القيام في الصف لأداء النافلة، ويذهب إلى مكان آخر، يبحث فيه عن سترة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وكذا مد أحدهم رأسه إلى أمام ورجليه إلى خلف في السجود، حتى يصبح كالقوس أو قريبا من المنبطح، وكذا فحج أحدهم رجليه في حال القيام حتى يضيِّق على من بجانبه، وهذه صفات غريبة، ربما تؤدي إلى الغلو الممقوت. ونسأل الله لنا ولهم التوفيق للحق والعمل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 باب في صفة الصلاة بعد أن بينَّا أركان الصلاة وواجباتها وسننها القولية والفعلية نريد أن نذكر صفة الصلاة المشتملة على تلك الأركان والواجبات والسنن حسبما وردت به النصوص من صفة صلاة النبي؛ لتكون قدوة للمسلم؛ عملاً بقوله: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، وإليك سياق ذلك. كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة؛ استقبل القبلة، ورفع يديهن واستقبل ببطون أصابعها القبلة، وقال: "الله أكبر". ثم يمسك شماله بيمينه، ويضعهما على صدره. ثم يستفتح، ولمن كن يداوم على استفتاح واحد؛ فكل الاستفتاحات الثابتة عنه يجوز الاستفتاح بها، ومنها: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. ثم يقرأ فاتحة الكتاب، فإذا ختمها؛ قال: "آمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ثم يقرأ بعد ذلك سورة طويلة تارة وقصيرة تارة ومتوسطة تارة، وكان يطيل قراءة الفجر أكثر من سائر الصلوات، وكان يجهر بالقراءة في الفجر والأوليين من المغرب والعشاء ويسر القراءة فيما سوى ذلك، وكان يطيل الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية. ثم يرفع يديه كما رفعها في الاستفتاح، ثم يقول: "الله أكبر"، ويخر راكعا، ويضع يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع، ويمكنهما، ويمد ظهره، ويجعل رأسه ياله، لا يرفعه ولا يخفضه، ويقول: "سبحان ربي العظيم". ثم يرفع رأسه قائلاً: "سمع الله لمن حمده"، ويرفع يديه كما يرفعهما عند الركوع. فإذا اعتدل قائما؛ قال: "ربنا لك الحمد"، وكان يطيل هذا الاعتدال. ثم يكبر، ويخر ساجدًا، ولا يرفع يديه، فيسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه، ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة، ويعتدل في سجوده، ويمكن جبهته وأنفه من الأرض، ويعتمد على كفيه، ويرفع مرفقيه، ويجافي عضديه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، وكان يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى". ثم يرفع رأسه قائلاً: " الله أكبر"، ثم يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه، ثم يقول: "اللهم اغفر لي، وارحمن، واجبرني، واهدني، وارزقني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ثم يكبر ويسجد، ويصنع في الثانية مثل ما صنع في الأولى. ثم يرفع رأسه مكبرًا وينهض على صدور قدميه، معتمدًا على ركبتيه وفخذيه. فإذا استتم قائما؛ أخذ في القراءة، ويصلي الركعة الثانية كالأولى. ثم يجلس للتشهد الأول مفترشا كما يجلس بين السجدتين، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، ويضع إبهام يده اليمنى على إصبعه الوسطى كهيئة الحلقة، ويشير بإصبعه السبابة، وينظر إليها، ويقول: "التحيات لله والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وكان يخفف هذه الجلسة. ثم ينهض مكبرًا، فيصلي الثالثة والرابعة، ويخففهما عن الأوليين، ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب. ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا؛ يفرش رجله اليسرى، بأن يجعل طهرها على الأرض، وينصب رجله اليمنى، ويخرجهما عن يمينه، ويجعل أليتيه على الأرض. ثم يتشهد التشهد الخير، وهو التشهد الأول، ويزيد عليه: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ويستعيذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسح الدجال، ويدعوا بما ورد من الأدعية في الكتاب والسنة. ثم يسلم عن يمينه؛ فيقول: "السلام عليكم ورحمة الله"، وعن يساره كذلك؛ يبتدئ السلام متوجها إلى القبلة، وينهيه مع تمام الالتفات. فإذا سلم؛ قال: "أستغفر الله "ثلاثا "، اللهم إنك أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام"، ثم يذكر الله بما ورد. أيها المسلم، هذه جملة مختصرة في صفة الصلاة حسبما ورد في النصوص؛ فعليك أن تهتم بصلاتك غية الاهتمام، وأن تكون صلاتك متفقة حسب الإمكان مع صلاة النبي؛ فقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . ونسأل الله للجميع التوفيق والقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 باب في بيان ما يكره في الصلاة يكره في الصلاة الالتفات بوجهه وصدره؛ لقول النبي: "وهو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"، رواه البخاري؛ إلا أن يكون ذلك لحاجة؛ فلا بأس به؛ كما في حالة الخوف، أو كان لغرض صحيح. فإن استدار بجميع بدنه، أو استدبر الكعبة في غير حالة الخوف؛ بطلت صلاته؛ لتركه الاستقبال بلا عذر. فتبين بهذا أن الالتفات في الصلاة في حالة الخوف لابأس به؛ لأن ذلك من ضروريات القتال، وغن كان في غيرة حالة الخوف، فإن كان بالوجه والصدر فقط بقية دون بقية البدن، فإن كان لحاجة؛ فلا بأس، إن كان لغير حاجة؛ فهو مكروه، وإن كان بجميع البدن؛ بطلت صلاته. يكره في الصلاة رفع بصره إلى السماء؛ فقد أنكر النبي على من يفعل ذلك؛ فقال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 صلاتهم؟! "، واشتد قوله في ذلك، حتى قال: "لينتهن أو لتخطفن أبصارهم"، رواه البخاري. وقد سبق أنه ينبغي أن يكون نظره إلى موضع سجوده؛ فلا ينبغي له أن يسرح ببصره فيما أمامه من الجدران والنقوش والكتابات ونحو ذلك؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته. ويكره في الصلاة تغميض عينيه بغير حاجة؛ لأن ذلك من فعل اليهود، وإن كان التغميض لحاجة، كأن يكون أمامه ما يشوش عليه صلاته؛ كالزخارف والتزويق؛ فلا يكره إغماض عينيه عنه، هذا معنى ما ذكره ابن القيم رحمه الله. ويكره في الصلاة إقعاؤه في الجلوس، وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه؛ لقوله: "إذا رفعت رأسك من السجود؛ فلا تقع كما يقعي الكلب"، رواه ابن ماجه، وما جاء بمعناه من الأحاديث. ويكره في الصلاة أن يستند إلى جدار ونحوه حال القيام؛ إلا من حاجة؛ لأنه يزيل مشقة القيام، فإن فعله لحاجة كالمرض ونحوه؛ فلا بأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ويكره في الصلاة افتراش ذراعيه حال السجود؛ بأن يمدهما على الأرض مع إلصاقهما بها، قال: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب"، متفق عليه، وفي حديث آخر: "ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب". ويكره في الصلاة العبث وهو اللعب وعمل ما لا فائدة فيه بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك، منه مسح الأرض من غير حاجة. ويكره في الصلاة التحضر، وهو وضع اليد على الخاصرة، وهي الشاكلة ما فوق رأس الورك من المستدق، وذلك لأن التحضر فعل الكفار والمتكبرين، وقد نهينا عن التشبه بهم، وقد ثبت في الحديث المتفق عليه النهي عن أن يصلي الرجل متخصرًا. ويكره في الصلاة فرقعة أصابعه وتشبيكها. ويكره أن يصلي وبين يديه ما يشغله ويلهيه؛ لأن ذلك يشغله عن إكمال صلاته. وتكره الصلاة في مكان فيه تصاوير؛ لما فيه من التشبه بعبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الأصنام، سواء كانت الصورة منصوبة أو غير منصوبة على الصحيح. ويكره أن يدخل في الصلاة وهو مشوش الفكر بسبب وجود شيء يضايقه؛ كاحتباس بول، أو غائط، أو ريح، أو حالة برد أو حر شديدين، أو جوع أو عطش مفرطين؛ لأن ذلك يمنع الخشوع. وكذا يكره دخوله في الصلاة بعد حضور طعام يشتهيه؛ لقوله: "لا صلاة يحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان"، رواه مسلم. وذلك كله رعاية لحق الله تعالى ليدخل العبد في العبادة بقلب حاضر مقبل على ربه. ويكره للمسلم أن يخص جبهته بما يسجد عليه؛ لأن ذلك من شعار الرافضة؛ ففي ذلك الفعل تشبه بهم. ويكره في الصلاة مسح جبهته وأنفه مما علق بهما من أثر السجود، ولا بأس بمسح ذلك بعد الفراغ من الصلاة. ويكره في الصلاة العبث بمسح لحيته وكف ثوبه وتنظيف أنفه ونحو ذلك؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته. والمطلوب من المسلم أن يتجه إلى صلاته بكليته، ولا يتشاغل عنها بما ليس منها، يقول الله سبحانه تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فالمطلوب إقامة الصلاة بحضور القلب والخشوع، والإتيان بما يشرع لهما، وترك ما ينافيهما أو ينقصهما من الأقوال والأفعال؛ لتكون صلاة صحيحة مبرئة لذمة فاعلها، ولتكون صلاة في صورتها وحقيقتها، لا في صورتها فقط. وفق الله الجميع لما فيه الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 باب في بيان ما يستحب أو يباح فعله في الصلاة يسن للمصلي رد المار من أمامه قريبا منه؛ لقول النبي: "إذا كان أحدكم يصلي؛ فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى؛ فليقاتله؛ فإن معه القرين"، رواه مسلم. لكن إذا كان أمام المصلي سترة "أي: شيء مرتفع من جدار أو نحوه "؛ فلا بأس أن يمر من ورائها، وكذا إذا احتاج إلى المرور لضيق المكان؛ فيمر، ولا يرده المصلي، وكذا إذا كان يصلي في الحرم؛ فلا يمنع المرور بين يديه؛ لأن النبي كان يصلي بمكة والناس يمرون بين يديه وليس دونهم سترة، رواه الخمسة. واتخاذ السترة سنة في حق المنفرد والإمام؛ لقوله: "إذا صلى أحدكم؛ فليصل إلى سترة، وليدن منها"، رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد، وأما المأمون؛ فسترته سترة إمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وليس اتخاذ السترة بواجب؛ لحديث ابن عباس؛ أنه صلى في فضاء ليس بين يديه شيء، رواه أحمد وأبو داود. وينبغي أن تكون السترة قائمة كمؤخرة الرحل؛ أي: قدر ذراع، سواء كانت دقيقة أو عريضة. والحكمة في اتخاذها؛ لتمنع المار بين يديه، ولتمنع المصلي من الانشغال بما وراءها. وإن كان في صحراء؛ صلى إلى شيء شاخص من شجر أو حجر أو عصا، فإن لم يمكن غرز العصا في الأرض؛ وضعه بين يديه عرضا. وإذا التبست القراءة على الإمام؛ فللمأموم أن يسمعه القراءة الصحيحة. ويباح للمصلي لبس الثوب ونحوه، وحمل شيء ووضعه، وفتح الباب، وله قتل حية وعقرب؛ لأنه أمر بقتل الأسودين في الصلاة؛ الحية والعقرب، رواه أبو داود والترمذي وصححه، لكن؛ لا ينبغي له أن يكثر من الأفعال المباحة في الصلاة إلا لضرورة، فإن أكثر منها من غير ضرورة، وكانت متوالية؛ أبطلت الصلاة؛ لأن ذلك مما ينافي الصلاة ويشغل عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وإذا عرض للمصلي أمر؛ كاستئذان علين، أو سهو أمامه، أو خاف على إنسان الوقوع في هلكة؛ فله التنبيه على ذلك؛ بأن يسبح الرجل وتصفق المرأة؛ لقوله: "إذا نابكم شيء في صلاتكم؛ فلتسبح الرجال، ولتصفق النساء"، متفق عليه. ولا يكره السلام على المصلي إذا كان يعرف كيف يرد، وللمصلي حينئذ رد السلام في حال الصلاة بالإشارة لا باللفظ؛ فلا يقول: وعليكم السلام، فإن رده باللفظ؛ بطلت به صلاته؛ لأنه خطاب آدمي، وله تأخير الرد إلى ما بعد السلام. ويجوز للمصلي أن يقرأ عدة سور في ركعة واحدة؛ لما في "الصحيح": أن النبي قرأ في ركعة من قيامه بالبقرة وآل عمران والنساء، ويجوز له أن يكرر قراءة السورة في ركعتين، وأن يقسم السورة الواحدة بين ركعتين، ويجوز له قراءة أواخر السور وأوسطها؛ لما روى أحمد ومسلم عن ابن عباس؛ أن النبي كان يقرأ في الأولى من ركعتي الفجر قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية، وفي الثانية الآية في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، ولعموم قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه} ، لكن؛ لا ينبغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الإكثار من ذلك، بل يفعل أحيانا. وللمصلي أن يستعيذ عند قراءة آية فيها ذكر عذاب، وأن يسأل الله عند قراءة آيه فيه ذكر رحمه، وله أن يصلي على النبي عند قراءة ذكره؛ لتأكد الصلاة عليه عند ذكره. هذه جملة من الأمور التي يستحب لك أو يباح لك فعلها حال الصلاة، عرضناها عليك رجاء أن تستفيد منها وتعمل بها، حتى تكون على بصيرة من دينك، ونسأل الله لنا ولك المزيد من العلم النافع والعمل الصالح. وليعلم أن الصلاة عبادة عظيمة، لا يجوز أن يُفعل أو يُقال فيها إلا في حدود الشرع الوارد عن الرسول؛ فعليك بالاهتمام بها ومعرفة ما يكملها وما ينقصها، حتى تؤديها على الوجه الأكمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 باب في السجود للسهو لما كان الإنسان عرضة للنسيان والذهول، وكان الشيطان يحرص على أن يشوش عليه صلاته ببعث الأفكار وإشغال باله بها عن صلاته، ربما ترتب على ذلك نقص في الصلاة أو زيادة فيها بدافع النسيان والذهول؛ فشرع الله للمصلي أن يسجد في آخر صلاته؛ تفاديا لذلك، وإرغاما للشيطان، وجبرًا للنقصان، وإرضاء للرحمن، وهذا السجود هو ما يسميه العلماء سجود السهو والسهو هو النسيان، وقد سهى النبي في الصلاة، وكان سهو من تمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو؛ فقد حفظ عنه وقائع السهو في الصلاة، سلم في اثنتين فسجد، وسلم من ثلاث فسجد، وقام في اثنتين ولم يتشهد فسجد، وغير ذلك، وقال: "إذا سها أحدكم؛ فليسجد" سجدتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ويشرع سجود السهو لأحد ثلاث أمور. أولاً: إذا زاد في الصلاة سهوًا. ثانيا: إذا نقص منها سهوًا. ثالثا: إذا حصل عنده شك في زيادة أو نقص. فيسجد لأحد هذه الثلاثة حسبما ورد به الدليل، لا لكل زيادة أو نقص أو شك. ويشرع سجود السهو إذا وجد سببه، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة؛ لعموم الأدلة. فالحالة الأولى من الأحوال التي يشرع لها سجود السهو: هي حالة الزيادة في الصلاة، وهي إما زيادة أفعال أو زيادة أقوال: فزيادة الأفعال إذا كانت زيادة من جنس الصلاة؛ كالقيام في محل القعود، والقعود في محل القيام، أو زاد ركوعا أو سجودًا، فإذا فعل ذلك سهوًا؛ فإنه يسجد للسهو؛ لقوله في حديث ابن مسعود: "فإذا زاد الرجل أو نقص في صلاته؛ فليسجد سجدتين"، رواه مسلم، ولأن الزيادة في الصلاة نقص من هيئتها في المعنى، فشرع السجود لها؛ لينجبر النقص. وكذا لو زاد ركعة سهوًا، ولم يعلم إلا بعد فراغه منها؛ فإنه يسجد للسهو، أما إن علم في أثناء الركعة الزائدة؛ فإنه يجلس في الحال، ويتشهد إن لم يكن تشهد، ثم يسجد للسهو ويسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وإن كان إماما؛ لزم من علم من المأمومين بالزيادة تنبيهه بأن يسبح الرجال وتصفق النساء، ويلزم الإمام حينئذ الرجوع إلى تنبيههم إذا لم يجزم بصواب نفسه؛ لأنه رجوع إلى الصواب، وكذا يلزمهم تنبيهه على النقص. وأما زيادة الأقوال؛ كالقراءة في الركوع والسجود، وقراءة سورة في الركعتين الأخيرتين من الرباعية والثالثة من المغرب، فإذا فعل ذلك سهوًا استحب له السجود للسهو. وأما الحالة الثانية، وهي ما إذا نقص من الصلاة سهوًا بأن ترك منها شيئا: فإن كان المتروك ركنا، وكان هذا الركن تكبيرة الإحرام؛ لم تنعقد صلاته ولا يغني عنه سجود السهو. وإن كان ركنا غير تكبيرة الإحرام؛ كركوع أو سجود، وذكر هذا المتروك قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى؛ فإنه يعود وجوبا، فيأتي به وبما بعده، وإن ذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى؛ بطلت الركعة التي تركه منها، وقامت الركعة التي تليها مقامها؛ لأنه ترك ركنا لم يمكنه استدراكه؛ لتلبسه بالركعة التي بعدها. وإن لم يعلم بالركن المتروك إلا بعد السلام؛ فإنه يعتبره كترك ركعة كاملة، فإن لم يطل الفصل، وهو باق على طهارته؛ أتى بركعة كاملة، وسجد للسهو، وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وإن طال الفصل، أو انتقض وضوؤه؛ استأنف الصلاة من جديد؛ إلا أن يكون المتروك تشهدًا أخيرًا أو سلاما؛ فإنه لا يعتبر كترك ركعة كاملة، بل يأتي به ويسجد ويسلم. وإن نسي التشهد الأول، وقام إلى الركعة الثالثة؛ لزمه الرجوع للإتيان بالتشهد؛ ما لم يستتم قائما، كره رجوعه؛ لأنه تلبس بركن آخر؛ فلا يقطعه. وإن ترك التسبيح في الركوع أو السجود؛ لزمه الرجوع للإتيان به؛ ما لم يعتدل قائما في الركعة الأخرى، ويسجد للسهو في كل هذه الحالات. وأما الحالة الثالثة وهي حالة الشك في الصلاة: فإن شك في عدد الركعات؛ بأن شك أصلى ثنتين أم ثلاثا مثلاً؛ فإنه يبني على الأقل؛ لأنه المتيقن، ثم يسجد للسهو قبل السلام؛ لأن الأصل عدم ما شك فيه، ولحديث عبد الرحمن بن عوف: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين؛ فليجعلها واحدة، أو لم يدر ثنتين أو ثلاثا؛ فليجعلها اثنتين"، رواه أحمد ومسلم والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وإن شك المأموم أدخل مع الإمام في الأولى أو في الثانيه؛ جعله في الثانية، أو شك هل أدرك الركعة أو لا؛ لم يعتد بتلك الركعة، ويسجد للسهو. وإن شك في ترك ركن؛ فكما لو تركه، فيأتي به وبما بعده على التفصيل السابق. وإن شك في ترك واجب؛ لم يعتبر هذا الشك، ولا يسجد للسهو، وكذا لو شك في زيادة؛ لم يلتفت إلى هذا الشك؛ لأن الأصل عدم الزيادة. هذه جمل من أحكام سجود السهو، ومن أراد الزيادة؛ فليراجع كتب الأحكام، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 والصحيح أنها سنة مؤكدة، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهي شكر لله على تجدد نعمته على الوالدين بولادة المولود، وفيها تقرب إلى الله تعالى، وتصدق على الفقراء، وفداء للمولود. ومقدار ما يذبح عن الذكر شاتان متقاربتان سنا وشبها، وعن الأنثى شاة واحدة، لحديث أم كرز الكعبية؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة"، رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث عائشة. والحكمة في الفرق بين الذكر والأنثى في مقدار العقيقة؛ أنها على النصف من أحكام الذكر، والنعمة على الوالد بالذكر أتم، والسرور والفرحة به أكمل، فكان الشكر عليه أكثر. ووقت ذبح العقيقة ينبغي أن يكون في اليوم السابع من ولادته، ولو ذبحها قبل اليوم السابع أو بعده؛ جاز. والأفضل أن يسمى في هذا اليوم؛ ففي "السنن" وغيرها: "يذبح عنه يوم سابعه ويسمى"، ومن سماه في يوم ولادته؛ فلا بأس، بل هو عند بعض العلماء أرجح من اليوم السابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 باب في الذكر بعد الصلاة قال الله سبحانه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} . وخصَّص سبحانه الأمر بذكره بعد أداء العبادات: فأمر بذكره بعد الفراغ من الصلوات؛ فقال سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} ، وقال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وأمر بذكره بد إكمال صيام رمضان، فقال سبحانه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ْ} . وأمر بذكره بعد قضاء مناسك الحج؛ فقال سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وذلك والله أعلم جبرُ لما يحصل في العبادة من النقص والوساوس، ولإشعار الإنسان أنه مطلوب منه مواصلة الذكر والعبادة؛ لئلا يظن أنه إذا فرغ من العبادة؛ فقد أدى ما عليه. والذكر المشروع بعد صلاة الفريضة يجب أن يكون على الصفة الواردة عن النبي، لا على الصفة المحدثة المبتدعة التي يفعلها الصوفية المبتدعة. ففي "صحيح مسلم" عن ثوبان رضي الله عنه؛ قال: كان رسول الله: إذا انصرف في صلاته؛ استغفر الله ثلاثا، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام" وفي "الصحيحين " عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه؛ أن رسول الله كان إذا فرغ من الصلاة؛ قال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وفي "صحيح مسلم " عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما؛ أن رسول الله كان يهلل دبر كل صلاة حين يسلم بهؤلاء الكلمات: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون". وفي "السنن " من حديث أبي ذر: أن رسول الله قال: "من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويمت، وهو على كل شيء قدير؛ عشر مرات؛ كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم؛ إلا الشرك بالله"، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح "، وورد أن هذه التهليلات العشر تقال بعد صلاة المغرب أيضا في حديث أم سلمة عند أحمد، وحديث أبي أيوب الأنصاري في "صحيح ابن حبان ". ويقول بعد المغرب والفجر أيضا: "رب أجرني من النار"؛ سبع مرات؛ لما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ثم يسبح الله بعد كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ويحمده ثلاثا وثلاثين، ويكبره ثلاثا وثلاثين، ويقول تمام المئة: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"؛ لما روى مسلم أن رسول الله قال: "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين؛ فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر". ثم يقرأ آية الكرسي، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ؛ لما رواه النسائي والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه؛ قال ك قال: رسول الله: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة؛ لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت"؛ يعني: لم يكن بينه وبين دخول الجنة إلا الموت، وفي حديث آخر: "كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى"، وفي "السنن " عن عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ قال: "أمرني رسول الله أن اقرأ المعوذتين دبر كل صلاة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 لقد دلت هذه الأحاديث الشريفة على مشروعية هذه الأذكار بعد الصلوات المكتوبة، وعلى ما يحصل عليه من قالها من الأجر والثواب؛ فينبغي لنا المحافظة عليها، والإتيان بها؛ على الصفة الواردة عن النبي، وأن تأتي بها بعد السلام من الصلاة مباشرة، قبل أن نقوم من المكان الذي صلينا فيه، ونرتبها على هذا الترتيب: فإذا سلمنا من الصلاة؛ نستغفر الله ثلاثا. ثم نقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". ثم نقول: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد"؛: أي لا ينفع الغنيَّ منك عناهُ، وإنما ينفعه العمل الصالح. ثم نقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". ثم نسبح الله ثلاثا وثلاثين، ونحمده ثلاثا وثلاثين، ونكبره ثلاثا وثلاثين، ونقول تمتم المئة: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". وبعد صلاة المغرب وصلاة الفجر نأتي بالتهليلات العشر، ونقول: "رب أجرني من النار"؛ سبع مرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ثم بعد أن نفرغ من هذه الأذكار على هذا الترتيب؛ نقرأ آية الكرسي، وسور: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، والمعوذتين. ويستحب تكرار قراءة هذه السور بعد صلاة المغرب وصلاة الفجر ثلاث مرات. ويستحب الجهر بالتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة، لكن لا يكون بصوت جماعي، وإنما يرفع به كل واحد صوته منفراً. ويستعين على ضبط عدد التهليلات وعدد التسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة، لكن لا يكون بصوت جماعي، وإنما يرفع به كل واحد صوته منفردًا. ويستعين على ضبط عدد التهليلات وعدد التسبيح والتحميد والتكبير بعقد الأصابع؛ لأن الأصابع مسؤولات مستنطقات يوم القيامة. ويباح استعمال السبحة ليعد بها الأذكار والتسبيحات، من غير اعتقاد أن فيها فضيلة خاصة، وكرهها بعض العلماء، وإن اعتقد أن لها فضيلة؛ فاتخاذها بدعة، وذلك مثل السبح التي يتخذها الصوفية، ويعلقونها في أعناقهم، أو يجعلونها كالأسورة في أيديهم، وهذا مع كونه بدعة؛ فإن فيه رياء وتكلفا. ثم بعد الفراغ من هذه الأذكار يدعو سراً بما شاء؛ فإن الدعاء عقب هذه العبادة وهذه الأذكار العظيمة أحرى بالإجابة، ولا يرفع يديه بالدعاء بعد الفريضة كما يفعل بعض الناس؛ فإن ذلك بدعة، وإنما يفعل هذا بعد النافلة أحيانا، ولا يجهر بالدعاء، بل يخفيه؛ لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص والخشوع، وأبعد عن الرياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وأما يفعله بعض الناس في بعض البلاد من الدعاء الجماعي بعد الصلوات بأصوات مرتفعة مع رفع الأيدي، أو يدعو الإمام والحاضرون يؤمنون رافعي أيديهم؛ فهذا العمل بدعة منكرة؛ لأنه لم ينقل عن النبي أنه كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الفراغ من الصلاة على هذه الصفة؛ لا في الفجر، ولا في العصر ولا غيرهما من الصلوات، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من نقل ذلك عن الإمام الشافعي؛ فقد غلط عليه، فيجب التقيد بما جاء عن النبي في ذلك وفي غيره؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، ويقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 باب في صلاة التطوع اعلموا أن ربكم سبحانه تعالى شرع لكم بجانب فرائض الصلوات التقرب إليه بنوافل الصلوات؛ فالتطوع بالصلاة من أفضل القربات بعد الجهاد في سبيل الله وطلب العلم؛ لمداومة النبي على التقرب إلى ربه بنوافل الصلوات، وقال عليه الصلاة والسلام: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة". والصلاة تجمع أنواعا من العبادة؛ كالقراءة، والركوع، والسجود، والدعاء، والذل، والخضوع، ومناجاة الرب سبحانه وتعالى، والتكبير، والتسبيح، والصلاة على النبي. وصلوات التطوع على نوعين: النوع الأول: صلوات مؤقتة بأوقات معينة، وتسمى بالنوافل المقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والنوع الثاني: صلوات غير مؤقتة بأوقات معينة، وتسمى بالنوافل المطلقة. والنوع الأول، أنواع متعددة، بعضها آكد من بعض، وآكد أنواعة صلاة الكسوف، ثم صلاة الترويح، ثم صلاة الوتر، وكل من هذه الصلوات سيأتي عنه حديث خاص إن شاء الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 باب في صلاة الوتر وأحكامها ولنبدأ الآن بالحديث عن صلاة الوتر لأهميته، فقد قيل: إنه آكد التطوع، وذهب بعض العلماء إلى وجوبه، وما اختلف وجوبه؛ فهو آكد من غيره مما لم يختلف في عدم وجوبه. اتفق المسلمون على مشروعية الوتر، فلا ينبغي تركه، ومن أصر على تركه؛ فإنه ترد شهادته: قال الإمام أحمد: "من ترك الوتر عمداً؛ فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل شهادته"، وروى أحمد وأبو داود مرفوعا: "من لم يوتر؛ فليس منا". والوتر: اسم للركعة المنفصلة عما قبلها، ولثلاث الركعات وللخمس والسبع والتسع والإحدى عشرة "إذا كانت هذه الركعات متصلة بسلام واحد"، فإذا كانت هذه الركعات بسلامين فأكثر؛ فالوتر اسم للركعة المنفصلة وحدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ووقت الوتر يبدأ من بعد صلاة العشاء الآخرة ويستمر إلى طلوع الفجر؛ ففي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: "من كل الليل أوتر رسول الله؛ من أوله، وأوسطه، وآخره، وانتهى وتره إلى السحر". وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن جميع الليل وقت للوتر؛ إلا ما قبل صلاة العشاء، فمن كان يثق من قيامه في آخر الليل؛ فتأخير الوتر إلى آخر الليل أفضل، ومن كان لا يثق من قيامه في آخر الليل؛ فإنه يوتر قبل أن ينام، بهذا أوصى النبي؛ فقد روى مسلم من حديث جابر عن النبي: "أيكم خاف ألا يقوم من آخر الليل؛ فليوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيامه من آخر الليل؛ فليوتر من آخره؛ فإن قراءة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل". وأقل الوتر ركعة واحدة؛ لورود الأحاديث بذلك، وثبوته عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، لكن الأفضل والأحسن أن تكون مسبوقة بالشفع. وأكثر الوتر إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، يصليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ركعتين ركعتين، ثم يصلي ركعة واحدة يوتر بها؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة "، رواه مسلم، وفي لفظ: "يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة". وله أن يسردها، ثم يجلس بعد العاشرة، ويتشهد ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالحادية عشرة، ويتشهد ويسلم. وله أن يسردها، ولا يجلس إلا بعد الحادية عشرة، ويتشهد ويسلم. والصفة الأولى أفضل. وله أن يوتر بتسع ركعات، يسرد ثمانيا، ثم يجلس عقب الركعة الثامنة، ويتشهد التشهد الأول ولا يسلم، ثم يقوم، فيأتي بالركعة التاسعة، ويتشهد التشهد الأخير ويسلم. وله أن يوتر بسبع ركعات أو بخمس ركعات، لا يجلس إلا في آخر، ويتشهد ويسلم؛ لقول أم سلمة رضي الله عنها: "كان رسول الله يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام ". وله أن يوتر بثلاث ركعات، يصلي ركعتين ويسلم، ثم يصلي الركعة الثالثة وحدها، ويستحب أن يقرأ في الأولى ب {سَبَّحَ} ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، والثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقد تبين مما مر أن لك أن الوتر: بإحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة، وبتسع ركعات، وبخمس ركعات، وبثلاث ركعات، وبركعة واحدة؛ فأعلى الكمال إحدى عشرة، وأدنى الكمال ثلاث ركعات، والمجزئ ركعة واحدة. ويستحب لك أن تقنت في الركوع في الوتر؛ بأن تدعو الله سبحانه، فترفع يديك، وتقول: "اللهم اهدني فيمن هديت ... " إلخ الدعاء الوارد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 باب في صلاة التراويح وأحكامها مما شرعة نبي الهدى محمد في شهر رمضان المبارك صلاة التراويح، وهي سنة مؤكدة، سميت تراويح لأن الناس كانوا يستريحون فيها بين كل أربع ركعات 1؛ لأنهم يطيلون الصلاة. وفعلها جماعة في المسجد؛ فقد صلاها النبي بأصحابه في المسجد ليالي، ثم تأخر عن الصلاة بهم؛ خوفا من أن تفرض عليهم؛ كما ثبت في "الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى في المسجد ذات ليلة، وصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، لم يخرج إليهم،   1 أي: بين كل تسليمتين؛ لأن التراويح مثنى مثنى، وصلاة التهجد كذلك، وقد يغلط بعض أئمة المساجد الذين لا فقه لديهم، فلا يسلم بين كل ركعتين في التراويح أو التهجد، وهذا خلاف السنة، وقد نص العلماء على أن من قام إلى ثالثة في التراويح أو في التهجد؛ فهو كمن قام إلى ثالثة في فجر؛ أي: تبطل صلاته، وللشيخ عبد العزيز بن باز جواب يرد على هؤلاء ويبين خطأهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فلما أصبح؛ قال: "قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم"، وذلك في رمضان، وفعلها صحابته من بعده، وتلقتها أمته بالقبول، وقال: "من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة"، وقال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا؛ غفر له من ما تقدم من ذنبه"، متفق عليه. فهي سنة ثابته، لا ينبغي للمسلم تركها. أما عدد ركعاتها؛ فلم يثبت فيه شيء عن النبي، والأمر في ذلك واسع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "له أن يصلي عشرين ركعة، كما هو مشهور من مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصلي ستا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وثلاثين، كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة، وكل حسن؛ فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام وقصره. وعمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أُبي؛ صلى بهم عشرين ركعة، والصحابة رضي الله عنهم منهم من يقل ومنهم من يكثر، والحد المحدود لا نص عليه من الشارع. وكثير من الأئمة "أي: أئمة المساجد " في التراويح يصلون صلاة لا يعقلونها، ولا يطمئنون في الركوع ولا في السجود، والطمأنينة ركن، والمطلوب في الصلاة حضور القلب بين يدي الله تعالى، واتعاظه بكلام الله إذ يتلى، وهذا لا يحصل في العجلة المكروهة، وصلاة عشر ركعات مع طول القراءة والطمأنينة أولى من عشرين ركعة مع العجلة والمكروهة؛ لأن لب الصلاة وروحها هو إقبال القلب على الله عز وجل، ورب قليل خير من كثير، وكذلك ترتيل القراءة أفضل من السرعة، والسرعة المباحة هي التي لا يحصل معها إسقاط شيء من الحروف، فإن أسقط بعض الحروف لأجل السرعة؛ لم يجز ذلك، وينهى عنه، وأما إذا قرا قراءة بينة ينتفع بها المصلون خلفه؛ فحسن. وقد ذم الله الذين يقرؤون القرآن بلا فهم معناه، فقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِي} ؛ أي: تلاوة بلا فهم، والمراد من إنزال القرآن فهم معانيه والعمل به لا مجرد التلاوة انتهى كلامه رحمه الله. وبعض أئمة المساجد لا يصلون التراويح على الوجه المشروع؛ لأنهم يسرعون في القراءة سرعة تخل بأداء القرآن على الوجه الصحيح، ولا يطمئنون في القيام والركوع والسجود، والطمأنينة ركن من أركان الصلاة، ويأخذون بالعدد الأقل من الركعات. فيجمعون بين تقليل الركعات وتخفيف الصلاة وإساءة القراءة، وهذا تلاعب بالعبادة1، فيجب عليهم أن يتقوا الله ويحسنوا صلاتهم، ولا يحرموا أنفسهم ومن خلفهم أداء التراويح على الوجه المشروع2   1 وبعضهم يخرج صوته بالقراءة خارج المسجد بواسطة الميكروفون، فيشوش على من حوله من المساجد، وهذا لا يجوز. قال شيخ شيخ الإسلام ابن تيمية: (من كان يقرأ القرآن والناس يصلون تطوعًا؛ فليس له أن يجهر جهرًا يشغلهم به؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يصلون في المسجد، فقال: "يا أيها الناس كلكم يناجي ربه؛ فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة" انتهى. (مجموع الفتاوى) (23/61 ـ 64. 2 وبعض أئمة المساجد يسرع في القراءة ويطيلها من أجل أن يختم القرآن في أول العشر الأواخر وأوسطها، فإذا ختمه؛ ترك مسجده، وسافر للعمرة، وخلف مكانه من قد لا يصلح للإمامه، وهذا خطأ عظيم ونقص كبير وتضييع وكل إليه من القيام بإمامة المصلين إلى آخر الشهر؛ فقيامه بذلك واجب عليه، والعمرة مستحبة؛ فكيف ترك واجبًا عليه لفعل مستحب، وإن بقاءه في مسجدع لعمله أفضل له من العمرة. وبعضهم إذا ختم القرآن؛ خفف الصلاة، وقلل القراءة في بقية ليالي الشهر التي هي ليالي الإعتاق من النار، وكأن هؤلاء يرون أن المقصود من التراويح والتهجد هو ختم القرآن لا إحياء هذه الليالي المباركة بالقيام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلبًا لفضائلها، وهذا جهل منهم، وتلاعب بالعبادة، نرجو الله أن يردهم إلى الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وفق الله الجميع لما فيه الصلاح والفلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 باب في السنن الراتبة مع الفرائض اعلموا أيها الإخوان أن السنن الراتبة يتأكد فعلها ويكره تركها، ومن داوم على تركها؛ سقطت عدالته عند بعض الأئمة، وأثم بسبب ذلك؛ لأن المداومة على تركها تدل على قلة دينه، وعدم مبالاته. وجملة السنن الرواتب عشر ركعات، وبيانها كالتالي: ركعتان قبل الظهر، وعند جمع من العلماء أربع ركعات قبل الظهر؛ فعليه تكون جملة السنن الرواتب اثنتي عشرة ركعة. وركعتان بعد الظهر. وركعتان بعد المغرب. وركعتان بعد العشاء. وركعتان قبل صلاة الفجر بعد طلوع الفجر. والدليل على هذه الرواتب بهذا التفصيل المذكور هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: "حفظت من رسول الله عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي فيها أحد، حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر؛ صلى ركعتين"، متفق عليه. وفي "صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله عنها: "كان يصلي قبل الظهر أربعا في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع بيتي فيصلي ركعتين". فيؤخذ من هذا أن فعل الراتبة في البيت أفضل من فعلها في المسجد، وذلك لمصالح تترتب على ذلك؛ منها: البعد عن الرياء والإعجاب ولإخفاء العمل عن الناس، ومنها: أن ذلك سبب لتمام الخشوع والإخلاص، ومنها: عمارة البيت بذكر الله والصلاة التي بسببها تنزل الرحمة على أهل البيت ويبتعد عن الشيطان، وقد قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبوراً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وآكد هذه الرواتب ركعتان الفجر؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "لم يكن النبي على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر"، متفق عليه، وقال: "ركعتان الفجر خير من الدنيا وما فيها"، ولهذا كان النبي يحافظ عليهما وعلى الوتر في الحضر والسفر. وأما ما عدا ركعتي الفجر والوتر من الرواتب؛ فلم ينقل عن النبي أنه صلى راتبة في السفر غير سنة الفجر والوتر. وقال ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن سنة الظهر في السفر؛ قال: "لو كنت مسبحا؛ لأتممت ". وقال ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه في سفره الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها؛ إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 والسنة تخفيف ركعتي الفجر؛ لما في "الصحيحين " وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، ويقرأ في الركعة الأولى من سنة الفجر بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ويقرأ في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية التي في سورة البقرة، ويقرأ في الركعة الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} الآية التي في سورة آل عمران. وكذلك يقرأ في الركعتين بعد المغرب بالكافرون والإخلاص؛ لما روى البيهقي والترمذي وغيرهما عن ابن مسعود؛ قال: "ما أحصي ما سمعت من رسول الله يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وإذا فاتك شيء من هذه السنن الرواتب؛ فإنه يسن لك قضاؤه، وكذا إذا فاتك الوتر من الليل؛ فإنه يسن لك قضاؤه في النهار؛ لأنه قضى ركعتي الفجر مع الفجر حين نام عنهما، وقضى الركعتين اللتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بعد الظهر بعد العصر، حين شغل عنهما ويقاس الباقي من الرواتب في مشروعية قضائه إذا فات على ما فيه النص، وقال: "من نام عن الوتر أو نسيه؛ فليصله إذا أصبح أو ذكر"، رواه الترمذي وأبو داود. ويقضى الوتر مع شفعه؛ لما في "الصحيح " عن عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلمإذ منعه من قيام الليل نوم أو وجع؛ صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة". أيها المسلم، حافظ على هذه السنن الرواتب؛ لأن في ذلك اقتداء بالنبي، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . وفي المحافظة على هذه السنن الرواتب أيضا جبر لما يحصل في صلاة الفريضة من النقص والخلل، والإنسان معرض للنقص والخلل، وهو بحاجة ما يجبر به نقصه؛ فلا تفرط بهذه الرواتب أيها المسلم؛ فإنها من زيادة الخير الذي تجده عند ربك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وهكذا كل فريضة يشرع إلى جانبها نافلة من جنسها؛ كفريضة الصلاة وفريضة الصيام، وفريضة الزكاة، وفريضة الحج، كل من هذه الفرائض يشرع إلى جانبها نافلة من جنسها؛ تجبر نقصها وتصلح خللها، وهذا من فضل الله على عباده، حيث نوع لهم الطاعات ليرفع لهم الدرجات، ويحط عنهم الخطايا. فنسأل الله لنا جميعا التوفيق لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 باب في صلاة الضحى اعلم أيها المسلم أنه قد وردت في صلاة الضحى أحاديث كثيرة: منها ما في "الصحيحين ": عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: "أوصاني خليلي رسول الله بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام ". وفي حديث أبي سعيد؛ أن النبي كان يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها. وأقل صلاة الضحى ركعتان؛ لقوله في حديث أبي هريرة الذي ذكرنا قريبا: "وركعتي الضحى"، ولحديث أنس: "من قعد في مصلاه حين ينصرف الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيرًا؛ غفرت له خطاياه، وإن كانت أكثر من زبد البحر"، رواه أبو داود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وأكثرها ثمان ركعات؛ لما روت أم هانئ؛ أن النبي عام الفتح صلى ثمان ركعات سبحة الضحى، رواه الجماعة، ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها: كان يصلي الضحى أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله. ووقت صلاة الضحى يبتدئ من ارتفاع الشمس بعد طلوعها قدر رمح، ويمتد إلى قبيل الزوال؛ أي: وقت قيام الشمس في كبد السماء، والأفضل أن يصلي إذا اشتد الحر؛ لحديث: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال"، رواه مسلم؛ أي: حين تحمى الرمضاء؛ فتبرك الفصال من شدة الحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 باب في سجود التلاوة ومن السنن سجود التلاوة، سمي بذلك من إضافة المسبب للسبب؛ لأن التلاوة سببه؛ فهو سجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة الآيات واستماعها تقربا إليه سبحانه، وخضوعا لعظمته، وتذللاً بين يديه. ويسن سجود التلاوة للقارئ والمستمع، وقد أجمع العلماء على مشروعيته. قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كان النبي يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد، ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته"، متفق عليه. قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "ومواضع السجدات أخبار وأوامر: خبر من الله عن سجود مخلوقاته له عموما أو خصوصا؛ فسن للتالي والسامع أن يتشبه بهم عند تلاوته آية السجدة أو سماعها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وآيات الأوامر "أي: التي تأمر بالسجود " بطريق الأولى". وعن أبي هريرة مرفوعا: "إذا قرأ ابن آدم السجدة، فيسجد؛ اعتزل الشطيان يبكي، يقول: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود، فسجد؛ فله الجنة، وأمرت بالسجود، فأبيت؛ فلي النار"، رواه مسلم وابن ماجه. ويشرع سجود التلاوة في حق القارئ والمستمع، وهو الذي يقصد الاستماع للقراءة، وفي حديث ابن عمر: "كان النبي يقرأ علينا السورة فيها السجدة؛ فيسجد ونسجد معه "؛ ففيه دلالة على مشروعية سجود المستمع، وأما السامع، وهو الذي لم يقصد الاستماع؛ فلا يشرع في حقه سجود التلاوة؛ لما روى البخاري؛ أن عثمان رضي الله عنه مر بقارئ يقرأ سجدة ليسجد معه عثمان؛ فلم يسجد، وقال: "إنما السجدة على من استمع "، وروي ذلك عن غيره من الصحابة. وسجدات التلاوة والقرآن؛ في: الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، وحريم، والحج، والفرقان، والنمل، وألم تنزل، وحم السجدة، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وفي سجدة "ص " خلاف بين العلماء؛ هل هي سجدة شكر أو سجدة تلاوة؟، والله أعلم. ويكبر إذا سجد للتلاوة لحديث ابن عمر: "كان عليه الصلاة والسلام يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة؛ كبر، وسجد، وسجدنا معه "، رواه أبو داود. ويقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى"، كما يقول في سجود الصلاة، وإن قال: "سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، اللهم اكتب لي أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك دواد "؛ فلا بأس. والإتيان بسجود التلاوة عن قيام أفضل من الإتيان به عن قعود. أيها المسلم، إن طرق الخير كثير؛ فعليك بالجد والاجتهاد فيها، والإخلاص في القول والعمل، لعل الله أن يكتبك من جملة السعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 باب في التطوع المطلق روى أهل السنن؛ أن النبي سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "إن في الليل ساعة، لا يوافقها عبد مسلم، يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة؛ إلا أعطاه إياه". وقال: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم"، رواه الحاكم. وقد مدح الله القائمين من الليل، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ~ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ~ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ~ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . والنصوص في ذلك كثيرة تدل على قيام الليل؛ فالتطوع المطلق أفضله قيام الليل؛ لأنه أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص، ولأنه وقت غفلة الناس، ولما فيه من إيثار الطاعة على النوم والراحة. ويستحب التنفل بالصلاة في جميع الأوقات؛ غير أوقات النهي. وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار لما سبق، وأفضل صلاة الليل الصلاة في ثلث الليل بعد نصفه؛ لما في "الصحيح " مرفوعا: "أفضل الصلاة صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه"، فكان يريح نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الليل، ثم يقوم الذي ينادي الله فيه، فيقول: "هل من سائل فأعطيه سؤله؟ "، ثم ينام بقية الليل في السدس الأخير؛ ليأخذ راحته، حتى يستقبل صلاة الفجر بنشاط، هذا هو الأفضل، وإلا؛ فالليل كله محل القيام. قال الإمام أحمد رحمه الله: "قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وعليه، فالنافلة بين العشاء ين من قيام الليل، لكن تأخير القيام إلى آخر الليل أفضل كما سبق، قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} ، والناشئة هي القيام بعد النوم، والتهجد إنما يكون بعد النوم. فينبغي للمسلم أن له حظا من قيام الليل، يداوم عليه، وإن قل. وينبغي أن ينوي قيام الليل. فإذا استيقظ؛ استاك، وذكر الله، وقال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ول قوة إلا بالله"، ويقول: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره". ويستحب أن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين؛ لحديث أبي هريرة: "إذا قام أحدكم من الليل؛ فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين"، رواه مسلم وغيره. ويسلم في صلاة الليل من كل ركعتين؛ لقوله: "صلاة الليل مثنى مثنى"، رواه الجماعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ومعنى: "مثنى مثنى"؛ أي: ركعتان؛ بتشهد وتسليمتين؛ فهي ثنائية لا رباعية. وينبغي إطالة القيام والركوع والسجود. وينبغي أن يكون تهجده في بيته؛ فقد اتفق أهل العلم على أن صلاة التطوع في البيت أفضل، وكان يصلي في بيته، وقال عليه الصلاة والسلام: "صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة"، رواه مسلم، ولأنه أقرب إلى الإخلاص. وصلاة النافلة قائما أفضل من الصلاة قاعداً بلا عذر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى قائما؛ فهو أفضل، ومن صلى قاعداً؛ فله نصف أجر صلاة القائم"، متفق عليه. وأما من صلى النافلة قاعداً لعذر؛ فأجره كأجر القائم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وجواز التطوع جالسا مع القدرة على القيام مجمع عليه. ويختم صلاته بالوتر؛ فقد كان النبي يجعل آخر صلاته بالليل وتراً، وأمر بذلك في أحاديث كثيرة. ومن فاته تهجده من الليل؛ استحب قضاؤه قبل الظهر؛ لحديث: "من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كتب له، كأنما قرأه الليل". أيها المسلم، لا تحرم نفسك من المشاركة في قيام الليل، ولو بشيء قليل تداوم عليه؛ لتنال من ثواب القائمين المستغفرين بالأسحار، وربما يدفع بك القليل إلي الكثير، والله لا يضيع أجر المحسنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 باب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها سبق أن بينّا جملاً من أحكام صلاة التطوع، ويجدر بنا الآن أن ننبه على أن هناك أوقاتا ورد النهي عن الصلاة فيها؛ إلا ما استثني، وهي أوقات خمسة: الأول: من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس؛ لقوله: "إذا طلع الفجر؛ فلا صلاة إلا ركعتي الفجر"، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، فإذا طلع الفجر؛ فإنه لا يصلي تطوعا إلا راتبة الفجر. الثاني: من طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح في رأي العين. والثالث: عند قيام الشمس حتى تزول، وقيام الشمس يعرف بوقوف الظل، لا يزيد ولا ينقص، إلى أن تزول إلى جهة الغرب؛ لقول عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب "، رواه مسلم. والرابع: من صلاة العصر إلى غروب الشمس؛ لقوله: "لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس"، متفق عليه. والوقت الخامس: إذا شرعت الشمس في الغروب حتى تغيب واعلم أنه يجوز قضاء الفرائض الفائتة في هذه الأوقات؛ لعموم قوله: "من نام عن الصلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها"، متفق عليه. ويجوز أيضا فعل ركعتي الطواف في هذه الأوقات؛ لقوله: "لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة من ليل أو نهار"، رواه الترمذي وصححه؛ فهذا إذن منه بفعلها في جميع أوقات النهي، ولأن الطواف جائز في كل وقت؛ فكذلك ركعتاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ويجوز أيضا على الصحيح من قولي العلماء في هذه الأوقات فعل ذوات الأسباب من الصلوات؛ كصلاة الجنازة، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف؛ للأدلة الدالة على ذلك، وهي تخص عموم النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، فتحمل على ما لا سبب له؛ فلا يجوز فعلما بأن تبتدأ في هذه الأوقات صلاة تطوع لا سبب لها. ويجوز قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر، وكذا يجوز أن يقضي سنة الظهر بعد العصر، ولا سيما إذا جمع الظهر مه العصر؛ فقد ثبت عن النبي؛ أنه قضى سنة الظهر بعد العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 باب في وجوب صلاة الجماعة وفضلها شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، وهي صلاة الجماعة في المسجد، فقد اتفق المسلمون على أن أداء الصلوات الخمس في المساجد من أوكد الطاعات وأعظم القربات، بل وأعظم وأظهر شعائر الإسلام. فقد شرع الله لهذه الأمة الاجتماع في أوقات معلومة، منها ما هو في اليوم والليلة؛ كالصلوات الخمس؛ فإن المسلمين يجمعون لأدائها في المساجد كل يوم وليلة خمس مرات، ومن هذه الاجتماعات ما هو في الأسبوع مرة؛ كالاجتماع لصلاة الجمعة، وهو اجتماع أكبر من الاجتماع للصلوات الخمس، ومنها اجتماع يتكرر كل سنة مرتين، وهو أكبر من الاجتماع لصلاة الجمعة؛ بحيث يشرع فيه اجتماع أهل البلد، ومنها اجتماع مرة واحدة في السنة، وهو الاجتماع في الوقوف بعرفة، وهو أكبر من اجتماع العيدين؛ لأنه يشرع للمسلمين عموما في كل أقطار الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وإنما شرعت هذه الاجتماعات العظيمة في الإسلام؛ لأجل مصالح المسلمين؛ ليحصل التواصل بينهم بالإحسان والعطف والرعاية، ولأجل التوادد والتحابب بينهم في القلوب، ولأجل أن يعرف بعضهم أحوال بعض؛ فيقومون بعيادة المرضى، وتشييع المتوفي، وإغاثة الملهوفين، ولأجل إظهار قوة المسلمين وتعارفهم وتلاحمهم؛ فيغيظون بذلك أعداءهم من الكفار والمنافقين، ولأجل إزالة ما ينسجه بينهم شياطين الجن والإنس من العداوة والتقاطع والأحقاد؛ فيحصل الائتلاف واجتماع القلوب على البر والتقوى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم". ومن فوائد صلاة الجماعة: تعليم الجاهل، ومضاعفة الأجر والنشاط على العمل الصالح عندما يشاهد المسلم إخوانه المسلمين يزاولون الأعمال الصالحة، فيقتدي بهم. وفي الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية: "بخمس وعشرين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فصلاة الجماعة فرض على الرجال في الحضر والسفر، وفي حال الأمان وحال الخوف، وجوبا عينيا، والدليل على ذلك الكتاب والسنة وعمل المسلمين قرنا بعد قرن، خلفا عن سلف. ومن أجل ذلك؛ عمرت المساجد، ورتب لها الأئمة والمؤذنون، وشرع النداء لها بأعلى صوت: "حي على الصلاة، حي على الفلاح ". وقال الله تعالى في حال الخوف: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُم} الآية؛ فدلت هذه الآية الكريمة على تأكد وجوب صلاة الجماعة، حيث لم يرخص للمسلمين في تركها الخوف، فلو كانت غير واجبة؛ لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف؛ فإن الجماعة في صلاة الخوف يترك لها أكثر واجبات الصلاة، فلولا تأكد وجوبها؛ لم يترك من أجلها تلك الواجبات الكثيرة؛ فقد اغتفرت في صلاة أفعال كثيرة من أجلها. وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "أثقل الصلاة على المنافق صلة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لتوهما ولو حبواً ولقد ههمت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ووجه الاستدلال من الحديث على وجوب صلاة الجماعة من ناحيتين: الناحية الأولى: أنه وصف المتخلفين عنها بالنفاق، والمتخلف عن السنة لا يعد منافقا؛ فدل على أنهم تخلفوا عن واجب. والناحية الثانية: أنهصلى الله عليه وسلم هَمَّ بعقوبتهم على التخلف عنها، والعقوبة إنما تكون على ترك واجب، وإنما منعهصلى الله عليه وسلم من تنفيذ هذه العقوبة من في البيوت من النساء والذراري الذين لا تجب عليهم الجماعة. وفي "صحيح مسلم " أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى؛ دعاه، فقال: "هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم، قال: "فأجب".فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحضور إلى المسجد لصلاة الجماعة وإجابة النداء مع ما يلاقيه من المشقة، فدل ذلك على صلاة الجماعة. وقد كان وجوب كان صلاة الجماعة مستقراً عند المؤمنين من صدر هذه الأمة: قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف". فدل ذلك على استقرار وجوبها عند صحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا منافق يكون واجبا على الأعيان. وروى الإمام أحمد وغيره مرفوعا: "الجفاء كل الجفاء، والكفر والنفاق، من سمع المنادي إلى الصلاة؛ فلا يجبه". وثبت حديث بذلك: "يد الله على الجماعة، فمن شذ؛ شذ في النار". وسئل ابن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يحضر الجماعة؛ فقال: "هو في النار ". نسأل الله العافية والتوفيق لمعرفة الحق واتباعه، إنه سميع مجيب. حكم المتخلف عن صلاة الجماعة وما تنعقد به صلاة الجماعة: إن المتخلف عن صلاة الجماعة إذا صلى وحده؛ فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون معذورًا في تخلفه لمرض أو خوف، وليس من عادته التخلف لولا العذر؛ فهذا يكتب له أجر من صلى في جماعة، لما في الحديث الصحيح: "إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له ما كان يعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 صحيحا مقيما"، فمن كان عازما على الصلاة مع الجماعة عزما جازما، ولكن حال دونه ودون ذلك عذر شرعي؛ كان بمنزلة من صلى مع الجماعة؛ نظرًا لنيتة الطيبة. والحالة الثانية: أن يكون تخلفه عن الصلاة مع الجماعة لغير عذر؛ فهذا إذا صلى وحده؛ تصح صلاته عند الجمهور، لكنه يخسر أجرًا عظيما وثوابا جزيلاً؛ لأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، وكذلك يفقد أجر الخطوات التي يخطوها إلى المسجد، ومع خسرانه لهذا الثواب الجزيل يأثم إثما عظيما؛ لأنه ترك واجبا عليه من غير عذر، وارتكب منكرًا يجب إنكاره عليه وتأديبه من قبل ولي الأمر، حتى يرجع إلى رشده. أيها المسلم، ومكان صلاة الجماعة هو المسجد؛ لإظهار شعار الإسلام، وما شرعت عمارة المساجد إلا لذلك، وفي إقامة الجماعة في غيرها تعطيل لها: وقد قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} . وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ} . ففي هاتين الآيتين الكريمتين تنويه بالمساجد وعمارها، ووعد له بجزيل الثواب، وفي ضمن ذلك ذم من تخلف عن الحضور للصلاة فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وقد روى أنه: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، وعن علي رضي الله عنه مثله، وزاد: "وجار المسجد من أسمعه المنادي"، رواه البيهقي بإسناد صحيح. قال ابن القيم رحمه الله: "ومن تأمل السنة حق التأمل؛ تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز مع ترك الجماعة؛ فترك حضور المساجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق الأحاديث وجميع الآثار ... " انتهى. وقد توعد الله من عطل المساجد ومنع إقامة الصلاة فيها؛ فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وفي إقامة صلاة الجماعة خارج المسجد تعطيل للمساجد أو تقليل من المصلين فيها، وبالتالي يكون في ذلك تقليل من أهمية الصلاة في النفوس، والله تعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ، وهذا يشمل رفعها حسيا ومعنويا؛ وكل ذلك مطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لكن إذا دعت حاجة لإقامة صلاة الجماعة خارج المسجد، كأن يكون المصلون موظفين في دائرتهم وفي مجمع عملهم، وإذا صلوا في مكانهم؛ كان أحزم للعمل، وكان في ذلك إلزام الموظفين بحضور الصلاة وإقامتها، ولا يتعطل من جراء ذلك المسجد الذي حولهم لوجود من يصلي فيه غيرهم، لعله في تلك الحال ونظرًا لهذه المبررات لا يكون عليهم حرج في الصلاة في دائرتهم. وأقل ماتنعقد به صلاة الجماعة اثنان؛ لأن الجماعة مأخوذة من الاجتماع، والاثنان أقل ما يتحقق به الجمع، ولحديث أبي موسى مرفوعا: "الاثنان فما فوقهما جماعة"، رواه ابن ماجه، ولحديث: "من يتصدق على هذا؟ ". فقام رجل فصلى معه، فقال: "هذان جماعة"، رواه أحمد وغيره، ولقولهصلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: "وليؤمكما أكبركما"، وحكى الإجماع على هذا. ويباح للنساء حضور صلاة الجماعة في المساجد بإذن أزواجهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 غير متطيبات وغير متبرجات بزينة، مع التستر التام والابتعاد عن مخالطة الرجال، ويكن وراء صفوف الرجال؛ لحضورهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ويسن حضورهن مجالس الوعظ ومجالس العلم منفردات عن الرجال. ويسن لهن أن يصلين مع بعضهن جماعة منفردات عن الرجال؛ سواء كانت إمامتهن منهن، أو يؤمهن رجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم ورقة أن تجعل لها مؤذنا، وأمرها أن تؤم أهل دارها "، رواه أحمد وأهل السنن، وفعله غيرها من الصحابيات، ولعموم قولهصلى الله عليه وسلم: "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". والأفضل للمسلم أن يصلي في المسجد الذي لا تقام فيه صلاة الجماعة إلا بحضوره؛ لأنه يحصل بذلك على ثواب عمارة المسجد؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ثم الأفضل بعد ذلك صلاة الجماعة في المسجد الذي يكون أكثر جماعة من غيره لأنه أعظم أجرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلان أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر؛ فهو أحب إلى الله"، رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان؛ ففيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل؛ لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة، ولشمول الدعاء ورجاء الإجابة، لا سيما إذا كان فيهم من العلماء وأهل الصلاح، قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} ؛ ففيه استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المحافظين على الطهارة وإسباغ الوضوء. ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة في المسجد القديم؛ لسبق الطاعة فيه على المسجد الجديد. ثم الأفضل بعد ذلك الصلاة في المسجد الأبعد عنه مسافة؛ فهو أفضل من الصلاة في المسجد القريب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى"، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمساً وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 توضأ فأحسن الوضوء، وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة؛ لم يخط خطوة؛ إلا رفع له بها درجه، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "يابني سلمة! دياركم تكتب آثاركم". وبعض العلماء يرى أن أقرب المسجدين أولى؛ لأن له جوارًا، فكان أحق بصلاته فيه، ولأنه قد ورد: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، ولأن تعدي المسجد القريب إلى البعيد قد يحدث عند جيرانه استغرابا، ولعل هذا القول أولى؛ لأن تخطي المسجد الذي يليه إلى غيره ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه، وإحراج لإمامه؛ بحيث يساء الظن به. ومن أحكام صلاة الجماعة: أنه يحرم أن يؤم الجماعة في المسجد أحد غير إمامه الراتب؛ إلا بإذنه أو عذره؛ ففي "صحيح مسلم " وغيره: "ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه"، قال النووي: "معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، ولأن في ذلك إساءة إلى إمام المسجد الراتب، وتنفيرًا عنه، وتفريقا بين المسلمين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا صلى بجماعة المسجد غير إمامه الراتب بدون إذنه أو عذر شرعي يسوغ ذلك؛ أنها لا تصح صلاتهم، مما يدل على خطورة هذه المسألة؛ فلا ينبغي التساهل في شأنها، ويجب على جماعة المسلمين أن يراعوا حق إمامهم، ولا يتعدوا عليه في صلاحيته، كما يجب على إمام المسجد أن يحترم حق المأمومين ولا يحرجهم. وهكذا كلُّ يراعي حق الآخر، حتى يحصل الوئام والتآلف بين الإمام والمأمومين، فإن تأخر الإمام عن الحضور وضاق الوقت؛ صلوا لفعل أبي بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فصلى أبو بكر رضي الله عنه، وصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس لما تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة أخرى، وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة، ثم أتم صلاته وقال: "أحسنتم". ومن أحكام صلاة الجماعة: أن من سبق له أن صلى، ثم حضر إقامة الصلاة في المسجد؛ سن له أن يصلي مع الجماعة تلك الصلاة التي أقيمت؛ لحديث أبي ذر: "صل الصلاة لوقتها، فإن أقيمت وأنت في المسجد؛ فصل، ولا تقل: إني صليت؛ فلا اصلي"، رواه مسلم. وتكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 هذه الصلاة في حقه نافلة؛ كما جاء في الحديث الآخر من قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين أمرهما النبيصلى الله عليه وسلم بالإعادة: "فإنهما لكما نافلة". ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به وأنه ليس من المصلين. ومن أحكام صلاة الجماعة: أنها إذا أقيمت الصلاة أي: إذا شرع في إقامة الصلاة؛ لم يجز الشروع في صلاة نافلة لا راتبة ولا تحية مسجد ولا غيرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة"، رواه مسلم، وفي رواية: "فلا صلاة إلا التي أقيمت"؛ فلا تنعقد صلاة النافلة التي أحرم فيها بعد إقامة الفريضة التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له. قال الإمام النووي رحمه الله: "والحكمة أن يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة، ولأنه نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف عن الأئمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ولحصول تكبيرة الإحرام، ولا تحصل فضيلتها المنصوصة إلا بشهود تحريم الإمام ". وإن أقيمت الصلاة وهو في صلاة نافلة قد أحرم بها من قبل؛ أتمها خفيفة، ولا يقطعها؛ إلا أن يخشى فوات الجماعة؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، فإن خشى فوت الجماعة؛ قطع النافلة؛ لأن الفرض أهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 باب في الأحكام التي تتعلق بالمسبوق الصحيح من قولي العلماء: أن المسبوق لا يدرك صلاة الجماعة؛ إلا بإدراك ركعة، فإن أدرك أقل من ذلك؛ لم يكن مدركا للجماعة، لكن يدخل مع الإمام فيما أدرك، وله بنيته أجر الجماعة؛ كما إذا وجدهم قد صلوا؛ فإن له بنيته أجر من صلى في جماعة؛ كما وردت به الأحاديث؛ أن من نوى الخير ولم يتمكن من فعله؛ كتب له مثل أجر من فعله. وتدرك الركعة بإدراك الركوع على الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك الركوع؛ فقد أدرك الركعة"، رواه أبو داود، ولما في "الصحيح " من حديث أبي بكرة، وقد جاء والنبي صلى الله عليه وسلم في الركوع، فركع دون الصف، ولم يأمره النبيصلى الله عليه وسلم بإعادة الركعة، فدل على الاجتزاء بها. فإذا أدرك الإمام راكعا؛ فإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائما، ثم يركع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 مع بتكبيرة ثانية، هذا هو الأفضل، وإن اقتصر على تكبيرة الإحرام؛ أجزأته عن تكبيرة الركوع؛ فتكبيرة الإحرام؛ لا بد من الإتيان بها وهو قائم، وأما تكبيرة الركوع؛ فمن الأفضل الإتيان بها بعدها. وإذا وجد المسبوق الإمام على أي حال من الصلاة؛ دخل معه؛ لحديث أبي هريرة وغيره: "إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود؛ فاسجدوا، ولا تعدوها شيئا". فإذا سلم الإمام التسليمة الثانية؛ قام المسبوق ليأتي بما فاته من الصلاة، ولا يقوم قبل التسليمة الثانية. وما أدرك المسبوق مع إمامه؛ فهو أول صلاته على القول الصحيح، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخرها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "وما فاتكم؛ فأتموا"، وهو رواية الجمهور للحديث، وإتمام الشيء لا يأتي إلا بعد تقدم أوله، ورواية: "وما فاتكم؛ فاقضوا" لا تخالف رواية: "فأتموا"؛ لأن القضاء يراد به الفعل1؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} ، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُم} ، فيحمل قوله: {فاقضوا} على الأداء والفراغ. والله أعلم.   1أي: الإتمام والفراغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وإذا كانت الصلاة جهرية؛ وجب على المأموم أن يستمع لقراءة الإمام، ولا يجوز له أن يقرأ وإمامه يقرأ، لا سورة الفاتحة ولا غيرها؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . قال الإمام أحمد رحمه الله "أجمعوا على أن هذه الآية في الصلاة ". فلو أن القراءة تجب على المأموم؛ لما أمر بتركها لسنة الاستماع، ولأنه إذا انشغل المأموم بالقراءة؛ لم يكن لجهر الإمام فائدة، ولأن تأمين المأموم على قراءة الإمام ينزل منزلة قراءتها؛ فقد قاله تعالى لموسى وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} ، وقد دعا موسى، فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، وأمن هارون على دعائه، فنزل تأمينه منزلة من دعا، فقال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} ، فدل على أن من أمن على دعاء؛ فكأنما قاله. أما إذا كانت الصلاة سرية، أو كان المأموم لا يسمع الإمام؛ فإنه يقرأ الفاتحة في هذه الحال، وبهذا تجتمع الأدلة؛ أي: وجب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة السرية دون الجهرية. والله أعلم. ومن أحكام صلاة الجماعة المهمة: وجوب اقتداء المأموم بالإمام بالمتابعة التامة له، وتحرم مسابقته؛ لأن المأموم متبع لإمامه، مقتد به، والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه وقدوته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار؟! "، متفق عليه؛ فمن تقدم على إمامه؛ كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله، ومن فعل ذلك؛ استحق العقوبة. وفي الحديث الصحيح: "إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدو حتى يسجد". وروى الإمام أحمد وأبوا داود: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع؛ فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد، فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد". وكان الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لا يحني أحد منهم ظهره حتى يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدًا، ثم يقعون سجودًا بعده. ولما رأى عمر رضي الله عنه رجلاً يسابق الإمام؛ ضربة، وقال: "ولا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وهذا شيء يتساهل فيه أو يتجاهله بعض المصلين، فيسابقون الإمام، ويتعرضون للوعيد الشديد، بل يخشى أن لا تصح صلاتهم، وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مسابقة الإمام حرام باتفاق الأئمة، لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفه قبله، ولا يسجد قبله، وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك ". ومسابقة الإمام تلاعب من الشيطان ببعض المصلين حتى يخل بصلاته، وإلا؛ فماذا يستفيد الذي يسابق الإمام؛ لأنه لن يخرج من الصلاة إلا بعد سلام الإمام؟!. فيجب على المسلم أن يتنبه لذلك، وأن يكون ملتزما لأحكام الائتمام والإقتداء. نسأل الله للجميع الفقه في دينه والبصيرة في أحكامه، إنه سميع مجيب؛ فإنه من يرد الله به خيرًا؛ يفقهه في الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 باب في حكم حضور النساء إلى المسجد إن ديننا كامل وشامل لمصالحنا في الدنيا والآخرة، جاء بالخير للمسلمين رجالاً ونساء: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ؛ فهو قد اهتم بشأن المرأة، ووضعها موضع الإكرام والاحترام، إن هي تمسكت بهدية، وتحلت بفضائله. ومن ذلك أنه سمح لها بالحضور إلى المساجد للمشاركة في الخير من صلاة الجماعة وحضور مجالس الذكر مع الاحتشام والتزام الاحتياطات التي تبعدها عن الفتنة وتحفظ لها كرامتها. فإذا استأذنت إلى المسجد؛ كره منعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن تفلات" 1، رواه أحمد وأبو داود، وذلك لأن أداء الصلاة المكتوبة في جماعة فيها فضل كبير للرجال والنساء، وكذلك المشي إلى المساجد،   1 أي: غير متزينات ولا متطيبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وفي "الصحيحين " وغيرهما: "إذا استأذنت نساءكم بالليل إلى المساجد؛ فأذنوا لهن". ووجه كونها تستأذن لزوج في ذلك؛ لأن ملازمة البيت حق للزوج، وخروجها للمسجد في تلك الحال مباح؛ فلا تترك الواجب لأجل مباح، فإذا أذن الزوج؛ فقد اسقط حقه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وبيوتهن خير لهن"؛ أي: خير لهن من الصلاة في المساجد، وذلك لأمن الفتنة بملازمتهن البيوت. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وليخرجن تفلات"؛ أي: غير متطيبات، وإنما أمرن بذلك؛ لئلا يفتن الرجال بطيبهن، ويصرفوا أنظارهم إليهن، فيحصل بذلك الافتتان بهن، ويلحق بالطيب ما كان بمعناه كحسن الملبس وإظهار الحلي. فإن تطيبت أو لبست ثياب زينة؛ حرم عليها ذلك، ووجب منعها من الخروج، وفي "صحيح مسلم " وغيره: "أيما امرأة أصابت بخورًا؛ فلا تشهدن معنا العشاء الأخير". وكذلك إذا خرجت المرأة إلى المسجد؛ فلتبتعد عن مزاحمة الرجال. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "يجب على ولي الأمر أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق ومجامع الرجال، وهو مسؤول عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ذلك، والفتنة به عظيمة، كما قال النبيصلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ... " إلى أن قال: "يجب عليه منعهن متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات كالثياب والواسعة الرقاق، ومنعهن من حديث الرجال؛ أي: التحدث إليهم في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك " انتهى. فإذا تمسكت المرأة بآداب الإسلام من لزوم الحياء، والتستر، وترك الزينة والطيب، والابتعاد عن مخالطة الرجال؛ أبيح لها الخروج إلى المسجد لحضور الصلاة والاستماع للتذكير، وبقاؤها في بيتها خير لها من الخروج في تلك الحال؛ لأن النبيى صلى الله عليه وسلم يقول: "وبيوتهن خير لهن". وأجمع المسلمون على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من الصلاة في المسجد؛ ابتعادًا عن الفتنة، وتغليبا لجانب السلامة، وحسما لمادة الشر. أما إذا لم تلتزم بآداب الإسلام، ولم تجتنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من استعمالها الزينة والطيب للخروج؛ فخروجها للمسجد حينئذ حرام، ويجب على وليها وذوي السلطة منعها منه وفي "الصحيحين " من حديث عائشة رضي الله عنها: "لو رأى "تعني: الرسول صلى الله عليه وسلم " ما رأينا؛ لمنعهن من المسجد كما منعت نساء بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 إسرائيل"؛ فخروج المرأة إلى المساجد مراعى فيه المصلحة واندفاع المفسدة، فإذا كان جانب المفسدة أعظم؛ منعت وإذا كان هذا الشأن في خروجها للمسجد؛ فخروجها لغير المسجد من باب أولى أن تراعى فيه الحيطة والابتعاد عن مواطن الفتنة. وإذا كان هناك اليوم من ينادون بخروج المرأة لمزاولة الأعمال الوظيفية كما هو شأنها في الغرب ومن هم على شاكلة الغرب؛ فإن هؤلاء يدعون إلى الفتنة، ويقودون المرأة إلى شقائها وسلب كرامتها فالواجب إيقاف هؤلاء عن حدهم، وكف ألسنتهم وأقلامهم عن هذه الدعوى الجاهلية، وكفى ما وقعت فيه المرأة في بلاد الغرب ومن حذا حذوها من ويلات، وتورطت فيه من واقع مؤلم، تئن له مجتمعاتهم، وليكن لنا فيهم عبرة؛ فالسعيد من وعظ بغيره. وليس لهؤلاء من حجة يبررون بها دعوتهم؛ إلا قولهم: أن نصف المجتمع معطل عن العمل. وبهذا يريدون أن تشارك المرأة الرجل في عمله وتزاحمه فيه جنبا إلى جنب، ونسوا أو تناسوا أو تجاهلوا ما تقوم به المرأة من عمل جليل داخل بيتها، وما تؤديه للمجتمع من خدمة عظيمة، لا يقوم بها غيرها، تناسب خلقتها، وتتمشى مع فطرتها؛ فهي الزوجة التي يسكن إليها زوجها، وهي الأم والحامل والمرضع، وهي المربية للأولاد، وهي القائمة بعمل البيت، فلو أنها أخرجت من البيت، وشاركت الرجال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أعمالهم؛ من ذا سيقوم بهذه الأعمال؟! إنها ستتعطل، ويومها سيفقد المجتمع نصفه الثاني؛ فماذا يغنيه النصف الباقي؟! سيختل بنيانه، وتتداعى أركانه. إننا نقول لهؤلاء الدعاة: ثوبوا إلى رشدكم، ولا تكونوا ممن بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، كونوا دعاة بناء ولا تكونوا دعاة هدم. أيتها المرأة المسلمة! تمسكي بتعاليم دينك، ولا تغرنك دعايات المضللين الذين يريدون سلب كرامتك التي بوأك منزلتها دين الإسلام، وليس غير الإسلام، ومن يبغ غير الإسلام دينا؛ فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وفقنا الله جميعا لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 باب في بيان أحكام الإمامة هذه الوظيفة الدينية المهمة التي تولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وتولاها خلفاؤه الراشدون. وقد جاء في فضل الإمامة أحاديث كثيرة؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة"، وذكر: "أن منهم رجلاً أم قوما وهم به راضون "، وفي الحديث الآخر: "أن له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه ". ولهذا؛ كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعلني إمام قومي؛ لما يعلمون في ذلك من الفضيلة والأجر. لكن مع الأسف الشديد؛ نرى في وقتنا هذا كثيرًا من طلبة العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 يرغبون عن الإمامة، ويزهدون فيها، ويتخلون عن القيام بها؛ إيثارًا للكسل وقلة رغبة في الخير، وما هذا إلا تخذيل من الشيطان. فالذي ينبغي لهم بها بجد ونشاط واحتساب للأجر عند الله؛ فإن طلبة العلم أولى بالقيام بها وبغيرها من الأعمال الصالحة. وكلما توافرت مؤهلات الإمامة في شخص؛ كان أولى بالقيام بها ممن هو دونه، بل يتعين عليه القيام بها إذا لم يوجد غيره: فالأولى بالإمامة الأجود قراءة لكتاب الله تعالى، وهو الذي يجيد قراءة القرآن؛ بأن يعرف مخارج الحروف، ولا يلحن فيها، ويطبق قواعد القراءة من غير تكلف ولا تنطع، ويكون مع ذلك يعرف فقه صلاته وما يلزم فيها؛ كشروطها وأركانها وواجباتها ومبطلاتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله"، وما ورد بمعناه من الأحاديث الصحيحة، مما يدل على أنه يقدم في الإمامة الأجود قراءة للقرآن الكريم، الذي يعلم فقه الصلاة؛ لأن الأقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أفقه. فإذا استووا في القراءة؛ قدم الأفقه "أي: الأكثر فقها "؛ لجمعه بين ميزتين: القراءة والفقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن كانوا في القراءة سواء؛ فأعلمهم بالسنة"؛ أي: أفقههم في دين الله، ولأن احتياج المصلي إلى الفقه أكثر من احتياجه إلى القراءة؛ لأن ما يجب في الصلاة من القراءة محصور، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فإذا استووا في الفقه والقراءة؛ قدم الأقدام هجرة، والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. فإذا استووا في القراءة والفقه والهجرة؛ قدم الأكبر سنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليؤمكم أكبركم"، متفق عليه؛ لأن كبر السن في الإسلام فضيلة، ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء. والدليل على هذا الترتيب الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء؛ فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء؛ فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء؛ فأقدمهم سنا". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالفضيلة بالعلم بالكتاب والسنة، فإن استووا في العلم؛ قدم بالسبق إلى العمل الصالح، وقدم السابق باختياره إلى العمل الصالح "وهو المهاجر " على من سبق بخلق الله وهو كبر السن" انتهى. وهناك اعتبارات يقدم أصحابها في الإمامة على من حضر ولو كان افضل منه، وهي: أولاً: إمام المسجد الراتب إذا كان أهلاً للإمامة؛ لم يجز أن يتقدم عليه غيره، ولو كان أفضل منه؛ إلا بإذنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ثانيا: صاحب البيت إذا كان يصلح للإمامة؛ لم يجز أن يتقدم عليه أحد في الإمامة؛ إلا بإذنه. ثالثا: السلطان، وهو الإمام الأعظم أو نائبه؛ فلا يتقدم عليه أحد في الإمامة؛ إلا بإذنه، إذا كان يصلح للإمامة. والدليل على تقديم أصحاب هذه الاعتبارات على غيرهم ما رواه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بإذنه"، وسلطانه محل ولايته أو ما يملكه. قال الخطابي: "معناه: أن صاحب المنزل أولى فالإمامة في بيته إذا كان من القراءة أو العلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة، وإذا كان إمام المسجد قد ولاه السلطان أو نائبه أو اتفق على تقديمه أهل المسجد؛ فهو أحق؛ لأنها ولاية خاصة، ولأن التقدم عليه يسيء الظن به، وينفر عنه ". مما تقدم يتبين لك شرف الإمامة في الصلاة وفضلها ومكانتها في الإسلام؛ لأن الإمام في الصلاة قدوة، والإمامة مرتبة شريفة؛ فهي سبق إلى الخير، وعون على الطاعة وملازمة الجماعة، وبها تعمر المساجد بالطاعة، وهي داخلة في عموم قوله تعالى فيما حكاه من دعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} . فالإمامة في الصلاة من الإمامة في الدين، ولا سيما إذا كان الإمام يبذل النصح والوعظ والتذكير لمن يحضره في المسجد، فإنه بذلك من الدعاة إلى الله، الذين يجمعون بين صالح القول والعمل، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ؛ فلا يرغب عن القيام بالإمامة إلا محروم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 باب في من لا تصح إمامته في الصلاة إن الإمامة في الصلاة مسؤولية كبرى، وكما أنها تحتاج إلى مؤهلات يجب توافرها في الإمام أو يستحب تحلية بها؛ كذلك يجب أن يكون الإمام سليما من صفات تمتعه من تسنم هذا المنصب أو تنقص أهليته له: فلا يجوز أن يولي الفاسق إمامة الصلاة، والفاسق هو من خرج عند حد الاستقامة بارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب التي هي دون الشرك. والفسق نوعان: فسق عملي، وفسق اعتقادي. فالفسق العملي: كارتكاب فاحشة الزنى، والسرقة، وشرب الخمر ... ونحو ذلك. والفسق الاعتقادي: كالرفض، والاعتزال، والتجهم. فلا يجوز تولية إمامة الصلاة الفاسق؛ لأن الفاسق لا يقبل خبره، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ؛ فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 يؤمن على شرائط الصلاة وأحكامها، ولأنه يكون قدوة سيئة لغيرة؛ ففي توليته مفاسد. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا أعرابيا مهاجرًا، ولا فاجر مؤمنا؛ إلا أن يقهره بسلطان يخاف سوطه"، رواه ابن ماجه، والشاهد منه قوله: "ولا فاجر مؤمنا"، والفجور هو العدول عن الحق. فالصلاة خلف الفاسق منهي عنها، ولا يجوز تقديمه مع القدرة على ذلك؛ فيحرم على المسؤولين تنصيب الفاسق إماما للصلوات؛ لأنهم مأمورون بمراعاة المصالح؛ فلا يجوز لهم أن يوقعوا الناس في صلاة مكروهة، بل قد اختلف العلماء في صحة الصلاة خلف الفاسق، وما كان كذلك؛ وجب تجنيب الناس من الوقوع فيه. ولا تصح إمامة العاجز عن ركوع أو سجود أو قعود؛ إلا بمثله؛ أي: مساوية في العجز عن ركن أو شرط، وكذا لا تصح إمامة العاجز عن القيام لقادر عليه؛ إلا إذا كان العاجز عن القيام إماما راتبا لمسجد، وعرض له عجز عن القيام يرجى زواله؛ فتجوز الصلاة خلفه، ويصلون خلفه في تلك الحال جلوسا؛ لقول عائشة رضي الله عنها: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك، فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن جلسوا، فلما انصرف؛ قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به ... " الحديث، وفيه: "وإذا صلى جالسا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فصلوا جلوسا أجمعون"، وذلك لأن الإمام الراتب يحتاج إلى تقديمه. ولو صلوا خلفه قياما أو صلى بعضهم قائما في تلك الحالة؛ صحت صلاتهم على الصحيح، وإن استخلف الإمام في تلك الحال من يصلي بهم قائما؛ فهو أحسن؛ خروجا على الخلاف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف؛ فقد فعل الأمرين؛ بيانا للجواز، والله أعلم. ولا تصح إمامة من حدثه دائم؛ كمن به سلس أو خروج ريح أو نحوه مستمر؛ إلا بمن هو مثله في هذه الآفة، أما الصحيح؛ فلا تصح صلاته خلفه؛ لأن في صلاته خللاً غير مجبور ببدل؛ لأنه يصلي مع خروج النجاسة المنافي للطهارة، وإنما صحت صلاته للضرورة، وبمثله لتساويهما في خروج الخارج المستمر. وإن صلى خلف محدث أو متنجس ببدنه أو ثوبه أو بقعته، ولم يكونا يعلمان بتلك النجاسة أو الحدث حتى فرغ من الصلاة؛ صحت صلاة المأموم دون الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى الجنب بالقوم؛ أعاد صلاته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وتمت للقوم صلاتهم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين؛ فإنهم صلوا بالناس، ثم رأوا الجنابة بعد الصلاة، فأعادوا، ولم يأمروا الناس بالإعادة، وإن علم الإمام أو المأموم بالحدث أو النجاسة في أثناء الصلاة؛ بطلت صلاتهم"1 ولا تصح إمامة الأمي، والمراد به هنا من لا يحفظ سورة الفاتحة أو يحفظها ولكن لا يحسن قراءتها؛ كأن يلحن فيها لحنا يحيل المعنى؛ ككسر كاف {وَإِيَّاكَ} ، وضم تاء {أَنْعَمْتَ} ، وفتح همزة {اهْدِنَا} ، أو يبدل حرفا بغيره، وهو الألثغ، كمن يبدل الراء غينا أو لاما، أوالسين تاء ... ونحو ذلك؛ فلا تصح إمامة الأمي إلا بأمي بمثله؛ لتساويهما، إذا كانوا عاجزين عن إصلاحهن فإن قدر الأمي على الإصلاح لقراءته؛ لم تصح صلاته ولا صلاة من صلى خلفه؛ لأنه ترك مع القدرة عليه. ويكره أن يؤم الرجل قوما أكثرهم يكرهه بحق؛ بأن تكون كراهتهم لها مبرر من نقص في دينه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم   1 وبعض العلماء يرى أن صلاة المأمومين لا تبطل، وأن الإمام في هذه الحالة يستخلف من يكمل الصلاة بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وأمرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون"، رواه الترمذي وحسنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا كانوا يكرهونه لأمر في دينه؛ مثل كذبة أو ظلمه أو جهله أو بدعته ونحو ذلك، ويحبون آخر أصلح منه في دينه؛ مثل أن يكون أصدق أو أعلم أو أدين؛ فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الذي يحبونه، وليس لذلك الرجل الذي يكرهونه أن يؤمهم؛ كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم ك رجل أم قوما وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا، ورجل اعتبد محررًا" " وقال أيضا: "إذا كان بينهم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب؛ لم ينبغ أن يؤمهم؛ لأن المقصود بالصلاة جماعة أن يتم الائتلاف، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم" " اهـ. أما إذا كان الإمام ذا دين وسنة، وكرهوه لذلك؛ لم تكره الإمامة في حقه، وإنما العتب على من كرهه. وعلى كل؛ فينبغي الائتلاف بين الإمام والمأمومين، والتعاون على البر والتقوى، وترك التشاحن والتباغض تبعا للأهواء والأغراض الشيطانية؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فيجب على الإمام أن يراعي حق المأمومين، ولا يشق عليهم، ويحترم شعورهم، ويجب على المأمومين أن يراعوا حق الإمام، ويحترموه، وبالجملة؛ فينبغي لكل منهما أن يتحمل ما يواجهه من الآخر من بعض الانتقادات التي لا تخل بالدين والمروءة والإنسان معرض للنقص: ومن ذا الذي تُرضى سجاياهُ كلُها ... كفى المرءَ نُبلاً أن تُعد مَعايُبه هذا، ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 باب فيما يشرع للإمام في الصلاة الإمام عليه مسئولية عظيمة، وهو ضامن، وله الخير الكثير إن أحسن وفضل الإمامه مشهور، تولاها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، ولم يختاروا لها إلا الأفضل وفي الحديث: "ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة: رجل أم قوما وهم به راضون .... " الحديث، وفي الحديث الآخر أن له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه. ومن علم من نفسه الكفاءة؛ فلا مانع من طلبه للإمامة؛ فقد قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: إجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم"، ويشهد لذلك أيضا قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} . وينبغي لمن تولى الإمامة أن يهتم بشأنها، وأن يوفيها حقها ما ستطاع، وله في ذلك أجر عظيم، ويراعي حالة المأمومين، ويقدر ظروفهم، ويتجنب إحراجهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ويرغبهم ولا ينفرهم؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم بالناس؛ فليخفف؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذو الحاجة، وإذا صلى لنفسه؛ فليطول ما شاء"، رواه الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي "الصحيح " من حديث أبي مسعود: "أيها الناس! إن منكم منفرين؛ فأيكم أم الناس؛ فليوجز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة". ويقول أحد الصحابة: "ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبيصلى الله عليه وسل "، وهو القدوة في ذلك وفي غيره. قال الحافظ: "من سلك طريق النبيصلى الله عليه وسلم في الإيجاز والإتمام؛ لا يشتكى منه تطويل، والتخفيف المطلوب هو التخفيف الذي يصحبه إتمام الصلاة بأداء أركانها وواجباتها وسننها على الوجه المطلوب، والتخفيف المأمور به أمر نسبي يرجع إلى ما فعله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه وأمر به، لا إلى شهوة المأمومين. قال بعض العلماء: ومعنى التخفيف المطلوب: هو الاقتصار على أدنى الكمال من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وأدنى الكمال في التسبيح في الركوع والسجود هو أن يأتي بثلاث تسبيحات، وإذا آثر المأمومون التطويل، وعددهم ينحصر، بحيث يكون رأيهم في طلب التطويل واحدًا؛ فلا بأس أن يطول الإمام الصلاة؛ لاندفاع الفسدة، وهي التنفير. قال الإمام ابن دقيق العيد: قول الفقهاء: "لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات"؛ لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يزيد على ذلك؛ لأن رغبة الصحابة في الخير تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلاً " انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس له أن يزيد على قد المشروع، وينبغي أن يفعل غالبا ما كان النبي يفعله غالبا ويزيد وينقص للمصلحة؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينقص أحيانا للمصلحة ". وقال النووي: "قال العلماء: واختلاف قدر القراءة في الأحاديث كان بحسب الأحوال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من حال المؤمنين في وقت أنهم يوثرون التطويل؛ فيطول بهم، وفي وقت لا يؤثرونه لعذر ونحوه؛ فيحفف، وفي وقت يرد إطالتها، فيسمع بكاء الصبي، فيخفف كما ثبت ذلك في الصحيح" انتهى. ويكره أن يخفف الإمام في الصلاة تخفيفا لا يتمكن معه المأموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 من الإتيان المسنون؛ كقراءة السورة، والإتيان بثلاث تسبيحات في الركوع والسجود. ويسن أن يرتل القراءة، ويتمهل في التسبيح والتشهد بقدر ما يتمكن من خلفه من الإتيان بالمسنون من التسبيح ونحوه، وأن يتمكن من ركوعه وسجوده. ويسن للإمام أن يطيل الركعة الأولى؛ لقول أبي قتادة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يطول في الركعة الأولى"، متفق عليه. ويستحب للإمام إذا أحس بداخل وهو في الركوع أن يطيل الركوع حتى يلحقه الداخل فيه ويدرك الركعة؛ إعانة له على ذلك؛ لما رواه أحمد وأبوا داود من حديث ابن أبي أوفى في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وقع قدم، ما لم يشق هذا الانتظار على مأموم، فإن شق عليه؛ تركه؛ لأن حرمة الذي معه أعظم من حرمة الذي لم يدخل معه. وبالجملة؛ فيجب على الإمام أن يراعي أحوال المأمومين، ويراعي إتمام الصلاة وإتقانها، ويكون مقتديا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، عاملاً بوصاياه وأوامره؛ ففيها الخير للجميع. وبعض الأئمة قد يتساهل في شأن الإمامة ومسؤليتها، ويتغيب كثيرًا عن المسجد، أو يتأخر عن الحضور، مما يحرج المأمومين، ويسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الشقاق، ويشوش على المصلين، ويكون هذا الإمام قدوة سيئة للكسالى والمتساهلين بالمسؤلية؛ فمثل هذا يجب الأخذ على يده، حتى يواظب على أداء مهمته بحزم، ولا ينفر المصلين، ويعطل إمامة المسجد، أو ينحى عن الإمامة إذا لم يراجع صوابه. اللهم وفقنا لما تحبة وترضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 باب في صلاة أهل الأعذار أهل الأعذار هم المرضى والمسافرون والخائفون الذين لا يتمكنون من أداء الصلاة على الصفة التي يؤديها غي المعذور؛ فقد خفف الشارع عنهم، وطلب منهم أن يصلوا حسب استطاعتهم، وهذا من يسر هذه الشريعة وسماحتها؛ فقد جاءت برفع الحرج: قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم .... ". إلى غير ذلك من النصوص التي تبين فضل الله على عباده وتيسيره في تشريعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ومن ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه، وهو؛ كيف يصلي من قام به عذر من مرض أو سفر أو خوف؟. أولا: صلاة المريض إن الصلاة لا تترك أبدًا؛ فالمريض يلزمه أن يؤدي الصلاة قائما، وإن احتاج إلى الاعتماد على عصا ونحوه في قيامه؛ فلا بأس بذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فإن لم يستطع المريض القيام في الصلاة؛ بأن عجز عنه أو شق عليه أو خيف من قيامه زيادة مرض أو تأخر برء؛ فإنه والحالة ماذكر يصلي قاعدًا. ولا يشترط لإباحة القعود في الصلاة تعذر القيام، ولا يكفي لذلك أدنى مشقة، بل المعتبر المشقة الظاهرة. وقد أجمع العلماء على أن من عجز عن القيام في الفريضة؛ صلاها قاعداً، ولا إعادة عليه، ولا ينقص ثوابه، وتكون هيئة قعوده حسب ما يسهل عليه؛ لأن الشارع لم يطلب منه قعده خاصة؛ فكيف قعد؛ جاز. فإن لم يستطع المريض الصلاة قاعدًا؛ بأن شق عليه الجلوس مشقة ظاهرة، أو عجز عنه؛ فإنه يصلي على جنبه، ويكون وجهه إلى القبلة، والأفضل أن يكون على جنبه الأيمن، وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة، ولم يستطع التوجه إليها بنفسه؛ صلى على حسب حالة، إلى أي جهة تسهل عليه. فإذا لم يقدر المريض أن يصلي على جنبه؛ تعين عليه أن يصلي على ظهره، وتكون رجلاه إلى القبلة مع الإمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وإذا صلى المريض قاعدًا، ولا يستطيع السجود على الأرض، أو صلى على جنبه أو على ظهره كما سبق؛ فإنه يؤميء برأسه للركوع والسجود، ويجعل الإيماء للسجود أخفض من الإيماء للركوع، وإذا صلى المريض جالسا وهو يستطيع السجود على الأرض؛ وجب عليه ذلك، ولا يكفيه الإيماء. والدليل على جواز صلاة المريض على هذه الكيفية المفصلة ما أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث عمرن بن حصين رضي الله عنه؛ قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "صل قائما، فإن لم تستطع؛ فصل قاعدًا، فإن لم تستطع، فعلى جنبك"، زاد النسائي: "فإن لم تستطع؛ فمستلقيا، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} ". وهنا يجب التنبيه على أن ما يفعله بعض المرضى ومن تجري لهم عمليات جراحية، فيتركون الصلاة بحجة أنهم لايقدرون على أداء الصلاة بصفة كاملة، أو لا يقدرون على الضوء، أو لأن ملابسهم نجسة، أو غير ذلك من الأعذار، وهذا خطأ كبير؛ لأن المسلم لا يجوز له ترك الصلاة إذا عجز عن بعض شروطها أو أركانها واجباتها، يل يصليها على حسب حاله، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} . وبعض المرضى يقول: إذا شفيت قضت الصلوات التي تركتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وهذا جهل منهم أو تساهل؛ فالصلاة تصلي في وقتها حسب الإمكان، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها؛ فينبغي الانتباه لهذا، والتنبيه عليه، ويجب أن يكون في المستشفيات توعية دينية، وتفقد لأحوال المرضى من ناحية الصلاة وغيرها من الواجبات الشرعية التي هم بحاجة إلى بيانها. وما سبق بيانه هو في حق من ابتدأ الصلاة معذورًا، واستمر به العذر إلى الفراغ منها، وأما من ابتدأها وهو يقدر على القيام، ثم طرأ عليه العجز عنه، أو ابتدأها وهو لا يستطيع القيام، ثم قدر عليه في أثنائها، أو ابتدأها قاعدًا، ثم عجز عن القعود أثنائها، أو ابتدأها على جنب، ثم قدر على القعود، فإنه في تلك الأحوال ينتقل إلى الحالة المناسبة له شرعا، ويتمها عليها وجوبا؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} ، فينتقل إلى القيام من قدر عليه، وينتقل إلى الجلوس من عجز عن القيام في أثناء الصلاة ... وهكذا. وإن قدر على القيام والقعود، ولم يقدر على الركوع والسجود؛ فإنه يوميء برأسه بالركوع قائما، ويومئ بالسجود قاعدًا؛ ليحصل الفرق بين الإيماءين حسب الإمكان. وللمريض أن يصلي مستلقيا مع قدرته على القيام إذا قال له طبيب مسلم ثقة: لا يمكن مداواتك إلا إذا صليت مستلقيا؛ لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا حين جحش شقه، وأم سلمة تركت السجود لرمد بها. ومقام الصلاة في الإسلام عظيم؛ فيطلب من المسلم، بل يتحتم عليه أن يقيمها في حال الصحة وحال المرض؛ فلا تسقط عن المريض، لكنه يصليها على حسب حاله؛ فيجب على المسلم أن يحافظ عليها كما أمره الله. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. ثانيا: صلاة الراكب ومن أهل الأعذار الراكب إذا كان يتأذى بنزوله للصلاة على الأرض بوحل أو مطر، أو يعجز عن الركوب إذا نزل، أو يخشى فوات رفقته إذا نزل، أو يخاف على نفسه إذا نزل من عدو أو سبع؛ ففي هذه الأحوال يصلي على مركوبه؛ من دابة وغيرها، ولا ينزل إلى الأرض؛ لحديث يعلي بن مرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو على راحلته، فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فصلى بهم يومئ إيماء؛ السجود أخفض من الركوع" رواه أحمد والترمذي. ويجب على من يصلي الفريضة على مركوبه لعذر مما سبق أن يستقبل القبلة إن استطاع؛ لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، ويجب عليه فعل ما يقدر عليه من ركوع وسجود وإيماء بهما وطمأنينة؛ لقول تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} ، وما لا يقدر عليه لا يكلف به. وإن لم يقدر على استقبال القبلة؛ لم يجب عليه استقبال القبلة؛ لم يجب عليه استقبالها، وصلى على حسب حاله، وكذلك راكب الطائرة يصلي فيها بحسب استطاعته من قيام أو قعود وركوع وسجود أو إيماء بهما؛ بحسب استطاعته، مع استقبال القبلة؛ لأنه ممكن. ثالثا: صلاة المسافر ومن أهل الأعذار المسافر، فيشرع له قصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قاله اله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر إلا قصرًا، والقصر أفضل من الإتمام قي قول جمهور العلماء، وفي "الصحيحين ": "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين؛ فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر"، وقال ابن عمر: "صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر". ويبدأ السفر بخروج المسافر من عامر بلده؛ لأن الله أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وقبل خروجه من بلده لا يكون ضاربا في الأرض ولا مسافرًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل، ولأن لفظ السفر معناه الإسفار؛ أي: الخروج إلى الصحراء، يقال: سفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته، فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن؛ لم يكن مسافراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ويقصر المسافر الصلاة، ولو كان يتكرر سفره؛ كصاحب البريد وسيارة الأجرة ممن يتردد أكثر وقته في الطريق بين البلدان. ويجوز للمسافر الجمع بين الظهر والعصر، والجمع بين المغرب والعشاء؛ في وقت أحدهما؛ فكل مسافر يجوز له القصر؛ فإنه يجوز له الجمع، وهو رخصة عارضة، يفعله عند الحاجة، كما إذا جد به السير؛ لما روى معاذ رضي الله عنه؛: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في عزوة تبوك: إذا ارتحل قبل زيغ الشمس؛ أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ويصليهما جمعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس؛ صلى الظهر والعصر جمعا ثم سار، وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء"، رواه أبو داود والترمذي. وإذا نزل المسافر في أثناء سفره للراحة؛ فالأفضل له أن يصلي كل صلاة في وقتها قصرًا بلا جمع. ويباح الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء للمريض الذي يلحقه بترك الجمع مشقة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة، فإذا احتاجوا الجمع؛ جمعوا، والأحاديث كلها تدل على أنه يجمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى" اهـ. وقال أيضا "يجمع المرضى كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين، ويباح الجمع لمن يعجز عن الطهارة لك صلاة؛ كمن به سلس بول، أو جرح لا يرقأ دمه، أو رعاف دائم؛ قياسا على المستحاضة؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لحمنة حين استفتته في الاستحاضة: "وإن قويتي على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، فتغتسلين، ثم تصلين الظهر والعصر جمعا ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ". ويباح الجمع بين المغرب والعشاء خاصة لحصول مطر يبل الثياب، وتوجد معه مشقة؛ لأنه عليه صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة، وفعله أبو بكر وعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك، وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء، وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم، بل ترك الجماعة مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة؛ إذ السنة أن تصلي الصلوات الخمس في المسجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق المسلمين، والصلاة جمعا في المساجد أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع؛ كمالك والشافعي وأحمد" انتهى. ومن يباح له الجمع؛ فالأفضل له أن يفعل الأرفق به من جمع تأخير أو جمع تقديم، والأفضل بعرفة جمع التقديم بين الظهر والعصر، وبمزدلفة الأفضل جمع التأخير بين المغرب والعشاء؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وجمع التقديم بعرفة لأجل اتصال الوقوف، وجمع التأخير بمزدلفة من أجل مواصلة السير إليها. وبالجملة؛ فالجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة سنة، وفي غيرها مباح يفعل عند الحاجة، وإذا لم تدع إليه حاجة؛ فالأفضل للمسافر أداء كل صلاة في وقتها؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في أيام الحج إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى؛ لأنه نازل، وإنما كان يجمع إذا جد به السير. هذا ونسأل الله للجميع التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح. رابعا: صلاة الخوف تشرع صلاة الخوف في كل وقت مباح؛ كقتال الكفار والبغاة والمحاربين؛ لقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وقيس عليه الباقي ممن يجوز قتاله، ولا تجوز صلاة الخوف في قتال محرم ز والدليل على مشروعية صلاة الخوف الكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} . قال الإمام أحمد رحمه الله: "صحت صلاة الخوف عند النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أو ستة كلها جائزة " اه. فهي مشروعة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وتستمر مشروعيتها إلى آخر الدهر، وأجمع على ذلك الصحابة وسائر الأئمة ما عدا خلافا قليلاً لا يعتد به. وتفعل صلاة الخوف عند الحاجة إليها سفرًا وحضرًا، إذا خيف هجوم العدو على المسلمين؛ لأن المبيح لها هو الخوف لا السفر، لكن صلاة الخوف في الحضر لا يقصر فيها عدد الركعات، وإنما تقصر فيها صفة الصلاة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وصلاة الخوف في السفر يقصر فيها عدد الركعات إذا كانت رباعية، وتقصر فيها الصفة. وتشرع صلاة الخوف بشرطين: الشرط الأول: أن يكون العدو يحل قتاله كما سبق. الشرط الثاني: أن يخاف هجومه على المسلمين حال الصلاة؛ لقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وقوله {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} . ومن صفات صلاة الخوف: الصفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهل ابن أبي هثمه الأنصاري رضي الله عنه. وقد اختار الإمام أحمد العمل بها؛ لأنها أشبه بالصفة المذكورة في القرآن الكريم، وفيها احتياط للصلاة واحتياط للحرب، وفيها نكاية بالعدو، وقد فعل صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة في غزوة ذات الرقاع. وصفتها كما رواها سهل هي: "أن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم"، متفق عليه. ومن صفات صلاة الخوف: ما روى جابر؛ قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصففنا صفين والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي يليه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وكان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي يليه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا، ثم سلم صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا"، رواه مسلم. ومن صفات صلاة الخوف: ما رواه ابن عمر؛ قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والأخرى مواجهة العدوى، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة"، متفق عليه. ومن صفات صلاة الخوف: أن يصلي بكل طائفة صلاة، ويسلم بها، رواه أحمد وأبوا داود والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ومن صفات صلاة الخوف: ما رواه جابر؛ قال: "أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع"؛ قال: "فنودي للصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين"، قال: "فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان"، متفق عليه. وهذه الصفات تفعل إذا لم يشتد الخوف، فإذا اشتد الخوف؛ بأن تواصل الطعن والضرب والكر والفر، ولم يمكن تفريق القوم وصلاتهم على ما ذكر، وحان وقت الصلاة؛ صلوا على حسب حالهم، رجالاً وركبانا، للقبلة وغيرها يومئون بالركوع والسجود حسب طاقتهم، ولا يؤخرون الصلاة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ؛ أي فصلوا رجالاً أو ركبانا، والرجال جمع راجل، وهو الكائن على رجليه ماشيا أو واقفا، والركبان جمع راكب. ويستحب أن يحمل معه في صلاة الخوف من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله؛ لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم} . ومثل شدة الخوف: حالة الهرب من عدو أو سيل أو سبع أو خوف فوات عدو يطلبه؛ فيصلي في هذه الحالة راكبا أو ماشيا، مستقبل القبلة وغير مستقبلها، يومئ بالركوع والسجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ونستفيد من صلاة الخوف على هذه الكيفيات العجيبة والتنظيم الدقيق: أهمية الصلاة في الإسلام، وأهمية صلاة الجماعة بالذات، فإنهما لم يسقطا في هذه الأحوال الحرجة؛ كما نستفيد كمال هذه الشريعة الإسلامية، وأنها شرعت لكل حالة ما يناسبها، كما نستفيد نفي الحرج عن هذه الأمة، وسماحة هذه الشريعة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان. نسأل الله أن يرزقنا التمسك بها والوفاة عليها؛ إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 باب في أحكام صلاة الجمعة سميت بذلك لجمعها الخلق الكثير، ويومها أفضل أيام الأسبوع. ففي "الصحيحين" وغيرهما: "من أفضل أيامكم يوم الجمعة". وقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا فيه تبع". وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلها، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فحاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 شرع اجتماع المسلمين فيه لتنبيههم على عظم نعمه الله عليهم، وشرعت فيه الخطبة لتذكيرهم بتلك النعمة، وحثهم على شكرها، وشرعت فيه صلاة الجمعة في وسط النهار؛ الاجتماع في المسجد واحد. وأمر الله المؤمنين بحضور ذلك الاجتماع واستماع الخطبة وإقامة تلك الصلاة، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قال ابن القيم: "كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء؛ هل هو أفضل أم يوم عرفة؟ هما وجهان لأصحاب الشافعي، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر بسورتي {الم تَنْزِيلُ} ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الأِنْسَانِ} ". إلى أن قال: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتها ما كان في يومها؛ فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وكان في قراءتهما في هذا اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعا، ليست مقصودة المصلي قراءتها حيث اتفقت "يعني: من أي سورة". ومن خصائص يوم الجمعة: استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة"، رواه البيهقي. ومن أعظم خصائص يوم الجمعة: صلاة التي هي من آكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين، من تركها تهاونا بها؛ طبع الله على قلبه. ومن خصائص يوم الجمعة: الأمر بالاغتسال فيه، وهو سنة مؤكدة، ومن العلماء من يوجبه مطلقا، ومنهم يوجبه في حق من به رائحة يحتاج إلى إزالتها. ومن خصائص يوم الجمعة: استحباب التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ومن خصائص هذا اليوم: استحباب التكبير للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة، والاشتغال بالصلاة النافلة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام للخطبة، ووجوب الإنصات للخطبة إذا سمعها فإن لم ينصت للخطبة؛ كان لاغيا، ومن لغا؛ فلا جمعة له، وتحريم الكلام وقت الخطبة؛ ففي "المسند" مرفوعا: "والذي يقول لصاحبه: أنصت؛ فلا جمعة له". ومن خصائص يوم الجمعة: قراءة سورة الكهف في يومه؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة؛ سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين"، رواه الحاكم والبيهقي. ومن خصائص يوم الجمعة: أن فيه ساعة الإجابة؛ ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا؛ إلا أعطاه إياه " وقال بيده؛ يقللها"". ومن خصائص يوم الجمعة: أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتذكير العباد. وخصائص هذا اليوم كثيرة، ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد"، فأوصلها إلى ثلاث وثلاثين ومئة. ومع هذا؛ يتساهل كثير من الناس في حق هذا اليوم، فلا يكون له مزية عندهم على غيره من الأيام، والبعض الآخر يجعل هذا اليوم وقتا للكسل والنوم، والبعض يضيعه باللهو واللعب والغفلة عن ذكر الله، حتى إنه لينقص عدد المصلين في المساجد في فجر ذلك اليوم نقصا ملحوظا. فلا حول ولا قوة إلا بالله. ويستحب التكبر في الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة، فإذا دخل المسجد؛ صلى تحية المسجد ركعتين. وإن كان مبكرًا فأراد أن يتنفل بزيادة صلوات؛ فلا مانع من ذلك؛ لأن السلف كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام؛ لما في "الصحيح" من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يصلي ماكتب له"، بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت، وهو المأثور عن الصحابة، كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة؛ يصلون من حين يدخلون ما تيسر؛ فمنهم من يصلي عشر ركعات، ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة، ونهم من يصلي ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك، ولهذا؛ كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد، والصلاة قبل الجمعة الأقوال، وحينئذ؛ فقد يكون الترك أفضل أو ترك؛ لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وحينئذ؛ فقد يكون الترك أفضل، إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة" اه. وهذا ما يتعلق بصلاة النافلة قبل صلاة الجمعة؛ فليس لها راتبة قبلها، وإنما راتبتها بعدها؛ ففي "صحيح مسلم": "إذا صلى أحدكم الجمعة؛ فليصل بعدها أربع ركعات"، وفي "الصحيحين": "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين"، والجمع بين الحديثين أنه إن صلى في بيته؛ صلى ركعتين، وإن صلى في المسجد؛ صلى أربع ركعات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وإن شاء صلى ست ركعات؛ لقول ابن عمر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة؛ تقدم فصلى ركعتين، ثم يقدم فصلى أربعا". والأحقية في المكان في المسجد للسابق بالحضور بنفسه، وأما ما يفعله الناس من حجز مكان في المسجد، توضع سجادة أو عصا أو نعلان، ويتأخر هو عن الحضور، ويحرم المتقدم من ذلك المكان؛ فإن ذلك عمل غير سائغ، بل صرح بعض العلماء أم لمن أتى المسجد رفع ما وضع ذلك المكان والصلاة فيه؛ لأن السابق يستحق الصلاة في الصف الأول، ولأن وضع الحمى للمكان في المسجد دون حضور من الشخص اغتصاب للمكان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما ما يفعله كثير من الناس من تقدم مفارش ونحوها إلى المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم؛ فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين، بل محرم، وهل تصح صلاة على ذلك المفرش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في المكان، والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش ونحوه وتأخر هو؛ فقد خالف الشريعة من جهتين: من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه السابقين له، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى رقاب الناس إذا حضروا" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ومن أحكام الجمعة: أن من دخل المسجد والإمام يخطب؛ لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام؛ فليصل ركعتين"، متفق عليه، زاد مسلم: "وليتجوز فيهما"؛ أي: يسرع. فإن جلس؛ قام فأتى بهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي جلس قبل أن يصليهما؛ فقال له: "قم فاركع ركعتين". ومن أحكام صلاة الجمعة أنه لا يجوز الكلام والإمام يخطب: لقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . قال بعض المفسرين: "إنها نزلت في الخطبة، وسميت قرآنا؛ لاشتمالها على القرآن"، وحتى على القول الآخر بأن الآية نزلت في الصلاة؛ فإنها تشمل بعمومها الخطبة. وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال صه؛ فقد لغا، فلا جمعة له"، رواه أحمد وفي الحديث الآخر: "من تكلم؛ فهو كالحمار يحمل أسفارًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 والذي يقول له: أنصت؛ ليست له جمعة"، والمراد له كاملة. وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب؛ فقد لغوت"؛ أي: قلت اللغو، واللغو الإثم، فإذا كان الذي يقول للمتكلم: أنصت وهو في الأصل يأمر بمعروف، قد لغا، وهو منهي عن ذلك؛ فغير ذلك من الكلام من باب أولى. ويجوز للإمام أن يكلم بعض المأمومين حال الخطبة، ويجوز لغيره أن يكلمه لمصلحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم سائلاً، وكلمه هو، وتكرر ذلك في عدة وقائع كلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة وكلموه حال الخطبة فيما فيه مصلحة وتعلم، ولأن ذلك لا يشغل عن سماع الخطبة. ولا يجوز لمن يستمع الخطبة أن يتصدق على السائل وقت الخطبة، لأن السائل فعل ما لا يجوز له فعله؛ فلا يعينه على ما لا يجوز، وهو الكلام حال الخطبة. وتسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها من الخطيب، ولا يرفع صوته بها؛ لئلا يشغل غيره بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ويسن أن يؤمّن على دعاء الخطيب بلا رفع صوت. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ورفع الصوت قدام الخطيب مكروه أو محرم اتفاقا، ولا يرفع المؤذن ولا غيره صوته بصلاة ولا غيرها" اه. ويلاحظ أن هذا الذي نبه عليه الشيخ لا يزال موجودًا في بعض الأمصار؛ من رفع الصوت بالصلاة على الرسول أو غير ذلك من الأدعية حال الخطبة أو قبلها أو بين الخطبتين، وربما أن بعض الخطباء يأمر الحاضرين بذلك، وهذا جهل وابتداع لا يجوز فعله. ومن دخل والإمام يخطب فإنه لا يسلِّم، بل ينتهي إلى الصف بسكينة، ويصلي ركعتين خفيفتين كما سبق، ويجلس لاستماع الخطبة، ولا يصافح من بجانبه. ولا يجوز له العبث حال الخطبة بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من مس الحصا؛ فقد لغا ومن لغا؛ فلا جمعة له"، صححه الترمذي، ولأن العبث يمنع الخشوع. وكذلك لا ينبغي له أن يتلفت يمينا وشمالاً، ويشتغل بالنظر إلى الناس، أو غير ذلك؛ لأن ذلك يشغله عن الاستماع للخطبة، ولكن ليتجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 إلى الخطيب كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتجهون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة. وإذا عطس؛ فإنه يحمد الله سرًا بينه وبين نفسه. ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها وإذا جلس الإمام بين الخطبتين لمصلحة، لكن لا ينبغي التحدث بأمور الدنيا. وبالجملة، فخطبتا الجمعة لهما أهمية عظيمة في الإسلام؛ لما تشتملان عليه من تلاوة القرآن وذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضمنها التوجيهات النافعة والموعظة الحسنة والتذكير بأيام الله؛ فيجب الاهتمام بهما من قبل الخطيب ومن قبل المستمعين؛ فليست خطبة الجمعة مجرد حديث عادي كالأحاديث التي تلقى في النوادي والاحتفالات والاجتماعات العادية. ومما ينبغي التنبيه عليه: أن بعض المستمعين لخطبتي الجمعة يرفع صوته بالتعوذ عندما يسمع شيئا من الوعيد في الخطبة، أو يرفع صوته بالسؤال والدعاء عندما يسمع شيئا من ذكر الثواب أو الجنة، وهذا شيء لا يجوز، وهو داخل في الكلام المنهي عنه حال الخطبة. وقد دلت النصوص على أن الكلام حال الخطبة يفسد الأجر، وأن المتكلم لا جمعة له، وأنه كالحمار يحمل أسفارًا؛ فيجب الحذر من ذلك والتحذير منه. وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن صلاة الجمعة فرض مستقل، ليست بدلاً من الظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 قال عمر رضي الله عنه: "صلاة الجمعة ركعتين، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم". وذلك لأنها تخالف صلاة الظهر في أحكام كثيرة، وهي أفضل من صلاة الظهر، وآكد منها؛ لأنه ورد على تركها زيادة تهديد، ولأن لها شروطا وخصائص ليست لصلاة الظهر، ولا تجزئ عنها صلاة الظهر ممن وجبت عليه ما لم يخرج وقتها؛ فصلاة الظهر حينئذ تكون بدلاً عنها. وصلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم ذكر حر مكلف مستوطن: روى أو داود بسنده عن طارق بن شهاب مرفوعا: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة؛ إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض"، إسناده ثقات، وصححه غير واحد. وروى الدارقطني بسنده عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فعليه الجمعة يوم الجمعة؛ إلا مريضا، أو مسافرًا، أو صبيا، أو مملوكا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل قوم مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا، تقام فيه الجمعة إذا كان مبنيا بما جرت به عادتهم من مدر أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك؛ فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، وإنما الأصل أن يكونوا مستوطنين، ليسوا كأهل الخيام والحلل، الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا" انتهى. ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر. ومن خرج إلى البر في نزهة أو غيرها، ولم يكن حوله مسجد تقام فيه الجمعة؛ فلا جمعة عليه، ويصلي ظهرًا. ولا تجب على امرأة. قال ابن المنذر وغيره: "أجمعوا أن لا جمعة على النساء، وأجمعوا أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة؛ أن ذلك يجزئ عنهن، وكذلك إذا حضرها المسافر؛ أجزأته، وكذلك المريض؛ لأن إسقاطها عن هؤلاء للتخفيف عنهم، ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة في يومها بعد زوال الشمس حتى يصليها، وقبل الزوال يكره السفر إن لم يكن سيصليها في طريقه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ويشترط لصحة الجمعة: 1 دخول الوقت؛ لأنها صلاة مفروضة؛ فاشترط لها دخول الوقت كبقية الصلوات؛ فلا تصح قبل وقتها ولا بعده؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ، وأداؤها بعد الزوال أفضل وأحوط؛ لأنه الوقت الذي كان يصليها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر أوقاته، وأداؤها قبل الزوال محل خلاف بين العلماء، وآخر وقتها آخر وقت صلاة الظهر؛ فلا خلاف. 2 أن يكون المصلون مستوطنين بمساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به؛ فلا تصح من أهل الخيام وبيوت الشعر الذي ينتجعون في الغالب مواطن القطر وينقلون بيوتهم؛ فقد كانت العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الجمعة. ومن أدرك مع الإمام من صلاة الجمعة ركعة؛ أتمها جمعة؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا: "ومن أدرك ركعة من الجمعة؛ فقد أدرك الصلاة"، رواه البيهقي، وأصله في "الصحيحين". وإن أدرك أقل من ركعة؛ بأن رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية قبل دخوله معه؛ فاتته صلاة الجمعة، فيدخل معه بنية الظهر، فإذا سلم الإمام؛ أتمها ظهرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 3 ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، وقال ابن عمر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس"، متفق عليه. ومن شروط صحتهما: حمد الله، والشهادتان والصلاة على رسوله، والوصية بتقوى الله، والموعظة وقراءة شيء من القرآن، ولو آية، بخلاف ما عليه خطب المعاصرين اليوم، من خلوها من هذه الشروط أو غالبها. قال الإمام ابن القيم: "ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه؛ وجدها كافية ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقهن وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه؛ فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم. ثم طال العهد، وخفى نور النبوة وصارت الشرائع والأوامر رسوما تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فجعلوا الرسوم والأوضاع سننا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع، فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها". هذا ما قاله الإمام ابن القيم في طابع الخطب في عصره، وقد زاد الأمر على ما وصف حتى صار الغالب على الخطب اليوم أنها حشو من الكلام قليل الفائدة. فبعض الخطباء أو كثير منهم يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرسي، يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، ويطيل الخطبة تطويلاً مملاً حتى إن بعضهم يهمل شروط الخطبة أو بعضها، ولا يتقيد بمواصفاتها الشرعية، فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير والتأثر والإفادة. وبعض الخطباء يقحم في الخطبة مواضيع لا تتناسب مع موضوعها، وليس من الحكمة ذكرها في هذا المقام، وقد لا يفهما غالب الحضور؛ لأنها أرفع من مستواهم، فيدخلون فيها المواضيع الصحفية والأوضاع السياسية وسرد المجريات التي لا يستفيد منها الحاضرون. فيا أيها الخطباء! عودوا بالخطبة إلى الهدي النبوي، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} ، ركزوا مواضيعها على نصوص من القرآن والسنة التي تتناسب مع المقام، ضمنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة، عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر، أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب ونور البصائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 إنه ليس المقصود وجود خطبتين فقط، بل المقصود أثرهما في المجتمع، كما قل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت؛ لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفا بما يحرك القلوب ويبعث بها إلى الخير، وذم الدنيا والتحذير منها مما تواصى به منكروا الشرائع، بل لا بد من الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية، والدعوة إلى الله، والتذكير بآلائه"، وقال: "ولا تحصل الخطبة باختصار يفوت به المقصود، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم" اه. وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يسن في خطبتي الجمعة أن يخطب على منبر؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولأن ذلك أبلغ في الوعظ حينما يشاهد الحضور الخطيب أمامهم. قال النووي رحمه الله: "واتخاذه سنة مجمع عليها". ويسن أن يسلم الخطيب على المأمومين إذا اقبل عليهم؛ لقول جابر: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر؛ سلم"، رواه ابن ماجه وله شواهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ويسن أن يجلس على المنبر إلى فراغ المؤذن؛ لقول ابن عمر: "كان رسوله الله صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب" رواه أبو داود. ومن سنن خطبتي الجمعة: أن يجلس بينهما؛ لحديث أبن عمر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس"، متفق عليه. ومن سننهما: أن يخطب قائما؛ لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقوله: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ، وعمل المسلمين عليه. ويسن أن يعتمد على عصا ونحوه. ويسن أن يقصد تلقاء وجهه؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولأن التفاته إلى أحد جانبيه إعراض عن الآخر ومخالفة للسنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد تلقاء وجهه في الخطبة، ويستقبله الحاضرون بوجوههم؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: "كان إذا استوى على المنبر؛ استقبلناه بوجوهنا"، رواه الترمذي. ويسن أن يقصر الخطبة تقصيرًا معتدلاً؛ بحيث لا يملوا وتنفر نفوسهم، ولا يقصرها تقصيرًا مخلاً؛ فلا يستفيدون منها؛ فقد روى الإمام مسلم عن عمار مرفوعا: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة"، ومعنى قوله: "مئنة من فقه"؛ أي: علامة على فقهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ويسن أن يرفع صوته بها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب؛ علا صوته، واشتد غضبه، لأن ذلك أوقع في النفوس، وأبلغ في الوعظ، وأن يلقيها بعبارات واضحة قوية مؤثرة وبعبارات جزلة. ويسن أن يدعو للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم، ويدعو لإمام المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والتوفيق، وكان الدعاء لولاة الأمور في الخطبة معروفا عند المسلمين، وعليه عملهم؛ لأن الدعاء لولاة أمور المسلمين بالتوفيق والصلاح من منهج أهل السنة والجماعة، وتركه من منهج المبتدعة، قال الإمام أحمد: "لو كان لنا دعوة مستجابة؛ لدعونا بها للسلطان"، ولأن في صلاحه صلاح المسلمين. وقد تركت هذه السنة حتى صار الناس يستغربون الدعاء لولاة الأمور ويسيئون الظن بمن يفعله. ويسن إذا فرغ من الخطبتين أن تقام الصلاة مباشرة، وأن يشرع في الصلاة من غير فصل طويل. وصلاة الجمعة ركعتين بالإجماع يجهر فيها بالقراءة، ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى منهما بسورة الجمعة بعد الفاتحة، ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة بسورة المنافقين؛ لأنهصلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما؛ كما رواه مسلم عن ابن عباس، أو يقرأ في الأولى ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، وفي الثانية ب {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الْغَاشِيَةِ} ؛ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ أحيانا بالجمعة والمنافقين، وأحيانا ب {سَبِّحِ} و {الْغَاشِيَةِ} ، ولا يقسم سورة واحدة من هذه السور بين الركعتين؛ أن ذلك خلاف السنة. والحكمة في الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة كون ذلك أبلغ في تحصيل المقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 باب في أحكام صلاة العيدين صلاة العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان المشركون يتخذون أعيادًا زمانية ومكانية، فأبطلها الإسلام، وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى، شكرًا لله تعالى على أداء هاتين العبادتين العظيمتين: صوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه لما قدم المدينة، وكان لأهلها يومان يلبون فيهما؛ قال صلى الله عليه وسلم: "قد أبدكم الله بهما خيرًا منهما؛ يوم النحر، ويوم الفطر". فلا تجوز الزيادة على هذين العيدين بإحداث أعياد أخرى كأعياد الموالد وغيرها؛ لأن ذلك زيادة على ما شرعة الله، واتباع في الدين، ومخالفة لسنة سيد المرسلين، وتشبه بالكافرين، سواء سميت أعيادًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أو ذكريات أو أياما أو أسابيع أو أعواما، كل ذلك ليس من الإسلام، بل هو من فعل الجاهلية، وتقليد للأمم الكفرية من الدول الغربية وغيرها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم؛ فهو منهم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". نسأل الله أن يرينا الحق حقّا ويرزقنا إتباعه، أن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. وسمى العيد عيدًا لأنه يعود ويتكرر كل عام، ولأنه يعود بالفرح والسرور، ويعود الله فيه بالإحسان على عباده على إثر أدائهم لطاعته بالصيام والحج. والدليل على مشروعية صلاة العيد: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده يداومون عليها. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حتى النساء، فيسن للمرأة حضورها غير متطيبة ولا لابسة لثياب زينة أو شهرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 "وليخرجن تفلات، ويعتزلن الرجال، ويعتزل الحيض المصلى"، قالت أم عطية رضي الله عنها: "كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم؛ يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته". والخروج لصلاة العيد وأداء صلاة العيد على هذا النمط المشهود من الجميع فيه إظهار لشعار الإسلام؛ فهي من أعلام الدين الظاهرة، وأول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للعيد يوم الفطر من السنة الثانية من الهجرة. ولم يزل صلى الله عليه وسلم يواظب عليها حتى فارق الدنيا صلوات الله وسلامه عليه، واستمر عليها المسلمون خلف من سلف، فلو تركها أهل بلد من استكمال شروطها فيهم؛ قاتلهم الإمام؛ لأنها من أعلام الدين الظاهر؛ كالأذان. وينبغي أن يؤدى صلاة العيد في صحراء قريبة من البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في المصلى الذي على باب المدينة؛ فعن أبي سعيد: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى"، متفق عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ولم ينقل أنه صلاها في المسجد لغير عذر، ولن الخروج إلى الصحراء أوقع لهيبة المسلمين والإسلام، وأظهر لشعائر الدين، ولا مشقة في ذلك؛ لعدم تكرره؛ بخلاف الجمعة؛ إلا في مكة المشرفة؛ فإنها تصلى في المسجد الحرام. ويبدأ وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها قدر رمح؛ لأنه الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها فيه، ويمتد وقتها إلى زوال الشمس. فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال؛ صلوا من الغد قضاء؛ لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار؛ قالوا: "غم علينا هلال شوال، فأصبحنا صياما، فجاء ركب في آخر النهار، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غدًا لعيدهم" رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وحسنه، وصححه جماعة من الحفاظ، فلو كانت تؤدى بعد الزوال؛ لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغد، ولأن صلاة العيد شرع لها الاجتماع العام؛ فلا بد أن يسبقها وقت يتمكن الناس من التهيؤ لها. ويسن تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر؛ لما روى الشافعي مرسلاً؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم: أن عجل الأضحى، وأخر الفطر، وذكر الناس. وليتسع وقت التضحية بتقديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الصلاة في الأضحى، وليتسع الوقت لإخراج زكاة الفطر قبل صلاة الفطر. ويسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر تمرات، وأن لا يطعم يوم النحر حتى يصلى؛ لقول بريدة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي"، رواه أحمد وغيره. قال الشيخ تقي الدين: "لما قدم الله الصلاة على النحر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، وقدم التزكي على الصلاة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ؛ كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر، وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر. ويسن التبكير في الخروج لصلاة العيد؛ ليتمكن من الدنو من الإمام، وتحصل له فضيلة انتظار الصلاة، فيكثر ثوابه. ويسن أن يتجمل المسلم لصلاة العيد بلبس أحسن الثياب؛ لحديث جابر: "كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة"، رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وعن ابن عمر أنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه، رواه البيهقي بإسناد جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ويشترط لصلاة العيد الاستيطان؛ بأن يكون الذين يقيمونها مستوطنين في مساكن مبنية بما جرت العادة بالبناء به؛ كما في صلاة الجمعة؛ فلا تقام صلاة العيد إلا حيث يسوغ إقامة صلاة الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في حجته، ولم يصلها، وكذلك خلفاؤه من بعده. وصلاة العيد ركعتان قبل الخطبة؛ لقول ابن عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة"، متفق عليه، وقد استفاضت السنة بذلك وعليه عامة أهل العلم، قال الترمذي: "والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ أن صلاة العيدين قبل الخطبة". وحكمة تأخير الخطبة عن صلاة العيد وتقديمها على صلاة الجمعة: أن خطبة الجمعة شرط للصلاة، والشرط مقدم على المشروط؛ بخلاف خطبة العيد؛ فإنها سنة. وصلاة العيدين ركعتان بإجماع المسلمين، وفي "الصحيحين" وغيرهما عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، وقال عمر: "صلاة الفطر والأضحى ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، وقد خاب من افترى"، رواه أحمد وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ولا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة؛ لما روى مسلم عن جابر: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد مرة ولا مرتين، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة؛ بغير أذان ولا إقامة". ويكبر في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ست تكبيرات؛ فتكبيرة الإحرام ركن، لابد منها، لا تنعقد الصلاة بدونها، وغيرها من التكبيرات سنة، ثم يستفتح بعدها؛ لأن الاستفتاح في أول الصلاة، ثم يأتي بالتكبيرات الزوائد الست، ثم يتعوذ عقب التكبيرة السادسة؛ لأن التعوذ للقراءة، فيكون عندها، ثم يقرأ. ويكبر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات غير تكبيرة الانتقال؛ لما روى أحمد عن عمروا بن شعيب عن أبيه عن جده؛: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة؛ سبعا في الأولى، وخمسا في الآخرة"، وإسناده حسن. وروى غير ذلك في عدد التكبيرات: قال الإمام أحمد رحمه الله: "اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز". ويرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ويسن أن يقول بين كل تكبيرتين: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرًا، لقول عقبة بن عامر: سألت ابن مسعود عما يقوله بعد تكبيرات العيد؟ قال: "يحمد الله، ويثني عليه، ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم". ورواه البيهقي بإسناده عن ابن مسعود قولاً وفعلاً. وقال حذيفة: "صدق أبو عبد الرحمن". وإن أتى بذكر غير هذا فلا بأس؛ لأنه ليس فيه ذكر معين. قال ابن القيم: "كان يسكت بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة، ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات" اهـ. وإن شك في عدد التكبيرات؛ بنى على اليقين، وهو الأقل. وإن نسى التكبير الزائد حتى شرع في القراءة؛ سقط؛ لأنه سنة فات محلها. وكذا إذا أدرك المأموم الإمام بعدما شرع في القراءة؛ لم يأت بالتكبيرات الزوائد، أو أدركه راكعا، فإنه يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يركع، ولا يشتغل بقضاء التكبير. وصلاة العيد ركعتان، يجهر الإمام فيهما بالقراءة؛ لقول ابن عمر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء"، رواه الدارقطني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وقد أجمع العلماء على ذلكن ونقله الخلف عن السلف، واستمر عمل المسلمين عليه. ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، ويقرأ في الركعة الثانية بالغاشية؛ لقول سمرة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} "، رواه أحمد. أو يقرأ في الركعة الأولى ب {ق} و {اقْتَرَبَتِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 أو نحو ذلك مما جاء في الأثر؛ كان حسنا، وكان قراءته في المجامع الكبار بالسور المشتملة على التوحيد والأمر والنهي والمبدأ والمعاد وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم وما حل بهم من الهلاك والشقاء ومن آمن بهم وصدقهم ما لهم من النجاة والعافية" انتهى. فإذا سلم من الصلاة؛ خطب خطبتين، يجلس بينهما؛ لما روى عبيد الله بن عبيد الله بن عتبة؛ قال: "السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس"، رواه الشافعي، ولابن ماجه عن جابر: "خطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام"، وفي الصحيح وغيره: "بدأ بالصلاة ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته" الحديث، ولمسلم: " ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ويحثهم في خطبة عيد الفطر على إخراج صدقة الفطر، ويبين لهم أحكامها؛ من حيث مقدارها، ووقت إخراجها، ونوع المخرج فيها. ويرغبهم في خطبة عيد الأضحى في ذبح الأضحية، ويبين لهم أحكامها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيرًا من أحكامها. وهكذا ينبغي للخطباء أن يركزوا في خطبهم على المناسبات؛ فيبينوا للناس ما يحتاجوه إلى بيانه في كل وقت بحسبه بعد الوصية بتقوى الله والوعظ والتذكير، لا سيما في المجامع العظيمة والمناسبات الكريمة؛ فإنه ينبغي أن تضمن الخطبة ما يفيد المستمع ويذكر الغافل ويعلم الجاهل. وينبغي حضور النساء لصلاة العيد؛ كما سبق بيانه، وينبغي أن توجه إليهن موعظة خاصة ضمن خطبة العيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى أنه لم يسمع النساء؛ أتاهن، فوعظهن، وحثهن على الصدقة، وهكذا ينبغي أن يكون للنساء نصيب من موضوع خطبة العيد؛ لحاجتهن إلى ذلك وإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومن أحكام صلاة العيد: أنه يكره التنفل قبلها وبعدها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 موضعها، حتى يفارق المصلي؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد؛ فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما"، متفق عليه، ولئلا يتوهم أن لها راتبة قبلها أو بعدها. قال الإمام أحمد: "أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها". وقال الزهراني: "لم أسمع أحدًا من علمائنا يذكر أن أحدًا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها، وكان ابن مسعود وحذيفة ينهيان الناس عن الصلاة قبلها". فإذا رجع إلى منزله؛ فلا بأس أن يصلي فيه؛ لما روى أحمد وغيره: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع إلى منزله؛ صلى ركعتين". ويسن لمن فاتته صلاة العيد أو فاته بعضها قضاؤها على صفتها؛ بأن يصليها ركعتين؛ بتكبيراتها الزوائد؛ لأن القضاء يحكي الأداء، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فما أدركتم؛ فصلوا؛ وما فاتكم؛ فأتموا"، فإذا فاتته ركعة مع الإمام؛ أضاف إليها أخرى، وإن جاء والإمام يخطب؛ جلس لاستماع الخطبة، فإذا انتهت؛ صلاها قضاء، ولا بأس بقضائها متفردًا أو مع جماعة. ويسن في العيدين التكبير المطلق، وهو الذي لا يتقيد بوقت يرفع به صوته؛ إلا الأنثى؛ فلا تجهر به، فيكبر في ليلتي العيدين، وفي كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عشر ذي الحجة لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، ويجهر به في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، ويجهر به في الخروج إلى المصلى؛ لما أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عمر: "أنه إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير، حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام"، وفي "الصحيح": "كنا يؤمر بإخراج الحيض، فيكبرن بتكبيرهم"، ولمسلم: "يكبرن مع الناس"؛ فهو مستحب لما فيه من إظهار شعائر الإسلام. والتكبير في عيد الفطر آكد؛ لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ؛ فهو في هذا العيد آكد؛ لأن الله أمر به. ويزيد عيد الأضحى بمشروعية التكبير المقيد فيه، وهو التكبير الذي شرع عقب كل صلاة فريضة في جماعة، فيلتفت الإمام إلى المأمومين، ثم يكبر ويكبرون، لما رواه الدارقطني وابن أبي شيبة وغيرهما من حديث جابر: "أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة؛ يقول: الله أكبر ... " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ويبتدأ التكبير المقيد بأدبار الصلوات في حق غير المحرم من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عسر آخر أيام التشريق، وأما المحرم؛ فيبتدئ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق؛ لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية. روى الدارقطني عن جابر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق حين يسلم من المكتوبات"، وفي لفظ: "وكان إذا صلى الصلح من غداة عرفة؛ أقبل على أصحابه فيقول: مكانكم، ويقول: الله أكبر الله أكبر لاإله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد". وقال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} ، وهي أيام التشريق. وقال الإمام النووي: "هو الراجح وعليه العمل في الأمصار". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أصح الأقوال في التكبير الذي عليه الجمهور من السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة: أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة؛ لما في "السنن": "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وكون المحرم يبتدئ التكبير المقيد من صلاة الظهر يوم النحر؛ لأن التلبية تقطع برمي جمرة العقبة، ووقت رمي جمرة العقبة المسنون ضحى يوم النحر، فكان المحرم فيه كالمحل، فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر؛ فلا يبتدئ التكبير إلا بعد صلاة الظهر أيضا؛ عملاً على الغالب" انتهى. وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. ولا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضا؛ بأن يقول لغيره: تقبل الله منا ومنك. فال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قدر روى عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره" اه. والمقصود من التهنئة التودد وإظهار السرور. وقال الإمام أحمد: "لا أبتدئ به، فإن ابتدأني أحد؛ أجبته". وذلك لأن وجوب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة؛ فليس سنة مأمورًا بها، ولا هو أيضا مما نهي عنه، ولا بأس بالمصافحة في التهنئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 باب في أحكام صلاة الكسوف قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . صلاة الكسوف سنة مؤكدة باتفاق العلماء، ودليلها السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والكسوف آية من آيات الله يخوف الله بها عباده، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} . ولما كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خرج إلى المسجد مسرعا فزعا، يجر رداءه فصلى بالناس، وأخبرهم أن الكسوف آية من آيات الله، يخوف الله به عباده، وأنه قد يكون سبب نزول عذاب بالناس، وأمر بما يزيله، فأمر بالصلاة عند حصوله والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك من الأعمال الصالحة، حتى ينكشف ما بالناس؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ففي الكسوف تنبيه للناس وتخويف لهم ليرجعوا إلى الله ويراقبوه. وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف إنما يحصل عند ولادة عظيم أو موت عظيم، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الاعتقاد، وبيّن الحكمة الإلهية في حصول الكسوف: فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود الأنصار؛ قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: انكسف الشمس لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك؛ فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة". وفي حديث آخر في "الصحيحين": "فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي". وفي "صحيح البخاري" عن أبي موسى؛ قال: "هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوف بها عباده، فإذا رأيتم شيئا من ذلك؛ فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره". فالله تعالى يجري على هاتين الآيتين العظيمتين الشمس والقمر والكسوف والخسوف ليعتبر العباد ويعلموا أنهما مخلوقان يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما من المخلوقات؛ ليدل عباده بذلك على قدرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 التامة واستحقاقه وحده للعبادة؛ كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . ووقت صلاة الكسوف: من ابتداء الكسوف إلى التجلي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك؛ فصلوا" متفق عليه، وفي حديث آخر: "وإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى ينجلي"، رواه مسلم. ولا تقضي صلاة الكسوف بعد التجلي؛ لفوات محلها، فإن تجلى الكسوف قبل أن يعلموا به؛ لم يصلوا له. وصفة صلاة الكسوف: أن يصلي ركعتين يجهر فيهما بالقراءة على الصحيح من قولي العلماء، ويقرا في الركعة الأولى الفاتحة وسورة طويلة كسورة البقرة أو قدرها، ثم يركع ركوعا طويلاً، ثم يرفع رأسه ويقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد"؛ بعد اعتداله كغيرها من الصلوات، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى بقد سورة آل عمران، ثم يركع فيطيل الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم يرفع رأسه ويقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبا مباركا فيه، ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعده"، ثم يسجد سجدتين طويلتين، ولا يطيل الجلوس بين السجدتين، ثم يصلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الركعة الثانية كالأولى بركوعين طويلين وسجودين طويلين مثلما فعل في الركعة الأولى، ثم يتشهد ويسلم هذه صفة صلاة الكسوف؛ كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما روى ذلك عنه من طرق، بعضها في "الصحيحين"؛ منها ماروت عائشة رضي الله عنها: "أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام وكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، فركع ركوعا طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف"، متفق عليه. ويسن أن تصلى في جماعة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن تصلى فرادى كسائر النوافل، لكن فعلها جماعة أفضل. ويسن أن يعظ الإمام الناس بعد صلاة الكسوف، ويحذرهم من الغفلة والاغترار، ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار؛ ففي "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 رأيتم ذلك؛ فادعوا الله، وصلوا، وتصدقوا ... " الحديث. فإن انتهت الصلاة قبل أن ينجلي الكسوف؛ ذكر الله ودعاه حتى ينجلي، ولا يعيد الصلاة، وإن انجلى الكسوف وهو في الصلاة؛ أتمها خفيفة، ولا يقطعها؛ لقوله {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ؛ فالصلاة تكون وقت الكسوف؛ لقوله: "حتى ينجلي"، وقوله: "حتى ينكشف ما بكم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى؛ بحسب ما يكسف منه؛ فقد تكسف كلها، وقد يكسف نصفها أو ثلثها، فإذا عظم الكسوف؛ طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة، وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلكن وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا، وشرع تخفيفها لزوال السبب، وكذا إذا علم أنه لا يطول، وإن خف قبل الصلاة؛ ضرع فيها وأوجز، وعليه جماهير أهل العلم؛ لأنها شرعت لعلة، وقد زالت، وإن تجلى قبلها؛ لم يصل ... " انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 باب في أحكام صلاة الاستسقاء الاستسقاء هنا هو طلب السقي من الله تعالى؛ فالنفوس مجبولة على الطلب ممن يغيثها، وهو الله وحده، وكان ذلك معروفا في الأمم الماضية، وهو من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} ، واستسقى خاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته مرات متعددة وعلى كيفيات متنوعة، وأجمع المسلمون على مشروعيته. ويشرع الاستسقاء إذا أجدبت الأرض أي: أمحلت وانحبس المطر وأضر ذلك بهم؛ فلا مناص لهم أن يتضرعوا إلى ربهم ويستسقوه ويستغيثوه بأنواع من التضرع: تارة بالصلاة جماعة أو فرادى؛ وتارة بالدعاء في خطبة الجمعة؛ يدعو الخطيب والمسلمون يؤمنون على دعائه، وتارة بالدعاء عقب الصلوات وفي الخلوات بلا صلاة ولا خطبة؛ فكل ذلك وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحكم صلاة الاستسقاء أنها سنة مؤكدة؛ لقول عبد الله بن زيد: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه، ثم صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ركعتين جهر فيهما بالقراءة"، متفق عليه، ولغيره من الأحاديث. وصفة صلاة الاستسقاء في موضعها وأحكامها كصلاة العيد؛ فيستحب فعلها في المصلى كصلاة العيد، وأحكامها كأحكام صلاة العيد في عدد الركعات والجهر بالقراءة، وفي كونها تصلى قبل الخطبة، وفي التكبيرات الزوائد في الركعة الأولى والثانية قبل القراءة؛ كما سبق بيانه في صلاة العيد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم وغيره. ويقرأ في الركعة الأولى بسورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وفي الثانية بسورة الغاشية. ويصليها أهل البلد في الصحراء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في الصحراء، ولأن ذلك أبلغ في إظهار الافتقار إلى الله تعالى. وإذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء؛ فإنه ينبغي أن يتقدم ذلك تذكير الناس بما يلين قلوبهم من ذكر ثواب الله وعقابه، ويأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم؛ بردها إلى مستحقيها؛ لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 المعاصي سبب لمنع القطر وانقطاع البركات، والتوبة والاستغفار سبب لإجابة الدعاء، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، ويأمرهم بالصدقة على الفقراء والمساكين، لأن ذلك سبب للرحمة، ثم يعين لهم يوما يخرجون فيه ليتهيؤوا ويستعدوا لهذه المناسبة الكريمة بما يليق بها من الصفة المسنونة، ثم يخرجون في الموعد إلى المصلى بتواضع وتذلل وإظهار للافتقار إلى الله تعالى، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعا متخشعا متضرعا"، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وينبغي أن لا يتأخر أحد من المسلمين يستطيع الخروج، حتى الصبيان والنساء اللاتي لا تخشى الفتنة بخروجهن، فيصلي بهم الإمام ركعتين كما سبق، ثم يخطب خطبة واحدة، وبعض العلماء يرى أنه يخطب خطبتين، والأمر واسع، ولكن الاقتصار على خطبة واحدة أرجح من حيث الدليل، وكذلك كون الخطبة بعد صلاة الاستسقاء هو أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم، واستمر عمل المسلمين عليهن وورد أنه صلى الله عليه وسلم خطب قبل الصلاة وقال به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 بعض العلماء، والأول أرجح، والله أعلم. وينبغي أن يكثر في خطبة الاستسقاء من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به؛ لأن ذلك سبب لنزول الغيث، ويكثر من الدعاء بطلب الغيث من الله تعالى، ويرفع يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في دعائه بالاستسقاء، حتى يرى بياض إبطيه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من أسباب الإجابة، ويدعوا بالدعاء الوارد عن النبيصلى الله عليه وسلم في هذا الموطن؛ إقتداء به، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} . ويسن أن يستقبل القبلة في آخر الدعاء، ويحول رداءه؛ فيجعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين، وكذلك ما شابه الرداء من اللباس كالعباءة ونحوها؛ لما في "الصحيحين"؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم حول الناس إلى ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه ... ". والحكمة من ذلك والله أعلم: التفاؤل بتحويل الحال عما هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث، ويحول الناس أرديتهم لما روى الإمام أحمد: "وحول الناس معه أرديتهم"، ولأن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق أمته، ما لم يدل دليل على اختصاصه به، ثم إن سقى الله المسلمين، وإلا؛ أعادوا الاستسقاء ثانيا وثالثا؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك. وإذا نزل المطر يسن أن يقف في أوله ليصيبه منه، ويقول: "اللهم صيبا نافعا، ويقول: مطرنا بفضل الله ورحمته". وإذا زادت المياه وخيف منها الضرر؛ سن أن يقول: "اللهم حوالينا ولا علينا، الله على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، متفق عليه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 باب في أحكام الجنائز إن شريعتنا ولله الحمد كاملة شاملة لمصالح الإنسان في حياته وبعد مماته، ومن ذلك ما شرعه الله من أحكام الجنائز؛ من حين المرض والاحتضار إلى دفن الميت في قبره؛ من عيادة المريض، وتلقينه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، وما يتبع ذلك من قضاء ديونه، وتنفذ وصاياه، وتوزيع تركته، والولاية على أولاده الصغار. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وكان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي، مخالفا لهدي سائر الأمم، مشتملاً على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال، وعلى الإحسان للميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده؛ من عيادة، وتلقين، وتطهير، وتجهيز إلى الله تعالى على أحسن الأحوال وأفضلها، فيقفون صفوفا على جنازته، يحمدون لله، ويثنون عليهن ويصلون على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألون للميت المغفرة والرحمة والتجاوز، ثم يقفون على قبره؛ يسألون له التثبيت، ثم زيارة قبره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 والدعاء له؛ كما يتعاهد الحي صاحبه في الدنيا، ثم الإحسان إلى أهل الميت وأقاربه وغير ذلك" اهـ. ويسن الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له بالتوبة من المعاصي، ورد المظالم إلى أصحابها، والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل هجوم الموت على غرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من ذكر هادم اللذات"، رواه الخمسة بأسانيد صحيحة، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وهادم اللذات، بالذال: هو الموت. وروى الترمذي وغيره عن ابن مسعود مرفوعا: "استحيوا من الله حق الحياء". قالوا: إنا نستحي يانبي الله والحمد لله. قال: "ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء؛ فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة؛ ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك؛ فقد استحيا من الله حق الحياء". أولا: أحكام المريض والمحتضر. وإذا أصيب الإنسان بمرض؛ فعليه أن يصبر ويحتسب ولا يجزع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ويسخط لقضاء الله وقدره، ولا بأس أن يخبر الناس بعلته ونوع مرضه، مع الرضى بقضاء الله، والشكوى إلى الله تعالى، وطلب الشفاء منه لا ينافي الصبر، بل ذلك مطلوب شرعا ومستحب؛ فايوب عليه السلام نادى ربه وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . وكذلك لا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة، بل ذهب بعض العلماء إلى تأكد ذلك، حتى قارب به الوجوب؛ فقد جاءت الأحاديث بإثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالطعام والشراب. ولا يجوز التداوي بمحرم؛ لما في "الصحيح" عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه قال: "أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، وروى أبو داود وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "إن الله أنزل الدواء، وأنزل الداء، وجعل لكل داء دواء، ولا تداووا بحرام"، وفي "صحيح مسلم"؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخمر: "إنه ليس بدواء ولكنه داء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وكذلك يحرم التداوي بما يمس العقيدة؛ من تعليق التمائم المشتملة على الفاظ شركية أو أسماء مجهولة أو طلاسم أو خرز أو خيوط أو قلائد أو حلق تلبس على العضد أو الذراع أو غيره، يعتقد فيها الشفاء ودفع العين والبلاء؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وذلك كله من الشرك أو من وسائله الموصلة إليه. ومن ذلك أيضا التداوي عند المشعوذين من الكهان والمنجمين والسحرة والمستخدمين للجن، فعقيدة المسلم أهم عنده من صحته، وقد جعل الله الشفاء في المباحات للبدن والعقل والدين، وعلى رأس ذلك القرآن الكريم والرقية به وبالأدعية المشروعة. قال ابن القيم: "ومن أعظم العلاج فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع إلى الله والتوبة، وتأثيره أعظم من الأدوية، لكن بحسب استعداد النفس وقبولها" انتهى. ولا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة على أيدي الأطباء العارفين بتشخيص الأمراض وعلاجها في المستشفيات وغيرها وتسن عيادة المريض؛ لما في "الصحيحين" وغيرهما: "خمس تجب للمسلم على أخيه"ن وذكر منها عيادة المريض، فإذا زاره؛ سأل عن حاله؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدنوا من المريض، ويسأله عن حاله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وتكون الزيارة يوما بعد يوم، أو بعد يومين، ما لم يكن المريض يرغب الزيارة كل يوم، ولا يطيل الجلوس عنده؛ إلا إذا كان المريض يرغب ذلك، ويقول للمريض: "لا بأس عليك، طهور إن شاء الله"، ويدخل عليه السرور، ويدعو له بالشفاء، ويرقيه بالقرآن، لا سيما سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين. ويسن للمريض أن يوصي بشيء من ماله في أعمال الخير، ويجب أن يوصي بماله وما عليه من الديون وما عنده من الودائع والأمانات، وهذا مطلوب، حتى من الإنسان الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"، متفق عليه، وذكر الليلتين تأكيد لا تحديد؛ فلا ينبغي أن يمضي عليه زمان، وإن كان قليلاً، إلا ووصيته مكتوبة عنده؛ لأنه لا يدري متى يدركه الموت. ويحسن المريض ظنه بالله؛ فإن الله عز وجل يقول: "أنا عند ظن عبدي بي"، ويتأكد ذلك عند إحساسه بلقاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ويسن لمن يحضره تطميعه في رحمة الله، ويغلب في هذه الحالة جانب الرجاء على جانب الخوف، وأما في حالة الصحة؛ فيكون خوفه ورجاؤه متساويين؛ أن من غلب عليه الخوف؛ أوقعه في نوع من اليأس، ومن غلب عليه الرجاء؛ أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله. فإذا احتضر المريض؛ فإنه يسن لمن حضره أن يلقنه: لا إله إلا الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"، رواه مسلم، وذلك لأجل أن يموت على كلمة الإخلاص، فتكون ختام كلامه؛ فعن معاذ مرفوعا: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة"، ويكون تلقينه إياها برفق، ولا يكثر عليه؛ لئلا يضجره وهو في هذه الحال. ويسن أن يوجه إلى القلة. ويقرأ عنده سورة {يَاسِينَ} ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا على موتاكم سورة ياسين"، رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان، والمراد بقوله: "موتاكم": من حضرته الوفاة. أما من مات فأنه لا يقرأ عليه، فالقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على الذي يحتضر؛ فإنها سنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فالقراءة على الميت عند الجنازة أو على القبر أو لروح الميت، كل هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، والواجب على المسلم العمل بالسنة وترك البدعة. ثانيا: أحكام الوفاة. ويستحب إذا مات الميت تغميض عينيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغمض أبا سلمة رضي الله عنه لما مات، وقال: "إن الروح إذا قبض؛ تبعه البصر؛ فلا تقولوا إلا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون"، رواه مسلم. ويسن ستر الميت بعد وفاته بثوب؛ لما روت عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توقى؛ سجى ببردة حبرة"، متفق عليه. وينبغي الإسراع في تجهيزه إذا تحقق موته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله"، رواه أبو داود، ولأن في ذلك حفظا للميت من التغير، قال الإمام أحمد رحمه الله: "كرامة الميت تعجيله"، ولا بأس أن ينتظر به من يحضر من وليه أو غيره إن كان قريبا ولم يخش على الميت من التغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ويباح الإعلام بموت المسلم؛ للمبادرة لتهيئته، وحضور جنازته، والصلاة عليه، والدعاء له، وأما الإعلام بموت الميت على صفة الجزع وتعداد مفاخره؛ فذلك من فعل الجاهلية، ومنه حفلات التأبين وإقامة المآتم. ويستحب الإسراع بتنفيذ وصيته؛ لما فيه مت تعجيل الأجر، وقد قدمها الله تعالى في الذكر على الدين؛ اهتماما بشأنها، وحثا على إخراجها. ويجب الإسراع بقضاء ديونه، سواء كانت لله تعالى من زكاة وحج أو نذر طاعة أو كفارة، أو كانت الديون لآدمي كرد الأمانات والغصوب والعارية، سواء أوصى بذلك أم لم يوص به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"، رواه أحمد والترمذي وحسنه؛ أي: مطالبة بما عليه من الدين محبوسة، ففي هذا الحث على الإسراع في قضاء الدين على الميت، وهذا فيمن له مال يقضى منه دينه، ومن لا مال له ومات عازما على القضاء؛ فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله يقضي عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ثالثا: تغسيل الميت. ومن أحكام الجنازة وجوب تغسيل الميت على من علم به وأمكنه تغسيله، قال صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "اغسلوه بماء وسدر ... " الحديث متفق عليه، وقد تواتر تغسيل الميت في الإسلام قولاً وعملاً، وغسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الطاهر المطهر؛ فكيف بمن سواه؟ فتغسيل الميت فرض كفاية على من علم بحاله من المسلمين. والرجل يغسله الرجل، والأولى والأفضل أن يختار لتغسيل الميت ثقة عارف بأحكام التغسيل؛ لأنه حكم شرعي له صفة مخصوصة، لا يتمكن من تطبيقها إلا عالم بها على الوجه الشرعي، ويقدم في تولي تغسيل الميت وصيه، فإذا كان الميت قد أوصى أن يغسله شخص معين، وهذا المعين عدل ثقة؛ فإنه يقدم في تولي تغسيله وصية بذلك؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس؛ فالمرأة يجوز أن تغسل زوجها؛ كما أن الرجل يجوز أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 يغسل زوجته، وأوصى أنس رضي الله عنه أن يغسله محمد بن سيرين، ثم يلي الوصي في تغسيل الميت أبو الميت؛ فهو أولى بتغسيل ابنه؛ لاختصاصه بالحنو والشفقة على ابنه، ثم جده؛ لمشاركته للأب في المعنى المذكور، ثم الأقرب فالأقرب من عصابته، ثم الأجنبي منه، وهذا الترتيب في الأولوية إذا كانوا كلهم يحسنون التغسيل وطالبوا به، وإلا؛ فإنه يقدم العالم بأحكام التغسيل على من لا علم له. والمرأة تغسلها النساء، والأولى بتغسيل المرأة الميتة وصيتها، فإن كانت أصت أن تغسلها امرأة معينة؛ قدمت على غيرها إذا كان فيها صلاحية لذلكن ثم بعدها تتولى تغسيلها القربى فالقربى من نسائها. فالمرأة تتولى تغسيلها على هذا الترتيب، والرجل يتولى تغسيله الرجال على ما سبق، ولكل واحد من الزوجين غسل صاحبه؛ فالرجل له أن يغسل زوجته والمرأة لها أن تغسل زوجها؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله زوجته، ولأن عليّا رضي الله عنه غسل فاطمة، وورد مثل ذلك عن غيرهما من الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ولكل من الرجال والنساء غسل من له دون سبع سنين ذكرًا كان أو أنثى، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه أن المرأة تغسل الصبي الصغير" اه، ولأنه لا عورة له في الحياة؛ فكذا بعد الموت، ولأن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسله النساء وليس لامرأة غسل ابن سبع سنين فأكثرن ولا لرجل عسل ابنة سبع سنين فاكثر. ولا يجوز لمسلم أن يغسل كافرًا أو يحمل جنازته أو يكفنه أو يصلي عليه أو يتبع جنازته؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} ؛ فالآية الكريمة تدل بعمومها على تحريم تغسيله وحمله واتباع جنازته، وقال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، ولا يدفنه، لكن إذا لم يوجد من يدفنه من الكفار؛ فإن المسلم يواريهن بأن يلقيه في حفرة؛ منعا للتضرر بجثته، ولإلقاء قتلى بدر في القليب، وكذا حكم المرتد كتارك الصلاة عمدًا وصاحب البدعة المكفرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وهكذا يجب أن يكون موقف المسلم من الكافر حياً وميتا موقف التبري والبغضاء، قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم والذين معه: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} . وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} . وذلك لما بين الكفر والإيمان من العداء، ولمعادة الكفار لله ولرسله ولدينه؛ فلا تجوز موالاتهم أحياء ولا أمواتا. نسأل الله أن يثبت قلوبنا على الحق، وأن يهدينا صراطه المستقيم. ويشترط أن يكون الماء الذي يغسل به طهورًا مباحا، والأفضل أن يكون باردًا؛ إلا عند الحاجة إزالة وسخ على الميت أو في شدة برد؛ فلا بأس بتسخينه. ويكون التغسيل في مكان مستور عن الأنظار ومسقوف من بيت أو خيمة ونحوها إن أمكن. ويستر مابين سرة الميت وركبته وجوبا قبل التغسيل، ثم يجرد من ثيابه، ويوضع على سرير الغسل منحدرًا نحو رجليه؛ لينصب عنه الماء وما يخرج منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ويحضر التغسيل الغاسل ومن يعينه على الغسل، ويكره لغيرهم حضوره. ويكون التغسيل بأن يرفع الغاسل رأس الميت إلى قرب جلوسهن ثم يمر يده على بطنه ويعصره برفق؛ ليخرج منه ما هو مستعد للخروج، وكثر صب الماء حينئذ؛ ليذهب بالخارج، ثم يلف الغاسل على يده خرقة خشنة؛ فينجي الميت، وينقي المخرج بالماء، ثم ينوي التغسيل، ويسمي، ويوضئه كوضوء الصلاة إلا المضمضة والاستنشاق؛ فيكفي عنهما مسح الغاسل أسنان الميت ومنخريه بإصبعه مبلولتين أو عليهما خرقة مبلولة بالماء، ولا يدخل الماء فمه ولا أنفه، ثم يغسل رأسه ولحيته برغوة سدر أو صابون، ثم يغسل ميامن جسده وهي صفحة عنقه اليمنى، ثم يده اليمنى وكتفه، ثم شق صدره الأيمن وجنبه الأيمن وفخذه الأيمن وساقه وقدمه الميامن، ثم يقلبه على جنبه اليسر، فيغسل شق ظهره الأيمن، ثم يغسل جانبه الأيسر كذلك، ثم يقلبه على جنبه الأيمن، فيغسل شق ظهره الأيسر، ويستعمل السدر مع الغسل أو الصابون، ويستحب أن يلف على يده خرقة حال التغسيل. والواجب غسلة واحدة إن حصل الإنقاء، والمستحب ثلاث غسلات، وإن لم يحصل الإنقاء؛ زاد في الغسلات حتى ينقى إلى سبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 غسلات، ويستحب أن يجعل في الغسلة الأخرة كافورًا؛ لأنه يصلب بدن الميت، ويطيبه، ويبرده، فلجل ذلك؛ يجعل في الغسلة الأخيرة؛ ليبقى أثره. ثم ينشف الميت بثوب ونحوه، ويقص شاربه، وتقلم أظافره إن طالت، ويؤخذ شعر إبطيه، ويجعل المأخوذ معه في الكفن، ويضفر شعر رأس المرأة ثلاثة قرون ويسدل من ورائها. وأما إذا تعذر غسل الميت لعدم الماء أو خيف تقطعه بالغسل؛ كالمجذوم والمحترق، أو كان الميت امرأة مع رجال ليس فيهم زوجها، أو رجلاً مع نساء ليس فيهم زوجته؛ فإن الميت في هذه الأحوال ييمم بالتراب؛ بمسح وجهه وكفيه من رواء حائل على يد الماسح، وإن تعذر غسل بعض الميت؛ غسل ما أمكن غسله منه، ويمم عن الباقي. ويستحب لمن غسل ميتا أن يغتسل بعد تغسيله، وليس ذلك بواجب. رابعا: أحكام التكفين. وبعد تمام الغسل والتجفيف يشرع تكفين الميت. ويشترط في الكفن أن يكون ساترًا، ويستحب أن يكون أبيض نظيفا، سواء كان جديدًا وهو الأفضل أو غسيلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ومقدار الكفن الواجب ثوب يستر جميع الميت، والمستحب تكفين الرجل في ثلاث لفائف، وتكفين المرأة في خمسة أثواب؛ إزار وخمار وقميص ولفافتين، ويكفن الصغير في ثوب واحد، ويباح في ثلاثة أثواب، وتكفن الصغيرة في قميص ولفافتين، ويستحب تجمير الأكفان بالبخور بعد رشها بماء الورد ونحوه؛ لتعلق بها رائحة البخور. ويتم تكفين الرجل بأن تبسط اللفائف الثلاث على بعضها فوق بعض، ثم يؤتى بالميت مستورًا وجوبا بثوب ونحوه ويوضع فوق اللفائف مستلقيان ثم يؤتى بالحنوط وهو الطيب ويجعل منه في قطن بين أليتي الميت، ويشد فوقه خرقة، ثم يجعل باقي القطن المطيب على عينيه ومنخريه وفمه وأذنيه وعلى مواضع سجوده: جبهته وأنفه، وركبتيه، وأطراف قدميه، ومغابن البدن: الإبطين وطي الركبتين وسرته، ويجعل من الطيب بين الأكفان وفي رأس الميت، ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ثم طرفها الأيمن على شقه الأيسر، ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك، ويكون الفاضل من طول اللفائف عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ثم يجمع الفاضل عند رأسه ويرد على وجهه، ويجمع الفاضل عند رجليه فيرد على رجليه، ثم يعقد على اللفائف أحزمة؛ لئلا تنتشر وتحل العقد في القبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وأما المرأة؛ فتكفن في خمسة أثواب: إزار تؤزر به، ثم تلبس قميصا، ثم تخمر بخمار على رأسها، ثم تلف بلفافتين. خامسا: أحكام الصلاة على الميت. ثم يشرع بعد ذلك الصلاة على الميت المسلم: فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يصلي عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان"، قيل: وما القراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين"، متفق عليه. الصلاة على الميت فرض كفاية، إذا فعلها البعض؛ سقط الإثم عن الباقين، وتبقى في حق الباقين سنة، وإن تركها الكل؛ أثموا. ويشترط في الصلاة على الميت: النية، واستقبال القبلة، وستر العورة وطهارة المصلي عليه، واجتناب النجاسة، وإسلام المصلي مكلفا. وأما أركانها فهي: القيام فيها، والتكبيرات الأربع، وقراءة الفاتحة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، والترتيب، والتسليم. وأما سننها فهي: رفع اليدين مع كل تكبيرة، والاستعاذة قبل القراءة، وأن يدعو لنفسه وللمسلمين، والإسراء بالقراءة، وأن يقف بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 التكبيرة الرابعة وقبل التسليم قليلاً، وأن يضع يده اليسرى على صدره، والالتفات على يمينه في التسليم. تكون الصلاة على الميت بأن يقوم الإمام والمنفرد عند صدر الرجل ووسط المرأة، ويقف المأمومون خلف الإمام، وسن جعلهم ثلاثة صفوف، ثم يكبر للإحرام، ويتعوذ بعد التكبير مباشرة فلا يستفتح، ويسمى، ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر، ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة عليه في تشهد الصلاة، ثم يكبر ويدعو للميت بما ورد، ومنه: "اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا؛ فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا، فتوفه عليهما، اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيراً من داره، وزوجا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأذعه من عذاب القبر وعذاب النار، وافسح له في قبره، ونور له فيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وإن كان المصلى عليه أنثى؛ قال: "اللهم اغفر لها"؛ بتأنيث الضمير في الدعاء كله، وإن كان المصلى عليه صغيرًا؛ قال: "اللهم اجعله ذخرًا لوالديه، وفرطا، بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم"، ثم يكبر، ريقف بعدها قليلاً، ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه ومن فاته بعض الصلاة على الجنازة؛ دخل مع الإمام فيما بقي، ثم إذا سلم الإمام؛ قضى فاته على صفته، وإن خشي أن ترفع الجنازة؛ تابع التكبيرات "أي: بدون فصل بينها"، ثم سلم ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه؛ صلى على قبره. ومن كان غائبا عن البلد الذي فيه الميت، وعلم بوفاته؛ فله أن يصلي عليه صلاة الغائب بالنية. وحمل المرأة إذا سقط ميتا وقد تم له أربعة أشهر فأكثر، صلي عليه صلاة الجنازة، وإن كان دون أربعة أشهر؛ لم يصل عليه. سادسا: حمل الميت ودفنه. حمل الميت ودفنه من فروض الكفاية على من علم بحاله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 المسلمين، ودفنه مشروع بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} ، قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ؛ أي: جعله مقبورًا، والأحاديث في دفن الميت مستفيضة، وهو بر وطاعة وإكرام للميت واعتناء به. وسن إتباع الجنازة وتشييعها إلى قبرها؛ ففي "الصحيحين": "من شهد جنازة حتى يصلى عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين". وللبخاري بلفظ: "من شيع"، ولمسلم بلفظ: "من خرج معها، ثم تبعها حتى تدفن"، ففي الحديث برواياته الحث على تشييع الجنازة إلى قبرها. ويسن لمن تبعها المشاركة في حملها إن أمكن، ولا بأس بحملها في سيارة أو على دابة، لا سيما إذا كانت المقبرة بعيدة. ويسن الإسراع بالجنازة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة؛ فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك؛ فشر تضعونه عن رقابكم"، متفق عليه، لكن لا يكون الإسراع شديدًا، ويكون على دامليها ومشيعيها السكينة، ولا يرفعون أصواتهم؛ لا بقراءة ولا غيرها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 تهليل وذكر أو قولهم: استغفروا له، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا بدعة. ويحرم خروج النساء مع الجنائز؛ لحديث أم عطية: "نهينا عن إتباع الجنائز"، ولم تكن النساء يخرجن مع الجنائز على عهد النبيصلى الله عليه وسلم؛ فتشييع الجنائز خاص بالرجال. ويسن أن يعمق القبر ويوسع؛ لقولهصلى الله عليه وسلم: "احفروا وأوسعوا وعمقوا"، قال الترمذي: "حسن صحيح". ويسن ستر قبر المرأة عند إنزالها فيه لأنها عورة. ويسن أن يقول من ينزل الميت في القبر: "بسم الله، وعلى ملة رسول الله"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعتم موتاكم في القبور؛ فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله"، رواه الخمسة؛ وحسنه الترمذي. ويوضع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة: "قبلتكم أحياء وأمواتا"، رواه أبو دود وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ويجعل تحت رأسه لبنة أو حجر أو تراب، ويدنى من حائط القبر الأمامي، ويجعل خلف ظهره ما يسنده من تراب، حتى لا ينكب على وجهه، أو ينقلب على ظهره. ثم تسد عليه فتحة اللحد بالبن والطين حتى يلتحم، ثم يهال عليه التراب، ولا يزاد عليه من غير ترابه. ويرفع القبر عن الأرض قدر سبر، ويكون مسنما أي: محدبا كهيئة السنام لتنزل عنه مياه السيول، ويوضع عليه حصباء، ويرش بالماء ليتماسك ترابه ولا بتطاير، والحكمة في رفعه بهذا المقدار؛ ليعلم أنه قبر فلا يداس، ولا بأس بوضع النصائب على طرفيه لبيات حدوده، وليعرف بها، من غير أن يكتب عليها. ويستحب إذا فرغ من دفنه أن يقف المسلمون على قبره ويدعوا له: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبت؛ فإنه الآن يسأل"، رواه أبو داود، وأما قراءة شيء من القرآن عند القبر؛ فإن هذا بدعة؛ لأنه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، وكل بدعه ضلالة. ويحرم البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها؛ لقول جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 عليه"، رواه مسلم، وروى الترمذي وصححه من حديث جابر مرفوعا: "نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن توطأ"، ولأن هذا من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة؛ لأن الجهال إذا رأوا البناء والزخرفة على القبر؛ تعلقوا به. ويحرم إسراج القبور، أي: إضاءتها بالأنوار الكهربائية وغيرها، ويحرم اتخاذ المساجد عليها، أي: ببناء المساجد عليها، والصلاة عندها أو إليها، وتحرم زيارة النساء للقبور؛ لقولهصلى الله عليه وسلم: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"، رواه أهل السنن، وفي "الصحيح": "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، ولأن تعظيم القبور بالبناء عليها ونحوه هو أصل شرك العالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وتحرم إهانة القبور بالمشي عليها ووطئها بالنعال والجلوس عليها وجعلها مجتمعا للقمامات أو أسال المياه عليها؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتخرق ثيابه، فتخلص إلى جلده: خير من أن يجلس على قبر". قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه؛ علم أن النهي إنما احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال على رؤوسهم". سابعا أحكام التعزية وزيارة القبور: وتسن تعزية المصاب بالميت، وحثه على الصبر والدعاء للميت، لما روى ابن ماجه وإسناده ثقات، عن عمرو بن حزم مرفوعا: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة؛ إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة"، ووردت بمعناه أحاديث. ولفظ التعزية أن يقول: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك". ولا ينبغي الجلوس للعزاء والإعلان عن ذلك كما يفعل بعض الناس اليوم، ويستحب أن يعد لأهل الميت طعاما يبعثه إليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 "اصنعوا لآل جعفر طعاما؛ جاءهم ما يشغلهم"، رواه أحمد والترمذي وحسنه. أما ما يفعله بعض الناس اليوم من أهل البيت يهيئون مكانا لاجتماع الناس عندهم، ويصنعون الطعام، ويستأجرون المقرئين لتلاوة القرآن، ويتحملون في ذلك تكاليف ماليه؛ فهذا من المآتم المحرمة المبتدعة؛ لما روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله؛ قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة"، وإسناده ثقاب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم ليقرؤوا ويهدوا له؛ ليس معروفا عند السلف، وقد كرهه طوائف من أهل العلم من غير وجه" انتهى. وقال الطرطوشي: "فأما المآتم؛ فممنوعة إجماع العلماء، والمأتم هو الاجتماع على المصيبة، وهو بدعة منكرة، لم ينقل شيء، وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني والثلث والرابع والشهر والسنة؛ فهو طامة، وإن كان من التركة وفي الورثة محجور عليه أو من لم يأذن؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 حرم فعله، وحرم الأكل منه" انتهى وتستحب زيارة القبور للرجال خاصة؛ لأجل الاعتبار والاتعاظ، ولأجل الدعاء للأموات والاستغفار لهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"، رواه مسلم والترمذي، وزاد: " فإنها تذكر الآخرة"، ويكون ذلك بدون سفر فزيارة القبور تستحب بثلاث شروط: 1 أن يكون الزائر من الرجال لا النساء؛ لأن النبيصلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله زوارات القبور". 2 أن تكون بدون سفر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". 3 أن يكون القصد منها الاعتبار والاتعاظ والدعاء للأموات، فإن كان القصد منها التبرك بالقبور والأضرحة وطلب قضاء الحاجات وتفريج الكربات من الموتى؛ فهذه زيارة بدعية شركية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "زيارة القبور على نوعين: شرعية وبدعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فالشرعية: المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته من غير شد رحل، والبدعة: أن تكون قصد الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، وهذا شرك أكبر، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو الدعاء به، وهذا بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك، وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها" انتهى والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 كتاب الزكاة باب في مشروعية الزكاة ومكانتها اعملوا وفقني الله وإياكم أنه لا بد من معرفة تفاصيل أحكام الزكاة وشروطها وبيان من تجب عليه ومن تجب له تجب فيه من الأموال. فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، كما تظاهرت بذلك دلالة الكتاب والسنة، وقد قرنها الله تعالى بالصلاة في كتابه في اثنين وثمانين موضعا، مما يدل على عظم شأنها، وكمال الاتصال بينها وبين الصلاة، ووثاقة الارتباط بينهما، حتى قال صديق هذه الأمة وخليفة الرسول الأول أبو بكر الصديق: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . وقال تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ... " الحديث. وأجمع المسلمون على فرضيتها، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام، وعلى كفر من جحد وجوبها، وقتال من منع إخراجها. فرضت في السنة الثانية للهجرة النبوية، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السعادة لقبضها وجبايتها لإيصالها إلى مستحقتها، ومضت بذلك سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين. وفي الزكاة إحسان إلى الخلق، وهي طهرة للمال من الدنس، وحصانة له من الآفات، وعبودية للرب سبحانه، وقال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، وبالتالي؛ فهي تطهير للنفوس من الشح والبخل، وامتحان للغني حيث يتقرب إلى الله بإخراج شيء ماله المحبوب إليه. وقد أوجبها الله في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 النمو والربح: ما ينمو فيها بنفسة كالماشية والحرث، وما ينمو بالتصرف وإدارته في التجارة كالذهب والفضة وعروض التجارة، وجعل الله قدر المخرج في الزكاة على حسب التعب في المال الذي تخرج منه، فأوجب في الركاز وهو وجد مؤنة نصف الخمس، وما وجد فيه التعب من طرفين ربع الخمس، وفيما يكثر فيه التعب والتقلب كالنقود وعروض التجارة ثمن الخمس. وقد سماها الله بالزكاة، لأنها تزكي النفس والمال؛ فهي ليست غرامة ولا ضريبة تنقص المال وتضر صاحبه، بل هي على العكس تزيد المال نموًأ من حيث لا يشعر الناس، قالصلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة". والزكاة في الشرع حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص، هو تمام الحول في الماشية والنقود وعروض التجارة، وعند اشتداد الحب وبدو الصلاح في الثمار، وحصول ما تجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فيه من العسل، واستخراج ما تجب فيه من المعادن، وغروب الشمس ليلة العيد في زكاة الفطر. وتجب الزكاة على المسلم إذا توفرت فيه شروط خمسة: أحدها: الحرية؛ فلا تجب على مملوك؛ لأنه لا مال له، وما بيده ملك لسيده، فتكون زكاته على سيده. الشرط الثاني: أن يكون صاحب المال مسلما؛ فلا تجب على كافر، بحيث لا يطالب بأدائها؛ لأنها قربة وطاعة، والكافر ليس من أهل القربة والطاعة، ولأنها تحتاج إلى نية، ولا تتأتى من الكافر، أما وجوبها عليه بمعنى أنه مخاطب بها ويعاقب عليها في الآخرة عقابا خاصا؛ فمحل خلاف بين أهل العلم، وفي حدي معاذ رضي الله عنه: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"، ثم ذكر الصلاة، ثم قال: "فإن هم أطاعوك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم"، متفق عليه؛ فجعل الإسلام شرطا لوجوب الزكاة. الشرط الثالث: امتلاك نصاب؛ فلا تجب فيما دون النصاب، وهو قدر معلوم المال يأتي تفصيله، سواء كان مالك النصاب كبيرًا أو صغيرًا، عاقلاً أو مجنونا؛ لعموم الأدلة. الشرط الرابع: استقرار الملكية؛ بأن لا يتعلق بها حق غيره؛ فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 زكاة في ما لم تستقر ملكيته؛ كدين الكتابة؛ لأن المكاتب يملك تعجيز نفسه، ويمتنع من الأداء. الشرط الخامس: مضى الحول على المال؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، رواه ابن ماجه، وروى الترمذي معناه. وهذا في غير الخارج من الأرض كالحبوب والثمار، فأما الخارج من الأرض؛ فتجب فيه الزكاة عند وجوده؛ فلا يعتبر فيه الحول، وإنما يبقى تمام الحول مشترطا في النقود والماشية وعروض التجارة رفقا بالمالك؛ ليتكامل النماء فيها. ونتائج البهائم التي تجب فيها الزكاة وربح التجارة حولهما حول أصلهما؛ فلا يشترط أن يأتي عليهما حول مستقل إذا كان أصلهما قد بلغ النصاب، فإن لم يكن كذلك؛ ابتدئ الحول من تمامهما النصاب. ومن له دين على معسر؛ فإنه يخرج زكاته إذا قبضه لعام واحد على الصحيح، وإن كان له دين على مليء باذل؛ فإنه زكيه كل عام. وما أعد من الأموال للقنية والاستعمال؛ فلا زكاة فيه؛ كدور السكنى، وثياب البذلة، وأثاث المنزل، والسيارات، والدواب المعدة للركوب والاستعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وما أعد للكراء كالسيارات والدكاكين والبيوت؛ فلا زكاة في أصله، وإنما تجب الزكاة في أجرته إذا بلغت النصاب بنفسها أوبضمها إلى غيرها وحال عليها الحول. ومن وجبت عليه الزكاة، ثم مات قبل إخراجها؛ وجب إخراجها من تركته، فلا تسقط بالموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق بالوفاء"، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فيخرجهما الوارث أو غيره من تركة الميت؛ لأنها حق واجب؛ فلا تسقط بالموت، وهي دين في ذمة الميت، يجب إبراؤه منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 باب في زكاة بهيمة الأنعام اعلم أن من جملة الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة: بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، بل هي في طليعة الأموال الزكوية؛ فقد دلت على وجوب الزكاة فيها الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبه في شأنها وكتب خلفاؤه معروفة مشهورة في بيان فرائضها وبعث السعاة لجبايتها من قبائل العرب حول المدينة على امتداد الساحة الإسلامية. فتجب الزكاة في الإبل والبقر والغنم بشرطين: الشرط الأول: أن تتخذ لدر ونسل لا للعمل؛ لأنها حينئذ تكثر منافعها ويطيب نماؤها بالكبر والنسل؛ فاحتملت المواساة. الشرط الثاني: أن تكون سائمة أي: راعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون"، رواه أحمد وأبو داود والنسائي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 والسوم: الرعي؛ فلا تجب الزكاة في دواب تعلف بعلف اشتراه لها أو جمعه من الكلأ أو غيره، هذا إذا كانت تعلف الحول كله أو أكثره. أولاً: زكاة الإبل. وإذا توفرت الشروط؛ وجب في كل خمس من الإبل شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه؛ كما دل على ذلك السنة والإجماع. فإذا بلغت خمسا وعشرين؛ ففيها بنت مخاض، وهي ما تم لها سنة ودخلت في السنة الثانية، سميت بذلك لأن أمها تكون في الغالب قد مخضت؛ أي: حملت، وليس كونها ماخضا شرطا، وإنما هذا تعريف لها بغالب أحوالها، فإن عدمها أجزأ عنها ابن لبون؛ لحديث أنس: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض؛ ففيها ابن لبون ذكر"، رواه أبو داود، ويأتي بيان معنى ابن اللبون. "وإذا بلغت الإبل ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين؛ ففيها بنت لبون" أنثى، وكما دل على ذلك الإجماع، وبنت اللبون هي ما تم لها سنتان، لهذا سميت بذلك؛ لأن أمها تكون في الغالب قد وضعت حملها، فكانت ذات لبن، وليس هذا شرطان لكنه تعريف لها بالغالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فإذا بلغت الإبل ستا وأربعين؛ وجب فيها حقه، وهي ماتم لها ثلاث سنين، سميت بذلك لأنها بهذا السن استحقت أن يطرقها الفحل وأن يحمل عليها وتركب. فإذا بلغت الإبل إحدى وستين؛ وجب فيها جذعة، وهي ما تم لها أربع سنين، سميت بذلك لأنها إذا بلغت هذا السن تجذع؛ أي: يسقط سنها. والدليل على وجوب الجذعة في هذا المقدار من الإبل ما في "الصحيح" من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين؛ ففيها جذعة"، وقد أجمع العلماء على ذلك. فإذا بلغ مجموع الإبل ستا وسبعين؛ وجب فيها بنتا لبون اثنتان للحديث الصحيح، وفيه: "فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين؛ ففيها بنتا لبون". فإذا بلغت الإبل إحدى وتسعين؛ وجب فيها حقتان؛ للحديث الصحيح الذي جاء فيه: "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة؛ ففيها حقتان طروقتا الفحل"، وللإجماع على ذلك. فإذا زاد مجموع الإبل عن مئة وعشرين بواحدة؛ وجب فيها ثلاث بنات لبون؛ لحديث الصدقات الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "فإذا زادت على عشرين ومئة"؛ ففي كل خمس حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، ثم يجب على كل أربعين بنت لبون وعن كل خمسين حقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ثانيا: زكاة البقر. وأما البقر؛ فتجب فيها الزكاة بالنص والإجماع؛ ففي "الصحيحين" عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها؛ إلا جاء يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأخفافها" فيجب فيها إذا بلغت ثلاثين تبيع أو تبيعة قد تم لكل منهما سنة ودخل في السنة الثانية، سمي بذلك لأنه يتبع أمه في السرح. ولا شيء فيما دون الثلاثين: لحديث معاذ؛ قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين". فإذا بلغ مجموع البقر أربعين؛ وجب فيها بقرة مسنة، وهي ما تم لها سنتان؛ لحديث معاذ؛ قال: "وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة"، رواه الخمسة، وصححه ابن حبان والحاكم. فإذا زاد مجموع البقر على أربعين؛ وجب في كل ثلاثين منها تبيع، وفي كل أربعين مسنة. والمسنة هي التي قد صارت ثنية، سميت مسنة لزيادة سنها، ويقال لها: ثنية. ثالثاً: زكاة الغنم. الأصل في وجوب الزكاة في الغنم السنة والإجماع؛ ففي الصحيح عن أنس أن أبا بكر كتب له: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله ... " إلى أن قال: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة ... " الحديث. فإذا بلغ مجموع الغنم أربعين ضأنا كانت أو معزًا؛ ففيها شاة واحدة، وهي جذع ضأن أو ثني معز؛ لحديث سويد بن غفلة؛ قال: "أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن، والثنية من المعز، وجذع الضأن ما تم له ستة أشهر، وثني المعز ما تم له سنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ولا زكاة في الغنم إذا نقص عددها عن أربعين؛ لحديث أبي بكر في "الصحيحين" وفيه.: "فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة؛ فلا شيء فيها؛ إلا إن شاء ربها". فإذا بلغ مجموع الغنم مئة وإحدى وعشرين؛ وجب فيها شاتان: لحديث أبي بكر الذي مر معنا قريبا، وفيه: " فإذا زادت على عشرين ومئة؛ ففيها شاتان". فإذا بلغت مئتين وواحدة؛ وجب فيها ثلاث شياه؛ لحديث أبي بكر، وفيه: "فإذا زادت على مئتين؛ ففيها ثلاث شياه". ثم تستقر الفريضة فيها بعد هذا المقدار، فيتقرر في كل مئة شاة؛ ففي أربع مئة أبع شياه، وفي خمس مئة خمس شياه، وفي ست مئة ست شياه ... وهكذا؛ ففي كتاب الصدقات الذي عمل به أبو بكر رضي الله عنه حتى مات وعمر حتى توفى رضي الله عنه؛ فيه: "وفي الغنم من أربعين شاةً شاةُ إلى عشرين ومئة، فإذا زادت شاة؛ ففيها شاتان إلى مئتين، فإذا زادت واحدة؛ ففيها ثلاث شياه إلى ثلاث مئة، فإذا زادت بعد؛ فليس فيها شيء، حتى تبلغ أربع مئة، فإذا كثرت الغنم؛ ففي كل مئة شاة"، رواه الخمسة إلا النسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ولا تؤخذ هرمة ولا معيبة لا تجزئ في الأضحية؛ إلا إذا كان كل الغنم كذلك، ولا تؤخذ الحامل ولا الربي التي تربي ولدها ولا طروقة الفحل؛ أي: التي طرقها الفحل؛ لأنها تحمل غالبا؛ لحديث أبي بكر في "الصحيح"؛ قال: "لا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس؛ إلا أن يشاء المصدق"، وقال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ولكن من أوسط أموالكم؛ فإن الله لم يسألكم خياره، ولم يأمركم بشراره"، ولا تؤخذ كريمة، وهي النفيسة التي تتعلق بها نفس صاحبها، ولا تؤخذ أكولة، وهي السمينة المعدة للأكل، أو هي كثيرة الأكل، فتكون سمينة بسبب ذلك قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: "إياك وكرائم أموالهم"، متفق عليه. والمأخوذ في الصدقات العدل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "ولكن من أوسط أموالكم"، وتؤخذ المريضة من نصاب كله مراض؛ لأن الزكاة وجبت للمواساة، وتكليفه الصحيحة عن المراض إجحاف به، وتؤخذ الصغيرة من نصاب كله صفار من الغنم خاصة. وإذا شاء صاحب المال أن يخرج أفضل مما وجب عليهن فهو أفضل وأكثر أجرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وإن كان المال مختلطا من كبار وصغار أو صحاح ومعيبات أو ذكور وإناث؛ أخذت أنثى صحيحة كبيرة على قدر قيمة المالين، فيقوم المال كبارًا ويعرف ما يجب فيه، ثم يقوم صغارًا كذلك، ثم يؤخذ بالقسط، وهكذا الأنواع الأخرى من صحاح ومعيبات أو ذكور وإناث، فلو كانت قيمة المخرج من الزكاة إذا كان النصاب كبارًا صحاحا عشرين، وقيمته إذا كان صغارًا مراضا عشرة؛ فيخرج النصف من هذا والنصف من هذا؛ أي: ما يساوي خمسة عشر. ومن مباحث زكاة الماشية: معرفة حكم الخلطة فيها؛ بأن يكون مجموع الماشية المختلطة مشتركا بين شخصين فأكثر. والخلطة نوعان: النوع الأول: خلطة أعيان: بأن يكون المال مشتركا مشاعا بينهما، لم يتميز نصيب أحدهما عن الآخر، كأن يكون لأحدهما نصف هذه الماشية أو ربعها ونحوه. النوع الثاني: خلطة أوصاف: بأن يكون نصيب كل منهما متميزًا معروفا، لكنهما متجاوران. وكل واحدة من الخلطتين تؤثر في الزكاة إيجابا وإسقاطا، وتغليظا وتخفيفا. فالخلطة بنوعيها تصير المالين المختلطين كالمال الواحد بشروط: الأول: أن يكون المجموع نصابا، فإن نقص عن النصاب؛ لم يجب فيه شيء، والمقصود أن يبلغ المجموع النصاب، ولو كان ما لكل واحد ناقص عن النصاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الشرط الثاني: أن يكون الخلطان من أهل وجوب الزكاة، فلو كان أحدهما ليس من أهل الزكاة؛ لم تؤثر الخلطة، وصار لكل قسم حكمه. الشرط الثالث: أن يشترك المالان المختلطان في المراح، وهو المبيت والمأوى، ويشتركا في المسرح، وهو المكان الذي تجتمع فيه لتذهب للمرعى، ويشتركا في المحلب، وهو موضع الحلب، فلو حلب أحد الشريكين ماشيته في مكان وحلب الآخر ماشيته في مكان آخر؛ لم تؤثر الخلطة، وأن يشتركا في فحل؛ بأن لا يكون لكل نصيب فحل مستقل، بل لابد أن يطرقها فحل واحد، وأن يشتركا في مرعى؛ بأن يرعى مجموع الماشية في مكان واحد، فإن اختلف المرعى، فرعى نصيب أحدهما في مكان غير المكان الذي يرعى فيه خليطه؛ لم تؤثر الخلطة. فإذا تمت هذه الشروط؛ صار المالان المختلطان كالمال الواحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع؛ خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعا بينهما بالسوية"، رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، وحسنه الترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فلو كان لإنسان شاة ولآخر تسع وثلاثون، أو كان لأربعين رجلاً أربعون شاة، لكل واحد شاة، واشتركا حولاً تامّا، مع توفر الشروط التي ذكرنا؛ فعليهم شاة واحدة على حب ملكهم، ففي المثال الأول يكون على صاحب الشاة ربع عشر شاة، وعلى صاحب التسع والثلاثين باقيها، وفي المثال الثاني على كل واحد من الأربعين ربع عشر الشاة، ولو كان لثلاثة مئة وعشرون، لكل واحد أربعون؛ فعلى الجميع شاة واحدة أثلاثا. وكما أن الخلطة تؤثر على النحو الذي رأيت فكذلك التفريق يؤثر عند الإمام أحمد، فإذا كانت سائمة الرجل متفرقة، كل قسم منها يبعد عن الآخر فوق مسافة القصر؛ صار لكل منهما حكمه، ولا تعلق له بالآخر، فإن كان نصابا؛ وجبت فيه الزكاة، وإن نقص عن النصاب؛ فلا شيء فيهن فلا يضم كل قسم إلى لآخر، هذا قول الإمام أحمد. وقال جمهور العلماء بعدم تأثير الفرقة في مال الشخص الواحد، فيضم بعضه إلى بعض في الحكم، ولو كان متفرقا، وهذا هو الراجح. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 باب في زكاة الحبوب والثمار والعسل والمعدن والركاز قال اله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . والزكاة تسمى نفقة؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: لا يخرجون زكاتها. وقد استفاضت السنة المطهرة بالأمر بإخراج زكاة الحبوب والثمار وبيان مقدارها، وأجمع المسلمون على وجوبها في البر والشعير والتمر والزبيب، فتجب الزكاة في الحبوب كلها؛ كالحنطة، والشعير، والأرز، والدخن، وسائر الحبوب، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر صدقة"، وقال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 "فيما سقت السماء والعيون العشر"، رواه البخاري. وتجب الزكاة في الثمار كالتمر والزبيب ونحوهما من كل ما يكال ويدخر، ولا تجب الزكاة إلا فيما يبلغ النصاب؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه: "ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة"، رواه الجماعة، والوسق ستون صاعا بالصاع النبوي، الذي مقداره أربع حفنات، بكفي الرجل المعتل الخلقة. ويشرط في زكاة الحبوب والثمار أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة، وهو بدو الصلاح في الثمر، واشتداد الحب في الزرع. فيشترط لوجوب الزكاة في الحبوب والثمار شرطان: الأول: بلوغ النصاب على ما سبق بيانه. الثاني: أن يكون مملوكا له وقت وجوب الزكاة. فلو ملك النصاب بعد ذلك؛ لم تجب عليه فيه زكاة؛ كما لو اشتراه أو أخذه أجرة لحصاده، أو حصله باللقاط. والقدر الواجب إخراجه في زكاة الحبوب والثمار مختلف باختلاف وسيلة السقي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فإذا سقي بلا مؤنة من السيول والسيوح وما شرب بعروقه كالبعل؛ يجب فيه العشر؛ لما في "الصحيح" من حديث ابن عمر: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر"، ولمسلم عن جابر: "فيما سقت الأنهار والغيم العشر". ويجب فيما سقي بمؤنة من الآبار وغيرها نصف العشر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "وما سقي بالنضح نصف العشر"، رواه البخاري، والنضح: السقي بالسواني، ولمسلم عن جابر: "وفيما سقي بالسانية نصف العشر". ووقت وجوب الزكاة في الحبوب حين تشتد، وفي الثمر حينما يبدو صلاحه؛ بأن يحمر أو يصفار، فلو باعه بعد ذلك؛ وجبت زكاته عليه لا على المشتري. ويلزم إخراج الحب مصفى؛ أي: منقى من التبن والقشر، ويعتبر إخراج الثمر يابسا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخرص العنب زبيبا، وتؤخذ زكاته زبيبا؛ كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا، ولا يسمى زبيبا وتمرًا إلا اليابس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وتجب الزكاة في العسل إذا أخذ من ملكة أو من الموات؛ كرؤوس الجبال، إذا بلغ ما أخذه نصابا، ونصاب العسل ثلاثون صاعا بالصاع النبوي، ومقدار ما يجب فيه هو العشر. وتجب الزكاة في المعدن؛ لقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . والمعدن هو المكان الذي عدن فيه شيء من جواهر الأرض؛ فهو مستفاد من الأرض، فوجبت فيه الزكاة؛ كالحبوب والثمار، فإن كان المعدن ذهبا أو فضةً؛ ففيه ربع العشر إذا بلغ نصابا فأكثر، وإن كان غيرهما كالكحل والزرنيخ والكبريت والملح والنفط؛ فيجب فيه ربع عشر قيمته إن بلغت قيمته نصابا فأكثر من الذهب والفضة. وتجب الزكاة في الركاز، وهو ما وجد مدفونا من أموال الكفار من أهل الجاهلية، سمي ركازًا؛ لأنه غيب في الأرض، كما تقول: ركزت المرح، ويجب فيه الخمس في قليله وكثيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس"، متفق عليه. ويعرف كونه من أموال الكفار بوجود علامة الكفار عليه أو على بعضه؛ بأن يوجد عليه أسماء ملوكهم، أو عليه رسم صلبانهم، فإذا أخرج خمسة؛ فباقيه لواجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وإن وجد على المال المدفون أو على بعضه علامة المسلمين، أو لم يجد عليه علامة أصلاً؛ فحكمه حكم اللقطة. وما أخذ من زكاة الركاز يصرف في مصالح المسلمين كمصرف الفيء. مما سبق يتبين لنا أن الخارج من الأرض أنواع هي: 1 الحبوب والثمار. 2 المعادن على اختلافها. 3 العسل. 4 الركاز. وكل هذه الأنواع داخلة في قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ، وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} . إن الزكاة إنما تجب فيما يكال ويدخر من الحبوب والثمار، فما لا يكال ولا يدخر منها؛ لا تجب فيه الزكاة كالجوز، والتفاح، والخوخ، والسفرجل، والرمان، ولا سائر الخضروات والبقول؛ كالفجل، والثوم، والبصل، والجزر، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والباذنجان، ونحوها؛ لحديث على رضي الله عنه مرفوعا: "ليس في الخضروات صدقة"، رواه الدارقطني، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فاعتبر الكيل لما تجب فيه الزكاة، فدل على عدم وجوبها فيما لا يكال ويدخر، وتركه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه لها وهي تزرع بجوارهم فلا تؤدى زكاتها لهم دليل على عدم وجوب الزكاة فيها، فترك أخذ الزكاة منها هو السنة المتبعة. قال الإمام أحمد: "ماكان مثل الخيار والقثاء والبصل والرياحين؛ فليس فيه زكاة؛ إلا أن يباع، ويحول على ثمنه الحول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 باب في زكاة النقدين اعلم وفقنا الله وإياك أن المراد بزكاة النقدين: زكاة الذهب والفضة وما اشتق منهما من نقود وحلي وسبائك وغير ذلك. والدليل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة: الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ؛ ففي الآية الكريمة الوعيد الشديد بالعذاب الأليم لمن لم يخرج زكاة الذهب والفضة وفي "الصحيحين": "ما من ذهب ولا فضة لا يؤدى حقها؛ إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ... " الحديث. واتفق الأئمة على أن المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث كل ما وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاتهن وأن ما أخرجت زكاته؛ فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بكنز، والكنز: كل شيء مجموع بعضه على بعض، سواء كنزه في بطن الأرض أم على ظهرها. فتجب الزكاة من الذهب إذا بلغ عشرين مقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مئتي درهم إسلامي، ربع العشر منهما، سواء كانا مضروبين أو غير مضروبين؛ لحديث ابن عمرو عن عائشة رضي الله عنهما مرفوعا: "أنه كان يأخذ من كل عشرين مثقالاً"، رواه ابن ماجه، وفي حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا: "في الرقة ربع العشر"، متفق عليه. والرقة بكسر الراء وتخفيف القاف هي الفضة الخالصة، مضروبة كانت أو غير مضروبة. والمثقال في الأصل مقدار من الوزن. قال الفقهاء: "وزنة اثنتان وسبعون حبة شعير من الشعير الممتلىء معتدل المقدار" ونصاب الذهب بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع جنيه، ونصاب الفضة بالريال العربي السعودي ستة وخمسون ريالاً أو ما يعادل صرفها من الورق النقدي المستعمل في هذا الزمان. ويخرج من الذهب والفضة إذا بلغ كل منهما النصاب المحدد له فأكثر ربع العشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ما يباح للرجل لبسه من الذهب والفضة: يباح للذكر أن يتخذ خاتما من الفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق، متفق عليه. ويحرم عليه اتخاذ الخاتم من الذهب؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن التحلي بالذهب، وشدد النكير على من فعله، وقال صلى الله عليه وسلم: "يعمد أحدكم إلى جمة من نار جهنم، فيجعلها في يده". ويباح للذكر أيضا من الذهب ما دعت إليه حاجة؛ كأنف، ورباط أسنان لأن عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفا من فضة، فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فاتخذ أنفا من ذهب. رواه أبو داود والحاكم وصححه. ما يباح للنساء التحلي به من الذهب والفضة: يباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه؛ لأن الشارع أباح لهن التحلي مطلقا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها"، رواه أحمد وأبو داود والترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والنسائي، فدل على إباحة التحلي بالذهب والفضة للنساء وأجمع على ذلك. ولا زكاة في حلي النساء من الذهب والفضة إذا كان معدًا للاستعمال أو للإعارة "1"؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الحلي زكاة"، رواه الطبراني عن جابر بسند ضعيف، لكن يعضده ماجرى العمل عليه، وقال به جماعة من الصحابة؛ منهم أنس، وجابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء أختها. قال أحمد: "فيه عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح أشبه ثياب البذلة وعبيد الخدمة ودور السكنى. وإن أعد الحلي للكرين، أو أعد لأجل النفقة أي: اتخذ رصيدًا للحاجة، أو أعد للقنية، أو للإدخار، أو لم يقصد به شيء مما سبق؛ فهو باق على أصله، تجب فيه الزكاة؛ لأن الذهب والفضة تجب فيهما الزكاة، وإنما سقط وجوبها فيما أعد للاستعمال أو العارية، فيبقى وجوبها فيما عداه على الأصل إذا بلغ نصابا بنفسه أو بضمه إلى مال آخر،   1 عند الجمهور، وذهب بعض العلماء إلىإيجاب الزكاة فيه لأدلة رأوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فإن كان دون النصاب، ولم يمكن ضمه إلى مال آخر؛ فلا زكاة فيه؛ إلا إذا كان معدًا للتجارة؛ فإنها تجب الزكاة في قيمته. حكم تمويه الحيطان وغيرها بالذهب والفضة واتخاذ الأواني منهما: يحرم أن يموَّه سقف أو حائط بذهب أو فضة، أو يموه شيء من السيارة أو مفاتيحها بهما، كل ذلك حرام على المسلم، ويحرم تمويه قلم أو دواة بذهب أو فضة؛ لأن ذلك سرف وخيلاء. ويحرم اتخاذ الأواني من الذهب والفضة، أو تمويه الأواني بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "والذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". كما أنه يشتد الوعيد على من لبس خاتم الذهب من الرجال، ولكن مع الأسف ترى بعض المسلمين يلبسون خواتيم الذهب في أيديهم، غير مبالين بالوعيد، أو يجهلونه؛ فالواجب على هؤلاء التوبة إلى الله من التحلي بالذهب، والاكتفاء بما أباح الله من خاتم الفضة ففي الحلال غنية عن الحرام. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} نسأل الله للجميع البصيرة في دينه والعمل بشرعه والإخلاص لوجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 باب في زكاة عروض التجارة العروض جمع عرْض بإسكان الراء، وهو ما أعد لبيع وشراء لأجل الربح؟ سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى، أو لأنه يعرض يم يزول. والدليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة: قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، وعروض التجارة هي أغلب الأموال؛ فكانت أولى بدخولها في عموم الآيات. وروى أبو داود عن سمرة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع"، ولأنها أموال نامية، فوجبت فيها الزكاة كبهيمة الأنعام السائمة. وقد حكى غير واحد إجماع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأئمة الأربعة وسائر الأئمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عروض التجارة، سواء كان التاجر مقيما أو مسافرًا، وسواء كان متربصا، وهو الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر أو مديرًا كالتجار الذين في الحوانيت، سواء كانت التجارة بَزّاً من جديد أو لييس أو طعاما من قوت أو فاكهة أو أدم أو غير ذلك، أو كانت آنية كالفخار ونحوه، أو حيوانا من رقيق أو خيل أو بغال أو حمير أو غنم مُعلفة أو غير ذلك؛ التجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة، كما أن الحيوانات الماشية هي أغلب الأموال الظاهرة" انتهى كلام الشيخ رحمه الله. ويشترط لوجوب الزكاة في عروض التجارة شروط: الشرط الأول: أن يملكها بفعله؛ كالبيع، وقبول الهبة، والوصية والإجارة، وغير ذلك من وجو المكاسب. الشرط الثاني: أن يملكها بنية التجارة؛ بأن يقصد التكسب بها؛ لأن الأعمال بالنيات؛ والتجارة عمل؛ فوجب اقتران النية به كسائر الأعمال. الشرط الثالث: أن تبلغ قيمتها نصابا من أحد النقدين. الشرط الرابع: تمام الحول عليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، لكن لو اشترى عرضا بنصاب من النقود أو بعروض تبلغ قيمتها نصابا، بنى على حول ما اشتراها به. وكيفية إخراج زكاة العروض: أنها تقوَّم عند تمام الحول بأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 النقدين: الذهب أو الفضة "1"، ويراعى في ذلك الأحظ للفقراء، فإذا قومت وبلغت قيمتها نصابا بأحد النقدين؛ أخرج ربع العشر من قيمتها، ولا يعتبر ما اشتريت به، بل يعتبر ما تساوي عند تمام الحول؛ لأنه هو عين العدل بالنسبة للتاجر وبالنسبة لأهل الزكاة. ويجب على المسلم الاستقصاء والتدقيق ومحاسبة نفسه في إخراج زكاة العروض؛ كمحاسبة الشريك الشحيح لشريكه؛ بأن يحصي جميع ما عنده من عروض التجارة بأنواعها، ويقومها تقويما عادلاً؛ فصاحب البقالة مثلاً يحصي جميع ما في بقالته من أنواع المعروضات للبيع من المعلبات وأصناف البضائع، وصاحب الآليات وقطع الغيار والمكائن والسيارات المعروضة للبيع يحصيها ويقومها، وصاحب الأراضي والعمارات المعروضة للبيع يقومها بما تساوي؛ أما العمارات والبيوت والسيارات المعدة للإيجار؛ فلا زكاة في ذواتها، وإنما تجب الزكاة فيما تحصل عليه صاحبها من أجارها إذا حال عليه الحول، والبيوت المعدة للسكنى والسيارات المعدة للركوب والحاجة لا زكاة فيها، وكذلك أثاث المنزل وأثاث الدكان وآلات التاجر؛ كالأذرع، والمكاييل، والموازين، وقوارير العطار، كل هذه الأشياء لا زكاة فيها؛ لأنها لا تباع للتجارة.   1 أو ما يقوم مقامهما من الورق النقدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أيها المسلم، أخرج زكاة مالك عن طيب نفس واحتساب، واعتبرها مغنما لك في الدنيا والآخرة، ولا تعتبرها مغرما، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ فكل من الصنفين يخرج الزكاة؛ ويعامل عند الله على حساب نيته وقصده؛ فهؤلاء أخرجوها ونووها مغرما يتسترون بها عن حكم الإسلام فيهم، وينتظرون أن تدور الدائرة على المسلمين؛ لينتقموا منهم، فصار جزاءهم أن عليهم دائرة السوء، وحرموا الثواب وخسروا من أموالهم، والمؤمنون يعتبرون الزكاة حين يخرجونها قربات لهم؛ فهؤلاء يوفر لهم الأجر، ويخلف عليهم ما أنفقوا بخير منه، {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} ؛ لنيتهم الحسنة ومقصدهم الأسمى. فاتق الله أيها المسلم، واستشعر هذه المعاني، {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 باب في زكاة الفطر زكاة الفطر من رمضان المبارك، تسمى بذلك لأن الفطر سببها، فإضافتها إليه من إضافة الشيء إلى سببه. والدليل على وجوبها الكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ، قال بعض السلف: "المراد بالتزكي هنا إخراج زكاة الفطر". وتدخل في عموم قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} . وفي "الصحيحين" وغيرهما: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من بر أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين". وقد حكى غير واحد من العلماء إجماع المسلمين على وجوبها. والحكمة في مشروعيتها: أنها طهر للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وشكر لله تعالى على إتمام فريضة الصيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وتجب زكاة الفطر على كل مسلم؛ ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، حرًا كان أو عبدًا؛ لحديث ابن عمر الذي ذكرنا قريبا؛ ففيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وفرض بمعنى ألزم وأوجب. كما أن في الحديث أيضا بيان ما يخرج عن كل شخص وجنس ما يخرج؛ بمقدارها صاع، وهو أربعة أمداد، وجنس ما يخرج هو من غالب قوت البلد؛ برّاً كان، أو شعيراً أو تمرًا، أو زبيبا، أو أقطا ... أو غير هذه الأصناف مما اعتاد الناس أكله في البلد، وغلب استعمالهم له؛ كالأرز والذرة، وما يقتاته الناس في كل بلد بحسبه. كما بين صلى الله عليه وسلم وقت إخراجها، وهو أنه أمر بها أن تؤدى قبل صلاة العيد، فيبدأ وقت الإخراج الأفضل بغروب الشمس ليلة العيد، ويجوز تقديم إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ فقد روى البخاري رحمه الله: أن الصحابة كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين، فكان إجماعا منهم. وإخراجها يوم العيد قبل الصلاة أفضل، فإن فاته هذا الوقت، فأخر إخراجها عن صلاة العيد؛ وجب عليه إخراجها قضاء؛ لحديث ابن عباس: "من أداها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فهي صدقة من الصدقات"، ويكون آثما بتأخير إخراجها عن الوقت المحدد؛ لمخالفته أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. ويخرج المسلم زكاة الفطر عن نفسه وعمن يمونهم أي: ينفق عليهم من الزوجات والأقارب؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا الفطرة عمن تمولون". ويستحب إخراجها عن الحمل؛ لفعل عثمان رضي الله عنه. ومن لزم غيره إخراج الفطرة عنه، فأخرج هو عن نفسه بدون إذن من نلزمه؛ أجزأت؛ لأنها وجبت عليه ابتداء، والغير محتمل لها غير أصيل، وإن أخرج شخص عن شخص لا تلزمه نفقته بإذنه؛ أجزأت، وبدون إذنه لا تجزئ. ولمن وجب عليه إخراج الفطرة من غيره أن يخرج فطرة ذلك الغير مع فطرته في المكان الذي هو فيه، ولو كان المخرج عنه في مكان آخر. ونحب أن ننقل لك كلاما لابن القيم في جنس المخرج في زكاة الفطر، قال رحمه الله لما ذكر الأنواع الخمسة الواردة في الحديث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 "وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك؛ فإنما عليهم صاع من قوتهم، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك؛ أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره، إذ المقصور سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتات أهل بلدهم، وعلى هذا؛ فيجزىء الدقيق، وإن لم يصح فيه الحديث، وأما إخراج الخبز أو الطعام؛ فإنه وإن كان أنفع للمساكين، لقلة المؤونة والكلفة فيه؛ فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه" انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يخرج من قوت بلدة مثل الأرز وغيره، ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث وهو رواية عن أحمد وقول أكثر العلماء، وهو أصح الأقوال؛ فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المواساة للفقراء" انتهى. وأما إخراج القيمة عن زكاة الفطر؛ بأن يدفع بدلها دراهم؛ فهو خلاف السنة؛ فلا يجزئ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه إخراج القيمة في زكاة الفطر. قال الإمام أحمد: "لا يعطى القيمة. قيل له: قوم يقولون: إن عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة؟ قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ويقولون: قال فلان، وقد قال ابن عمر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا ... " الحديث؟! ". ولا بد أن تصل صدقة الفطر إلى مستحقها في الموعد المحدد لإخراجها، أو تصل إلى وكيله الذي عمده في قبضها نيابة عنه، فإن لم يجد الدافع من أراد دفعها إليه، ولم يجد له وكيلاً في الموعد المحدد؛ وجب دفعها إلى آخر. وهنا يغلط بعض الناس؛ بحيث يودع زكاة الفطر عند شخص لم يوكله المستحق، وهذا لا يعتبر إخراجا صحيحا لزكاة الفطر، فيجب التنبيه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 باب في إخراج الزكاة إن من أهم أحكام الزكاة معرفة مصرفها الشرعي؛ لتكون واقعة موقعها، وواصلة إلى مستحقها، حتى تبرأ بذلك ذمة الدافع. فاعلم أيها المسلم أنه تجب المبادرة بإخراج الزكاة فور وجوبها في المال؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، والأمر المطلق يقتضي الفورية، وعن عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما خالطت الزكاة مالاً إلا هلكته"، ولأن حاجة الفقير تستدعي المبادرة بدفعها إليه، وفي تأخيرها إضرار به، ولأن من وجبت عليه عرضة لحلول العوائق الطارئة كالإفلاس والموت، وذلك يؤدي إلى بقائها في ذمته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ولأن المبادرة بإخراج الزكاة، وعدم تأخيرها إلا لضرورة؛ كما أو أخرها ليدفعها إلى من هو أشد حاجة، أو لغيبة المال، ونحو ذلك. وتجب الزكاة في مال صبي ومال مجنون؛ لعموم الأدلة، ويتولى إخراجها عنهما وليهما في المال؛ لأن ذلك حق وجب عليهما تدخلة النيابة. ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". وإخراج الزكاة عمل، والأفضل أن يتولى صاحب المال توزيع الزكاة؛ ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها، وله أن يوكل من يخرجها عنه، وإن طلبها إمام المسلمين؛ دفعها إليه، أو يدفعها إلى الساعي، وهو العامل الذي يرسله الإمام لجباة الزكوات. ويستحب عند دفع الزكاة أن يدعوا الدافع والآخذ، فيقول الدافع: "اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما"، ويقول الآخذ: "آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا". قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم} ؛ أي: ادع لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 قال عبد الله بن أبي أوفى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم يصدقهم؛ قال: "اللهم صل عليهم"، متفق عليه. وإذا كان الشخص محتاجا، ومن عادته أخذ الزكاة؛ دفعها إليه دون أن يقول: هذه زكاة؛ لئلا يحرجه، وغن كان محتاجا، ولم يكن من عادته أخذ الزكاة، أعلمه بأنها زكاة. والأفضل إخراج زكاة كل مال في بلده؛ بأن يوزعها على فقراء ذلك البلد الذي فيه المال، ويجوز نقلها إلى بلد آخر لمصلحة شرعية؛ كأن يكون له قرابة محتاجون ببلد آخر، أو من هم أشد حاجة ممن هم في البلد الذي فيه المال؛ لأن الصدقات كانت تنقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فيفرقها على فقراء المهاجرين والأنصار. ويجب على غمام المسلمين بعث السعاة قرب زمن وجوب الزكاة لقبض زكاة الأموال الظاهرة كسائمة بهيمة الأنعام والزروع والثمار؛ لفعل النبيصلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه رضي الله عنهم من بعده، وجرى عليه عمل المسلمين، ولأن من الناس من لو ترك؛ لم يخرج الزكاة، ومنهم من يجهل وجوب الزكاة؛ فإرسال السعاة فيه تدارك لهذا الخطر، وفي بعث السعاة أيضا تخفيف على الناس، وإعانة لهم على أداء الواجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 والواجب على المسلم إخراج الزكاة عند وجوبها كما سبق من غير تأخير ولا تردد، ويجوز تعجيل إخراج الزكاة قبل وجوبها لحولين فأقل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين؛ كما رواه أحمد وأبو داود؛ فيجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها إذا انعقد سبب الوجوب عند جمهور العلماء، سواء كانت زكاة ماشية أو حبوب أو عروض تجارة إذا ملك النصاب، وترك التعجيل أفضل؛ خروجا من الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 باب في بيان أهل الزكاة ومن لا يجوز دفع الزكاة لهم واعلم أنه لا يجرئ دفع الزكاة إلا للأصناف التي عينها الله في كتابه الكريم، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، فهؤلاء المذكورون في هذه الآية الكريمة هم أهل الزكاة الذين جعلهم الله محلا لدفعها إليهم، لا يجوز صرف شيء منها إلى غيرهم إجماعا. وأخرج أبو داود وغيره عن زياد بن الحارث مرفوعا: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجرأها ثمانية أجزاء". وقال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل: "إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وذلك أنه لما اعترض بعض المنافقين على النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات؛ بين الله تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يجب صرفها إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين، وإلا؛ صرفت إلى الموجود منهم، ونقلها إلى حيث يوجدون". وقال: "لا ينبغي منها إلا من يستعين بها على طاعة الله؛ فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين أو من يعاونهم، فمن لا يصلي من أهل الحاجات؛ لا يعطى منها، حتى يتوب ويلتزم بأداء الصلاة" انتهى. ولا يجوز صرف الزكاة في غير هذه المصارف التي عينها الله من المشاريع الخيرية الأخرى؛ كبناء المساجد والمدارس؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } الآية، و"إنما" تفيد الحصر، وتثبت الحكم لما بعدها، وتنفيه عما سراه، والمعنى: ليست الصدقات لغير هؤلاء، بل لهؤلاء خاصة، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية؛ إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وهذه الأصناف تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المحاويج من المسلمين. القسم الثاني: من في إعطائهم معونة على الإسلام وتقوية له وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؛ ففي هذه الآية الكريمة حصر لأصناف أهل الزكاة الذين يجوز صرف الزكاة إلا لهم، ولا يجزئ صرفها في غيرهم. وهم ثمانيه أصناف: أحدهم: الفقراء، وهم أشد حاجة من المساكين؛ لأن الله تعالى بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، والفقراء هم الذين لا يجدون شيئا يكتفون به في معيشتهم، ولا يقدرون على التكسب، أو يجدون بعض الكفاية، فيعطون من الزكاة كفايتهم إن كانوا لا يجدون منها شيئا، أو يعطون تمام كفايتهم إن كانوا يجدون بعضها لعام كامل. الثاني: المساكين، وهم أحسن حالاً من الفقراء؛ فالمسكين هو الذي يجد أكثر كفايته أو نصفها، فيعطى من الزكاة تمام كفايته لعام كامل. الثالث: العاملون عليها، وهم العمال الذين يقومون بجمع الزكاة من أصحابها، ويحفظونها، ويوزعونها على مستحقتها بأمر إمام المسلمين، فيعطون من الزكاة قدر أجرة عملهم؛ إلا إن كان ولي الأمر قد رتب لهم رواتب من بيت المال على هذا العمل؛ فلا يجوز أن يعطوا شيئا من الزكاة؛ كما هو الجاري في هذا الوقت؛ فإن العمال يعطون من قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الدولة، فيأخذون انتدابات على عملهم في الزكاة؛ فهؤلاء حرام عليهم أن يأخذوا من الزكاة شيئا عن عملهم؛ لأنهم قد أعطوا أجرة عملهم من غيرها. الرابع: المؤلفة قلوبهم: جمع مؤلف من التأليف وهو جمع القلوب، والمؤلفة قلوبهم قسمان: كفار ومسلمون؛ فالكافر يعطى من الزكاة إذا رجي إسلامه لتقوى نيته على الدخول في الإسلام وتشتد رغبته، أو إذا حصل بإعطائه كف شره عن المسلمين أو شر غيره، والمسلم المؤلف يعطى من الزكاة لتقوية إيمانه، أو رجاء لإسلام نظيره ... ونحو ذلك من الأغراض الصحيحة المفيدة للمسلمين والإعطاء للتأليف إنما يعمل به عند الحاجة إليه فقط؛ لأن عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم تركوا الإعطاء للتأليف؛ لعدم الحاجة إليه في وقتهم. الخامس: الرقاب، وهم الأرقاء المكاتبون الذين يجدون وفاء، فيعطى المكاتب ما يقدر به على وفاء دينه حتى يعتق ويخلص من الرق، ويجوز أن يشتري المسلم من زكاته عبدًا فيعتقه، ويجوز أن يفتدى من الزكاة الأسير المسلم؛ لأن في ذلك فك رقبة المسلم من الأسر. السادس: الغارم، والمراد بالغارم المدين، وهو نوعان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أحدهما: غارم لغيره، وهو الغارم لأجل إصلاح ذات البين؛ بأن يقع بين قبيلتين نزاع في دماء أو أموال، ويحدث بسبب ذلك بينهم شحناء وعداوة، فيتوسط الرجل بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمته مالاً عوضا عما بينهم؛ ليطفئ الفتنة، فيكون قد عمل معروفا عظيما، من المشروع حمله عنه من الزكاة؛ لئلا تجحف الحمالة بماله، وليكون ذلك تشجيعا له ولغيره على مثل هذا العمل الجليل، الذي يحصل به كف الفتن والقضاء على الفساد، بل لقد أباح الشارع لهذا الغارم المسألة لتحقيق هذا الغرض؛ ففي "صحيح مسلم" عن قبيصة؛ قال: تحملت حمالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها". الثاني: الغارم لنفسه؛ كأن يفتدي نفسه من كفار، أو يكون عليه دين لا يقدر على تسديده، فيعطى من الزكاة ما يسدد به دينه؛ لقوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} . السابع: في سبيل الله؛ بأن يعطى من الزكاة الغزاة المتطوعة الذين لا رواتب لهم من بيت المال؛ لأن المراد بسبيل الله عند الإطلاق الغزو، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} ، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع به سفره بسبب نفاذ ما معه أو ضياعه؛ أن لأن السبيل هو الطريق، فسمي من لزمه ابن السبيل، فيعطى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وإن كان في طريقه إلى بلد قصده؛ أعطي ما يوصله ذلك البلد، وما يرجع به إلى بلده، ويدخل في ابن السبيل الضيف كما قال ابن عباس وغيره، وإن بقى مع ابن السبيل أو الغازي أو الغارم أو المكاتب شيء ما أخذوه من الزكاة زائدًا عن حاجتهم؛ وجب عليهم رده؛ لأنه لا يملك ما أخذه ملكا مطلقا، وإنما يملكه ملكا مراعي بقدر الحاجة، وتحقيق السبب الذي أخذه من أجله، فإذا زال السبب؛ زال الاستحقاق. واعلم أنه يجوز صرف جميع الزكاة في صنف واحد من هذه الأصناف المذكورة، قال تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} ، ولحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: "أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، متفق عليه، فلم يذكر في الآية والحديث إلا صنفا واحدًا، فدل على جواز صرفها إليه. ويجزئ الاقتصار على إنسان واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر، رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم لقيبصة: "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة؛ فنأمر لك بها"؛ فدل الحديثان على جواز الاقتصار على شخص واحد من الأصناف الثمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ويستحب دفعها إلى أقاربه المحتاجين الذين لا تلزمه نفقتهم الأقرب فالأقرب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة"، رواه الخمسة وحسنه الترمذي. ولا يجوز دفع الزكاة إلى بني هاشم، ويدخل فيهم: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، وإنما هي أوساخ الناس"، أخرجه مسلم. ولا يجوز دفع الزكاة إلى امرأة فقيرة إذا كانت زوج غني ينفق عليها، ولا إلى فقير إذا كان له قريب غني ينفق عليه؛ لاستغنائهم بتلك النفقة عن الأخذ من الزكاة. ولا يجوز للإنسان أن يدفع زكاة ماله إلى أقاربه الذين يلزمه الإنفاق عليهم؛ لأنه يقي بها ماله حينئذ، أما من كان ينفق عليه تبرعا فإنه يجوز أن يعطيه من زكاته؛ ففي "الصحيح" أن امرأة عبد الله سألت النبيصلى الله عليه وسلم عن بني أخ لها أيتام في حجرها؛ أفتعطيهم زكاتها؟ قال: "نعم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ولا يجوز دفع زكاته إلى أصول، وهم آباؤه وأجداده، ولا إلى فروعه، وهم أولاده وأولاد أولاده. ولا يجوز له دفع زكاته إلى زوجته؛ لأنها مستغنية بإنفاقه عليها، ولأنه يقي بها ماله. ويجب على المسلم أن يتثبت من دفع الزكاة، فلو دفعها لمن ظنه مستحقا، فتبين أنه غير مستحق؛ لم تجزئه، أما إذا لم يتبين عدم استحقاقه؛ فالدفع إليه بجزيء؛ اكتفاء بغلبة الظن، ما لم يظهر خلافه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أتاه رجلان يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، ورآهما جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما منها، ولا حظ فبها لغني ولا لقوي مكتسب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 باب في الصدقة المستحبة وإلى جانب الزكاة الواجبة في المال هناك صدقة مستحبة تشرع كل وقت، لإطلاق الحث عليها في الكتاب والسنة والترغيب فيها؛ فقد حث الله عليها في كتابه العزيز في آيات كثيرة: قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَاب} . وقال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَة} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء"، رواه الترمذي وحسنه. وفي "الصحيحين": "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ظله ... "، وذكر منهم: "ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا نعلم شماله ما تنفق يمينه". والأحاديث في هذا كثيرة. وصدقة السر أفضل؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، ولأنه أبعد عن الرياء؛ إلا أن يترتب على إظهار الصدقة وإعلانها مصلحة راجحة من إقتداء الناس به. وينبغي أن تكون طيبة بها نفسه، غير ممتن بها على المحتاج، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} . والصدقة في حال الصحة أفضل، قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر". والصدقة في الحرمين الشريفين أفضل؛ لأمر الله بها في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} . والصدقة في رمضان أفضل؛ لقول ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 جبريل، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة". والصدقة في أوقات الحاجة أفضل، قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} كما أن الصدقة على الأقارب والجيران أفضل منها على الأبعدين؛ فقد أوصى الله بالأقارب، وجعل لهم حقا على قريبهم في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة"، رواه الخمسة وغيرهم، وفي "الصحيحين": "أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة". ثم اعلم أن في المال حقوقا سوى الزكاة؛ نحو مواساة القرابة، وصلة الأخوان، وإعطاء سائل، وإعارة محتاج، وإنظار معسر، وإقراض، قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ويجب إطعام الجائع، وقري الضيف، وكسوة العاري، وسقي الظمآن، بل ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أنه يجب على المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 باب في الصدقة المستحبة ... كما أنه يشرع لمن حصل على مال وبخضرته أناس من الفقراء والمساكين أن يتصدق عليهم منه، قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} . وهذه من محاسن دين الإسلام؛ لأنه دين المواساة والرحمة، ودين التعاون والتآخي في الله؛ فما أجمله من دين!، وما أحكمه من تشريع!. نسأل الله تعالى أن يرزقنا البصيرة في دينه والتمسك بشريعته، إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 كتاب الصيام باب في وجوب صوم رمضان ووقته صوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام، وفرض من فروض الله، معلوم من الدين بالضرورة. ويدل عليه الكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية. ومعنى {كتب} : فرض، قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، والأمر للوجوب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس"، وذكر منها صوم رمضان. والأحاديث في الدلالة على فرضيته وفضله كثيرة مشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وأجمع المسلمون على وجوب صومه، وأن من أنكره كفر. والحكمة في شرعية الصيام: أن فيه تزكية للنفس وتطهيرًا وتنقية لها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، لأنه يضيق مجاري الشيطان في بدن الإنسان؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا أكل أو شرب؛ انبسطت نفسه للشهوات، وضعفت إرادتها، وقلت رغبتها في العبادات، والصوم على العكس من ذلك. وفي الصوم تزهيد في الدنيا وشهواتها، وترغيب في الآخرة، وفيه باعث على العطف على المساكين وإحساس بآلامهم؛ لما يذوقه الصائم من ألم الجوع والعطش؛ لأن الصوم في الشرع هو الإمساك بنية عن أشياء مخصوصة من أكل وشرب وجماع وغير ذلك مما ورد به الشرع، ويتبع ذلك الإمساك عن الرفث والفسوق. ويبتدئ وجوب الصوم اليومي بطلوع الفجر الثاني، وهو البياض المعترض في الأفق، وينتهي بغروب الشمس، قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} "يعني الزوجات" {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، ومعنى: {يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} : أن يتضح بياض النهار من سواد الليل. ويبدأ وجوب صوم شهر رمضان إذا علم دخوله. وللعلم بدخوله ثلاث طرق: الطريقة الأولى: رؤية هلاله، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فَلْيَصُمْهُ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته"، فمن رأى الهلال بنفسه؛ وجب عليه الصوم. الطريقة الثانية: الشهادة على الرؤية، أو الإخبار عنها؛ فيصام برؤية عدل مكلف إخباره بذلك؛ لقوله ابن عمر: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه"، رواه أبو داود وغيره، وصححه ابن حبان الحاكم. والطريقة الثالثة: إكمال عدة شهر شعبان ثلاثين يوما، وذلك حينما لا يرى الهلال ليله الثلاثين من شعبان مع وجود ما يمنع الرؤية من غيم أو قتر أو مع وجود شيء من ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الشهر تسعة وعشرون يوما؛ فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطرون حتى تره، فإن غم عليكم؛ فاقدروا له"، ومعنى "قدروا له"؛ أي: أتموا شهر شعبان ثلاثين يوما؛ لما ثبت في حديث أبي هريرة: "فإن غم عليكم؛ فعدوا ثلاثين". ويلزم صوم رمضان كل مسلم مكلف قادر. فلا يجب على كافر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ولا يصح منه، فإن تاب في أثناء الشهر؛ صام الباقي، ولا يلزم قضاء ما سبق حال الكفر. ولا يجب الصوم على الصغير، ويصح الصوم من صغير مميز، ويكون في حقه نافلة. ولا يجب الصوم على مجنون، ولو صام حال جنونه؛ لم يصح منه؛ لعدم النيه. ولا يجب الصوم أداء على مريض يعجز عنه ولا مسافر، ويقضيانه حال زوال عذر المرض والسفر، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . والخطاب بإيجاب الصيام يشمل المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والطاهر والحائض والنفساء، والمغمى عليه؛ فإن هؤلاء كلهم يجب عليهم الصوم في ذممهم؛ بحيث إنهم يخاطبون بالصوم؛ ليعتقدوا وجوبه في ذممهم، والعزم على فعله: إما أداء، وإما قضاء؛ فمنهم من يخاطب بالصوم في نفس الشهر أداء، وهو الصحيح المقيم؛ إلا الحائض والنفساء، ومنهم من يخاطب بالقضاء فقط، وهو الحائض والنفساء والمريض الذي على أداء الصوم ويقدر عليه قضاء، ومنهم من يخبر بين الأمرين، وهو المسافر والمريض الذي يمكنه الصوم بمشقة من غير خوف التلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ومن أفطر لعذر ثم زال عذره في أثناء نهار رمضان؛ كالمسافر يقدم من سفره، والحائض والنفساء تطهران، والكافر إذا أسلم، والمجنون إذا أفاق من جنونه، والصغير يبلغ؛ فإن كلا من هؤلاء يلزمه الإمساك بقية اليوم ويقضيه، وكذا إذا قامت البينة بدخول الشهر في أثناء النهار؛ فإن المسلمين يمسكون بقية اليوم ويقضون اليوم بعد رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 باب في بدء صيام اليوم ونهايته قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام؛ فإنه كان إذا أفطر أحدهم؛ إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء؛ حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة، فنزلت هذه الآية، ففرحوا بها فرحا شديدًا، حيث أباح الله الأكل والشرب والجماع في أي الليل شاء الصائم، إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فتبين من الآية الكريمة تحديد الصوم اليومي بداية ونهاية، فبدايته من طلوع الفجر الثاني، ونهايته إلى غروب الشمس. وفي إباحته تعالى الأكل والشرب إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور. وفي "الصحيحين" عن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا؛ فإن السحور بركة". وقد ورد في الترغيب بالسحور آثار كثيرة، ولو بجرعة ماء، ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر. ولو استيقظ الإنسان وعليه جنابة أو طهرت الحائض قبل طلوع الفجر؛ فإنهم يبدؤون بالسحور، ويصومون، ويؤخرون الاغتسال إلى بعد طلوع الفجر. وبعض الناس يبكرون بالتسحر لأنهم يسهرون معظم الليل ثم يتسحرون وينامون قبل الفجر بساعات، وهؤلاء قد ارتكبوا عدة أخطاء: أولاً: لأنهم صاموا وقت الصيام. ثانيا: يتركون صلاة الفجر مع الجماعة، فيعصون الله بترك ما أوجب الله عليهم من صلاة الجماعة. ثالثا: ربما يؤخرون صلاة الفجر عن وقتها، فلا يصلون إلا بعد طلوع الشمس، وهذا أشد جرما وأعظم إثما، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ولا بد أن ينوي الصيام الواجب من الليل، فلو نوى الصيام ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر؛ فإنه يمسك، وصيامه صحيح تام إن شاء الله. ويستحب تعجيل الإفطار إذا تحقق غروب الشمس بمشاهدتها أو غلب على ظنه بخبر ثقة بأذان أو غيره: فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرًا". والسنة أن يفطر على رطب، فإن لم يجد؛ فعلى تمر، فإن لم يجد؛ فعلى ماء؛ لقول أنس رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات؛ فتمرات، فإن لم تكن تمرات؛ حسا حسوات من ماء ... "، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فإن لم يجد رطبا ولا تمرًا ولا ماءًا أفطر على ما تيسر من طعام وشراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وهنا أمر يجب التنبية عليه، وهو أن بعض الناس قد يجلس على مائدة إفطاره ويتعشى ويترك صلاة المغرب مع الجماعة في المسجد، فيرتكب بذلك خطأ عظيما، وهو التأخر عن الجماعة في المسجد، ويفوت على نفسه ثوابا عظيما، ويعرضها للعقوبة، والمشروع للصائم أن يفطر أولاً، ثم يذهب للصلاة، ثم يتعشى بعد ذلك. ويستحب أن يدعو عند إفطاره بما أحب، قال صلى الله عليه وسلم: "إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد"، ومن الدعاء الوارد أن يقول: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت"، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أفطر يقول: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". وهكذا ينبغي للمسلم أن يتعلم أحكام الصيام والإفطار وقتا وصفة حتى يؤدي صيامه على الوجه المشروع الموافق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يكون صيامه صحيحا وعمله مقبولاً عند الله؛ فإن ذلك من أهم الأمور، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 باب في مفسدات الصوم للصيام مفسدات يجب على المسلم أن يعرفها؛ ليتجنبها، ويحذر منها لأنها تفطر الصائم، وتفسد عليه صيامه. وهذه المفطرات منها: 1 الجماع: فمتى جامع الصائم؛ بطل صيامه، ولزمه قضاء ذلك اليوم الذي جامع فيه، ويجب عليه مع قضائه الكفارة، هي: عتق رقبة، فإن لم يجد الرقبة أو لم يجد قيمتها؛ فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين؛ بأن لم يقدر على ذلك لعذر شرعي؛ فعليه أن يطعم ستين مسكينا، لكل مسكين نصف صاع من الطعام المأكول في البلد. 2 إنزال المني بسبب تقبيل أو لمس أو استمناء أو تكرار نظر، فإذا حصل شيء من ذلك؛ فسد صومه، وعليه القضاء فقط بدون كفارة؛ لأن الكفارة تختص بالجماع. والنائم إذا احتلم فأنزل؛ فلا شيء عليه، وصيامه صحيح؛ لأن ذلك وقع بدون اختيار، لكن يجب عليه الاغتسال من الجنابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 3 الأكل أو الشرب متعمدًا؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . أما من أكل وشرب ناسيا؛ فإن ذلك لا يؤثر على صيامه، وفي الحديث: "من أكل أو شرب ناسيا؛ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه". ومما يفطر الصائم إيصال الماء ونحوه إلى الجوف عن طريق الأنف، وهو ما يسمى بالسعوط، وأخذ المغذي عن طريق الوريد، وحقن الدم في الصائم، كل ذلك يفسد صومه؛ لأنه تغذية له. ومن ذلك أيضا حقن الصائم بالإبر المغذية؛ لأنها تقوم مقام الطعام، وذلك يفسد الصيام، أما الإبر غير المغذية، فينبغي للصائم أيضا أن يتجنبها محافظة على صيامه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ويؤخرها إلى الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 4 إخراج الدم من البدن بحجامة أو فصد أو سحب دم ليتبرع به لإسعاف مريض؛ فيفطر بذلك كله. أما إخراج دم قليل كالذي يستخرج للتحليل؛ فهذا لا يؤثر على الصيام، وكذا خروج الدم بغير اختياره برعاف أو جرح أو خلع سن؛ فهذا لا يؤثر على الصيام. 5 ومن المفطرات التقيؤ، وهو استخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم متعمدًا؛ فهذا يفطر به الصائم، أما إذا غلبه القيء، وخرج بدون اختياره؛ فلا يؤثر على صيامه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء؛ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا؛ فليقض"، ومعنى "ذرعة القىء" أي: خرج بدون اختياره، ومعنى قوله: "استقاء" أي: تعمد القيء. وينبغي أن يتجنب الصائم الاكتحال ومداواة العينين بقطرة أو بغيرها وقت الصيام؛ محافظة على صيامه. ولا يبالغ في المضمضة والاستنشاق؛ لأنه ربما ذهب الماء إلى جوفه، قال صلى الله عليه وسلم: "وبالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 والسواك لا يؤثر على الصيام، بل هو مستحب ومرغب فيه للصائم وغيره في أول النهار وآخره على الصحيح. ولو طار إلى حلقه غبار أو ذباب؛ لم يؤثر على صيامه. ويجب على الصائم اجتناب كذب وغيبة وشتم، وإن سابه أحد أو شمته؛ فليقل إني صائم؛ فإن بعض الناس قد يسهل عليه ترك الطعام والشراب، ولكن لا يسهل عليه ترك ما اعتاده من الأقوال والأفعال الرديئة، ولهذا قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الطعام والشراب. فعلى المسلم أن يتقي الله ويخافه ويستشعر عظمة ربه وإطلاعه عليه في كل حين وعلى كل حال، فيحافظ على صيامه من المفسدات والمنقصات؛ ليكون صيامه صحيحا. وينبغي للصائم أن يشتغل بذكر الله وتلاوة القرآن والإكثار من النوافل، فقد كان السلف إذا صاموا؛ جلسوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدًا، وقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وذلك لأنه يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله عليه في كل حال من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، روي عن أبي هريرة مرفوعا: "الصائم في عبادة ما لم يغتب مسلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أو يؤذه"، وعن أنس: "ما صام من ظل يأكل لحوم الناس"، فالصائم يترك أشياء كانت مباحة في غير حالة الصيام؛ فمن باب أولى أن يترك الأشياء التي لا تحل له في جميع الأحوال؛ ليكون في عداد الصائمين حقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 باب في بيان أحكام القضاء للصيام من أفطر في رمضان بسبب مباح؛ كالأعذار الشرعية التي تبيح الفطر، أو بسبب محرم؛ كمن أبطل صومه بجماع أو غيره؛ وجب عليه القضاء؛ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1. ويستحب له المبادرة بالقضاء؛ لإبراء ذمته، ويستحب أن يكون القضاء متتابعا؛ لأن القضاء يحكي الأداء، وإن لم يقض على الفوز وجب العزم عليه، ويجوز له التأخير؛ لأن وقته موسع، وكل واجب موسع يجوز تأخيره مع العزم عليه؛ كما يجوز تفرقته؛ بأن يصومه متفرقا، لكن إذا لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليه؛ يجب عليه التتابع إجماعا؛ لضيق الوقت، ولا يجوز تأخير إلى ما بعد رمضان الآخر لغير عذر؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا شعبان؛ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم" متفق عليه، فدل هذا على   1 سورة البقرة، آية: 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ماتت وعليها صيام نذر؛ أفأصوم عنه؟ قال: "نعم". والولي هو الوارث. قال ابن القيم رحمه الله: "يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا مذهب أحمد وغيره، والمنصوص عن ابن عباس وعائشة، وهو مقتضى الدليل والقياس؛ لأن النذر ليس واجبا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه؛ فصار بمنزلة الدين، ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء؛ فهو أحد أركان الإسلام؛ فلا تدخله النيابة بحال؛ كما لا تدخل الصلاة والشهادتين؛ فإن المقصود منهما طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبورية التي خلق لها وأمر بها، وهذا لا يؤديه عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يطعم عنه كل يوم مسكين، وبذلك أخذ أحمد وإسحاق وغيرهما، وهو مقتضى النظر كما هو موجب الأثر؛ فإن النذر كان ثابتا في الذمة فيفعل بعد الموت، وأما صوم رمضان؛ فإن الله لم يوجبه على العاجز عنه، بل أمر العاجز بالفدية طعام مسكين، والقضاء إنما على من قدر عليه لا من عجز عنه؛ فلا يحتاج إلى أن يقضي أحد عن أحد، وأما الصوم لنذر وغيره من المنذورات؛ فيفعل عنه بلا خلاف؛ للأحاديث الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 باب في بيان أحكام القضاء للصيام ... أن وقت القضاء موسع؛ إلى أن يبقى من شعبان إلا قدر الأيام التي عليه؛ فيجب عليه صيامها قبل دخول رمضان الجديد. فإن أخر القضاء حتى أتى عليه رمضان الجديد؛ فإنه يصوم رمضان الحاضر، ويقضي ما عليه بعده، ثم إن تأخيره لعذر لم يتمكن معه من القضاء في تلك الفترة؛ فإنه عليه إلا القضاء، وإن كان لغير عذر؛ وجب عليه مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد. وإذا مات من عليه القضاء قبل دخول رمضان الجديد؛ فلا شيء عليه؛ لأن له تأخير في تلك الفترة التي مات فيها، وإن مات بعد رمضان الجديد: فإن كان القضاء لعذر كالمرض والسفر وحتى أدركه رمضان الجديد؛ فلا شيء عليه أيضا، وإن تأخيره لغيره عذر؛ وجبت الكفارة في تركته؛ بأن يخرج عنه إطعام مسكين عن كل يوم. وإن مات من عليه صوم كفارة كصوم كفارة الظهار والصوم الواجب عن دم المتعة في الحج؛ فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا، ولا يصام عنه، ويكون الإطعام من تركته؛ لأنه صيام لا تدخله النيابة في الحياة، فكذا بعد الموت، وهذا قول أكثر أهل العلم. وإن مات من عليه صوم نذر؛ استحب لوليه أن يصوم عنه؛ لما ثبت في "الصحيحين"؛ أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 باب في ما يلزم من أفطر لكبر أو مرض الله سبحانه وتعالى أوجب صوم رمضان على المسلمين؛ أداء في حق غير ذوي الأعذار، وقضاء في حق ذوي الأعذار، الذين يستطيعون القضاء في أيام أخر، وهناك صنف ثالث لا يستطيعون الصيام أداء ولا قضاء كالكبير الهرم والهرم الذي لايرجى برؤه؛ فهذا الصنف قد خفف الله عنه، فأوجب عليه بدل الصيام إطعام مسكين عن كل يوم نصف صاع من الطعام. قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} . وقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم"، رواه البخاري. والمريض الذي لا يرجى برؤه من مرضه في حكم الكبير، فيطعم عن كل يوم مسكينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وأما من أفطر لعذر يزول كالمسافر والمريض مرضا يرجى زواله والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما، والحائض والنفساء؛ فإن كلاًّ من هؤلاء يتحتم عليه القضاء؛ بأن يصوم من أيام أخر بعدد الأيام التي أفطرها، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . وفطر المريض الذي يضره الصوم والمسافر الذي يجوز له قصر الصلاة سنة؛ لقوله تعالى: في حقهم: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ؛ أي: فليفطر وليقض عدد ما أفطره، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين؛ إلا اختار أيسرهما، وفي "الصحيحين": "ليس من البر الصيام في السفر". وإن صام المسافر أو المريض الذي يشق عليه الصوم؛ صح صومهما مع الكراهة، وأما الحائض والنفساء؛ فيحرم في حقها الصوم حال الحيض والنفاس، ولا يصح. والمرضع والحامل يحب عليهما قضاء ما أفطرتا من أيام أخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ويحب مع القضاء من أفطرت للخوف على ولدها إطعام مسكين عن كل يوم أفطرته. وقال العلامة ابن القيم رحمة الله: "أفتى ابن عباس وغيره من غيره من الصحابة في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أن تفطرا وتطعما عن كل يوم مسكينا؛ إقامة للإطعام مقام الصيام"؛ يعني: أداءً، مع وجوب القضاء عليهما ويجب الفطر على من احتاج إليه لإنقاذ من وقع في هلكة؛ كالغريق ونحوه". ويجب على المسلم تعيين نية الصوم الواجب من الليل؛ كصوم رمضان وصوم الكفارة، وصوم النذر؛ بأن يعتقد أنه يصوم من رمضان أو قضائه أو يصوم نذرًا أو كفارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، وعن عائشة مرفوعا: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر؛ فلا صيام له"، فيجب أن ينوي الصوم الواجب في الليل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فمن نوى الصوم من النهار؛ كمن أصبح ولم يطعم شيئا بعد طلوع الفجر، ثم نوى الصيام؛ لم يجزئه؛ إلا في التطوع، وأما الصوم الواجب؛ فلا ينعقد بنيته من النهار؛ لأن جميع النهار يجب فيه الصوم، والنية لا تنعطف على الماضي. وأما صوم النفل؛ فيجوز بنية من النهار؛ لحديث عائشة رضي الله عنه: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "هل عندكم من شيء؟ "، فقلنا: لا، قال: "فإني صائم"، رواه الجماعة إلا البخاري؛ ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان مفطرًا لأنه طلب طعاما، وفيه دليل على جواز تأخير نية الصوم إذا كان تطوعا، فتخصص به الأدلة المانعة. فشرط صحة صوم النفل بنية من النهار أن لا يوجد قبل النية مناف للصيام من أكل وشرب ونحوهما، فإن فعل قبل النية ما يفطره؛ لم يصح يغير خلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 كتاب الحج باب في الحج وعلى من يجب الحج هو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، أي: لله على الناس فرض واجب هو حج البيت؛ لأن كلمة {على} للإيجاب، وقد أتبعه بقوله جل وعلا: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ؛ فسمى الله تعالى تاركه كافرًا، وهذا مما يدل على وجوبه وآكديته، فمن لم يعتقد وجوبه؛ فهو كافر بالإجماع. وقال تعالى لخليله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجّ} . وللترمذي وغيره وصححه عن علي رضي الله عنه مرفوعا: "من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج؛ فعليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 البيت من استطاع إليه سبيلا"، والمراد ب "السبيل" توفر الزاد ووسيلة النقل التي توصله إلى البيت ويرجع بها إلى أهله. والحكمة في مشروعية الحج هي كما بينها الله تعالى بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} إلى قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ؛ فالمنفعة من الحج ترجع للعباد ولا ترجع إلى الله تعالى؛ لأنه {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ؛ فليس به حاجة إلى الحجاج كما يحتاج الخلوق إلى من يقصده ويعظمه، بل العباد بحاجة إليه؛ فهم يقدون إليه لحاجتهم إليه. والحكمة في تأخير فريضة الحج عن الصلاة والزكاة والصوم؛ لأن الصلاة عماد الدين، ولتكررها في اليوم والليلة خمس مرات، ثم الزكاة لكونها قرينة لها في كثير من المواضع، ثم الصوم لتكرره كل سنة. وقد فرض الحج في الإسلام سنة تسعة من الهجرة كما هو قول الجمهور، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا حجة واحدة هي حجة الوداع، وكانت سنة عشر من الهجرة، واعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 والمقصود من الحج والعمرة عبادة الله في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله". والحج فرض بإجماع المسلمين، وركن من أركان الإسلام، وهو فرض في العمر مرة على المستطيع، وفرض كفاية على المسلمين كل عام، وما زاد على حج الفريضة في حق أفراد المسلمين؛ فهو تطوع. وأما العمرة؛ فواجبة على قول كثير من العلماء؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم؛ عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة"، رواه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح. وإذا ثبت وجوب العمرة على النساء فالرجال أولى. وقال صلى الله عليه وسلم للذي سأله، فقال: أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن؟ فقال: "حج عن أبيك واعتمر"، رواه الخمسة وصححه الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فيجب الحج والعمرة على المسلم مرة واحدة في العمر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع"، ورواه أحمد وغيره. وفي "صحيح مسلم" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "أيها الناس! قد فرض عليكم الحج، فحجوا"، فقال رجل: أكل عام؟ فقال: "لو قلت: نعم؛ لوجبت، ولما استطعتم". ويجب على المسلم أن يبادر بأداء الحج الواجب مع الإمكان، ويأثم إن أخره بلا عذر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج"يعني: الفريضة"، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"، رواه أحمد. وإنما يجب الحج بشروط خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، فمن توفرت فيه هذه الشروط؛ وجب عليه المبادة بأداء الحج. ويصح فعل الحج والعمرة من الصبي نفلاً؛ لحديث ابن عباس: أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر"، رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وقد أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يبلغ؛ فعليه الحج إذا بلغ واستطاع، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذا عمرته. وإن كان الصبي دون التمييز؛ عقد عنه الإحرام وليه؛ بأن ينويه عنه، ويجنبه المحظورات، ويطوف ويسعى به محمولاً، ويستصحبه في عرفة ومزدلفة ومنى، ويرمي عنه الجمرات. وإن كان الصبي مميزًا؛ نوى الإحرام بنفسه بإذن وليه، ويؤدي ما قد عليه من مناسك الحج، وما عجز عنه؛ يفعله عنه وليه؛ كرمي الجمرات، ويطاف به راكبا أو محمولاً إن عجز عن المشي. وكل ما أمكن الصغير مميزًا كان أو دونه فعله كالوقوف والمبيت؛ لزمه فعله؛ بمعنى أنه لا يصح أن يفعل عنه؛ لعدم الحاجة لذلك، ويجتنب في حجه ما يجتنب الكبير من المحظورات. والقادر على الحج هو الذي يتمكن من أدائه جسميا وماديّا؛ بأن يمكنه الركون، ويتحمل السفر، ويجد من المال بلغته التي تكفيه ذهابا وإيابا، ويجد أيضا ما يكفي أولاده ومن تلزمه نفقتهم إلى أن يعود إليهم، ولا بد أن يكون ذلك بعد قضاء الديون والحقوق التي عليه، وبشرط أن يكون طريقه إلى الحج آمنا على نفسه وماله. فإن قدر بماله دون جسمه، بأن كان كبيرًا هرما أو مريضا مرضا مزمنا لا يرجى برؤه؛ لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر حجة وعمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الإسلام من بلده أو من البلد الذي أيسر فيه؛ لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة؛ أفأحج عنه؟ قال: "حجي عنه"، متفق عليه. ويشترط في النائب عن غيره في الحج أن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: "حججت عن نفسك؟ "، قال: لا، قال: "حج عن نفسك"، إسناده جيد، وصححه البيهقي. ويعطى النائب من المال ما يكفيه تكاليف السفر ذهابا وإيابا، ولا تجوز الإجارة على الحج، ولا أن يتخذ ذريعة لكسب المال، وينبغي أن يكون مقصود النائب نفع أخيه المسلم، وأن يحج بيت الله الحرام ويزور تلك المشاعر العظام، فيكون حجة لله لا لأجل الدنيا، فإن حج لقصد المال؛ فحجه غير صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 باب في شروط وجوب الحج على المرأة واحكام النيابة الحج يجب على المسلم ذكرًا كان أم أنثى، لكن يشترط لوجوبه على المرأة زيادة عما سبق من الشروط وجود المحرم الذي يسافر معها لأدائه؛ لأنه لا يجوز لها السفر لحج ولا لغيره بدون محرم: لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم"، رواه أحمد بإسناد صحيح. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أخرج في جيش كذا، وامرأتي تريد الحج؟ فقال: "اخرج معها". وفي "الصحيحين": إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في عزوة كذا؟ قال:: "انطلق فحج مع امرأتك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وفي "الصحيح" وغيره: "لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم". فهذه جملة نصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرم على المرأة أن تسافر بدون محرم يسافر معها سواء كان السفر للحج أو لغيره، وذلك لأجل سد الذريعة عن الفساد والافتتان منها وبها. قال الإمام أحمد رحمه الله: "المحرم من السليل، فمن لم يكن لها محرم؛ لم يلزمها الحج بنفسها ولا بنائبها". ومحرم المرأة هو: زوجها، أو من يحرم عليه نحكاحها تحريما مؤبدًا بنسب؛ كأخيها وأبيها وعمها وابن أخيها وخالها، أو حرم عليه بسبب مباح؛ كأخ من رضاع أو مصاهرة كزوج أمها وابن زوجها؛ لما في "صحيح مسلم": "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تسافر غلا ومعها أوبها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها". ونفقة محرمها في السفر عليها، فيشترط لوجوب الحج عليها أن تملك ما ينفق عليها وعلى محرمها ذهابا وإيابا. ومن وجدت محرما، وفرّطت بالتأخير حتى فقدته مع قدرتها المالية؛ انتظرت حصوله، فإن أيست من حصوله؛ استنابت من يحج عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ومن وجب عليه الحج ثم مات قبل الحج؛ أخرج من تركته من رأس المال المقدار الذي يكفي للحج، واستنيب عنه من يؤديه عنه؛ لما روى البخاري عن ابن عباس؛ أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت؛ أفأحج عنها؟ قال: "نعم؛ حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ أقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء"؛ فدل الحديث على أن من مات وعليه حج؛ وجب على ولده أو وليه أن يحج عنه أو يجهز من يحج عنه من رأس مال الميت، كما يجب على وليه قضاء ديونه، وقد أجمعوا على أن دين الآدمي يقضي من رأس ماله؛ فكذا ما شبه به في القضاء، وفي حديث آخر: "إن أختي نذرت أن تحج"، وفي "سنن الدارقطني": "إن أبي مات وعليه حجة الإسلام"، وظاهره أنه لا فرق بين الواجب بأصل الشرع والواجب بإيجابه على نفسه، سواء أوصى به أم لا. والحج عن الغير يقع عن المحجوج عنه كأنه فعله بنفسه، ويكون الفاعل بمنزلة الوكيل، والنائب ينوي الإحرام عنه، ويلبي عنه، ويكفيه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ينوي النسك عنه، ولو لم يسمه في اللفظ، وإن جهل اسمه أو نسبه؛ لبى عمن سلم إليه المال ليحج عنه به. ويستحب للمسلم أن يحج عن أبويه إن كانا ميتين أو حيين عاجزين عن الحج، ويقدم أمه؛ لأنها أحق بالبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 باب في فضل الحج والاستعداد له الحج فيه فضل عظيم وثواب جزيل: روى الترمذي وصححه عن ابن مسعود مرفوعا: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة". وفي "الصحيح" عن عائشة ح قالت: نرى الجهاد أفضل العمل؛ أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور". والحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم وقد كملت أحكامه، فوقع على الوجه الأكمل، وقيل: هو المتقبل. فإذا استقر عزمه على الحج، فليتب من جميع المعاصي، ويخرج من المظالم بردها إلى أهلها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ويرد الودائع والعواري والديون التي عنده للناس، ويستحل من بينه وبينه ظلامة، ويكتب وصيته، ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه من الحقوق التي عليه، ويؤمن لأولاده ومن تحت يده ما يكفيهم من النفقة إلى حين رجوعه، ويحرص أن تكون نفقته حلالاً، ويأخذ من الزاد والنفقة ما يكفيه؛ ليستغني عن الحاجة إلى غيره ويكون زاده طيبا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم} ، ويجتهد في تحصيل رفيق صالح عونا له على سفره وأداء نسكه؛ يهديه إذا ضل، ويذكره إذا نسي. ويجب تصحيح النية بأن يريد بحجه وجه الله، ويستعمل الرفق وحسن الخلق، ويجتنب المخاصمة ومضايقة الناس في الطريق، ويصون لسانه عن الشتم والغيبة وجميع ما لا يرضاه الله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 باب في مواقيت الحج المواقيت: جمع ميقات، وهو لغة: الحد، وشرعا: هو موضع العبادة أو زمنها. وللحج مواقيت زمنية ومكانية: فالزمنية: ذكرها الله بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ} ، وهذه الأشهر هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة؛ أي: من أحرم بالحج في هذه الأشهر؛ فعليه أن يتجنب ما يخل بالحج من الأقوال والأفعال الذميمة، وأن يشتغل في أفعال الخير، ويلازم التقوى. وأما المواقيت المكانية: فهي الحدود التي لا يجوز للحاج أن يتعداها إلى مكة بدون إحرام. وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى ليهن من غير أهلن ممن أراد الحج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أو العمرة، ومن كان دون ذلك؛ فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة"، متفق عليه، ولمسلم من حديث جابر: "ومهل أهل العراق ذات عرق". والحكمة من ذلك: أنه لما كان بيت الله الحرام معظما مشرفا؛ جعل الله له حصنا وهو مكة، وحمى وهو الحرم، وللحرم حرم وهو المواقيت التي لا يجوز تجاوزها إليه إلا بإحرام؛ تعظيما لبيت الله الحرام. وأبعد هذه المواقيت: ذو الحليفة، ميقات أهل المدينة، فبينه وبين مكة مسيرة عشرة أيام. وميقات أهل الشام ومصر والمغرب: الجحفة، قرب رابغ، وبينها وبن مكة ثلاث مراحل، وبعضهم يقول أكثر من ذلك. وميقات أهل اليمن: يلملم، بينه وبين مكة مرحلتان، وميقات أهل نجد قرن المنازل، ويعرف الآن بالسيل، وهو مرحلتان عن مكة. وميقات أهل العراق وأهل المشرق: ذات عرق، بينه وبين مكة مرحلتان. فهذه المواقيت يحرم منها أهلها المذكورون، ويحرم منها من مر بها من غيرهم وهو يريد حجّاً أو عمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ومن كان منزله دون المواقيت؛ فإنه يحرم من منزله للحج والعمرة، ومن حج من أهل مكة؛ فإنه يحرم من مكة، فلا يحتاجون إلى الخروج للميقات للإحرام منه بالحج، وأما العمر؛ فيخرجون لإحرام بها من أدنى الحل. ومن لم يمر بميقات في طريقه من تلك المواقيت؛ أحرم إذا علم انه حاذى أقربها منه، يقول عمر رضي الله عنه: "انظروا إلى حذوها من طريقكم" رواه البخاري. وكذا من ركب طائرة؛ فإنه يحرم إذا حاذى أحد هذه المواقيت من الجو؛ فينبغي له أن يتهيأ بالاغتسال والتنظف قبل ركوب الطائرة؛ فإذا حاذى الميقات؛ نوى الإحرام، ولبى وهو في الجو، ولا يجوز له تأخير الإحرام إلى أن يهبط في مطار جدة، فيحرم من جدة أو من بحرة كما يفعل بعض الحجاج؛ فإن جدة ليس ميقاتا محلاً للإحرام؛ إلا لأهلها أو من نوى الحج أو العمرة منها، فمن أحرم منها من غيرهم؛ فقد ترك واجبا هو الإحرام من الميقات، فيكون عليه فدية. وهذا مما يخطىء فيه كثير من الناس، فيجب التنبيه عليه، فبعضهم يظن أنه لابد من الاغتسال للإحرام، فيقول: أنا لا أتمكن من الاغتسال في الطائرة، ولا أتمكن من كذا وكذا ... والواجب أن يعلم هؤلاء بأن الإحرام معناه نية الدخول في المناسك مع تجنب محظورات الإحرام حسب الإمكان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والاغتسال والتطيب ونحوهما إنما هي سنن، وبإمكان المسلم أن يفعلها قبل ركوب الطائرة، وإن أحرم بدونها؛ فلا بأس فينوي الإحرام، ويلبي وهو على مقعده في الطائرة إذا حاذى الميقات أو قبله بقليل، ويعرف ذلك بسؤال الملاحين والتحري والتقدير، فإذا فعل ذلك؛ فقد أدى ما يستطيع، لكن إذا تساهل ولم يبال؛ فقد أخطأ وترك الواجب من غير عذر؛ وهذا ينقص حجه وعمرته. ويجب على من تعدى الميقات بدون إحرام أن يرجع إليه ويحرم منه؛ لأنه واجب يمكنه تداركه؛ فلا يجوز تركه، فإن لم يرجع؛ فأحرم من دونهم جدة أو غيرها؛ فعليه فدية؛ بأن يذبح شاة، أو يأخذ سبع بدنة، أو سبع بقرة، ويوزع ذلك على مساكين الحرم، ولا يأكل منه شيئا. فيجب على المسلم أن يهتم بأمور دينه؛ بأن يؤدي كل عبادة على الوجه المشروع، ومن ذلك الإحرام للحج والعمرة، يجب أن يكون من المكان الذي عيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتقيد به المسلم، ولا يتعداه غير محرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 باب في كيفية الإحرام أول مناسك الحج هو الإحرام، وهو نية الدخول في النسك، سمى بذلك لأن المسلم يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحا له قبل الإحرام من النكاح والطيب وتقليم الأظافر وحلق الرأس وأشياء من اللباس. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: "لا يكون الرجل محرما بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته؛ فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرما" انتهى. وقبل الإحرام يستحب التهيؤ له بفعل أشياء يستقبل بها تلك العبادة العظيمة، وهى: أولاً: الاغتسال بجميع بدنه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه، ولأن ذلك أعم وأبلغ في التنظيف وإزالة الرائحة، والاغتسال عند الإحرام مطلوب، حتى من الحائض والنفساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل، رواه مسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وأمر صلى الله عليه وسلم عائشة أن تغتسل للإحرام وهي حائض، والحكمة في هذا الاغتسال هي التنظيف وقطع الرائحة الكريهة وتخفيف الحدث من الحائض والنفساء. ثانيا: يستحب لمن يريد الإحرام التنظيف؛ بأخذ ما يشرع أخذه من الشعر؛ كشعر الشارب والإبط والعانة؛ مما يحتاج إلى أخذه؛ لئلا يحتاج إلى أخذه في إحرامه فلا يتمكن منه، فإن لم يحتج إلى أخذ شيء من ذلك؛ لم يأخذه؛ لأنه إنما يفعل عند الحاجة، وليس هو من خصائص الإحرام، لكنه مشروع بحسب الحاجة. ثالثا: يستحب لمن الإحرام أن يتطيب في بدنه بما تيسر من أنواع الطيب؛ كالمسك، والبخور، وماء الورد، والعود؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطرف بالبيت". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه؛ فهو حسن، ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يأمر به الناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 رابعا: يستحب للذكر قبل الإحرام أن يتجرد من المخيط، وهو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه أو على بعضه كالقميص والسراويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تجرّد لإهلاله، ويستبدل الملابس المخيطة بإزار ورداء أبيضين نظيفين، ويجوز بغير الأبيضين مما جرت عادة الرجال بلبسه. والحكمة في ذلك أنه يبتعد عن الترفه، ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر بذلك أنه محرم في وقت، فيتجنب محظورات الإحرام، وليتذكر الموت، ولباس الأكفان، ويتذكر البعث والنشور ... إلى غير ذلك من الحكم. والتجرد عن المخيط قبل نية الإحرام سنة، أما بعد نية الإحرام؛ فهو واجب. ولو نوى الإحرام وعليه ثيابه المخيطة؛ صح إحرامه ووجب عليه نزع المخيط. فإذا أتم هذه الأعمال؛ فقد تهيأ للإحرام، وليس فعل هذه الأمور إحراما كما يظن كثير من العوام؛ لأن الإحرام هو نية الدخول والشروع في النسك؛ فلا يصير محرما بمجرد التجرد من المخيط ولبس ملابس الإحرام من غير نية الدخول في النسك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 أما الصلاة قبل الإحرام؛ فالأصح أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن صادف وقت فريضة؛ أحرم بعدها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة، وعن أنس أنه صلى الظهر ثم ركب راحلته. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر". وهنا تنبيه لا بد منه: وهو أن كثيرًا من الحجاج يظنون أنه لا بد أن يكون الإحرام من المسجد المبني في الميقات، فتجدهم يهرعون إليه رجالاً ونساءً، ويزدحمون فيه، وربما يخلعون ثيابهم ويلبسون ثياب الإحرام فيه، وهذا لا أصل له، والمطلوب من المسلم أن يحرم من الميقات، في أي بقعة منه، لا في محل معين، بل يحرم حيث تيسر له، وما هو أرفق به وبمن معه، وفيما هو أستر له وأبعد عن مزاحمة الناس، وهذه المساجد التي في المواقيت لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تبن لأجل الإحرام منها، وإنما بنيت لإقامة الصلاة فيها ممن هو ساكن حولها، هذا ما أردنا التنبيه عليه، والله الموفق. ويخبر أن يحرم بما شاء من الأنساك الثلاثة، وهي: التمتع، والقرآن، والإفراد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ف "التمتع": أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه. و"الإفراد": أن يحرم بالحج فقط من الميقات، ويبقى على إحرامه حتى يؤدي أعمال الحج. و"القرآن": أن يحرم بالعمرة والحج معا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل شروعه في طوافها، فينوي العمرة والحج من الميقات أو قبل الشروع في طواف العمرة، ويطوف لهما ويسعى. وعلى المتمتع والقارن فدية إن لم يكن من حاضري المسجد الحرام. وأفضل هذه الأنساك الثلاثة التمتع؛ لأدلة كثيرة. فإذا أحرم هذه الأنساك، لبى عقب إحرامه، فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، يكثر من التلبية، ويرفع بها صوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 باب في محظورات الإحرام محظورات الإحرام هي المحرمات التي يجب على المحرم تجنبها بسبب الإحرام. وهذه المحظورات تسعة أشياء: المحظور الأول: حلق الشعر: فيحرم على المحرم إزالته من جميع بدنه بلا عذر بحلق أو نتف أو قلع؛ لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه} ؛ فنص تعالى على حلق الرأس، ومثله شعر البدن وفاقا؛ لأنه في معناه، ولحصول الترفه بإزالته؛ فإن حلق الشعر يؤذن بالرفاهية، وهي تنافي الإحرام؛ لأن المحرم يكون أشعث أغبر، فإن خرج بعينه شعر؛ أزاله ولا فدية عليه؛ لأنه شعر في غير محله، ولأنه أزال مؤذيا. المحظور الثاني: تقليم الأظافر أو قصها من يد أو رجل بلا عذر: فإن انكسر ظفره فأوالها أو زال مع جلد؛ فلا فدية علية؛ لأنه زال بالتبعية لغيره، والتابع لا يفرد بحكم. بخلاف ما إذا حلق شعره لقمل أو صدع؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ولحديث كعب ابن عجرة؛ قال: بي أذى من رأسي، فحملت إلى صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فقال: "ما كنت أرى الجهد يبلغ بك ما أرى، تجد شاة؟ "، قلت: لا، فنزلت: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، قال: "هو صوم ثلاثة أيام أو طعام ستة مساكين أو ذبح شاة"، متفق عليه، وذلك الأذى حصل من غير الشعر، وهو القمل. ويباح للمحرم غسل شعره بسدر ونحوه؛ ففي "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وسلم أنه غسل رأسه وهو محرم، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: "له أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق [يعني: إذا احتلم وهو محرم] ، وكذا لغير الجنابة". المحظور الثالث: تغطية رأس الذكر؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم والبرانس. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "كل متصل ملامس يراد لستر الرأس كالعمامة والقبعة والطاقية وغيرها ممنوع بالاتفاق" انتهى. وسواء كان الغطاء معتادًا كعمامة أم لا كقرطاس وطين وحناء أو عصابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وله أن يستظل بخيمة أو شجرة أو بيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له خيمه فنزل بها وهو محرم، وكذا يجوز للمحرم الاستظلال بالشمسية عند الحاجة، ويجوز له ركوب السيارة المسقوفة، ويجوز له أن يحمل على رأسه متاعا لا يقصد به التغطية. المحظور الرابع: لبس الذكر المخيط على بدنه أو بعضه من قميص أو عمامة أو سراويل، وما عمل قدر العضو؛ كالخفين والقفازين والجوارب؛ لما في "الصحيحين"، أنه صلى الله عليه وسلم سئل: ما يلبس المحرم؟ قال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البرانس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يلبس القميص والبرانس والسراويل والخف والعمامة، ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت، وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه، فما كان من هذا الجنس؛ فهو ذريعة في معنى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان في معنى القميص؛ فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص بكم ولا بغير كم، وسواء أدخل يديه أو لم يدخلها، وسواء كان سليما أو مخروقا، وكذلك لا يلبس الجبة ولا العباء الذي يدخل فيه يديه ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 إلى أن قال: "وهذا معنى قول الفقهاء: لا يلبس المخيط، والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، ولا يلبس ما كان في معنى السروايل؛ كالتبان ونحوه" انتهى. وإذا لم يجد المحرم نعلين؛ لبس خفين، أو لم يجد إزارًا؛ لبس السراويل، إلى أن يجده، فإذا وجد إزارًا؛ نزع السراويل، ولبس الإزار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في عرفات لبس السراويل لمن لم يجد إزارًا. وأما المرأة؛ فتلبس من الثياب ما شاءت حال الإحرام؛ لحاجتها إلى الستر إلا أنها لا تلبس البرقع، وهو لباس تغطي به المرأة وجهها فيه نقبان على العينين؛ فلا تلبسه المحرمة وتغطي وجهها بغيره من الخمار والجلباب، ولا تلبس القفازين على كفيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين"، رواه البخاري وغيره. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "نهيه أن تنتقب المرأة وتلبس القفازين دليل على أن وجهها كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع، لا على عدم ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 والقفازان شيء يعمل لليدين يدخلان فيه يسترهما من البرد. وتغطي وجهها عن الرجال وجوبا بغير البرقع؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا؛ سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا؛ كشفناه"، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. ولا يضر مس المسدول بشرة وجهها؛ لأنها إنما منعت من البرقع والنقاب فقط، لا من ستر الوجه بغيرهما. قال شيخ الإسلام: "لا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيدها ولا بغير ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه، وأزواجه صلى الله عليه وسلم يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة". وقال: "يجوز لها تغطية وجهها بملاصق؛ خلا النقاب والبرقع" انتهى. الخامس من محظورات الإحرام: الطيب، فيحرم على المحرم تناول الطيب واستعماله في بدنه أو ثوبه، أو استعماله في أكل أو شرب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر يعلى بن أمية يغسل الطيب ونزع الجبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وقال في المحرم الذي وقصته راحلته: "ولا تحنطوه"، متفق عليهما، ولمسلم: "ولا تمسوه بطيب". والحكمة في منع المحرم من الطيب: أن يبتعد عن الترفه وزينه الدنيا وملاذها، ويتجه إلى الآخرة. ولا يجوز للمحرم قصد شم الطيب ولا الادّهان بالمواد المطيبة. السادس من محظروات الإحرام: قتل صيد البر واصطياده؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُم} ، أي: محرمون بالحج أو العمرة، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، أي يحرم عليكم الاصطياد من صيد البر ما دمتم محرمين؛ فالمحرم لا يصطاد صيدًا بريا، ولا يعين على صيد، ولا يذبحه. ويحرم على المحرم الأكل مما صاده أو صيد لأجله أو أعان على صيده؛ لأنه كالميتة. ولا يحرم صيد البحر؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} . ولا يحرم عليه ذبح الحيوان الإنسي كالدجاج وبهيمة الأنعام؛ لأنه ليس بصيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ولا يحرم عليه قتل محرم الأكل؛ كالأسد والنمر مما فيه أذي للناس، ولا يحرم عليه قتل الصائل دفعا عن نفسه أو ماله. وإذا احتاج المحرم إلى فعل محظور من محظورات الإحرام؛ فعله، وفدى؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . السابع من محظورات الإحرام: عقد النكاح، فلا يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره بالولاية أو الوكالة؛ لما روى مسلم عن عثمان: "لا ينكح المحرم ولا ينكح". الثامن من محظورات الإحرام: الوطء؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} ، قال ابن عباس: "هو الجماع". فمن جامع قبل التحلل الأول؛ فسد نسكه، ويلزم المضي فيه وإكمال مناسكه؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ويلزمه أيضا أن يقضيه ثاني عام، وعليه ذبح بدنة، وإن كان الوطء بعد التحلل الأول؛ لم يفسد نسكه، وعليه ذبح شاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 التاسع من محظورات الإحرام: المباشرة دون الفرج، فلا يجوز للمحرم مباشرة المرأة؛ لأنه وسيلة إلى الوطء المحرم، والمراد بالمباشرة ملامسة المرأة بشهوة. فعلى المحرم أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال، قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ} . والمراد بالرفث: الجماع، ويطلق أيضا على دواعي الجماع من المباشرة والتقبيل والغمز والكلام الذي فيه ذكر الجماع. والفسوق هو: المعاصي؛ لأن المعاصي في حال الإحرام أشد وأقبح؛ لأنه في حالة تضرع. والجدال هو المماراة فيما لا يعني والخصام مع الرفقة والمنازعة والسباب، أما الجدال لبيان الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهو مأمور به، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . ويسن للمحرم قلة الكلام إلا فيما ينفع، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرًا أو ليصمت"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وعنه مرفوعا: "من حسن إسلام المرأة تركه ما لا يعنيه". ويستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية، وذكر الله، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحفظ وقته عما يفسده، وأن يخلص النية لله، ويرغب فيما عند الله؛ في حالة إحرام واستقبال عبادة عظيمة، وقادم على مشاعر مقدسة ومواقف مباركة. فإذا وصل إلى مكة، فإن كان محرما بالتمتع؛ فإنه يؤدي مناسك العمرة: فيطوف بالبيت سبعة أشواط. ويصلي بعدها ركعتين، والأفضل أداؤها عند مقام إبراهيم إن أمكن، وإلا؛ أداهما في أي مكان من المسجد. ثم يخرج إلى الصفا لأداء السعي بينه وبين المروة، فيسعى بينهما سبعة أشواط، يبدؤها بالصفا ويختمها بالمروة، ذهابه سعية ورجوعه سعية. ويشتغل أثناء الأشواط في الطواف والسعي بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه. فإذا فرغ من الشوط السابع؛ قصر الرجل شعر رأسه، وتقص الأنثى من رؤوس شعر رأسها قدر أنملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وبذلك تتم مناسك العمرة، فيحل من إحرامه، ويباح له ما كان محرما عليه بالإحرام من النساء والطيب ولبس المخيط وتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الآباط إذا احتاج إلى ذلك، ويبقى حلالاً إلى يوم التروية ثم يحرم بالحج على ما يأتي تفصيله إن شاء الله. وأما الذي يقدم مكة قارنا أو مفردًا؛ فإنه يطوف طواف القدوم، وإن شاء قدم بعده سعي الحج، ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر؛ كما يأتي تفصيله إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 باب في أعمال يوم التروية ويوم عرفة إن الإنسان التي يحرم بها القادم عندما يصل إلى الميقات ثلاثة: الإفراد: وهو أن ينوي الإحرام بالحج فقط، ويبقى على إحرامه إلى أن يرمي الجمرة يوم العيد، ويحلق رأسه، ويطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم. والقران: وهو أن ينوي الإحرام بالعمرة والحج معا من الميقات، وهذا عمله كعمل المفرد؛ إلا أنه يجب عليه هدي التمتع. والتمتع: وهو أن يحرم بالعمرة من الميقات، ويتحلل منها إذا وصل إلى مكة بأداء أعمالها من طواف وسعي وحلق أو تقصير، ثم يتحلل من إحرامه، ويبقى حلالاً إلى أن يحرم بالحج. وأفضل الأنساك هو التمتع؛ فيستحب لمن أحرم مفردًا أو قارنا ولم يسق الهدي أن يحول نسكه إلى التمتع، ويعمل عمل المتمتع. ويستحب لمتمتع أو مفرد أو قارن تحول إلى متمتع وحل عمرته ولغيره من المحلين بمكة أو قربها: الإحرام بالحج يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة؛ لقول جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: "فحل الناس كلهم وقصروا؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فلما كان يوم التروية؛ توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج". ويحرم بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه، سواء كان في مكة، أو خارجها، أو في منى، ولا يذهب بعد إحرامه فيطوف بالبيت. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإذا كان يوم التروية أحرم، فيفعل كما فعل عند الميقات؛ إن شاء أحرم من مكة، وإن شاء من خارج مكة، هذا هو الصواب، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرموا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم من البطحاء، والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك المكي يحرم من أهله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان منزله دون مكة؛ فمهله من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة" انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله: "فلما كان يوم الخميس ضحى؛ توجه [يعني: النبي صلى الله عليه وسلم] بمن معه من المسلمين إلى منى، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وبعد الإحرام يشتغل بالتلبية، فيلبي عند عقد الإحرام، ويلبي بعد ذلك في فترات، ويرفع صوته بالتلبية، إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد. ثم يخرج إلى منى من كان بمكة محرما يوم التروية، والأفضل أن يكون خروجه قبل الزوال، فيصلي بها الظهر وبقية الأوقات إلى الفجر، ويبيت ليلة التاسع؛ لقول جابر رضي الله عنه: "وركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس"، وليس ذلك واجبا بل سنة، وكذلك الإحرام يوم التروية ليس واجبا، فلو أحرم بالحج قبله أو بعده؛ جاز ذلك. وهذا المبيت بمنى ليلة التاسع، وأداء الصلوات الخمس فيها: سنة، وليس بواجب. ثم يسيرون صباح اليوم التاسع بعد طلوع الشمس من منى إلى عرفة، وعرفة كلها موقف؛ إلا بطن عرنة؛ ففي أي مكان حصل الحاج من ساحات عرفة؛ أجزأه الوقوف فيه، ما عدا ما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بطن عرنه؛ وقد بينت حدود عرفة بعلامات وكتابات توضح عرفة من غيرها، فمن كان داخل الحدود الموضحة؛ فهو في عرفة، ومن كان خارجها؛ فيخشى أنه ليس في عرفة؛ فعلى الحاج أن يتأكد من ذلك، وأن يتعرف على تلك الحدود؛ ليتأكد من حصوله في عرفة. فإذا زالت الشمس؛ صلوا الظهر والعصر قصرًا وجمعا بأذان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وإقامتين، وكذلك يقصر الصلاة الرباعية في عرفة ومزدلفة ومنى، لكن في عرفة ومنى ومزدلفة يجمع ويقصر، وفي منى يقصر ولا يجمع، بل يصلي كل صلاة في وقتها؛ لعدم الحاجة إلى الجمع. ثم بعدما يصلي الحجاج الظهر والعصر قصرًا وجمع تقديم في أول وقت الظهر؛ يتفرغون للدعاء والتضرع والابتهال إلى الله تعالى، وهم في منازلهم من عرفة، ولايلزمهم أن يذهبوا إلى جبل الرحمة، ولا يلزمهم أن يروه أو يشاهدون، ولا يستقبلونه حال الدعاء، وإنما يستقبلون الكعبة المشرفة. وينبغي أن يجتهد في الدعاء والتضرع والتوبة في هذا الموقف العظيم، ويستمر في ذلك، وسواء دعا راكبا أو ماشيا أو واقفا أو جالسا أو مضجعا، على أي حال كان، ويختار الأدعية الواردة والجوامع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا النبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". ويستمر في البقاء بعرفة والدعاء إلى غروب الشمس، ولا يجوز له أن ينصرف منها قبل غروب الشمس، فإن انصرف منها قبل الغروب؛ وجب عليه الرجوع؛ ليبقى فيها إلى الغروب، فإن لم يرجع؛ وجب عليه دم؛ لتركه الواجب، والدم ذبح شاة، يوزعها على المساكين في الحرم، أو سبع بقرة، أو سبع بدنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ووقت الوقوف يبدأ بزوال الشمس يوم عرفة على الصحيح، ويستمر إلى طلوع الفجر ليلة العاشر، فمن وقف نهارًا؛ وجب عليه البقاء إلى الغروب، ومن وقف ليلاً؛ أجزأه، ولو لحظة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج". وحكم الوقوف بعرفة أنه ركن من أركان الحج، بل هو أعظم أركان الحج لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، ومكان الوقوف هو عرفة بكامل مساحتها المحددة، فمن وقف خارجها؛ لم يصح وقوفه. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه من الأعمال والأقوال؛ إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 باب في الدفع إلى مزدلفة والمبيت فيها والدفع من مزدلفة إلى منى وأعمال يوم العيد بعد غروب الشمس يدفع الحجاج من عرفة إلى مزدلفة بسكينة ووقار؛ لقول جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق للقصواء " يعني: ناقته" الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة السكينة". فهكذا ينبغي للمسلمين السكينة والرفق عند الانصراف من عرفة، وأن لا يضايقوا إخوانهم الحجاج في سيرهم، ويرهقوهم بمزاحمتهم، ويخيفوهم بسياراتهم، وأن يرحموا الضعفة وكبار السن والمشاة. ويكون الحاج حال دفعه من عرفة إلى مزدلفة مستغفرًا؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وسميت مزدلفة بذلك من الازدلاف، وهو القرب لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات؛ ازدلفوا إليها؛ أي: تقربوا ومضوا إليها، وتسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 أيضا جمعا؛ لاجتماع الناس بها، وتسمى بالمشعر الحرام. قال في "المغنى": "وللمزدلفة ثلاثة أسماء: مزدلفة، وجمع، والمشعر الحرام". ويذكر الله في مسيره إلى مزدلفة؛ لأنه في زمن السعي إلى مشاعر والتنقل بينها. فإذا وصل إلى مزدلفة؛ صلى بها المغرب والعشاء جمعا مع قصر العشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين، لكل صلاة إقامة، وذلك قبل حط رحله؛ لقول جابر رضي الله عنه يصف فعل النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين". ثم يبيت بمزدلفة حتى يصبح ويصلي؛ لقول جابر: "ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة". ومزدلفة كلها يقال لها: المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر، وقال صلى الله عليه وسلم: "ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فيصلي بها الفجر في أول الوقت، ثم يقف بها ويدعوا إلى أن يسفر، ثم يدفع إلى منى قبل طلوع الشمس. فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم؛ فإنه يجوز له أن يتعجل في الدفع من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر، وكذلك يجوز لمن يلي أمر الضعفة من الأقوياء أن ينصرف معهم بعد منتصف الليل، أما الأقوياء الذين ليس معهم ضعفة؛ فإنه ينبغي لهم أن لا يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلوا بها الفجر، ويقفوا بها إلى أن يسفروا. فالمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، لا يجوز تركه لمن أتى إليها قبل منتصف الليل، أما من وصل إليها بعد منتصف الليل؛ فإنه يجزئه البقاء فيها ولو قليلاً، وإن كان الأفضل له أن يبقى فيها إلى طلوع الفجر، ويصلي فيها الفجر، ويدعوا بعد ذلك. قال في "المغني": "ومن لم يواف مزدلفة إلا في النصف الأخير من الليل؛ فلا شيء عليه؛ لأنه لم يدرك جزءًا من النصف الأول، فلم يتعلق به حكمه". ويجوز لأهل الأعذار ترك المبيت بمزدلفة؛ كالمريض الذي يحتاج إلى تمريضه في المستشفى، ومن يحتاج إليه المريض لخدمته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وكالسقاة والرعاة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في ترك المبيت. فالحاصل أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج لمن وافاها قبل منتصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم"، وإنما أبيح الدفع بعد منتصف الليل؛ لما ورد فيه من الرخصة. ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى؛ لقول عمر: "كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير [وثبير اسم جبل يطل على مزدلفة يخاطبونه؛ أي: لتطلع عليك الشمس حتى ننصرف] ، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس". ويدفع وعليه السكينة، فإذا بلغ وادي محسر، وهو واد بين مزدلفة ومنى يفصل بينهما، وهو ليس منهما، فإذا بلغ هذا الوادي؛ أسرع قدر رمية حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ويأخذ حصى الجمار من طريقة قبل أن يصل منى، هذا هو الأفضل، أو يأخذه من مزدلفة، أو من منى، ومن حيث أخذ الحصى؛ جاز؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: "القط لي الحصا". فلقطت له سبع حصيات، هي حصا الخذف1، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا"، ثم قال: "يا أيها الناس! إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان من قبلكم الغلو في الدين"، فتكون الحصاة من حصى الجمار بحجم حبة الباقلاء، أكبر من الحمص قليلاً. ولا يجزىء الرمي بغير الحصى، ولا بالحصى الكبار التي تسمى حجرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى الصغار، وقال: "خذوا عني مناسككم". فإذا وصل إلى منى وهي ما بين وادي محسر إلى جمرة العقبة؛ ذهب إلى جمرة العقية، وهي آخر الجمرات مما يلي مكة، وتسمى الجمرة الكبرى، فيرميها بسبع حصيات، واحدة بعد طلوع الشمس، ويمتد زمن الرمي إلى الغروب. ولا بد أن تقع كل حصاة في حوض الجمرة، سواء استقرت فيه أو سقطت بعد ذلك، فيجب على الحاج أن يصوب الحصا إلى حوض الجمرة، لا إلى العمود الشاخص، فإن هذا العمود ما بنى لأجل أن يرمى،   1 هو ما يحذف على رؤوس الأصابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وليس هو موضع الرمي، وإنما بنى ليكون علامة على الجمرة، ومحل الرمي هو الحوض، فلو ضربت الحصاة في العمود، وطارت، ولم ترم على الحوض؛ لم تجزئه. والضعفة ومن في حكمهم يرمونها بعد منتصف الليل، وإن رمى غير الضعفة بعد منتصف الليل؛ أجزأهم ذلك، وهو خلاف الأفضل في حقهم. ويسن أن لا يبدأ بشيء حين وصوله إلى منى قبل رمى جمرة العقبة؛ لأنه تحية منى، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة، ويقول: "اللهم اجعله حجا مبرورًا وذنبا مغفورًا"، ولا يرمي في يوم النحر غير جمرة العقبة، وهذا مما اختصت به عن بقية الجمرات. ثم بعد رمي جمرة العقبة الأفضل أن ينحر هديه إن كان يجب عليه هدي تمتع أو قران، فيشتريه، ويذبحه، ويوزع لحمه، ويأخذ منه قسما ليأكل منه. ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، ولحديث ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع"، متفق عليه، ودعا صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فإن قصر؛ وجب أن يعم جميع رأسه، ولا يجزئ الاقتصار على بعضه أو جانب منه فقط؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، فأضاف الحلق والتقصير إلى جميع الرأس. والمرأة يتعين في حقها التقصير، بأن تقص من كل ضفيرة قدر أنملة؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: "ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير"، رواه أبو داود والطبراني والدارقطني، ولأن الحلق في حق النساء مثله، وإن كان رأس المرأة غير مضفور؛ جمعته، وقصت من أطرافه قدر أنملة. ويسن لمن حلق أو قصر اخذ أظفاره وشاربه وعانته وإبطه، ولا يجوز له أن يحلق لحيته أو يقص شيئا منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتوفير اللحية، ونهى عن حلقها وعن أخذ شيء منها، والمسلم يمتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجتنب ما نهى عنه، والحاج أولى بذلك؛ لأنه في عبادة. ومن كان رأسه ليس فيه شعر كالحليق أو الذي لم ينبت له شعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 أصلاً وهو الأصلع؛ فإنه يمر الموسى على رأسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم". ثم بعد رمي جمرة العقبة وحلق رأسه أو تقصيره يكون قد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من الطيب واللباس وغير ذلك؛ إلا النساء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "إذا رميتم وحلقتم؛ فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء؛ إلا النساء"، رواه سعيد، وعنها: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك"، متفق عليه. وهذا هو التحلل الأول ويحصل باثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة، وحلق أو تقصير، وطواف الإفاضة مع السعي بعده لمن عليه السعي. ويحصل التحلل الثاني وهو التحلل الكامل بفعل هذه الثلاثة كلها، فإذا فعلها؛ حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، حتى النساء. ثم بعد رمي جمرة العقبة ونحر هدية وحلقه أو تقصيره يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الإفاضة، ويسعى بعده بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو قارنا أو مفردًا ولم يكن سعى بعد طواف القدوم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 أما إن كان القارن أو المفرد سعى بعد طواف القدوم فإنه يكفيه ذلك السعي المقدم، فيقتصر على طواف الإفاضة. وترتيب هذه الأمور الأربعة على هذا النمط: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير ثم الطواف والسعي. هذا الترتيب سنة، ولو خالفه، فقدم بعض هذه الأمور على بعض؛ فلا حرج عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما سئل في هذا اليوم عن شيء قدم ولا أخر؛ إلا قال: "افعل ولا حرج"، لكن ترتيبها أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كذلك. وصفة الطواف بالبيت أنه يبتدىء من الحجر الأسود، فيحاذيهن ويستلمه بيده؛ بأن يمسحه بيده اليمنى ويقبله إن أمكن، إن لم يمكنه الوصول إلى الحجر لشدة الزحمة؛ فإنه يكتفي بالإشارة إليه بيده، ولا يزاحم لاستلام الحجر أو تقبيله، ويجعل البيت على يساره، ثم يبدأ الشوط الأول، ويشتغل بالذكر والدعاء أو تلاوة القرآن، فإذا وصل إلى الركن اليماني؛ استلمه إن أمكن، ولا يقبله، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فإذا وصل إلى الحجر الأسود؛ فقد تم الشوط الأول، فيستلم الحجر، أو يشير إليه، ويبدأ الشوط الثاني ... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط. ويشترط لصحة الطواف ثلاثة عشر شرطا هي: الإسلام، والعقل، والنية، وستر العورة، والطهارة، وتكميل السبعة، وجعل البيت عن يساره، والطواف بجميع البيت؛ بأن لا يدخل مع الحجر أو يطوف على جداره، وأن يطوف ماشيا مع القدرة، والموالاة بن الأشواط؛ إلا إذا أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة؛ فإنه يصلي، ثم يبني على ما مضى من طوافه بعد أن يستأنف الشوط الذي صلى في أثنائه، وأن يطوف داخل المسجد، وأن يبتدئ من الحجر الأسود ويختم به. ثم بعد تمام الطواف يصلي ركعتين، والأفضل كونهما خلف مقام إبراهيم، ويجوز أن يصليهما في أي مكان في المسجد أو في غيره من الحرم، وهما سنة مؤكدة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . ثم يخرج إلى الصفا ليسعى بينه وبين المروة، فيرقى على الصفا، ويكبر ثلاثا، ويقول: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ثم ينزل من الصفا متجها إلى المروة، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الأول، ويسعى بين الميلين الأخضرين سعيا شديدًا، وفي خارج الميلين يمشي مشيا معتادًا، حتى يصل المروة، فيرقى عليها، ويقول ما قاله على الصفا، ويكون بذلك قد أنهى الشوط الأول، فينزل من المروة متجها إلى الصفا، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الثاني؛ يمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه ... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط؛ يبدؤها من الصفا، ويختمها بالمروة، ذهابه من الصفا إلى المروة سعية، ورجوعه من المروة إلى الصفا سعيه. ويستحب أن يشتغل أثناء السعي بالدعاء والذكر أو تلاوة القرآن. وليس للطواف والسعي دعاء مخصوص، بل يدعو بما تيسر له من الأدعية. وشروط صحة السعي: النية، واستكمال ما بين الصفا والمروة، وتقدم الطواف عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 باب في أحكام الحج التي تفعل في أيام التشريق وطواف الوداع وبعد طواف الإفاضة يوم العيد يرجع إلى منى، فيبيت بها وجوبا؛ لحديث ابن عباس؛ قال: "لم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة؛ إلا للعباس لأجل سقايته"، رواه ابن ماجه. فيبيت بمنى ثلاث ليال إن لم يتعجل، وإن تعجل؛ بات ليلتين: ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر. ويصلي الصلوات فيها قصرًا بلا جمع، بل كل صلاة في وقتها. ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال؛ لحديث جابر رضي الله عنه: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد؛ فإذا زالت الشمس"، رواه الجماعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وقال ابن عمر: "كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا"، رواه البخاري وأبو داود، وقوله: "نتحين" أي: نراقب الوقت المطلوب، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني مناسككم". فالرمي في اليوم الحادي عشر وما بعده يبدأ وقته بعد الزوال، وقبله لا يجزئ؛ لهذه الأحاديث؛ حيث وقته النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بفعله، وقال: "خذوا عني مناسككم"؛ فكما لا تجوز الصلاة قبل وقتها؛ فإن الرمي لا يجوز قبل وقته، ولأن العبادات توقيفيه. قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله وهو يصف رمي النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت به السنة المطهرة؛ قال: "ثم رجع صلى الله عليه وسلم بعد الإفاضة إلى منى من يومه ذلك فبات بها، فلما أصبح؛ انتظر زوال الشمس، فلما زالت؛ مشى من رحله إلى الجمار، ولم يركب، فبدا بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الحيف، فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة، ويقول مع كل حصاة: الله أكبر، ثم يتقدم على الجمرة أمامها، حتى أسهل، فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه، ودعا دعاءً طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى، فرماها كذلكن ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه، فاستبطن الوادي، واستعرض الجمرة، فجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك ... ". إلى أن قال: "فلما أكمل الرمي؛ رجع من فوره، ولم يقف عندها [يعني: جمرة العقبة] ، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة؛ فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة؛ إذ كان يدعو في صليها" انتهى. ولا بد من ترتيب الجمرات على النحو التالي ك يبدأ بالجمرة الأولى، وهي التي تلي منى قرب مسجد الخيف، ثم الجمرة الوسطى، وهي التي تلي الأولى، ثم الجمرة الكبرى، وتسمى جمرة العقبة، وهي الخيرة مما يلي الكعبة، يرمي كل جمرة بسبع حصيات متوالية، يرفع مع كل حصوة يده، ويكبر، ولا بد أن تقع كل حصاة في الحوض، سواء استقرت فيه أو سقطت منه بعد ذلك فإن لم تقع في الحوض لم تجز. ويجوز للمريض وكبير السن والمرأة الحامل أو التي يخاف عليها من شدة الزحمة في الطريق أو عند الرمي، يجوز لهؤلاء أن يوكلوا من يرمي عنهم. ويرمي النائب كل جمرة عن مستنيبه في مكان واحد، ولا يلزمه أن يستكمل رمي الجمرات على نفسه، ثم يبدأ برميها عن مستنيبه؛ لما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ذلك من المشقة والحرج في أيام الزحام، والله أعلم، وإن كان النائب يؤدي فرض حجه؛ فلا بد أن يرمي عن نفسه كل جمرة أولاً، ثم يرميها عن موكله. ثم بعد رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر؛ إن شاء تعجل وخرج من منى قبل غروب الشمس، وإن شاء تأخر وبات ورمى الجمرات الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث عشر، وهو أفضل؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} . وغن غربت عليه الشمس قبل أن يرتحل من منى؛ لزمه التأخر والمبيت والرمي في اليوم الثالث عشر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} واليوم اسم للنهار، فمن أدركه الليل؛ فما تعجل في يومين. والمرأة إذا حاضت أو نفست قبل الإحرام ثم أحرمت، أو أحرمت وهي طاهرة ثم أصابها الحيض أو النفاس وهي محرمة؛ فإنها تبقى في إحرامها، وتعمل ما يعمله الحاج من الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار والمبيت بمنى؛ إلا أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر من حيضها أو نفاسها. لكن لو قدر أنها طافت وهي طاهرة، ثم نزل عليها الحيض بعد الطواف؛ فإنها تسعى بين الصفا والمروة، ولا يمنعها الحيض من ذلك؛ لأن السعي لا يشترط الطهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فإذا أراد الحاج السفر من مكة والرجوع إلى بلده أو غيره؛ لم يخرج حتى يطوف للوداع بالبيت سبعة أشواط إذا فرغ من كل أموره ولم يبق إلا الركوب للسفر؛ ليكون آخر عهده بالبيت؛ إلا المرأة الحائض؛ فإنها لا وداع عليها، فتسافر بدون وداع؛ كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض"، متفق عليه، وفي رواية عنه؛ قال: كان الناس ينصرفون من كل وجه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وعن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت للإفاضة"، رواه أحمد. وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحابستنا هي؟ " قلت: يا رسول الله! إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: "فلتنفر إذًا" متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 باب في أحكام الهدي والأضحية الهدي ك ما يهدى للحرم ويذبح فيه من نعم وغيرها، سمي بذلك لأنه يهدي إلى الله سبحانه تعالى. والأضحية بضم الهمزة وكسرها: ما يذبح في البيوت يوم العيد وأيام التشريق تقربا إلى الله. وأجمع المسلمون على مشروعيتهما. قال العلامة ابن القيم: "القربان للخالق يقوم مقام الفدية للنفس والمستحقة للتلف، وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} ، فلم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل" انتهى. وأفضل الهدي الإبل، ثم البقر، إن أخرج كاملاً؛ لكثرة الثمن، ونفع الفقراء، ثم الغنم. وأفضل كل جنس أسمنه ثم أغلاه ثمنا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب} . ولا يجزئ إلا جذع الضأن، وهو ما تم له ستة أشهر، والثني مما سواه من إبل وبقر ومعز، والثني من الإبل ما تم له خمس سنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ومن البقر ما تم له سنتان ومن المعز ما تم له سنة. وتجزئ الشاة في الهدي عن واحد، وفي الأضحية تجزئ عن الواحد وأهل بيته، وتجزئ البدنة والبقرة في الهدي والأضحية عن سعة؛ لقول جابر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في واحد منهما"، رواه مسلم. وقال أبو أيوب رضي الله عنه: "كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون"، رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه، والشاة أفضل من سبع البدنة والبقرة. ولا يجزئ في الهدي والأضحية إلا السليم من المرض ونقص الأعضاء ومن الهزال؛ فلا تجزئ العوراء بينة العور، ولا العمياء، ولا العجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، ولا العرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحيحة، ولا الهتماء التي ذهبت ثناها من أصلها، ولا الجداء التي نشف ضرعها من اللبن بسبب كبر سنها، ولا تجزئ المريضة البين مرضها؛ لحديث البراء بن عازب؛ قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي"، رواه أبو داود والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ووقت ذبح هدي التمتع والأضاحي بعد صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق على الصحيح. ويستحب أن يأكل من هديه إذا كان هدي تمتع أن قران ومن أضحيته ويهدي ويتصدق؛ أثلاثا؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} . وأما هدي الجبران، وهو ما كان عن فعل محظور من محظورات الإحرام أو عن ترك واجب؛ فلا يأكل منه شيئا. ومن أراد أن يضحي؛ فإنه إذا دخلت عشر ذي الحجة؛ لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا إلى ذبح الأضحية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا، حتى يضحي"، رواه مسلم. فإن فعل شيئا من ذلك؛ استغفر الله، ولا فدية عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ويسن تحسين الاسم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تدعون بأسمائكم وأسماء آبائكم؛ فأحسنوا أسمائكم"، رواه أبو داود. وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن، ويحرم تعبيده لغير الله؛ كأن يسمى عبد الكعبة، وعبد النبي، وعبد المسيح، عبد علي، وعبد الحسين. قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله؛ كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب"؛ لأنه إخبار؛ كبني عبد الدار وعبد شمس، ليس من باب إنشاء التسمية بذلك، وتكره التسمية بالأسماء غير المناسبة؛ كالعاصي، وكليب، وحنظلة، ومرة، وحزن، وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة الاسم القبيح من الأشخاص والأماكن، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن"، رواه مسلم وغيره؛ فينبغي الاهتمام باختيار الاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الحسن للمولود، وتجنب الأسماء المحرمة والمكروهة؛ لأن ذلك من حق الولد على والده. ويجزئ في العقيقة ما يجزئ في الأضحية من حيث السن والصفة، فيختار السليمة من العيب والأمراض، والكاملة في خلقتها المناسبة في سنها وسمنها، ويستحب أن يأكل منها ويهدي ويتصدق؛ أثلاثا كالضحية. وتخالف العقيقة الأضحية في كونها لا يجزئ فيها شرك من دم؛ فلا تجزئ فيها بدنة ولا بقرة إلا كاملة؛ لأنها فدية عن النفس؛ فلا تقبل التشريك، ولم يرد فيها تشريك، حيث لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة. وينبغي العناية بأمر المولود بما يصلحه وينشئه على الأخلاق الفاضلة ويكون سببا في صلاحه، فيحتاج الطفل إلى العناية بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي، قال الشاعر: وينشأ ناشىء الفتيان منا ... على ما كان عودة أبوه فيصعب عليه في كبره تلاقي ذلك، ولهذا تجد بعضا أو كثيرًا من الناس منحرفة أخلاقهم بسبب التربية التي نشؤوا عليها. فيجب أن يجنب الطفل مجالس اللهو والباطل وقرناء السوء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ويجب أن يكون البيت الذي ينشأ فيه بيئة صالحة؛ لأن البيت بمثابة المدرسة الأولى؛ بما فيه من الوالدين وأفراد الأسرة، فيجب إبعاد وسائل الشر والفساد عن البيوت، خصوصا في هذا الزمان الذي كثرت فيه فيه وسائل الشرن وامتلأت بها غالب البيوت؛ إلا من رحمه الله؛ فيجب الحذر من ذلك. كما يجب تنشئة الطفل على العبادة والطاعة واحترام الدين والعناية بالقرآن ومحبته؛ لأنه من أعظم وسائل السعادة في الدنيا والآخرة. وبالجملة؛ يجب على والد الطفل والمتولي شأنه أن يكون قدوة صالحة في أخلاقه وسلوكه وعادته، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 باب في أحكام العقيقة العقيقة من حق الولد على والده، وهي الذبيحة التي يذبحها عنه تقربا إلى الله سبحانه وتعالى، فهي سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد عق عن الحسن والحسين؛ كما رواه أبو داود وغيره، وفعل ذلك صحابته الكرام، فكانوا يذبحون عن أولادهم، وفعله التابعون. وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها؛ لما رواه الحسن عن سمرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل غلام مرتهن بعقيقته"، قال أحمد: "معناه: مرتهن عن الشفاعة لوالديه"، وقال ابن القيم: "إنها سبب في حسن سجاياه وأخلاقه إن عق عنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 كتاب الجهاد باب في أحكام الجهاد شرع الله الجهاد في سبيله لإعلاء كلمته ونصرة دينه ودحر أعدائه، وشرعه ابتلاءً واختبارًا لعباده، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} . والجهاد في سبيل الله له الأهمية العظيمة في الإسلام؛ فهو ذروة سنام الإسلام، وهو من أفضل العبادات، وقد عده بعض العلماء ركنا سادسا من أركان الإسلام. والجهاد في سبيل الله مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال} ، وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به، وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 بالغزو؛ مات على شعبة من النفاق". والجهاد مصدر جاهد؛ أي: بالغ في قتال عدوه، وشرعا: قتال الكفار، ويطلق الجهاد على أعم من القتال. قال العلامة ابن القيم: "وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان وإما بالمال، وإما باليد؛ فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع" انتهى. ويطلق الجهاد أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق: فأما مجاهدة النفس؛ فعلى تعلم أمور الدين، ثم العمل بها، ثم تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان؛ فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار؛ فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأما مجاهدة الفساق؛ فباليد، ثم باللسان، ثم بالقلب؛ حسب التمكن من درجات إنكار المنكر. والجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي؛ سقط الوجوب عن الباقين، وبقى في حقهم سنة. وهو أفضل متطوع به، وفضله عظيم، والنصوص في الأمر به والترغيب فيه من الكتاب والسنة كثيرة جدًا؛ قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وهناك حالات يجب فيها الجهاد وجوبا عينيا، وهي: أولاً: إذا حضر القتال؛ وجب عليه أن يقاتل، ولا يجوز له أن ينصرف. ثانيا: إذا حصر بلده عدو. لأنه في هاتين الحالتين يكون جهاد دفع، لا جهاد طلب، فلو انصرف عنه؛ استولى الكفار على حرمات المسلمين. ثالثا: إذا احتاج إليه المسلمون في القتال والمدافعة. رابعا: إذا استنفره الإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم؛ فانفروا"، وقال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} ، وقال تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 فيجب بغاية ما يمكنه، ويجب على القعدة؛ لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم" انتهى. ويجب على الإمام أن يتفقد الجيش عند المسير للجهاد، ويمنع من لا يصلح لحرب من رجال وخيل ونحوها، فيمنع المخذل الذي يخذل الناس عن القتال، ويزهدهم فيه، ويمنع المرجف الذي يخوف الغزاة، ويمنع من يسرب الأخبار إلى الأعداء أو يوقع الفتنة بين الغزاة، ويؤمر على الغزاة أميرًا يسوس الجيش بالسياسة الشرعية. ويجب على الجيش طاعته بالمعروف، والنصح له، والصبر معه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} . إن الجهاد في الإسلام شرع لأهداف سامية وغاية نبيلة: شرع الله الجهاد لتخليص العباد من عبادة الطواغيت والأوثان لعبادة الله وحده لا شريك له، الذي خلقهم ورزقهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه} . شرع الله الجهاد لإزالة الظلم وإعادة الحقوق إلى مستحقيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه} . شرع الجهاد لإذلال الكفار والانتقام منهم، وإضعاف شوكتهم، قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . والقتال إنما يكون بعد تبليغ الدعوة، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس قبل القتال إلى الإسلام، ويكاتب الملوك بذلك، ويوصي قواد الجيوش الإسلامية بدعوة الناس إلى الإسلام قتالهم، فإن استجابوا، وإلا قاتلوهم، وذلك لأن الغرض من القتال في الإسلام هو إزالة الكفر والشرك، والدخول في دين الله، فإذا حصل ذلك بدون قتال؛ لم يحتج إلى القتال، والله أعلم. وللجهاد أحكام مفصلة موجودة في الكتب المطولة. وإذا كان أبواه مسلمين حرين أو أحدهما؛ لم يجاهد تطوعا إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 بإذنهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد"، صححه الترمذي، وذلك لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. وعلى إمام المسلمين أن يتفقد الجيش عند المسير، ويمنع من لا يصلح للحرب من رجال وخيل كالمخذل والمرجف اللذين يثبطان الناس عن القتال، ويزهدان فيه، ويخوفان المسلمين، وينشران الأخبار والإشاعات التي تخوف الجند. وعلى الإمام أن يعين القادة للجيوش، وينفل من الغنيمة من في تنفيله مصلحة للجهاد، ويقسم بقية الغنائم في الجيش كله. ويلزم الجيش طاعة أميرهم بالمعروف، والنصح له، والصبر معه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} . ولا يجوز قتل صبي ولا امرأة وراهب وشيخ فان ومريض مزمن وأعمى لا رأى لهم، ولم يقاتلوا أو يحرضون ويكونون أرقاء بالسبي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسترق النساء والصبيان إذا سباهم. وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب. والغنيمة ما أخذ من مال حربي قهرًا بقتال، وما ألحق به مما أخذ فداء، وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال بقصد القتال، قاتل أو لم يقاتل لأنه ردأ للمقاتلين، ومستعد للقتال، فأشبه المقاتلين، ولقول عمر رضي الله عنه: "الغنيمة لمن شهد الوقعة". وكيفية توزيع الغنيمة: أن الإمام يخرج الخمس الذي لله ولرسوله، وسهم لقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم واليتامى والفقراء والمساكين وأبناء السبيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ثم يقسم الأخماس الأربعة الباقية على المقاتلين؛ للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، متفق عليه. ويقوم مقام الإمام في توزيع الغنيمة نائبة. ويحرم الغلول، وهو كتمان شيء مما غنمه المقاتل، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، ويجب تعزير الغال بما يراه الإمام رادعا ولأمثاله. وإذا كانت الغنيمة أرضا؛ خير الإمام بين قسمتها ين الغانمين، وبين وقفها لمصالح المسلمين، ويضرب عليها خراجا مستمرًا يؤخذ ممن هي بيده. وما تركه الكفار فزعا من المسلمين، ومال من لا وارث له، وخمس خمس الغنيمة وهو سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين. ويجوز لإمام المسلمين عقد الهدنة مع الكفار على ترك القتال مدة معلومة بقدر الحاجة إذا كان في عقدها مصلحة للمسلمين، وذلك إذا جاز تأخير الجهاد من أجل ضعف المسلمين، أما إن كان المسلمون أقوياء يقدرون على الجهاد؛ فلا يجوز عقد الهدنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عقد الهدنة مع الكفار في صلح الحديبية، وصالح اليهود في المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أما إن كان المسلمون أقوياء يقدرون على الجهاد فلا يجوز الهدنة وإذا خاف الإمام مهم نقضا للهدنة؛ أعلن لهم انتهاء الهدنة قبل قتالهم؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ؛ أي: أعلمهم بنقض العهد حتى تصير أنت وهم سواء في العلم بذلك. ويجوز للإمام عقد الذمة مع أهل الكتاب والمجوس، ومعناه: إقرارهم على دينهم؛ بشرط بذلهم الجزية، والتزام أحكام الإسلام؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ؛ فالجزية هي مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلاً عن قتلهم وإقامتهم بدارنا. ولا تؤخذ الجزية من صبي ولا امرأة ومجنون وزمن وأعمى وشيخ فان، ولا من فقير يعجز عنها. ومتى بذلوا الجزية؛ وجب قبولها منهم، وحرم قتالهم، ووجب دفع من قصدهم بأذى؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} ، فجعل إعطاء الجزية غاية لكف القتال عنهم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فاسألهم الجزية، فإن أجابوك؛ فاقبل منهم، وكف عنهم". والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ويجوز إعطاء الكافر المفرد الأمان من كل مسلم إذا لم يحصل منه ضرر على المسلمين؛ بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} . ويجوز للإمام إعطاء الأمان لجميع المشركين ولبعضهم؛ لأن ولايته عامة، وليس لآحاد الرعية؛ إلا أن يجيزه الإمام، ويجوز للأمير في ناحية إعطاؤه لهل بلدة قريبة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 المجلد الثاني كتاب البيوع باب في أحكام البيوع ... كتاب البيوع (قسم المعاملات وغيرها) باب في أحكام البيوع وضح الله في كتابه الكريم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة أحكام المعاملات؛ لحاجة الناس إلى ذلك؛ لجاجتهم إلى الغذاء التي تقوى به أبدانهم، وإلى الملابس والمساكن والمراكب وغيرها من ضروريات الحياة ومكملاتها. والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " البيعان بالخيار مالم يتفرقا، فإن صدقا وبينا؛ بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما؛ محقت بركة بيعهما ". وقد أجمع العلماء على ذلك في الجملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وأما القياس؛ فمن ناحية؛ أن حاجة الناس داعية إلى وجود البيع؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما يد صاحبه من ثمن أو مثمن، وهو لا يبذله إلا بعوض، فاقتضت جواز البيع للوصول إلى الغرض المطلوب. وينعقد البيع بالصيغة القولية أو الصيغة الفعلية. والصيغة القولية تتكون من: الإيجاب، وهو اللفظ الصادر من البائع، كأن يقول: بعث. والقبول، وهو اللفظ الصادر من المشتري، كأن يقول: اشتريت. والصيغة الفعلية هي المعاطاة التي تتكون من الأخذ والإعطاء، كأن يدفع إليه السلعة، فيدفع له ثمنها المعتاد. وقد تكون الصيغة مركبة من القولية والفعلية. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: "بيع المعاطاة له صور: إحداها: إن يصدر من البائع إيجاب لفظي فقط، ومن المشتري أخذ؛ كقول: خذ هذا الثوب بدينار. فيأخذه، وكذلك لو كان الثمن معينا؛ مثل أن يقول: خذ هذا الثوب بثوبك. فيأخذه. الثانية: أن يصدر من المشتري لفظ، ومن البائع إعطاء، سواء كان الثمن معينا أو مضمونا في الذمة. الثالثة: أن لا يلفظ واحد منهما، بل هناك عرف بوضع الثمن وأخذ المثمن" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 ويشترط لصحة البيع شروط، منها ما يشترط في العاقدين، ومنها ما يشترط في المعقود عليه، إذا فقد منها شرط؛ لم يصح البيع: فيشترط في العاقدين: أولاً: التراضي منهما؛ فلا يصح البيع إذا كان أحدهما مكرها بغير حق؛ لقوله تعالى: {إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض"، رواه ابن حبان وابن ماجه وغيرهما، فإن كان الإكراه بحق؛ صح البيع؛ كما لو أكرهه الحاكم على بيع ما له لوفاء دينه؛ فإن هذا إكراه بحق. ثانيا: يشترط في كل من العاقدين أن يكون جائز التصرف؛ بأن يكون حرأ مكلفا رشيدًا؛ فلا يصح البيع والشراء من صبي وسفيه ومجنون ومملوك بغير إذن سيده. ثالثا: يشترط في كل من العاقدين أن يكون مالكا للمعقود عليه أو قائما مقام مالكه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك"، رواه ابن ماجه والترمذي وصححه؛ أي لا تبع ما ليس في ملكك من الأعيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 قال الوزير: "اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده ولا في ملكه، ثم يمضي فيشتريه له، وأنه باطل". ويشترط في المعقود عليه في البيع: أولاً: أن يكون مما يباح الانتفاع به مطلقا؛ فلا يصح بيع ما يحرم الانتفاع به؛ كالخمر، والخنزير، وآله اللهو، والميتة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم بيع الميته والخمر والأصنام"، متفق عليه، ولأبي داود: "حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه"، ولا يصح بيع الأدهان النجسة ولا المتنجسة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرم شيئا؛ حرم ثمنه"، وفي المتفق عليه: أرأيت شخوم الميتة؛ فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا، هو حرام". ثانيا: ويشترط في المعقود عليه في البيع من ثمن ومثمن أن يكون مقدورًا على ذ؛ لأن ما لا يقدر على تسليمه بالمعدوم، فلم يصح بيعه؛ فلا يصح بيع عبد آبق، ولا بيع جمل شادر، ولا طير في الهواء، ولا بيع مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه من الغاصب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 ثالثا: يشترط في الثمن والمثمن أن يكون كل منهما معلوما عند المتعاقدين؛ لأن الجهالة غزر، والغزر منهي عنه؛ فلا يصح شراء ما لم يره، أو رآه وجهله، ولا بيع حمل في بطن ولبن في ضرع منفردين، ولا يصح بيع الملامسة؛ كأن يقول: أي ثوب لمسته؛ فهو عليك بكذا، ولا بيع المنابذة كأن يقول: أي ثوب نبذته إلي أي طرحته؛ فهو بكذا؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة"، متفق عليه. ولا يصح بيع الحصاة؛ كقوله: ارم هذه الحصاة؛ فعلى أي ثوب وقعت؛ فهو لك بكذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 باب في بيان البيوع المنهي عنها الله سبحانه أباح لعباده البيع والشراء؛ ما لم يترتب على ذلك تفويت لما هو أنفع وأهم؛ كأن يزاحم ذلك أداء عبادة واجبة، أو يترتب على ذلك إضرار بالآخرين. فلا يصح البيع ولا الشراء ممن تلزمه صلاة الجمعة بعد ندائها الثاني؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، فقد نهى الله سبحانه تعالى: عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها، وخص البيع من أهم ما يشتغل به المرء من أسباب المعاش، والنهي يقتضي التحريم وعدم صحة البيع، ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ} ؛ يعني: الذي ذكرت لكم من ترك البيع وحضور الجمعة، {خَيْرٌ لَكُمْ} من الاشتغال بالبيع، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مصالح أنفسكم، كذلك التشاغل بغير البيع عن الصلاة محرم. وكذلك بقية الصلوات المفروضة لا يجوز التشاغل عنها بالبيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 والشراء وغيرهما بعد ينادى لحضورها في المساجد؛ قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . وكذلك لا يصح بيع الشيء على من يستعين به على معصية لله ويستخدمه فيما حرم الله؛ فلا يصح بيع العصير على من يتخذه خمرًا؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وذلك إعانة على العدوان. وكذا لا يجوز ولا يصح بيع سلاح في وقت الفتنة بين المسلمين؛ لئلا يقتل به مسلما، وكذا جميع آلات القتال لا يجوز بيعها في مثل هذه الحالة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . قال ابن القيم: "قد تظاهرت أدلة الشرع على أن المقصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته؛ فالسلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلما حرام باطل؛ لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله؛ فهو طاعة وقربة، وكذا لا يجوز بيع سلاح لمن يحاربون المسلمين أو يقطعون به الطريق؛ لأنه إعانة على معصية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 ولا يجوز بيع عبد مسلم لكافر إذا لم عليه؛ لما في ذلك من الصغار وإذلال المسلم للكافر، وقال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه". ويحرم بيعه على بيع أخيه المسلم؛ كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك خيرًا منها بثمنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا بيع بعضكم على بيع بعض"، متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا بيع الرجل على بيع أخيه"، متفق عليه. وكذا يحرم شراؤه على شرائه؛ كأن يقول لمن باع سلعته بتسعة: أشتريها منك بعشرة. وكم يحصل اليوم في أسواق المسلمين من أمثال هذه المعاملات المحرمة؛ فيجب على المسلم اجتناب ذلك، والنهي عنه، وإنكاره على من فعله. ومن البيوع المحرمة: بيع الحاضر للبادي، والحاضر: هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 المقيم في المدن والقرى، والبادي: القادم من البادية أو غيرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع حاضر لباد". قال ابن عباس رضي الله عنه: "لا يكون له سمسارًا [أي: دلالاً] يتوسط بين البائع والمشتري". وقال صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وكما أنه لا يجوز للحاضر أن يتولى بيع سلعة البادي، كذلك لا ينبغي له أن يشتري له. والممنوع هو أن يذهب الحاضر إلى البادي ويقول له: أنا أبيع لك أو أشتري لك. أما إذا جاء البادي للحاضر، وطلب منه أن يبع له أو يشتري له؛ فلا مانع من ذلك. ومن البيوع المحرمة: بيع العينة، وهو أن يبيع سلعة على شخص بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بخمسة عشر ألفا حالة يسلمها له، وتبقى العشرون الألف في ذمته إلى حلول الأجل؛ فيحرم ذلك؛ لأنه حيلة يتوصل بها إلى الربا، فكأنه باع دراهم مؤجلة بدراهم حالة مع التفاضل، وجعل السلعة حيلة فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم". وقال صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 باب في أحكام الشروط في البيع الشروط في البيع كثيرة الوقوع، وقد يحتاج المتبايعان أو أحدهما إلى شرط أو أكثر؛ فاقتضي ذلك في الشروط، وبيان ما يصح ويلزم منها وما لا يصح. والفقهاء رحمهم الله يعرفون الشرط في البيع بأنه إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة، ولا يعتبر الشرط في البيع عندهم ساري المفعول إلا إذا اشترط في صلب العقد؛ فلا يصح الاشتراط قبل العقد ولا بعده. والشروط في البيع تنقسم إلى قسمين: صحيحة وفاسدة: أولاً: الشروط الصحيحة: وهي الشروط التي لا تخالف متقتضى العقد، وهذا القسم يلزم العمل بمقتضاه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"، ولأن الأصل في الشروط الصحة؛ إلا ما أبطله الشارع ونهى عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 والقسم الصحيح من الشروط نوعان: النوع الأول: شرط لمصلحة العقد؛ بحيث يتقوى به العقد، وتعود مصلحته على المشترط؛ كاشتراط التوثيق بالرهن، أو اشتراط الضامن، وهذا يطمئن البائع، واشتراط تأجيل الثمن أو تأجيل بعضه إلى مدة معلومة، وهذا يستفيد منه المشتري، فإذا وفي بهذا الشرط؛ لزم البيع، وكذلك لو اشترط المشتري صفة في البيع، مثل كونه من النوع الجيد أو من الصناعة الفلانية أو الإنتاج الفلاني؛ لأن الرغبات تختلف باختلاف ذلك، فإن أتى المبيع على الوصف المشترط، لزم البيع، وإن اختلف عنه؛ فللمشتري الفسخ أو الإمساك مع تعويضه عن فقد الشرط؛ بحيث يقوم المبيع مع تقدير وجود الصفة المشترطة، ثم يقوم مع فقدها، ويدفع له الفرق بين القيمين إذا طلب. النوع الثاني من الشروط الصحيحة في البيع: أن يشترط أحد المتعاقدين على الآخر بذل منفعة مباحة في المبيع؛ كأن يشترط البائع سكنى الدار المبيعة مدة معينة، أو أن يحمل على الدابة أو السيارة المبيعة إلى موضع معين؛ لما روى جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم باع جملاً واشترط ظهره إلى المدنية"، متفق عليه؛ فالحديث يدل على جواز بيع الدابة مع استثناء ركوبها إلى موضع معين، ويقاس عليها غيرها، وكذا لو اشترط المشتري على البائع بذل عمل في المبيع؛ كأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 يشتري منه حطبا، ويشترط عليه حمله إلى موضع معلوم، أو يشتري منه ثوبا، ويشترط عليه خياطته. ثانيا: الشروط الفاسدة: وهذا القسم أنواع: النوع الأول: شرط فاسد يبطل العقد من أصله، ومثاله: أن يشترط أحدهما على الآخر عقداً آخر، كأن يقول: بعتك هذه السلعة بشرط أن تؤجرني دارك، أو يقول: بعتك هذه السلعة بشرط أن تشركني معك في عملك الفلاني أو في بيتك، أو يقول: بعتك هذه السلعة بكذا بشرط أن تقرضني مبلغ كذا من الدراهم؛ فهذا الشرط فاسد، وهو يبطل العقد من أساسه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله الحديث بما ذكرنا. النوع الثاني من الشروط الفاسدة في البيع: ما يفسد في نفسه، ولا يبطل البيع؛ مثل أن يشترط على البائع أنه إن خسر في السلعة؛ ردها عليه، أو شرط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة، ونحو ذلك؛ فهذا شرط فاسد؛ لأنه يخالف مقتضى العقد؛ لأن مقتضى البيع أن يتصرف المشتري في السلعة تصرفا مطلقا، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فهو باطل، وإن كان مئة شرط"، متفق عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 والمراد بكتاب الله هنا حكمه؛ ليشمل ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والبيع لا يبطل مع بطلان هذا الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة حينما اشترط بائعها ولاءها له إن أعتقت؛ أبطل الشرط، ولم يبطل العقد، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق". إنه ينبغي للمسلم الذي يشتغل بالبيع والشراء أن يتعلم أحكام البيع وما يصح فيه من الشروط وما لا يصح؛ حتى يكون على بصيرة في معاملته، ولتنقطع الخصومات والمنازعات بين المسلمين؛ فإن غالبها ينشأ من جهل المتبايعين أو أحدهما بأحكام البيع، واشتراطهم شروطا فاسدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 باب في أحكام الخيار في البيع دين الإسلام دين سمح شامل، يراعي المصالح والظروف، ويرفع الحرج والمشقة عن الأمة، ومن ذلك ما شرعة في البيع من إعطاء الخيار للعاقد؛ ليتروى في أمره وينظر في مصلحته من وراء تلك الصفقة؛ فيقدم على ما يؤمل من ورائه الخير، ويحجم ويتراجع عما لا يراه في مصلحته. فالخيار في البيع معناه: طلب خير الأمرين الإمضاء أو الفسخ. وهو ثمانية أقسام: أولاً: خيار المجلس، أي: المكان الذي جرى فيه التبايع؛ فلكل من المتبايعين الخيار ما داما في المجلس، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايع الرجلان؛ فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "في إثبات الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه تعالى بقوله: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ؛ فإن العقد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة؛ فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حرما يتروى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما؛ فلكل من المتبايعين الخيار هذا الحديث الشريف؛ ما لم بأبدانهما من مكان التبايع، فإن أسقطا الخيار؛ بأن تبايعا على أن لا خيار لهما، أو أسقطه أحدهما؛ سقط، ولزم البيع في حقهما أو حق من أسقطه منهما بمجرد العقد؛ لأن الخيار حق للعاقد، فيسقط بإسقاطه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم يتفرقا، أو يختر أحدهما الآخر"، ويحرم على أحدهما أن يفارق أخاه بقصد إسقاط الخيار؛ لحديث عمرو بن شعيب، فيه: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله". ثانيا: خيار الشرط: بأن يشترط المتعاقدان الخيار في صلب العقد أو بعد العقد في مدة خيار المجلس مدة معلومة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"، ولعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 ويصح أن يشترط المتبايعان الخيار لأحدهما دون الآخر؛ لأن الحق لهما؛ فكيفما تراضيا؛ جاز. ثالثا: خيار الغبن، إذا غبن في البيع غبنا يخرج عن العادة؛ فيخير المغبون منهما بين الإمساك والرد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرار"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه"، والمغبون لم تطب نفسه بالغبن، فإن كان الغبن يسيرًا قد جرت به العادة؛ فلا خيار. وخيار الغبن في ثلاث صور: الصورة الأولى من صور خيار الغبن: تلقي الركبان، والمراد بهم القادمون لجلب سلعهم في البلد، فإذا تلقاهم، واشترى منهم، وتبين أنه قد غبنهم عبنا فاحشا؛ فلهم الخيار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق؛ فهو بالخيار"، رواه مسلم؛ فنهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب خارج السوق الذي تباع فيه السلع، وأمر أنه إذا أتى البائع السوق الذي تعرف فيه قيم السلع، وعرف ذلك؛ فهو بالخيار بين أن يمضي البيع أو يفسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للركبان الخيار إذا تلقوا؛ لأن فيه نوع تدليس وغش". وقال ابن القيم: "نهى عن ذلك؛ لما فيه من تغرير البائع؛ فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل السوق، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن؛ فإن الجالب إذا لم يعرف السعر؛ كان جاهلاً بثمن المثل، فيكون المشتري غارًا له، وكذا البائع إذا باعهم شيئا؛ فلهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم غبنوا غبنا يخرج عن العادة" انتهى. الصورة الثانية من صور خيار الغبن: الغبن الذي يكون سببه زيادة الناجش في ثمن السلعة، والناجش: هو الذي يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد رفع ثمنها على المشتري، وهذا عمل محرم، قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولا تناجشوا"؛ لما في ذلك من تغرير المشتري وخديعته؛ فهو في معنى الغش. ومن صور النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة: أعطيت بها كذا وكذا وهو كاذب، اشتريتها بكذا وهو كاذب. ومن صور النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة: لا أبيعها إلا بكذا أو كذا؛ لأجل أن يأخذها المشتري بقريب مما قال، كأن يقول في سلعة ثمنها خمسة: أبيعها بعشرة؛ ليأخذها المشتري بقريب من العشرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الصورة الثالثة من صور الغبن الذي يثبت به الخيار: غبن المسترسل. قال الإمام ابن القيم: "وفي الحديث: "غبن المتسرسل ربا" والمسترسل: هو الذي يجهل القيمة ولا يحسن أن يناقص الثمن، بل يعتقد على صدق البائع لسلامة سريرته، فإذا غبن غبنا فاحشا؛ ثبت له الخيار". والغبن محرم؛ لما فيه من التغرير للمشتري. ومما يجري في بعض أسواق المسلمين وهو محرم: أن بعض الناس حينما يجلب إلى السوق سلعة، يتفق أهل السوق على ترك مساومتها، ويعمدون واحدًا منهم يسومها من صاحبها، فإذا لم يجد من يزيد عليه؛ اضطر لبيعها عليه برخص، ثم اشترك البقية مع المشتري، وهذا غبن وظلم محرم، وثبت لصاحب السلعة إذا علم بذلك الخيار وسحب سلعته منهم؛ فيجب على من يفعل مثل هذا التغرير أن يتركه ويتوب منه، ويجب على من علم ذلك أن ينكره على من يفعله ويبلغ المسؤولين لردعهم عن ذلك. رابعا: خيار التدليس، أي: الخيار الذي يثبن بسبب التدليس، والتدليس: هو إظهار السلعة المعيبة بمظهر السليمة، مأخوذ من الدلسة، بمعنى: الظلمة؛ كأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 البائع بتدليسه صير المشتري في ظلمة، فلم يتم إبصاره للسلعة، وهو نوعان. النوع الأول: كتمان عيب السلعة. والنوع الثاني: أن يزوقها وينمقها بما يزيد به ثمنها. والتدليس حرام، وتسوغ به الشريعة للمشتري الرد؛ لأنه إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، ولو علم أنه على خلافها؛ لما بذل ماله فيها. ومن أمثلة التدليس الواردة: تصرية الغنم والبقر والإبل، وهي حبس لبنها في ضروعها عند عرضها للبيع، فيظنها المشتري كثيرة اللبن دائما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر". ومن أمثلة التدليس: تزويق البيوت المعيبة للتغرير بالمشتري والمستأجر، وتزويق السيارات حتى تظهر بمظهر غير المستعملة للتغرير بالمشتري، وغير ذلك من أنواع التدليس. يجب على المسلم أن يصدق ويبين الحقيقة، قال صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، صدقا وبينا؛ بورك لهما في بيعها، وإن كذبا وكتما؛ محقت بركة بيعهما"، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصدق في البيع والشراء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 أسباب البركة، وأن الكذب من أسباب محق البركة؛ فالثمن وإن قل مع الصدق؛ يبارك الله فيه، وإن كثر الثمن مع الكذب؛ فهو ممحوق البركة لا خير فيه. خامسا: خيار العيب، أي: الخيار الذي يثبت للمشتري بسبب وجود عيب في السلعة لم يخبره به البائع أو لم يعلم به البائع، لكنه تبين أنه موجود في السلعة قبل البيع، وضابط العيب الذي يثبت به الخيار هو ما تنقص بسببه قيمة المبيع عادة أو تنقص به عينه، ويرجع معرفة ذلك إلى التجار المعتبرين؛ فما عدوه عيبا؛ ثبت الخيار به، وما لم يعدوه عيبا ينقص القيمة أو عين المبيع؛ لم يعتبر، فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد؛ فله الخيار بين أن يمضي البيع ويأخذ عوض العيب، وهو مقدار الفرق بين قيمة المبيع صحيحا وقيمته معيبا، وله أن يفسخ البيع ويرد السلعة ويسترجع الثمن الذي دفعة للمشتري. سادسا: ما يسمى بخيار التخبير بالثمن، هو ما إذا باع السلعة بثمنها الذي اشتراها به، فأخبره بمقداره، ثم تبين أنه أخبر بخلاف الحقيقة، كأن تبين أن الثمن أكثر أو أقل مما أخبره به، أو قال: أشركتك معي في هذه السلعة برأس مالي، أو قال: بعتك هذه السلعة بربح كذا وكذا على رأس مالي فيها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أو قال: بعتك هذه السلعة بنقص كذا وكذا عما اشتريتها به: ففي هذه الصور الأربع، إذا تبين أن رأس المال خلاف ما أخبره به؛ فله الخيار بين الإمساك والرد، على قول في المذهب، والقول الثاني: أنه في هذه الحالة لا خيار للمشتري، ويجري الحكم على الثمن الحقيقي، ويسقط عنه الزائد، والله أعلم. سابعا: خيار يثبت إذا اختلف المتبايعان في بعض الأمور، كما إذا اختلفا في مقدار الثمن، أو اختلفا في عين المبيع، أو قدره، أو اختلفا في عين المبيع، أو قدره، أو اختلفا في صفته، ولا بينة لأحدهما؛ فحينئذ يتخالفان، فيحلف كل منهما على ما يدعيه، ثم بعد التحالف لكل منهما الفسخ إذا لم يرض بقول الآخر. ثامنا: خيار يثبت للمشتري إذا اشترى بناء على رؤية سابقة، ثم وجده قد تغيرت صفته؛ فله الخيار حينئذ بين إمضاء البيع وفسخه، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 باب في أحكام التصرف في البيع قبل قبضه والإقالة نتناول في هذا الباب إن شاء الله أحكام التصرف في المبيع قبل قبضه ما يصح وما لا يصح، مع بيان ما يحصل به قبض المبيع ويعد قبضا صحيحا، وما لا يعد قبضا صحيحا. اعلم أنه لا يصح التصرف في المبيع قبل قبضه إذا كان مكيلاً أو موزونا أو معدودًا أو مذروعا باتفاق الأئمة، وكذا إذا كان غير ذلك على الصحيح الراجح من قولي العلماء رحمهم الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعاما؛ فلا يبعه حتى يستوفيه"، متفق عليه، وفي لفظ: "حتى يقبضه"، ولمسلم: "حتى يكتاله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 قال ابن عباس رضي الله عنهما "ولا أحسب غيره إلا مثله"؛ أي: غير الطعام، بل ورد ذلك صريحا؛ كما روى الإمام أحمد: "إذا اشتريت شيئا؛ فلا تبعه حتى تقبضه"، وروى أبو داود: "نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التاجر إلى رحالهم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله: "علة النهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن تسلمه؛ لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح؛ فإنه يسعى في رد البيع؛ وإما بجحد، أو احتيال على الفسخ، وتأكيد ذلك بالنهي عن ربح ما لم يضمن" انتهى. فيجب على المسلمين أن يتقيدوا بذلك، فإذا اشتري المسلم سلعة؛ لم يقدم على التصرف فيها ببيع أو غيره يقبضها قبضا تاما، وهذا مما يتساهل فيه كثير من الناس أو يتجاهلونه، فيشترون السلع ثم يبيعونها وهم لم يقبضوها من البائع أصلاً أو قبضوها ناقصا لا يعد قبضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 صحيحا؛ كأن يعد الأكياس أو الطرود أو الصناديق وهي في محل البائع، ثم يذهب ويبيعها على آخر، وهذا لا يعد قبضا صحيحا، يترتب عليه جواز تصرف المشتري فيها. فإن قلت: ما هو القبض الصحيح الذي يسوغ للمشتري التصرف في السلعة؟ فالجواب أن قبض السلع يختلف باختلاف نوعيتها، وكل نوع له قبض يناسبه، فإذا كان المبيع مكيلاً؛ فقبضه بالكيل، وإن كان موزونا؛ فقبضه بالوزن، وإن كان معدودًا؛ فقبضه بالعد، وإن كان مذروعا؛ فقبضه بالذرع، مع حيازة هذه الأشياء إلى مكان المشتري، وما كان كالثياب والحيوانات والسيارات؛ فقبضه بنقله إلى مكان المشتري، وإن كان المبيع مما يتناول باليد كالجواهر والكتب ونحوها؛ فقبضه يحصل بتناول المشتري له بيده وحيازته، وإن كان المبيع مما لا يمكن نقله من مكانه؛ كالبيوت والأراضي والثمر على رؤوس الشجر؛ فقبضه يحصل بالتخلية؛ بأن يمكن منه المشتري، ويخلي بينه وبينه ليتصرف فيه تصرف المالك، وتسليم الدار ونحوها بأن يفتح له بابها أو يسلمه مفتاحها. وقد مر من الأحاديث في النهي عن التصرف في المبيع قبل قبضه المعتبر شرعا؛ لما في ذك من المصلحة للمشتري والبائع؛ من قطع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 النزاع، والسلامة من الخصومات التي كثيرًا ما تنشب بين الناس بسبب تساهلهم في القبض وعدم تفقد المشتري واستيفائها بالوفاء والتمام وانقطاع عهدة البائع بها، وهذا أمر ينبغي للمسلم التقيد به وتطبيقه في معاملته. وكثير من الناس اليوم يتساهلون في قبض السلع، ويتصرفون فيها قبل القبض الشرعي، فيرتكبون ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقعون في الخصومات والمنازعات، أو يصابون بالندامة عندما تنكشف لهم السلعة على حقيقتها وقد تورطوا فيها؛ فلا يستطيعون الخلاص منها إلا بمرافعات ومدافعات، وهكذا كل من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يندم ويقع في الحرج. ومما حث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب فيه: إقالة أحد المتعاقدين للآخر بفسخ البيع عندما يندم على العقد أو تزول حاجته بالسلعة أو يعسر بالثمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أقال مسلما؛ أقال الله عثرته يوم القيامة"، الإقالة معناها: رفع العقد، ورجوع كل من المتعاقدين بما كان له من غير زيادة ولا نقص، وهي من حق المسلم على أخيه المسلم عندما يحتاج إليها، وهي من حسن المعاملة ومن مقتضى الأخوة الإيمانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 باب في بيان الربا وحكمه هذا الموضوع من أخطر المواضيع، وهو موضوع الربا الذي أجمعت الشرائع على تحريمه، وتوعد الله المتعامل به بأشد الوعيد: قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} ؛ فأخبر سبحانه أن الذين يتعاملون بالربا {لا يَقُومُونَ} ؛ أي: من قبورهم عند البعث؛ {إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} ؛ أي: كما يقوم المصروع حال صرعه، وذلك لتضخم بطونهم؛ بسبب أكلهم الربا من الدنيا. كما توعد سبحانه الذي يعود إلى أكل الربا بعد معرفة تحريمه بأنه من أصحاب النار الخالدين فيها، قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . كما أخبر الله سبحانه أنه يمحق بركة الربا، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} ؛ أي: يمحق بركة المال الذي خالطه الربا، فمهما كثرت أموال المرابي وتضخمت؛ فهي ممحوقة البركة، لا خير فيها، وإنما هي وبال على صاحبها، تعب في الدنيا، وعذاب في الآخرة، ولا يستفيد منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وقد وصف الله المرابي بأنه كفار أثيم، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . فأخبر الله سبحانه أنه لا يحب المرابي، وحرمانه من محبة الله يستلزم أن الله يبغضه ويمقته، وتسميته كفارًا أي: مبالغا في كفر النعمة، وهو الكفر الذي لا يخرج من الملة؛ فهو كفار لنعمة الله لأنه لا يرحم العاجز، ولا يساعد الفقير، ولا ينظر المعسر، أو المراد أنه كفار الكفر المخرج من الملة إذا كان يستحل الربا، وقد وصفه الله في هذه الآية بأنه أثيم؛ أي: مبالغ في الإثم، منغمس في الأضرار المادية والخلقية. وقد أعلن الله الحرب منه ومن رسوله على المرابي لأنه عدو لهما إن لم يترك الربا، ووصفه بأنه ظالم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . وإلى جانب هذه الزواجر القرآنية عن التعامل بالربا جاءت زواجر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد عدة النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر الموبقة؛ أي: المهلكة، ولعن صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 أخبر صلى الله عليه وسلم أن درهما واحدًا من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام، أو ست وثلاثين زنية، وأخبر أن الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر، وهو القمار؛ لأن المرابي قد أخذ فضلاً محققا من محتاج، والمقامر قد يحصل له فضل وقد لا يحصل له فضل؛ فالربا ظلم محقق؛ لأن فيه تسليط الغني على الفقير؛ بخلاف القمار؛ فإنه قد يأخذ فيه الفقير من الغني، وقد يكون المتقامران متساويين في الغنى والفقر؛ فهو وإن كان أكلاً للمال بالباطل، وهو محرم؛ فليس فيه ظلم المحتاج وضرره ما في الربا، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج" انتهى. وأكل الربا من صفات اليهود التي استحقوا عليها اللعنة الخالدة والمتواصلة، قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . والحكمة في تحريم الربا: أن فيه أكلاً لأموال الناس بغير حق؛ لأن المرابي يأخذ منهم الربا من غير أن يستفيدوا شيئا في مقابلة، وأن فيه إضرار بالفقراء والمحتاجين بمضاعفة الديون عليهم عند عجزهم عن تسديدها، وأن فيه قطعا للمعروف بين الناس، وسدًّا لباب القرض الحسن، وفتحا لباب القرض بالفائدة التي تثقل كاهل الفقير، وفيه تعطيل للمكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها؛ لأن المرابي إذا تحصل على زيادة ماله بواسطة الربا بدون تعب؛ فلن يلتمس طرقا أخرى للكسب الشاق، والله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم قائما على أن تكون استفادة كل واحد من الآخر في مقابل عمل يقوم به نحوه أو عين يدفعها إليه، والربا خال عن ذلك؛ لأنه عبارة عن إعطاء المال مضاعفا من طرف لآخر بدون مقابلة من عين ولا عمل. والربا في اللغة معناه الزيادة، وهو في الشرع زيادة في أشياء مخصوصة، وينقسم إلى قسمين: ربا النسيئة، وربا الفضل. بيان ربا النسيئة: وربا النسيئة مأخوذ من النسء، وهو التأخير. وهو نوعان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أحدهما: قلب الدين على العسر، وهذا هو أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل؛ قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاة، وإلا؛ زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال في ذمة المدين، فحرم الله ذلك بقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، فإذا حل الدين وكان الغريم معسرًا؛ لم يجز أن يقلب الدين عليه، بل يجب إنظاره، وإن كان موسراً؛ كان عليه الوفاء؛ فلا حاجة إلى زيادة الدين مع يسر المدين ولا مع عسره. النوع الثاني من ربا النسيئة: ما كان في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما؛ كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، وكذا بيع جنس بجنس من هذه المذكورات مؤجلاً، وما شارك هذه الأشياء في العلة يجري مجراها وسيأتي بيان ذلك. بيان ربا الفضل: وربا الفضل مأخوذ من الفضل، وهو عبارة عن الزيادة في أحد العوضين. وقد نص الشارع على تحريمه في ستة أشياء هي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح. فإذا بيع أحد هذه الأشياء بجنسه؛ حرم التفاضل بينهما قولاً واحدًا؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعا: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلاً بمثل، يدًا بيد"، رواه الإمام أحمد ومسلم، فدل الحديث على تحريم بيع الذهب بالذهب؛ إلا مثلاً بمثل، يدًا بيد، سواء بسواء، وعن بيع البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر؛ بجميع أنواعها، والملح بالملح؛ إلا متساوية، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد. ويقاس على هذه الأشياء الستة ما شاركها في العلة فيحرم فيه التفاضل عند جمهور أهل العلم؛ إلا أنهم اختلفوا في تحديد العلة: والصحيح أن العلة في النقدين الثمينة، فقياس عليهما كل ما جعل أثمانا؛ كالأوراق النقدية المستعملة في هذه الأزمنة، فيحرم فيها التفاضل إذا بيع بعضها ببعض مع اتحاد الجنس؛ بأن تكون صادرة من دولة واحدة. والصحيح أن العلة في بقية الأصناف الستة: البر، والشعير، والتمر، والملح: هي الكيل أو الوزن، مع كونها مطعومة، فيتعدى الحكم إلى ما شاركها في تلك العلة مما يكال أو يوزن وهو مما يطعم، فيحرم فيه ربا التفاضل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والعلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم، وهو رواية أحمد" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 فعلى هذا؛ كل ما شرك هذه الأشياء الستة المنصوص عليها في تحقق هذه العلة فيه؛ بأن يكون مكيلاً مطعوما أو موزونا مطعوما أو تحققت فيه علة الثمينة إن كان من النقود؛ فإنه يدخله الربا: فإن انضاف إلى العلة اتحاد الجنس؛ كبيع بر ببر مثلاً؛ حرم فيه التفاضل والتأجيل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلاً بمثل، يدًا بيد". رواه مسلم وأبو دواد. ومعنى قوله: "يدًا بيد" أي: حالا مقبوض في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر. وإن اختلف العلة والجنس؛ جاز الأمران: التفاضل، والتأجيل؛ كالذهب بالبر، والفضة بالشعير. ثم لنعلم أنه لا يجوز بيع مكيل بجنسه إلا كيلاً ولا موزون بجنسه إلا وزنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل"، ولأن ما خولف فيه معياره الشرعي لا يتحقق فيه التساوي؛ فلا يجوز بيع مكيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 بجنسه جزافا، ولا بيع موزون بجنسه جزافا؛ لعدم العلم بالتساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. ثم إن الصرف هو بيع نقد بنقد سواء اتحد الجنس أو اختلف، وسواء كان النقد من الذهب أو الفضة أو من الأوراق النقدية المتعامل بها في هذا الزمان فإنها تأخذ حكم الذهب أو الفضة؛ لاشتراكها معها في علة الربا، وهي الثمنية. فإذا بيع نقد بجنسه؛ كذهب بذهب، أو فضة بفضة، أو ورق نقدي بجنسه؛ كدولار بمثله، أو دراهم ورقية سعودية بمثلها؛ وجب حينئذ التساوي في المقدار والتقايض في المجلس. وإن بيع نقد بنقد من غير جنسه؛ كدراهم سعودية ورقية بدولارات أمريكية مثلاً، وكذهب بفضة؛ وجب حينئذ شيء واحد، وهو الحلول والتقابض في المجلس، وجاز التفاضل في المقدار، وكذا إذا بيع حلي من الذهب بدراهم فضة أو بورق نقدي؛ وجب الحلول والتقابض في المجلس، وكذا إذا بيع حلي من الفضة بذهب مثلاً. أما إذا بيع الحلي من الذهب أو الفضة بحلي أو نقد من جنسه؛ كأن يباع الحلي من الذهب بذهب، والحلي من الفضة بفضة؛ وجب الأمران: التساوي في الوزن، والحلول والتقابض في المجلس. وخطر الربا عظيم، ولا يمكن التحرز منه إلا بمعرفة أحكامه، ومن لم يستطع معرفتها بنفسه؛ فعليه أن يسأل أهل العلم عنها، ولا يجوز له أن يقدم على معاملة إلا بعد تأكده من خلوها من الربا؛ ليسلم بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 دينه، وينجو من عذاب الله الذي توعد به المرابين، ولا يجوز تقليد الناس فيما هم عليه من غير بصيرة، خصوصا في وقتنا هذا الذي كثر فيه عدم المبالاة بنوعية المكاسب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يكثر استعمال الربا، ومن لم يأكله؛ ناله من غباره. ومن المعاملات الربوية المعاصرة قلب الدين على المعسر: إذا حل ولم يكن عنده سداد؛ زيد عليه الدين بكميات ونسبة معينة حسب التأخير، وهذا هو ربا الجاهلية، وهو حرام بإجماع المسلمين، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . ففي هذه الآية الكريمة جملة تهديدات عن تعاطي هذا النوع من الربا: أولاً: أنه سبحانه نادي عباده باسم الإيمان، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وقال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ؛ فدل على أن تعاطي الربا لا يليق بالمؤمن. ثانيا: قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ} ؛ فدل على أن الذي يتعاطى الربا لا يتقي الله ولا يخافه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 ثالثا: قال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} ، أي: اتركوا، وهذا أمر بترك الربا، والأمر يفيد الوجوب؛ فدل على أن من يتعاطى الربا قد عصى أمر الله. رابعا: أنه سبحانه أعلن الحرب على من لم يترك التعامل بالربا؛ فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} ؛ أي: لم تتركوا الربا؛ {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ؛ أي: اعلموا أنكم تحاربون الله ورسوله. خامسا: تسمية المرابي ظالما، وذلك في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . ومن المعاملات الربوية: القرض بالفائدة؛ بأن يقرضه شيئا؛ بشرط أن يوفيه أكثر منه، أو يدفع إليه مبلغا من المال على أن يوفيه أكثر منه بنسبة معينة؛ كما هو المعمول به في البنوك وهو ربا صريح؛ فالبنوك تقوم بعقد صفقات القروض بينها وبين ذوي الحاجات وأرباب التجارات وأصحاب المصانع والحرف والمختلفة، فتدفع لهؤلاء مبالغ من المال نظير فائدة محددة بنسبة مئوية، وتزداد هذه النسبة في حالة التأخر عن السداد في الموعد المحدد، فيجتمع في ذلك الربا بنوعيه؛ ربا الفضل، وربا النسيئة. ومن المعاملات الربوية: ما يجري في البنوك من الإيداع بالفائدة، وهي الودائع الثابتة إلى أجل، يتصرف فيها البنك إلى تمام الأجل، ويدفع لصاحبها فائدة ثابتة بنسبة معنية في المئة؛ كعشرة أو خمسة في المئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ومن المعاملات الربوية: بيع العينة، وهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على شخص، ثم يعود ويشتريها منه بثمن حال أقل من الثمن المؤجل، وسميت هذه المعاملة بيع العينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا؛ أي: نقدًا حاضرًا، والبيع بهذه الصورة إنما هو حيلة للتوصل إلى الربا، وقد جاء النهي عن هذه المعاملة في أحاديث وآثار كثيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"، رواه أبو داود، وقال صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع". فاحذروا من دخول الربا في معاملاتكم، واختلاطه بأموالكم؛ فإن أكل الربا وتعاطيه من أكبر الكبائر، وما ظهر الربا والزنى في قوم إلا ظهر فيهم الفقر والأمراض المستعصية وظلم السلطان، والربا يهلك الأموال ويمحق البركات. لقد شدد الله الوعيد على أكل الربا، وجعل أكله من أفحش الخبائث وأكبر الكبائر، وبين عقوبة المرابي في الدنيا والآخرة، وأخبر أنه محارب لله ولرسوله؛ فعقوبته في الدنيا أنه يمحق بركة المال ويعرضه للتلف والزوال؛ فكم تسمعون من تلف الأموال العظيمة بالحريق والغرق والفيضان، فيصبح أهلها فقراء بين الناس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وإن بقيت هذه الأموال الربوية بأيدي أصحابها؛ فهي ممحوقة البركة، لا ينتفعون منها بشيء، إنما يقاسون أتعابها، ويتحملون حسابها، ويصلون عذابها، والمرابي مبغوض عند الله وعند خلقه؛ لأنه يأخذ ولا يعطي، يجمع ويمنع، لا ينفق ولا يتصدق، شحيح جشع، جموع منوع، تنفر منه القلوب، وينبذه المجتمع، وهذه عقوبة عاجلة، وعقوبته الآجلة أشد وأبقى؛ كما بينها الله في كتابة، وما ذاك إلا لأن الربا مكسب خبيث، وسحت ضارٍ، وكابوس ثقيل على المجتمعات البشرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 باب في أحكام بيع الأصول الأصول هي الدور والأراضي والأشجار، وما يتبع تلك الأصول إذا بيعت مما يتعلق بها؛ فيكون للمشتري، وما لا يتبعها؛ فيبقى على ملك البائع، ومعرفة ذلك ينحسم بها النزاع بين الطرفين، ويعرف كل ماله وما عليه؛ لأن ديننا لم يترك شيئا لنا فيه مصلحة أو علينا فيه مضرة إلا بينه، فإذا طبق هذا الدين ونفذت أحكامه؛ لم يبق مجال للنزاع والخصومات، ومن ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه؛ فقد يبيع الإنسان شيئا من ماله، وهذا الشيء يتعلق به توابع ومكملات ومرافق، أو يكون له نماء متصل أو منفصل، فيقع اختلاف بين المتابعين: أيهما يستحق هذه التوابع؟، ولأجل الحكم بينهما في هذا الاختلاف؛ عند الفقهاء رحمهم الله بابا في الفقه الإسلامي سموه: "باب بيع الأصول الثمار"، بينوا فيه ذلك. فإذا باع دارًا؛ شمل البيع بناءها وسقفها؛ لأن ذلك كله داخل في مسمى الدار، وشمل أيضا ما يتصل بها مما هو من مصلحتها؛ كالأبواب المنصوبة، والسلالم، والرفوف المسمرة بها، والآليات المركبة فيها، كالرافعات، والأدوات الكهربائية، والقناديل المعلقة للإضاءة، وخزانات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 المياه المدفونة في الأرض، أو المثبتة فوق السطوح، والأنابيب الممدة لتوزيع الماء، وأدوات التكييف المثبتة في أماكنها لتكييف الهواء أو لتسخين الماء، ويشمل البيع أيضا ما في الدار من أشجار وزراعة، وما أقيم فيها من مظلات، ويشمل البيع أيضا ما في باطن أرض الدار من معدن جامد. أما ما كان مودعا في الدار وما هو منفصل عنها؛ فلا يشمله البيع؛ كالأخشاب، والحبال، والأواني، والفرش المنفصلة، وما دفن في أرضها للحفظ؛ كالحجارة، والكنوز، وغيرها؛ فكل هذه الأشياء لا يشملها البيع؛ لأنها منفصلة عن الدار، فلا تدخل في مسماها؛ إلا ما كان يتعلق بمصلحتها؛ كالمفاتيح؛ فإنه يتبعها، ولو كان منفصلاً عنها. وإذا باع أرضا؛ شمل البيع كل ما هو متصل بها مما يستمر بقاؤه فيها؛ كالغراس، والبناء. وكذا لو باع بستانا؛ شمل البيع أرضه، وشجره وحيطانه، وما فيه من منازل، وباع أرضا فيها زرع لا يحصد إلا مرة؛ كالبر والشعير؛ فهو للبائع، ولا يشمله العقد، وإن كان في الأرض المبيعة زرع يجز مرارًا؛ كالقث، أو يلقط مرارًا؛ كالقثاء، والباذنجان؛ فإن أصوله تكون لمشتري الأرض؛ تبعا للأرض، وأما الجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع؛ فإنهما تكونان للبائع. وكل ما ذكر من هذا التفصيل فيما يتبع للبائع وما يتبع للمشتري عند بيع الأصول إذا لم يوجد شرط بينهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 أما إذا وجد شرط يلحق هذه الأشياء بأحدهما دون الآخر وجب العمل به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم". ومن باع نخلاً قد أبِّر طلعه؛ فثمره للبائع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر؛ فثمرتها للذي باعها؛ إلا أن يشترطه المبتاع"، متفق عليه، والتأبير هو التلقيح، ومثل النخل في هذا الحكم شجر العنب والتوت والرمان، إذا بيع بعد ظهور ثمره؛ كان ثمره للبائع، وما قبل التأبير في النخل والظهور في العنب ونحوه يكون للمشتري؛ لمفهوم الحديث الشريف في النخل، وقياس غيره عليه. ومن هذا تفهم كمال هذه الشريعة الإسلامية، وحلها لمشاكل الناس، وأنها تعطي كل ذي حق حقه؛ من غير ظلم ولا إضرار بالآخرين؛ فما من مشكلة لا وضعت لها حلا كافيا، مشتملاً على المصلحة والحكمة، تشريع من حكيم حميد، يعلم ما يصلح عبادة وما يضرهم في كل زمان ومكان. وصدق الله العظيم حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ؛ فلا يحسم النزاع بين الناس ويحقق المصالح ويقنع النفوس المؤمنة؛ إلا حكم الله ورسوله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 أما أنظمة الشر؛ فهي قاصرة قصور البشر، وتدخلها الأهواء والنزاعات؛ كما قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} ؛ فتبا وبعدًا وسحقا لعقول تستبدل حكم الله ورسوله بقوانين البشر، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . نسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحمي المسلمين من كيد أعدائهم؛ إنه سميع مجيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 باب في أحكام بيع الثمار المراد بالثمار ما على النخيل وغيرها من الثمار المقصودة للأكل. إذا بيعت هذه الثمار دون أصولها؛ فإنه لا يصح ذلك قبل بدو صلاحها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها؛ نهى البائع والمبتاع"؛ متفق عليه؛ فنهى صلى الله عليه وسلم البائع عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ لئلا يأكل المال بالباطل، ونهى المشتري؛ لأنه يعين على أكل المال بالباطل. وفي "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو قيل: وما زهوها؟ قال: "تحمار أو تصفار". والنهي في الحديثين يقتضي فساد المبيع وعدم صحته. وكذا لا يجوز بيع الزرع قبل اشتداد حبه؛ لما روى مسلم عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخيل حتى يزهو، وعن بيع السنبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 حتى يبيض ويأمن العاهة؛ نهى البائع والمشتري"؛ فدل هذا الحديث على منع بيع الزرع حتى يبدو صلاحه، وبدو صلاحه أن يبيض ويشتد ويأمن العاهة. والحكمة في النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وعن بيع الزرع قبل اشتداد حبه؛ لأنه في تلك الفترة معرض للآفات غالبا، معرض للتلف؛ كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة؛ بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ "، وقال في السنبل: "حتى يبيض ويأمن العاهة"، والعاهة هي الآفة التي تصيبه فيفسد، وفي ذلك رحمة بالناس، وحفظ لأموالهم، وقطع للنزاع الذي قد يفضي إلى العداوة والبغضاء. ومن هنا ندرك حرمة مال المسلم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن منع الله الثمرة؛ بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ "؛ ففي هذا تنبيه وزجر للذين يحتالون على الناس لاقتناص أموالهم بشتى الحيل؛ كما أن في الحديث حثا للمسلم على حفظ ماله وعدم إضاعته؛ حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم المشتري أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها وغلبة السلامة عليها؛ لأنها لو تلفت وقد بذل فيها ماله؛ لضاع، وصعب استرجاعه من البائع أو تعذر. كما نفهم من الحديث الشريف تعليق الحكم بالغالب؛ لأن الغالب على الثمرة قبل بدو صلاحها التلف؛ فلا يجوز بيعها، والغالب عليها بعد بدو صلاحها السلامة؛ فيجوز بيعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ونأخذ من الحديث أيضا أنه لا يجوز للإنسان أن يخاطر بماله ويعرضه للضياع، ولو عن طريق المعاوضة غير المأمونة العاقبة. وحيث علمنا مما سبق أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ فإنما يعني ذلك إذا بيعت منفردة عن أصولها بشرط البقاء. أما إذا كانت تابعة لأصولها أو بغير شرط البقاء؛ فإن ذلك يجوز؛ وذلك على ثلاث صور ذكرها الفقهاء رحمهم الله: الصورة الأولى: إذا بيع الثمر قبل بدو صلاحه بأصوله؛ بأن يبيع الثمر مع الشجر، فيصح ذلك، ويدخل الثمر تبعان وكذا إذا باع الزرع الأخضر مع أرضه؛ جاز ذلك، ودخل الزرع الأخضر تبعا. الصورة الثانية: إذا بيع الثمر قبل بدو صلاحه أو الزرع الأخضر لمالك الأصل؛ أي: مالك الشجر أو مالك الأرض؛ جاز ذلك أيضا؛ لأنه إذا باعها لمالك الأصل؛ فقد حصل التسليم للمشتري على الكمال لملكه الأصل والقرار، فصح البيع؛ على خلاف في هذه الصورة؛ لأن بعض العلماء يرى أن هذه الصورة تدخل في عموم النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه. الصورة الثالثة: بيع الثمر قبل بدو صلاحه والزرع قبل اشتداد حبه بشرط القطع في الحال، وكان يمكن الانتفاع بهما إذا قطعا؛ لأن المنع من البيع لخوف التلف وحدوث العاهة، وهذا مأمون فيما يقطع في الحال، أما إذا لم ينتفع بهما إذا قطعا؛ فإنه لا يصح بيعهما؛ لأن ذلك إفساد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وإضاعة للمال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. ويجوز على الصحيح من قولي العلماء بيع ما يتكرر أخذه كالقت والبقل والقثاء والباذنجان؛ فيجوز بيع لقطته وجزته الحاضرة والمستقبلة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم، بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، فيجوز بيع المقاثي دون أصولها". وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وإنما نهى عن بيع الثمار التي يمكن تأخير بيعها حتى يبدو صلاحها، فلم تدخل المقاثي في نهيه" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 باب في وضع الجوائح الجوائح جمع جائحة، وهي الآفة التي تصيب الثمار فتهلكها، مأخوذة من الجوح وهو الاستئصال. فإذا بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها، حيث يجوز بيعها عند ذلك، فأصيبت بآفة سماوية أتلفتها، والآفة السماوية هي ما لا صنع للآدمي فيها؛ كالريح والحر والعطش، والمطر، والبرد، والجراد ... ونحو ذلك من الآفات القاهرة التي تأتي على الثمار فتتلفها، فإذا كانت هذه الثمرة التالفة قد بيعت ولم يتمكن المشتري من أخذها حتى أصيبت وتلفت؛ فإن المشتري يرجع على البائع، ويسترد الثمن الذي دفعه له؛ لحديث جابر رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح "، رواه مسلم، فدل هذا الحديث على أن الثمرة التالفة تكون من ملك البائع، وأنه لا يستحق على المشتري من ثمنها شيئا، فإن تلفت كلها؛ رجع المشتري بالثمن كله، وإن تلف بعضها؛ رجع المشتري على البائع فيما يقابله من الثمن؛ لعموم الحديث، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وسواء كان البيع قبل بدو الصلاح أو بعده، لعموم الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ "، وإذا كان التالف يسيرًا لا ينضبط؛ فإنه يفوت على المشتري، ولا يكون من مسؤولية البائع، لأن هذا مما جرت به العادة، ولا يسمى جائحة، ولا يمكن التحرز منه؛ كما لو أكل منه الطير أو تساقط في الأرض ونحو ذلك، وحدده بعض العلماء بما دون الثلث، والأقرب أنه لا يتحدد بذلك، بل يرجع فيه إلى العرف؛ لأن التحديد يحتاج إلى دليل. وقد علل العلماء رحمهم الله تضمين البائع جاحة الثمرة؛ بأن قبض الثمرة على رؤوس الشجر بالتخلية قبض غير تام؛ فهو كما لو لم يقبضها. هذا ما يتعلق بتلف الثمرة بجاحة سماوية، أما إذا تلفت بفعل آدمي بنحو حريق؛ فإنه حينئذ يخير المشتري بين فسخ البيع ومطالبة البائع بما دفع من الثمن ويرجع البائع على المتلف فيطالبه بضمان ما أتلف، وبين إمضاء البيع ومطالبة المتلف ببدل ما أتلف. وعلامة بدو الصلاح في غير النخل أي: العلامة التي يعرف بها صلاح الثمرة الذي علق عليه النبي صلى الله عليه وسلم جواز بيعها في غير النخل تختلف باختلاف الشجر؛ فبدو الصلاح في العنب: أن يتمّوه حلوًا؛ لقول أنس: "نهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود"، رواه أحمد ورواته ثقات، وعلامة بدو الصلاح في بقية الثمار كالتفاح والبطيخ والرمان والمشمش والخوخ والجوز ونحو ذلك: أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب"، متفق عليه، وفي لفظ: "حتى يطيب أكله"، وبدو الصلاح في نحو قثاء أن يؤكل عادة، وعلامة بدو الصلاح في الحب أن يشتد ويبيض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اشتداد الحب غاية لصحة بيعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 باب فيما يتبع المبيع وما لا يتبعه هناك أشياء تدخل تبع المبيع، فتكون للمشتري؛ ما لم يستثنها البائع، من ذلك: من باع عبدًا أو دابة؛ تبع المبيع ما على العبد من ثياب العادة، وما على الدابة من اللجام والمقود والنعل؛ فيدخل ما ذكر في مطلق البيع؛ لجريان العادة به، وما لم تجر العادة بتبعيته للمبيع ولم يكن من حاجة المبيع؛ كمال العبد وما عليه من ثياب الجمال؛ فهذا لا يتبع المبيع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدًا وله مال؛ فماله لبائعه؛ إلا أن يشترط المبتاع"، رواه مسلم؛ فدل على أن مال العبد لا يدخل معه في البيع إذا بيع؛ لأن البيع إنما يقع على العبد، والمال زائد عنه؛ فهو كما لو كان له عبدان، فباع أحدهما، ولأن العبد وما له لسيده، فإذا باع العبد بقي المال. فإذا اشترط المشتري دخول المال الذي مع العبد في البيع؛ دخل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا أن يشترط المبتاع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 باب في أحكام السلم السلم أو السلف: هو تعجيل الثمن، وتأجيل المثمن، ويعرفه الفقهاء رحمهم الله بأنه عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد. وهذا النوع من التعامل جائز بالكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} . قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه"، ثم قرأ الآية. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث؛ قال: "من أسلف في شيء" وفي لفظ: "في ثمر"؛ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، متفق عليه، فدل هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 الحديث على جواز السلم بهذه الشروط. وقد حكى ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جوازه. وحاجة الناس داعية إليه؛ لأن أحد المتعاقدين يرتفق بتعجيل الثمن والآخر يرتفق برخص الثمن. ويشترط لصحة السلم شروط خاصة زائدة على شروط البيع: الشرط الأول: انضباط صفة السلعة المسلم فيها؛ لأن ما لا يمكن ضبط صفاته مختلف كثيرًا، فيفضي إلى المنازعة بين الطرفين؛ فلا يصح السلم فيما تختلف صفاته؛ كالبقول، والجلود، والأواني المختلفة، والجواهر. الشرط الثاني: ذكر جنس المسلم فيه ونوعه فالجنس كالبر، والنوع كالسلموني مثلاً، وهو من نوع البر. الشرط الثالث: ذكر قدر المسلم فيه بكيل أو وزن أو ذرع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء؛ فليسلف فيكيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، متفق عليه، ولأنه إذا جهل مقدار المسلم فيه؛ تعذر الاستيفاء. الشرط الرابع: ذكر أجل معلوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلى أجل معلوم"، وقوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فدلت الآية الكريمة والحديث الشريف على اشتراط التأجيل في السلم، وتحديد الأجل بحد يعلمه الطرفان. الشرط الخامس: أن يوجد المسلم فيه غالبا في وقت حلول أجله؛ ليمكن تسليمه في وقته، فإن كان المسلم فيه لا يوجد في وقت الحلول؛ لم يصح السلم؛ كما لو أسلم في رطب وعنب إلى الشتاء. الشرط السادس: أن يقبض الثمن تاما معلوم المقدار في مجلس العقد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم ... " الحديث، أي: فليعط. قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه، ولأنه إذا لم يقبض الثمن في المجلس؛ صار بيع دين بدين وهذا لا يجوز". الشرط السابع: أن يكون المسلم فيه غير معين، بل يكون دينا في الذمة؛ فلا يصح السلم في دار وشجرة؛ لأن المعين قد يتلف قبل تسليمه، فيفوت المقصود، ويكون الوفاء وتسليم السلعة المسلم فيها في مكان العقد إن كان يصلح لذلك، فإن كان لا يصلح، كما لو عقدا في بر أو بحر؛ فلا بد من ذكر مكان الوفاء، وحيث تراضيا على مكان التسليم؛ جاز ذلك، وإن اختلفا؛ رجعنا إلى محل العقد حيث كان يصلح لذلك كما سبق. ومن أحكام السلم: أنه لا يجوز بيع السلعة المسلم فيها قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 قبضها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه، ولا تصح الحوالة عليه؛ لأن الحوالة لاتصح إلا على دين مستقر، والسلم عرضة للفسخ. ومن أحكام السلم: أنه إذا تعذَّر وجود المسلم فيه وقت الحلول؛ كما لو أسلم في ثمرة، فلم تحمل الشجر تلك السنة؛ فلرب السلم الصبر إلى أن يوجد المسلَّم فيه فيطالب به، أو الفسخ ويطالب برأس ماله؛ لأن العقد إذا زال وجب رد الثمن، فإن كان الثمن تالفا؛ رد بدله إليه، والله أعلم. وإباحة هذه المعاملة من يسر هذه الشريعة الإسلامية وسماحتها؛ لأن في هذه المعاملة تيسيرًا على الناس وتحقيقا لمصالحهم، مع خلوها من الربا وسائر المحذورات؛ فلله الحمد على تيسيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 أبواب باب في أحكام القرض القرض لغة: القطع؛ لأن المقرض يقطع شيئا من ماله يعطيه للمقترض، وتعريفه شرعا: أنه دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله. وهو من باب الإرفاق وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة؛ لأنه ينتفع به المقترض، ثم يعيده إلى المقرض. والإقراض مستحب وفيه أجر عظيم؛ قالصلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة"، رواه ابن ماجه. وقد قيل: إن القرض أفضل من الصدقة؛ لأنه لا يقترض إلا محتاج، وفي الحديث الصحيح: "من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 فالقرض فعل معروف، وفيه تفريج للضائقة عن المسلم، وقضاء لحاجته. وليس الاقتراض من المسألة المكروهة؛ فقد اقترض النبي صلى الله عليه وسلم. ويشترط لصحة القرض أن يكون المقرض ممَّن يصح تبرعه؛ فلا يجوز لولي اليتيم مثلاً أن يقرض من مال اليتيم، وكذلك يشترط معرفة قدر المال المدفوع في القرض، ومعرفة صفته؛ ليتمكن من رد بدله إلى صاحبه؛ فالقرض يصبح دينا في ذمة المقترض، يجب عليه رده إلى صاحبه عندما يتمكن من ذلك من غير تأخير. ويحرم على المقرض أن يشترط على المقترض زيادة في القرض؛ فقد أجمع العلماء على أنه إذا شرط عليه زيادة، فأخذها؛ فهو ربا؛ فما تفعله البنوك اليوم من الإقراض بالفائدة ربا صريح، سواء كان قرضا استهلاكيا أو إنمائيا كما يسمونه؛ فلا يجوز للمقرض سواء كان بنكا أو فردًا أو شركة أن يأخذ زيادة في القرض مشترطة، بأي اسم سمى هذه الزيادة، وسواء سميت هذه الزيادة ربحا أو فائدة أو هدية أو سكن دار أو ركوب سيارة، ما دام أن هذه الزيادة أو هذه الهدية أو هذه المنفعة جاءت عن طريق المشارطة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وفي الحديث: "كل قرض جر نفعا؛ فهو ربا"، وفي الحديث عن أنس مرفوعا: "إذا أقرض أحدكم قرضا، فأهدى إليه، أو حمله على الدابة؛ فلا يركبها، ولا يقبله؛ إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك"، رواه ابن ماجه، وله شواهد كثيرة، وقد ثبت عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه؛ أنه قال: "إذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن؛ فلا تأخذه؛ فإنه ربا"، وهذا له حكم الرفع؛ فلا يجوز لمقرض قبول هدية ولا غيرها من المنافع من المقترض إذا كان هذا بسبب القرض؛ للنهي عن ذلك، ولأن القرض إنما هو عقد إرفاق بالمحتاج، وقربة إلى الله؛ فإذا شرط فيه الزيادة أو تحراها وقصدها وتطلع إليها؛ فقد أخرج القرض عن موضوعه الذي هو التقرب إلى الله بدفع حاجة المقترض إلى الربح من المقترض؛ فلا يصير قرضا. فيجب على المسلم أن ينتبه لذلك ويحذر منه ويخلص النية في القرض وفي غيره من الأعمال الصالحة؛ فإن القرض ليس القصد منه النماء الحسي، وإنما القصد منه النماء المعنوي، وهو التقرب إلى الله؛ بدفع حاجة المحتاج، واسترجاع رأس المال، فإذا كان هذا هو القصد في القرض؛ فإن الله ينزل في المال البركة والنماء الطيب. هذا؛ وينبغي أن يُعلم أن الزيادة الممنوع أخذها في القرض هي الزيادة المشترطة؛ كأن يقول: أقرضك كذا وكذا بشرط أن ترد علي المال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 بزيادة كذا وكذا، أو أن تسكنني دارك أو دكانك، أو تهدي إلي كذا وكذا، أو لا يكون هناك شرط ملفوظ به، ولكن هناك قصد للزيادة وتطلع إليها؛ فهذا هو الممنوع المنهي عنه. أما لو بذل المقترض الزيادة من ذات نفسه، وبدافع منه، بدون اشتراط من المقرض، أو تطلع وقصد؛ فلا مانع من أخذ الزيادة حينئذ؛ لأن هذا يعتبر من حسن القضاء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرًا فرد خيرًا منه، وقال: "خيركم أحسنكم قضاء"، وهذا من مكارم الأخلاق المحمودة عرفا وشرعا، ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعا؛ لأنه لم يكن مشروطا في القرض من المقرض ولا متواطأ عليه، وإنما ذلك تبرع من المستقرض. وكذلك إذا بذل المقترض للمقرض نقعا معتادًا بينهما قبل القرض؛ بأن كان من عادة المقترض بذل هذا النفع، ولم يكن الدافع إليه هو القرض؛ فلا مانع من قبوله؛ لانتفاء المحذور. ثم إنه يجب على المقترض الاهتمام بأداء ما عليه من دين القرض ورده إلى صاحبه؛ من غير مماطلة ولا تأخير حينما يقدر على الوفاء؛ لقول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَانُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وبعض الناس يتساهل في الحقوق عامة، وفي شأن الديون خاصة، وهذه خصلة ذميمة، جعلت كثيرًا من الناس يحجمون عن بذل القروض والتوسعة على المحتاجين، مما قد يلجئ المحتاج إلى الذهاب إلى بنوك الربا والتعامل معها بما حرم الله؛ لأنه لا يجد من يقرضه قرضا حسنا، حتى ضاع المعروف بين الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 باب في أحكام الرهن الرهن لغة: يراد به الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن؛ أي: راكد. والرهن شرعا: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها؛ أي: جعل عين مالية وثيقة بدين. والرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . وقد توفى النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة. وأجمع العلماء على جواز الرهن في السفر، والجمهور أجازوه أيضا في الحضر. والحكمة في مشروعيته: حفظ الأموال، والسلامة من الضياع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وقد أمر الله بتوثيق الدين بالكتاب؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . وهذا من رحمة الله بعباده، حيث يرشدهم إلى ما فيه خيرهم. ويشترط لصحة الرهن معرفة قدره وجنسه وصفته، وأن يكون الراهن جائز التصرف، مالكا للمرهون، أو مأذونا له فيه. ويجوز للإنسان أن يرهن مال نفسه على دين غيره. ويشترط في العين المرهونة أن تكون مما يصح بيعه؛ ليتمكن من الاستيفاء من الرهن. ويصح اشتراط الرهن في صلب العقد، ويصح بعد العقد؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ؛ فجعله الله سبحانه بدلاً من الكتابة، والكتابة إنما تكون بعد وجوب الحق. والرهن يلزم من جانب الراهن فقط؛ لأن الحظ فيه لغيره، فلزم من جهته، ولا يلزم من جانب المرتهن؛ فله فسخه؛ لأن الحظ فيه له وحده. ويجوز أن يرهن نصيبه من غير مشتركة بينه وبين غيره؛ لأنه يجوز بيع نصيبه عند حلول الدين، ويوفي منه الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ويجوز رهن المبيع على ثمنه؛ لأن ثمنه دين في الذمة، والمبيع ملك للمشتري؛ فجاز رهنه به، فإذا اشترى دارًا أو سيارةً مثلاً بثمن مؤجل أو حال لم يقبض؛ فله رهنها حتى يسدد له الثمن. ولا ينفذ تصرف أحد الطرفين المرتهن والراهن في العين المرهونة إلا بإذن الطرف الآخر؛ لأنه إذا تصرف فيها بغير إذنه؛ فوت عليه حقه؛ لأن تصرف الراهن يبطل حق المرتهن في التوثيق، وتصرف المرتهن تصرف في ملك غيره. أما الانتفاع بالرهن؛ فحسبما بتفقان عليه: فإن اتفقا على تأجيره أو غيره؛ جاز، وإن لم يتفقا؛ بقى معطلاً حتى يفك الرهن. ويمكَّن الراهن من عمل ما فيه إصلاح للرهن؛ كسقي الشجر، وتلقيحه ومداواته؛ لأن ذلك مصلحة للرهن. ونماء الرهن المتصل كالسمن وتعلم الصنعة، ونماؤه المنفصل كالولد والثمرة والصوف وكسبه: ملحق به، يكون رهنا معه، ويباع معه لوفاء الدين، وكذا سائر غلاته؛ لأنها تابعة له، وكذا لو جُنى عليه؛ فأرش الجناية يُلحق بالرهن؛ لأنه بدل جزء منه. ومؤنة الرهن من طعامه وعلف الدواب وعمارته وغير ذلك على الراهن؛ لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه، وعليه غرمه"، رواه الشافعي والدارقطني، وقال: "إسناده حسن صحيح"، ولأن الرهن ملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الراهن؛ فكان عليه نفقته. وعلى الراهن أيضا أجرة المخزن الذي يودع فيه المال المرهون وأجرة حراسته؛ لأن ذلك يدخل ضمن الإنفاق عليه، وكذا أجرة رعي الماشية المرهونة. وإن تلف بعض الرهن وبقى بعضه؛ فالباقي رهن بجميع الدين؛ لأن الدين كله متعلق جميع أجزاء الرهن، فإذا تلف البعض؛ بقى البعض الآخر رهنا بجميع الدين. وإن وفّى بعض الدين؛ لم ينفك شيء من الرهن حتى يسدده كله؛ فلا ينفك منه شيء حتى يؤدي جميع الدين. وإذا حل الدين الذي به رهن وجب على المدين تسديده كالدين الذي لا رهن به؛ لأن هذا مقتضى العقد بينهما، قال الله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه} ، فإن امتنع عن الوفاء؛ صار مماطلاً، وحينئذ يجبره الحاكم على وفاء الدين، فإن امتنع؛ حبسه وعزره حتى يوفي ما عليه من الدين من عنده، أو يبيع الرهن ويسدد من قيمته، فإن امتنع؛ فإن، الحاكم يبيع الرهن، ويوفي الدين من ثمنه؛ لأنه حق وجب على المدين، فقام الحاكم مقامه عند امتناعه، ولأن الرهن وثيقة للدين ليباع عند حلوله، وإن فضل من ثمنه شيء عن الدين؛ فهو لمالكه، يرد عليه؛ لأنه ماله، وإن بقى من الدين شيء لم يغطه ثمن الرهن؛ فهو في ذمة الراهن، يجب عليه تسديده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 ومن أحكام الرهن أنه إذا كان حيوانا يحتاج إلى نفقة، وكان في قبضة المرتهن؛ فإن الشارع الحكيم رخص له أن يركبه وينفق عليه إن كان يصلح للركوب، ويحلبه وينفق عليه إن كان يصلح للحلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة"، رواه البخاري؛ أي: ويحب على الذي يركب الظهر ويشرب اللبن النفقة في مقابلة انتفاعه، وما زاد عما يقابل النفقة من المنفعتين يكون لمالكه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "دل الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أن الحيوان المرهون محترم في نفسه لحق الله تعالى، وللمالك فيه حق الملك، وللمرتهن حق الوثيقة، فإذا كان بيده، فلم يحلبه؛ ذهب نفعه باطلاً، فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة، فإذا استوفى المرتهن منفعته، وعوض عنها نفقة، كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين" انتهى. قال بعض الفقهاء رحمهم الله: "الرهن قسمان: ما يحتاج إلى مؤنة، وما لا يحتاج إلى مؤنة. وما يحتاج إلى مؤنة نوعان: حيوان مركوب ومحلوب؛ تقدم حكمه. ما ليس بمركوب ولا محلوب؛ كالعبد والأمة؛ فهذا النوع لا يجوز للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 مالكه، فإذا أذن له مالكه أن ينفق عليه وينتفع به في مقابلة ذلك؛ جاز؛ لأنه نوع معاوضة. والقسم الثاني: ما لا يحتاج إلى مؤنة؛ كالدار والمتاع ونحوه، وهذا النوع لا يجوز للمرتهن أن ينتفع به؛ إلا بإذن الراهن أيضا؛ إلا إن كان الرهن بدين قرض؛ فلا يجوز للمرض أن ينتفع به كما سبق؛ لئلا يكون قرضا جر نفعا، فيكون من الربا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 باب في أحكام الضمان ومن التوثيقات الشرعية للديون الضمان، وهو مأخوذ من الضمن؛ لأن ذمة الضامن صارت في ضمن ذمة المضمون عنه، وقيل: مشتق من التضمن؛ لأن ذمة الضمان تتضمن الحق المضمون، وقيل: مشتق من الضم؛ لضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فيثبت الحق في ذمتيهما جميعا. ومعنى الضمان شرعا: التزام ما وجب على غيره، مع بقائه على مضمون عنه، والتزام ما قد يجب أيضا؛ كأن يقول: ما أعطيت فلانا؛ فهو علي. والضمان جائز بالكتاب والسنة والإجماع: قال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ؛ أي: ضامن. وروى الإمام الترمذي مرفوعاً: "الزعيم غارم أي ضامن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وقد أجمع العلماء على جواز الضمان في الجملة. والمصلحة تقتضي ذلك، بل قد تدعو الحاجة والضرورة إليه، وهو من التعاون على البر والتقوى، ومن قضاء حاجة المسلم، وتنفيس كربته. ويشترط لصحته: أن يكون الضامن جائز التصرف؛ لأنه تحمل مال؛ فلا يصح من صغير ولا سفيه محجور عليه، ويشترط رضاه أيضا، فإن أكره على الضمان؛ لم يصح لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضى كالتبرع بالأموال. والضمان عقد يقصد به نفع المضمون وإعانته؛ فلا يجوز أخذ العوض عليه، ولأن أخذ العوض عليه، ولأن أخذ العوض على الضمان يكون كالقرض الذي جر نفعا؛ فالضمان يلزم أداء الدين عن المضمون عند مطالبته بذلك، فإذا أداه للمضمون له؛ فإنه سيسترده من المضمون عنه على صفة القرض، فيكون قرضا جر نفعا، فيجب الابتعاد عن مثل هذا، وأن يكون الضمان مقصودًا به التعاون والإرفاق، لا الاستغلال وإرهاق المحتاج. ويصح الضمان بلفظ: أنا ضمين، أو: أنا قبيل، أو: أنا حميل، أو: أنا زعيم، وبلفظ: تحملت دينك، أو: ضمنته، أو: هو عندي، وبكل لفظ يؤدي معنى الضمان؛ لأن الشارع لم يحد ذلك بعبارة معينة، فيرجع فيه إلى العرف. ولصاحب الحق أن يطالب من شاء من الضامن أو المضمون؛ لأن حقه ثابت في ذمتهما؛ فملك مطالبة من شاء منهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 "الزعيم غارم"، رواه أبو دواد والترمذي وحسنه، الزعيم هو الضامن، والغارم معناه الذي يؤدي شيئا لزمه، وهذا قول الجمهور. وذهب بعض العلماء إلى أن صاحب الحق لا يجوز له مطالبة الضامن؛ إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه؛ لأن الضمان فرع، ولا يصار إليه إلا إذا تعذر الأصل، لأن الضمان توثيق للحق كالرهن لا يستوفى منه الحق إلا عند تعذر الاستيفاء من الراهن، ولأن مطالبة الضامن مع وجود المضمون عنه ويسرته فيها استقباح من الناس؛ لأن المعهود عندهم أنه لا يطالب لضامن إلا عند تعذر مطالبة المضمون عنه أو عجزه عن التسديد، هذا هو المتعارف عند الناس. هذا معنى ما ذكره الإمام ابن القيم، وقال: "هذا القول في القوة كما ترى". ومن مسائل الضمان أن ذمة الضامن لا تبرأ إلا إذا برئت ذمة المضمون عنه من الدين بإبراء أو قضاء؛ لأن ذمة الضامن فرع عن ذمة المضمون وتبع لها، ولأن الضمان وثيقة، فإذا برئ الأصل؛ زالت الوثيقة؛ كالرهن. ومن مسائل الضمان أنه يجوز تعدد الضامنين، فيجوز أن يضمن الحق اثنان فأكثر، سواء ضمن كل واحد منهما جميعه أو جزءًا منه، ولا يبرأ أحد منهم إلا ببراءة الآخر، ويبرؤون جميعا ببراءة المضمون عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ومن مسائل الضمان أنه لا يشترط في صحته معرفة الضامن للمضمون عنه، كأن يقول: من استدان منك؛ فأنا ضمين، ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون له؛ لا يشترط رضى المضمون له والمضمون عنه؛ فلا يشترط معرفتهما. ومن مسائل الضمان أنه يصح ضمان المعلوم وضمان المجهول إذا كان يؤول إلى العلم؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ؛ لأن حمل البعير غير معلوم؛ لكنه يؤول إلى العلم، فدلت الآية على جوازه. ومن مسائل الضمان أنه يصح عهدة المبيع العهدة هي الدرك؛ بأن يضمن الثمن إذا ظهر المبيع مستحقا لغير البائع. ومن مسائل الضمان أنه يجوز ضمان ما يجب على الشخص؛ كأن يضمن ما يلزم من دين ونحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 باب في أحكام الكفالة الكفالة هي التزام إحضار من عليه حق مالي لربه. فالعقد في الكفالة واقع على بدن المكفول، ببدن من عليه حد؛ لأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء بالشبهات؛ فلا يدخل فيها الاستيثاق، ولا تصح الكفالة ببدن من عليه قصاص؛ لأنه لا يمكن استيفاءه من غير الجاني، ولا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول. ويشترط لصحة الكفالة أن تكون برضى الكفيل؛ لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه. ويبرأ الكفيل بموت المكفول المتعذر إحضاره، ويبرأ كذلك بتسليم المكفول نفيه لرب الحق في محل التسليم وأجله؛ لأنه أتى بما يلزم الكفيل، وإذا تعذر إحضار المكفول مع حياته أو غاب ومضى زمن يمكن إحضاره فيه؛ فإن الكفيل يضمن ما عليه من الدين؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 "الزعيم غارم". ومن مسائل الكفالة: أنه يجوز ضمان معرفة الشخص، كما لو جاء إنسان ليستدين من إنسان، فقال: أنا لا أعرفك فلا أعطيك. فقال شخص آخر: أنا أضمن لك معرفته؛ أي: أعرفك من هو وأين هو؛ فإنه يلزم بإحضاره إذا غاب، ولا يكفي أن يذكر اسمه ومكانه، فإن عجز عن إحضاره مع حياته؛ ضمن ما عليه؛ لأنه هو الذي دفع الدائن أن يعطيه ماله بتكفله لمعرفته، فكأنه قال: ضمنت لك حضور متى أردت، فصار ذلك كما لو قال: تكفلت لك ببدنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 باب في أحكام الحوالة الحوالة لغه: مشتقة من التحول؛ لأنها تحول الدين من ذمة إلى ذمة أخرى، ومن ثم عرفها الفقهاء بأنها نقل دين من ذمة إلى ذمة أخرى. وهي ثابتة بدليل السنة والإجماع: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتبع أحدكم على مليء؛ فليتبع"، وفي لفظ: "من أحيل بحقه على مليء؛ فليحتل". قد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ثبوتها. وفيها إرفاق بين الناس، وتسهيل لسبل معاملاتهم، وتسامح، وتعاون على قضاء حاجاتهم، وتسديد ديونهم، وتوفير راحتهم. وقد ظن بعض الناس أن الحوالة على غير وفق القياس؛ لأنها بيع دين بدين، وبيع الدين بالدين ممنوع، لكنه جاز في الحوالة على غير وفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 القياس، وقد رد هذا العلامة ابن القيم، وبين أنها جارية على وفق القياس؛ لأنها من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع. قال: "وإن كانت بيع دين بدين؛ فلم ينه الشارع عن ذلك، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه؛ فإنها اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه" انتهى. ولا تصح الحوالة إلا بشروط: الشرط الأول: أن تكون على دين مستقر في ذمة المحال عليه؛ لأن مقتضاها إلزام المحال عليه بالدين، وإذا كان هذا الدين غير مستقر؛ فهو عرضة للسقوط؛ فلا تثبت الحوالة عليه؛ فلا تصح الحوالة على ثمن مبيع فى مدة الخيار، ولا تصح الحوالة من الابن على أبيه إلا برضاه. الشرط الثاني: اتفاق الدينين المحال به والمحال عليه؛ أي: تماثلهما في الجنس؛ كدراهم، وتماثلهما في الوصف؛ كأن يحيل بدراهم مضروبة على دارهم مضروبة، ونقود سعودية مثلاً على نقود سعودية مثلها، وتماثلهما في الوقت؛ أي: في الحلول والتأجيل، فلو كان أحد الدينين حالا والآخر مؤجلاً، أن أحدهما يحل بعد شهر والآخر يحل بعد شهرين؛ لم تصح الحوالة، وتماثل الدينين في المقدار؛ فلا تصح الحوالة بمئة مثلاً على تسعين ريالاً؛ لأنها عقد إرفاق؛ كالقرض، فلو جاز التفاضل فيها؛ لخرجت عن موضوعها وهو الإرفاق إلى طلب الزيادة بها، وهذا لا يجوز كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 لا يجوز في القرض، لكن لو أحال ببعض ما عليه من الدين، أو أحال على بعض ما له من الدين؛ جاز ذلك، ويبقى الزائد بحاله لصاحبه. الشرط الثالث: رضى المحيل؛ لأن الحق عليه؛ فلا يلزمه أن يسدده عن طريق الحوالة، ولا يشترط رضى المحال عليه؛ كما لا يشترط أيضا رضى المحتال إذا أحيل على مليء غير مماطل، بل يجبر على قبول الحوالة، ومطالبة المحال عليه بحقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء؛ فليتبع"، متفق عليه، وفي لفظ: "من أحيل على مليء، فليحتل"؛ أي: ليقبل الحوالة، والمليء هو القادر على الوفاء، الذي لا يعرف بمماطلة، فإن كان المحال عليه غير مليء؛ لم يلزم المحال قبول الحوالة عليه؛ لما في ذلك من الضرر عليه. وبهذه المناسبة؛ فالنصيحة لمن عليهم حقوق للناس وعندهم المقدرة على تسديدها أن يبادروا بإبراء ذممهم بأدائها لأصحابها أو لمن أحيل عليهم بها، وأن لا يلطخوا سمعتهم بالمماطلة والمراوغة؛ فكثيرًا ما نسمع التظلمات من أصحاب الحقوق بسبب تأخير حقوقهم وتساهل المدينين بتسديدها من غير عذر شرعي، كما أننا كثيرًا ما نسمع مماطلة الأغنياء بتسديد الحوالات الموجهة إليهم، وإتعاب المحالين، حتى أصبحت الحوالة شبحا مخيفا، ينفر منها كثير من الناس؛ بسبب ظلم الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وإذا صحت الحوالة؛ بأن اجتمعت شروطها المذكورة؛ فإن الحق ينتقل بها من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وتبرأ ذمة المحيل من هذا الحق؛ لأن معناها تحويل الحق من ذمة، فلا يسوغ للمحال أن يرجع إلى المحيل؛ لأن حقه انتقل إلى غيره، فعليه أن يصرف وجهته وطالبته إلى المحال عليه، فيستوفي منه أو يصطلح معه على أي شكل في نوعية الاستيفاء؛ فالحوالة الشرعية وفاء صحيح وطريق مشروع، وفيها تيسير على الناس إذا استغلت استغلالاً صحيحا واستعملت استعمالاً حسنا ولم يكن فيها مخادعة ولا مراوغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 باب في أحكام الوكالة الوكالة بفتح الواو وكسرها: التفويض، تقول: وكلت أمري إلى الله؛ أي: فوضته إليه، واصطلاحا: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة. وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} ، وقال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْض} ، وقال تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} . ووكل صلى الله عليه وسلم عروة بن الجعد في شراء الشاة، وأبا رافع تزجه صلى الله عليه وسلم ميمونة، وكان يبعث عماله الزكاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ذكر الموفق وغيره إجماع الأمة على جواز الوكالة في الجملة، والحاجة داعية إليها، إذ لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه بنفسه. ما تنعقد به الوكالة: تنعقد الوكالة بكل قول يدل على الإذن؛ ك: افعل كذا، أو أذنت لك في فعل كذا. ويصح القبول على الفور وعلى الترخي بكل قول أو فعل يدل على القبول؛ لأن قبول وكلائه عليه الصلاة والسلام كان متراخيا عن توكيله إياهم. وتصح الوكالة مؤقتة ومعلقة بشرط؛ كأن يقول: أنت وكيلي شهرًا، وكقوله: إذا تمت إجازة داري؛ فبعها. ويعتبر تعيين الوكيل؛ فلا تنعقد بقوله: وكلت أحد هذين، أو بتوكيل من لا يعرفه. ما يصح التوكيل فيه: يصح التوكيل في كل ما تدخله النيابة من حقوق الآدميين من العقود والفسوخ؛ فالعقود مثل البيع والشراء والإجارة والقرض والمضاربة، والفسوخ كالطلاق والخلع والعتق والإقالة، وتصح الوكالة في كل ما تدخله النيابه من حقوق الله من العبادات؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 كتفريق الصدقة، وإخراج الزكاة، والنذر، والكفارة، والحج، والعمرة؛ لورود الأدلة بذلك. وأما ما لا تدخله النيابة من حقوق الله تعالى؛ فلا يصح التوكيل فيه، هو العبادات البدنية؛ كالصلاة والصوم والطهارة من الحدث؛ لأن ذلك يتعلق ببدن من هو عليه. وتصح الوكالة في إثبات الحدود واستيفائها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها"، متفق عليه. وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه؛ إلا في مسائل، وهي: الأولى: إذا أجاز له الموكل ذلك؛ بأن يقول: وكل إذا شئت، أو يقول: اصنع ما شئت. الثانية: إذا كان العمل الموكل فيه لا يتولاه مثله؛ لكونه من أشراف الناس المترفعين عن مثل ذلك العمل. الثالثة: إذا عجز عن العمل الذي وكل فيه. الرابعة: إذا كان لا يحسن العمل الذي وكل فيه. وفي هذه الأحوال لا يجوز له أن يوكل إلا أمينا؛ لأنه لم يؤذن له في توكيل من ليس بأمين. والوكالة عقد جائز من الطرفين؛ لأنها من جهة الموكل إذن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ومن جهة الوكيل بذل نفع، وكلاهما غير لازم؛ فلكل واحد منهما فسخها في أي وقت شاء. مبطلات الوكالة: تبطل الوكالة بفسخ أحدهما أو موته أو جنونه المطبق؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة والعقل، فإذا انتفيا؛ انتفت صحتها، وتبطل بعزل الموكل للوكيل، وتبطل بالحجر على السفيه وكيلاً كان أو موكلاً؛ لزوال أهلية التصرف. ما يجوز فيه التوكيل والتوكل: ومن له التصرف في شيء؛ فله التوكيل والتوكل فيه، ومن لا يصح تصرفه بنفسه؛ فنائبه أولى. ومن وكل في بيع أو شراء؛ لم بيع ولم يشتر من نفسه؛ لأن العرف في البيع بيع الرجل من غيره، ولأنه تلحقه تهمة، وكذا لا يصح بيعه وشراؤه من ولده ووالده وزوجته وسائر من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في حقهم كتهمته في حق نفسه. ما يتعلق بالموكل وما يتعلق بالوكيل من التصرفات: يتعلق بالموكل حقوق العقد من تسليم الثمن وقبض المبيع والرد بالعيب وضمان الدرك، والوكيل في البيع يسلم المبيع ولا يستلم الثمن بغير إذن الموكل أو قرينة تدل على الإذن؛ كما لو باعه في محل يضيع فيه الثمن لو لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 يقبضه، والوكيل في الشراء يسلم الثمن؛ لأنه من تتمته وحقوقه، والوكيل في الخصومة لا يقبض، والوكيل في القبض يخاصم؛ لأنه لا يتوصل إليه إلا بها. ما يلزم الوكيل ضمانه وما لا يلزمه: الوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده من غير تفريط ولا تعد، فإن فرط أو تعدى أو طلب منه المال فامتنع من دفعه لغير عذر؛ ضمن. ويقبل قول الوكيل فيما وكل فيه من بيع وإجارة أنه قبض الثمن والأجرة وتلفا بيده، ويقبل قوله في الثمن والأجرة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 باب في أحكام الحجر إن الإسلام جاء لحفظ الأموال وحفظ حقوق الناس، ولذلك شرع الحجر على من يستحقه؛ حفاظا على أموال الناس وحقوقهم.. والحجر لغة: المنع، ومنه سمي الحرام حجرًا؛ لأنه ممنوع منه، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} ؛ أي: حراما محرما. وسمي أيضا العقل حجرًا، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، أي: عقل؛ لأن العقل يمنع صاحبه من تعاطي ما يقبح وتضر عاقبته. ومعنى الحجر في الشرع: منع إنسان من تصرفه في ماله. ودليله من القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، فدلت الآيتان على الحجر على السفيه واليتيم في ماله؛ لئلا يفسده ويضيعه، وأنه لا يدفع إليه إلا بعد تحقيق رشده فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وقد حجر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة لأجل قضاء ما عليه من الديون. والحجر نوعان: النوع الأول: حجر على الإنسان لأجل حظ غيره؛ كالحجر على المفلس لحظ الغرماء، والحجر على المريض بالوصية بما زاد على ثلث لحظ الورثة. النوع الثاني: حجر على الإنسان لأجل مصلحته هو؛ لئلا يضيع ماله ويفسده؛ كالحجر على الصغير والسفيه والمجنون؛ بدليل قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم} ، قيل: المراد الأولاد والنساء، فلا يعطيهم ماله تبذيرًا، وقيل: المراد السفهاء والصغار والمجانين، لا يعطون أموالهم، لئلا يفسدوها، وأضافها إلى المخاطبين؛ لأنهم الناظرون عليها والحافظون لها. النوع الأول: على الإنسان لحظ غيره: والمراد هنا الحجر على المفلس هو من عليه دين حال لا يتسع له ماله الموجود، فيمنع من التصرف في ماله؛ لئلا يضر بأصحاب الديون. أما المدين المعسر الذي على وفاء شيء من دينه؛ فإنه لا يطالب به، ويجب إنظاره؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وفي فضل إنظار المعسر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يظله الله في ظله؛ فلييسر على معسر". وأفضل من الإنظار إبراء المعسر من دينه؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُم} . أما من له قدرة على وفاء دينه؛ فإنه لا يجوز الحجر عليه؛ لعدم الحاجة إلى ذلك، لكن يؤمر بوفاء ديونه إذا طالب الغرماء بذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم"؛ أي: مطل القادر على وفاء دينه ظلم؛ لأنه منع أداء ما وجب عليه أداؤه من حقوق الناس، فإن امتنع من تسديد ديونه؛ فإنه يسجن. قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "ومن كان قادرًا على وفاء دينه، وامتنع؛ أجبر على وفائه بالضرب والحبس، نص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم"، قال: "ولا أعلم فيه نزاعا" انتهى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وعرضه: شكواه، وعقوبته: حبسه، فالمماطل بقضاء ما عليه من الحق يستحق العقوبة بالحبس والتعزير، ويكرر عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ذلك حتى يوفي ما عليه، فإن أصر على المماطلة؛ فإن الحاكم يتدخل فيبيع ماله ويسدد منه ديونه؛ لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع، ولأجل إزالة الضرر عن الدائنين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". ومما مر يتضح أن المدين له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الدين مؤجلاً عليه؛ فهذا لا يطالب بالدين حتى يحل، ولا يلزمه أداؤه قبل حلوله، وإذا كان ما لديه من المال أقل مما عليه من الدين المؤجل؛ فإنه لا يحجر عليه من أجل ذلك، ولا يمنع من التصرف في ماله. الحالة الثانية: أن يكون الدين حالا؛ فللمدين حينئذ حالتان: الأولى: أن يكون ماله أكثر من الدين الذي عليه؛ فهذا لا يحجر عليه في ماله، ولكن يؤمر برفاء الدين إذا طالب بذلك دائنه، فإن امتنع؛ حبس وعزر حتى يوفي دينه، فإن صبر على الحبس والتعزير، وامتنع من تسديد الدين؛ فإن الحاكم يتدخل ويوفي دينه من ماله ويبيع ما يحتاج إلى بيع من أجل ذلك. الثانية: أن يكون ماله أقل مما عليه من الدين الحال؛ فهذا يحجر عليه التصرف في ماله إذا طالب غرماؤه بذلك؛ لئلا يضربهم؛ لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله"، رواه الدارقطني والحاكم وصححه. وقال ابن الصلاح: "إنه حديث ثابت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وإذا حجر عليه في هذه الحالة؛ فإنه يعلن عنه، وظهر للناس أنه محجور عليه؛ لئلا يغتروا به ويتعاملوا معه، فتضيع أموالهم. ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام: الحكم الأول: أنه يتعلق حق الغرماء بماله الموجود قبل الحجر، وبماله الحادث بعد الحجر؛ بإرث أو أرش جناية أو هبة أو وصية أو غير ذلك، فيلحقه الحجر كالموجود قبل الحجر؛ فلا ينفذ تصرف المحجور عليه في ماله بعد الحجر بأي نوع من أنواع التصرف، ولا يصح إقراره لأحد على شيء من ماله؛ لأن حقوق الغرماء متعلقة بأعيانه، فلم يقبل الإقرار عليه، وحتى قبل الحجر عليه يحرم عليه التصرف في ماله تصرفا يضر بغرمائه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إذا استغرقت الديون ماله؛ لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حجر عليه الحاكم أولم يحجر عليه، هذا مذهب مالك واختيار شيخنا [يريد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله] ، قال: "وهو الصحيح، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأن حق الغرماء قد تعلق بماله، ولهذا يحجر الحاكم عليه، ولولا تعلق حق الغرماء بماله؛ لم يسع الحاكم الحجر عليه، فصار كالمريض مرض الموت، وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا؛ فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها" انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 الحكم الثاني: أن من وجد عين ماله الذي باعه عليه أو أقرضه إياه أو أجره إياه قبل الحجر عليه؛ فله أن يرجع به ويسحبه من عند المفلس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك متعاه عند إنسان أفلس؛ فهو أحق به"، متفق عليه. وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لرجوع من وجد ماله عند المفلس المحجور عليه ستة شروط: الشرط الأول: كون المفلس حيا إلى أن يأخذ ماله منه؛ لما رواه أبو داود؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإن مات؛ فصاحب المتاع أسوة الغرماء". الشرط الثاني: بقاء ثمنها كله في ذمة المفلس، فإن قبض صاحب المتاع شيئا من ثمنه؛ لم يستحق الرجوع به. الشرط الثالث: بقاء العين كلها في ملك المفلس، فإن وجد بعضها فقط؛ لم يرجع به؛ لأنه لم يجد عين ماله، وإنما وجد بعضها. الشرط الرابع: تكون السلعة بحالها، لم يتغيّر شيء من صفاتها. الشرط الخامس: كون السلعة لم يتعلق بها حق الغير؛ بأن لا يكون المفلس قد رهنها ونحو ذلك. الشرط السادس: كون السلعة لم تزد زيادة متصلة كالسمن، فإذا توافرت هذه الشروط؛ جاز لصاحب السلعة أن يسحبها إذا ظهر إفلاس من هي عنده؛ للحديث السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 الحكم الثالث: انقطاع المطالبة عنه بعد الحجر عليه إلى أن ينفك عنه الحجر، فمن باعه أو أقرضه شيئا خلال هذه الفترة؛ طالبه به بعد فك الحجر عنه. الحكم الرابع: أن الحاكم يبيع ماله، ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالَّة؛ لأن هذا هو المقصود من الحجر عليه، وفي تأخير ذلك مطل وظلم لهم، ويترك الحاكم للمفلس ما يحتاج إليه من مسكن ومؤنة ونحو ذلك. أما الدين المؤجل؛ فلا يحل بالإفلاس، ولا يزاحم الديون الحالة؛ لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط؛ كسائر حقوقه، ويبقى في ذمة المفلس، ثم بعد توزيع ماله على أصحاب الديون الحالة، فإن سددها ولم يبق منها شيء؛ انفك عنه الحجر بلا حكم الحاكم؛ لزوال موجبه، وإن بقى عليه شيء من ديونه الحالة؛ فإنه لا ينفك عنه الحجر؛ إلا بحكم الحاكم؛ لأنه هو الذي حكم بالحجر عليه؛ فهو الذي يحكم بفك الحجر عنه. النوع الثاني من أنواع الحجر: وهو الحجر على الإنسان لحظ نفسه بحفظ ماله وتوفيره له؛ لأن هذا الدين دين الرحمة، الذي لم يترك شيئا فيه مصلحة إلا حث على تعاطيه، ولا شيئا فيه مضرة، إلا حذر منه، ومن ذلك أنه أفسح المجال للإنسان الذي فيه أهلية للتصرف ومزاولة التجارة في حدود المباح الكسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الطيب؛ لما في ذلك من المصلحة التي تعود على الفرد والجماعة، أما إذا كان الإنسان غير مؤهل لطلب الكسب ومزاولة التجارة؛ لصغر سنه أو سفهه أو فقدان عقله؛ فإن الإسلام يمنعه من التصرف، ويقيم وصيا يحفظ له ماله وينميه، حتى يزول عنه المانع ثم يسلم ماله موفورًا إليه. قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} إلى قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} . ذلكم هو ما يسمى بالحجر على الإنسان لحظ نفسه؛ لأن المصلحة في ذلك تعود عليه. وهذا النوع من الحجر يعم الذمة والمال؛ فلا يتصرف من انطبق عليه في ماله ببيع ولا تبرع ولا غيرهما، ولا يتحمل في ذمته دينا أو ضمانا أو كفالة ونحوها؛ لأن ذلك يفضي إلى ضياع أموال الناس. ولا يصح تصرف غير السفهاء معهم؛ بأن يعطيهم ماله بيعا أو قرضا أو وديعة أو عارية، ومن فعل ذلك؛ فإنه يسترد ما أعطاهم إن وجده باقيا بعينه، فإن تلف في أيديهم أو أتلفوه؛ فإنه يذهب هدرًا، لا يلزمهم ضمانه؛ لأنه فرط بتسليطهم عليه وتقديمه إليهم برضاه واختياره. أما لو تعدى المحجور عليه "لصغر ونحوه" على نفس أو مال بجناية؛ فإنه يضمن، ويتحمل ما ترتب على جنايته من غرامة، لأن المجني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 عليه لم يفرض ولم يأذن لهم بذلك، والقاعدة الفقهية تقول: إن ضمان الإتلاف يستوي في الأهل وغيره. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "يضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها، لو لم يضمنوا جنايات أيهديهم؛ لأتلف بعضهم أموال بعض، وداعي الخطأ وعدم القصد". ويزول الحجر عن الصغير بأمرين: الأمر الأول: بلوغه سن الرشد. ويعرف ذلك بعلامات: الأولى: إنزاله المني يقظة أو مناما، قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ، والحلم هو أن يرى الطفل في منامه ما ينزل به المني الدافق. الثانية: إنبات الشعر الخشن حول قبله. الثالثة: بلوغه خمس عشرة سنه، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"، متفق عليه، ومعنى أجازني؛ أي: أمضاني للخروج للقتال، فدل على أن بلوغ خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغا، وفي رواية في تعليل منعه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 العرضة الأولى: " قال: ولم يرني بلغت". الرابعة: وتزيد الجارية على الذكر علامة رابعة تدل على بلوغها، وهي الحيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، رواه الترمذي وحسنه. الأمر الثاني من البلوغ: الرشد، وهو الصلاح في المال؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} . ويعرف رشده بأن يمتحن، فيمنح شيئا من التصرف، فإذا تصرف مرارًا، فلم يغبن غبنا فاحشا، ولم يبذل ماله في حرام أو فيما لا فائدة فيه؛ فهذا دليل على رشده. ويزول الحجر عن المجنون بأمرين: الأول: زوال الجنون ورجوع العقل إليه. والثاني: أن يكون رشيدًا كما سبق في حق الصغير إذا بلغ. ويزول عن السفيه: بزوال السفه واتصافه بالرشد في تصرفاته المالية. ويتولى مال كل من هؤلاء الثلاثة الصبي والمجنون والسفيه حال الحجر أبوه إذا كان عدلاً رشيد؛ لكمال شفقته، ثم من بعد الأب وصية؛ لأنه نائبة، فأشبه وكيله في حال الحياة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 ويجب على من يتولى أموالهم ممَّن ذكر أن يتصرف لهم بالأحظ لهم؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ؛ أي: لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بما فيه مصلحة وتنمية له، والآية الكريمة وإن كانت نصت على مال اليتيم؛ فإنها تتناول مال السفيه بالقياس على مال اليتيم. وعلى ولي مال اليتيم ونحوه المحافظة عليه، وعدم إهماله والمخاطرة به أو أكله ظلما، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . وقد وعظ الله أولياء اليتامى بأن يتذكروا حالة أولادهم لو كانوا تحت ولاية غيرهم؛ فكما يحبون أن يحسن إلى أولادهم؛ فليحسنوا هم إلى أولاد غيرهم من اليتامى إذا كانوا تحت ولا يتهم، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} . ولما كان هؤلاء لا يستطيعون حفظ أموالهم وتصريفها بما ينميها لهم؛ أقام الله عليهم أولياء يتولون عنهم ذلك، وينظرون في مصالحهم، وأعطى هؤلاء الأولياء توجيهات يسيرون عليها حال ولا يتهم على هؤلاء، فنهى الأولياء عم إعطاء القصار أموالهم وتمكينهم منها؛ لئلا يفسدوها أويضيعوها. قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاما} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 قال الحافظ بن كثير رحمه الله: "ينهى الله سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما؛ أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هنا يؤخذ الحجر على السفهاء" انتهى. وكما نهى الله عن تمكين هؤلاء القصار من أموالهم، وجعلها تحت ولاية أهل النظر والإصلاح؛ فإنه سبحانه وتعالى يحذر هؤلاء الأولياء من التصرف فيها؛ إلا بما يصلحها وينميها، فيقول سبحانه تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ؛ أي: لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بما فيه غبطة ومصلحة لليتيم. عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "لما أنزل الله تعالى قوله {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ؛ انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفضل الشيء، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {َيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} "؛ قال: "فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم". ومن الإحسان في أموال اليتامى: إشغالها في الاتجار طلبا للربح والنمو، فلوليه الاتجار به، وله دفعه لمن يتجر به مضاربة؛ لأن عائشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 رضي الله عنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، وقال عمر رضي الله عنه: "اتجروا بأموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة". كما أن ولي اليتيم ينفق عليه من ماله بالمعروف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويستحب إكرام اليتيم وإدخال السرور عليه ودفع الإهانة عنه؛ فجبر قلبه من أعظم مصالحه" انتهى. ولولي اليتيم شراء الأضحية له من ماله إذا كان اليتيم موسرًا؛ لأنه يوم سرور وفرح، ولوليه أيضا تعليمه بالآخرة من ماله؛ لأن ذلك من مصالحه. وإذا كان ولي اليتيم فقيرًا؛ فله أن يأكل من مال اليتيم قدر أجرته لقاء ما يقدمه من خدمة لماله، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ أي: ومن كان محتاجا إلى النفقة وهو يحفظ مال اليتيم ويتعاهده؛ {فَلْيَأْكُلْ} منه {بِالْمَعْرُوفِ} . قال الإمام ابن كثير: "نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه، وعن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 في والي اليتيم: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} بقدر قيامه عليه". قال الفقهاء: له أن يأخذ أقل الأمرين أجره مثله أو قدر حاجته، روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندي يتيما عنده مال وليس لي مال؛ أآكل من ماله؟ قال: " كل بالمعروف غير مسرف "، أما ما زاد عن هذا الحد الذي رخص الله فيه؛ فلا يجوز أكله من مال اليتيم؛ فقد توعد الله عليه بأشد الوعيد، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} ، وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} ؛ أي: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . قال الإمام ابن كثير: "أي: إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب؛ فإنما يأكلون نارًا تتأجج في بطونهم يوم القيامة". وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 السبع الموبقات". قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". ثم إنه سبحانه أمر بدفع أموال اليتامى إليهم عندما يزول عنهم اليتم ويتأهلون للتصرف فيها على السداد موفرة كاملة، قال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم} ، وقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ؛ أي: وكفى بالله محاسبا وشاهدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم لأموالهم هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 أبواب باب في أحكام الصلح الصلح في اللغة: قطع المنازعة، ومعناه في الشرع: أنه معاقده يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين. وهو من أكبر العقود فائدة، ولذلك حسن فيه استعمال شيء من الكذب إذا دعت الحاجة إلى ذلك. والدليل على مشروعية الصلح: الكتاب، والسنة، والإجماع: قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وقال {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} . قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا أحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 حراما أو حرم حلالاً"، صححه الترمذي، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم بالإصلاح بين الناس. والصلح الجائز هو الذي أمر الله به ورسوله، وهو ما يقصد به رضى الله تعالى ثم رضى الخصمين. ولا بد أن يكون من يقوم بالإصلاح بين الناس عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدًا للعدل، ودرجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائم القائم، أما إذا خلا الصلح من العدل؛ صار ظلما وهضما للحق، كأن يصلح بين قادر ظالم وضعيف مظلوم بما يرضى به القادر ويمكنه من الظلم ويهضم به حق الضعيف ولا يمكنه من أخذ حقه، والصلح إنما يكون في حقوق المخلوقين التي لبعضهم على بعض مما يقبل الإسقام والمعاوضة، أما حقوق الله تعالى؛ كالحدود والزكاة؛ مدخل للصلح فيها؛ لآن الصلح فيها هو أداؤها كاملة. والصلح بين الناس يتناول خمسة أنواع: النوع الأول: الصلح بين المسلمين أهل الحرب. النوع الثاني: صلح بين أهل العدل وأهل البغي من المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 النوع الثالث: صلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما. النوع الرابع: إصلاح بين متخاصمين في غير المال. النوع الخامس: إصلاح بين متخاصمين في الأموال، وهو المراد هنا. وهذا النوع من الصلح ينقسم إلى قسمين: الأول: صلح عن إقرار. والثاني: صلح عن إنكار. 1والصلح عن الإقرار نوعان: نوع يقع على جنس الحق، ونوع يقع على غير جنسه. فالذي يقع على جنسه مثل ما إذا أقر له بدين معلوم أو بعين مالية في يده، فصالحه على أخذ بعض الدين وإسقاط بقيته، أو على هبة بعض العين وأخذ البعض الآخر. وهذا النوع من الصلح يصح إذا لم يكن مشروطا في الإقرار، كأن يقول من عليه الحق: أقر لك بشرط أن تعطيني أو تعوضني كذا، أو يقول صاحب الحق: أبرأتك أو وهبتك بشرط أن تعطيني كذا، فإن هذا الصلح مشروطا على نحو ما ذكرنا؛ لم لأن صاحب الحق له المطالبة بجميع الحق. ويشترط لصحة هذا النوع من الصلح أيضا: أن لا يمنعه حقه بدونه؛ لأن ذلك أكل لمال الغير بالباطل، وهو محرم، ولأن من عليه الحق يجب دفعه لصاحبه بدون قيد ولا شرط. ويشترط أيضا لهذا النوع من الصلح: أن يكون صاحب الحق ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه؛ لم يصح؛ كما لو كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وليا لمال يتيم أو مجنون؛ لأن هذا تبرع، وهو لا يملكه. والحاصل؛ أنه يجوز المصالحة عن الحق الثابت بشيء من جنسه، شريطة أن لا يمتنع من عليه الحق من أدائه بدون هذا الصلح، وشريطة أن يكون صاحب الحق ممن يصح تبرعه، فإذا توفر ذلك؛ جازت هذه المصالحة؛ لأنها تكون حينئذ من باب التبرع، والإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه؛ كما لا يمنع من استيفائه كله، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ غرماء جابر رضي الله عنه ليضعوا عنه. النوع الثاني من نوعي الصلح عن الإقرار: أن يصالح عن الحق بغير جنسه؛ كما لو اعترف له بدين أو عين، ثم تصالحا على أن يأخذ عن ذلك عوضا من غير جنسه، فإن صالحه عن نقد بنقد آخر من جنسه؛ فهذا صرف تجري عليه أحكام الصرف، وإن صالح عن النقد بغير نقد؛ اعتبر ذلك بيعا تجري عليه أحكام البيع، وإن صالح عنه بمنفعة كسكنى داره؛ اعتبر ذلك إجارة تجري عليها أحكام الأجرة، وإن صالحه عن غير النقد بمال آخر؛ فهو بيع. 2 الصلح عن إنكار، ومعناه: أن يدعي شخص على آخر بعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 له عنده، أو بدين في ذمته له، فيسكت المدعى عليه وهو يجهل المدعى به، ثم يصالح المدعى عن دعواه بمال حال أو مؤجل، فيصح في هذه الحالة في قول أكثر أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا حرم حلالاً، أو أحل حراما"، رواه أبو داود والترمذي وقال: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم. وقد كتب بهذا الحديث عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما، فصلح الاحتجاج به لهذه الاعتبارات. وفائدة هذا النوع من الصلح للمدعى عليه: أنه يفتدي به نفسه من الدعوى واليمين، وفائدته للمدعي إراحته من تكليف إقامة البينة وتفادي تأخير حقه الذي يدعيه. والصلح عن الإنكار يكون في حق حكم البيع؛ لأنه يعتقدة عوضا عن ماله، فلزمه حكم اعتقاده، فكأن المدعي عليه اشتراه منه، فتدخله أحكام البيع من جهته؛ كالرد بالعيب، والأخذ بالشفعة إذا كان مما تدخله الشفعة. وحكم هذا الصلح في حق المدعي عليه: أنه إبراء عن الدعوى؛ لأنه دفع المال افتداء ليمينه وإزالة للضرر عنه وقطعا للخصومة وصيانة لنفسه عن التبذل والمخاصمات؛ لأن ذوي النفوس الشريفة يأنفون من ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 ويصعب عليهم، فيدفعون المال للإبراء من ذلك، فلو وجد فيما صالح به عيبا؛ لم يستحق رده به، ولا يؤخذ بالشفعة؛ لأنه لا يعتقده عوضا عن شيء، وإن كذب أحد المتصالحين في الصلح عن الإنكار؛ كأن يكذب المدعي، فيدعي شيئا يعلم أنه ليس له، أو يكذب المنكر في إنكاره ما ادعي به عليه، وهو يعلم أنه عليه، ويعلم بكذب المنكر في إنكاره، إذا حصل شيء من هذا الكذب من جانب المدعي أو المنكر؛ فالصلح باطل في حق الكاذب منهما باطنا؛ لأنه عالم بالحق، قادر على إيصاله لمستحقه، وغير معتقد أنه محق في تصرفه؛ فما أخذه بموجب هذا الصلح حرام عليه؛ لأنه أخذه ظلما وعدمانا، لا عوضا عن حق يعلمه، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، وإن كان هذا الصلح فيما يظهر للناس صحيح؛ لأنهم لا يعلمون باطن الحال، ولكن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئا عند من لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ فعلى المسلم أن يبتعد عن مثل هذا التصرف السيئ والاحتيال الباطل. ومن مسائل الصلح عن الإنكار: أنه صالح عن المنكر أجنبي بغير أذنه؛ صح الصلح في ذلك؛ لأن الأجنبي يقصد بذلك إبراء المدعي عليه وقطع الخصومة عنه؛ فهو كما لو عنه دينه، لكن لا يطالبه بشيء مما دفع؛ لأنه لا يستحق الرجوع عليه به؛ لأنه متبرع. ويصح الصلح عن الحق المجهول، سواء كان لكل منهما على الآخر أو كان لأحدهما، إذا كان هذا المجهول يتعذر علمه؛ كحساب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 بينهما مضى عليه زمن طويل، ولا علم لكل منهما عما عليه لصاحبه؛ لقول صلى الله عليه وسلم لرجلين اختصما في مواريث درست بينهما: "استهما، وتواخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه"، رواه أبو داود وغيره. ولأنه إسقاط حق، فصح في المجهول للحاجة، ولئلا يفضي إلى ضياع المال أو بقاء شغل الذمة، وأمره صلى الله عليه وسلم بتحليل كل منهما لصاحبه يدل على أخذ الحيطة لبراءة الذمة وعلى عظم حق المخلوق. ويصح الصلح عن القصاص بالدية المحددة شرعا أو قل أو كثر، ولأن المال غير متعين؛ فلا يقع العوض في مقابلته. ولا يصح الصلح عن الحدود؛ لأنها شرعت للزجر، ولأنها حق لله تعالى وحق للمجتمع؛ فالصلح عنها يبطلها، ويحرم المجتمع من فائدتها، ويفسح المجال للمفسدين والعابثين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 باب في أحكام الجوار والطرقات تناول الفقهاء أحكام الجوار وأحكام الطرقات؛ لما لهذا الموضوع من الأهمية البالغة: فقد تعرض مشاكل بين الجيران يجب حلها وحسمه؛ لئلا تفضي إلى النزاع والعداوة، وحلها يكون بطرق: منها: إجراء الصلح بينهم بما يحقق العدل والمصلحة. ومن ذلك: لو احتاج الجار إلى إجراء الماء مع أرض جاره أو سطحه وتصالحا على ذلك بعوض؛ جاز هذا الصلح؛ لدعاء الحاجة إلى ذلك، ثم إن كان هذا العوض في مقبل الانتفاع مع بقاء ملك صاحب الأرض أو السطح عليه؛ فهذا العقد يعتبر إجازة، وإن كان مع زوال الملك؛ اعتبر بيعا. وإذا احتاج إلى ممر في ملك جاره، وبذله له عن طريق البيع أو عن طريق الصلح؛ جاز هذا؛ لدعاء الحاجة إليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 ولا ينبغي للمالك أن يستغل حاجة جاره فيرهقه ببذل العوض أو يمتنع من استخدام هذا الممر فيحرج جاره ويحول بينه وبين مصلحته، وإذا امتد غصن من شجرته في هواء جاره أو في قرار ملكه؛ وجب على مالك الغصن إزالته: إما بقطعه أو ليه إلى ناحية أخرى؛ ليخلي ملك الغير، فإن أبي مالك الغصن أن يعمل شيئا من ذلك؛ فلصاحب الهواء أو القرار أن ضرره بأحد هذه الإجراءات؛ لأنه بمنزلة الصائل، فيدفعه بأسهل ما يمكن، وإن تصالحا على بقاء الغصن؛ جاز ذلك، سواء كان بعوض على الصحيح، أو على أن ثمرته بينهما. حكم العرق إذا حصل في أرض الجار حكم الغصن على ما مر بيانه. ولا يجوز أن يحدث الإنسان في ملكه ما يضر بجاره؛ كحمام أو مخبز. أو مطبخ أو مقهى يتعدى ضرره، أو مصنع يقلق جاره حركاته وأصواته، أو فتح نوافذ تطل على بيت جاره. وإذا كان بينه وبين جاره جدار مشترك؛ حرم أن يتصرف فيه بفتح طاق أو غرز وتد إلا بإذنه، ولا يجوز له وضع الخشب على الجدار المشترك أو الخاص بالجار إلا عند الضرورة، وإذا لم يمكنه التسقيف إلا به، وكان الجدار يتحمل وضع الخشب؛ فحينئذ يمكن من وضع الخشب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن جار جاره أن يضع خشيه على جداره"، ثم يقول أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم"، متفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 عليه، فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز للجار أن يمنع جاره من وضع الخشب في جداره، ويجبره الحاكم إذا امتنع؛ لأنه حق ثابت لجاره بحكم الجوار. هذا بعض ما يتعلق بالجوار من أحكام. أما ما يتعلق في الطرقات: فلا يجوز مضايقة المسلمين في طرقاتهم، بل يجب إفساح الطريق، وإماطة الأذى عنه؛ لأن ذلك من الإيمان؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. يجوز أن يحدث في ملكه ما يضايق الطريق؛ كأن يبني فوق الطرق سقفا يمنع مرور الركبان والأحمال، أو يبني دكة للجلوس عليها. لا يجوز له أن يتخذ موقفا لدابته أو سيارته بطريق المارة؛ لأن ذلك يضيق الطريق، أو يسبب الحوادث. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يجوز لأحد أن يخرج شيئا في طريق المسلمين من أجزاء البناء، حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط؛ إلا أن يدخل رب الحائط منه في حده بقدر غلظه ... " انتهى. ويمنع في الطريق الغرس والبناء والحفر ووضع الحطب والذبح فيها وطرح القمامة والرماد وغير ذلك مما فيه ضرر على المارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 ويجب على المسئولين عن تنظيم البلد من رجال البلديات منع هذه الأشياء ومعاقبة المخالفين بما يردعهم، وقد كثر التساهل في هذا الأمر المهم، فصار كثير من الناس يحتجزون الطرقات لمصالحهم الخاصة، يوقفون فيه سياراتهم، ويضعون فيها الأحجار والحديد والإسمنت لبناياتهم، ويحفرون فيها الحفر، وغير ذلك، والبعض الآخر من الناس يلقي الأذى في الأسواق من الفضلات والنجاسات والقمامات، غير مبالين بمضارة المسلمين، وهذا كله مما حرمه الله ورسوله، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" .... إلى غير ذلك من الأحاديث التي تحث على احترام حقوق المسلمين والامتناع من أذيتهم، ومن أعظم أذية المسلمين مضايقتهم في طرقاتهم وإلقاء العراقيل فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 باب في أحكام الشفعة تعريف الشفعة لغة: الشفعة بإسكان الفاء مأخوذة من الشفع، وهو الزوج؛ لأن الشفيع بالشفعة بضم المبيع إلى ملكه الذي كان منفردًا. والشفعة ثابتة بالسنة الصحيحة، شرعها الله تعالى: سدّا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة. قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "ومن محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد إتيانها بالشفعة؛ فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين مهما أمكن، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب؛ رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وبالشفعة تارة، فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه؛ كان شريكه أحق به من الأجنبي، ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع؛ لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكانت من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع، ومضاد له. وكانت الشفعة معروفة عند العرب في الجاهلية، كان الرجل إذا أراد بيع منزل أو حائطه؛ أتاه الجار والشريك والصاحب إليه فيما باعه، فيشفعه، ويجعله أولى رجل به، فسميت الشفعة، وسمي طالبها شافعا. والشفعة في عرف الفقهاء: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي، فيأخذ الشفيع نصيب شريكه البائع بثمنه الذي استقر عليه العقد في الباطن. فيجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع فيه إلى الشافع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن؛ لما روى أحمد والبخاري عن جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق؛ فلا شفعة". ففي الحديث دليل على إثبات الشفعة للشريك، وأنها لا تجب إلا في الأرض والعقار دون غيرهما من العروض والأمتعة والحيوان ونحوها. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه"، فدل الحديث على أنه لا يحل له أن يبيع حتى يعرض على شريكه. قال ابن القيم: "حرم على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 فإن باع ولم يؤذنه؛ فهو أحق به، وإن أذن في البيع وقال: لا غرض لي فيه؛ لم يكن له الطلب بعد البيع، وهذا مقتضى حكم الشرع، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به" انتهى. وهذا الذي قاله بن القيم من أن الشفعة تسقط بإسقاط صاحبها لها قبل البيع هو أحد القولين في المسألة، والقول الثاني وهو قول الجمهور: أنها لا تسقط بذلك، ولا يكون مجرد الإذن بالبيع مبطلاً لها، والله أعلم. والشفعة حق شرعي، يجب احترامه، ويحرم التحيل لإسقاطه؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشريك، فإذا تحيل لإسقاطها؛ لحقه الضرر، وكان تعديا على حقه المشروع، قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يجوز شيء من الحيل في إبطالها ولا إبطال حق مسلم"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل". ومن الحيل التي تفعل لإسقاط الشفعة أن يظهر أنه وهب نصيبه لآخر، وهو في الحقيقة قد باعه عليه، ومن الحيل لإسقاط الشفعة أن يرفع الثمن في الظاهر حتى لا يتمكن الشريك من دفعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال على إسقاط الشفعة؛ فهو باطل، ولا تغير حقائق العقود بتغير العبارة" انتهى. وموضوع الشفعة هو الأرض التي لم تجر قسمتها، ويتبعها ما فيها من غراس وبناء، فإن جرت قسمة الأرض، لكن بقى مرافق مشتركة بين الجيران؛ كالطريق والماء ونحو ذلك؛ فالشفعة باقية في أصح قولي العلماء؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق؛ فلا شفعة"؛ إذ مفهومه أنه إذا وقعت الحدود ولم تصرف الطرق أن الشفعة باقية. قال ابن القيم: "وهو أصح الأقوال في شفعة الجوار، ومذهب أهل البصرة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ" انتهى. وقال الشيخ تقي الدين: "تثبت شفعة الجوار مع الشركة في حق من حقوق الملك من طريق وماء ونحو ذلك، نص عليه أحمد، واختاره ابن عقيل وأبو محمد وغيرهم، وقال الحارثي: "هذا الذي يتعين المصير إليه، وفيه جمع بين الأحاديث، وذلك أن الجوار لا يكون مقتضيا للشفعة إلا مع اتحاد الطريق ونحوه. لأن شرعية الشفعة لدفع الضرر، والضرر إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك أو في طريق ونحوه" انتهى. والشفعة إنما تثبت بالمطالبة بها فور علمه بالبيع، فإن لم يطلبها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وقت علمه بالبيع؛ سقطت، فإن لم يعلم بالبيع؛ فهو على شفعته، ولو مضى عدة سنين. قال ابن هبيرة: "اتفقوا على أنه إذا كان غائبا؛ فله إذا قدم المطالبة بالشفعة". وتثبت الشفعة للشركاء على قدر ملكهم؛ لأنه حق يستفاد بسبب الملك، فكانت على قدر الأملاك فإن تنازل عنها أحد الشركاء؛ أخذ الآخر الكل، أو ترك الكل؛ لأن في أخذ البعض إضراراً بالمشتري، والضرر لا يزال بالضرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 كتاب الشركات باب في أحكام الشراكة وأنواع الشركات موضوع الشركات ينبغي التعرف على أحكامه لكثرة التعامل به؛ إذ لا يزال الاشتراك في التجارة وغيرها مستمرًا بين الناس، وهو من باب التعاون على تحصيل المصالح بتنمية الأموال واستثمارها وتبادل الخبرات. فالشركة في التجارة وغيرها مما جاءت بجوازه نصوص الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، والخلطاء هم الشركاء، ومعنى: {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : يظلم بعضهم بعضا، فدلت الآية الكريمة على جواز الشركة، والمنع من ظلم الشريك لشريكه. والدليل من السنة على جواز الشركة قوله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "أنا ثالث الشريكين"؛ أي: معهما بالحفظ والرعاية والإمداد وإنزال البركة في تجارتهما؛ "ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه؛ خرجت من بينهما"؛ أي: نزعت البركة من تجارتهما؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ففي الحديث مشروعية الشركة والحث عليها مع عدم الخيانة؛ لأن فيها التعاون، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. وينبغي اختيار من ماله من حلال للمشاركة، وتجنب من ماله من الحرام أو من المختلط بالحلال والحرام. وتجوز مشاركة المسلم للكافر بشرط أن لا ينفرد الكافر بالتصرف، بل يكون بإشراف المسلم؛ لئلا يتعامل الكافر بالربا أو المحرمات إذا انفرد عن إشراف المسلم. والشركة تنقسم إلى قسمين: شركة أملاك، وشركة عقود. فشركة الأملاك هي اشتراك في استحقاق؛ كالاشتراك في تملك عقار أو تملك مصنع أو تملك سيارات أو غير ذلك. وشركة العقود هي الاشتراك في التصرف؛ كالاشتراك في البيع أو الشراء أو التأجير أو غير ذلك، وهي إما اشتراك في مال وعمل أو اشتراك في عمل بدون مال. وهو خمسة أنواع: النوع الأول: أن يكون الاشتراك في المال والعمل، وهذا النوع يسمى شركة العنان. النوع الثاني: اشتراك في مال من جانب وعمل من جانب آخر، وهذا ما يسمى بالمضاربة. النوع الثالث: اشتراك في التحمل بالذمم دون مال، وهذا ما يسمى بشركة الوجوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 النوع الرابع: اشتراك فيما يكسبان بأبدانهما، وهذا ما يسمى بشركة الأبدان. النوع الخامس: اشتراك في كل ما تقدم؛ بأن يفوض أحدهما إلى الآخر كل تصرف مالي وبدني، فيشمل شركة العنان والمضاربة والوجوه والأبدان، ويسمى هذا النوع بشركة المفاوضة. هذا مجمل أنواع الشركات، ولنبينها بالتفصيل واحدة واحدة؛ لداعي الحاجة إلى بيانها، فنقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 باب في أحكام شركة العنان وهي بكسر العين، سميت بذلك لتساوي الشريكين في المال والتصرف؛ كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير فكان عنانا فرسيهما سواء، وذلك أن كل واحد من الشريكين يساوي الآخر في تقديمه ماله وعمله في الشركة. فحقيقة شركة العنان: أن يشترك شخصان فأكثر بماليهما؛ بحيث يصيران مالاً واحدًا يعملان فيه بيديهما، أو يعمل فيه أحدهما ويكون له من الربح أكثر من نصيب الآخر. وشركة العنان بهذا الاعتبار المذكور جائزة بالإجماع؛ كما حكاه ابن المنذر رحمه الله، وإنما اختلف في بعض شروطها. وينفذ تصرف كل من الشريكين في مال الشركة بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه؛ لأن لفظ يغني عن الإذن من كل منهما للآخر. واتفقوا على أنه يجوز أن يكون رأس مال الشركة من النقدين المضروبين؛ لأن الناس يشتركون بهما من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 واختلفوا في كون رأس المال في شركة العنان من العروض، فقال بعضهم: لا يجوز؛ لأن قيمة أحد المالين قد تزيد قبل بيعه ولا تزيد قيمة المال الآخر، فيشارك أحدهما الآخر في نماء ماله. والقول الثاني جواز ذلك، وهو الصحيح؛ لأن مقصود الشركة تصرفهما في المالين جميعا، وكون ربح المالين بينهما، وهو حاصل في العروض كحصوله في النقود. ويشترط لصحة شركة العنان: أن يشترطا لكل من الشريكين جزءًا من الربح مشاعا معلوما كالثلث والربع؛ لأن الربح مشترك بينهما؛ فلا يتميز نصيب كل منهما إلا بالاشتراط والتحديد، فلو كان نصيب كل منهما من الربح مجهولاً، أو شرط لأحدهما ربح شيء معين من المال، أو ربح وقت معين، أو ربح سفرة معينة؛ لم يصح في جميع هذه الصور؛ لأنه قد يربح المعين وحده، وقد لا يربح، وقد لا يحصل غير الدراهم المعينة، وذلك يفضي إلى النزاع وضياع تعب أحدهما دون الآخر، وذلك مما تنهى عنه الشريعة السمحة؛ لأنها جاءت بدفع الغرر والضرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 باب في أحكام شركة المضاربة شركة المضاربة سميت بذلك أخذًا من الضرب في الأرض، وهو السفر للتجارة، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ؛ أي: يطلبون رزق الله في المتاجر والمكاسب. ومعنى المضاربة شرعا: دفع مال معلوم لمن يتجر به ببعض ربحه. وهذا النوع من التعامل جائز بالإجماع، وكان موجودًا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره، وروى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وغيرهم، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عن الجميع. والحكمة تقتضي جواز المضاربة بالمال؛ لأن الناس بحاجة إليها؛ لأن الدراهم والدنانير لا تنمو إلا بالتقليب والتجارة. قال العلامة ابن القيم: "المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك، فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح، ويشترط لصحة المضاربة تقدير نصيب العامل؛ لأنه يستحقه بالشرط". وقال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوما جزءًا من أجزاء، فلو سمى له كل الربح أو دراهم معلومة أو جزءًا مجهولاً؛ فسدت" انتهى. وتعيين مقدار نصيب العامل من الربح يرجع إليهما: فلو قال رب المال للعامل: اتجر به والربح بيننا؛ صال لكل منهما نصف الربح؛ لأنه إضافة إليهما إضافة واحدة لا مرجح لأحدهما على الآخر فيها، فاقتضى ذلك التسوية في الاستحقاق؛ كما لو قال: هذه الدار بيني وبينك؛ فإنها تكون بينهما نصفين وإن قال رب المال للعامل: اتجر به ولي ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه، أو قال له: اتجر به ولك ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه؛ صح ذلك؛ لأنه متى علم نصيب أحدهما؛ أخذه، والباقي للآخر؛ لأن الربح مستحق لهما، فإذا قدر نصيب أحدهما منه؛ فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ، وإن اختلفا لمن الجزء المشروط؛ فهو للعامل، قليلاً كان أو كثيرا؛ لأنه يستحقه بالعمل، وهو يقل ويكثر؛ فقد يشترط له جزء قليل لسهولة العمل، وقد يشترط له جزء كثير لصعوبة العمل، وقد يختلف التقدير لاختلاف العاملين في الحذق وعدمه، وإنما تقدر حصة العامل بالشرط؛ بخلاف رب المال؛ فإنه يستحقه بماله لا بالشرط. وإذا فسدت المضاربة؛ فربحها يكون لرب المال؛ لأنه نماء ماله، ويكون للعامل أجره مثله؛ لأنه إنما يستحق بالشرط، وقد فسد الشرط تبعا لفساد المضاربة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وتصح المضاربة مؤقتة بوقت محدد؛ بأن يقول رب المال: ضاربتك على هذه الدراهم لمدة سنة. وتصح المضاربة معلقة بشرط؛ كأن يقول صاحب المال: إذا جاء شهر كذا؛ فضارب بهذا المال، أو يقول: إذا قضت مالي من زيد؛ فهو معك مضاربة؛ لأن المضاربة إذن في التصرف، فيجوز تعليقه على شرط مستقبل. ولا يجوز للعامل أن يأخذ من شخص آخر إذا كان ذلك يضر بالمضارب الأول إلا بإذنه، وذلك كأن يكون المال الثاني كثيراً يستوعب وقت العامل فيشغله عن التجارة بمال الأول، أو يكون مال المضارب الأول كثيرًا يستوعب وقته ومتى اشتغل عنه بغيره تعطلت بعض تصرفاته فيه، فإن أذن الأول أو لم يكن عليه ضرر؛ جاز للعامل أن يضارب لآخر. وإن ضارب العامل لآخر مع ضرر الأول بدون إذنه؛ فإن العامل يرد حصته من ربحه في مضاربته مع الثاني في شركته مع المضارب الأول، فيدفع لرب المضاربة الثانية نصيبه من الربح، ويؤخذ نصيب العامل، ويضم لربح المضاربة الأولى، ويقسم بينه وبين صاحبها على ما شرطاه؛ لأن منفعة العامل المبذولة في المضاربة الثانية قد استحقت في المضاربة الأولى. ولا ينفق العامل من مال المضاربة لا لسفر ولا لغيره> إلا إذا اشترط على صاحب المال ذلك؛ لأنه يعمل في المال بجزء من ربحه؛ فلا يستحق زيادة عليه إلا بشرط؛ إلا أن يكون هناك عادة في مثل هذا فيعمل بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ولا يقسم الربح في المضاربة قبل إنهاء العقد بينهما إلا بتراضيهما؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، ولا يؤمن أن يقع خسارة في بعض المعاملة، فتجبر من الربح، وإذا قسم الربح مع بقاء عقد المضاربة؛ لم يبق رصيد يجبر منه الخسران؛ فالربح وقاية لرأس المال، لا يستحق العامل منه شيئا إلا بعد كمال رأس المال. والعامل أمين يجب عليه أن يتقي الله فيما ولي عليه، ويُقبل قوله فيما يدعيه من تلف أو خسران، ويصدَّق فيما يذكر أنه اشتراه لنفسه لا للمضاربة أو اشتراه للمضاربة لا لنفسه؛ لأنه مؤتمن على ذلك، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 باب في شركة الوجوه والأبدان والمفاوضة أولا: شركات الوجوه شركة الوجوه هي: أن يشترك اثنان فأكثر فيما يشتريان بذمتيهما، وما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه، سميت بذلك لأنها ليس لها رأس مال، وإنما تبذل فيها الذمم والجاه وثقة التجار بهما، فيشتريان ويبيعان بذلك، ويقتسمان ما يحصل لهما من ربح على حسب الشرط لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم". وهذا النوع من الشركة يشبه العنان، فأعطى حكمها. وكل واحد من الشريكين وكيل عن صاحبه وكفيل عنه بالثمن لأن مثل هذا النوع من الشركة على الوكالة والكفالة. ومقدار ما يملكه كل واحد منهما من هذه الشركة على حسب الشرط؛ من مناصفة، أو أقل، أو أكثر. ويحتمل كل واحد من الخسارة على قدر ما يملك في الشركة، فمن له نصف الشركة؛ فعليه نصف الخسارة ... وهكذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ويستحق كل من الشركاء من الربح على حسب الشرط من نصف أو ربع أو ثلث؛ لأن أحدهما قد يكون أوثق وأرغب عند التجار وأبصر بطرق التجارة من الشخص الآخر، ولأن عمل كل منهما قد يختلف عن عمل الآخر، فيتطلع إلى زيادة نصيبه في مقابل ذلك، فيرجع إلى الشرط الجاري بينهما في ذلك. ولكل واحد من الشركاء في شركة الوجوه من الصلاحيات مثل ما للشركاء في شركة العنان. ثانيا: شركة الأبدان شركة الأبدان هي: أن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبان بأبدانهما، سيمت بذلك لأن الشركاء بذلوا أبدانهم في الأعمال لتحصيل المكاسب، واشتركوا فيما يحصلون عليه من كسب. ودليل جواز هذا النوع من الشركة: ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "اشتركت أنا وعمار وسعد في نصيب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء" قال أحمد: "أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدل هذا الحديث على صحة الشركة في مكاسب الأبدان". وإذا تم الاتفاق بينهم على ذلك؛ فما تقبله أحدهم من عمل؛ لزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 بقية الشركاء فعله، فيطالب كل واحد بما تقبله شريكه من أعمال، لأن هذا هو مقتضاها. وتصح شركة الأبدان ولو اختلفت صنائع المشتركين؛ كخياط مع حداد ... وهكذا، ولكل واحد من الشركاء أن يطالب بأجرة العمل الذي تقبله هو أو صاحبه، ويجوز للمستأجر من أحدهم دفع الأجرة إلى أي منهم؛ فهو مشترك بينهم. وتصح شركة الأبدان في تملك المباحات؛ كالاحتطاب، وجمع الثمار المأخوذة من الجبال، واستخراج المعادن. وإن مرض أحد شركاء الأبدان؛ فالكسب الذي تحصل عليه الآخر بينهما؛ لأن سعدًا وعمارًا وابن مسعود اشتركوا، فجاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران، وشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم. وإن طالب الصحيح المريض بأن يقم مقامه من يعمل؛ لزمه ذلك؛ لأنهما دخلا على أن يعملا، فإذا تعذر على أحدهما العمل بنفسه؛ لزمه أن يقيم مقامه من يعمل بدلاً عنه؛ لتوفية العقد حقَّه، فإن امتنع العاجز عن العمل من إقامة من يعمل بدله بعد مطالبته بذلك؛ فلشريكه أن يفسخ عقد الشركة. وإن اشترك أصحاب دواب أو سيارات على أن يحملوا عليها بالأجرة، وما حصلوا عليه فهو بينهم، صح ذلك؛ لأنه نوع من الاكتساب، ويصح أيضا دفع دابة أو سيارة لمن يعمل عليها، وما تحصل من كسب؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 فهو بينهما، وإن اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن الآخر آلة ومن الثالث العمل على أن ما تحصل فهو بينهم؛ صح ذلك وتصح شركة الدلالين بينهم إذا كانوا يقومون بالنداء على بيع السلع وعرضها وإحضار الزبون، وما تحصل؛ فهو بينهم. ثالثا: شركة المفاوضة وشركة المفاوضة هي: أن يفوض كل من الشركاء إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة؛ فهي الجمع بين شركة العنان والمضارب والوجوه والأبدان، أو يشتركون في كل ما يثبت لهم وعليهم. ويصح هذا النوع من الشركة؛ لأنه يجمع أنواعا يصح كل منها منفردًا فيصح إذا جمع مع غيره. والربح يوزع في هذه الشركة على ما شرطوا، ويتحملون من الخسارة على قدر ملك كل واحد منهم من الشركة بالحساب. وهكذا شريعة الإسلام وسعت دائرة الاكتساب في حدود المباح، فأباحت للإنسان أن يكتسب منفردًا ومشتركا مع غيره، وعاملت الناس حسب شروطهم ما لم تكن شروطا جائرة محرمة؛ مما به يعلم صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان. نسأل الله أن يرزقنا التمسك بها والسير على نهجها؛ إنه سميع مجيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 كتاب المساقاة والمزارعة والإجارة باب في أحكام لبمزارعة والمساقاة المساقاة والمزارعة من جملة الأعمال التي بزوالها الناس من قديم الزمان؛ لحاجتهم إليهما؛ فقد يكون في ملك الإنسان شجر لا يستطيع القيام عليه واستثماره، أو تكون له أرض زراعية لا يستطيع العمل عليها واستغلالها، وعند آخر القدرة على العمل وليس في ملكه شجر ولا أرض، ومن ثم أبيحت المزارعة والمساقاة لمصلحة الطرفين، وهكذا كل التعامل الشرعي قائم على العدل وتحقيق المصالح ودفع المفاسد. فالمساقاة عرفها الفقهاء بأنها: دفع شجر مغروس أو شجر غير مغروس مع أرض إلى من يغرسه فيها ويقوم بسقيه وما يحتاج إليه حتى يثمر، ويكون للعامل جزء مشاع من ثمر ذلك الشجر والباقي لمالكه. والمزارعة: دفع أرض لمن يزرعها، أو دفع أرض وحب لمن يزرعه فيها ويقوم عليه، بجزء مشاع منه، والباقي لمالك الأرض. وقد يكون الجزء المشروط في المساقاة والمزارعة لمالك الأرض أو الشجر والباقي للعامل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 والدليل على جواز المساقاة والمزارعة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع"، متفق عليه، وروى مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخلها وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها"؛ أي: نصفه، وروى الإمام أحمد:: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى أهل خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف"، فدل هذا الحديث على صحة المساقاة. قال الإمام ابن القيم: "وفي قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر، واستمر على ذلك إلى حين وفاته، ولم ينسخ البتة، واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه، وليس من باب المؤاجرة، بل من باب المشاركة، وهو نظير المضاربة سواء" انتهى. وقال الموفق بن قدامة: "وهذا عمل به الخلفاء الراشدون مدة خلافتهم، واشتهر ذلك، فلم ينكر، فكان إجماعا"، قال: "ولا يجوز التعويل على ما خالف الحديث والإجماع، وكثير من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الاستئجار عليه، وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر؛ ففي تجويزها دفع الحاجتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وتحصيل لمصلحة الفئتين" انتهى. وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لصحة المساقاة أن يكون الشجر المسقى عليه له ثمر يؤكل؛ فلا على شجر لا ثمر له، أو له ثمر لا يؤكل؛ لأن ذلك غير منصوص عليه. ومن شروط صحة المساقاة: تقدير نصيب العامل أو المالك بجزء معلوم مشاع من الثمرة؛ كالثلث والربع، سواء قل الجزء المشروط أو كثر، فلو شرطا كل الثمرة لأحدهما؛ لم يصح؛ لاختصاص أحدهما بالغلة، أو شرطا آصعا وعلومة من الثمرة؛ كعشرة آصع، أو عشرين صاعا؛ لم يصح؛ لأنه قد لا يحصل إلا ذلك، فيختص به من شرط له دون الآخر، وكذا لو شرط له في المساقاة دراهم معينة؛ لم تصح؛ لأنه قد لا يحصل من الغلة ما يساويها، وكذا لو شرط لأحدهما ثمرة شجرة معينة أو أشجار معينة؛ لم تصح المساقاة؛ لأنه قد لا يحصل من الشجر غير تلك المعينة، فيختص بالغلة أحدهما دون الآخر، أو لا تحمل تلك الشجرة أو الأشجار المعينة، فينحرم المشروط له من الغلة، ويحصل الغرر والضرر. والصحيح الذي عليه الجمهور أن المساقاة عقد لازم لا يجوز فسخها إلا برضى الآخر. ولا بد من تحديد مدتها، ولو طالت، مع بقاء الشجر. ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة؛ من حرث، وسقي، وإزالة ما يضر الشجر والثمرة من الأغصان، وتلقيح النخل، وتجفيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 الثمر، وإصلاح مجارى الماء، وتوزيعه على الشجر. وعلى صاحب الشجر ما يحفظ الأصل وهو الشجر؛ كحفر البئر، وبناء الحيطان، وتوفير الماء في البئر ... ونحو ذلك، وعلى المالك كذلك تحصيل المواد التي تقوي الأشجار كالسماد ونحوه. وليس دفع الحب مع الأرض شرطا في صحة المزارعة، فلو دفع إليه الأرض فقط ليزرعها العامل ببذر من عنده، صح ذلك؛ كما هو قول جماعة من الصحابة، وعليه عمل الناس، ولأن الدليل الذي استفيد منه حكم المزارعة هو حديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر بشطر ما يخرج منها، ولم يرد في هذا الحديث أن البذر على المسلمين. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والذين اشترطوا البذر من رب الأرض قاسوها على المضاربة، وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة وأقوال الصحابة؛ فهو من أفسد القياس؛ فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه، ويقسمان الربح؛ فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه، بل يذهب كما يذهب نفع الأرض؛ فإلحاقه بالأصل الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي" انتهى. والمزارعة مشتقة من الزرع، وتسمى مخابرة ومواكرة، والعامل فيها يسمى مزارعا ومخابرًا ومواكرًا. والدليل على جوازها من السنة المطهرة الصحيحة كما سبق، والحاجة داعية إلى جوازها؛ لأن من الناس من يملك أرضا زراعية ولا يستطيع العمل فيها، ومن الناس من ستطيع العمل في الزراعة ولا يملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 أرضا زراعية؛ فاقتضت الحكمة التشريعية جواز المزارعة؛ لينتفع الطرفان: هذا بأرضه، وهذا بعمله، وليحصل التعاون على تحصيل المصلحة ودفع المضرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: "المزارعة أصل من الإجارة؛ لاشتراكهما في المغنم والمغرم". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "هي أبعد عن الظلم والضرر من الإجارة؛ فإن أحدهما غانم ولا بد [يعني: في الإجارة] . وأما المزارعة؛ فإن حصل الزرع؛ اشتركا فيه، وإلا اشتركا في الحرمان". ويشترط لصحة المزارعة: بيان مقدار ما للعامل أو لصاحب الأرض من الغلة، وأن يكون جزءًا مشاعا منها؛ كثلث ما يخرج من الأرض أو ربعه ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، وإذا عرف نصيب أحدهما؛ فالباقي يكون للآخر؛ لأن الغلة لهما، فإذا عين نصيب أحدهما؛ تبين نصيب الآخر، ولو شرط لأحدهما آصعا معلومة كعشرة آصع أو زرع ناحية معينة من الأرض والباقي للآخر؛ لم تصح، أو اشترط صاحب الأرض أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي؛ لم تصح المزارعة؛ لأنه قد لا يهرج من الأرض إلا ذلك، فيختص به دون الآخر، ولحديث رافع بن خديج رضي الله عنه؛ قال: "كراء الأرض بالذهب والفضة لا يأس به، كان الناس يؤاجرون على عهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقبل الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا؛ فلذلك زجر عنه"؛ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما فيه من الضرر المؤوي إلى التشاجر وأكل أموال الناس بالباطل. فدل الحديث على تحريم المزارعة على ما يفضي إلى الضرر والجهالة ويوجب المشاجرة بين الناس. قال ابن المنذر: " قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل، وهي التي كانوا يعتادونها"، قال: "كنا نكري الأرض على أن لنا هذا ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 باب في أحكام الإجارة هذا العقد يتكرر في حياة الناس في مختلف مصالحهم وتعاملهم اليومي والشهري والسنوين فهو جدير بالتعرف على أحكام؛ إذ ما من تعامل يجري بين الناس في مختلف الأمكنة والأزمان؛ إلا وهو محكوم بشرعية الإسلام وفق ضوابط شرعية ترعى المصالح وترفع المضار. والإجارة مشتقة من الأجر، وهو العوض، قال تعالى: {َوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} . وهي شرعا: عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة الذمة مدة معلومة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم. وهذا التعريف مشتمل على غالب شروط صحة الإجارة وأنواعها: فقولهم: "عقد على منفعة": يخرج به العقد على الرقبة؛ فلا يسمى إجارة، وإنما يسمى بيعا. وقولهم: "مباحة": يخرج به العقد على المنفعة المحرمة؛ كالزنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وقولهم: "معلومة": يخرج به المنفعة المجهولة؛ فلا يصح العقد عليها. وقولهم: " من عين معينة أو موصوفة في الذمة، أو عمل معلومة": يؤخذ منه أن الإجارة على نوعين: النوع الأول: أن يكون الإجارة على منفعة عين معينة أو عين موصوفة. مثال المعينة: آجرتك هذه الدار. ومثال الوصوفة: آجرتك بعيرًا صفته كذا للحمل أو الركوب. النوع الثاني: أن يكون الإجارة على أداء عمل معلوم؛ كأن يحمله إلى موضع كذا، أو يبني له جدارًا. قولهم: "مدة معلومة"؛ أي: يشترط أن يكون الإجارة على المنفعة لمدة محدودة؛ كيوم أو شهر. وقولهم: "بعوض معلوم"؛ معناه: أنه لا بد أن يكون مقدار الإجارة معلوما. وبهذا يتضح أن مجمل شروط صحة الإجارة بنوعها: أن يكون عقد الإجارة على المنفعة لا على العين، وأن تكون المنفعة مباحة، وأن تكون معلوم، وإذا كانت الإجارة على عين غير معينة؛ فلابد أن تكون مما ينضبط بالوصف، وأن تكون مدة الإجارة معلومة، وأن يكون العوض في الإجارة معلوما أيضا. والإجارة الصحيحة جائزة في الكتاب والسنة والإجماع: قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، وقال تعالى: {َوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدله الطريق في سفره للهجرة. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على جوازها. والحاجة تدعو إليها؛ لأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان. ويصح استئجار الآدمي لعمل معلوم؛ خياطة ثوب، وبناء جدار، أو ليدله على طريق؛ كما ثبت في "صحيح البخاري" عن عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر هو وأبو بكر رضي الله عنه عبد الله ابن أريقط الليثي، وكان هاديا خرٍّيتا"، والخريت هو الماهر بالدلالة. ولا يجوز تأجير الدور والدكاكين والمحت للمعاصي؛ كبيع الخمر، وبيع المواد المحرمة؛ كبيع الدخان والتصوير؛ لأن ذلك إعانة على المعصية. ويجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره لآخر يقوم مقامه في استيفاء المنفعة؛ لأنها مملوكة له، فجاز له أن يستوفيها بنفسه وبنائبه، لكن بشرط أن يكون المستأجر الثاني مثل المستأجر الأول في استيفاء المنفعة أو دونه، لا أكثر منه شررًا؛ كما لو استأجر دارًا للسكنى؛ جاز أن يؤجرها لغيره للسكنى أو دونها، ولا يجوز أن يؤجرها لمن يجعل فيها مصنعا أو معملاً. لا تصح الإجارة على أعمال العبادة والقربة، كالحج، والأذان؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 لأن هذه الأعمال يتقرب بها إلى الله، وأخذ الأجرة عليها يخرجها عن ذلك ويجوز أخذ رزق من بيت المال على الأعمال التي يتعدى نفعها؛ كالحج والأذان والإمامة وتعليم القرآن والفقه والقضاء والفتيا؛ لأن ذلك ليس معاوضة، وإنما هو إعانة الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة، ولا يخل بالإخلاص. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والفقهاء متفقون على الفرق بين الاستئجار على القرب وربين رزق أهلها؛ فرزق المقاتلة والقضاة والمؤذنين والأئمة جائز بلا نزاع، وأما الاستئجار؛ فلا يجوز عند أكثرهم". وقال أيضا: "وما يؤخذ من بيت المال؛ فليس عوضا وأجرة، بل رزقا للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله؛ أثيب، وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة". ما يلزم كلاً من المؤجر والمستأجر: فيلزم المؤجر بذل كل ما يتمكن به المستأجر من الانتفاع بالمؤجَّر؛ كإصلاح السيارة المؤجرة وتهيئتها للحمل والسير، وعمارة الدار المؤجرة وإصلاح ما فسد من عمارتها وتهيئة مرافقها للانتفاع. وعلى المستأجر عندما ينتهي أن يزيل ما حصل بفعله. والإجارة عقد لازم من الطرفين أالمؤجر والمستأجر لأنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 نوع من البيع، فأعطيت حكمه، فليس لأحد الطرفين فسخها إلا برضى الآخر؛ إلا إذا ظهر عيب لم يعلم به المستأجر حال العقد؛ فله الفسخ. ويلزم المؤجٍّر أن يسلم العين المؤجرة للمستأجر، ويمكَّنه من الانتفاع بها، فإن أجَّره شيئا ومنعه من الانتفاع به كل المدة أو بعضها؛ فلا شيء له من الأجرة، أو لا يستحقها كاملة؛ لأنه لم يسلم له ما تناوله عقد الإجارة، لم يستحق شيئا، وإذا مكن المستأجر من الانتفاع، لكنه تركه كل المدة أو بعضها؛ فعليه جميع الأجرة؛ لأن الإجارة عقد لازم، فيترتب مقتضاها، وهو ملك المؤجر الأجر وملك المستأجر المنافع. وينفسخ عقد الإجارة بأمور: أولاً: إذا تلفت العين المؤجرة: كما لو أجره دوابه فماتت، أو استأجر دارًا فانهدمت، أو أكترى أرضا لزرع فانقطع ماؤها. ثانيا: وتنفسخ الإجارة أيضا بزوال الغرض الذي عقدت من أجله؛ كما لو استأجر طبيبا ليداويه فبرئ؛ لتعذر استيفاء المعقود عليه. ومن استؤجر لعمل شيء فمرض؛ أقيم مقامه من ماله من يعمله نيابة عنه؛ إلا إذا اشترط مباشرته العمل بنفسه؛ لأن المقصود قد لا يحصل بعلم غيره؛ فلا يلزم حينئذ المستأجر قبول عمل غيره، لكن بخير حينئذ المستأجر بين الصبر والانتظار حتى يبرأ الأجبر وبين الفسخ لتعذر وصوله إلى حقه. والأجير على قسمين: خاص ومشترك، فالأجير الخاص هو: من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 استؤجر مدة معلومة يستحق نفعه في جمعها لا يشاركه فيها أحد. والمشترك هو: من قد نفعه بالعمل ولا يختص به واحد بل يتقبل أعمالاً لجماعة في وقت واحد. فالأجير الخاص لا يضمن ما جنت يده خطأ؛ كما لو انكسرت الآلة التي يعمل بها؛ لأنه نائب عن المالك، لم يضمن؛ كالوكيل، وإن تعدى أو فرط؛ ضمن ما تلف. أما الأجير المشترك؛ فإنه يضمن ما تلف بفعله؛ لأنه لا يستحق إلا بالعمل؛ فعمله مضمون عليه، وما تولد عن المضمون فهو مضمون. وتجب أجرة الأجير بالعقد، ولا يملك المطالبة بها إلا بعدما يسلم العمل الذي في ذمته، أو استيفاء المنفعة، أو تسليم العين المؤجرة ومضي المدة مع عدم المانع؛ لأن الأجير إنما يوفي أجره إذا قضى عمله أم ما في حكمه، ولأن الأجرة عوض؛ فلا تستحق إلا بتسلم المعوض. هذا، ويجب على الأجير إتقان العمل وإتمامه، ويحرم عليه الغش في العمل والخيانة فيه، كما علي أيضا مواصلة العمل في المدة التي استؤجر فيها، ولا يفوت شيئا منها بغير عمل، وأن يتقي الله أداء ما عليه. ويجب على المستأجر إعطاء أجرته كاملة عندما ينهي عمله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه". وعن أبي هريرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا، فاستوفى منه العمل، ولم يعطه أجره"، رواه البخاري وغيره. فعمل الأجير أمانة في ذمته، يجب عليه مراعاتها بإتقان العمل وإتمامه والنصح فيه، وأجر الأجير دين في ذمة المستأجر، وحق واجب عليه، يجب عليه أداؤه من غير مماطلة ولا نقص. والله تعالي أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 أبواب باب في أحكام السبق المسابقة: هي المجاراة بين حيوان وغيره، وكذا المسابقة بالسهام. وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن القوة الرمي"، وقال تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِق} ؛ أي: نترامى بالسهام، أو نتجارى على الأقدام. وعن أبي هريرة مرفوعا: "لا سبق إلا خف أو نصل أو حافر"، رواه الخمسة؛ فالحديث دليل على جواز السباق على جعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وقد حكى الإجماع على جوازه في الجملة غير واحد من أهل العلم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "السباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله به ورسوله مما يعين على الجهاد في سبيل الله". وقال أيضا: " السبق والصراع ونحوهما طاعة إذا قصد به نصرة الإسلام، وأخذ السبق [أي: العوض عليه] أخذ بالحق، ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة، ويكره لعبه بأرجوحة". وقال الشيخ: "وما ألهى وشغل عما أمر الله به؛ فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه؛ كالبيع، والتجارة، وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب مما لا يستعان به في حق شرعي؛ فكله حرام" انتهى. وقد اعتنى العلماء بهذا الباب، وسموه باب الفروسية، وصنفوا فيه المصنفات المشهورة. والفروسية أربعة أنواع: أحدهما: ركوب الخيل والكر والفر بها. والثاني: الرمي بالقوس والآلات المستعملة في كل زمان بحسبه. والثالث: المطاعنة بالرماح. الرابع: المداورة بالسيوف. ومن استكمل الأنواع الأربعة؛ استكمل الفروسية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 ويجوز السباق على الأقدام وسائر الحيوانات والمراكب. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة؛ لما في ذلك من التدرب على الحرب" انتهى. وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، وصارع ركانة فصرعه، وسابق سلمة بن الأكوع رجلً من الأنصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تجوز المسابقة على عوض؛ إلا في المسابقة على الإبل والخيل والسهام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"، رواه الخمسة عن أبي هريرة. أي: لا يجوز أخذ الجعل على السبق إلا إذا كانت المسابقة على الإبل أو الخيل أو السهام؛ لأن تلك من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها. ومفهوم الحديث: أنه يجوز أخذ العوض عن المسابقة فيما سواها، وقيل: إن الحديث يحتمل أن يراد به أن أحق ما بذل فيه السبق هذه الثلاثة؛ لكمال نفعها وعموم مصلحتها، فيدخل فيها كل مغالبة جائزة ينفع بها في الدين؛ لقصة ركانة وأبي بكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وقال الإمام ابن القيم: "الرهان على ما فيه ظهور الإسلام ودلالته وبراهينه من أحق الحق وأولى بالجواز من الرهان على النضال وسبق الخيل" انتهى. ويشترط لصحة المسابقة خمسة شروط: الشرط الأول: تعيين المركوبين في المسابقة بالرؤية. الشرط الثاني: اتحاد المركوبين في النوع، وتعيين الرماة؛ لأن القصد معرفة حذقهم ومهارتهم في الرمي. الشرط الثالث: تحديد المسافة؛ ليعلم السابق والمصيب، وذلك بأن يكون لابتدائها ونهايتها حد لا يختلفان فيه؛ لأن الغرض الأسبق، ولا يحصل إلا بالتساوي في الغاية. والشرط الرابع: أن يكون العوض معلوما مباحا. والشرط الخامس: الخروج عن شيه القمار؛ بأن يكون العوض من غير المتسابقين، أو من أحدهما فقط. فإن كان العوض من المتسابقين؛ فهو محل خلاف: هل يجوز، أو لا يجوز إلا بمحلل وهو الدخيل الذي يكون شريكا في الربح بريئا من الخسران، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم اشتراط المحلل، وقال: "عدم المحلل أولى وأقرب إلى العدل من كون السبق من أحدهما، وأبلغ في حصول مقصود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 كل منهما، وهو بيان عجز الآخر، وأكل المال بهذا أكل حق ... " إلى أن قال: " وما علمت من الصحابة من اشترط المحلل، وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب، وعنه تلقاه الناس" انتهى. ومما سبق يتبين أن المسباقة المباحة على نوعين: النوع الأول: ما يترتب عليه مصلحة شرعية؛ كالتدرب على الجهاد، والتدرب على مسائل العلم. النوع الثاني: ما كان المقصود منه اللعب الذي لا مضرة فيه. فالنوع الأول هو الذي يجوز أخذ العوض عليه بشروطه السابقة. والنوع الثاني مباح؛ بشرط: أن لا يشغل عن واجب أو يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة. وهذا النوع لا يجوز أخذ العوض عليه. وقد توسع الناس اليوم في هذا النوع الأخير، وأنفذوا فيه من الأوقات والأموال، وهو مما لا فائدة للمسلمين فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 باب في أحكام العارية قد عرف الفقهاء رحمهم الله العارية بأنها: إباحة نفع عين يباح الاتنفاع بها وتبقى بعد استيفاء المنفعة ليردها إلى مالكها. فخرج بهذا التعريف: ما لا يباح الانتفاع به؛ فلا تحل إعارته. وخرج به أيضا: ما لا يمكن الانتفاع به إلا مع تلف عينه؛ كالأطعمة والأشربة. والعارية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع: قال تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ؛ أي: المتاع يتعاطاه الناس بينهم. فذم الذين يمنعون ممن يحتاج إلى استعارته. وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى وجوب الإعارة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا كان المالك غنيا. واستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة، واستعار صلى الله عليه وسلم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 صفوان بن أمية أدراعا. وبذل العارية للمحتاج إليها قربة بها المعير ثوابا جزيلاً؛ لأنها تدخل في عموم التعاون على البر والتقوى. ويشترط لصحة الإعارة أربعة شروط: أحدها: أهلية المعير للتبرع؛ لأن الإعارة فيها نوع من التبرع؛ فلا تصح من غير ولا مجنون وسفيه. الشرط الثاني: أهلية المستعير للتبرع له؛ بأن يصح منه القبول. الشرط الثالث: كون نفع العين المعارة مباحا؛ فلا تباح إعارة عبد مسلم لكافر ولا صيد ونحوه لمحرم؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . الشرط الرابع: كون العين المعارة مما يمكن الانتفاع به مع بقائه كما سبق. وللمعير استرجاع العارية متى شاء إلا إذا ترتب على ذلك الإضرار بالمستعسر؛ كما لو أذن له بشغله بشيء يتضرر المستعير إذا استرجعت العارية؛ كما لو أعاره سفينة لحمل متاعه؛ فليس له الرجوع ما دامت في البحر، وكما لو أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه؛ فليس له الرجوع في الحائط ما دام عليه أطراف الخشب. ويجب على المستعير: المحافظة على العارية أشد مما يحافظ على ماله؛ ليردها سليمة إلى صاحبها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ} ؛ فدلت الآية على وجوب رد الأمانات، ومنها العارية. وقال صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك". فدلت هذه النصوص على وجوب المحافظة على ما يؤتمن عليه الإنسان، وعلى وجوب رده إلى صاحبه سالما، وتدخل في هذا العموم العارية؛ لأن المستعير مؤتمن عليها، ومطلوبة منه، وهو إنما أبيح له الانتفاع بها في حدود ما جرى به العرف؛ فلا يجوز له أن يسرف في استمالها إسرافا يؤدي إلى تلفها، ولا أن يستعملها فيما لا يصلح استعمالها فيه؛ لأن صاحبها لم يأذن له بذلك، وقد قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلاَّ الأِحْسَانُ} . فإن استعملها في غير ما استعيرت له فتلفت؛ وجب عليه ضمانها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، رواه الخمسة، وصححه الحاكم؛ فدل على وجوب رد قبضه المرء وهو ملك لغير، ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه. وإن تلفت في انتفاع بها بالمعروف؛ لم يضمنها المستعير؛ لأن المعير قد أذن في هذا الاستعمال، وما ترتب على المأذون؛ فهو غير مضمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 ولا يجوز للمستعير أن العين المعارة؛ لأن من أبيح له شيء؛ لم يجز له أن يبيحه لغيره، ولأن في ذلك تعريضا لها للتلف. وهذا؛ وقد اختلف العلماء في ضمان المستعير للعارية إذا تلفت في يده في غير ما استعيرت له، فذهب جماعة إلى وجوب ضمانها عليه سواء تعدى أو لم يتعد؛ لعموم قولهصلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، وذلك مثل ما لو ماتت الدابة أو احترق الثوب أو سرقت العين المعارة، وذهب جماعة آخرون إلى عدم ضمانها إذا لم يتعد؛ لأنها لا تضمن إلا بالتعدي عليها، ولعل هذا القول هو الراجح؛ لأن المستعير قبضها بإذن مالكها، فكانت أمانة عنده كالوديعة. على أنه يجب على المستعير المحافظة على العارية والاهتمام بها والمسارعة إلى ردها إلى صاحبها إذا انتهت مهمته منها، وأن لا يتساهل بشأنها، أو يعرضها للتلف؛ لأنها أمانة عنده، ولأن صاحبها أحسن إليه، و {هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلَّا الأِحْسَانُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 باب في أحكام الغصب الغصب لغة: أخذ الشيء ظلما، ومعناه في اصطلاح الفقهاء: الاستيلاء على حق غيره قهرًا بغير حق. والغصب محرم بإجماع المسلمين؛ لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، والغصب من أعظم أكل المال بالباطل، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امروء مسلم إلا بطيب نفسه". والمال المغصوب قد يكون عقارًا وقد يكون منقولا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلما؛ طوقه سبع أرضين". فيلزم الغاصب أن يتوب إلى الله عز وجل، ويرد المغصوب إلى صاحبه، ويطلب منه العفو؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من كانت عنده لأخيه مظلمة، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم" يعني: يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 القامة"، إن كانت له حسنات؛ أخذ من سيئات المظلوم، فطرحت عليه، وطرح في النار"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فإن كان المغصوب باقيا؛ رده بحاله، وإن كان تالفا رد بدله. قال الإمام الموفق: "أجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان بحاله لم يتغير" انتهى. وكذلك يلزمه رد المغصوب بزيادته، سواء كانت متصلة أو منفصلة؛ لأنها نماء المغصوب؛ فهي لمالكه كالأصل. وإن كان الغاصب قد بنى في الأرض المغصوبة أو غرس فيها؛ لزمه قلع البناء والغراس إذا طالبه المالك بذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق"، رواه الترمذي وغيره وحسنه. وإن كان ذلك يؤثر على الأرض؛ لزمه غرامة نقصها، ويلزمه أيضا إزالة آثار الغراس والبناء المتبقية، حتى يسلم الأرض لمالكها سليمة. ويلزمه أيضا دفع أجرتها منذ أن غصبها إلى أن سلمها؛ أي: أجرة مثلها؛ لأنه منع صاحبها من الانتفاع بها في هذه المدة بغير حق. وإن غصب شيئا وحسبه حتى رخص سعره؛ ضمن نقصه على الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وإن خلط المغصوب مع غيره مما يتميز كحنطة بشعير؛ لزم الغاصب تخليصه ورده، وإن خلطه بما لا يتميز كما لو خلط بمثلها؛ لزمه رد مثله كيلاً أو وزنا من غير المخلوط، وإن خلطه بدونه أو أحسن منه أو خلطه بغير جنسه مما لا يتميز؛ بيع المخلوط، وأعطي كل منهما قدر حصته من الثمن، وإن نقص المغصوب في هذه الصورة عن قيمته منفردًا؛ ضمن الغاصب نقصه. ومما ذكروه في هذا الباب قولهم: "والأيدي المترتبة على يد الغاصب كلها أيدي ضمان"، ومعناه: أن الأيدي التي ينتقل إليها المغصوب عن طريق الغاصب كلها تضمن المغصوب إذا تلف فيها، وهذه الأيدي عشر: يد المشتري وما في معناه، ويد المستأجر، ويد القابض تملكا بلا عوض كيد المتهب، ويد القابض لمصلحة الدافع كالوكيل، ويد المستعير، ويد الغاصب، ويد المتصرف في المال كالمضارب، ويد المتزوج للمغصوبة، ويد القابض تعويضا بغير بيع، ويد المتلف للمغصوب نيابة عن غاصبه. وفي كل هذه الصور: إذا علن الثاني بحقيقة الحال، وأن الدافع إليه غاصب؛ فقرار الضمان عليه؛ لتعديه على ما يعلمه غير مأذون فيه من مالكه، وإن لم يعلم بحقيقة الحال؛ فالضمان على الغاصب الأول. وإذا كان المغصوب مما جرت العادة بتأجيره؛ لزم الغاصب أجره مثله مدة بقائه بيده؛ لأن المنافع مال منقول، فوجب ضمانها كضمان العين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وكل تصرفات الغاصب الحكمية باطلة؛ لعدم إذن المالك. وإن غصب شيئا، وجهل صاحبه، ولم يتمكن من رده إليه؛ سلمه إلى الحاكم الذي يضعه في موضعه الصحيح، أو تصدق به عن صاحبه، وإذا تصدق به؛ صار ثوابه لصاحبه، وتخلص منه الغاصب. وليس اغتصاب الأموال مقصورًا على الاستيلاء عليها بالقوة، بل ذلك يشمل الاستيلاء عليها بطريق الخصومة الباطلة والأيمان الفاجرة قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؛ فالأمر شديد والحساب عسير. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غصب شبرًا من الأرض طوقه من سبع أرضين"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قضيت له بحق أخيه؛ فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 باب في أحكام الإتلافات ... باب في أحكام الإتلفات إن الله حرم الاعتداء على أموال الناس وابتزاز بغير حق، وشرع ضمان أتلف منها بغير حق، ولو عن طريق الخطأ. فمن أتلف مالاً لغيره، وكان هذا المال محترما، وأتلفه بغير إذن صاحبه؛ فإنه يجب عليه ضمانه. قال الإمام الموفق: "لا نعلم فيه خلافا، وسواء في ذلك العمد والسهو، والتكليف وعدمه". وكذا من تسبب في إتلاف مال؛ كما لو فتح بابا فضاع ما كان مغلقا عليه، أو حل وعاء فانساب ما في الوعاء وتلف؛ ضمن ذلك. وكذا لو حل رباط دابة أو قَيَدها فذهبت وضاعت؛ ضمنها. وكذا لو ربط دابة بطريق ضيق، فنتج عن ذلك أن عثر بها إنسان فتلف أو تضرر؛ ضمنه لأنه قد تعدى بالربط في الطريق. وكذا لو أوقف سيارة في الطريق، فنتج عن ذلك أن اصطدم بها سيارة أخرى أو شخص، فنجم عن ذلك ضرر؛ ضمنه؛ لما رواه الدارقطني وغيره: "من وقف دابة في سبيل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فوطئت بيد أو رجل؛ فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ضامن". وكذا لو ترك في الطريق طينا أو خشبة أو حجراً أو حفر فيه حفرة، فترتب على ذلك تلف المار أو تضرره، أو ألقى في الطريق قشر بطيخ ونحوه، أو أرسل فيها ماء فانزلق به إنسان فتلف أو تضرر؛ ضمنه فاعل هذه الأشياء في جميع هذه الصور؛ لتعديه بذلك. وما أكثر ما يجري التساهل في هذه الأمور في وقتنا، وما أكثر ما يحفر في الطريق ويسد وتوضع فيه العراقيل، وما أكثر الأضرار الناجمة عن تلك التصرفات دون حسيب أو رقيب، حتى إن أحدهم ليستولي على الشارع، ويستعمله لأغراضه الخاصة، ويضايق المارة، ويضر بهم، ولا يبالي بما يلحقه من الإثم من جراء ذلك. ومن الأمور الموجبة للضمان: ما لو اقتنى كلبا عقورًا فاعتدى على المارة وعقر أحدًا؛ فإنه يضمنه؛ لتعديه باقتناء هذا الكلب. وإن حفر بئرًا في فنائه لمصلحته؛ ضمن ما تلف بها؛ لأنه يلزمه أن يحفظها بما يمنع ضرر المارة، فإذا تركها بدون ذلك؛ فهو متعد. وإذا كان لهم بهائم؛ وجب عليه حفظها في الليل من إفساد زروع الناس، فإن تركها وأفسدت شيئا؛ ضمنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن: "على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل مضمون عليهم" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه؛ فلا يضمن صاحب البهيمة ما أتلفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 بالنهار؛ إلا إن أرسلها صاحبها بقرب ما تتلفه عادة. قال الإمام البغوي رحمه الله: "ذهب أهل العلم إلى أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير؛ فلا ضمان على ربها، وما أفسدته بالليل؛ ضمنه مالكها؛ لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي يحفظونها بالليل، فمن خالف هذه العادة؛ كان خارجا عن العرف، هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها، فإن كان معها؛ فعليه ضمان ما أفسدته" انتهى. وقد ذكر الله قصة داود وسليمان وحكمهما في ذلك، فقال سبحانه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْما} . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "صح بنص القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان بالمثل؛ فإن النفش رعي الغنم ليلاً، وكان ببستان عنب، فحكم داود بقيمة المتلف، فاتبر الغنم، فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، وقضى سليمان بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل؛ بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان، ولم يضيع عليهم مغلَّه من حين الإتلاف إلى حين العَود، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك؛ ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، فيستوفوا من نماء غنمه نظير ما فاتهم من نماء حرثهم، واعتبر الضمانين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 فوجدهما سواء، وهذا هو العلم الذي خصه الله به وأثنى عليه بإدراكه" انتهى. وإذا كانت البهيمة بيد راكب أو قائد أو سائق؛ ضمن جنايتها بمقدمها؛ كيدها وفمها، لا ما جنت بمؤخرتها كرجلها؛ لحديث: "الرجل جبار"، وفي رواية أبي هريرة: "رجل العجماء جبار"، والعجماء البهيمة، سميت بذلك لأنها لا تتكلم، وجبار بضم الجيم؛ أي: جناية البهائم هدر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل بهيمة عجماء؛ كالبقر والشاة وغيرها؛ فجناية البهائم غير مضمونة إذا فعلت بنفسها، كما لو انفلتت ممن هي في يده أو فسدت؛ فلا ضمان على أحد، ما لم تكن عقورًا، ولا فرط صاحبها في حفظها في الليل أو في أسواق المسلمين ومجامعهم، وكذا قال غير واحد: إنه إنما يكون جبارًا إذا كانت منفلتة ذاهبة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق؛ إلا الضارية" انتهى. وإذا صال عليه آدمي أو بهيمة، ولم يندفع إلا بالقتل، فقتله؛ فلا ضمان عليه؛ لأنه قتله دفاعا عن نفسه، ودفاعه عن نفسه جائز، لم يضمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 ما ترتب عليه، ولأن قتله لدفع شره، ولأنه إذا قتله دفعا لشره؛ كان الصائل هو القاتل لنفسه. قال الشيخ تقي الدين: "عليه أن يدفع الصائل عليه، فإن لم يندفع إلا بالقتل؛ كان له ذلك باتفاق العلماء". ومما لا ضمان في إتلافه: آلات اللهو، والصليب، وأواني الخمر، وكتب الضلال والخرافة والخلاعة والمجون، لما روى أحمد عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ مدية، ثم خرج إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فشققت بحضرته، وأمر أصحابه بذلك"؛ فدل الحديث على إتلافها وعدم ضمانها، لكن لابد أن يكون إتلافها بأمر السلطة ورقابتها؛ ضمانا للمصلحة، ودفعا للمفسدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 باب في أحكام الوديع الإيداع: توكيل في الحفظ تبرعا. والوديعة لغة: من ودع الشيء إذا تركه، سميت بذلك لأنها متروكة عند المودع. وهي شرعا: اسم للمال المودَع عند من يحفظه بلا عوض. ويشترط لصحة الإيداع: ما يعتبر للتوكيل من البلوغ والعقل والرشد؛ لأن الإيداع توكيل في الحفظ. ويستحب قبول الوديعة لمن علم من نفسه أنه ثقة قادر على حفظها؛ لأن في ذلك ثوابا جزيلاً؛ لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، ولحاجة الناس إلى ذلك، أما من لا يعلم من نفسه القدرة على حفظها، فيكره له قبولها. ومن أحكام الوديعة: أنها إذا تلفت عند المودَع ولم يفرط؛ فإنه لا يضمنها؛ كما لو تلفت من بين ماله؛ لأنها أمانة، والأمين لا يضمن إذا لم يتعد، وورد في حديث فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أودع وديعة؛ فلا ضمان عليه"، رواه ابن ماجه، ورواه الدارقطني بلفظ: "ليس على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 المستودَع غير المُغِل ضمان"، والمُغِل: الخائن، وفي رواية بلفظ: "لا ضمان على مؤتمن"، ولأن المستودَع يحفظها تبرعا، فلو ضمن؛ لامتنع الناس من قبول الودائع، فيترتب على ذلك الضرر بالناس وتعطل المصلحة. أما المعتدي على الوديعة أو المفرط في حفظها؛ فإنه يضمنها إذا تلفت؛ لأنه متلف لمال غيره. ومن أحكام الوديعة: أنه يجب على المودَع حفظها في حرز مثلها كما يحفظ ماله؛ لأن الله تعالى أمر بأدائها في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ} ، ولا يمكن أداؤها إلا بحفظها، ولأن المودَع حينما قبل الوديعة؛ فقد التزم بحفظها، فيلزمه ما التزم به. وإذا كانت الوديعة دابة؛ لزم المودَع إعلافها، فلو قطع العلف عنها بغير أمر صاحبها، فتلفت؛ ضمنها؛ لأن إعلاف الدابة مأمور به، ومع كونه يضمنها؛ فإنه يأثم أيضا بتركه إعلافها أو سقيها حتى ماتت؛ لأنه يجب عليه علفها وسقيها لحق الله تعالى، لأن لها حرمة. ويجوز للمودَع أن يدفع الوديعة إلى من يحفظ ماله عادة؛ كزوجته وعبده وخازنه وخادمه، وإن تلفت عند أحد من هؤلاء من غير تعد ولا تفريط؛ لم يضمن؛ لأن له أن يتولى حفظها بنفسه أو من يقوم مقامه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وكذا لو دفعها إلى من يحفظ مال صاحبها؛ برئ منها؛ لجريان العادة بذلك. أما لو سلمها إلى أجنبي منه ومن صاحبها، فتلفت؛ ضمنها المودَع لأنه ليس له أن يودعها عند غيره من غير عذر؛ إلا إذا كان إيداعها عند الأجنب لعذر اضطره إلى ذلك؛ كما لو حضره الموت أو أراد سفرًا ويخاف عليها إذا أخذها معه؛ فلا حرج عليه في ذلك، ولا يضمن إذا تلفت. وإن حصل خوف، أو أراد المودَع أن يسافر؛ فإنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها أو وكيله، فإن لم يجد صاحبها ولا وكيله؛ فإنه يحملها معه في السفر إذا كان ذلك أحفظ لها، فإن لم يكن السفر أحفظ لها؛ دفعها إلى الحاكم؛ لأن الحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته، فإن لم يكن إيداعها عند الحاكم؛ أودعها ثقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يهاجر؛ أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن رضي الله عنها، وأمر عليا أن يردها إلى أهلها، وكذا من حضرة الموت وعنده ودائع للناس؛ فإنه يجب عليه ردها إلى أصحابها، فإن لم يجدهم؛ أودعها عند الحاكم أو عند ثقة. والتعدي على الوديعة يوجب ضمانها إذا تلفت؛ كما لو أودع دابة فركبها لغير علفها أو سقيها، أو أودع ثوبا فلبسه لغير خوف من عث، وكما لو أودع دراهم في حرز فأخرجها من حرزها، أو كانت مشدودة فأزال الشد عنها؛ فإنه يضمن الوديعة إذا تلفت في هذه الحالات؛ لأنه قد تعدى بتصرفه هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 والمودَع أمين يُقبل قوله إذا ادَّعى أنه ردها صاحبها أو من يقوم مقامه، ويقبل قوله أيضا إذا ادَّعى أنها تلفت من غير تفريطه مع يمينه؛ لأنه أمين؛ لأن الله تعالى: سماها أمانة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ} ، والأصل براءته إذا لم تقم قرينة على كذبه، وكذا لو ادَّعى تلفها بحادث ظاهر كالحريق؛ فإنه لا يقبل قوله إلا إذا أقام بينة على وجود ذلك الحادث. ولو طلب منه صاحب الوديعة ردها إليه، فتأخر من غير عذر حتى تلفت؛ ضمنها؛ لأنه فعل محرما بإمساكها بعد طلب صاحبها لها، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 كتاب إحياء الموات وتملّك المباحات باب في أحكام أحياء الموات ... باب في أحكام أحياء الموات الموات فتح الميم والواو: هو ما لا روح فيه، والمراد به هنا الأرض التي لا مالك لها ويعرفه الفقهاء رحمهم الله: بأنه الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم فيخرج بهذا التعريف شيئان: الأول: ما جرى عليه ملك معصوم من مسلم وكافر بشراء أو عطية أو غيرها. والثاني: ما تعلقت به مصلحة ملك المعصوم؛ كالطريق والأفنية ومسيل المياه، أو تعلقت به مصالح العامر من البلد كدفن الموتى وموضع القمامة والبقاع المرصدة لصلاة العيدين والمحتطبات والمراعي؛ فكل ذلك لا يملك بالإحياء. فإذا خلت الأرض عن ملك معصوم واختصاصه، وأحياها شخص؛ ملكها؛ لحديث جابر رضي الله عنه مرفوعا: "من أحيا أرضا ميتة؛ فهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 له"، رواه أحمد والترمذي وصححه، وورد بمعناه أحاديث، وبعضها في "صحيح البخاري". وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك بالإحياء، وإن اختلفوا في شروطه؛ إلا موات الحرم وعرفات؛ فلا يملك بالإحياء؛ لما فيه من التضييق في أداء المناسك، واستيلائه على محل الناس فيه سواء. ويحصل إحياء الموات بأمور: الأول: إذا أحاط بحائط منيع مما جرت العادة به؛ فقد أحياه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحاط حائطا على أرض؛ فهي له"، رواه أحمد وأبو داود عن جابر، وصححه ابن الجارود، وعن سمرة مثله، وهو يدل على أن التحويط على الأرض مما يستحق به ملكها، والمقدار المعتبر ما يسمى حائطا، أما لو أدار حول الموت أحجارًا ونحوها كتراب أو جدار صغير لا يمنع ما وراءه أو حفر حولها خندقا؛ فإنه لا يملكه بذلك، لكن يكون أحق بإحيائه من غيره، ولا يجوز له بيعه إلا بإحيائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الثاني: إذا حفر في الأرض الموات بئرًا فوصل إلى مائها؛ فقد أحياها؛ فإن حفر البئر ولم يصل إلى الماء؛ لم يملكها بذلك، وإنما يكون أحق بإحيائها من غيره؛ لأنه شرع في إحيائها. الثالث: إذا أوصل إلى الأرض الموات ماء أجراه من عين أو نهر؛ فقد أحياها بذلك؛ لأن نفع الماء للأرض أكثر من الحائط. الرابع: إذا حبس عن الأرض الموات الماء الذي كان يغمرها ولا تصلح معه للزراعة، فحبسه عنها حتى أصبحت صالحة لذلك؛ فقد أحياها؛ لأن نفع الأرض بذلك أكثر من نفع الحائط الذي ورد في الدليل أنه يملكها بإقامته عليها. ومن العلماء من يرى إن إحياء الموات لا يقف عند هذه الأمور، بل يرجع فيه إلى العرف؛ فما عده الناس إحياء؛ فإنه يملك به الأرض الموات، واختار ذلك جمع من أئمة الحنابلة وغيرهم؛ لأن الشرع ورد بتعليق الملك عليه ولم يبينه، فوجب الرجوع إلى ما كان إحياء في العرف. ولإمام المسلمين إقطاع الأرض الموات لمن يحييها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق، وأقطع وائل بن حجر أرضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 بحضرموت، وأقطع عمر وعثمان وجمعا من الصحابة، لكن لا يملكه بمجرد الإقطاع حتى يحييه، بل يكون أحق به من غيره، فإن أحياه؛ ملكه، وإن عجز عن إحيائه؛ فللإمام استرجاعه وإقطاعه لغيره ممن يقدر على إحيائه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استرجع الإقطاعات من الذين عجزوا عن إحيائها. ومن سبق إلى مباح غير الأرض الموات؛ كالصيد، والحطب؛ فهو أحق به1. وإذا كان يمر بأملاك الناس ماء مباح "أي: غير مملوك" كماء النهر وماء الوادي؛ فللأعلى أن يسقي منه ويحبس الماء إلى الكعب ثم يرسله للأسفل ممن يليه، ويفعل الذي يليه كذلك ثم يرسله لمن بعده.. وهكذا؛ لقول النبيصلى الله عليه وسلم: "اسق ياربير! ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر"، متفق عليه.   1 إذا حازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري؛ قال: نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر"؛ فكان ذلك إلى الكعبين؛ أي: قاسوا ما وقعت فيه القصة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا لاستحقاق الأول فالأول. وروى أبو داود وغيره عن عمر بن شعيب؛ أنه صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور "واد بالمدينة مشهور": "أن يمسك الأعلى حتى يبلغ السيل الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل". أما إن كان الماء مملوكا؛ فإنه يقسم بين الملاك بقدر أملاكهم، ويتصرف كل واحد في حصته بما شاء. ولإمام المسلمين أن يحمي مرعى لمواشي بيت مال المسلمين؛ كخيل الجهاد، وإبل الصدقة؛ ما لم يضرهم بالتضييق عليهم؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين"؛ فيجوز للإمام أن يحمي العشب في أرض الموات لإبل الصدقة وخيل المجاهدين ونعم الجزية والضوال إذا احتاج إلى ذلك ولم يضيق على المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 باب في أحكام الجعالة وتسمى الجُعل والجَعِيلة أيضا وهي ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله؛ كأن يقول: من فعل كذا؛ فله كذا من المال؛ بأن يجعل شيئا معلوما من المال لمن يعمل له عملاً معلوما؛ كبناء حائط. ودليل جواز ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} ؛ أي: لمن دل على سارق صواع الملك حمل بغير، وهذا جعل، فدلت الآية على جواز الجعالة. ودليلها من السنة: حديث اللديع، وهو في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي سعيد: أنهم نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، فأتوهم، فقالوا: هل عند أحد منكم من شيء؟ قال بعضهم: إني والله لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا؛ فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً. فصالحوهم على قطيع من غنم، فانطلق ينفث عليه ويقرأ: "الحمد لله رب العالمين"؛ فكأنما نشط من عقال، فأوفوهم جعلهم، وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال: "أصبتم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 اقتسموا واجعلوا لي معكم سهما". فمن عمل العمل الذي جُعلت عليه الجُعالة بعد عمله بها؛ استحق الجُعل؛ لأن العقد استقر بتمام العمل، وإن قام بالعمل جماعة؛ اقتسموا الجُعل الذي عليه بالسوية؛ لأنهم اشتركوا في العمل الذي يُستحق به العِوض فاشتركوا في العِوض، فإن عمل العمل قبل علمه بما جُعل عليه؛ لم يستحق شيئا؛ لأنه عمل غير مأذون فيه، فلم يستحق به عوضا، وإن علم بالجُعل في أثناء العمل؛ أخذ من الجعل ما عمله بعد العلم. والجُعالة عقد، جائز لكل من الطرفين فسخها، فإن كان الفسخ من العامل؛ لم يستحق شيئا من الجُعل؛ لأنه أسقط حق نفسه، وإن كان الفسخ من الجاعل، وكان قبل الشروع في العمل؛ فللعامل أجره مثل عمله؛ لأنه عمله بعوض لم يسلم له. والُجعالة تخالف الإجارة في مسائل: منها: أن الجُعالة لا يشترط لصحتها العلم بالعمل المُجاعل عليه؛ بخلاف الإجارة؛ فإنها يشترط فيها أن يكون العمل المؤاجر عليه معلوما. ومنها: أن الجعالة لا يشترط فيها معرفة مدة العمل؛ بخلاف الإجازة؛ فإنها يشترط فيها أن تكون مدة العمل معلومة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ومنها: أن الجُعالة يجوز فيها الجمع بين العمل والمدة، كأن يقول: من خاط هذا الثوب في يوم؛ فله كذا، فإن خاطه في اليوم؛ استحق الجُعل، وإلا؛ فلا؛ بخلاف الإجارة؛ فإنها لا يصح فيها الجمع بين العمل والمدة. ومنها: أن العامل في الجُعالة لم يلتزم العمل؛ بخلاف الإجارة؛ فإن العامل فيها قد التزم بالعمل. ومنها: أن الجُعالة لا يشترط فيها تعيين العامل؛ بخلاف الإجارة؛ فإنها يشترط فيها ذلك. ومنها: أن الجعالة عقد جائز لكل من الطرفين فسخها بدون إذن الآخر؛ بخلاف الإجارة؛ فإنها عقد لازم لا يجوز لأحد الطرفين فسخها؛ إلا برضى الطرف الآخر. وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أن من عمل لغيره عملاً بغير جُعل ولا إذن من صاحب العمل؛ لم يستحق شيئا؛ لأنه بذل منفعة من غير عوض، فلم يستحقه، ولأنه لا يلزم الإنسان شيء لم يلتزمه؛ إلا أنه يستثني من ذلك شيئان: الأول: إذا كان العامل قد أعد نفسه للعمل بالأجرة كالدلال والحمال ونحوهما؛ فإنه إذا عمل عملاً بإذن يستحق الأجرة، لدلالة العرف على ذلك، ومن لم يعد نفسه للعمل؛ لم يستحق شيئا، ولو أذن له؛ إلا بشرط. الثاني: من قام بتخليص متاع غيره من هلكة؛ كإخراجه من البحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 أو الحرق أو وجده في مهلكة يذهب لو تركه؛ فله أجرة المثل، وإن لم يأذن له ربه؛ لأنه يخشى هلاكه وتلفه على صاحبه، ولأن في دفع الأجرة ترغيبا في مثل هذا العمل، وهو إنقاذ الأموال من الهلكة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من استنقذ مال غيره من الهلكة ورده؛ استحق أجرة المثل، ولو بغير شرط، في أصح القولين، وهو منصوص أحمد وغيره". وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فمن عمل في مال غيره عملاً بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى غيره أو فعله حفاظا لمال المالك وإحرازاً له من الضياع؛ فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله، وقد نص عليه أحمد في عدة مواضع" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 باب في أحكام اللقطة اللقطة بضم اللام وفتح القاف هي: مال ضل عن صاحبه غير حيوان، وهذا الدين الحنيف جاء بحفظ المال ورعايته، وجاء باحترام مال المسلم والمحافظة عليه، ومن ذلك اللقطة. فإذا ضل مال عن صاحبه؛ فلا يخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون مما لا يتبعه همة أوساط الناس؛ كالسوط، والرغيف والثمرة، والعصا؛ فهذا يملكه آخذه وينتفع به بلا تعريف؛ لما روى جابر قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل يلتقطه الرجل"، رواه أبو داود. الحالة الثانية: أن يكون مما يمتنع من صغار السباع: إما لضخامته كالإبل والخيل والبقر والبغال، وإما لطيرانه كالطيور، وإما لسرعة عدوها كالظباء، وإما لدفعها عن نفسها بنابها كالفهود؛ فهذا القسم بأنواعه يحرم التقاطه، ولا يملكه آخذه بتعريفه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل: "مالك ولها؟! معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها"، متفق عليه، وقال عمر: "من أخذ الضالة؛ فهو ضال"؛ أي: مخطئ، وقد حكم صلى الله عليه وسلم في الحديث بأنها لا تلتقط، بل تترك ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 ربها. ويلحق بذلك الأدوات الكبيرة؛ كالقدر الضخمة والخشب والحديد وما يحتفظ بنفسه ولا يكاد يضيع ولا ينتقل من مكانه، فيحرم أخذه كالضوال، بل هو أولى. الحالة الثالثة: أن يكون المال الضال من سائر الأموال؛ كالنقود والأمتعة وما لا يمتنع من صغار السباع؛ كالغنم والفصلان والعجول؛ فهذا القسم إن أمن واجده نفسه عليه؛ جاز التقاطه، وهو ثلاثة أنواع: النوع الأول: حيوان مأكول؛ كفصيل وشاة ودجاجة،.. فهذا يلزم واجده إذا أخذه الأحظ لمالكه من أمور ثلاثة: أحدها: أكله وعليه قيمته في الحال. الثاني: بيعه الاحتفاظ بثمنه لصاحبه بعد معرفة أوصافه. الثالث: حفظه والإنفاق عليه من مال، ولا يملكه، ويرجع بنفقته على مالكه إذا جاء واستلمه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة؛ قال: "خذها؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" متفق عليه، ومعناه: أنها ضعيفة، معرضة للهلاك، مترددة بين أن تأخذها أنت أو يأخذها غيرك أو يأكلها الذئب. قال ابن القيم في الكلام على هذا الحديث الشريف: "فيه جواز التقاط الغنم، وأن الشاة إذا لم يأت صاحبها؛ فهي ملك الملتقط، فيخير بين أكلها في الحال وعليه قيمتها، وبين بيعها وحفظ ثمنها، وبين تركها1 والإنفاق عليها من مالهن وأجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط؛ له أخذها". النوع الثاني: ما يخشى فساده؛ كبطيخ وفاكهة، فيفعل الملتقط الأحظَّ لمالكه من أكله ودفع قيمته لمالكه، وبيعه وحفظ ثمنه حتى يأتي مالكه. النوع الثالث: سائر الأموال ما عدا القسمين السابقين؛ كالنقود والأواني، فيلزمه حفظ الجميع أمنة بيده، والتعريف عليه في مجامع الناس. ولا يجوز له أخذ اللقطة بأنواعها إلا إذا أمن نفسه عليها وقوى على تعريف ما يحتاج إلى تعريف؛ لحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه؛ قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف؛ فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر؛ فادفعها إليه"، وسأله   1 أي: أخذها وتركها دون بيع أو ذبح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 عن الشاة؟، فقال: "فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب"، وسئل عن ضالة الإبل؟، فقال: "ما لك ولها؟!، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها"، متفق عليه. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف وكاءها وعفاصها": الوكاء: ما يربط به الوعاء الذي تكون فيه النفقة. والعفاص: الوعاء الذي تكون فيه الفقة. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم عرفها سنة"؛ أي: اذكرها للناس في مكان اجتماعهم من الأسواق وأبواب المساجد والمجامع والمحافل، "سنة"؛ أي: مدة عام كامل؛ ففي الأسبوع الأول من التقاطها ينادى عليها كل يوم؛ لأن مجيء صاحبها في ذلك الأسبوع أحرى، ثم بعد الأسبوع ينادى عليها حسب عادة الناس في ذلك. والحديث يدل على وجوب التعريف باللقطة، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف وكاءها وعفاصها": دليل على وجوب معرفة صفاتها، حتى إذا جاء صاحبها ووصفها وصفا مطابقا لتلك الصفات؛ دفعت إليه، وإن اختلف وصفه لها عن الواقع؛ لم يجز دفعها إليه. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تعرف؛ فاستنفقها": دليل على المتلقط يملكها بعد الحول وبعد التعريف، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها؛ أي: حتى يعرف وعاءها ووكاءها وقدرها وجنسها وصفتها، فإن جاء صاحبها بعد الحول، ووصفها بما ينطبق على تلك الأوصاف؛ فدعها إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء طالبها يوما من الدهر؛ فادفعها إليه". وقد تبين مما سبق أنه يلزم نحو اللقطة أمور: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 أولاً: إذا وجدها؛ فلا يقدم على أخذها إلا إذا عرف من نفسه الأمانة في حفظها والقوة على تعرفها بالنداء عليها حتى يعثر على صاحبها، ومن لا يأمن نفسه عليها؛ لم يجز له أخذها، فإن أخذها؛ فهو كغاصب؛ لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه، ولما في أخذها حينئذ من تضييع مال غيره. ثانيا: لا بد له قبل أخذها من ضبط صفاتها بمعرفة وعائها ووكائها وقدرها وجنسها وصفها، والمراد بوعائها ظرفها الذي هي فيه كيسا كان أو خرقة، والمراد بوكائها ما تشد به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، والأمر يقتضي الوجوب. ثالثا: لا بد من النداء عليها وتعريفها حولاً كاملاً في الأسبوع الأول كل يوم ثم بعد ذلك، وتكون المناداة عليها في مجامع الناس كالأسواق وعند أبواب المساجد في أوقات الصلوات، ولا ينادي عليها في المساجد؛ لأن المساجد لم تبن لذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد؛ فليقل: لا ردها الله عليك". رابعا: إذا جاء طالبها، فوصفها بما يطابق وصفها؛ وجب دفعها إليه بلا بينة ولا يمين؛ لآمره صلى الله عليه وسلم بذلك، ولقيام صفتها مقام البينة واليمين، بل ربما يكون وصفة لها أظهر وأصدق من البينة واليمين، ويدفع معها نماءها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 المتصل والمنفصل، وأما إذا لم يقدر على وصفها؛ فإنها لا تدفع إليه؛ لأنها أمانة في يده؛ فلم يجز دفعها إلى من لم يثبت أنه صاحبها. خامسا: إذا لم يأت صاحبها بعد تعريفها حولاً كاملاً؛ تكون ملكا لواجدها، ولكن يجب عليه قبل التصرف فيها ضبط صفاتها؛ بحيث لو جاء صاحبها في أي وقت، ووصفها؛ ردها عليه إن كانت موجودة، أو رد بدلها إن لم تكن موجودة؛ لأن ملكه لها مراعى يزول بمجيء صاحبها. سادسا: واختلف العلماء في لقطة الحرم: هل هي كلقطة الحل تملك بالتعريف بعد مضي الحول أو لا تملك مطلقا؟. فبعضهم يرى أنها بذلك؛ لعموم الأحاديث، وذهب الفريق الآخر إلى أنها لا تملك، بل يجب تعريفها دائما، ولا يملكها؛ لقوله في مكة المشرفة: "ولا تحل لقطتها إلا لمعرف". واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ حيث قال: "لا تملك بحال؛ للنهي عنها، ويجب تعريفها أبدًا"، وهو ظاهر الخبر في النهي عنها. سابعا: من ترك حيوانا بفلاة لانقطاعه بعجزه عن المشي أو عجز صاحبه عنه؛ ملكه آخذه؛ لخبر: "من وجد دابة قد عجز أهلها عنها، فسيبوها، فأخذها؛ فهي له"، ولأنها تركت رغبة عنها فأشبهت سائر ما ترك رغبة عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 ومن أخذ نعله ونحوه من متاعه ووجد في موضعه غيره؛ فحكمه حكم اللقطة، لا يملكه بمجرد وجوده، بل لا بد من تعريفه، وبعد تعريفه يأخذ منه قدر حقه ويتصدق بالباقي. ثامنا: إذا وجد الصبي والسفيه لقطه، فأخذاها؛ فإن وليه يقوم مقامه بتعريفها، ويلزم أخذها منهما؛ لأنهما ليسا بأهل للأمانة والحفظ، فإن تركها في يدهما، فتلفت؛ ضمنها؛ لأنه مضيع لها، فإذا عرفها وليهما، فلم تعرف، ولم يأت لها أحد؛ فهي لهما ملكا مراعي؛ كما حق الكبير والعاقل. تاسعا: لو أخذها من موضع ثم ردها فيه؛ ضمنها؛ لأنها أمانة حصلت في يده؛ فلزمه حفظها كسائر الأمانات، وتركها تضييع لها. تنبيه: من هدي الإسلام شأن اللقطة تدرك عنايته بالأموال وحفظها وعنايته بحرمة مال المسلم وحفاظه عليه. وفي الجملة؛ ندرك من ذلك كله حث الإسلام على التعاون على الخير. نسأل الله سبحانه أن يثبتنا جميعا على الإسلام ويتوفانا مسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 باب في أحكام اللقيط أحكام اللقيط لها علاقة كبيرة بأحكام اللقطة؛ إذ اللقطة تختص بالأموال الضائعة. واللقيط هو الإنسان الضائع. مما به يظهر شمول أحكام الإسلام لكل متطلبات الحياة، وسبقه في كل مجال حيوي مفيد، على نحو يفوق ما تعارف عليه عالم اليوم من إقامة دور الحضانة والملاجئ للحفاظ على الأيتام ومن لا عائل لهم من الأطفال والعجزة. ومن ذلك عناية الإسلام بأمر اللقيط، وهو الطفل الذي يوجد منبوذًا أو يضل عن أهله ولا يعرف نسبه في الحالين. فيجب على من وجده على تلك الحال أن يأخذه وجوبا كفائيا، إذا قام به من يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين، وإن تركه الكل؛ أثموا، مع إمكان أخذهم له؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ؛ فعموم الآية يدل على وجوب أخذ اللقيط؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى، ولأن في أخذه إحياء لنفسه؛ فكان واجبا كإطعامه عند الضرورة وإنجائه من الغرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 واللقيط حر في جميع الأحكام؛ لأن الحرية هي الأصل، والرق عارض، فإذا لم يعلم؛ فالأصل عدمه. وما وجد معه من المال أو وجد حوله؛ فهو له؛ عملاً بالظاهر، ولأن يده عليه، فينفق عليه منه ملتقطه بالمعروف؛ لولا يته عليه، وإن لم يوجد معه شيء؛ أنفق عليه من بيت المال؛ لقول عمر رضي الله عنه للذي أخذ اللقيط لما وجده: "اذهب؛ فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته"، ومعنى ولاؤه: ولايته، وقوله: "وعلينا نفقته"؛ يعني: من بيت مال المسلمين. وفي لفظ أن عمر رضي الله عنه قال: "وعلينا رضاعه"؛ يعني: في بيت المال؛ فلا يجب على الملتقط الإنفاق عليه ولا رضاعه، بل يجب ذلك في بيت المال، فإن تعذر؛ وجببت نفقه على من علم بحاله من المسلمين؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، ولما في ترك الإنفاق عليه من هلاكه، ولأن الإنفاق عليه من باب المواساة؛ كقرى الضيف. وحكمه من ناحية الدين: أنه إن وجد في دار الإسلام أو في بلد كفار يكثر فيها المسلمون؛ فهو مسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وإن وجد في بلد كفار خالصة، أو يقل فيها عدد المسلمين؛ فهو كافر تبعا للدار. وحضانته تكون لواجده إذا كان أمينا؛ لأن عمر رضي الله عنه أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين علم أنه رجل صالح، قال: "لك ولاؤه"؛ أي: ولايته، ولسبقه إليه؛ فكان أولى به. وينفق عليه واجده مما وجد معه من نقد أو غيره؛ لأنه وليه، وينفق عليه بالمعروف. فإن كان واجده لا يصلح لحضانته؛ لكونه فاسقا أو كافرًا واللقيط مسلم؛ لم يُقَرَّ بيده؛ لانتقاء ولاية الفاسق وولاية الكافر على المسلم؛ لأنه يفتنه عن دينه. وكذلك لا تقر حضانته بيد واجده إذا كان بدويا يتنقل في المواضع؛ لأن في ذلك إتعابا للصبي، فيؤخذ منه ويدفع إلى المستقر في البلد؛ لأن مقام الطفل في الحضر أصلح له في دينه وأحرى للعثور على أهله ومعرفة نسبه. وميراث اللقيط إذا مات وديته إذا جني عليه بما يوجب الدية يكونان لبيت المال إذا لم يكن له من يرثه من ولده، وأن كان له زوجة؛ فلها الربع. ووليه في القتل العمد العدوان الإمام؛ لأن المسلمين يرثونه، والإمام ينوب عنهم، فيجير بين القصاص والدية لبيت المال؛ لأنه ولي من لا ولي له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وإن جني عليه فيما دون النفس عمدًا؛ انتظر بلوغه ورشده ليقتص عند ذلك أو يعفو. وإن أقر رجل أو أقرت امرأة بأن اللقيط ولده أو ولدها؛ لحق به؛ لأن في ذلك مصلحة له باتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه؛ بشرط أن ينفرد بادعائه نسبه مصلحه له باتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه؛ بشرط أن ينفرد بادعائه نسبه، وأن يمكن كونه منه، وإن ادعاه جماعة؛ قدم ذو البينة، وإن لم يكن لأحد منهم بينة، أو كانت لهم بينات متعارضة؛ عرض معهم على القافة، فمن ألحقته القافة به؛ لحقه؛ لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم والقافة يعرفون الأنساب بالشبه، ويكفي قائف واحد، ويشترط فيه أن يكون ذكرًا عدلاً مجربا في الإصابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 باب في أحكام الوقف الوقف هو: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. والمراد بالأصل: ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدور الدكاكين والبساتين ونحوها. والمراد بالمنفعة: الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجر وسكنى الدار ونحوها. وحكم الوقف: أنه قربة مستحبة في الإسلام. والدليل على ذلك السنة الصحيحة: ففي "الصحيحين": أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! إني أصبحت مالاً بخيبر لم أصب قط مالاً أنفس عندي منه؛ فما تأمرني فيه؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث"، فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. وروى مسلم في "صحيحه" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له". وقال جابر: " م يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف". وقال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف بين الأئمة في تحبيس القناطر والمساجد، واختلفوا في غير ذلك". ويشترط أن يكون الواقف جائز التصرف؛ بأن يكون بالغا حرًا رشيدًا؛ فلا يصح الوقف من الصغير والسفيه والمملوك. وينعقد الوقف بأحد أمرين: الأول: القول الدال على الوقف؛ كأن يقول: وقفت هذا المكان، أو جعلته مسجدًا. الأمر الثاني: الفعل الدال على الوقف في عرف الناس كمن جعل داره مسجدًا، وأذن للناس في الصلاة فيه إذنا عاما؛ أو جعل أرضه مقبرة، وأذن للناس في الدفن فيها. وألفاظ التوقيف قسمان: القسم الأول: ألفاظ صريحة؛ كأن يقول: وقفت، وحبست، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وسبلت، وسميت..هذه الألفاظ صريحة؛ لأنها لا تحتمل غير الوقف؛ فمتى أتى بصيغة منها؛ صار وقفا، من غير انضمام أمر زائد إليها. والقسم الثاني: ألفاظ كناية؛ كأن يقول: تصدقت، وحرمت، وأبّدت.. سميت كناية لأنها تحمل معنى الوقف وغيره؛ فمتى تلفظ بواحد من هذه الألفاظ؛ اشترط اقتران نية الوقف معه، أو اقتران أحد الألفاظ الصريحة أو الباقي من ألفاظ الكناية معه، واقتران الألفاظ الصريحة؛ كأن يقول: تصدقت بكذا صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، واقتران لفظ الكناية بحكم الوقف؛ كأن يقول: تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث. ويشترط لصحة الوقف شروط، وهي: أولاً: أن يكون الواقف جائز التصرف كما سبق. ثانيا: أن يكون الموقوف مما ينتفع به انتفاعا مستمرًا مع بقاء عينه؛ فلا يصح وقف ما لا يبقى بعد الانتفاع به؛ كالطعام. ثالثا: أن يكون الموقوف معينا؛ فلا يصح وقف غير المعين؛ كما لو قال: وقفت عبدًا من عبيدي وبيتا من بيوتي. رابعا: أن يكون الوقف على بر؛ لأن المقصود به التقرب إلى الله تعالى؛ كالمساجد والقناطر والمساكين والسقايات وكتب العلم والأقارب؛ فلا يصح الوقف على غير جهة بر؛ كالوقف على معابد الكفار، وكتب الزندقة، والوقف على الأضرحة لتنويرها أو تبخيرها، أو على سدنتها؛ لأن ذلك إعانة على المعصية والشرك والكفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 خامسا: ويشترط لصحة الوقف إذا كان على معين أم يكون ذلك المعين يملك ملكا ثابتا؛ لأن الوقف تمليك؛ فلا يصح على من لا يملك؛ كالميت والحيوان. سادسا: ويشترط لصحة الوقف أن يكون منجزًا؛ فلا يصح الوقف المؤقت ولا المعلق؛ إلا إذا علقه على موته؛ صح ذلك؛ كأن يقول إذا مت؛ فبيتي وقف على الفقراء؛ لما روى أبو دواد: "أوصى عمر إن حدث به حدث؛ فإن سمعا "أرض له" صدقة"، واشتهر، ولم ينكر، فكان إجماعا، ويكون الوقف المعلق على الموت من ثلث المال؛ لأنه يكون في حكم الوصية. ومن أحكام الوقف: أنه يجب العمل بشرط الواقف إذا كان لا يخالف الشرع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم؛ إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالاً"، ولأن عمر رضي الله عنه وقف وقفا وشرط فيه شرطان ولو لم يجب إتباع شرط تقديما لبعض المستحقين على بعض أو جمعهم أو اشترط اعتبار وصف في المستحق أو اشترط عدمه أو شرط النظر على الوقف وغير ذلك؛ لزم العمل بشرطه؛ ما لم يخالف كتابا ولا سنة. فإن لم يشترط شيئا؛ استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وإذا لم يعين ناظرًا للوقف، أو عين شخصا ومات؛ فالنظر يكون للموقوف عليه إن كان معينا، وإن كان الوقف على جهة كالمساجد، أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين؛ فالنظر على الوقف للحاكم، يتوله بنفسه، أو ينيب عنه من يتولاه. ويجب على الناظر أن يتقي الله ويحسن الولاية على الوقف؛ لأن ذلك أمانة أؤتمن عليها. وإذا وقف على أولاده؛ استوى الذكور والإناث في الاستحقاق؛ لأنه شرك بينهم، وإطلاق التشريك يقتضي الاستواء في الاستحقاق؛ كما لو أقر لهم بشيء؛ فإن المقر به يكون بينهم بالسوية؛ فكذلك إذا وقف عليهم شيئا، ثم بعد أولاده لصلبه ينتقل الوقف إلى أولاد بنيه دون ولد بناته؛ لأنهم من رجل آخر، فينسبون إلى آبائهم، ولعدم دخولهم في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم} ، من العلماء من يرى دخولهم في لفظ الأولاد، لأن البنات أولاده؛ فأولادهن أولاد أولاده حقيقة، والله أعلم. ولو قال: وقف على أبنائي، أو: بني فلان؛ اختص الوقف بذكورهم؛ لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة، قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} ؛ إلا أن يكون الموقوف عليهم قبيلة؛ كبني هاشم وبني تميم؛ فيدخل فيهم النساء؛ لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها. لكن إذا وقف على يمكن حصرهم؛ وجب تعميمهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 والتسوية بينهم، وإن لم يكن حصرهم واستيعابهم؛ كبني هاشم وبني تميم؛ لم يجب تعميمهم؛ لأنه غير ممكن، وجاز الاقتصار على بعضهم وتفضيل بعضهم على بعض. والوقف من العقود اللازمة بمجرد القول؛ فلا يجوز فسخه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث". قال الترمذي: "العمل على هذا الحديث عند أهل العلم". فلا يجوز فسخه؛ لأنه مؤبد، ولا يباع، ولا ينافل به؛ إلا أن تتعطل منافعه بالكلية؛ كدار انهدمت ولم تمكن عمارتها من ريع الوقف، أو أرض زراعية خربت وعادت مواتا ولم يمكن عمارتها بحيث لا يكون ريع الوقف ما يعمرها، فيباع الوقف الذي هذه حاله، ويصرف ثمنه في مثله؛ لأنه أقرب إلى مقصود الواقف، فإن تعذر مثله كاملاً؛ صرف في بعض مثله، ويصير البديل وقفا بمجرد شرائه. وإن كان الوقف مسجدًا، فتعطل ولم ينتفع به في موضعه، كأن خربت محلته؛ فإنه يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر، وإذا كان على مسجد وقف زاد ريعه عن حاجته؛ جاز صرف الزائد إلى مسجد آخر؛ لأنه انتفاع به في جنس ما وقف له، وتجوز الصدقة بالزائد من غلة الوقف على المسجد على المساكين. وإذا وقف على معين؛ كما قال: هذا وقف على زيد، يعطى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 منه كل سنة مئة، وكان في ريع الوقف فائض عن هذا القدر؛ فإنه يتعين إرصاد الزائد، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: "إن علم أن ريعه يفضل دائما؛ وجب صرفه؛ لأن بقاءه فساد له". وإذا وقف على مسجد، فخرب، وتعذر الانفاق عليه من الوقف؛ صرف في مثله من المساجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 باب في أحكام الهبة والعطية والهبة: هي التبرع من جائر التصرف في حياته لغيره بمال معلوم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي ويهدي إليه، ويعطي ويعطي. فالهبة والهدية من السنة المرغّب فيها لما يترتب عليها من المصالح، قال صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا"، وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها"، وقال صلى الله عليه وسلم: "تهادوا؛ فإن الهدية تسل السخية". وتلزم الهبة إذا قبضها الموهوب له بإذن الواهب؛ فليس له الرجوع فيها، أما قبل القبض؛ فله الرجوع؛ بدليل حديث عائشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 رضي الله عنها: "أن أبا بكر نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية، فلما مرض؛ قال: يا بنية‍‍‍‍‍‍‍! كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا، ولو كنت حزتيه أو قبضتيه؛ كان لك؛ فإنما هو اليوم مال وارث؛ فاقتسموه على كتاب الله تعالى" وإن كانت الهبة في يد الموهب وديعة أو عارية، فوهبها له؛ فاستدامته لها تكفي عن قبضها ابتداء. وتصح هبة الدين لمن هو في ذمته، ويعتبر ذلك إبراء له، ويجوز هبة كل ما يجوز بيعه. ولا تصح الهبة المعلقة على شرط مستقبل؛ كأن يقول: إذا حصل كذا فقد وهبتك كذا. ولا تصح الهبة مؤقتة؛ كأن يقول: وهبتك كذا شهرًا أو سنة؛ لأنها تمليك للعين؛ فلا تقبل التوقيت؛ كالبيع، لكن يستثنى من التعليق تعليق الهبة بالموت؛ كأن يقول: إذا مت؛ فقد وهبتك كذا وكذا، وتكون وصية تأخذ أحكامها. ولا يجوز للإنسان أن يهب لبعض أولاده ويترك بعضهم أو يفضل بعضهم على بعض في الهبة، بل يجب عليه العدل بينهم؛ بتسوية بعضهم ببعض؛ لحديث النعمان بن بشير: أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم لما نحله نحلة ليشهد عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلت مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 هذا؟ "، فقال: لا. فقال: "أرجعه". ثم قال: "اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم"، متفق عليه. فدل على وجوب العدل بين الأولاد في العطية، وأنها تحرم الشهادة على تخصيص بعضهم أو تفضيله تحملاً وأداء إن علم ذلك. وإذا وهب الإنسان هبة وقبضها الموهوب له؛ حرم عليه الرجوع فيها وسحبها منه؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئة"؛ فدل هذا على تحريم الرجوع في الهبة؛ إلا ما استثناه الشارع، وهو الأب؛ فله أن يرجع فيما وهبه لولده، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده"، رواه الخمسة وصححه الترمذي. كما أن للوالد أن يأخذ ويملك من مال ولده ما لا يضر الولد ولا يحتاجه؛ لحديث عائشة: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"، رواه الترمذي وحسنه، ورواه غيره، وله شواهد تدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بمجموعها على أن للوالد الأخذ والتملك والأكل من مال ولده ما لا يضر الوالد ولا يتعلق بحاجته، بل إن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك": يقتضي إباحة ماله، فيجب على الولد أن يخدم أباه بنفسه، ويقتضي له حوائجه. وليس للوالد أن يتملك من مال الولد ما يضره أو تتعلق به حاجته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". وليس للولد مطالبة أبية بدين ونحوه؛ لأن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فدل على أنه لا يحق للولد مطالبة والده بالدين، وقد قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ؛ فأمر سبحانه بالإحسان إلى الوالدين، ومن الإحسان إليهما عدم مطالبتهما بالحق الذي عليهما للولد، ما عدا النفقة ألوا جبة على الوالد؛ فللولد مطالبته بها؛ لضرورة حفظ النفس إذا كان الولد يعجز عن الكسب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 والهدية تذهب الحقد وتجلب المحبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تهادوا؛ فإن الهدايا تذهب وحر1 الصدور". ولا ينبغي رد الهدية وإن قلَّت، وتسن الإثابة عليها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثبت عليها، وذلك من محاسن الدين، ومكارم الشيم   (1) الوحر: الغل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 كتاب المواريث باب في تصرفات المريض المالية حالة الصحة تختلف عن حالة المرض من حيث نفوذ تصرفات الإنسان في ماله في حدود الشرع والرشد من غير استدراك عليه، والصدقة في هذه الحالة أفضل من الصدقة في حالة المرض وأعظم أجرًا. قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وفي "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الصدقة أفضل؟، قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح؛ تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم؛ قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان". والمرض ينقسم إلى قسمين: أولاً: مرض غير مخوف، أي: لا يخاف منه الموت في العادة؛ كوجع ضرس وعين وصداع يسير؛ فهذا القسم من المرض يكون تصرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 المريض فيه لازما كتصرف الصحيح، وتصح عطيته من جميع ماله، ولو تطور إلى مرض مخوف ومات منه؛ اعتبارًا بحاله حال العطية؛ لأنه في حال العطية في حكم الصحيح. ثانيا: مرض مخوف، بمعنى: أنه يتوقع منه الموت عادة؛ فإن تبرعات المريض في هذا المرض وعطاياه تنفذ من ثلثه لا من رأس المال، فإن كانت في حدود الثلث فما دون؛ نفذت، وإن ذادت عن ذلك؛ فإنها لا تنفذ؛ إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم"، رواه ابن ماجه والدارقطني. فدل هذا الحديث وما ورد بمعناه على الإذن بالتصرف في ثلث المال عند الوفاة، وهو مذهب جمهور العلماء، ولأنه في حال المرض المخوف يغلب موته به، فكانت عطيته من رأس المال تجحف بالوارث، فردت إلى الثلث كالوصية. ومثل حالة المرض المخوف في حكم التصرف المالي: حالة الخطر؛ كمن وقع الوباء في بلده، أو كان بين الصفين في القتال، أو كان في لجة البحر عند هيجانه؛ فإنه لا ينفذ تبرعه في تلك الحال فيما زاد على الثلث؛ إلا بإجازة الورثة بعد الموت، ولا يصح تبرعه في تلك الحال لأحد ورثته بشيء؛ إلا بإجازة الورثة إن مات في هذه الحال، فإن عوفي من المرض المخوف؛ نفذت عطاياه كلها؛ لعدم المانع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 ومن كان مرضه مزمنا، ولم يلزمه الفراش؛ فتبرعاته تصح من جميع ماله كتبرعات الصحيح؛ لأنه لا يخاف منه تعجيل الموت؛ فهو كالهرم، وأما إن لزم من به مرض مزمن الفراش؛ فهو كمن مرضه مخوف، لا تصح وصايه إلا في حدود الثلث، ولغير الوارث؛ إلا إذا أجازها الورثة؛ لأنه مريض ملازم للفراش، يخشى عليه التلف. ويعتبر مقدار الثلث عند موته؛ لأنه وقت لزوم الوصايا، ووقت استحقاقها، فتنفذ الوصايا والعطايا من ثلثه حينئذ، فإن ضاق عنها؛ قدمت العطايا على الوصايا؛ لأنها لازمة في حق المريض، فقدمت على الوصية كالعطية في حال الصحة. وهناك فروق بين الوصية والعطية: فقد قال الفقهاء رحمهم الله: إن الوصية تفارق العطية في أربعة أشياء: أحدهما: أنه يسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية؛ لأنها تبرع بعد الموت، يوجب دفعة واحدة، أما العطية؛ فيبدأ بالأول فالأول فيها؛ لأنها تقع لازمة في حق المعطى. الثاني: أن المعطى لا يملك الرجوع في العطية بعد قبضها؛ بخلاف الوصية؛ فإن الموصي يملك الرجوع فيها لأنها لا تلزم إلا بالموت. الثالث: أن العطية يعتبر القبول لها عند وجودها؛ لأنها تملك في الحال؛ بخلاف الوصية؛ فإنها تمليك بعد الموت؛ فاعتبر القبول عند وجود؛ فلا حكم لقبولها قبل الموت. الرابع: أن العطية يثبت الملك فيها عند قبولها؛ بخلاف الوصية؛ فإنها لا تملك قبل الموت؛ لأنها تمليك بعده؛ فلا تتقدمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 باب في أحكام الوصايا الوصية لغة: مأخوذة من وصيت الشيء إذا وصلته، سميت بذلك لأنها وصل لها كان في الحياة بما بعد الموت؛ لأن الموصي بعض التصرف الجائز في حياته ليستمر بعد موته. والوصية في اصطلاح الفقهاء: هي الأمر بالتصرف بعد الموت، أو بعبارة أخرى: هي التبرع بالمال بعد الموت. والدليل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} . وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم". وأجمع العلماء على جوازها. والوصية تارة تكون واجبة وتارة مستحبة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 فتجب الوصية بما وما عليه من الحقوق التي ليس فيها إثبات لئلا تضيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين؛ إلا ووصيته مكتوبة عنده"، فإذا كان عنده ودائع للناس أو في ذمته حقوق لهم؛ وجب عليه أن يكتبها ويبينها. تكون الوصية مستحبة بأن يوصي بشيء من ماله في سبل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته؛ فقد أذن له الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال، وهذا من لطف الله بعباده؛ لتكثير الأعمال الصالحة لهم. وتصح الوصية حتى من الصبي العاقل كما تصح منه الصلاة، وثبت بالإشهاد وبالكتابة المعروفة بخط الموصي. ومن أحكام الوصية: أنها تجوز بحدود ثلث المال فأقل، وبعض العلماء يستحب أن لا تبلغ الثلث؛ فقد ورد عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم: فقد قال أبو بكر رضي الله عنه: "رضيت بما رضي الله به لنفسه"، يعني: في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وقال علي رضي الله عنه: " لأن أوصى بالخمس أحب إلى من أوصي بالربع". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث، والثلث كثير". ولا يجوز الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث؛ إلا بإجازة الورثة؛ لأن ما زاد على ثلث حق لهم، فإذا أجازوا الزيادة عليه؛ صح ذلك، وتعتبر إجازتهم لها بعد الموت. ومن أحكام الوصايا أنها لا تصح لأحد من الورثة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وله شواهد، وقال الشيخ تقي الدين: "اتفقت الأمة عليه". وذكر الشافعي أنه متواتر، فقال: "وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث"، ويأثرونه عمن لقوه من أهل العلم؛ إلا إذا أجاز الورثة الوصية للوارث؛ فإنما تصح؛ لأن الحق لهم، وتعتبر صحة إجازتهم الوصية بالزيادة على الثلث لغير الوارث وإجازتهم الوصية للوارث إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 كانت الإجازة صادرة منهم في مرض موت الموصي أو بعد وفاته..". ومن أحكام الوصية: أنها إنما تستحب في حق من له مال كثير ووارثه غير محتاج؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} ، والخير هو المال الكثير عرفا؛ فتكره وصية من ماله قليل ووارثه محتاج؛ لأنه يكون بذلك قد عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "ما من مال أعظم أجرًا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس"، وقال علي لرجل: "إنما تركت شيئا يسيرًا؛ فدعه لورثتك"، وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصوا. وإذا كان قصد المورث المُضارَّة بالوارث ومضايقته؛ فإن ذلك يحرم ويأثم به؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ مُضَار} . وفي الحديث: "إن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت، فيُضارُّ في الوصية، فتجب له النار"،وقال ابن عباس: "الإضرار في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الوصية من الكبائر". قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "قوله {غَيْرَ مُضَار} ؛ أي: يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار؛ كأن يقر بشيء ليس عليه، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الضرار بالورثة، أو يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة، وهذا القيد أعني قوله: {غَيْرَ مُضَار} راجع إلى الوصية والدَّين المذكورين؛ فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته؛ فهو باطل مردود، لا ينفذ منه شيء، لا الثلث ولا دونه" انتهى كلام الشوكاني رحمه الله. ومن أحكام الوصايا: جواز الوصية بكل المال لمن لا وارث له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، وورد جواز ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وقال به جمع من العلماء؛ لأن المنع من الوصية بما زاد عن الثلث لأجل حق الورثة، فإذا عدموا؛ زال المانع؛ لأنه لم يتعلق به حق وارث ولا غريم؛ فأشبه ما لو تصدق بماله في حال صحته. قال الإمام ابن القيم: "الصحيح أن ذلك له؛ لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث إذا كان له ورثة، فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله.." انتهى كلام ابن القيم. ومن أحكام الوصايا: أنه إذا لم يف ثلث مال الموصي بها، ولم تُجِز الورثة الزيادة على الثلث؛ فإن النقص يدخل على الجميع بالقسط فيتحاصَّون، ولا فرق بين متقدمها ومتأخرها؛ لأنها كلها تبرع بعد الموت، فوجبت دفعة واحدة، تساوى أصحابها في الأصل وتفاوتوا في المقدار، فوجبت المحُاصَّة؛ كمسائل العول في الفرائض إذا زادت على أصل المسألة. مثال ذلك: أو أوصى لشخص بمئة ريال، ولآخر بمئة ريال، ولثالث بخمسين ريالاً، ولرابع بثلاثين ريالاً، وثلث ماله مئة ريال فقط، ومجموع الوصايا ثلاث مئة ريال، فإذا نسبت مبلغ الثلث إلى مبلغ مجموع الوصايا؛ بلغ ثلثه، فيعطي كل واحد ثلث ما أوصى له به فقط. ومن أحكام الوصايا: أن الاعتبار بصحتها وعدم صحتها بحالة الموت، فلو أوصى لوارث، فصار عند الموت غير وارث؛ كأخ حجب بابن تجدَّد؛ صحت الوصية اعتبارًا بحال الموت؛ لأنه الحال الذي يحصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 به الانتقال إلى الوارث والموصى له، وبعكس ذلك، لو أوصى لغير وارث، فصار عند الموت وارثا؛ فإنها لا تصح الوصية؛ كما لو أوصى لأخيه مع وجود ابنه حال الوصية، ثم مات ابنه؛ فإنها تبطل الوصية إن لم تجزها الورثة؛ لأن أخاه صار عند الموت وارثا. ويترتب على هذا الحكم أيضا أنه لا يصح قبول الوصية ولا يملك الموصى له العين الموصى بها إلا بعد موت الموصي؛ لأن ذلك وقت ثبوت حقه، ولا يصح القبول قبل موت الموصي. قال الموفق: "لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت، وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء كالمساكين أو من لا يمكن حصرهم كبني تميم أو على مصلحة كالمساجد؛ لم تفتقر إلى قبول، ولزمت بمجرد الموت، أما إذا كانت على معين؛ فإنها تلزم بالقبول بعد الموت". ومن أحكام الوصية: أنه يجوز للموصي الرجوع فيها ونقضها أو الرجوع في بعضها؛ لقول عمر: "يغير الرجل ما شاء في وصيته"، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، فإذا قال: رجعت في وصيتي، أو: أبطلتها.. ونحو ذلك؛ بطلت؛ لما سبق من أن الاعتبار بحالة موت الموصي من حيث القبول ولزوم الوصية؛ فكذلك للموصي أن يرجع عنها في حياته، فلو قال: إن أقدم زيد؛ فله ما وصيت به لعمرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 فقدم زيد في حياة الموصي؛ فالوصية له، ويكون الموصي بذلك قد رجع عن الوصية لعمرو، وإن لم يقدم زيد إلا بعد وفاة الموصي؛ فالوصية لعمرو؛ لأنه لما مات الموصي قبل قدومه استقرت الوصية للأول وهو عمرو. ومن أحكام الوصية: أنه يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية كالزكاة والحج والنذور والكفارات أولاً، وإن لم يوص به؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . ولقول علي رضي الله عنه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية" رواه الترمذي وأحمد وغيره، فدل على تقديم الدين على الوصية، وفي "الصحيح": "اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء"، فيبدأ بالدين ثم الوصية، ثم الإرث؛ بالإجماع. والحكمة في تقديم ذكر الوصية على الدين في الآية الكريمة، وإن كانت تتأخر عنه في التنفيذ: أنها لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض؛ كان في إخراجها مشقة على الوارث، فقدمت في الذكر؛ حثا على إخراجها، واهتماما بها، وجيء بكلمة "أو" التي للتسوية، فيستويان في الاهتمام، وإن كان الدين مقدما عليها. ومن هنا؛ فإن أمر الوصية مهم، حيث نوه الله بشأنها في كتابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 الكريم، وقدمها في الذكر على غيرها؛ اهتماما بها، وحثا على تنفيذها، ما دامت تتمشى على الوجه المشروع، وقد توعد الله من تساهل بشأنها أو غيَّر فيها وبدل من غير مسوٍّغ شرعي، فقال سبحانه: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قال الإمام الشوكاني في تفسيره: "والتبديل التغيير، وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء؛ فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به.." انتهى. ومن أحكام الوصية: صحتها لكل شخص يصح تملكه، سواء كان مسلما أو كافرًا؛ لقوله تعالى: {إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} ، قال محمد بن الحنفية: "هو وصية المسلم لليهودي والنصراني". وقد كسا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له وهو مشرك. وأسماء وصلت أمها وهي راغبة عن الإسلام. وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي. ولقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وإنما تصح وصية المسلم للكافر المعين كما ورد، وأما الكافر غير المعين؛ فلا تصح الوصية له؛ كما لو أوصى لليهود أو النصارى أو فقرائهم، وكذا لا تصح الوصية للكافر المعين بما لا يجوز تمليكه إياه وتمكينه منه؛ كالمصحف، والعبد المسلم، أو السلاح. وتصح الوصية لحملٍ تحقق وجوده قبل صدور الوصية، ويعرف ذلك بأن تضعه أمه قبل تمام ستة أشهر من صدور الوصية إذا كان لها زوج أو سيد، أو تضعه لأقل من أربع سنين إن لم تكن ذات زوج أو سيد؛ لأن مثل هذا الحمل يرث؛ فالوصية له تصح من باب أولى، وإن وضعته ميتا بطلت الوصية. ولا تصح الوصية لحمل غير موجود حينها؛ كما لو قال أوصيت لمن تحمل به هذه المرأة؛ لأنها وصية لمعدوم. وإذا أوصى بمبلغ كبير من المال يُحَجُّ به عنه؛ فإنه يصرف منه حجة بعد أخرى حتى ينفد، وإن كان المبلغ قليلاً؛ حُجَّ به من حيث بلغ، وإن نص على أن المبلغ الكثير كله يصرف في حجة واحدة؛ صرف في حجة واحدة؛ لأنه قصد بذلك نفع من يحج، ولا يصح حج الموصي أو الوارث عنه في تلك الصور؛ لأن الموصي قصد غيرهما في الظاهر. ولا تصح الوصية لمن لا يصح تمليك؛ كالجني، والبهيمة، والميت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ولا تصح الوصية على جهة معصية؛ كالوصية للكنائس ومعابد الكفرة والمشركين، وكالوصية لعمارة الأضرحة وإسراجها أو لسدنتها، سواء كان الموصي مسلما أو كافرًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لو حبس الذمي من مال نفسه شيئا على معابدهم؛ لم يجز للمسلمين الحكم بصحته؛ لأنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، ومما أنزل الله أن لا يتعاونوا على شيء من الكفر والفسوق والعصيان؛ فكيف يعاونون بالحبس على المواضع التي يكفر فيها؟! ". ولا تصح الوصية على طباعة الكتب المنسوخة؛ كالتوراة والإنجيل أو طباعة الكتب المنحرفة؛ ككتب الزندقة والإلحاد. ومن أحكام الوصية: أنه يشترط أن يكون الموصى به مالاً أو منفعة مباحة، ولو كان مما يعجز عن تسليمه؛ كالطير في الهواء، والحمل الذي في البطن، واللبن الذي في الضرع، أو كان معدوما؛ كما لو أوصى بما يحمل حيوانه أو شجرته أبدًا أو مدة معينة كسنة، فإن حصل شيء من المعدوم؛ فهو للموصى له، وإن لم يحصل شيء؛ بطلت الوصية؛ لأنها لم تصادف محلاًّ. وتصح الوصية بالمجهول؛ كما لو أوصى بعبد أو شاة، ويعطى الموصى له حينئذ ما يقع عليه الاسم حقيقة أو عرفا. ومن أحكام الوصايا: أنه لو أوصى بثلث ماله، فاستحدث مالاً بعد الوصية؛ دخل الوصية؛ لأن الثلث إنما يعتبر عند الموت في المال الموجود حينئذٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 ومن أحكام الوصايا: أنه لو أوصى لشخص بشيء معين من ماله، فتلف ذلك المعين قبل موت الموصي أو بعده؛ بطلت الوصية؛ لزوال حق الموصى له بتلف ما أوصي له به. ومن أحكام الوصايا: أنه إذا لم يحدد مقدار الموصى به، كما لو أوصى بسهم من ماله؛ فإنه يفسر بالسدس؛ لأن السهم في كلام العرب هو السدس، وبه قال على وابن مسعود، ولأن السدس أقل سهم مفروض، فتنصرف الوصية إليه، وإن أوصى بشيء من ماله، ولي يبين مقداره؛ فإن الوارث يعطي الموصى له ما شاء مما يتمول؛ لأن الشيء لا حد له في اللغة ولا في الشرع، فيصدق على أقل شيء يُتَمَوَّل، وما يُتَموَّل لا يحصل به المقصود، والله أعلم. أحكام الموصى إليه "الناظر على الوصية وغيرها": الموصى إليه هو المأمور بالتصرف بعد الموت في المال وغيره مما للموصي التصرف فيه حال الحياة، وتدخله النيابة؛ لأن الموصى إليه نائب عن الموصي في ذلك. ودخول الموصى إليه في تلك النيابة وقبوله لها مندوب إليه وقربة يثاب عليها، لكن ذلك يشرع لمن عنده المقدرة على العمل ويجد من نفسه توفر الأمانة؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"، ولفعل الصحابة رضي الله عنهم؛ فقد أوصى إلى الزبير رضي الله عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 جماعة من الصحابة، وأوصى أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما، وأوصى عمر إلى بنته حفصة رضي الله عنها ثم إلى الأكابر من ولده. أما من لا يقوى على القيام على الوصية، أو لا يأمن نفسه على حفظها؛ فلا يجوز له الدخول في الوصاية. ويشترط في الموصى إليه: أن يكون مسلما؛ فلا يصح الإيصاء إلى كافر. ويشترط فيه أيضا: أن يكون مكلَّفا؛ فلا يصح الإيصاء إلى صبي، ولا إلى محنون، ولا إلى أبله؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل الولاية والتصرف، لكن يصح تعليق الإيصاء إلى صبي ببلوغه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أميركم زيد، فإن قتل؛ فجعفر". ويصح الإيصاء إلى امرأة إذا كان فيها كفاءة للقيام بشؤون الوصية؛ لأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة رضي الله عنه ولأن المرأة من أهل الشهادة، فيصح الإيصاء إليها كالرجل. وتصح الوصية إلى من لا يقدر على العمل، لكن عنده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 تفكير سليم، ويضم إليه قادرًا أمينا يتعاون معه. ويصح أن يوصي إلى أكثر من واحد، سواء أوصى إليهم دفعة واحدة أو أوصى إليهم واحدًا بعد واحد؛ إذ لم يعزل الأول. وإذا أوصى إلى جماعة؛ فإنهم يشتركون في العمل، وليس أحدهم التصرف في الوصية دون الآخر، وإن مات أحدهم أو غاب؛ أقام الحاكم مقامه من يصلح. ويصح قبول الموصى إليه الوصية في حياة الموصي وبعد موته، وله عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي وبعد موته، وللموصي أيضا عزل الموصى إليه متى شاء؛ لأنه وكيل. ولا يجوز للموصي إليه أن يوصي إلى غيره؛ إلا أن يُجعل ذلك إليه؛ بأن يأذن له الموصي بالإيصاء إلى غيره متى شاء؛ كأن يقول: أذنت لك أن توصي إلى من شئت. ويشترط لصحة الإيصاء: أن يكون في تصرف معلوم؛ ليعلم الموصي إليه ما أوصى به حتى يقوم بحفظه والتصرف فيه. ويشترط أيضا: أن يكون التصرف الموصي به مما يصح للموصي فعله؛ كقضاء دينه، وتفرقة ثلثه، والنظر لصغار..ونحو ذلك؛ لأن الموصي إليه يتصرف بالإذن، فلم يجز له التصرف إلا فيما يملكه الموصي؛ كالوكالة، ولأن الموصي أصل والوصي فرع، ولا يملك الفرع ما لا يملكه الأصل؛ فلا تصح الوصية بما لا يملكه الوصي؛ كتوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر؛ لأنه لا ولاية عليهم لغير الأب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وتتحدد الوصية بما عينت فيه؛ فمن وصي في شيء؛ لم يكن وصيا في غيره، فلو أوصي إلى شخص في قضاء ديونه؛ لم يكن وصيا على أولاده؛ لأن تصرفه يقتصر على ما أذن له فيه كالوكيل , وتصح وصية الكافر إلى مسلم إذا كانت تركته من المباح، فإن كانت من المحرم كالخمر والخنزير؛ لم تصح؛ لأن المسلم لا يجوز له أن يتولى ذلك. وإن قال الموصي للموصى إليه: ضع ثلثي حيث شئت، أو: تصدق به على من شئت؛ لم يجز للوصي أن يأخذ منه شيئا؛ لأنه لم يأذن له بذلك، ولا يجوز له أيضا أن يعطيه لولده وورثته؛ لأنه متهم في حقهم. ومن أحكام الوصايا: أن من مات بمكان لا حاكم فيه ولا وصي؛ كمن مات في برية؛ جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته، وعمل الأصلح من بيع وغيره؛ لأنه موضع ضرورة؛ إذ في تركه إتلاف له، وحفظه من فروض الكفايات، ويكفنه ويجهزه من تركته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 باب في أحكام المواريث إن موضوع المواريث موضوع مهم وجدير بالعناية؛ فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعليمه في أحاديث كثيرة. منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس؛ فإنها نصف العلم، وهو ينسي، وهو أول علم ينزع من أمتي"، رواه ابن ماجة، وفي رواية:: "فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما"، رواه أحمد والترمذي والحاكم. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فقد أهمل هذا العلم ونسي؛ فلا وجود لتعليمه في المساجد إلا نادرًا، ولا في مدارس المسلمين إلا في بعض الجهات التعليمية على شكل ضعيف لا يفي بالغرض على شكل ضعيف لا يفي بالغرض ولا يضمن بقاء هذا العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فيجب على المسلمين أن يهبوا لإحياء هذا العلم والحفاظ عليه في المساجد والمدارس والجامعات؛ فإنهم بأمس الحاجة إلي، وسيسألون عنه. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة". وعن عمر رضي الله عنه: "تعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم"، وقال عبد الله: "من تعلم القرآن؛ فليتعلم الفرائض". ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم عن الفرائض: "إنها نصف العلم": أن للإنسان حالتين: حالة حياة، وحالة موت. وفي الفرائض معظم الأحكام المتعلقة بالموت، بينهما يتعلق باقي العلم بأحكام الحياة، وقيل: صارت نصف العلم؛ لأنها يحتاج إليها الناس كلهم، وقيل في معناه غير ذلك، والمهم أن في ذلك توجيها للاهتمام بهذا العلم. ويسمى هذا العلم بالفرائض، جمع فريضة، مأخوذ من الفرض، وهو التقدير، لأن أنصباء الورثة مقدرة؛ فالفريضة نصيب مقدر شرعا لمستحقه، وعلم الفرائض هو العلم بقسمة المواريث من حيث فقه أحكامها ومعرفة الحساب الموصل إلى قسمتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 ويتعلق بتركة الميت خمسة حقوق: فيبدأ بمؤنة تجهيزه من ثمن كفن ومؤنة تغسيله وأجرة حفر قبره، ثم تقضى منها ديونه، سواء كانت لله كالزكوات والكفارات والنذور والحج الواجب أو كانت للآدميين، ثم تخرج وصاياه؛ بشرط أن تكون في حدود الثلث فأقل، ثم يقسم بعد ذلك بين الورثة حسبما شرعه الله عز وجل يقدم أصحاب الفروض، فإن بقى شيء، فهو للعصبة على ما سيأتي بيانه. ولا يجوز تغيير المواريث عن وضعها الشرعي، وذلك كفر بالله عز وجل قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} . قال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسيره: "والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى الأحكام المتقدمة [يعني: في المواريث] ، وسماها حدودًا؛ لكونها لا تجوز مجاوزتها ولا يحل تعديها، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية كما يفيده عموم اللفظ؛ {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} .." إلى أن قال: "وأخرج ابن ماجه عن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فما تصرف في المواريث عن مجراها الشرعي، فورث غير وارث، أو حرم الوارث من كل حقه أو بعضه، أو ساوى بين الرجل والمرأة في الميراث؛ كما في بعض الأنظمة القانونية الكفرية؛ مخالفا بذلك حكم الله في جعله للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فهو كافر مخلد في النار والعياذ بالله؛ إلا أن يتوب إلى الله قبل موته. إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون النساء والصغر من الميراث، ويجعلونه للذكور الكبار الذين يركبون الخيل ويحملون السلاح، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وقال الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضا} ، وهذا لدفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء والصغار، وفي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن} ، وفي قوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} : إبطال لما عليه بعض الجاهليات المعاصرة من تسوية المرأة بالرجل في الميراث محادة لله ورسوله وتعديا لحدود الله؛ فالجاهلية القديمة منعت المرأة من الميراث بالكلية، والجاهلية المعاصرة أعطتها ما لا تستحق، ودين الإسلام أنصفها وأكرمها وأعطاها حقها اللائق بها، فقاتل الله الكفار والمنافقين والملحدين الذين {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 باب في أسباب الإرث وبيان الورثة الإرث: هو انتقال مال الميت إلى حي بعده حسبما شرعه الله. وله أسباب ثلاثة أولها: الرحم، أي: القرابة، وهم قرابة النسب، قال الله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، سواء قربت القرابة من الميت أو بعدت، إذا لم يكن من يحجبها. وتشمل أصولاً وفروعا وحواشي: فالأصول هم الآباء والأجداد وإن علوا بمحض الذكور. والفرع هم الأولاد البنين وإن نزلوا. والحواشي هم الأخوة وبنوهم وإن نزلوا والأعمام وإن علوا وبنوهم وإن نزلوا. والثاني: النكاح، وهو: عقد الزوجية الصحيح، لو لم يحصل به وطء ولا خلوة؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلى قوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} . ويتوارث بعقد الزوجية الزوجان من الجانبين؛ فكل منهما يرث الآخر للآية الكريمة، ويتوارث به الزوجان أيضا في عدة الطلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 الرجعي؛ لأن الرجعية زوجة، وقولهم: "عقد الزوجية الصحيح": يخرج به العقد غير الصحيح؛ فلا توارث بالنكاح الفاسد؛ لأن وجوده كعدمه. والثالث: ولاء العتاقة، وهو عصوبة، سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق، ويورث بها من جانب واحد فقط؛ فالمعنق يرث عتيقه دون العكس، ويخلف المعتق من بعده عصبته بالنفس دون العصبة بالغير أو مع الغير. والدليل على التواريث بالولاء قوله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، رواه ابن حبان في "صحيحة" والحاكم وصحيحه، فشبه الولاء بالنسب، والنسب يورث به؛ فكذا الولاء، وهذا بالإجماع، وفي "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الولاء لمن أعتق". أقسام الورثة باعتبار الجنس: الورثة ينقسمون باعتبار الجنس إلى ذكور وإناث. والوارثون من الذكور عشرة: الابن وابنه وإن نزل بمحض الذكور؛ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ، وابن الإبن يعد ابنا؛ لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} ، {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 والأب وأبوه وإن علا بمحص الذكور؛ كأبي الأب وأبي الجد؛ لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ، والجد أب، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس. والأخ مطلقا، سواء كان شقيقا أو لأب أو لأم؛ لقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ} الآية؛ فهذه في الأخوة لغير الأم، وقال في الأخوة لأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} . وابن الأخ لغير أم، أما ابن الأخ لأم؛ فلا يرث؛ لأنه من ذوي الأرحام. والعم لغير أم وابنه وإن نزل بمحض الذكور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " ألحقوا الفائض بأهلها؛ فما بقي؛ فلأولى رجل ذكر". والزوج؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم} . والعاشر ذو الولاء، وهو المعتق أو من يحل محله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 "الولاء لحمة كلحمة النسب"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما الولاء لمن أعتق". والوارثاث من النساء سبع: البنت وبنت الابن وإن نزل أبوها بمحض الذكور؛ قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف} . والأم والجدة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس} ، وعن بريدة مرفوعا: "للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم"، رواه داود. والأخت مطلقا شقيقة أو لأب أو لأم؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ، ولقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ..} إلى قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} . والزوجة؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الآية. والمعتقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق". هذه جملة الوارثين من الذكور والإناث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وعند التفصيل يبلغ الرجال خمسة عشر وتبلغ الإثاث عشرًا، ويعرف ذلك بالتأمل والرجوع إلى المصادر. والله تعالى أعلم. أنواع الورثة باعتبار الإرث: والورثة باعتبار الإرث ثلاثة أنواع: نواع يرث بالفرض، ونوع يرث بالتعصيب، ونوع يرث لكونه من ذوي الأرحام. فصاحب الفرض: هو الذي يأخذ نصيبا مقدرًا شرعا لا يزيد إلا بالرد ولا ينقص إلا بالعول. والعصبة: هم الذين يرثون بلا تقدير. وذوو الأرحام هم الذين يرثون عند عدم أصحاب الفروض غير الزوجين وعدم العصبات. وذوو الفروض عشرة أصناف: الزوجان، والأبوان، والجد، والبنات، وبنات الابن، والأخوات من كل جهة، والأخوة من الأم ذكورًا وإناثا. ونتكلم على كل صنف من هؤلاء بشيء من التفصيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 باب في ميراث الأزواج والزوجات وللزوج النصف مع عدم الولد وولد الابن، والربع مع وجود الولد أو ولد الابن، لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْن} . وللزوجة فأكثر الربع مع عدم الفرع الوارث، والثمن مع وجود: لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْن} . والمراد بالفرع الوارث أولاد الميت وأولاد بنيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 باب في ميراث الآباء والأجداد ولكل من الأب والجد السدس فرضا مع ذكور الولد وولد الابن؛ لقوله تعالى: {ولأبويه لكل وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} . ويرث الأب والجد بالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ، فأضاف الميراث إلى الأبوين الأب والأم، وقدر نصيب الأم، ولم يقدر نصيب الأب، فكان له الباقي تعصيبا. ويرث الأب والجد بالفرض والتعصيب معا مع إناث الأولاد وأولاد البنين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها؛ فما بقي؛ فلأولى رجل ذكر"؛ أي: فلأقرب رجل من الميت، والأب هو أقرب ذكر بعد الابن وابنه. فتلخص أن للأب ثلاث حالات: الحالة الأولى: يرث فيها بالفرض فقط، وذلك مع وجود ابن الميت لصلبه أو ابن ابنه وإن نزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 والحالة الثانية: يرث فيها بالتعصيب فقط مع عدم الولد وولد الابن. والحالة الثالثة: يرث فيها بالفرض والتعصيب معا مع وجود إناث من ولد الميت أو من ولد ابنه. والجد مثل الأب في مثل هذه الحالات؛ لتناول النصوص له إذا عدم الأب، ويزيد الجد على الأب حالة رابعة، وهي ما إذا وجد معه إخوة أشقاء أو لأب، فقد اختلف في هذه الحالة: هل يكون فيها مثل الأب يحجب الأخوة أو لا يحجبهم ويشاركونه في الميراث ويكون كواحد منهم يتقاسمون المال أو ما أبقت الفروض على كيفيات معروفة في هذا الباب؛ لأن الجد والإخوة تساووا في الإدلاء بالأب؛ فالجد أبوه، والإخوة أبناؤه، فيتساوون في الميراث؛ كما ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة؛ كعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وهو قول الإمام مالك والشافعي وصاحبي أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، واستدلوا بأدلة وتوجيهات وأقيسة كثيرة في الكتب المطولة. والقول الثاني أن الجد يسقط الأخوة كما يسقطهم الأب، وذهب إلى ذلك أبو بكر الصديق وابن عباس وابن الزبير، وروي عن عثمان وعائشة وأبي كعب وجابر وغيرهم، وهو قول الإمام أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع، ولهم أدلة كثيرة، وهذا القول أقرب إلى الصواب من القول الأول، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 باب في ميراث الأمهات للأم ثلاث حالات: الحالة الأولى: ترث فيها السدس، ذلك مع وجود الفرع الوارث من أولاد الميت أو أولاد بنيه، أو مع وجود اثنين فأكثر من الأخوة؛ لقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُس} . الحالة الثانية: ترث فيها الثلث، وذلك مع عدم الفرع الوارث من الأولاد وأولاد البنين، وعدم الجمع مع الأخوة والأخوات؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} . الحالة الثالثة: ترث فيها ثلث إذا اجتمع زوج وأب وأم أو زوجة وأب وأم، وتسمى هاتان المسألتان بالعمريتين؛ لأن، عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى فيهما أن للأم ثلث الباقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 بعد الموجود من الزوجين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقوله أصوب؛ لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه؛ يعني: في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ، والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث الأبوين يقتسمانه كما اقتسما الأصل وكما لو كان على الميت دين أو وصية فإنهما يقتسمان ما بقي أثلاثا" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 باب في ميراث الجدة المراد بالجدة هنا الجدة الصحيحة، وهي كل جدة أدلت بمحض الإناث؛ كأم وأمهاتها المدليات بإناث خلص، وكأم الأب وكل جدة أدلت بمحض الذكور؛ كأم أبي الأب وأم أبي أبي الأب، أو أدلت بإناث إلى ذكور؛ كأم أم الأب وأم أم أبي الأب، أما الجدة المدلية بذكور إلى إناث كأم أبي الأم وأم أبي الأب، لأنها من ذوي الأرحام. فضابط الجدة الوارثة هي: من أدلت بإناث خلص أو بذكور خلص أو بإناث إلى ذكور، وضابط الجدة غير الوارثة هي: من أدلت بذكور إلى إناث، وبعبارة أخرى: من أدلت بين أنثيين هي إحداهما. ودليل توريث الجدة السنة والإجماع: فأما السنة؛ فمنها حديث بن ذؤيب؛ قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر، فسألته ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؛ فارجعي حتى أسأل الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 فسأل الناس، فقال المغير بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال: هل معك غيرك؟، فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر". قال: "ثم جاءت الجدة إلى عمر، فسألته ميراثها، فقال مالك في كتاب الله شيء، ولكن ذاك السدس، فإن اجتمعتما؛ فهو بينكما، وأيكما خلت فهو لها"، رواه الخمسة إلا النائي وصححه الترمذي. وعن بريدة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم"، رواه أبو داود وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود. فهذان الحديثان يفيدان استحقاق الجدة السدس، وهي كما قال الصديق وعمر رضي الله عنهما ليس لها في كتاب الله شيء؛ لأن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا؛ فالجدة وإن سميت أما؛ لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، وإن دخلت في لفظ الأمهات في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس؛ فبثت ميراثها إذًا بالسنة. وكذا ثبت ميراثها بإجماع العلماء؛ فلا خلاف بين أهل العلم في توريث أم الأم وأم الأب، واختلفوا فيما عداهما؛ فورث ابن عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وجماعة من العلماء الجدات وإن كثرن إذا كن في درجة واحدة؛ إلا من أدلت بأب غير وارث؛ كأم أبي الأم، وورث بعضهم ثلاث جدات فقط هن أم الأم وأم الأب وأم الجد أبي الأب. ويشرط لتوريث الجدة عدم وجود الأم؛ لأن الجدة تدلي بها، ومن أدلى بواسطة؛ حجته تلك الواسطة؛ إلا ما استثنى، وهذا بإجماع أهل العلم أن الأم تحجب الجدة من جميع الجهات. كيفية توريث الجدات: إذا انفردت واحدة من الجدات، ولم يكن دونها أم؛ أخذت السدس كما سبق، ليس لها أكثر منه، والقول بأن لها الثلث عند عدم الولد وعدم الجمع من الأخوة كالأم في ذلك قول شاذ لا يعول عليه. وإذا وجد جمع من الجدات: فإن تساوين في الدرجة؛ فإنهن يشتركن في السدس؛ لأن الصحابة شركوا بينهن، ولأنهن ذوات عدد، لا يشاركهن ذكر، فاستوى كثيرهن وواحدتهن كالزوجات، ولعدم المرجح لإحداهن. ومن قربت منهن إلى الميت؛ فالسدس لها وحدها، سواء كانت من جهه الأم أو من جهة الأب، وتسقط البعدى؛ لأنهن أمهات يرثن ميراثا واحدًا، فإذا اجتمعن مع اختلاف الدرجة؛ فالميراث لأقربهن. وترث الجدة أم الأب مع وجود الأب، وترث الجدة أم الجد مع وجود الجد، ولا تسقط بمن أدلت في هذه الحالة؛ على خلاف القاعدة: أن من أدلى بواسطة؛ حجبته تلك الواسطة؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في الجدة مع ابنها: "إنها أول جدة أطعمها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا مع ابنها وابنها حي"، رواه الترمذي، والعلة في ذلك أنها لا ترث ميراث من أدلت به حتى تسقط به إذا وجد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقول من قال: من أدلى بشخص؛ سقط به: باطل طردًا وعكسا، باطل طردًا بولد الأم مع الأم، وعكسا بولد البن مع عمهم وولد الأخ مع عمهم وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بشحص لم يدل به، وإنما العلة أنها ترث ميراثه؛ فكل من ورث ميراث شخص بشخص لم يدل به، وإنما العلة أنها ترث ميراثه؛ فكل من ورث ميراث شخص؛ سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن الأم فيستقطن بها، وإن لم يدلين بها، والله أعلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 باب في ميراث البنات البنت الواحدة تأخذ النصف بشرطين: الشرط الأول: انفرادها عمن يشاركها من أخواتها. والشرط الثاني: انفرادها عمن يعصبها من أخوتها. وذلك لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف} ؛ فقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} : يؤخذ منه اشتراط انفرادها عمن يشاركها من أخواتها، وقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} : يؤخذ منه اشتراط عدم المعصب. وبنت الابن تأخذ النصف بثلاثة شروط: الشرط الأول: عدم المعصب لها، وهو أخوها أو ابن عمها الذي في درجتها. والشرط الثاني: عدم المشارك لها، وهو أختها أو بنت عمها التي درجتها. والشرط الثالث: عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 والبنات اثنتان فأكثر تأخذان الثلثين، وذلك بشرطين: الشرط الأول: أن يكن اثنتين فأكثر. والشرط الثاني: عدم المعصب، وهو ابن الميت لصلبه. وذلك لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . فاستفيد من قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} : اشتراط عدم المعصب في ميراث البنات الثلثين، واستفيد من قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} : اشتراط كونهن اثنتين فأكثر. لكن قد أشكل لفظ: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} في الآية الكريمة؛ إذا ظاهره أن البنتين لا يأخذن الثلثين، وإنما تأخذه الثلاث فأكثر؛ كما هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور من أهل العلم خلافه، وأن البنتين تأخذان الثلثين بدليل حديث جابر رضي الله عنه؛ قال: "جاءت امرأة سعيد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا بمال. فقال: "يقضي الله في ذلك". فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله إلى عمهما، فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك"، رواه الخمسة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وهو يدل على أن للبنتين الثلثين، وهو نصفي محل النزاع، وتفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، وبيان لمعناها، لا سيما وأن سبب نزولها قصة ابنتي سعد بن الربيع، وسؤال أمهما عن شأنهما، وحين نزلت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمهما. ويجاب عن لفظة {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} التي استدل بها من رأي عدم توريث البنتين الثلثين حتى يكن ثلاثا فأكثر بأجوبة: منها: أن هذا من باب مطابقة الكلام بعضه لبعض لأنه سبحانه تعالى قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ؛ فالضمير في "كن" مجموع يطابق الأولاد إن كان الأولاد نساء؛ فاجتمع في الآية الكريمة ثلاثة أمور: لفظ "الأولاد" وهو جمع، وضمير "كن" وهو ضمير جمع، و"نساء" وهو اسم جمع؛ فناسب التعبير بفوق اثنتين. ومن الأجوبة عن هذا الإشكال: أن الله تعالى جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، فإذا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث؛ علم قطعا أن حظ الأنثيين الثلثان؛ لأنه إذا كان للواحد مع الذكر الثلث؛ فلأن يكون لها مع الأنثى الثلث أولى وأحرى، وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان سبحانه قد ذكر ميراث الواحد نصا وميراث الثنتين تنبيها؛ فإن كلمة {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} تفيد أن الفرض لا يزيد بزيادة العدد، حتى ولو كن فوق اثنتين، والله أعلم. وبنتي الابن بنات الصلب في استحقاق الثلثين، سواء كانتا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 أختين أو بنتي عم محاذيتين؛ فتأخذان الثلثين قياسا على بنتي الصلب؛ لأن بنت الابن كالبنت، لكن لا بد لهما من توفر ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكن اثنتين فأكثر. الشرط الثاني: عدم المعصب، وهو ابن الابن، سواء كان أخا لهما أو كان ابن عم لهما في درجتهما. الشرط الثالث: عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منهما من ابن صلب أو ابن أو بنات ابن واحدة فأكثر، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 باب في ميراث الأخوات الشقائق قد ذكر الله سبحانه وتعالى: ميراث الأخوات الشقائق والأخوات لأب مع الأخوة لغير أم واحدتهن وجماعتهن؛ بقوله في آخر سورة النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ، وذكر ميراث الأخوات لأم واحدة كانت أو أكثر مع الأخوة لأم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} : في أول السورة. فالأخت الشقيقة تأخذ النصف بأربعة شروط: الشرط الأول: عدم المعصب لها، وهو الأخ الشقيق؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} . الشرط الثاني: عدم المشارك لها، وهو الأخت الشقيقة؛ لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الشرط الثالث: عدم الأصل من الذكور الوارثين، والمراد به الأب والجد من قبل الأب على الصحيح. الشرط الرابع: عدم الفرع الوارث، وهو الابن وابن الابن وإن نزل، والبنت وبنت الابن وإن نزل أبوها. ودليل هذين الشرطين أن الأخوة والأخوات إنما يرثون في مسألة الكلالة، والكلالة هو من لا والد له ولا ولد. والأخت لأب تأخذ النصف بخمسة شروط، وهي الشروط الأربعة السابقة في حق الأخت الشقية، والخامس عدم الأخ الشقيق والأخت الشقيقة؛ لأن الموجود منهما أقوى منها. والأختان الشقيقتان فأكثر يأخذن الثلثين؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} ، وإنما يأخذن الثلثين بأربعة شروط: الشرط الأول: أن يكن اثنتين فأكثر؛ للآية الكريمة: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} . الشرط الثاني: عدم المعصب لهما، وهو الأخ الشقيق فأكثر؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} . الشرط الثالث: عدم الفرع الوارث، وهم الأولاد وأولاد البنين؛ لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} الآية. الشرط الرابع: عدم الأصل من الذكور الوارث، وهو الأب بالإجماع، والجد على الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 والأخوات لأب ثنتان فأكثر يأخذن الثلثين للإجماع على دخولهن في عموم آية الكلالة: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} ، لكن لا يأخذن الثلثين إلا إذا تحقق خمسة شروط: الشروط الأربعة السابعة في الشقائق. والشرط الخامس: عدم الأشقاء والشقائق، فلو كان هناك من الأشقاء؛ واحدًا كان أو أكثر، ذكرًا كان أو أنثى؛ ل ترث الأخوات لأب الثلثين، بل تحجبن بالذكر وبالشقيقتين؛ إلا إذا كان معهن من يعصبهن، وأما إذا كان الموجود شقيقة واحدة؛ فإن للأخت أو الأخوات لأب السدس تكملة الثلثين. وإذا وجد بنت واحدة وبنت ابن فأكثر؛ فللبنت النصف، ولبنت الابن فأكثر معها السدس؛ تكملة الثلثين؛ لقضاء ابن مسعود رضي الله عنه بذلك، وقوله: "إنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها"، رواه البخاري، ولأنه قد اجتمع من بنات الميت أكثر من واحدة، فكان لهن الثلثان؛ لقوله تعالى: {َإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . واختصت بنت الصلب بالنصف لأنها أقرب، فبقى لبنت الابن فأكثر السدس؛ تكملة الثلثين، وذلك بعد توفر هذين الشرطين: الشرط الأول: عدم المعصب لها، وهو ابن الابن المساوي لها في الدرجة، سواء كان أخا لها أو ابن عم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الشرط الثاني: عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منها سوى صاحبة النصف؛ فإنها لا تأخذ السدس إلا معها. والأخت لأب مع الأخت الشقيقة تأخذ السدس تكملة الثلثين، والدليل على ذلك إجماع العلماء كما حكاه غير واحد، وقياسها على بنت الابن مع بنت الصلب، لكن لا تأخذ الأخت لأب السدس إلا بشرطين: الشرط الأول: أن تكون مع أخت شقيقة وارثة النصف فرضا، فلو تعددت الشقيقات؛ أسقطن الأخت لأب؛ لاستكمالهن الثلثين. الشرط الثاني: عدم المعصب لها، وهو أخوها فإن كان معها أخوها؛ فالباقي بعد الشقيقة لهما تعصيبا للذكر مثل حظ الأنثيين، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 باب في ميراث الأخوات مع البنات وميراث الأخوة لأم إذا وجد بنت فأكثر مع أخت شقيقة أو لأب فأكثر؛ فإن الموجود من البنات واحدة فأكثر يأخذ نصيبه، ثم إن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين يرون أن أخوات من الأبوين أو من الأب يكنَّ عصبة مع البنات "وهو ما يسمى الفرضيين بالتعصيب مع الغير"، فيأخذن ما فضل عن نصيب الموجود من البنات أو بنات الابن؛ بدليل الحديث الذي رواه البخاري وغيره: "أن أبا موسى سئل عن ابنة وبن ابن وأخت؟ فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وقال للسائل: ائت ابن مسعود. فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقى فللأخت"؛ ففي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن الأخت مع البنت عصبة تأخذ الباقي بعد فرضها وفرض ابنة الابن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 ويرث الواحد من الأخوة لأم السدس، سواء كان ذكرًا أم أنثى، ويرث الاثنتين فأكثر منهم الثلث بينهم بالسوية الذكر والأنثى سواء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث} ، وقد أجمع العلماء على أن المراد بالأخوة في هذه الآية الكريمة الأخوة لأم، وقرأها ابن مسعود وسعد ابن أبي وقاص: "وله أخ أو أخت من أم". وقد ذكرهم الله تعالى: من غير تفصيل؛ فاقتضى ذلك تسوية الأنثى بالذكر منهم. قال الإمام ابن القيم: "وهو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة القرآن وفهم أكابر الصحاب". ويشترط لاستحقاق ولد الأم السدس ثلاث شروط: الشرط الأول: عدم الفرع الوارث. الشرط الثاني: عدم الأصل من الذكور الوارثين. الشرط الثالث: انفراده. ويشترط لاستحقاق الأخوة لأم الثلث ثلاثة شروط. الشرط الأول: أن يكونوا اثنين فأكثر؛ ذكرين كانوا أو أنثيين أو ذكر وأنثى أو أكثر من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 الشرط الثاني: عدم الفرع الوارث من الأولاد وأولاد البنين وإن نزلوا. الشرط الثالث: عدم الأصل من الذكور الوارثين وهو الأب والجد من قبله. ويختص الأخوة لأم بأحكام خمسة: الحكم الأول والثاني: أنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم في الميراث اجتماعا وانفرادًا؛ لقوله في حالة الانفراد: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد مهما السدس} ، وقوله تعالى في حالة الاجتماع: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث} . والكلالة في قول الجمهور: من ليس له ولد ولا والد، فشرط توريثهم عدم الولد والوالد، والولد يشمل الذكر والأنثى، والوالد يشمل الأب والجد وفي قوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث} دليل على عدم تفضيل ذكرهم على أنثاهم؛ لأن الله سبحانه شرك بينهم في الاستحقاق، والتشريك إذا أطلق اقتضى المساواة. والحكمة في ذلك والله أعلم أنهم يرثون بالرحم المجرد؛ فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط، وهم فيها سواء؛ فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم؛ بخلاف قرابة الأب. الحكم الثالث: أن ذكرهم يدلي بأنثى ويرث؛ بخلاف غيرهم؛ فإنه إذا أدلى بأنثى لا يرث؛ كابن البنت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 الحكم الرابع: أنهم يحجبون من أدلوا به نقصانا؛ أي: أن الأم التي أدلوا بها تُحجَب بهم من الثلث إلى السدس؛ بخلاف غيرهم؛ فإن المدلى به يحجب المدلي. الحكم الخامس: أنهم يرثون مع من أدلوا به؛ فإنهم يرثون مع الأم التي أدلوا بها، وغيرهم لا يرث مع من أدلى به كابن الابن؛ فإنه لا يرث مع الابن، وهذا تشاركهم فيه الجدة أم الأب وأم الجد؛ فإنها تدلي بابنها وترث معه، والتحقيق أن الواسطة لا تحجب من أدلى بها؛ إلا إذا كان يخلفها بأخذ نصيبها، أما إذا كان لا يأخذ نصيبها فإنها لا تحجبه؛ كما هو الشأن في الأخوة لأم؛ فإنهم لا يأخذون نصيب الأم عند عدمها، والجدة أم الأب وأم الجد لا تأخذان نصيبها وإنما يرثان بالأمومة خلفا عن الأم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 باب في التعصيب التعصيب لغة: مصدر عصَّب يعصِّب تعصيبا فهو معصب، مأخوذ من العصب؛ بمعنى: الشد والإحاطة والتقوية، ومنه العصائب، وهي العمائم. والعصبة في الفرائض "جمع عاصب" لفظ يطلق على الواحد، فيقال: زيد عصبة؛ ويطلق على الجماعة، وعصبة الرجل قرابته من جهة أبيه، سموا عصبة لأنهم عصّبوا به؛ أي: أحاطوا به، وكل شيء استدار حول شيء؛ فقد عصّب به؛ فالأب طرف، والابن طرف، والأخ جانب، والعم جانب، وقيل: سموا بذلك لتقوي بعضهم ببعض، من العصب، وهو الشد والمنع؛ فبعضهم يشد بعضا ويمنع من تطاول الغير عليه. والعاصب في اصطلاح الفرضيين هو: من يرث بلا تقدير؛ لأنه انفراد؛ حاز جميع المال، وإذا كان مع صاحب فرض؛ أخذ ما بقى بعد الفرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهله؛ فما بقي فلأولي رجل ذكر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وينقسم العصبة إلى ثلاثة أقسام: عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير: القسم الأول: العصبة بالنفس. وهم على إرثهم من الرجال إلا الزوج والأخ من الأم، وهم أربعة عشر: الابن، وابن الابن وإن نزل، والأب، والجد من قبل الأب وإن علا، والأخ الشقيق، والأخ لأب، وابناهما وإن نزلا، والعم الشقيق والعم لأب وإن علوا، وابناهما وإن نزلا، والمعتق والمعتقة. القسم الثاني: العصبة بالغير: وهم أربعة أصناف: الأول: البنت فأكثر مع الابن فأكثر. الثاني: بنت الابن فأكثر مع ابن الابن فأكثر إذا كان في درجتها، سواء كان أخاها أو ابن عمها، أو مع ابن الابن الذي هو أنزل منها إذا احتاجت إليه. ودليل هذين الصنفين من العصبة بالغير قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن} ؛ فهذه الآية الكريمة تناولت الأولاد وأولاد الابن. الثالث: الأخت الشقيقة فأكثر مع الأخ الشقيق فأكثر. الرابع: الأخت لأب فأكثر مع الأخ لأب فأكثر. ودليل هذين الصنفين قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ؛ فتناولت الآية الكريمة ولد الأبوين وولد الأب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 فهؤلاء الأربعة من الذكور: الابن، وابن ابن، والأخ الشقيق، والأخ لأب؛ ترث معهم أخواتهم عن طريق التعصيب بهم، أما من عداهم من الذكور؛ فلا ترث أخواتهم معهم شيئا، وذلك كأبناء الأخوة والأعمام وأبناء الأعمام. القسم الثالث: العصبة مع الغير: وهم صنفان: الأول: الأخت الشقيقة فأكثر مع البنت فأكثر أو بنت الابن فأكثر. الثاني: الأخت لأب فأكثر مع البنت فأكثر أو بنت الابن فأكثر، وهذا قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة مع البنات أو بنات الابن، ودليلهم ما رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي: " أن أبا موسى رضي الله عنه سئل عن بنت وبنت ابن وأخت؟، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف. وقال للسائل: ائت ابن مسعود. فلما أتى ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى؛ قال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت". هذا؛ والعصبة بالنفس من انفراد منهم حاز جميع المال؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد} ؛ فورث في هذه الآية الأخ جميع مال أخته، وينفرد العصبة بالنفس بهذا الحكم، ويشاركون بقية العصبة في أنهم إذا كانوا مع أصحاب الفروض يأخذون ما بقي؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها؛ فما بقي فلأولى رجل ذكر"، وإن لم يبق شيء بعد الفروض؛ سقطوا. هذا وللعصبة جهات ست هي: جهة البنوة، ثم جهة الأبوة، ثم جهة الأخوة، ثم جهة بني الأخوة، ثم جهة الولاء، والولاء كما سبق هو عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق. ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق". وإذا اجتمع عاصبان فأكثر؛ فلهم حالات أربع: الأولى: أن يتحدا في الجهة والدرجة والقوة، وحينئذ يشتركان في الميراث؛ كالأبناء والإخوة الأشقاء والأعمام. الثانية: أن يختلفا في الجهة، فيقدم في الميراث الأقوى جهة؛ كالابن والأب، فيقدم الابن في التعصيب على الأب. الثالثة: أن يتحدا في الجهة ويختلفا في الدرجة، كما لو اجتمع ابن وابن ابن، فيقدم الابن على ابن الابن؛ لأنه أقرب درجة. الرابعة: أن يتحدا في الجهة والدرجة ويختلفا في القوة؛ بحيث يكون أحدهما أقوى من الآخر، فيقدم الأقوى؛ كما لو اجتمع أخ شقيق وأخ لأب، فيقدم الأخ الشقيق؛ لأنه أقوى لإدلائه بأبوين، والأخ لأب يدلي بالأب فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 باب في الحجب هذا الباب له أهمية خاصة بين أبواب المواريث؛ لأن معرفة تفاصيله يترتب عليها إيصال الحقوق إلى مستحقيها، وعدم المعرفة بأحكام هذا الباب يترتب عليها خطورة عظيمة؛ لأنه قد يعطي الميراث لمن لا يستحقه شرعا ويحرم المستحق، ومن هنا قال بعض العلماء: يحرم على من لا يعرف الحجب أن يفتي في الفرائض. والحجب لغة: المنع، يقال: حجبه: إذا منعه من الدخول، والحاجب لغة المانع، ومنه حاجب السلطان؛ لأنه يمنع من الدخول عليه. وأما الحجب في اصطلاح الفرضيين؛ فمعناه: منع من قام به سبب الإرث بالكلية أو من أوفر حظيه. وينقسم الحجب في الفرائض إلى قسمين: القسم الأول: حجب الأوصاف. ويكون فيمن اتصف بأحد موانع الإرث الثلاثة، وهي: الرق، أو القتل، أو اختلاف الدين؛ فمن اتصف بواحد من هذه الأوصاف؛ لم يرث، ويكون وجوده كعدمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 القسم الثاني: حجب الأشخاص. وهو منع شخص معين من الإرث بالكلية، ويسمى حجب الحرمان، أو منعه من إرث أكثر إلى إرث أقل، ويسمى حجب النقصان، وسبب هذا الحجب بنوعيه شخص أحق منه، ولذلك سمي حجب الأشخاص، وهو سبعة أنواع، أربعة منها تحصل بسبب الازدحام، وثلاثة منها تحصل بسبب الانتقال من فرض إلى فرض، وهذه السبعة هي: أولاً: انتقال من فرض إلى فرض أقل منه؛ كانتقال الزوج من النصف إلى الربع مثلاً. ثانيا: انتقال من تعصيب إلى تعصيب أقل منه؛ كانتقال الأخت لغي أم من كونها عصبة مع الغير إلى كونها بالغير. ثالثا: انتقال من فرض إلى تعصيب أقل منه؛ كانتقال ذوات النصف منه إلى التعصيب بالغير. رابعا: انتقال من تعصيب إلى فرض أقل منه؛ كانتقال الأب والجد من الإرث بالتعصيب إلى الإرث بالفرض. خامسا: ازدحام في فرض؛ كازدحام الزوجات في الربع والثمن مثلاً. سادسا: ازدحام في تعصيب؛ كازدحام العصبات في المال أو فيما أبقت الفروض. سابعا: ازدحام بسبب العول؛ كازدحام أصحاب الفروض في الأصول التي يدخلها العول، فإن كل واحد منهم يأخذ فرضه ناقصا بسبب العول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وللحجب قواعد يدور عليها: القاعدة الأولى: أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، وذلك كابن الابن مع الابن، والجدة مع الأم، والجد مع الأب، والأخوة مع الأب. القاعدة الثانية: أنه إذا اجتمع عاصبان فأكثر؛ قد الأقدم جهة، ذلك كالابن مع الأب أو مع الجد؛ فالتعصيب يكون للابن؛ لأنه أقدم جهة، وإن وابن آخر، أو اجتمع أخ شقيق وابن أخ شقيق آخر.. وهكذا؛ فإن تساوى الموجودون في الجهة والقرب؛ قدم منهم؛ كما لو اجتمع أخ شقيق وأخ لأب؛ فإنه يقدم الشقيق لقوله؛ لكونه يدلي بالأبوين، والأخ يدلي بالأب فقط. أصول؛ فالجد لا يحجبه إلا الأب أو الجد الذي هو أقرب منه، والجدة لا يحجبها إلا الأم أو الجدة التي هي أقرب منها، والفرع لا تحجبهم إلا فرع؛ فابن الابن لا يحجبه إلا الابن أو ابن الابن الذي هو أعلى منه، والحواشي وهم الأخوة وبنووهم والأعمام وبنوهم يحجبهم أصول وفروع وحواش؛ فمثلاً الأخوة لأب: يسقطون بالابن وابن الابن وإن نزل، وبالأب، وبالجد على الصحيح، وبالأخ الشقيق، والأخت الشقيقة إذا كانت عصبة مع الغير، وهكذا نجد أن الأخ لأب حجب بأصول وفروع وحواش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 نعود فنقول: إن باب الحجب باب مهم جدًا، فيجب على من يفتي في الفرائض أن يتقن قواعد ويتأمل في دقائقه ويطبقها على وقائع الأحوال؛ لئلا يخطئ في فتواه، فيغير المواريث عن مجراها الشرعي، ويحرم من يستحق، ويعطي من لا يستحق، والله ولي التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 باب في توريث الإخوة مع الجد قد أخذ أحمد والشافعي ومالك في هذه المسألة بمذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه، كما أخذ به أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وجمع من أهل العلم. وحاصله: أن الأخوة إذا اجتمعوا مع الجد؛ فإما أن يكونوا من الأبوين فقط، أو من الأب فقط، أو من مجموع الصنفين. فإذا كان معه أحد الصنفين فقط؛ فله معهم حالتان: الحالة الأولى: أن يكون معهم صاحب فرض. فله حينئذ معهم ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون المقاسمة أحظ له من ثلث المال، وضابطها أن يكون الأخوة أقل من مثليه؛ بأن يكونوا مثلاً ونصفا فما دون ذلك، وذلك منحصر في خمس صور: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الأولى: جد وأخت؛ فله في هذه الصورة الثلثان. الثانية: جد وأخ؛ فله في هذه الصورة نصف المال. الثالثة: جد وأختان؛ فله في هذه الصورة النصف كالتي قبلها، وه أكثر من الثلث. الرابعة: جد وثلاث أخوات؛ فله في هذه الصورة الخمسان، وهما أكثر من الثلث؛ لأن العدد الجامع للكسرين خمسة عشر؛ فثلثه خمسة وخمساه ستة، وهي أكثر من الخمسة بواحد. الخامسة: جد وأخ وأخت؛ فله في هذه الصورة مثل ما له في التي قبلها. الحالة الثانية: أن تستوي له المقاسمة وثلث المال. وضابطها: أن يكون الأخوة مثليه، وينحصر ذلك في ثلاث صور: الأولى: جد وأخوان. الثانية: جد وأخ وأختان. الثالثة: جد وأربع أخوات. فيستوي له المقاسمة والثلث في تلك الصور، فإن قاسم؛ أخذ ثلثا، وإن لم يقاسم؛ فكذلك. واختلف: هل يعتبر حينئذ بالمقاسمة فيكون إرثه بالتعصيب، أو يعبر بالثلث فيكون إرثه بالفرض، أو يخبر بين أن يعبر بالمقاسمة أو بالثلث؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 ورجح بعضهم التعبير بالثلث دون الأخذ بالفرض إن أمكن أولى؛ لقوة الفرض وتقديم ذوي الفروض على العصبة، والله أعلم. الحالة الثالثة: أن يكون ثلث المال أحظ من المقاسمة، فيأخذه فرضا. وضابطها: أن يكونوا أكثر من مثليه، ولا تنحصر صور هذه الحالة كما انحصرت صور الحالتين اللتين قبلها؛ جد وأخوان وأخت، أو جد وخمس أخوات، أو جد وأخ وثلاث أخوات.. إلى ما فوق. الحالة الثانية: أن يكون مع الجد والأخوة صاحب فرض. وله معهم حينئذ سبع حالات، وهي إجمالاً: تعين المقاسمة، تعين ثلث الباقي، تعين سدس جميع المال، استواء المقاسمة وثلث الباقي، استواء المقاسمة وسدس جميع المال، واستواء ثلث الباقي وسدس جميع المال، استواء المقاسمة وسدس جميع المال وثلث الباقي، وتفصيلها كالآتي. فالحالة الأولى: أن تكون المقاسمة أحظ له من الثلث الباقي ومن سدس المال؛ ومثال ذلك: زوج وجد وأخ، مما كان فيه الفرض قدر النصف، وكانت الأخوة أقل من مثليه. ووجه تعين المقاسمة في ذلك أن الباقي بعد الزوج النصف الآخر على الجد والأخ، ولا شك أن نصفه وهو الربع أكثر من ثلث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الباقي ومن السدس، لكن الباقي لا ينقسم على الجد والأخ، فيضرب اثنان في أصل المسألة اثنين تبلغ أربعة، للزوج واحد في اثنين باثنين، وللجد والأخ واحد في اثنين باثنين، لكل واحد واحد. وهذه صورتها: 2/2 4 زوج 1 2 جد 1 أخ 1 الحالة الثانية: أن يكون ثلث الباقي أحظ من المقاسمة ومن السدس، ومثال ذلك: أم وجد وخمسة أخوة مما كان فيه الفرض دون النصف، وكانت الإخوة أكثر من مثليه. ووجه تعين ثلث الباقي في ذلك أن الباقي بعد سدس الأم خمسة على الجد وخمسة الأخوة، وثلثها واحد وثلثان، ولا شك أن ذلك أكثر من المقاسمة والسدس، لكن الباقي في ذلك ليس له ثلث صحيح، فتضرب الثلاثة مخرج الثلث في أصل المسألة ستة تبلغ ثمانية عشر، فللأم من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة، وللجد ثلث الباقي خمسة، يبقى عشرة على خمسة أخوة، لكل واحد اثنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وهذه صورتها 6/3 18 أم 1 3 جد 2 5 5 أخوة 3 10/2 الحالة الثالثة: أن يكون سدس المال أحظ له من المقاسمة ومن ثلث الباقي، ومثال ذلك: زوج وأم وجد وأخوان، مما كان فيه الفرض قدر الثلثين، وكان الأخوة أكثر من مثله بواحد، ولو أنثى. ووجه تعين السدس في ذلك أن الباقي بعد نصف الزوج وسدس الأم اثنان على الجد والأخوين، ولا شك أن السدس أكثر من ثلث الباقي ومن المقاسمة، لكن يبقى واحد لا ينقسم على الأخوين، فيضرب اثنان عدد رؤوسهما في أصل المسألة ستة؛ تبلغ اثنى عشر، للزوج من أصلها ثلاثة في اثنين بستة، وللأم من أصلها واحد في اثنين باثنين، وللجد من أصلها واحد في اثنين باثنين، وللأخوة من أصلها واحد في اثنين باثنين، لكل واحد واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وهذه صورتها: 6/2 12 زوج 3 6 أم 1 2 جد 1 2 2 اخوان 1 2/1 الحالة الرابعة: أن تستوي له المقاسمة وثلث الباقي، ويكونان أحظ من سدس المال، ومثال ذلك: أم وجد وأخوان، مما كان فيه الفرض دون النصف، وكان الأخوة مثليه. ووجه استواء القاسمة وثلث الباقي: أن الباقي بعد سدس الأم خمسه على الجد والأخوين؛ فثلثث الباقي واحد وثلثان، وهو مساوٍ للمقاسمة، لكن لا ثلث للباقي صحيح، فتضرب ثلاثة وهي مخرج الثلث في أصل المسألة ستة، تبلغ ثمانية عشر، للأم من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة، يبقى خمسة عشر، للجد خمسة بالمقاسمة، أو لكونها ثلث الباقي، وللأخوة عشرة، لكل واحد خمسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وهذه صورتها: 6/3 18 أم 1 3 3 جد 1 5 إخوان 3 10/5 الحالة الخامسة: أن تستوي له المقاسمة وسدس المال، ويكونان أحظ له من ثلث الباقي، ومثال ذلك زوج وجدة وجد وأخ، مما كان فيه الفرض قدر الثلثين، وكان الموجود من الأخوة مثله. ووجه استواء المقاسمة والسدس: أن الباقي بعد نصف الزوج وسدس الجدة اثنان على الجد والأخ، فللجد واحد بالمقاسمة أو لكونة السدس، وللأخ واحد. وهذه صورتها: 6 زوج 3 جدة 1 جد 1 أخ 1 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الحالة السادسة: أن يستوي له سدس المال وثلث الباقين ومثاله زوج وجد وثلاثة أخوة، مما كان فيه الفرض قدر النصف، وكانت الأخوة أكثر من مثليه. ووجه استواء السدس وثلث الباقي أن الباقي بعد نصف الزوج النصف الآخر على الجد والأخوة الثلاثة؛ فالسدس قد ثلث الباقي، لكن ليس للباقي ثلث صحيح، فتضرب مخرج الثلث ثلاثة في أصل المسألة وهو اثنان تبلغ ستة، للزوج من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة، يبقى ثلاثة، للجد منها واحد، وهو ثلث الباقي، ويساوي سدس الكل، وللإخوة اثنان ورؤوسهم ثلاثة تنقسم وتباين، فنضرب مصح المسألة ستة في رؤوس الأخوة ثلاثة، فتبلغ ثمانية عشر، للزوج منها ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وللجد واحد في ثلاثة بثلاثة، وللإخوة اثنان في ثلاثة بسنة، لكل واحد اثنان. وهذه صورتها: 2/3 6/3 18 زوج 3 9 3 جد 1 3 3 ثلاثة إخواة 2 6/2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 الحالة السابعة: أن تستوي له ثلاثة الأمور المقاسمة وثلث الباقي وسدس المال، مثال ذلك: زوج وجد وأخوان، مما كان الفرض فيه قدر، وكان الإخوة مثليه. ووجه استواء الأمور الثلاثة: أن الباقي بعد نصف الزوج هو النصف الآخر على الجد والأخوين؛ فثلث الباقي والمقاسمة والسدس متساوية، لكن لا ثلث للباقي صحيح، فتضرب مخرج الثلث ثلاثة في أصل المسألة اثنين؛ تبلغ ستة، للزوج من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة، يبقى ثلاثة، للجد منها واحد بكل حال، ويبقى اثنان للأخوين، لكل واحد واحد1. وهذه صورتها: 2/3 6 زوج 1 3 جد 1 اخوان 2/1 فائدة للجد باعتبار ما يفضل عن الفرض وجودًا وعدمًا أربعة أحوال:   ((الفوائد الجلية)) (ص 21 ـ 22) ، و ((شرح الشنشوري على الرحبية بحاشية الباجوري)) : (ص 134 ـ 138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الحال الأول: أن يفضل عن الفرض أكثر من السدس؛ فللجد خير الأمور الثلاثة من القاسمة وثلث الباقي وسدس المال. الحال الثاني: أن يبقى قدر السدس؛ فهو للجد فرضا. الحال الثالث: أن يبقى دون السدس؛ فيعال للجد بتمام السدس. الحال الرابع: أن لا يبقى شيء لاستغراق الفروض جميع المال؛ فيعال بالسدس للجد. وفي هذه الثلاثة الأحوال تسقط الإخوة؛ إلا الأخت في الأكدرية؛ كما يأتي1. فائدة يعطي الجد ثلث الباقي في بعض الأحوال قياسا على الأم في العمريتين؛ لأن كلاً منهما له ولادة، ولأنه لو لم يكن ثم ذو فرض؛ أخذ ثلث المال، فإذا أخذ صاحب الفرض فرضه؛ أخذ الجد ثلث الباقي، والباقي للأخوة، ولم يعط الجد الثلث كاملاً لإضراره بالأخوة، ووجه إعطائه السدس أنه لا ينقص عنه مع الولد هو أقوى؛ فمع غيره أولى2.   ((حاشية الباحوي)) (ص 138) . ((العذب الفائض)) (1/ 110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 باب في المعادة ما تقدم من بحث الجد والأخوة هو ما إذا كان معه أحد الصنفين فقط: الإخوة الأشقاء، أو الإخوة لأب، أما إذا كان معه مجموع الصنفين أي: إخوة أشقاء وإخوة لأب فإن الإخوة الأشقاء يعادُّون الجد بهم إذا احتاجوا إليهم، فإذا اخذ الجد نصيبه؛ رجع الأشقاء على أولاد الأب، فأخذوا ما بأيديهم، وإن كان الموجود شقيقة واحدة؛ أخذت كمال فرضها، وما بقي؛ فلولد الأب. فالشقيق يعد ولد على الجد؛ لاتحادهم في الأخوة من الأب، ولأن جهة الأم في الشقيق محجوبة بالجد، فيدخل ولد الأب معه في حساب القسمة على الجد؛ لينقص بسببه عن المقاسمة إلى الثلث أو إلى ثلث الباقي أو إلى سدس المال. وأيضا إنما عد أولاد الأبوين أولاد الأب على الجد؛ لأنهم يقولون للجد: منزلتنا ومنزلتهم معك واحدة، فيدخلون معنا في القسمة، ونزاحمك بهم. ثم يقولون لأولاد الأب: أنتم لا ترثون معنا، وإنما أدخلناكم معنا في المقاسمة؛ لحجب الجد، فنأخذ ما يخصكم؛ كأن لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 يكن معنا جد1 متى تكون المعادة؟: إنما تكون المعادة إذا كان ولد الأبوين أقل من مثلي الجد، وبقي بعد الفرض أكثر من الربع، فإن كانوا مثليه فأكثر؛ فلا داعي للمعادة. صورة المعادة: صور المعادة ثمان وستون صورة، ووجه حصرها في هذا العدد أن مسائل المعادة لا بد فيها أن يكون الأشقاء دون المثلين، وينحصر ما دون المثلين في خمس صور، وهي: جد وشقيقة، جد وشقيقتان، جد وثلاث شقائق، جد وشقيق، جد وشقيق وشقيقة. ويكون مع من ذكر في هذه الصور الخمس من الأب من يكمل المثلين أو دونهما. فيتصور مع الشقيقة خمس صور، وهي: شقيقة وأخت لأب، شقيقة وأختان لأب، شقيقة وثلاث أخوات لأب، شقيقة وأخ لأب، شقيقة وأخ وأخت لأب. ويتصور مع الشقيقتين ثلاث صور، وهي: شقيقتان وأخت لأب، شقيقتان وأختان لأب، شقيقتان وأخ لأب. ويتصور مع الشقيق ثلاث صور، وهي: شقيق وأخت لأب، شقيق وأختان لأب، شقيق وأخ لأب. ويتصور مع ثلاث الشقائق صورة واحدة، وهي: ثلاث شقائق وأخت لأب.   ((العذب الفائض)) (1/ 114) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ويتصور مع الأخ الشقيق والأخت الشقيقة صورة واحدة، وهي: شقيق وشقيقة وأخت لأب. ومجموع هذه الصورة ثلاث عشرة صورة. ثم لا يخلو: إما إن لا يكون معهم صاحب فرض، أو يكون. وعلى الثاني؛ فالفرض إما ربع، أو سدس، أو ربع وسدس، أو نصف؛ فهذه خمس حالات 1، تضرب في الثلاث عشرة صورة، يحصل خمس وستون. والصورة السادسة والستون: أن يكون مع الجد والإخوة صاحبا نصف وسدس؛ كبنت وبنت ابن وجد وأخت شقيقة وأخت لأب. والسابعة والستون أن يكون معهم أصحاب ثلثين؛ كبنتين وجد وشقيقة وأخت لأب. والثامنة والستون أن يكون معهم صاحبا نصف وثمن؛ كبنت وزوجة وجد وشقيقة وأخت لأب. هل يتصور أن يأخذ الإخوة لأب شيئا مع الأشقاء في صورة المعادة؟ أما إذا كان في الأشقاء ذكر أو كانتا شقيقتين فأكثر؛ فلا يتصور أن يبقى لهم شيء، وإن كانت شقيقة واحدة؛ فلها إلى تمام النصف، فإن بقي شيء؛ فهو لولد الأب.   1 أربع في حالة إذا كان معهم صاحب فرض، والخامس إذا لم يكن معهم صاحب فرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 فمن الصور التي يبقى فيها الولد الأب شيء الزيديات الأربع، نسبة لزيد؛ لأنه الذي حكم فيها بذلك، وهي: 1 العشرية: وهي جد وشقيقة وأخ لأب، فأصلها من خمسة عدد الرؤوس، وإنما نسبت إلى العشرة لصحتها منها، ووجه صحتها من عشرة أن للشقيقة النصف، ولا نصف للخمسة صحيح، فيضرب مخرج النصف اثنان في أصل المسألة خمسة؛ تبلغ عشرة: للجد خمساها أربعة، وللأخت نصفها خمسة، يبقى واحد للأخ لأب. وهذه صورتها: 5/2 10 جد 2 4 شقيقة 2 5 2 أخ لأب 1 2 العشرينية: نسبة إلى العشرين؛ لصحتها منها، وهي جد وشقيقة وأختان لأب؛ فأصلها من خمسة عدد الرؤوس؛ كالتي قبلها، للجد منها سهمان بالمقاسمة، وللشقيقة نصف المال، ولا نصف صحيح للخمسة، فيضرب مخرج النصف اثنان في أصل المسألة خمسة؛ يحصل عشرة، للجد من أصلها اثنان في اثنين بأربعة، وللأخت النصف خمسة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 يبقى واحد للأختين لأب بينهما مناصفة، ولا ينقسم عليهن، فتضرب عدد رؤوسها اثنين في مصح المسألة عشرة، يحصل عشرون: للجد أربعة في اثنين بثمانية، وللشقيقة خمسة في اثنين بعشرة، وللأختين لأب واحد في اثنين باثنين، لكل واحدة واحد. وهذه صورتها: 5/2 10/2 20 جد 4 8 شقيقة 2 5 10 2 أختان لأب 1 2/1 ولك أن تقول في هذه: أصلها من خمسة، للجد منها اثنان بالمقاسمة، وللشقيقة النصف اثنان ونصف، يبقى نصف للأختين لأب، لكل واحدة ربع، ومخرج الربع من أربعة، تضربه في أصل المسألة خمسة، بعشرين: للجد من أصلها اثنان في أربعة بثمانية، وللشقيقة النصف عشرة، وللأختين لأب اثنان لكل واحدة واحد. 3 مختصرة زيد: وهي أم وجد وشقيقة وأخ وأخت لأب، سميت بذلك لأن تصحيحها من مئة وثمانية باعتبار المقاسمة، وتصح بالاختصار من أربعة وخمسين، كان أصلها من ستة: للأم سدس واحد، يبقى خمسة على الجد والإخوة مقاسمة، ورؤوسهم ستة لا تنقسم، فتضرب عدد الرؤوس ستة في أصل المسألة ستة؛ تبلغ ستة وثلاثين: للأم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 من أصلها واحد في ستة بستة، والباقي خمسة في ستة بثلاثين، للجد منها بالمقاسمة عشرة، يبقى عشرون للشقيقة نصف المال ثمانية عشر، يبقى اثنان على الأخ والأخت لأب، ورؤوسهم ثلاثة لاتنقسم وتباين، فنضرب ثلاثة في ستة وثلاثين؛ تبلغ مئة وثمانية: للأم ستة في ثلاثة بثمانية عشر، وللجد عشرة في ثلاثة بثلاثين، وللشقيقة ثمانية عشر في ثلاثة بأربعة وخمسين، وللأخ والأخت لأب اثنان في بستة، للأخ أربعة وللأخت اثنان. ثم ننظر فنجد بين الأنصباء ومصح المسألة توافقا بالنصف، فترجع المسألة إلى نصفها أربعة وخمسين، ويرجع نصيب الشقيقة إلى نصفه سبعة وعشرين، ويرجع نصيب الجد إلى نصفه خمسة عشر، ونصيب الأخ لأب إلى نصفه اثنين، ونصيب لأب إلى نصفه واحد. وهذه صورتها: 6/6 26/3 108 54 أم 1 6 18 9 جد 10 30 15 أخت شقيقة 5 18 54 27 6 اخ الاب 4 2 3 أخت الاب 2 1 108 4 تسعينية زيد: وهي أم وجد وشقيقة وأخوان وأخت لأب، سميت بذلك نسبة إلى التسعين؛ لصحتها منها، ووجه صحتها من تسعين أن الأحظ للجد هنا ثلث الباقي بعد سدس الأم، فيكون أصلها من ثمانية عشر إن اعتبر ثلث الباقي مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 السدس، ويصح أن يجعل أصلها من ستة مخرج السدس: للأم واحد، يبقى خمسة لا ثلث لها صحيح، فيضرب مخرج الثلث ثلاثة في ستة بثمانية عشر: للأم من أصلها السدس، واحد في ثلاثة بثلاثة، يبقى خمسة عشر، للجد منها خمسة، ثلث الباقي، وللأخت الشقيقة نصف المال تسعة، يبقى واحد للإخوة للأب، غير منقسم، فتضرب عدد رؤوسهم خمسة في أصل المسألة أو مصحها ثمانية عشر بتسعين، ومنها تصح للأم ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، وللجد خمسة في خمسة بخمسة وعشرين، وللأخت الشقيقة تسعة في خمسة بخمسة وأربعين، وللإخوة لأب واحد في خمسة بخمسة، لكل من الأخوين اثنان، وللأنثى واحد. وهذه صورتها على الطريقتين: 18/5 90 6/3 18/5 90 أم 3 15 أم 1 3 15 جد 5 25 جد 5 25 شقيقة 9 45 شقيقة 5 9 45 5 اخوان الأب 4/1 5 اخوان لأب 4/2 أخت الأب 1 أخت لأب 1 هذا؛ وبقى ما يسمى بحساب المواريث، ويتكون من باب الحساب وباب المناسخات وباب قسمة التركات، وهذا محله كتب الفرائض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 باب في التوريث والتقدير والاحتياط ما سبق كله هو حديث عما إذا تحقق موت المورث وتحقق كذلك وجود الوارث عند موت المورث، وهذا واضح لا إشكال فيه. لكن هنا حالات يلتبس فيها الأمر؛ فلا تعرف حال المورث والوارث؛ فقد يكون لبعض الورثة أحوال تتردد بين الوجود والعدم، وذلك كالحمل في البطن والغرقى والهدمى ونحوهم والمفقود، وتردد بين كون الوارث ذكرًا أو كونه أنثى، وذلك كالخنثى المشكل والحمل في البطن. وبناء على هذا التردد في تلك الأحوال والأصناف من الورثة والمورثين؛ أفردت بأبواب خاصة تسمى أبواب التوريث بالتقدير والاحتياط، وهي: 1 باب الخنثى المشكل. 2 وباب الحمل. 3 وباب المفقود. 4 وباب الغرقى والهدمى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 باب في ميراث الخنثى فالخنثى مأخوذ من الانخناث، وهو اللين والتكسر والتثني، يقال: خنث فم السقاء: إذا كسره إلى خارج وشرب منه. وهو في اصطلاح الفرضيين شخص له آلة رجل وآلة أنثى، أو ليس له آلة أصلاً. والجهات التي يمكن وجوده فيها: البنوة، والأخوة، والعمومة، والولاء؛ إذ كل واحد من المذكورين كونه ذكرًا أو كونه أنثى. ولا يمكن أن يكون الخنثى المشكل أبا ولا أما ولا جدًا ولا جدة؛ إذ لو كان كذلك؛ لا يضح أمره، فلم يبق مشكلاً، ولا يمكن كذلك أن يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة؛ لأنه لا يصح تزويجه ما دام مشكلاً. وقد خلق الله آدم بني آدم ذكورًا وإناثا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} ، وقال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} . وقد بين سبحانه حكم كل واحد منهما، ولم يبين حكم من هو ذكر وأنثى، فدل على أنه لا يجتمع الوصفان في شخص واحد، وكيف يتأتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 ذلك وبينهما مضادة؟!. وقد جعل سبحانه وتعالى للتمييز بينهما علامات مميزة، ومع ذلك قد يقع الاشتباه؛ بأن يوجد للشخص آلة أنثى. وقد أجمع العلماء على أن الخنثى يورث بحسب ما يظهر فيه من علامات مميزة: فمثلاً: إن بال من حيث يبول الرجل؛ ورث ميراث رجل، وإن بال من حيث تبول الأنثى؛ ورث ميراث أنثى؛ لأن دلالة البول على الذكور أو الأنوثة من أوضح الدلالات وأعمها؛ لوجودها من الصغير والكبير؛ فبوله من إحدى الآلتين وحدها يدل على أنه من أهلها، وتكون الآلة التي لا يبول منها بمنزلة العضو الزائد والعيب في الخلقة، فإن بال من الآلتين معا؛ اعتبر الأكثر منهما، وإن كان في ابتداء الأمر يبول من آلة واحدة، ثم صار يبول من الآلتين؛ اعتبرنا الآلة التي ابتدأ البول منها، فإن استوت الآلتان في خروج البول منهما وقتا وكمية؛ فإنه ينتظر به إلى ظهور علامة أخرى من العلامات التي تظهر عند البلوغ، ويبقى مشكلاً إلى آنذاك، لكنه يرجى اتضاح حاله عند البلوغ. والعلامات التي توجد عند البلوغ منها ما هو خاص بالرجال كنبات الشارب ونبات اللحية وخروج المني من ذكره، فإذا تبين فيه واحدة من هذه العلامات؛ فهو رجل، ومنها علامات تختص بالنساء، وهي الحيض والحبل وتفلك الثديين، فإذا تبين فيه علامة من هذه العلامات؛ فهو أنثى. فإن لم يظهر فيه شيء من علامات الرجال ولا علامات الإناث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 عند البلوغ؛ بقي مشكلاً لا يرجى اتضاح حاله، وللعلماء في كيفية توريثه وتوريث من معه في الحالتين مذاهب: فمنهم من يرى أن الخنثى المشكل يعامل بالأضر دون من معه، فيعطى الأقل من نصيبه إذا قدر ذكرًا أو نصيبه إذا قدر أنثى، وإن كان لا يرث في أحد القديرين؛ لم يعط شيئا. ومن العلماء من يرى أنه يعامل الخنثى ومن معه في الحالتين بالأضر، ويوقف الباقي إلى اتضاح حال الخنثى أو اصطلاح الورثة على اقتسامه. ومن العلماء من يرى أن الخنثى المشكل يعطى نصف نصيب ذكر وأنثى إن ورث بهما متفاضلاً، وإن ورث بأحد التقديرين دون الآخر؛ فله نصف التقدير الذي يرث به، وهذا الحكم يعمل به سواء كان يرجى اتضاح حال الخنثى أو لايرجى ومن العلماء من يرى التفصيل، فإن كان يرجى اتضاح حال الخنثى؛ عومل هو ومن معه بالأضر، فيعطى هو ومن معه المتيقن من ميراثه، ويوقف الباقي إلى اتضاح حله، وإن كان لا يرجى اتضاح حله؛ فإن الخنثى يعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى إن ورث بالتقديرين، وإن ورث بأحد التقديرين؛ أعطى نصف ما يستحقه به. والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 باب في ميراث الحمل قد يكون من جملة الورثة حمل، ومعلوم حينئذ ما يحصل من الإشكال الناشىء عن جهالة الحالة التي يكون عليها من حياة أو موت وتعدد وانفراد وأنوثة وذكورة، والحكم يختلف غالبا باختلاف تلك الاحتمالات، من هنا اهتم العلماء رحمهم الله بشأنه، فعقدوا له بابا خاصا في كتب المواريث. والحمل ما يحمل في البطن من الولد، والمراد به هنا ما في بطن الآدمية إذا توفى المورث وهي حامل به، وكان يرث أو يحجب بكل تقدير، أو يرث أو يحجب في بعض التقادير، إذا انفصل حيّا. والحمل الذي يرث بالإجماع هو الذي يتحقق فيه شرطان الشرط الأول: وجوده في الرحم حين موت المورث، ولو نطفة الشرط الثاني: انفصاله حيّا حياة مستقرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استهل المولود؛ ورث"، رواه أبو داود، ونقل عن ابن حبان تصحيحه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 ومعنى استهلال المولود بكاؤه عند ولادته برفع صوته، وقيل: معنى الاستهلال أن يوجد منه دليل الحياة من بكاء أو عطاس أو حركة، ولا يختص بالبكاء؛ فالاستهلال بعد الولادة دليل على انفصاله حيّا حياة مستقرة، وبه يتحقق الشرط الثاني. أما الشرط الأول وهو وجوده في الرحم حين موت المورث؛ فيستدل على تحققه بأن تلده في المدة المحددة للحمل، ولها أقل ولها أكثر بحسب الأحوال، وذلك أن للحمل المولود بعد وفاة المورث ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تلده حيّا قبل مضي زمن أقل مدة الحمل من موت المورث؛ ففي هذه الحالة يرث مطلقا؛ لأن حياته بعد الولادة في هذه المدة دليل على انه كان موجودًا قبل موت المورث، وأقل مدة الحمل ستة أشهر بإجماع العلماء؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} ، مع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} ، فإذا طرح الحولان وهما أربعة وعشرون شهرًا من ثلاثين شهرًا؛ بقى ستة أشهر، وهي أقل مدة الحمل. الحالة الثانية: أن تلده بعد مضي زمن أكثر مدة الحمل من موت المورث؛ ففي هذه الحالة لا يرث؛ لأن ولادته بعد هذه المدة تدل على حدوثه بعد موت المورث. واختلف العلماء في تحديد أكثر مدة الحمل على ثلاثة أقوال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 الأول: أن أكثر مدة الحمل سنتان؛ لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "لا يبقى الود في بطن أمه أكثر من سنتين"، ومثل هذا لا مجال للاجتهاد فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الثاني: أن أكثر مدة الحمل أربع سنين؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد بقاء الحمل في بطن أمه إلى أربع سنين. الثالث: أن أكثر مدة الحمل سنين. وأرجح الأقوال والله أعلم أن أكثر مدة الحمل أربع سنين؛ لأنه لم يثبت بالتحديد دليل، فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد أربع سنين، والله أعلم. الحالة الثالثة: أن تلده فيما فوق الحد الأدنى لمدة الحمل ودون الحد الأعلى لها؛ ففي هذه الحالة: إن كانت تحت زوج أو سيد يطؤها في هذه المدة؛ فإن الحمل لا يرث من الميت؛ لأنه غير متحقق الوجود حين موت المورث؛ لاحتمال أن يكون من وطء حادث بعد موت المورث، وإن كانت لا توطأ في هذه المدة لعدم الزوج أو السيد أو غيبتهما أو تركهما الوطء عجزًا أو امتناعا؛ فإن الحمل يرث؛ لأنه متحقق الوجود. هذا وقد اتفق العلماء على أن المولود إذا استهل بعد ولادته؛ فقد تحققت ولادته حيّا حياة مستقرة، واختلفوا فيما سوى الاستهلال؛ كالحركة والرضاع والتنفس؛ فمن العلماء من يقتصر على الاستهلال ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 يلحق به غيره من هذه الأمور، ومنهم من يعمم فيلحق بالاستهلال كل ما دل على حياة المولود، وهذا هو الأرجح؛ لأن الاستهلال لا يقتصر تفسيره على الصراخ فقط، بل يشمل الحركة ونحوها عند بعض العلماء، وحتى لو اقتصر تفسير الاستهلال على الصوت والصراخ؛ فإن ذلك لا يمنع الاستدلال بالعلامات الأخرى. والله أعلم. كيفي توريث الحمل إذا كان في الورثة حمل، وطلبوا القسمة قبل وضعه ومعرفة حالته من حيث الإرث وعدمه؛ فالذي ينبغي في هذه الحالة الانتظار حتى يعرف مصير الحمل، خروجا من الخلاف، ولتكون القسمة مرة واحدة. فإن لم يرض الورثة بالتأخير والانتظار إلى وضع الحمل؛ فهل يمكَّنون من القسمة؟، اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على قولين: القول الأول: أنهم لا يمكَّنون وذلك؛ لشك في شأن الحمل، وجهالة حالته وتعدد الاحتمالات في شأنه تعددًا يترتب عليه اختلاف كبير في مقدار إرثه وإرث من معه. القول الثاني: أن الورثة يمكنون من طلبهم، ولا يجبرون على الانتظار؛ لأن فيه إضرارًا بهم؛ إذ ربما يكون بعضهم فقراء، ومدة الحمل قد تطول، والحمل يحتاط له، فيوقف له ما يضمن سلامة نصيبه؛ فلا داعي لتأخير. وهذا هو القول الراجح فيما يظهر، لكن اختلف أصحاب هذا القول في المقدار الذي يوقف له؛ لأن الحمل في البطن لا يعلم حقيقته إلا الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 تتجاذبه احتمالات كثيرة؛ من حياته وموته، وتعدده وانفراده، وذكوريته وأنوثيته، ولا شك أن هذه الاحتمالات المتعددة تؤثر على مقدار إرثه وإرث من معه؛ لذلك اختلفوا في المقدار الذي يوقف للحمل على أقوال: القول الأول: أنه لا ضبط لعدد الحمل؛ لأنه لا يعلم أكثر عدد ما تحمل به المرأة من الأجنة، لكن ينظر في حالة الورثة الذين يرثون مع الحمل؛ فمن يرث في بعض التقادير دون بعض، أو كان نصيبه غير مقدر؛ كالعاصب؛ فهذا لا يعطى شيئا، ومن يرث في جميع التقادير متفاضلاً؛ فإنه يعطى الأنقص، ومن لا يختلف نصيبه في جميع التقادير؛ فإنه يعطى نصيبه كاملاً، ثم يوقف الباقي بعد هذه الاعتبارات؛ إلا أن ينكشف أمر الحمل. والقول الثاني: أنه يعامل الحمل بالأحظ، ويعامل الورثة مع بالأضر، فيوقف للحمل الأكثر من ميراث ذكرين أو أنثيين، ويعطى الوارث معه اليقين من تصيبه، فإذا ولد الحمل، وتبين أمره؛ أخذ من الموقوف ما يستحقه ورد الباقي إن كان أكثر من نصيبه أو أخذه كاملاً إن كان قدر نصبيه، وإن كان أنقص من نصيبه؛ رجع على الورثة بما نقص. القول الثالث: أنه يوقف للحمل حظ ابن واحد أو بنت واحدة أيهما أكثر؛ لأن الغالب المعتاد أن لا تلد الأنثى أكثر من واحد في بطن واحد، فينبني الحكم على الغالب، ويأخذ القاضي من الورثة كفيلاً بالزيادة على نصيب الواحد؛ لأن الحمل عاجز عن النظر لنفسه، فينظر له القاضي احتياطا. والراجح من هذه الأقوال ما كان فيه الاحتياط أكثر، وهو القول الثاني؛ لأن ولادة الاثنين في بطن واحد كثيرة الوقوع، وما زاد على الاثنين نادر، وأخذ الكفيل كما في القول الثالث قد يتعذر، وحتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 لو وجد الكفيل؛ فقد يعتريه ما يعتريه، فيعجز عن التحمل، فيضيع حق الحمل إذا تبين أكثر من واحد. فعلى القول المرجح يجعل للحمل ستة تقادير؛ لأنه إما أن ينفصل حيّا حياة مستقرة، وإما ينفصل ميتا، وإذا انفصل حيّا حياة مستقرة، فإما أن يكون ذكرًا فقط أو أنثى فقط، أو ذكرًا وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين؛ فهذه ستة مقادير، يجعل لكل تقدير مسألة، وتُجرى عليها العملية الحسابية، وينظر في أحوال الورثة: فمن كان يرث في جميع المسائل متساويا؛ أعطيته نصيبه كاملاً، ومن كان يرث فيها متفاضلاً؛ أعطيته الأنقص، ومن كان يرث في بعضها دون بعض؛ لم تعطه شيئا ويوقف الباقي إلى أن يتضح حال الحمل كما سبق، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 باب في ميراث المفقود المفقود لغة: اسم مفعول من فقد الشيء: إذا عدمه، والفقد أن تطلب الشيء فلا تجده، والمراد بالمفقود هنا من اقطع خبره وجهل حاله؛ فلا يدرى أحي هو أم ميت، سواء كان سبب سفره أو حضوره قتالاً أو انكسار سفينة أو أسره في أيدي أهل الحرب أو غير ذلك. ولما كان حال المفقود وقت فقده محتملاً مترددًا بين كونه موجودًا أو معدوما، ولكل حالة من الحالتين أحكام تخصها: أحكام بالنسبة لزوجته، وأحكام بالنسبة لإرثه من غيره وإرث غيره منه وإرث غيره معه، ولم يترجح أحد الاحتمالين على الآخر؛ كان لا بد من ضرب مدة يتأكد فيها من واقعه، تكون فرصة للبحث عنه، ويكون مضيها بدون معرفة شيء عنه دليلاً على عدم وجوده. وبناء على ذلك؛ اتفق العلماء على ضرب تلك المدة، لكن اختلفوا في مقدارها على قولين: القول الأول: أنه يرجع في تقدير المدة إلى اجتهاد الحاكم؛ لأن الأصل حياة المفقود، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بيقين أو ما في حكمه، وهذا قول الجمهور، سواء كان يغلب عليه السلامة أم الهلاك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وسواء فقد قبل التسعين من عمره أو بعدها، فينتظر حتى تقوم بينة بموته أو تمضي مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها. القول الثاني: التفصيل، وذلك أن للمفقود حالتين: الأولى: أن يكون الغالب عليه الهلاك؛ كمن يفقد في مهلكة، أو بين الصفين، أو من مركب غرق فسلم بعض أهله وهلك بعض، أو يفقد بين أهله؛ كأن يخرج لصلاة ونحوها؛ فلا يرجع؛ فهذا ينتظر أربع سنين منذ فقد؛ لأنها مدة يتكرر فيها تردد المسافرين والتجار؛ فانقطاع خبره إلى هذه المدة يغلب على الظن أنه غير حي. الثانية: أنه يكون الغالب على المفقود السلامة؛ كمن سافر لتجارة أو الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا. والرجح هو القول الأول، وهو أنه يرجع في تحديد مدة الانتظار المفقود إلى اجتهاد الحاكم؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأوقات والبلدان والأشخاص؛ لأنه في زماننا توفرت وسائل الإعلام والمواصلات، حتى صار العالم كله بمثابة البلد الواحد، مما يختلف الحال به عن الزمان السابق اختلافا كبيرًا. فإذا مات مورث المفقود في مدة الانتظار المذكورة: فإن لم يكن له وارث غير المفقود؛ وقف جميع ماله، إلى أن يتضح الأمر، أو تمضي المدة. وإن كان له ورثة غير المفقود؛ فقد اختلف العلماء في كيفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 مسألتهم على أقوال، أرجحها قول أكثر العلماء: أنه يعامل الورثة الذين مع المفقود بالأضر، فيعطي كل منهم إرثه المتيقن، ويوقف الباقي، وذلك بأن تقسم المسألة على اعتبار المفقود حيا، ثم على اعتبار ميتا، فمن كان يرث في المسألتين متفاضلاً؛ يعطى الأنقص، ومن يرث فيهما متساويا؛ يعطي نصيبه كاملاً، ومن يرث في إحدى المسألتين فقط؛ لا يعطى شيئا، ويوقف الباقي إلى تبين أمر المفقود. وهذا في توريث المفقود من غيره، وأما توريث غيره منه؛ فإنه إذا مضت مدة انتظاره، ولم يتبين أمره؛ فإنه يحكم بموته، ويقسم ماله الخاص وما وقف له من مال مورثه على ورثته الموجودين حين الحكم بموته، دون من مات في مدة الانتظار؛ لأن الحكم بموت المفقود جاء متأخرًا عن وفاة من مات في مدة الانتظار، ومن شرط الإرث حياة بعد موت المورث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 باب في ميراث الغرقى والهدمى وهذه المسألة كثيرة الوقوع، عظيمة الإشكال، ألا وهي مسألة الموت الجماعي، الذي يموت فيه جماعة من المتوارثين، لا يعرف من السابق بالوفاة ليكون موروثا ومن المتأخر ليكون وارثا، وكثيرًا ما يقع هذا في هذا العصر نتيجة لحوادث الطرق التي يذهب فيها الجماعات من الناس؛ كحوادث السيارات والطائرات والقطارات، وكذا حوادت الهدم والحريق والغرق والقصف في الحروب وغير ذلك. فإذا حصل شيء من ذلك؛ فلا يخلو الأمر من خمس حالات: الحالة الأولى: أن يعلم أن الجماعة مات أفرادها جميعا في آن واجد لم سبق أحدهم الآخر؛ ففي هذه الحالة لا توارث بينهم بالإجماع؛ لأن من شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، وهذا الشرط مفقود هنا. الحالة الثانية: أن يعلم تأخر موت أحدهم بعينه عن موت الآخر ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 ينس؛ فالمتأخر يرث المتقدم بالإجماع؛ لتحقق حياة الوارث بعد موت المورث. الحالة الثالثة: أن يعلم تأخر موت بعضهم عن موت البعض الآخر من غير تعيين للمتقدم والمتأخر. الحالة الرابعة: أن يعلم تأخر موت بعضهم عن موت البعض الآخر بعينه، لكن نسي. الحالة الخامسة: أن يجهل واقع موتهم؛ فلا يدرى أماتوا جميعا أم ماتوا متفاوتين. ففي هذه الأحوال الثلاث الأخيرة مجال للاحتمال ومسرح للاجتهاد والنظر، وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيما على قولين: القول الأول: عدم التوارث في هذه الأحوال الثلاث جميعا. وهو قول جماعة من الصحابة؛ منهم: أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم. وقال به الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو تخريج في مذهب أحمد؛ لأن من شروط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، وهذا الشرط ليس بمتحقق هنا، بل هو مشكوك فيه، ولا توريث مع الشك، ولأن قتلى وقعة اليمامة وقتلى وقعة صفين وقتلى الحرة لم يورث بعضهم من بعض. القول الثاني: أنه يورث كل واحد من الآخر. وهو قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما، وهو ظاهر مذهب أحمد رحمه الله، ووجه هذا القول أن حياة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 كل منهم كانت ثابتة بيقين، والأصل بقاؤها إلى ما بعد موت الآخر، ولأن عمر رضي الله عنه لما وقع الطاعون في الشام جعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكتب بذلك إلى عمر، فأمر أن يورثوا بعضهم من بعض. ويشترط للتوريث أن لا يختلف ورثة الموتى المشتبه في ترتب موتهم، فيدعي ورثة كل ميت تأخر موت مورثهم، وليس هناك بينة؛ فإنهم حينئذ يتحالفون، ولا توارث. وكيفية التوريث على هذا القول: أن يورث كل واحد من تلاد مال الآخر؛ أي: من ماله القديم؛ دون طريفه؛ أي: ماله الجديد الذي ورثه ممن مات معه في الحادث، وذلك بأن تفرض أن أحدهم مات أولاً، فتقسم ماله القديم على ورثته الأحياء ومن مات معه، فما حصل لمن مات معه من ماله بهذه القسمة؛ قسمته بين ورثته الأحياء فقط، دون من مات معه؛ لئلا يرث مال نفسه، ثم تعكس العملية مع الآخر، فتفرضه مات أولاً، وتعمل معه ما عملته مع الأول. والراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وهو عدم التوارث؛ لأن الإرث لا يثبت بالاحتمال والشك، وواقع الموتى في هذه المسألة مجهول، والمجهول كالمعدوم، وتقدم موت أحدهم في هذه الحالة مجهول؛ فهو كالمعدوم. وأيضا الميراث إنما حصل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله بعده، وهذا مفقود هنا، مع ما يلزم على القول بتوارثهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 من التناقض؛ لأن توريث أحدهم من صاحبه يقتضي أنه متأخر عنه بالوفاة، وتوريث صاحبه منه يقتضي أنه متقدم، فيكون كل واحد منهما متقدما متأخرًا؛ فعلى هذا القول الراجح وهو عدم التوارث يكون مال كل منهم لورثته الأحياء فقط دون من مات معه؛ عملاً باليقين، وابتعادًا عن الاشتباه، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 باب في التوريث بالرد الرد لغة: الصرف والإرجاع، يقال: رده ردًا: أرجعه وصرفه، والارتداد الرجوع، ومنه سميت الردة؛ لأنها رجوع عن الدين الصحيح. والرد في اصطلاح الفرضيين: هو صرف الباقي من التركة عن فروض الورثة إذا لم يكن هناك عاصب يستحقه إلى أصحاب الفروض بقدر فروضهم. وذلك أن الله سبحانه قدر فروض الورثة بالنصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس، وبين كيفية توريث العصبة من الذكور والإناث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها؛ فما بقي؛ فلأولى رجل ذكر"؛ فكان هذا الحديث الشريف مبينا للقرآن ومرتبا للورثة بنوعيهم: أصحاب الفروض والعصبات، فإذا وجد أصحاب فروض وعصبة؛ فالحكم واضح، ذلك بأن يعطى ذوو الفروض فروضهم، وما بقي بعدها يعطى للعصبة، وإن لم يبق شيء؛ سقط العصبة؛ عملاً بهذا الحديث الشريف، وإن وجد عصبة فقط؛ أخذوا المال بالتعصيب على عدد رؤوسهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 إنما الإشكال فيما إذا وجد أصحاب فروض لا تستغرق فروضهم التركة، ولم يوجد عصبة يأخذون الباقي؛ فالباقي في هذه الحالة يرد على أصحاب الفروض بقدر فروضهم؛ غير الزوجين، وذلك للأدلة الآتية: أولاً: قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه} ، وأصحاب الفروض من ذوي أرحام الميت؛ فهم أولى بماله، وأحق من غيرهم. ثانيا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالا فهو لورثته"، رواه البخاري ومسلم، وهذا عام في جميع المال الذي يتركه الميت، ومنه ما يبقى بعد الفروض، فيكون أصحاب الفروض أحق به؛ لأنه من مال مورثهم. ثالثا: جاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه يعوده من مرض أصابه: "يا رسول الله! لا يرثني إلا ابنة لي"، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حصر الميراث في بنته، ولو كان ذلك خطأ؛ لم يقره؛ فدل الحديث على أن صاحب الفرض يأخذ ما بقي بعد فرضه إذا لم يكن هناك عاصب، وهذا هو الرد. والذين يرد عليهم هم جميع أصحاب الفروض، ماعدا الزوجين؛ لأن الزوجين قد يكونان من غير ذوي الأرحام؛ فلا يدخلان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 عموم قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه} . وقد اتفق أهل العلم على أنه لا يرد على الزوجين؛ إلا ما روي عن عثمان رضي الله عنه، أنه رد على زوج، وهذا يحتمل أنه أعطاه لسبب غير الرد؛ ككونه عصبة أو ذا رحم، فأعطاه من أجل ذلك، لا من أجل الرد. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 باب في ميراث ذوي الأرحام ذوو الأرحام في اصطلاح الفرضيين: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، وهم على سبيل الإجمال أربعة أصناف: الصنف الأول: من ينتمي إلى الميت، وهم أولاد البنات وأولاد بنات البنين وإن نزلوا. الصنف الثاني: من ينتمي إليهم الميت، وهم الأجداد الساقطون والجدات السواقط وإن علوا. الصنف الثالث: من ينتمي إلى الميت، وهو أولاد الأخوات وبنات الإخوة وأولاد الإخوة للأم ومن يدلي بهم وإن نزلوا: الصنف الرابع: من ينتمي إلى أجداد الميت وجداته، وهم: الأعمام للأم، والعمات مطلقا، وبنات الأعمام مطلقا، والخؤولة مطلقا، وإن تباعدوا، وأولادهم وإن نزلوا. هذه أصنافهم على سبيل الإجمال، وهم يرثون إذا لم يوجد أحد من أصحاب الفروض غير الزوجين، ولم أحد من العصبة، وذلك لأدلة؛ منهما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 أولاً: قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّه} ؛ أي: بعضهم أحق بميراث البعض الآخر في حكم الله تعالى. ثانيا: عموم قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ؛ فلفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام، ومن أدعى التخصيص؛ فعليه الدليل. ثالثا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا له"، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: "حديث حسن". ووجه الدلالة منه أنه جعل الخال وارثا عند عدم الوارث بالفرض أو التعصيب، وهو من ذوي الأرحام، فيلحق به غيره منهم. هذه بعض أدلة من يرى توريث ذوي الأرحام، وهو مروي عن جماعة من الصحابة، منهم عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو مذهب الحنابلة والحنفية والوجه الثاني في مذهب الشافعية إذا لم ينتظر بيت المال. وقد اختلف القائلون بتوريث ذوي الأرحام في كيفية توريثهم على أقوال، أشهرها قولان: القول الأول: أنهم يرثون بالتنزيل؛ بأن ينزل كل واحد منهم منزلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 من أدلى به، فيجعل له نصيبه؛ فأولاد البنات وأولاد بنات البنين بمنزلة أمهاتهم، والعمم لأم والعمات بمنزلة الأب، والأخوال والخالات وأبو الأم بمنزلة الأم، وبنات الإخوة وبنات بنيهم بمنزلة آبائهن ... وهكذا. القول الثاني: أن توريث ذوي الأرحام كتوريث العصبات، فيقدم الأقرب فالأقرب منهم، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 باب في ميراث المطلقة من المعلوم أن عقد الزوجية هو مما جعله الله سببا من أسباب الإرث؛ حيث يقول جل شأنه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . فما دام عقد الزوجية باقيا؛ فالإرث باق؛ ما لم يكن هناك مانع من موانع الإرث. وإذا حل عقد الزوجية بالطلاق حلا كاملاً وهو ما يسمى بالطلاق البائن؛ فإنه ينتفي الإرث؛ لأنه إذا عدم السبب؛ عدم المسبب؛ إلا أنها قد تكون هناك ملابسات حول الطلاق تجعله لا يمنع الإرث؛ كما أنه إذا لم يحل عقد النكاح بالطلاق حلا كاملاً؛ فإن التوارث بين الزوجين لا ينتفي، ما دامت في العدة، وهو ما يسمى بالطلاق الرجعي، لهذا يعقد الفقهاء بابا يسمونه باب ميراث المطلقة. فالمطلقات إجمالاً ثلاثة أنواع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 النوع الأول: المطلقة الرجعية، سواء حصل طلاقها في حال صحة المطلق أو مرضه. الثاني: المطلقة البائن، التي حصل طلاقها في حال صحة المطلق. الثالث: المطلقة البائن، التي حصل طلاقها في حال مرض موت المطلق. فالمطلقة الرجعية ترث بالإجماع إذا مات المطلق؛ وهي في العدة؛ لأنها زوجة لها ما للزوجات ما دامت في العدة. والمطلقة البائن في حال الصحة لا ترث بالإجماع؛ لانقطاع صلة الزوجية؛ من غير تهمة تلحق الزوج في ذلك، وكذا إذا حصل هذا الطلاق في مرض الزوج غير المخوف. والمطلقة البائن في مرض الزوج المخوف، وهو غير متهم بقصد حرمانها من الميراث، لا ترث أيضا. والمطلقة البائن في مرض الموت المخوف، إذا كان الزوج متهما فيه بقصد حرمان الزوجة من الميراث؛ فإنها ترث في العدة وبعدها؛ ما لم تتزوج أو ترتد. والدليل على توريث المطلقة طلاقا بائنا يتهم فيه الزوج: أن عثمان رضي الله عنه قضى بتوريث زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقد طلقها في مرض موته فبتها، واشتهر هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 القضاء بين الصحابة، ولم ينكر، مع قاعدة سد الذرائع؛ لأن هذا المطلق قصد قصدا فاسدا في الميراث، فعومل بنقيض قصده، وهذا المعنى لا ينحصر في زمن حتى يقصر التوريث على زمن العدة، والله أعلم. ويتوارث الزوجان بعقد النكاح إذا مات أحدهما قبل الدخول والخلوة؛ لعموم الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلى قوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الآية؛ لأن علامة الزوجية علاقة وثيقة وشريفة، يترتب عليها أحكام وتبنى عليها مصالح عظيمة، فجعل الله لكل منهما نصيبا من مال الآخر إذا مات؛ كما جعل لأقربائه، وهذا مما يؤكد على الزوجين أن ينظر كل منهما إلى الآخر نظرة احترام وتوقير. وهذه هي أحكام الإسلام، كلها خير وبركة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا عليه ويميتنا عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 باب في التوارث مع اختلاف الدين اختلاف الدين هو أن يكون المورث على ملة والوارث على ملة أخرى. وتحت ذلك مسألتان: المسألة الأولى: إرث الكافر من المسلم وإرث المسلم من الكافر: اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال: القول الأول: أنه لا توارث بين مسلم وكافر مطلقا، وهو قول أكثر أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"، متفق عليه. القول الثاني: أنه توارث بين مسلم وكافر إلا بالولاء؛ لحديث: "لا يرث المسلم النصراني؛ إلا أن يكون عبده أو أمته"، رواه الدارقطني؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 فهو يدل على إرث المسلم لعتيقه النصراني، ويقاس عليه العكس، وهو إرث النصراني مثلاً لعتيقه المسلم. القول الثالث: أنه يرث الكافر من قريبه المسلم إذا أسلم فيل قسمة التركة؛ لحديث: "كل قسم قسم في الجاهلية؛ فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام؛ فإنه على ما قسم الإسلام"؛ فالحديث يدل على أنه لو أسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم؛ ورث. القول الرابع: أنه يرث المسلم من الكافر دون العكس؛ لحديث: "الإسلام يزيد ولا ينقص"، وتوريث المسلم من الكافر زيادة، وعدم توريثه منه نقص، والحديث يدل على أن الإسلام يجلب الزيادة ولا يجلب النقص. والراجح والله أعلم القول الأول، وهو عدم التوارث بين المسلم والكافر؛ لصحة دليله وصراحته؛ بخلاف بقية الأقوال؛ فإن أدلتها إما غير صحيحة وإما غير صريحة؛ فلا تعارض دليل القول الأول. المسألة الثانية: توارث الكفار بعضهم من بعض. للكفار حالتين: الحالة الأولى: أن يكونوا على دين واحد؛ كاليهودي مثلاً مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، ففي هذه الحالة لا خلاف في إرث بعضهم من بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الحالة الثانية: أن تختلف أديانهم؛ كاليهود مع النصارى أو المجوس أو الوثنيين؛ ففي هذه الحالة اختلف العلماء في حكم توريث بعضهم من بعض، ومبنى الاختلاف هو هل الكفر ملة واحدة أو ملل متعددة؟. القول الأول: وهو قول الحنفية والشافعية مع اتحاد الدار، ورواية في مذهب الحنابلة، وهو قول الجمهور: أن الكفر بجميع أشكاله واختلاف نحله ملة واحدة، فيتوارث الكفار بعضهم من بعض دون نظر إلى اختلاف دياناتهم؛ لعموم النصوص في توارث الآباء والأبناء؛ فلا يخص من عمومها إلا ما استثناه الشارع، ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} . القول الثاني: أن الكفر ثلاث ملل؛ فاليهودية ملة، والنصراينة ملة، وبقية الكفر ملة؛ لأنهم يجمعهم أنهم لا كتاب لهم؛ فلا يرث اليهودي من النصراني، ولا يرث أحدهما من الوثني. القول الثالث: أن الكفر ملل متعددة؛ فلا يرث أهل كل ملة من أهل الملة الأخرى؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ولعل هذا القول هو الراجح؛ لهذا الحديث، وهو نص في محل النزاع، ولعدم التناصر بين أهل الملل؛ فلا توارث بينهم؛ كالمسلمين مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الكفار، ولأنه قد تعارض موجب الإرث مع المانع من الإرث وهو اختلاف الدين؛ لأن اختلاف الدين يوجب المباينة من كل وجه، فقوي المانع، ومنع موجب الإرث، فلم يعمل الموجب؛ لقيام المانع. والذين يرون أن الكفر ملة واحدة يرون أن اختلاف الدار مانع من توارث بعض الكفار من بعض؛ لعدم التناصر والتآزر بينهم، وهذا المعنى موجود مع اختلاف الملل؛ فعلى هذا القول الذي يظهر لنا أن الراجح أنه لا يرث النصراني مثلاً قريبه اليهودي أو قريبه المجوسي أو الوثني، ولا يرث الوثني مثلا قريبه اليهودي، وإنما يتوارث النصارى فيما بينهم، واليهود فيما بينهم، والمجوس فيما بينهم، وكذا بقية الملل الكفرية. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 باب في حكم توريث القاتل قد تتوفر أسباب الإرث، ولكنه لا يتحقق لمانع عارض هذه الأسباب فمنع من تحقق مقتضاها. وموانع الإرث كثيرة، منها قتل الوارث لمورثه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس لقاتل ميراث"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل شيئا"، ولأجل سد الذريعة؛ لأن الوارث قد يحمله حب المال على قتل مورثه لأجل الحصول على ماله، والقاعدة المعروفة أن من تعجل شيئا قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه. وحرمان القاتل الميراث مجمع عليه بين أهل العلم في الجملة، وإن اختلفوا في تحديد نوعية القتل الذي منع من الإرث: والصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله أن القاتل لا يرث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 بحال، أيّاً كان نوع القتل؛ لعموم قولهصلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل شيئا"، ولأن القاتل حرم الميراث لئلا يجعل القتل ذريعة إلى استعمال الميراث، فوجب أن يحرم بكل حال؛ لحسم الباب. فعلى هذا لا يرث كل من له دخل في القتل، ولو كان بحق؛ كالمقتص، ومن حكم بالقتل؛ كالقاضي، وكذا الشاهد، وحتى لو كان القتل بغير قصد؛ كالقتل الذي يحصل من نائم ومجنون وطفل، وكذا لو كان القتل ناتجا عن فعل مأذون فيه شرعا؛ كالمؤدب والمداوي إذا ترتب على التأديب والعلاج موت المؤدَّب والمعاالَج. وذهب الحنابلة إلى أن القتل الذي يمنع الإرث هو القتل بغير حق، وهو ما وجب ضمانه بقود أو دية أو كفارة؛ كالقتل العمد وشبه العمد والخطأ وما جرى مجراه كالقتل بالسبب والقتل من الصبي والمجنون والنائم، وما ليس بمضمون بشيء مما ذكر؛ فإنه لا يمنع الميراث؛ كالقتل قصاصا أو حدّاً أو دفعا عن النفس أو كان القاتل عادلاً المقتول باغيا أو كان القتل ناتجا عن فعل مأذون به شرعا؛ كالتأديب والعلاج. وكذا مذهب الحنفية؛ إلا أنهم اعتبروا القتل بالتسبب لا يمنع الميراث؛ كما لو حفر بئرًا أو وضع حجرًا في الطريق، فانقتل بذلك مورثه، وكذا القتل بغير قصد لا يمنع الميراث؛ كالقتل من الصبي والمجنون. وعند المالكية أن القاتل له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون قبل مورٍّثه عمدًا عدوانا؛ ففي هذه الحالة لا يرث من مال مورثِّه ولا من ديته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الحالة الثانية: أن يكون قتل مورثه خطأ؛ ففي هذه الحالة يرث من ماله، ولا يرث من ديته، ووجه توريثه من المال عندهم في هذه الحالة أنه لم يتعجله بالقتل، ووجه كونه لم يرث من الدية؛ لأنها واجبة عليه، ولا معنى لكونه يرث من شيء يجب عليه. وباستعراض هذه الأقوال نجد القول الوسط منها، وهو أن القتل الذي يوجب الضمان على القاتل يمنع الميراث، والقتل الذي لا يوجب الضمان على القاتل لا يمنع الميراث؛ كما قال به الحنابلة والحنفية؛ لأن ما أوجب الضمان يكون القاتل لا يمنع الميراث؛ كما قال به الحنابلة والحنفية؛ لأن ما أوجب الضمان يكون القاتل فيه غير معذور ومتحملاً لمسؤوليته، فيترتب على ذلك حرمانه من الميراث، وما لا يوجب الضمان يكون القاتل معذورًا فيه وغير متحمل لمسؤوليته؛ فلا يمنعه من الميراث، ولو عملنا بقول الشافعية، فجعلنا كل قتل يمنع الميراث؛ لكان ذلك سببا لعدم إقامة الحدود الواجبة ولعدم استيفاء الحقوق كالقصاص ونحوه. فعلى هذا يكون عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل ميراث": مخصوص بما إذا كان القتل بغير حق وغير مضمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 كتاب النكاح باب في أحكام النكاح وهذا الموضوع له أهمية بالغة، جعلت الفقهاء يجعلون له في مصنفاتهم مكانا رحبا، يفصلون فيه أحكام، ويوضحون فيه مقاصده وآثاره؛ لأنه مشروع في الكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع} ، ولما ذكر النساء التي يحرم التزوج منهن؛ قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} . والنبي صلى الله عليه وسلم حث على الزواج ورغب فيه، فقال:: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج"، وقال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود فإني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 مكاثر بكم الأمم يوم القيامة". والنكاح يترتب عليه مصالح عظيمة: منها: بقاء النسل البشري، وتكثير عدد المسلمين وإغاظة الكفار بإنجاب المجاهدين في سبيل الله والمدافعين عن دينه. ومنها: إعفاف الفروج، وإحصانها، وصيانتها من الاستمتاع المحرم الذي يفسد المجتمعات البشرية. ومنها: قيام الزوج على المرأة بالرعاية والإنفاق؛ قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . ومنها: حصول السكن والأنس بين الزوجين، وحصول الراحة النفسية؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا} ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} . ومنها: أنه حماية للمجتمعات البشرية من الوقوع في الفواحش والخلقية التي تهدم الأخلاق وتقضي على الفضيلة. ومنها: حفظ الأنساب، وترابط القرابة والأرحام بعضها ببعض، وقيام الأسر الشريفة التي تسودها الرحمة الصلة والنصرة على الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ومنها: الترفع ببني الإنسان عن الحياة البهيمية إلى الحياة الإنسانية الكريمة. إلى غير ذلك من المصالح العظيمة التي تترتب على النكاح الشرعي الشريف النظيف القائم على كتاب الله وسنة رسوله. والنكاح عقد شرعي يقتضي حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيراً؛ فإنهن عوان عندكم، استحللتم فروجهن بكلمة الله". وعقد النكاح ميثاق بين الزوجين؛ قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} ؛ فهو عقد يوجب على كل من الزوجين نحو الآخر الوفاء بمقتضاه؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ويباح لمن عنده المقدرة والأمن من الحيف أن يتزوج بأكثر من واحدة؛ قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، والعدل المطلوب هنا هو: العدل المستطاع، وهو التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة والمسكن والمبيت. وإباحة تعدد الزوجات من محاسن هذه الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان؛ لما فيه من المصالح العظيمة للرجال والنساء والمجتمعات: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 لأنه من المعلوم كثرة عدد النساء عن عدد الرجال مع ما يعتري الرجال من الأخطار التي تقلل عددهم؛ كأخطار الحروب والأسفار، مما ينقرض معه كثرة الرجال، ويتوفر به عدد النساء، فلو قصر الرجل على واحدة؛ تعطل كثير من النساء. وكذلك معروف ما يعتري المرأة من الحيض والنفاس، فلو منع الرجل من التزوج بأخرى؛ لمرت عليه فترات كثيرة يحرم فيها من المتعة والإنجاب. ومعروف أن الاستمتاع بالمرأة استمتاعا كاملاً ومثمرًا ينتهي ببلوغها سن اليأس، وهو بلوغ الخمسين من عمرها؛ بخلاف الرجل؛ فإنه يستمر صلاحيته للاستمتاع والإنجاب إلى سن الهرم، فلو قصر على واحدة؛ لفات عليه خير كثير، وتعطل عنده منفعة الإنجاب والنسل. إضافة إلى أنه كان من المعلوم أن عدد النساء يزيد على عدد الرجال في غالب المجتمعات البشرة؛ فإن قصر الرجل على امرأة واحدة يترك كثيرًا من النساء لا عائل لهن، وبالتالي يفضي هذا إلى الفساد الخلقي، وضياع كثير من النساء، أو حرمانهن من متعة الحياة وزينتها. والحكم البالغة في إباحة تعدد الزوجات كثيرة؛ فقاتل الله من يحاول سد الطريق وتعطيل هذه المصالح. والنكاح من حيث الحكم الشرعي على خمسة أنواع: تارة يكون واجبا، وتارة يكون مستحبا، وتارة يكون حراما، وتارة يكون مكروها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 فيكون النكاح واجبا على من يخاف على نفسه الزنى إذا تركه؛ لأنه طريق لإعفاف نفسه من الحرام، وفي هذه الحالة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإن احتاج الإنسان إلى النكاح، وخاف العنت بتركة؛ قدمه على الحج الواجب". وقال غيره: "يكون له أفضل من الحج التطوع والصلاة والصوم والتطوع". قالوا: ولا فرق في هذه الحالة بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه. قال الشيخ تقي الدين: "ظاهر كلام أحمد والأكثرين عدم اعتبار الطول؛ لأن الله وعد عليه الغنى بقوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عنده شيء، ويمسي وما عنده من شيء، وزوج رجلا لم يقدر على خاتم من حديد". ويستحب النكاح مع وجود الشهوة وعدم الخوف من الزنى؛ لاشتماله على مصالح كثيرة للرجال والنساء. ويباح النكاح مع عدم الشهوة والميل إليه؛ كالعنين والكبير، وقد يكون مكروها في هذه الحالة؛ لأنه يفوت على المرأة الغرض الصحيح من النكاح، وهو إعفافها، ويضِرُّ بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 ويحرم النكاح على المسلم إذا كان في دار كفار حربيين؛ لأنه فيه تعريضا لذريته للخطر واستيلاء الكفار عليهم، ولأنه لا يأمن على زوجته منهم. ويسن نكاح المرأة الدينة ذات العفاف والأصل الطيب؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين، تربت يداك"، متفق عليه. وقد ورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها؛ قالصلى الله عليه وسلم: "لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن، ولا لمالهن فلعله يطغيهن، وانكحوهن للدين". وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار البِكر، فقال لجابر رضي الله عنه: "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" متفق عليه. ولما في زواج البكر من الألفة التامة؛ حيث لم يسبق لها التزوج بمن قد يكون قلبها متعلقا به؛ فلا تكون حاجتها للزوج الأخير تامة. ويسن اختيار الزوجة الولود؛ أي: بأن تكون من نساء يعرفن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 بكثرة الأولاد؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"، رواه النسائي وغيرهن وجاء بمعناه أحاديث. وحكم التزوج يختلف باختلاف حال الشخص وقدرته الجسمية والمالية واستعداده لتحمل مسؤوليته: وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم الشباب على الزواج المبكر؛ لأنهم أحوج إليه من غيره؛ قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج، ومن لم يستطع؛ فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء"، رواه البخاري ومسلم وغيرهما. و"الباءة": قيل: هي الجماع، وقيل: هي مؤن النكاح، ولا تنافي بين القولين؛ لأن التقدير من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن النكاح. وقوله "أغض للبصر" أي: أدفع لعين المتزوج عن النظر إلى الأجنبية. وقوله "أحصن للفرج" أي: أشد منعا وحفظا له من الوقوع في الفاحشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يستطع" أي: لا يقدر على النكاح ومؤنه. "فعليه بالصوم" أي: يتخذ الصوم علاجا بديلاً. "فإنه له وجاء" أي: يدفع الشهوة ويجنبه خطرها كما يقطعها الوجاء، وهو الاختصاء؛ لأن الصائم بتقليل الطعام والشراب يحصل له انكسار الشهوة، ويحصل له شعور خاص في حال الصيام من خشية الله وتقواه؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . فأمر صلى الله عليه وسلم بمقاومة الشهوة واتقاء خطرها بأمرين مرتبين: الأمر الأول: الزواج عند المقدرة عليه. والثاني: الصيام لمن لم يقدر على الزواج؛ مما يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يترك نفسه في مدارج الخطر. وهذا كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُم} إلى قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 باب في أحكام الخطبة قال عليه الصلاة والسلام: "إذا خطب أحدكم امرأة؛ فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها؛ فليفعل"، رواه أحمد وأبو داود، وفي حديث آخر: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". فدل ذلك على الإذن في النظر إلى ما يظهر من المخطوبة غالبا، وأن يكون ذلك من غير علمها، ومن غير خلوة بها. قال الفقهاء: "ويباح لمن أراد خطبة امرأة وغلب على ظنه إجابته: نظر ما يظهر غالبا، بلا خلوة، إن أمن من الفتنة" انتهى. وفي حديث جابر: "فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فدل ذلك على أنه لا يخلو بها، ولا تكون هي عالمة بذلك، وأنه لا ينظر منها إلا ما جرت العادة بظهوره من جسمها، وأن هذه الرخصة تختص بمن غلب على ظنه إجابته إلى تزوجها، فإن لم يتيسر النظر إليها؛ بعث إليها امرأة ثقة تتأملها ثم تصفها له؛ لما روى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم تنظر امرأة"، رواه أحمد. ومن استشير في خاطب أو مخطوبة؛ وجب عليه أن يذكر ما فيه من مساوي وغيرها، ولا يكون ذلك من الغيبة. ويحرم التصريح بخطبة المعتدّة؛ كقوله: أريد أن أتزوجك؛ لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} ؛ فأباح التعريض في خطبة المعتدة، وهو أن يقول مثلاً: إني في مثلك لراغب، أو: لا تفوتيني بنفسك؛ فدل ذلك على تحريم التصريح؛ كقوله: أريد أن أتزوجك؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح؛ فلا يؤمن أن يحملها الحرص على أن تخير بانقضاء عدتها قبل انقضائها. قال الإمام ابن القيم: "حرم خطبة المعتدة صريحا، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة؛ فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة، والكذب في انقضاء عدتها، وتباح خطبة المعتدة تصريحا وتعريضا لمطلقها طلاقا بائنا دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 الثلاث؛ لأنه يباح له نكاحها في عدتها". قال الشيخ تقي الدين: "يباح التصريح والتعريض من صاحب العدة فيها إن كان ممن يحل له التزوج بها في العدة". وتحرم خطبته على خطبة أخيه المسلم؛ فمن خطب امرأة، وأجيب إلى ذلك؛ حرم على غيره خطبتها، حتى يأذن بذلك أو يرد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك"، رواه البخاري والنسائي، وروى مسلم: "لا يحل للمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر"، وفي حديث ابن عمر: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه"، متفق عليه، وللبخاري: "لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له". فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على تحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه، والتعدي على حقوقهم، فإن رد الخاطب الأول، أو أذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 للخاطب الثاني، أو ترك تلك المرأة؛ جاز للثاني أن يخطب تلك المرأة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يأذن أو يترك"، وهذا من حرمة المسلم، وتحريم التعدي عليه. وبعض الناس لا يبالي، فيقدم على خطبة المرأة، وهو يعلم أنه مسبوق إلى خطبتها، وأنها قد حصلت الإجابة، فيعتدي على حق أخيه، ويفسد ما تم من خطبته، وهذا محرم شديد التحريم، وحري بمن أقدم على خطبة امرأة هو مسبوق إليها مع إثمه الشديد أن لا يوفق وأن يعاقب. فعلى المسلم أن يتنبه لذلك، وأن يحترم حقوق إخوانه المسلمين؛ فإن حق المسلم على أخيه المسلم عظيم، لا يخطب على خطبته، ولا يبيع على بيعه، ولا يؤذيه بأي نوع من الأذى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 باب في عقد النكاح وأركانه وشروطه يستحب عند إرادة عقد النكاح تقديم خطبة قبله تسمى خطبة ابن مسعود يخطبها العاقد أو غيره من الحاضرين، ولفظها: "إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، رواه الخمسة، وحسنة الترمذي. ويقرأ بعد هذه الخطبة ثلاث آيات من كتاب الله: الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . الثانية: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الثالثة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . وأما أركان عقد النكاح فهي ثلاثة الركن الأول: وجود الزوجين الخاليين من الموانع التي تمنع صحة النكاح؛ بأن لا تكون المرأة مثلاً من اللواتي يحرمن على هذا الرجل بنسب أو رضاع أو عدة أو غير ذلك، ولا يكون الرجل مثلاً كافراً والمرأة مسلمة ... وغير ذلك من الموانع الشرعية التي سنبينها إن شاء الله. الركن الثاني: حصول الإيجاب، وهو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه؛ بأن يقول للزوج: زوجتك فلانة أو أنكحتكها الركن الثالث: حصول القبول، وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه؛ بأن يقول: قبلت هذا النكاح أو هذا التزويج. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه، ولا يقتصر على لفظ الإنكاح والتزويج ووجهة نظر من قصره على لفظ الإنكاح والتزويج: أنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن؛ كقوله تعالى: {فلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} ، وكقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، لكن ذلك في الواقع لا يعني الحصر في هذين اللفظين. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وينعقد النكاح من أخرس بكتابة أو إشارة مفهومة. وإذا حصل الإيجاب والقبول؛ انعقد النكاح، ولوكان المتلفظ هازلاً لم يقصد معناه حقيقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هزلهن جد، وجدهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة"، رواه الترمذي. وأما شروط صحة النكاح؛ فهي أربعة: الشرط الأول: تعيين كل من الزوجين؛ فلا يكفي أن يقول: زوجتك ابنتي؛ إذا كان له عدة بنات، أو يقول: زوجتها ابنك، وله عدة أبناء، ويحصل التعيين بالإشارة إلى المتزوج، أو تسميته، أو وصفه بما يتميز به. الشرط الثاني: رضى كل من الزوجين بالآخر؛ فلا يصح إن أكره أحدهما عليه؛ لحديث أبي هريرة: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن"، متفق عليه؛ إلا الصغير منهما الذي لم يبلغ والمعتوه؛ فلوليه أن يزوجه بغير إذنه. الشرط الثالث: أن يعقد على المرأة وليها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي"، رواه الخمسة إلا النسائي، فلو زوجت المرأة نفسها بدون وليها؛ فنكاحها باطل؛ لأن ذلك ذريعة إلى الزنى، ولأن المرأة قاصرة النظر عن اختيار الأصلح لها، والله تعالى خاطب الأولياء بالنكاح، فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 تعال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ، وقال تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ، وغير ذلك من الآيات. وولي المرأة هو: أبوها، وصيه فيها، ثم جدها لأب وإن علا، ثم ابنها، ثم بنوه وإن نزلوا، ثم أخوها لأبوين، ثم أخوها لأب، ثم بنوهما، ثم عمها لأبوين، ثم عمها لأب، ثم بنوهما، ثم أقرب عصبتها نسبا؛ كالإرث، ثم المعتق، ثم الحاكم. الشرط الرابع: الشهادة على عقد النكاح؛ لحديث جابر مرفوعا: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"؛ فلا يصح إلا بشاهدين عدلين. قال الترمذي: "العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم؛ قالوا: لا نكاح إلا بشهود، ولم يختلف في ذلك من مضى منهم؛ إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 باب في الكفاءة النكاح الكفاءة لغة: المساواة والمماثلة. والمراد بها هنا: المساواة بين الزوجين في خمسة أشياء: أحدها: الدين؛ فلا يكون الفاجر والفاسق كفء العفيفة العدل؛ لأنه مردود الشهادة والرواية، وذلك نقص في إنسانيته. الثاني: المنصب، وهو النسب؛ فلا يكون العجمي وهو من ليس من العرب كفء العربية. الثالث: الحرية؛ فلا يكون العبد ولا المبعَّض كفء الحرة؛ لأنه منقوص بالرق. الرابع: الصناعة؛ فلا يكون صاحب صناعة دنيئة كالحجام والحائك كفء بنت من هو صاحب صناعة جليلة كالتاجر. الخامس: اليسار بالمال بحسب ما يجب لها من المهر والنفقة؛ فلا يكون المعسر كفء الموسرة؛ لأن عليها ضررًا في إعساره؛ لإخلاله بنفقتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 فإذا اختلف أحد الزوجين عن الآخر في واحد من هذه الأمور الخمسة؛ فقد انتفت الكفاءة، وذلك لا يؤثر على صحة النكاح؛ لأن الكفاءة ليست شرطا في صحته؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد، فنكحها بأمره، متفق عليه، ولكن تكون الكفاءة شرطا للزوم النكاح فقط؛ فلو زوجت امرأة بغير كفئها؛ فلمن لم يرض بذلك من المرأة أو أوليائها فسخ النكاح؛ لأن رجلاً زوج بنته من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها الخيار، وبعض العلماء يرى أن الكفاءة شرط لصحة النكاح، وهو رواية عن أحمد. قال الشيخ تقي الدين: "الذي يقتضيه كلام أحمد أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء؛ فرق بينهما ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء، ولا للزوج أن يتزوج، ولا للمرأة أن تفعل ذلك، وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية مثل مهر المرأة: إن أحبت المرأة والأولياء طلبوه وإلا تركوه ولكنه أمر ينبغي لهم اعتباره" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 باب في المحرمات في النكاح المحرمات في النكاح قسمان: القسم الأول: اللاتي يحرمن تحريما مؤبدًا. وهن أربع عشرة: سبع يحرمن بالنسب، وسبع يحرمن بالسبب، وهن المذكورات في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا} الآيتين. أولاً: اللاتي يحرمن بالنسب، وبيانهن كما يلي: الأم والجدة؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} . والبنت، وبنت الابن، وبنت البنت، وبنت الابن؛ لقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} . والأخت؛ شقيقة كانت، أو لأب أو لأم؛ لقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} . وبنت الأخت وبنت ابنها وبنت بنتها؛ لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وبنت الأخ وبنت الأخ وبنت ابنه؛ لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} . والعمة والخالة؛ لقوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} . الملاعنة على الملاعن؛ لما روى الجوزجاني عن سهل بن سعد؛ قال: " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا". قال الموفق: " لا نعلم أحدًا قال بخلاف ذلك". ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب من الأقسام السابقة؛ فكل امرأة حرمت بالنسب من الأقسام السابقة؛ حرم مثلها بالرضاع؛ كالأمهات والأخوات؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَة} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، متفق عليه. وتحرم بالعقد زوجة أبيه وزوجة جده؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وتحرم زوجة ابنه وإن نزل؛ لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم} . وتحرم عليه أم زوجته وجداتها بمجرد العقد؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} . وتحرم بنت الزوجة وبنات أولادها إذا دخل بالأم؛ لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . هذا؛ ويناسب أن نقرأ الآية الكريمة متصلة بعد أن بينا ما ذكر فيها من أنواع المحرمات من النساء في النكاح؛ قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} . القسم الثاني: ما كان تحريمه منهن مؤقتا. وهو نوعان: النوع الأول: ما يحرم من أجل الجمع. فيحرم الجمع بين الأختين؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ، وكذا يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 المرأة وخالتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجمعوا بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها"، متفق عليه، وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في ذلك حين قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم إذا فعلتم ذلك؛ قطعتم أرحامكم"،وذلك لما يكون بين الضرائر من الغيرة، فإذا كانت إحداهما من أقارب الأخرى؛ حصلت القطيعة بينهما، فإذا طلقت المرأة وانتهت عدتها؛ حلت أختها وعمتها وخالتها؛ لانتفاء المحذور. ولا يجوز أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة؛ لقوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من تحيه أكثر من أربع لما أسلم أن يفارق ما زاد عن أربع. النوع الثاني: ما كان لعارض يزول. فيحرم تزوج المعتدة من الغير؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَه} ، ومن الحكمة في ذلك أنه لا يؤمن أن تكون حاملاً، فيفضي ذلك إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. ويحرم تزوج الزانية إذا علم زناها حتى تتوب وتنقضي عدتها؛ لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ويحرم على الرجل أن يتزوج من طلقها ثلاثا حتى يطأها زوج غيره بنكاح صحيح؛ لقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ؛ يعني: الثالثة؛ {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} . ويحرم تزوج المحرمة حتى تحل من إحرامها. وكذا لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح على امرأة وهو محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب"، رواه الجماعة إلا البخاري. ولا يحل أن يتزوج كافر امرأة مسلمة؛ لقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} . ولا يتزوج المسلم امرأة كافرة؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} ، وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ؛ إلا الحرة الكتابية، فيجوز للمسلم أن يتزوجها؛ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ؛ يعني: حل لكم، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم الآيتين السابقتين في تحريم نكاح الكافرات على المسلمين، وقد أجمع أهل العلم على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 ويحرم على الحر المسلم أن يتزوج الأمة المسلمة؛ لأن المسلمة؛ لأن ذلك يفضي إلى استرقاق أولادة منها؛ إلا إذا خاف على نفسه من الزنى، ولم يقدر على مهر الحرة أو ثمن الأمة، فيجوز له حينئذ تزوج الأمة المسلمة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُم} . ويحرم على العبد أن يتزوج سيدته للإجماع، ولأنه يتنافى كونها سيدته مع كونه زوجها؛ لأن لكل منهما أحكام. ويحرم على السيد أن يتزوج مملوكته؛ لأن عقد الملك أقوى من عقد النكاح، ولا يجتمع عقد مع ما هو أضعف منه. والوطء بملك اليمين حكمه حكم الوطء في العقد فيما سبق إلى أمد، فمن حرم وطؤها بعقد كالمعتدة والمحرمة والمطلقة ثلاثا؛ حرم وطؤها بملك اليمين؛ لأن العقد إذا حرم لكونه طريقا إلى الوطء؛ فلأن يحرم الوطء من باب أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 باب في الشروط النكاح المراد بالشروط في النكاح: ما يشرطه أحد الزوجين في العقد على الآخر مما له فيه مصلحة. ومحلها ما كان في العقد أو اتفقا عليه قبله. وهي تنقسم إلى قسمين: صحيح، وفاسد. أولاً: الشروط الصحيحة في النكاح: ومن الصحيح عند الأكثرين إذا شرطت عليه طلاق ضرتها؛ لأن لها في ذلك فائدة، وقال البعض الآخر من العلماء بعدم صحة هذا الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تشترط طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها، والنهي يقتضي الفساد. ومن الشروط الصحيحة في النكاح: إذا شرطت عليه أن لا يتسرى أو لا يتزوج عليها، فإن وفّى، وإلا فلها الفسخ؛ لحديث: "إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وكذا لو شرطت عليه أن لا يخرجها من دارها أو بلادها؛ وصح هذا الشرط، ولم يكن له إخراجها إلا بإذنها. وكذا لو شرطت أن لا يفرق بينها وبين أولادها أو أبويها؛ صح هذا الشرط، فإن خالفه؛ فلها القسخ. ولو شرطت زيادة في مهرها، أو كونه من نقد معين؛ صح الشرط، وكان لازما، ويجب عليه الوفاء به، ولها الفسخ بعدمه، وخيارها في ذلك على التراخي، فتفسخ متى شاءت؛ مالم يوجد منها ما يدل على رضاها مع عامها بمخالفته لما شرطته عليه؛ فحينئذ يسقط خيارها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للذي قضى عليه بلزوم ما شرطته عليه زوجته فقال الرجل: إذًا تطلقنا. فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط. ولحديث: "المؤمنون على شروطهم". قال العلامة ابن القيم: " يجب الوفاء بهذه الشروط التي هي أحق أن يوفيها، وهو مقتضى الشر والعقل والقياس الصحيح؛ فإن المرأة لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به؛ لم يكن العقد عن تراض، وكان إلزاما بما لم يلزمها الله به ورسوله". ثانيا: الشروط الفاسدة في النكاح: والشروط الفاسدة في النكاح نوعان: 1 شروط فاسدة تبطل العقد: وهي أنواع ثلاثة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الأول: نكاح الشغار: وهو أن يزوجه موليته بشرط أن يزوجه الآخر موليته ولا مهر بينهما، سمي شغارًا من الشغور وهو الخلو من العوض، وقيل: سمي شغارًا من شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول، شبه قبحه بقبح بول الكلب، وهذا النوع جعل فيه امرأة بدل امرأة، وقد أجمعوا على تحريمه، وهو باطل، يجب التفريق فيه، سواء فيه، سواء كان مصرحا فيه بنفي المهر أو مسكوتا عنه؛ لحديث ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق"، متفق عليه. وقال الشيخ تقي الدين: "وفصل الخطاب: أن الله حرم نكاح الشغار لأن الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفء، ونظر مصلحة لا نظر شهوة، والصداق حق لها لا له، وليس للولي ولا للأب أن يزوجها إلا لمصلحتها، وليس له أن يزوجها لغرضه لا لمصلحتها، وبمثل هذا تسقط ولايته، ومتى كان غرضه أن يعاوض رجها بفرج الأخرى؛ لم ينظر في مصلحتها، وصار كمن زوجها على مال له لا لها، وكلاهما لا يجوز، وعلى هذا؛ لو سمى صداقا حيلة والمقصود المشاغرة؛ لم يجز؛ كما نص عليه أحمد؛ لأن مقصوده أن يزوجها بتزوجه الأخرى، والشرع بيِّن أنه لا يقع هذا إلا لغرض الولي لا لمصلحة المرأة، سواء سمي مع ذلك صداق أو لم يسم؛ كما قاله معاوية وغيره، وأحمد جوزه مع الصداق المقصود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 دون الحيلة؛ مراعاة لمصلحة المرأة في الصداق" انتهى. فإذا سمي لكل واحدة منهما مهر مستقل كامل، بلا حيلة، مع أخذ موافقة المرأتين؛ صح ذلك؛ لانتفاء الضرر. الثاني: نكال المحلل: وهو أن يتزوجها بشرط أنه متى حللها للأول؛ طلقها، أو نوى التحلل بلا شرط يذكر في العقد، أو اتفقا عليه قبل العقد؛ ففي جميع هذه الأحوال يبطل النكاح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "هو المحلل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له"، رواه ابن ماجه والحاكم وغيره. ثالثا: إذا علّق عقد النكاح على شرط مستقبل: كأن يقول: زوجتك إذا جاء رأس الشهر، أو: إن رضيت أمها؛ فلا ينعقد النكاح مع ذلك؛ لأن النكاح عقد معاوضة، فلم يصح تعليقه على شرط. وكذا لو زوجه إلى مدة؛ كما لو قال: زوجتك وإذا جاء غد؛ فطلقها، أو قال: زوجتها شهرًا أو سنة؛ بطل هذا النكاح المؤقت، وهو نكاح المتعة. قال الشيخ تقي الدين: "الروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أن الله تعالى حرم المتعة بعد إحلالها". وقال القرطبي: "الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 يطل، وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها؛ إلا من لا يلتفت إليه من الروافض". 2 شروط فاسدة لا تفسد النكاح: لو شرط في عقد النكاح إسقاط حق من حقوق المرأة؛؛ كأن شرط أن لا مهر لها، أو لا نفقة، أو شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها؛ فإنه في هذه الأحوال يفسد الشرط ويصح النكاح؛ لأن ذلك الشرط يعود إلى معنى زائد في العقد، لا يلزم ذكره، ولا يضر الجهل به. ومن ذلك أنه إذا شرطها مسلمة، فبانت كتابية؛ فالنكاح صحيح، وله خيار الفسخ. ومن ذلك أنه إذا شرطها بكرًا أو جميلة أو ذات نسب، فبانت بخلاف ما اشترط؛ فله الفسخ؛ لفوات شرطه. ومن ذلك أنه إذا تزوج امرأة على أنها حرة، فتبين أنها أمة، فإن كان ممن لا يحل له تزوج الإماء؛ فرق بينهما، وإن كان ممن يحل له ذلك؛ فله الخيار. وكذا لو تزوجت المرأة رجلاً حرّاً، فبان عبداً؛ فلها الخيار، وإن عتقت أمة تحت عبد؛ فلها الخيار؛ لأن بريرة لما عتقت تحت عبد؛ اختارت مفارقته؛ كما رواه البخاري وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 باب في العيوب في النكاح هناك عيوب تثبيت الخيار في النكاح؛ فمنها: أن من وجدت زوجها لا يقدر على الوطء لكونه عنينا أو مقطوع الذكر؛ فلها الفسخ، وإن ادعت أنه عنين، فأقر بذلك؛ أجل سنة، فإن وطىء فيها، وإلا؛ فلها الفسخ. وإن وجد الرجل في زوجته عيبا يمنع الوطء؛ كالرِّتق، ولا يمكن زواله؛ فله الفسخ. وكذا من وجد منهما في الآخر عيبا مشتركا؛ كالباسور، والجنون، والبرص، والجذام، وقرع الرأس، وبخر الفم؛ فله الخيار؛ لما في ذلك من النفرة. قال العلامة ابن القيم: "كل عيب ينفر أحد الزوجين من الآخرة، ولا يحصل به مقصود النكاح؛ يوجب الخيار، وإنه أولى من البيع" انتهى. ولو حدث بأحد الزوجين عيب بعد العقد؛ فللآخر الخيار. ويثبت الخيار لمن لم يرض بالعيب من الزوجين، ولو كان به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 عيب مثله أو مغاير له؛ لأنه الإنسان لا يأنف من عيب نفسه، ومن رضي منهما بعيب الآمر؛ بأن قال: رضيت به، أو وجد منه دليل الرضى، مع علمه بالعيب، فلا خيار له بعد ذلك. وحيث يثبت لأحدهما الخيار؛ فإنه لا يتم إلا عند الحاكم؛ لأنه يحتاج إلى اجتهاد ونظر، فيفسخه الحاكم بطلب من له الخيار، أو يأذن لمن له الخيار فيفسخ. وإن تم افسخ قبل الدخول؛ فلا مهر لها؛ لأن الفسخ إن كان منها؛ فقد جاءت الفرقة من قبلها، وإن كان منه؛ فقد دلست عليه العيب، فكان الفسخ بسببها. وإن كان الفسخ بعد الدخول؛ فلها المهر المسمَّى في العقد؛ لأنه وجب بالعقد، واستقر بالدخول؛ فلا يسقط. ولا يصح تزويج الصغيرة والمجنونة والمملوكة بمن فيه عيب يُرَدُّ به النكاح؛ لأن وليهن لا ينظر لهن إلا بما فيه الحظ والمصلحة لهن، وإن لم يعلم وليهن بالعيب؛ فسخ النكاح إذا علم؛ إزالة للضرر عنهن. وإذا رضيت الكبيرة العاقلة مجبوبا أو عنينا؛ لم يمنعها وليها؛ لأن الحق في الوطء لها دون غيرها. وإن رضيت بالتزوج من مجنون ومجذوم وأبرص؛ فلوليها منعها منه؛ لأن في ذلك ضررًا يخشى تعديه إلى الولد، وفيه منغصة على أهلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 باب في أنكحة الكفار المراد بالكفار: أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين. المراد: ما يقَرُّون عليه من أنكحتهم لو أسلموا، أو ترافعوا إلينا حال كفرهم. فنكاح الكفار حكمة حكم نكاح المسلمين في الصحة، ووقوع الطلاق، والظهار، والإيلاء، ووجوب النفقة والقسم. ويحرم عليهم من النساء ما يحرم على المسلمين؛ فقد جاء في القرآن الكريم إضافة المرأة إلى الكافر في قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ، و {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} ؛ فأضاف المرأة إلى الكافر، والإضافة تقتضي زوجية صحيحة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصواب: أن أنكحتهم المحرّمة في الإسلام حرام مطلقا، إذا لم يسلموا؛ عوقبوا عليها وإن أسلموا؛ عفي لهم عنها؛ لعدم اعتقادهم تحريمها، وأما الصحة والفساد؛ فالصواب أنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فإن أريد بالصحة إباحة التصرف؛ فإنما يباح لهم بشرط الإسلام، وإن أريد نفوذه وترتب أحكام الزوجية عليه من حصول الحل به للمطلق ثلاثا ووقوع الطلاق فيه وثبوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 الإحصان به؛ فصحيح" انتهى. ومن أحكام أنكحة الكفار: أنهم يقرون على فاسدها بشرطين: الشرط الأول: إذا اعتقدوا صحتها في شرعهم، وما لا يعتقدون حله؛ لا يقرون عليه؛ لأنه ليس من دينهم. الشرط الثاني: أن لا يترافعوا إلينا، فإن ترافعوا؛ لم نقرهم عليه؛ لقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} . فإذا اعتقدوا صحة نكاحهم في شرعهم، ولم يترافعوا إلينا؛ لم نتعرض لهم؛ بدليل أن النبيصلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولم يعترض عليهم في أنكحتهم، مع علمه أنهم يستبيحون محارمهم، وأسلم خلق كثير في زمن النبيصلى الله عليه وسلم، فأقرهم على أنكحتهم، ولم يكشف عن كيفيتها. وإن أتونا قبل عقد نكاحهم؛ عقدناه على حكم ديننا؛ بإيجاب وقبول وولي وشاهدي عدل منا؛ قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} . أما إن أتونا بعد عقد النكاح فيما بينهم؛ فإننا لا نتعرض لكيفية صدوره. وكذلك إذا أسلم الزوجان على نكاح؛ فإننا لا نتعرض لكيفية صدوره وتوفر شروطه فيما سبق، لكننا ننظر فيه وقت الترافع أو وقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 إسلامهم، فإن كانت الزوجة تباح في هذا الوقت لعدم الموانع الشرعية؛ أقرا على نكاحهما؛ لأن ابتداء النكاح حينئذ لا مانع منه؛ فلا مانع من استدامته، وإن كانت الزوجة في هذا الوقت الذي ترافعا أو أسلما فيه لا يباح ابتداء العقد له عليها؛ فرق بينهما؛ لأن منع ابتداء العقد يمنع من استدامته، وإن كان المهر الذي سمي لها في حال الكفر صحيحا؛ أخذته؛ لأنه وجب بالعقد، ولا مانع من استيفائها له، وإن كان فاسدًا كالخمر والخنزير فإن كانت قبضته؛ فقد استقر، وليس لها غيره؛ لأنها قبضته بحكم الشرك، فبرئت ذمة من هو عليه منه، ولأن في التعرض له مشقة وتنفير عن الإسلام، فيعفي عنه كما عفي عن غيره من الأعمال الكفرية، إن لم تكن قد قبضت المهر الفاسد؛ فإنه يفرض لها مهر المثل، وإن كانت قد قبضت بعض المهر الفاسد ولم تقبض بقيته؛ فإنه يجب لها قسط الباقي من مهر المثل، وإن لم يسم لها مهر أصلاً؛ فإنه يفرض لها مهر المثل؛ لخلو النكاح من تسمية المهر. وإذا أسلم الزوجان معا بأن تلفظا بالإسلام دفعة واحدة؛ فإنهما يبقيان على نكاحهما؛ لأنه لم يوجد منهما اختلاف دين. وإن أسلم زوج كتابية، ولم تسلم هي؛ بقيا على نكاحهما؛ لأن للمسلم أن يتزوج الكتابية ابتداء؛ فاستدامته لنكاحها من باب أولى. وإن أسلمت كافرة تحت كافر قبل الدخول؛ بطل النكاح؛ لقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} ، وليس لها شيء من المهر؛ لمجيء الفرقة من قبلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وإن أسلم زوج غير كتابية قبل الدخول؛ بطل النكاح؛ لقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} ، وعليه نصف المهر؛ لمجيء الفرقة من قبله. وإن أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين، أو أسلمت كافرة تحت كافر بعد الدخول؛ وقف الأمر على انقضاء العدة، فإن أسلم الآخر فيها؛ دام النكاح وإن لم يسلم فيها؛ تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أسلم الأول. ومن أسلم وتحته أكثر من أربع واسلمن، أو كن كتابيات؛ اختار منهم أربعا؛ لأن قيس بن الحارث أسلم وتحته ثمان نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعا"، وقاله أيضا لغيره، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 باب في الصداق في النكاح الصداق مأخوذ من الصدق؛ لأنه يشعر برغبة الزوج في الزوجة، وهو عوض يسمى في عقد النكاح أو بعده. أما حكمه: فهو واجب، ودليله الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} . ولفعله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن يخلي النكاح من صداق، وقال: "التمس ولو خاتما من حديد". وأجمع أهل العلم على مشروعيته. أما مقداره: فلا يتقدر أقله ولا أكثره بحد معين؛ فكل ما صح أن يكون ثمنا أو أجرة؛ صح أن يكون صداقا، وإن قل أو أكثر؛ إلا أنه ينبغي الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ بأن يكون في حدود اربع مئة درهم، وهي صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك؛ لم يكره؛ إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك، فأما إن كان عاجزاً عن ذلك؛ فأما إن كثر، وهو مؤخر في ذمته؛ فينبغي أن يكره؛ لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة" انتهى كلامة. والخلاصة: أن كثرة الصداق لا تكره إذا لم تبلغ حد المباهاة والإسراف، ولم تثقل كاهل الزوج؛ بحيث تحوجه إلى الاستعانة بغيره عن طريق المسألة ونحوها، ولم تشغل ذمته بالدين، وهي ضوابط قيمة تكفل المصلحة وتدفع المضرة. ويتبين من خلال ما سبق أن ما وصل إليه الناس في قضية المهور من المغالاة الباهظة التي لا يراعي فيها جانب الزوج الفقير والتي أصبحت صعبة المرتقى في طريق الزواج؛ أن هذه المغالاة لا شك في كراهتها أو تحريمها، خصوصا وأنه يكون إلى جانبها تكاليف أخرى؛ من شراء الأقمشة الغالية الثمن، والمصاغات الباهظة، والحفلات والولائم المشتملة على الإسراف والتبذير وإهدار الأطعمة واللحوم في غير مصلحة تعود إلى الزوجين؛ لا شك أن كل ذلك من الآصار والأغلال والتقاليد السيئة التي يجب محاربتها والقضاء عليها وتنقية طريق الزواج من عراقيلها. وفي حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "أعظم النساء بركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 أيسرهن مؤنة"، رواه أحمد والبيهقي والحاكم وغيرهم. وقال عمر بن الخاب رضي الله عنه: "ألا لا تغالوا في صدق النساء؛ فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله؛ كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته، اكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في قلبه، وحتى يقول: كلفت فيك علق القربة" أخرجه النسائي وأبو داود. ومنه تعلم أن كثرة الصداق قد تكون سببا في بغض الزوج لزوجته حينما يتذكر ضخامة صداقها، ولهذا كان أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة؛ كما في حديث عائشة؛ فتيسير الصداق يسبب البركة في الزوجة ويزرع لها المحبة في قبل الزوج. والحكمة في مشروعية الصداق: أن فيه معاوضة عن الاستمتاع، وفيه تعزيز لجانب الزوجة وتقدير لمكانتها في حق الزوج. وتستحب تسميته الصداق، وتحديده في العقد؛ لقطع النزاع. ويجوز أن يسمى ويحدد بعد العقد؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا} ؛ فدلت الآية على أن فرض الصداق قد يتأخر عن العقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وأما نوعية الصداق: فكما يفهم أن كل ما جاز أن يكون ثمنا في بيع أو أجرة في إجارة وقيمة لشيء؛ جاز أن يكون صداقا، سواء كان من عين أو دين معجل أو مؤجل أو منفعة معلومة، وهذا مما يدل على أنه مطلوب تيسير الصداق، وحسب الظروف والأحوال، تيسير الزواج الذي يتعلق به مصالح عظيمة للأفراد والمجتمعات. وهذه بعض المسائل الهامة التي تتعلق بالصداق: أولاً: إن الصداق ملك للمرأة، ليس لوليها منه شيء؛ إلا ما سمحت به له عن طيب نفس، لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنّ} ، ولأبيها خاصة أن يأخذ من صداقها، ولو لم تأذن؛ ما لا يضرها ولا تحتاج إليه؛ لقولهصلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك". ثانيًا: يبدأ تملك المرأة لصداقها من العقد؛ كما في البيع، ويتقرر كاملاً بالوطء، أو الخلوة بها، وبموت أحدهما. ثالثا: إذ أطلقها قبل الدخول أو الخلوة، وقد سمى لها صداقا؛ فلها نصفه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ؛ أي: لكم ولهن، فاقتضى أن النصف له والنصف لها بمجرد الطلاق، وأيهما عقا لصاحبه عن نصيبه منه وهو جائز التصرف؛ صح عفوه؛ لقوله تعالى: {إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} ، ثم رغَّب في العفو، فقال تعالى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 أي: لا ينس الزوجان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف، أو يتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي من بعضهم على بعض والمسامحة فيما لأحدهما على الآخر؛ للوصلة التي قد وقعت بينهما. رابعا: كل ما قبض بسبب النكاح ككسوة لأبيها أو أخيها فهو من المهر. خامسا: إذا أصدقها مالاً مغصوبا أو محرما؛ صح النكاح، ووجب لها مهر المثل بدل الصداق المحرم. سادسا: إذا عقد النكاح ولم يجعل للمرأة مهراً؛ صح النكاح، ويسمى ذلك بالتفويض، ويقدر لها مهر المثل؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي: أو ما لم تفرضوا لهن فريضة، ولحديث ابن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل لها حتى مات، فقال رضي الله عنه: "لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث"، وقال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت"، رواه الترمذي وغيره وصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وقد يكون التفويض لمقدار المهر معناه أن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي، فيصح العقد في هذه الحالة، ويقدر لها مهر المثل، والذي يقدر مهر المثل هو الحاكم، فيقدره بمهر مثلها من نسائها؛ أي: قرابتها ممن يماثلها؛ كأمها وخالتها وعمتها، فيعتبر الحاكم بمن يساويها منهن القربى فالقربى في مال وجمال وعقل وأدب وسن وبكارة وثيوبة ... فإن لم يكن لها أقارب؛ ففيمن يشبهها من نساء بلدها. وإن فارقها قبل الدخول بطلاق؛ فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، والمر يقتضي الوجوب، وأداء الواجب إحسان. وإن كانت المفارقة بموت أحدهما قبل الدخول؛ تقرر لها مهر المثل، وورثة الآخر؛ لأن ترك تسميته الصداق لا يقدح في صحة النكاح، ولحديث ابن مسعود الذي سبق ذكره. وإذا حصل الدخول أو الخلوة؛ تقرر لها مهر المثل؛ لما روى أحمد وغيره من قضاء الخلفاء الراشدين: "أن من أغلق بابا أو أرخى سترًا؛ فقد وجب المهر". وإن حصلت الفرقة من قبلها قبل الدخول؛ فليس لها شيء؛ كما لو ارتدت أو فسخت النكاح بسبب وجود عيب في الزوج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 سابعاً: للمرأة قبل الدخول منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال؛ لأنها لو سلمت نفسها، ثم أرادت التراجع حتى تقبضه؛ لم يمكنها ذلك، فإن كان الصداق مؤجلاً؛ فليس لها منع نفسها؛ لأنها رضيت بتأخيره، وكذا لو سلمت نفسها، ثم أرادت الامتناع حتى تقبض صداقها؛ فليس لها ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 باب في وليمة العرس أصل الوليمة تمام الشيء واجتماعه، يقال: أَوْلَمَ الرجل: إذا اجتمع عقله وخلقه. ثم نقل هذا المعنى إلى تسمية طعام العرس به؛ لاجتماع الرجل والمرأة بسبب الزواج، ولا يقال لغير طعام العرس وليمة من حيث اللغة وعرف الفقهاء. وهناك أطعمة تصنع لمناسبات كثيرة، لكل منها اسم خاص. وحكم وليمة العرس: أنها سنة باتفاق أهل العلم، وقال بعضهم بوجوبها؛ لأمرهصلى الله عليه وسلم بها، ولوجوب إجابة الدعوة إليها؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عنه حين أخبره أنه تزوج: "أولِم ولو بشاة"، متفق عليه. وأولم النبي صلى الله عليه وسلم على زوجاته زينب وصفية وميمونة بنت الحارث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 ووقت إقامة وليمة العرس موسع، يبدأ من عقد النكاح، إلى انتهاء أيام العرس. ومقدار وليمة العرس؛ قال بعض الفقهاء: إنه لا ينقص عن شاة، والأولى الزيادة عليها؛ لمفهوم حديث عبد الرحمن بن عوف: "أولِم ولو بشاة"، هذا مع تيسر ذلك، وإلا؛ فبحسب المقدرة. وقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية بحيس، وهو الدقيق والسمن والأقط، يخلط بعضها ببعض، ووضعه على نطع صغير. فدل ذلك على إجزاء الوليمة بغير ذبح الشاة. ولا يجوز الإسراف في وليمة العرس؛ كما يفعل الآن من ذبح الأغنام الكثيرة والإبل، وتكثير الطعام على وجه البذخ والإسراف ثم لا تؤكل، بل يكون مآل تلك الأطعمة واللحوم إلقاؤها في الزبالات وإهدارها؛ فهذا مما تنهى عنه الشريعة، ولا تستسيغه العقول السليمة، ويخشى على فاعله ومن رضي به من العقوبة وزوال النعمة، إضافة إلى ما يصحب تلك الولائم الفخمة من أشر وبطر واجتماعات لا تسلم في الغالب من المنكرات، وقد تقام هذه الولائم في الفنادق، ويحصل فيها من تساهل النساء بالستر والاحتشام واختلاط الرجال بهن ما يخشى من عواقبه الوخيمة، وقد يتخلل تلك الاحتفالات أغان ومزامير، ويجلب لها المطربون الفسقة والمصورون الظلمة الذين يصورون النساء ويصورون العريسين، وتهدر في هذا الحفلات أموال كثيرة من غير فائدة، بل على سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 الفساد والإفساد؛ فليتق الله من يعملون هذه الأعمال، وليخشوا من عقوبته، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ، وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ... والآيات في هذا كثيرة معلومة. ويجب على من دعي لحضور وليمة العرس أن يجيب الدعوة إذا توفرت فيها هذه الشروط: الشرط الأول: أن تكون هي الوليمة الأولى، فإن تكرر إقامة الولائم لهذه المناسبة؛ لم يجب عليه حضور ما زاد على الأولى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة"، رواه أبو داود وغيره. وقال الشيخ تقي الدين: "يحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية الأيام، ولو العادة فعله، أو لتفريح أهله، ويعزر إن عاد". الشرط الثاني: أن يكون الداعي مسلما. الشرط الثالث: أن يكون الداعي من غير العصاة المجاهرين بالمعصية الذين يجب هجرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 الشرط الرابع: أن يعيّنه الداعي بالدعوة ويخصه؛ بأن لا تكون الدعوة عامة. الشرط الخامس: أن لا يكون في الوليمة منكر؛ كخمر وأغان ومزامير ومطربين؛ كما يحصل في بعض الولائم في هذا الوقت. فإذا توفرت هذه الشروط وجبت إجابة الدعوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها ومن لا يجب؛ فقد عصى الله ورسوله"، رواه مسلم. ويسن إعلان النكاح أي: إظهاره وإشاعته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا النكاح"، وفي لفظ: "أظهروا النكاح"، رواه ابن ماجه. ويسن الضرب عليه بالدف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح"، رواه النسائي وأحمد والترمذي وحسنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 باب في عشرة النساء يراد بالعِشرة لغة: الاجتماع والمخالطة، فيقال كل جماعة: عشرة ومعشر. والمراد بها هنا: ما يكون بين الزوجين من الألفة والانضمام لأنه يلزم كلاً من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف؛ فلا يماطله بحقه، ولا يتكره لبذله، ولا يتبعه أذى ومنه؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} ، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمراً أحدًا أن يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 ويسن لكل من الزوجين تحسين الخلق لصاحبه، والرفق به، وتحمل أذاه؛ لقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} ؛ قيل: هو كل واحد من الزوجين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عوان عندكم". وينبغي للزوج إمساك زوجته حتى مع كراهته لها؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} ؛ قال ابن عباس في معنى الآية الكريمة: "ربما رزق منها ولدًا، فجعل الله فيه خيرًا كثيرا"، وفي الحديث الصحيح: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا، رضي منها آخر". وإذا تم العقد؛ لزم تسلم الزوجة التي يوطأ مثلها إذا طلب الزوج تسليمها في بيته؛ إلا إذا شرطت عليه في العقد بقاءها في دارها أو بلدها. وللزوج أن يسافر بها سفرًا لا معصية فيه ولا خطر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون بنسائهم. لكن غالب الأسفار المتعارف عليها في هذا الزمان هي الأسفار إلى البلاد الخارجية الكافرة وبلاد الإباحية والفساد؛ فلا يجوز السفر إلى هذه البلاد لمجرد النزهة والتفرج؛ لما في ذلك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الخطر الشديد على الدين والأخلاق، ويجب على المرأة وعلى أوليائها الامتناع من سفرها مع زوجها لهذه البلاد. وما تعورف عليه في هذا الزمان لدى كثير من المترفين من الشباب وذوي الثروة من السفر صبيحة الزواج إلى البلاد الخارجية الكافرة لإمضاء شهر العسل كما يسمونه، وهو في الواقع شهر السم؛ لأنه شهر محرم، يؤدي إلى شرور كثيرة؛ من خلغ الحجاب، والتزيي بزي الكفار، ومشاهدة أفعال الكفار وتقاليدهم السخيفة، وزيارة أمكنة اللهو، حتى ترجع المرأة متأثرة بتلك الأخلاق الرذيلة، زاهدة بأخلاق مجتمعها المسلم؛ فإن هذا السفر حرام شديد التحريم، يجب الأخذ على يد مرتكبيه، ومنعهم منه، ويجب على أولياء المرأة منعها من ذلك السفر، وتخليصها من هذا الزوج المستهتر؛ لأنها أمانة في أعناقهم، ولو رضيت هي به؛ فإنها قاصرة النظر لنفسها، وما جعل الولي قيما عليها إلا لمنعها من مثل ذلك. ويحرم على الزوج وطء زوجته حال حيضها؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . وللزوج إجبار زوجته على إزالة وسخ، وأخذ ما تعافه النفس من شعر يجوز أخذه وظفر، ومنعها من أكل ما له رائحة كريهة؛ لأن ذلك ينفره عنها. ويجبرها على غسل نجاسة وأداء واجب كالصلوات الخمس، فلو امتنعت عن أدائها؛ ألزمها بذلك وأدبها، فإن صلت، وإلا؛ حرمت عليه الإقامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 معها، وكذا عليه إجبارها على ترك المحرمات واجتنابها؛ لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ، وأثنى الله على نبيه إسماعيل عليه السلام بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} . فالزوج مسؤول عن زوجته، وهو مسترعى عليها، ومسؤول عن رعيته، خصوصا وأنها تربي أولاده، وترأس أسرته، فإذا فسدت أخلاقها، واختل دينها؛ أفسدت عليه أولاده وأهل بيته. فعلى المسلمين أن يتقوا الله في نسائهم، ويتفقدوا تصرفاتهن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرًا". ويلزم الزوج أن يبت عند زوجته إذا كانت حرة ليلة من أربع ليال إن طلبت منه ذلك؛ لأن أكثر ما يمكن أن يجمعه معها من النساء ثلاث مثلها، ولأن كعب بن سوار قضى بذلك عند عمر بن الخطاب واشتهر ولم ينكر، وهذا رأي بعض الفقهاء، وهذا دليله وتعليله، لكن في هذا الاستدلال والتعليل عند الشيخ تقي الدين نظر؛ حيث يرى أن التزوج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة فقط يكون حال الانفراد كحال الاجتماع. والله أعلم. ويلزم الزوج الوطء إذا قدر عليه كل ثلث سنة مرة إذا طلبت الزوجة ذلك؛ لأن الله تعالى قدر ذلك في أربعة أشهر في حق المؤلي؛ فكذلك في حق غيره، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وجوبه بقدر كفاية الزوجة ما لم يضره أو يشغله عن طلب معيشة من غير تقدير بمدة. وإن سافر الزوج فوق نصف سنة، وطلبت الزوجة قدومه؛ لزمه ذلك؛ إلا في سفر حج واجب أو غزو واجب أو كان لا يقدر على القدوم، فإن أبى القدوم من غير عذر يمنعه، وطلبت الزوجة التفريق بينهما؛ فرق بينهما الحاكم بعد مراستله؛ لأنه ترك حقا عليه تتضرر الزوجة بتركه. وقال شيخ تقي الدين: "وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو غير قصد، ولو مع قدرته أو عجزه؛ كالنفقة وأولى". ويحرم على كل من الزوجين التحدث بما يجري بينهما من أمور الاستمتاع؛ فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شر الناس منزلة عند الله يوم القيام الرجل يقضي إلى المرأة وتفضي إليه، فينشر سرها وتنشر سره"، فدل ذلك على تحريم إفشاء الزوجين بينهما من أمور الاستمتاع من أقول أو فعل. وللزوج منع زوجته من الخروج من منزله لغير حاجة ضرورية؛ فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 يتركها تذهب حيث شاءت، ويحرم عليها الخروج بلا إذنه لغير ضرورة، ويستحب للزوج أن يأذن لها بالخروج لتمرض محرمها كأخيها وعمها لما في ذلك من صلة الرحم. وليس له أن يمنعها من زيارة أبويها في بيته؛ إلا إذا خاف منهما ضررًا بإفسادها عليه بسبب زيارتهما لها؛ فله منعهما حينئذ من زيارتها. وله منعها من تأجير نفسها والتحاقها بالوظائف؛ لأنه يقوم بكفايتها، ولأن ذلك يفوت عليه حقه عليها، ويعطل تربيتها لأولادها، ويعرضها للخطر الخلقي، خصوصا في هذا الزمان، الذي قل فيه الحياء والاحتشام، وكثر فيه دعاة السوء والإحرام، وصارت النساء تخالط الرجال في المكاتب ومجالات الأعمال، وربما تحصل الخلوة المحرمة؛ فالخطر شديد، والابتعاد عنه واجب أكيد. وله منعها من إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورة. ولا يلزم الزوجة طاعة أبويها إذا طلبا منها فراق زوجها، ولا طاعتهما في زيارتها لهما إذا كان زوجها لا يرضى بذلك، بل طاعة زوجها أحق. وقد روى الإمام أحمد وغيره أن عمة حصين أتت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أذات زوج أنت؟ ". قالت: نعم. قال: "انظري أين أنت منه؛ فإنما هو جنتك ونارك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 ويجب على الزوج إذا كان له أكثر من زوجة أن يساوي بينهن في القسم بتوزيع بينهن؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} ، وقال تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ، وتمييزه لبعضهن عن بعض ميل يدع الأخر كالمعلقة، وعماد القسم: الليل والمبيت؛ لأن يأوي فيه الإنسان إلى منزله، ويسكن إلى أهله، وينام على فراشه مع زوجته عادة، ومن معاشه في الليل كالحارس ونحوه؛ فإنه يقسم بين نسائه في النهار، ويكون النهار في حقه كالليل في حق غيره. ويقسم للحائض والنفساء من زوجاته والمريضة؛ لأن القصد السكن والأنس، وذلك يحصل بمبيه عندها، ولو لم يطأ، وليس له أن يقدم بعضهن على بعض في بداية القسم؛ إلا بالقرعة، أو برضاهن بذلك؛ لأن البداءة بها دون غيرها تفضيل لها، والتسوية بينهن واجبة، وليس له أن يسافر بإحداهن إلا بقرعة أو برضاهن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "كان إذا أراد السفر؛ أقرع بين نسائه، فمن خرج سهمها؛ خرج بها معه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 باب فيما نفقه الزوجة وقسمها المرأة إذا سافرت بلا إذن زوجها أو سافرت بإذنه لحاجتها الخاصة بها؛ فإنه يسقط حقها عليه من قسم ونفقة؛ لأنها إن كان سفرها بغير إذنه؛ فهي عاصية كالناشز، وإن سفرها بإذنه لحاجتها الخاصة؛ فقد تعذر على زوجها الاستمتاع بها لسبب من جهتها. ومن ذلك أنه لو أرادها أن تسافر معه، فأبت ذلك؛ فلا نفقة لها؛ لأنها عاصية بذلك. ومن ذلك أنها إن امتنعت من المبيت معه في فراشه؛ سقط حقها عليه من النفقه والقسم أيضا؛ لأنها بذلك تون عاصية كالناشز. ويحرم على الزوج أن يدخل على زوجة زوجاته في ليلة ليست لها؛ إلا لضرورة، وكذا في نهارها؛ إلا لحاجة. ومن وهبت قسمها لضرتها بإذن الزوج أو وهبته للزوج فجعله لزوجة أخرى؛ ذلك؛ لأن الحق في ذلك لهما، وقد رضيا بتلك الهبة، وقد وهبت سودة رضي الله عنها قسمها لعائشة رضي الله عنها، فكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها يومين، وإذا الواهبة وطالبت بقسمها؛ قسم لها الزوج في المستقبل. ويجوز للزوجة أن تسامح زوجها عن حقها في القسم والنفقة ليمسكها وتبقى في عصمته؛ لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ؛ قالت عائشة رضي الله عنها: "هي المرأة تكون عند الرجل، لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، تقول: أمسكني ولا تطلقني، وأنت في حل من النفقة علي والقسم"، وسودة حين أسنت وخشيت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالت: "يومي لعائشة رضي الله عنها ". ومن تزوج بكرًا ومعه غيرها؛ أقام عندها سبعا، ثم دار على نسائه بعد السبع، ولا يحتسب عليها تلك السبع، وإن تزوج ثيبا؛ أقام عندها ثلاثا، ثم دار على نسائه، ولا يحتسب عليها تلك الثلاث؛ لحديث أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب؛ أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب؛ أقام عندها ثلاثا ثم قسم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الشيخان. وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا؛ فعل، وقضى مثلهن للبواقي من ضراتها، ثم بعد ذلك يبتدئ القسم عليهن ليلة ليلة، وذلك لحديث أم سلمة رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها؛ أقام عندها ثلاثة أيام، وقال: "إنه ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت؛ سبعت لك، وإن سبعت لك؛ سبعت لنسائي"، رواه أحمد ومسلم وغيرهما. ومما يتعلق بهذا الموضوع مبحث النشوز، وهو معصية الزوجة لزوجها فيما يجب عليها له، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، فكأنها ارتفعت وتعالت عما عليها من المعاشرة بالمعروف. ويحرم على الزوجة فعل ذلك من غير مبرر، فإذا ظهر للزوج من زوجته شيء من علامات النشوز، كأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تتثاقل إذا طلبها؛ فإنه عند ذلك يعظها ويخوفها بالله ويذكرها بحقه عليها وما عليها من الإثم إذا خالفته، فإن أصرت على النشوز بعد الوعظ؛ فإنه يهجرها في المضجع بأن يترك مضاجعتها ولا يكلمها مدة ثلاثة أيام، فإن أصرت بعد الهجر؛ فإنه يضربها ضربا غير مبرح "أي: غير شديد"؛ لقوله تعالى: {وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وإذا ادعى كل من الزوجين ظلم الآخر له، وتعذر الإصلاح بينهما؛ فإن الحاكم يبعث حكمين عدلين من أهلهما؛ لأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة، وعليهما أن ينويا الإصلاح؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} ، والحكمان يفعلان الأصلح من جميع وتفريق بعوض أو عوض، وما انتهيا إليه؛ عمل به؛ حلا للإشكال. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 كتاب الطلاق باب في أحكام الخلع الخلع: فراق الزوج لزوجته بعوض بألفاظ مخصوصة، سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج كما تخلع اللباس؛ لأن كلا من الزوجين لباس للآخر؛ قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} . فمن المعلوم أن الزواج ترابط بين الزوجين وتعاشر بالمعروف، ينتج عنه بناء أسرة جيل؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، فإذا لم يتحقق هذا المعنى من الزواج؛ بحيث لم توجد المودة من الطرفين، أو لم توجد من الزوج وحده؛ ساءت العشرة، وتعسر العلاج؛ فإن الزوج مأمور بتسريح الزوجة بإحس ان؛ قال تعالى: {إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان} ، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} ، وأما إذا وجدت المحبة من جانب الزوج، ولم توجد من جانب الزوجة؛ بأن كرهت زوجها، أو كرهت خلقه، أو كرهت نقص دينه، أو خافت إثم ابترك حقه؛ فإنه في هذه الحالة يباح لها أن تطلب فراقه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 عوض يبذله له تفيدي به نفسها؛ لقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} ؛ أي: إذا علم الزوج أو الزوجة أنهما إذا بقيا على الزوجية لا يؤدي كل واحد منهما الواجب عليه نحو الآخر، فيحصل من جراء ذلك أن يعتدي الزوج على زوجته، أو تخاف المرأة أن تعضي زوجها؛ فلا حرج على الزوجة أن تفتدي نفسها من الزوج بعوض، ولا حرج على الزوج في أخذ ذلك العوض، ويخلي سبيلها. وحكمة ذلك: أن الزوجة تتلخص من زوجها على وجه لا رجعة فيه؛ ففيه حل عادل للاثنين، ويسن للزوج أن يجبيها حينئذ، وإن كان الزوج يحبها؛ استحب لها أن تصبر ولا تفتدي منه. والخلع مباح إذا توفر سببه الذي أشارت إليه الآية الكريمة، وهو خوف الزوجين إذا بقيا على النكاح أن لا يقيما حدود الله، وإذا لم يكن هناك حاجة للخلع؛ فإنه يكره، وعند بعض العلماء أنه في هذه الحال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة"، رواه الخمسة إلا النسائي. قال الشيخ تقي الدين: "الخلع الذي جاءت به السنة أن تكون المرأة مبغضة للرجل، فتفتدي نفسها منه كالأسير". وإن كان الزوج لا يحبها، ولكنه يمسكها لغرض أن وتفتدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 منه؛ فإنه يكون بذلك ظالم الها، ويحرم عليه أخذ العوض منها، ولا يصح الخلع؛ لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ} ؛ أي: لا تضاروهن في العشرة لتترك بعض ما أصدقت أو كله أو تترك حق امن حقوقها التي لها على زوجها؛ إلا إذا كان عضله لها في تلك الحال لكونها غير عفيفة من الزنى، ففعل ذلك ليسترجع منها الصداق الذي أعطاها؛ جاز له ذلك؛ لقوله تعالى: {إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ؛ قال ابن عباس في معنى الآية: "هذا في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها لتفتدي به، فنهى تعالى عن ذلك، ثم قال: {إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ؛ يعني: الزنى؛ فله أن يسترجع منها الصداق الذي أعطاها، ويضاجرها حتى تتركه له، ويخالعها". والدليل على جواز المخالعة عند حصول السبب المسوغ لها: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب؛ فالآية التي أسلفنا تلاوتها، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} . وأما السنة؛ ففي "الصحيح" أن امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه قالت: يا رسول الله! ما أعيب من دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام "أي: كفران العشير المنهي عنه والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له"، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 قالت: نعم، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" وأمره بفراقها. رواه البخاري. وأما الإجماع؛ فقد قال ابن عبد البر: "لا نعلم أحدًا خالف في ذلك إلا المزني؛ فإنه زعم أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} ". ويشترط لصحة الخلع: بذل عوض ممن يصح تبرعه، وأن يكون صادرًا من زوج يصح طلاقه، وأن لا يعضلها بغير حق حتى تبذله، وأن يكون بلفظ الخلع، أما كان بلفظ الطلاق، أو بلفظ كناية الطلاق مع نيته؛ فهو طلاق، ولا يملك رجعتها، لكن له أن يتزوجها بعقد جديد، ولو لم تنكح زوج اغيره، إذا لم يسبقه من الطلاق ما يصير به ثلاث ا، أما إن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء، ولم ينوه طلاق ا؛ كان فسخ ا، لا ينقص به عدد الطلاق، ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، واحتج بقوله تعالى: {الطلاق مرتان} ، ثم قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} ، ثم قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه} ؛ فذكر تطليقتين، ثم ذكر الخلع، ثم ذكر تطليقة بعده، فلو كان الخلع طلاق ا؛ لكان رابع، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 باب في أحكام الطلاق الطلاق في اللغة: التخلية، يقال: طلقت الناقة: إذا سرحت حيث شاءت. ومعناه شرع: حل قيد النكاح أو بعضه. وأما حكمه: فهو يختلف باختلاف الظروف والأحوال: تارة يكون مباح، وتارة يكون مكروه، وتارة يكون مستحب، وتارة يكون واجب ا، وتارة يكون حرام، فتأتي عليه الأحكام الخمسة. فيكون مباح إذا احتاج إليه الزوج؛ لسوء خلق المرأة، والتضرر بها، مع عدم حصول الغرض من الزواج مع البقاء عليه. ويكره الطلاق إذا كان لغير حاجة؛ بأن كانت حال الزوجين مستقيمة، وعند بعض الأئمة يحرم في هذه الحال؛ الحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، رواه أبو داود وابن ماجه، ورجاله ثقات. فسماه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حلالاً، مع كونه مبغوض اعند الله، فدل على كراهته في تلك الحال مع إباحته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 ووجه كراهته: أن فيه إزالة للنكاح المشتمل على المصالح المطلوبة شرع. ويستحب الطلاق في حال الحاجة إليه بحيث يكون في البقاء على الزوجية ضرر على الزوجة؛ كما في حال الشقاق بينها وبين الزوج، وفي حال كراهتها له؛ فإن في بقاء النكاح مع هذه الحال ضررًا على الزوجة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار". ويجب الطلاق على الزوج إذا كانت الزوجة غير مستقيمة في دينها؛ كما إذا كانت تترك الصلاة أو تؤخرها عن وقتها، ولم يستطع تقويمها، أو كانت غير نزيهة في عرضها؛ فيجب عليه طلاقها في تلك الحال على أصح القولين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا كانت تزني؛ لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال، وإلا؛ كان ديوث ". وكذا إذا كان الزوج غير مستقيم في دينه؛ وجب على الزوجة طلب الطلاق منه، أو مفارقته بخلع وفدية، ولا معه وهو مضيع لدينه. وكذا يجب على الزوج الطلاق إذا آلى من زوجته؛ بأن حلف على ترك وطئها، ومضت عليه أربعة أشهر، وأبى أن يطأها ويكفر عن يمينه، بل استمر على الامتناع عن وطئها؛ فإنه حينئذ يجب عليه طلاقها، ويجبر عليه؛ لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ويحرم الطلاق على الزوج في حال حيض الزوجة ونفاسها وفي طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها، وكذا إذا طلقها ثلاث ا، ويأتي هذا إن شاء الله. ودليل مشروعية الطلاق الكتاب والسنة والإجماع: قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"، رواه ابن ماجه والدارقطني، ولغيره من الأحاديث. وقد حكى الإجماع على مشروعية الطلاق غير واحد من أهل العلم. والحكمة فيه ظاهرة، وهو من محاسن هذا الدين الإسلامي العظيم؛ فإن فيه حلا للمشكلة الزوجية عند الحاجة إليه؛ ق ال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وقال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} . فإذا لم يكن هناك مصلحة في البقاء على الزوجية، أو حصل الضرر على الزوجة في البقاء مع الرجل، أو كان أحدهما فاسد الأخلاق غير مستقيم في دينه؛ ففي الطلاق فرج ومخرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وكم تعاني المجتمعات التي تمنع الطلاق من الويلات والمفاسد والانتحارات وفساد الأسر؛ العظيم أباح الطلاق ووضع له ضوابط تحقق بها المصلحة وتندفع بها المفسدة شأنه في كل تشريعاته العظيمة المشتملة على المصالح العاجلة والآجلة، فالحمد لله على فضله وإحسانه. وأما من يصح منه إيقاع الطلاق؛ فهو الزوج المميز المختار الذي يعقله، أو وكيله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق". وأما من زال عقله وهو معذور في ذلك؛ كالمجنون، والمغمى عليه، والنائم، ومن أصابه مرض أزال شعوره؛ كالبرسام، ومن أكره على شرب مسكر، أو أخذ بنجاً ونحوه لتداو؛ فكل هؤلاء لا يقع طلاقهم إذا تلفظوا به في حال زوال العقل بسبب من هذه الأسباب؛ لق ول على رضي الله عنه: "كل الطلاق جائز؛ إلا طلاق المعتوه"، ذكره البخاري في "صحيحه"، ولأن العقل هو مناط الأحكام. وأما إن زال عقله بتعاطيه مسكرًا، وكان ذلك باختياره، ثم طلق في هذه الحال؛ ففي وقوع طلاقه خلاف بين أهل العلم على قولين: أحدهما: أنه يقع، وهو قول الأئمة الأربعة وجمع من أهل العلم. وإن أكره على الطلاق ظلماً، فطلق لرفع الإكراه والظلم؛ لم يقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 طلاقه؛ لحديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجو، والإغلاق: الإكراه، ولقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ} ، والكفر أعظم من الطلاق، وقد عفي عن المكره عليه؛ فالطلاق من باب أولى، فإن الإكراه على الطلاق بحق المؤلي إذا أبي الفيئة؛ وقع طلاقه. ويقع الطلاق من الغضبان الذي يتصور ما يقول، أما الغضبان الذي أخذه الغضب، فلم يدر ما يقول؛ فإنه لا يقع طلاقه. ويقع الطلاق من الهازل؛ لأنه قصد التكلم به، وإن لم يقصد إيقاعه. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 باب في الطلاق السني والطلاق البدعي الطلاق السني هو: الطلاق الذي وقع على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله، وذلك بأن يطلقها واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها؛ فهذا طلاق سني من جهة العدد؛ بحيث إنه طلقها واحدة ثم تركها حتى انقضت عدتها، وسني من جهة الوقت؛ حيث إنه طلقها في طاهر لم يصب ها فيه؛ لقوله تع الى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} . قال ابن مسعود رضي الله عنه في معنى الآية الكريمة: "يعني طاهرات من غير جماع"، وقال على رضي الله عنه: "لو أن الناس أخذوا بما أمر الله به من الطلاق؛ ما أتبع رجل نفسه امرأة أبداً؛ يطلقها تطليقة، ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثاً، فإن شاء؛ راجعها"؛ يعني: ما دامت في العدة، وذلك أن الله أعطى المطلَّق فرصة يتمكن فيها من مراجعة زوجته إذا ندم على طلاقها، وهو لم يستغرق ما له من عدد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 الطلاق، وهي لا تزال في العدة، فإذا استفد ما له من عدد الطلاق؛ فقد أغلق عن نفسه باب الرجعة. والطلاق البدعي هو: الذي يوقعه صاحبه على الوجه المحرم، وذلك بأن يطلقها ثلاثاً بلفظ واحد، أو يطلقها وهي حائض أو نفساء، أو يطلقها في طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها، والنوع الأول يسمَّى بدعيٍّ في العدد، والنوع الثاني بدعياً في الوقت. والبدعي في العدد يحرمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ، يعني: الثالثة: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والبدعي في الوقت يستحب له أن يراجعها منه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلي الله عليه وسلم بمراجعتها رواه الجماعة، وإذا راجعها وجب عليه إمساكها حتى تطهر ثم إن شاء طلقها ويحرم على الزوج أن يطلق طلاقا ثلاثا، سواء في العدد أو الوقت؛ لقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، ولقوله تع الى: {أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} ؛ أي: طاهرات من غير جماع. ولما بلغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن رجلاً طلق امرأته ثلاث ا؛ قال: "أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! "، وكان عمر إذا أتى برجل طلق ثلاثا؛ أوجعه ضربا، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض؛ تغيَّظ، وأمره بمراجعتها. كل ذلك مما يدل على وجوب التقيد بأحكام الطلاق عددًا ووقتا، وتجنب الطلاق المحرم في العدد أو الوقت، ولكن كثيرًا من الرجال لا يفقهون ذلك، أو لا يهتمون به، فيقعون في الحرج والندامة، ويلتمسون بعد ذلك المخارج مما وقعوا فيه، ويحرجون المفتين، وكل ذلك من جراء التلاعب بكتاب الله. وبعض الرجال يجعل الطلاق سلاحا يهدد به زوجته إذا أراد إلزامها بشيء أو منعها من شيء، وبعضهم يجعله محل اليمين في تعامله ومحادثته مع الناس؛ فليتق الله هؤلاء، ويبعدوا عن ألسنتهم التفوه بالطلاق؛ إلا عند الحاجة إليه، وفي وقته وعدده المحددين. وألفاظ الطلاق تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ألفاظ صريحة، وهي الألفاظ الموضوعة له، التي لا تحتمل غيره، وهي لفظ الطلاق وما تصرف منه؛ من فعل ماض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 ك "طلقتك"، واسم فاعل ك "أنت طالق"، واسم المفعول؛ كأن يقول: "أنت مُطَلَّقة"؛ دون المضارع والأمر؛ مثل: "تطلقين" و "اطلقي"، واسم الفاعل م الرباعي؛ ك "أنت مُطَلَّقة"؛ فلا يقع بهذه الألفاظ الثلاثة طلاق؛ لأنها لا تدل على الإيقاع. القسم الثاني: ألفاظ كنائية، وهي الألفاظ التي تحتمل الطلاق وغيره، كأن يقول لها أنت خلية وبرية وبائن، وأنت حرة، أو: اخرجي والحقي بأهلك ... وما أشبه ذلك. والفرق بين الألفاظ الصريحة وألفاظ الكناية في الطلاق: أن الصريحة يقع بها الطلاق، ولو لم ينوه، سواء كان جادًّا أو هازلاً أو مازح ا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة"، رواه الخمسة إلا النسائي. وأما الكناية؛ فلا يقع بها طلاق؛ إلا إذا نواه نية مقارنة للفظه؛ أنه هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره من المعاني؛ فلا تتعين للطلاق إلا بنيته، فإذا لم ينو بها الطلاق؛ لم يقع؛ إلا في ثلاث حالات: الأولى: إذا تلفظ بالكناية في حال خصومة بينه وبين زوجته. الثانية: إذا تلفظ بها في حال غضب. الثالثة: إذا تلفظ بها في جواب سؤالها له الطلاق. ففي هذه الأحوال يقع بالكناية طلاق، ولو قال: لم أنوِ؛ لأن القرينة تدل على أنه نواه؛ فلا يصدَّق بقوله: لم أنوه. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 ويجوز للزوج أن يوكل من يطلق عنه، سواء كان الوكيل أجنبيا أو كانت الزوجة؛ فيجوز أن يوكلها فيه، ويجعل أمرها بيدها، فيقوم الوكيل مقامه في الصريح والكناية والعدد، مالم يحدد له حدّاً فيه. ولا يقع الطلاق منه ولا من وكيله إلا بالتلفظ به، فلو نواه بقلبه؛ لم يقع، حتى يتلفظ ويحرك لسانه به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم"؛ فلا يقع الطلاق إلا بالتلفظ به؛ إلا في حالتين: الحالة الأولى: إذا كتب صريح الطلاق كتابة تقرأ، ونواه؛ وقع، وإن لم ينوه؛ فعلى قولين، والذي عليه الأكثر أنه يقع. الحالة الثانية: التي يقع فيها الطلاق بدون تلفظ إشارة الأخرس بالطلاق إذا كانت مفهومة. وأما عدد الطلاق؛ فيعتبر بالرجال حرية ورقاً لا بالنساء؛ لأن الله خاطب به الرجال خاصة؛ كما ق ال تعالى: {أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} ، وق ال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"؛ فيملك الحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ثلاث تطليقات، وإن كان تحته أمة، ويملك العبد تطليقتين، وإن كان تحته حرة؛ ففي حال حرية الزوجين يملك الزوج ثلاث ابلا خلاف، وفي حال رق الزوجين يملك الزوج طلقتين بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما إذا كان أحد الزوجين حرّاً والآخر رقيقا، والصحيح أن الاعتبار بحالة الزوج حرية ورق اكما سبق؛ لأن الطلاق حق للزوج؛ فاعتبر به. ويجوز الاستثناء في الطلاق، ويراد به إخراج بعض الجملة بلفظ "إلا" أو ما يقوم مقامها. والاستثناء هنا إما أن يكون من عدد الطلقات؛ كأن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة. وإما أن يكون من عدد المطلقات؛ كأن يقول: نسائي طوالق إلا فاطمة مثلاً. وعلى كل يشترط لصحته في الحالتين أن يكون المستثنى مقدار نصف المستثنى منه فأقل، فإن كان المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه، كما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين؛ لم يصح. ويشترط أيضا التلفظ بالاستثناء إذا كان موضوعه الطلقات، فلو قال: أنت طالق ثلاث ا، ونوى: إلا واحدة؛ وقعت الثلاث؛ لأن العدد نص فيما يتناوله؛ فلا يرتفع بالنية؛ لأنه أقوى منها، ويجوز الاستثناء بالنية من النساء، فلو قال: نسائي طوالق، ونوى: إلا فلانة؛ صح الاستثناء؛ فلا تطلق من نوى استثناءها؛ لأن لفظة "نسائي" تصلح للكل وللبعض؛ فله ما نوى. ويجوز تعليق الطلاق بالشروط، ومعناه: ترتيبه على شيء حاصل أو غير حاصل ب"إن" أو إحدى أخواتها؛ كأن يقول: إن دخلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 الدار؛ فأنت طالق؛ فقد رتب وقوع الطلاق على حصوله الشرط، وهو دخول الدار، وهذا هو التعليق. ولا يصح التعليق إلا من زوج؛ فلو قال: إن تزوجت؛ فهي طالق، ثم تزوجها؛ لم يقع؛ لأنه حين التعليق ليس زوج الها، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوع ا: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك"، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن} ، فدلت الآية والحديث على أنه لا يقع الطلاق على الأجنبية، وهذا بالإجماع إذا كان منجزًا، وعلى قول الجمهور إذا كان معلق اعلى تزوجها ونحوه. فإذا علق الطلاق على شرط؛ لم تطلق قبل وجوده، وإذا حصل شك في الطلاق، ويراد به الشك في وجود لفظه أو الشك في عدده أو الشك في حصول شرطه: فأما إن شك في وجود الطلاق منه؛ فإن زوجته لا تطلق بمجرد ذلك؛ لأن النكاح متيقَّن؛ فلا يزول بالشك. وإن شك في حصول الشرط الذي علق عليه الطلاق؛ كأن يقول: إذا دخلت الدار؛ فأنت طالق. ثم يشك في أنها دخلتها؛ فإنها لا تطلق بمجرد الشك لما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 وإن تيقن وجود الطلاق منه، وشك في عدده؛ لم يلزمه إلا واحدة؛ لأنها متيقنة، وما زاد عليها مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، وهذا قاعدة عامة نافعة في كل الأحكام، وهي مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ومن قوله لمن كان على طهارة متيقَّنة وأشكل عليه حصول الناقض: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"، وغيرهما من الأحاديث. وهذا مما يدل على سماحة الشريعة وكمالها؛ فالحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 باب في الرجعة الرجعة: إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد ودليلها: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم. أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} ، وقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . وأما السنة؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم في قضية ابن عمر: "مره فليراجعها"، وطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها. وأما الإجماع؛ فقال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث والعبد إن طلق دون أثنتين، أن لهما الرجعة في العدة" والحكمة في ذلك: إعطاء الزوج الفرصة ليتروَّى ويستدرك إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 ندم على الطلاق وأراد استئناف العشرة مع زوجته، فيجد الباب مفتوح اأمامه، وهذا من رحمة الله بعباده". وأما شروط صحة الرجعة؛ فهي: أولاً: أن يكون الطلاق دون ما يملك من العدد؛ بأن طلق حر دون الثلاث، وعبد دون اثنتين، فإن استوفى ما يملك من الطلاق؛ لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. ثانيا: أن يكون المطلقة مدخولاً بها، فإن طلقها قبل الدخول؛ فليس له رجعة؛ لأنها لا عدة ع ليها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} . ثالثا: أن يكون الطلاق بلا عوض، فإن كان على عوض؛ لم تحل له إلا بعقد جديد برضاها؛ لأنها لم تبدل العوض إلا لتفتدي نفسها منه، ولا يحصل مقصودها مع ثبوت الرجعة. رابعا: أن يكون النكاح صحيح ا، أما إن طلق في نكاح فاسد؛ فليس له رجعة؛ لأنها تبين بالطلاق. خامسا: أن تكون الرجعة في العدة؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِك} ؛ أي: أولى برجعتهن في حالة العدة. سادسا: أن تكون الرجعة منجزة؛ فلا تصح معلقة؛ كما لو قال: إذا حصل كذا؛ فقد راجعتك. وهل يشترط يقصد الزوجان بالرجعة الإصلاح؟: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 قال بعض العلماء: يشترط ذلك؛ لأن الله يقول: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاح اوإمساك ابمعروف". وقال البعض الآخر: لا يشترط ذلك؛ لأن الآية إنما تدل على التحضيض على الإصلاح، والمنع من الإضرار، ولا على اشتراط ذلك، والقول الأول أظهر. والله أعلم. وتحصل الرجعة بلفظ: "راجعت امرأتي"، ونحو ذلك؛ مثل: رددتها، أمسكتها، أعدتها ... وما أشبه ذلك. وتحصل الرجعة أيض ابوطئها إذا نوي الرجعة على الصحيح. وإذا راجعها؛ فإنه يسن أن يشهد على ذلك، وقيل: يجب الإشهاد؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقال الشيخ تقي الدين: "لا تصح الرجعة مع الكتمان بحال". والمطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة، لها ما للزوجات من نفقة وكسوة ومسكن، وعليها ما على الزوجة من لزوم المسكن، وتتزين له لعله يراجعها، ويرث كل منهما صاحبه إذا مات في العدة، وله السفر والخلوة بها، وله وطؤها. وينتهي وقت الرجعة بانتهاء العدة، فإذا طهرت الرجعية من الحيضة الثالثة؛ لم تحل له؛ إلا بنكاح جديد بولي وشاهدي عدل؛ لمفهوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِك} ؛ أي: في العدة؛ فمفهوم الآية أنها إذا فرغت عدتها؛ لم تبح؛ إلا بعقد جديد بشرطه، وإذا راجعها في العدة رجعة صحيحة مستوفية لشروطها؛ لم يملك من الطلاق إلا ما بقي من عدده. وإذا استوفى ما يملك من الطلاق؛ حرمت عليه؛ حتى يطأها زوج غيره بنكاح صحيح؛ فيشترط لحلها للأول ثلاثة شروط: أن تنكح زوجا غيره، وأن يكون النكاح صحيحا، وأن يطأها الزوج الثاني في الفرج؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} . قال العلامة ابن القيم: "وإباحتها له بعد زوج من أعظم النعم، وكانت شريعة التوارة ما لم تتزوج، وشريعة الإنجيل المنع من الطلاق ألبتة، وشرعيتنا أكمل وأقوم بمصالح العباد، فأباح له أربعا، وأن يتسرَّى بما شاء، وملكه أن يفارقها، فإن تاقت نفسه إليها؛ وجد السبيل إلى ردها، فإذا طلقها الثالثة؛ لم يبق له عليها سبيل بردها إلا بعد نكاح ثان رغبة" انتهى. أي: لا بد أن يكون نكاح الثاني لها نكاح رغبة فيها، لا نكاح حلية يقصد به تحليها للأول، وإلا كان تيس امستعارًا؛ كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، ونكاحه باطل، لا تحل به للأول. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 باب في أحكام الإيلاء الإيلاء: هو الحلف، مصدر الى يؤلي إيلاء، والأليَّة اليمين، يقال: آلى من امرأته إيلاء: إذا حلف أن لا يجامعها. ومن ثم عرفه الفقهاء بأنه: حلف زوج يمكنه الوطء بالله أو صفة من صفاته على ترك وطء زوجته في قبلها أبدًا أو أكثر من أربعة أشهر. ومن هذا التعريف يمكننا أن نستخلص أن الإيلاء لا يتم إلا بتوفر شروط خمسة. الأول: أن يكون من زوج يمكنه الوطء. الثاني: أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته لا بطلاق أو عتق أو نذر. الثالث: أن يحلف على ترك الوطء في القبل. الرابع: أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر. الخامس: أن يكون الزوجة ممن يمكن وطؤها. فإذا توافرت هذه الشروط؛ صار مؤليا، يلزمه حكم الإيلاء، وإن اختل واحد منها؛ لم يكن مؤليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 ودليل الإيلاء قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ؛ أي: للأزواج الذين يحلفون على ترك وطء زوجاتهم مهلة أربعة أشهر، فإن وطئوا زوجاتهم وكفروا عن أيمانهم؛ فإن الله يغفر لهم ما حصل منهم، وإن مضت هذه المدة وهم مصرون على ترك وطء زوجاتهم؛ فإنهم يوقفون ويؤمرون بوطء زوجاتهم والتكفير عن أيمانهم، فإن أبوا؛ أمروا بالطلاق بعد مطالبة المرأة. وهذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إطالة مدة الإيلاء، وفي هذا التشريع الحكيم العادل إزالة للضرر عن المرأة وإزاحة للظلم عنها. والإيلاء محرم في الإسلام؛ لأنه يمين على ترك واجب. وينعقد الإيلاء من كل زوج يصح طلاقه، سواء كان مسلما أو كافرًا أو حرًا أو عبدًا، وسواء كان بالغا أو مميزًا ويطالب بعد البلوغ، ومن الغضبان والمريض الذي يرجى برؤه؛ لعموم الآية الكريمة، وحتى من الزوجة التي يدخل بها؛ لعموم الآية. ولا ينعقد الإيلاء من زوج مجنون ومغمى عليه؛ لعدم تصورهما لما يقولون؛ فالقصد معدوم منهما. ولا ينعقد الإيلاء من زوج عاجز عن الوطء عجزًا حسيا كالمجبوب والمشلول؛ لأن الامتناع عن الوطء في حقها ليس بسبب اليمين. فإذا قال لزوجته: والله لا أطؤك أبدًا، أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر، أو غياه بشيء لا يتوقع حصوله قبل أربعة أشهر؛ كنزول عيسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 أبن مريم عليه السلام وخروج الدجال؛ فهو مول في كل هذه الصور، وكذا لو غياه بفعلها محرما أو تركها واجبا؛ كقوله: والله لا أطؤك حتى تتركي الصلاة، أو تشربي الخمر؛ فهو مول؛ لأنه علقه بممنوع شرع اأشبة الممنوع حسا. وفي كل هذه الأحوال تضرب مدة الإيلاء؛ لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} . وفي "الصحيح" عن ابن عمر؛ قال: "إذا مضى أربعة أشهر ممن حلف على مدة تزيد عليها؛ فهو مول، يوقف حتى يطلق، ولا يقع به الطلاق حتى يطلق"، وذكره البخاري عن بضعة عشر صحابيا. وقال سليمان بن يسار: "أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يوقفون المولي"، وهو مذهب العلماء؛ كما أنه ظاهر الآية الكريمة. فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولا تحتسب منها أيام عذرها، فإذا مضت: فإن حصل منه وطء لزوجته؛ فقد فاء؛ لأن الفيئة هي الجماع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وقد أتى به، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه أن الفيء الجماع"، وأصل الفيء الرجوع إلى فعل ما تركه، وبذلك تحصل المرأة على حقها منه. وأما إن أبى أن يطأ من آلى منها بعد مضي المدة المذكورة فإن الحاكم يأمره بالطلاق إن طلبت المرأة ذلك منه؛ لق وله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ؛ أي: إن عزم وحقق إيقاع الطلاق؛ وقع، فإن أبى أن يفيء وأبى أن يطلق؛ فإن الحاكم يطلق عليه أو يفسح؛ لأنه يقوم مقام المؤلي عند امتناع، والطلاق تدخله النيابة. وقد ألحق الفقهاء بالمؤلي في هذه الأحكام من ترك وطء زوجته إضرارًا بها بلا يمين أكثر من أربعة أشهر وهو غير معذور، وكذا ألحقوا بالمؤلي من ظاهر من زوجته ولم يكفر واستمر على ذلك أكثر من أربعة أشهر؛ لأن كلا من هذين تارك لوطء زوجته إضرارًا بها، فأشبها المولي، والله تعالى أعلم. قالوا: وإن انقضت مدة الإيلاء، وبأحد الزوجين عذر يمنع الجماع؛ أمر الزوج أن يفيء بلسانه، فيقول: متى قدرت؛ جامعتك؛ لأن القصد بالفيئة ترك ما قصده من الإضرار بها، واعتذاره يدل على ترك الإضرار، ثم متى قدر؛ وطىء أو طلق؛ لزوال عجزه الذي أخر من أجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 باب في أحكام الظهار الظهار يراد به هنا: أن يقول الرجل لزوجته إذا أراد الامتناع من الاستمتاع بها: أنت علي كظهر أمي، أو أختي، أو من تحرم عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة؛ فمتى شبه زوجته بمن تحرم عليه أو ببعضها؛ ظاهر منها. وحكمه: أنه محرم؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} ؛ أي: يقولون كلاما فاحشا باطلاً، لا يعرف في الشرع، بل هو كذب بحث، وحرام محض، وقول منكر، وذلك لأن المظاهر يحرم على نفسه ما لم يحرمه الله عليه، ويجعل زوجته في ذلك أمه، وهي ليست كذلك. وكان الظهار طلاقا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام؛ أنكره، واعتبره يمينا مكفرة؛ فيحرم على المظاهر والمظاهر منها استمتاع كل منهما بالآخر قبل أن يكفر الزوج عن ظهاره بجماع ودواعيه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمظاهر: "لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به"، صححه الترمذي. فيلزم المظاهر إذا عزم على وطء المظاهر منها أن يخرج الكفارة قبله؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، فدلت الآيتان الكريمتان على وجوب كفار الظهار بوطء المظاهر منها، وأنه يلزم إخراجها قبل الوطء عند العزم عليه، وأن تحريم زوجته عليه باق حتى يكفر، وهذا قول أكثر أهل العلم. وكفارة الظهار تجب على الترتيب: عتق رقبة، فإن لم يجد الرقبة أو لم يجد ثمنها؛ صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصيام لمرض ونحوه؛ أطعم ستين مسكين ا؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} . ومعنى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ؛ بأن يقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي ونحوه. {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} ؛ أي: يريدون أن يجامعوا زوجاتهم اللاتي ظاهروا منهن. {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} ؛ أي: يجب عليهم أن يكفروا قبل الجماع بتحرير رقبة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 الرق إذا كان يملكها أو يقدر على شرائها بثمن فاضل عن كفايته وكفاية من يمونه. ويشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة؛ لقوله تعالى في كفارة القتل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، فيقاس عليها كفارة الظهار، وحملاً للمطلق على المقيد، ويشترط في الرقبة أيض اأن تكون سليمة من العيوب التي تضر بالعمل ضررًا بين ا؛ لأن المقصود بالعتق تمليك الرقيق منافعه، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررًا بين ا؛ كالعمى وشلل اليد أو الرجل ونحوه ذلك. ويشترط لصحة التكفير بالصوم: أولاً: أن لا يقدر على العتق. ثانيا: أن يصوم شهرين متتابعين؛ بأن لا يفصل بين أيام الصيام وبين الشهرين إلا بصوم واجب؛ كصوم رمضان، أو إفطار للعيد وأيام التشريق، أو الإفطار لعذر يبيحه؛ كالسفر والمرض؛ فالإفطار في هذه الأحوال لا يقطع التتابع. ثالثا: أن ينوي الصيام من الليل عن الكفارة. وإن كفر بالإطعام؛ اشترط لصحة ذلك: أولاً: أن لا يقدر على الصيام. ثانيا: أن يكون المسكين المطعم مسلما حرا يجوز دفع الزكاة إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ثالثاً: أن يكون مقدار ما يدفع لكل مسكين لا ينقص عن مد من البر ونصف صاع من غيره. ويشترط لصحة التكفير عموما: النية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرىء ما نوى". والدليل من السنة المطهرة مع دليل القرآن على كفارة الظهار وترتيبها على هذا النم ط ما روت خولة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها؛ قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول: "اتقي الله؛ فإنه ابن عمك"، فما برح حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ؛ فقال: "يعتق رقبة". فقالت: لا يجد. فقال: "فيصوم شهرين متتابعين". قالت: يا رسول الله! إنه شيخ كبير؛ ما به من صيام. قال: "فليطعم ستين مسكينا". قالت ما عنده من شيء يتصدق به. قال: "فإني سأعينه بعرق من تمر". قالت: يا رسول الله! فإني سأعينه بعرق آخر. قال: "قد أحسنت، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكين اوارجعي إلى ابن عمك". والعرق ستون صاعا، رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 أبو دواد. هذا ديننا العظيم، فيه حل لكل مشكلة، ومن ذلك المشاكل الزوجية؛ فها هو يحل مشكلة الظهار، وهي مشكلة كانت مستعصية في أيام الجاهلية، بحيث لم يجدوا لها حلا إلا الفرق بين الزوجين وتشتيت الأسرة؛ فما أعظمة من دين. ثم نجده في إيجاب الكفارة راعى ظروف الزوج، وشرع لكل حالة ما يناسبها مما يستطيع الزوج فعله؛ من عتق، إلى صيام، إلى إطعام؛ فلله الحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 باب في أحكام اللعان إن الله سبحانه حرم القذف "وهو رمي البريء بفعل الفاحشة"، وتوعد عليه بأشد الوعيد، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} . وأوجب جلد القاذف إذا لم يستطع إقامة البينة بأربعة شهود يشهدون بصحة ما قال ثمانين جلدة، وأن يعتبر فاسقا لا تقبل شهادته؛ إلا إن تاب وأصلح؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . هذا إذا قذف غير زوجته؛ فإنه تتخذ معه هذه الإجراءات الصارمة، أما إذا قذف زوجته بالزنى؛ فله حل آخر، وذلك بأن يعتاض عن هذه الإجراءات بما يسمى باللعان، وهو شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين، مقرونة بلعنة وغضب؛ كما يأتي بيانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 فإذا قذف رجل امرأته بالزنى، ولم يستطع إقامة البينة؛ فله إسقاط حد القذف عنه بالملاعنة؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} فيقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، ويشير إليها إن كانت حاضرة، ويسميها إن كانت غائبة بما تتميز به، ويزيد في الشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن من الكاذبين. ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به الزنى، ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. وخصت بالغصب لأن المغضوب عليه هو الذي يعرف الحق ويجحده. ويشترط لصحة اللعان أن يكون بين زوجين مكلفين، وأن يقذفها بزنى، وأن تكذبه في ذلك ويستمر تكذيبها له إلى انقضاء اللعان، وأن يتم بحكم حاكم. فإذا تم اللعان على الصفة التي ذكرنا مستوفي الشروط صحته؛ فإنه يترتب عليه: أولاً: سقوط حد القذف عن الزوج. ثانيا: ثبوت الفرقة بينهما وتحريمها عليه تحريما مؤبدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ثالثا: ينتفي عنه نسب ولدها إن نفاه في اللعان؛ بأن قال: ليس هذا الولد مني. ويحتاج الزوج إلى اللعان إذا رأى امرأته تزني ولم يمكنه إقامة البينة، أو قامت عنده قرائن قوية على ممارستها الزنى، كما لو رأي رجلاً يعرف بالفجور يدخل عليها. والحكمة في مشروعية اللعان للزوج؛ لأن العار يلحقه بزناها، ويفسد فراشه، ولئلا يلحقه ولد غيره، وهو لا يمكنه إقامة البينة عليها في الغالب، وهي لا تقر بجريمتها، وقوله غير مقبول عليها، فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان؛ فكان في تشريع اللعان حلا لمشكلته، وإزالة للحرج عنه. ولما لم يكن له شاهد إلا نفسه؛ مكنت المرأة أن تعارض أيمانه بأيمان مكررة مثله تدرأ بها الحد عنها، وإن نكل عن الأيمان؛ وجب عليه حد القذف، وإن نكلت هي بعد حلفه؛ صارت أيمانه مع نكولها بينة قوية لا معارض لها. قال العلامة ابن القيم: "وهو الذي يقوم عليه الدليل، ومذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم الحكم بحدها إذا نكلت، وهو الصحيح، ويدل عليه القرآن، وجزم به الشيخ وغيره" انتهى. والدليل من السنة على مشروعية اللعان عند الحاجة إليه: ما اتفق عليه الشيخان عن ابن عمر؛ أنه لما سئل عن المتلاعنين: أيفرق بينهما؟، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 قال: "سبحان الله! نعم، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان؛ قال: يا رسول الله! أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة؛ كيف يصنع؟، إن تكلم؛ تكلم بأمر عظيم، وإن سكت؛ سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، ولما كان بعد ذلك؛ أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ، فتلاهن عليه، ووعظه، وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق نبي ا؛ ما كذبت عليها. ثم دعاها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة؛ قالت: لا والذي بعثك بالحق نبيا؛ إنه لكاذب. فبدأ بالرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان الصادقين، ثم فرق بينهما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 باب في أحكام لحوق النسب وعدم لحوقه ... باب غي أحكام لحوق النسب وعدم لحوقه إذا ولدت زوجة إنسان أو أمته مولودًا يمكن كونه منه؛ فإنه يلحقه نسبه، ويكون ولدًا له، وذلك كأن تلده على فراشه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش". وإمكان كونه منه في حالات: الحالة الأولى: أن تكون في عصمة زوجها، وتلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه إياها واجتماعه بها، سواء كان حاضرًا أو غائبا، وذلك لتحقق إمكان كونه منه، ولم يوجد ما ينافي ذلك. الحالة الثانية: أن لا تكون في عصمة زوجها، وتلده لدون أربع سنين منذ إبانها، فيلحقه نسب المولود؛ لأن أكثر مدة الحمل أربع سنين، فإذا ولدته لدون هذا الحد؛ أمكن كونه ممن طلقها، فيلحق به. ويشترط لإلحاق الولد بالزوج أو المطلق في هاتين الحالتين: أن يكون كل منهما ممن يولد لمثله؛ بأن يكون قد بلغ عشر سنين فأكثر؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 لقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"؛ فأمره صلى الله عليه وسلم بالتفريق بين الأولاد في هذا السن دليل على إمكان الوطء، وهو سبب الولادة، فدل على أن ابن عشر سنين يمكن إلحاق النسب به، وإن لم يحكم ببلوغه في هذا السن؛ لأن الحكم بالبلوغ لا يتم إلا بتحقق علاماته، وإنما اكتفينا بإمكان الوطء منه لإلحاق النسب به؛ حفاظ النسب المولود واحتياطيا له. الحالة الثالثة: إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا، فتلد بعد مضي أربع سنين منذ طلقها، وقبل انقضاء عدتها؛ فإنه يلحقه نسب الولد، وكذا لو ولدت مطلقته الرجعية قبل مضي أربع سنين من انقضاء عدتها؛ فإنه يلحقه نسب مولودها؛ لأن الرجعية في حكم الزوجات؛ فأشبه ما بعد الطلاق ما قبله. ومن الأمور التي يلحق السيد بها مولود أمته: أن يعترف شخص بأنه قد وطىء أمته، أو تقوم البينة عليه بذلك، ثم تلد هذه الأمة لستة أشهر فأكثر من هذا الوطء الذي ثبت باعترافه أو بالبينة؛ فإنه يلحقه نسب هذا المولود؛ لأنها بذلك صارت فراشا له، فتدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش". ومن ذلك: أن يعترف السيد بوطء أمته، ثم يبيعها أو يعتقها بعد اعترافه بذلك، وتلد لدون ستة أشهر من البيع أو العتق لها، ويعيش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 المولود؛ فإنه يلحقه نسبة؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا ولدت دونها، وعاش مولودها؛ فإنه بذلك يعلم أنها حملت به قبل أن يبيعها، وهي حينذاك فراش له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش". وينتفي كون الولد من الزوج في حالتين: الحالة الأولى: إذا ولدته لدون ستة أشهر منذ زواجها وعاش؛ لأن هذه المدة لا يمكن أن تحمل وتلد فيها، فتكون حينئذ حاملاً به قبل أن يتزوجها. الحالة الثانية: إذا طلقها بائن ا، ثم تلد بعد مضي أكثر من أربع سنين من طلاقه لها؛ فإنه لا يلحقه نسب ذلك المولود؛ لأننا نعلم أنها حملت بعد ذلك النكاح. ولا يلحق السيد نسب ولد أمته إذا ادَّعى أنه قد استبرأها بعد وطئه لها؛ لأنه باستبرائه لها تيقن براءة رحمها منه، فيكون هذا المولود من غيره، والقول قوله في حصول الاستبراء؛ لأنه أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه إلا بعسر ومشقة، لكن لا يقبل قوله في ذلك؛ إلا خلف عليه؛ لأنه بذلك ينكر حق الولد في النسب؛ فلا بد من يمينه في ادعاء الاستبراء. وإذا حصل إشكال في مولود؛ فإنه يقدم الفراش على الشبه؛ كأن يدعي سيد ولد أمته، ويدعيه واطىء بشبهة؛ فهو للسيد؛ عملاً بقولهصلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش". ويتبع الولد في النسب أباه؛ لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِم} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 ويتبع في الدين خير أبويه دين ا، فلو تزوج نصراني وثنية، أو بالعكس؛ فيكون الولد تابع اللنصراني منهما. ويتبع الولود في الحرية والرق أمه؛ إلا مع شرط أو غرر. من هذا العرض السريع لأحكام لحوق النسب؛ تدرك حرص الإسلام على حفظ الأنساب؛ لما يترتب على ذلك من المصالح؛ لصلة الأرحام والتوارث والولاية وغير ذلك؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ؛ فليس المقصود من معرفة الأنساب هو التفاخر والحمية الجاهلية، وإنما المقصود به التعاون والتواصل والتراحم. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 باب في أحكام العدة من آثار الطلاق: العدة، ويراد بها التربص المحدود شرعا. ودليلها: الكتاب والسنة والإجماع: فأما الكتاب؛ فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، وقوله تعالى: {وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} ، هذا بالنسبة للمفارقة في الحياة. وأما بالنسبة للوفاة؛ فقد قال الله تعالى فيها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . والدليل من السنة حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: "أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض"، رواه ابن ماجه، ولغيره من الأحاديث. وأما الحكمة في مشروعية العدة؛ فهي: استبراء رحم المرأة من لحمل؛ لئلا يحصل اختلاط الأنساب، وكذلك إتاحة الفرصة للزوج المطلق ليراجع إذا ندم وكان الطلاق رجعيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 ومن الحكمة أيضا: تعظيم عقد النكاح، وأن له حرمة، وتعظيم حق الزوج المطلق. وفيها أيضا: صيانة حق الحمل فيما لو كانت المفارقة حاملاً. وبالجملة؛ فالعدة حريم للنكاح السابق. وأما من تلزمها العدة: فالعدة تلزم كل امرأة فارقت زوجها بطلاق وخلع أو فسخ أو مات عنها؛ بشرط أن يكون الزوج المفارق لها قد خلا بها وهي مطاوعة مع علمه بها وقدرته على وطئها، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، وسواء كانت بالغة أو صغيرة يوطأ مثلها. وأما من فارقها زوجها حيّا بطلاق أو غيره قبل الدخول بها؛ فلا عدة عليها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، أي: تحصونها بالأقراء أو الأشهر، ومعنى: {تَمَسُّوهُنّ} ؛ أي: تجامعوهن؛ فدلت الآية الكريمة على أنه لا عدة على من طُلِّقت قبل الدخول بها، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وذكر المؤمنات هنا من باب التغليب؛ لأنه لا فرق بين الزوجات المؤمنات والكتابيات في هذا الحكم باتفاق أهل العلم. وأما المفارقة بالوفاة؛ فتعتد مطلق ا، سواء كانت الوفاة قبل الدخول أو بعده؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، ولم يرد ما يخصصها. وأما أنواع المعتدات: فهن على سبيل الإجمال ست: الحامل. والمتوفى عنها زوجها من غير حمل منه. والحائل التي تحيض وقد فورقت في الحياة. والحائل التي لا تحيض لصغر أو إياس وهي مفارقة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 الحياة. ومن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه. وامرأة المفقود. وهاك بيان ذلك على التفصيل. فالحامل تعتد بوضع الحمل؛ سواء كانت مفارقة في الحياة أو بالموت؛ لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} ؛ فدلت الآية الكريمة على أن عدة الحامل تنتهي بوضع حملها، سواء كانت متوفى عنها أو مفارقة في الحياة، وذهب بعض السلف إلى أن الحامل المتوفى عنها تعتد بأبعد الأجلين، لكن حصل الاتفاق بعد ذلك على انقضاء عدتها بوضع الحمل. لكن ليس كل حمل تنقضي بوضعه العدة، وإنما المراد الحمل الذي قد تبين فيه خلق إنسان، فأما لو ألقت مضغة لم تتبين فيها الخلقة؛ فإنها لا تنقضي بها العدة. وكذلك يشترط لانقضاء العدة بوضع الحمل أن يلحق هذا الحمل بالزوج المفارق، فإن لم يلحق هذا الحمل بالزوج المفارق؛ لكون هذا الزوج لا يولد لمثله لصغره أو لمانع خلقي، أو تكون قد ولدته لدون ستة أشهر منذ عقد عليها وأمكن اجتماعه بها وعاش هذا المولود؛ فإنها لا تنقضي عدتها به منه؛ لعدم لحوقه به. وأقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} ، مع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ، فإذا أسقطنا مدة الرضاع وهي: حولان، أي: أربعة وعشرون شهرًا من ثلاثين شهراً؛ يبقى ستة أشهر، وهي أقل مدة الحمل، وما دونها لم يوجد من يعيش لدونها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وأما أكثر مدة الحمل؛ فموضع خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه يرجع فيه إلى الوجود؛ قال الموفق ابن قدامة: "ما لا نص فيه، يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد لخمس سنين وأكثر". وغالب مدة الحمل تسعة أشهر؛ لأن غالب النساء يلدن فيها؛ فاعتبر ذلك. هذا وللحمل حرمة في الشريعة الإسلامية؛ فلا يجوز الاعتداء عليه والإضرار به وإذا سقط ميت ابعدما نفخت فيه الروح بسبب الجناية عليه؛ وجبت فيه الدية والكفارة وإذا وجب على الحامل حد شرعي من جلد أو رجم؛ أخر تنفيذ الحد على أمه حتى تلد، ولا يجوز لأمه أن تسقطه بشرب دواء ونحوه. كل ذلك مما يدل على شمول هذه الشريعة، وأنها تراعي حتى الأجنة في البطون، وتجعل لهم حرمة؛ فالحمد لله رب العالمين على هذه الشريعة الكاملة العادلة، ونسأله أن يرزقنا التمسك بها والعمل بأحكامها؛ مخلصين له الدين ولا كره الكافرون. والمتوفى عنها إذا كانت غير حامل؛ تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء كانت وفاته قبل الدخول بها أو بعده، وساء كانت الزوجة ممن يوطأ مثلها أم لا؟، وذلك لعم وم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . قال العلامة ابن القيم: "عدة الوفاة واجبة بالموت، دخل أو لم يدخل بها؛ لعموم القرآن والسنة واتفاق الناس، وليس المقصود من عدة الوفاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 استبراء الرحم، ولا هي تعبد محض؛ لأنه ليس في الشريعة حكم واحد؛ إلا وله معنى وحكمه يعقله من عقله ويخفى على من خفى عليه" نهى. وقال الوزير وغيره: "اتفقوا على أن عدة المتوفى عنها زوجها ما لم تكن حاملاً أربعة أشهر وعشرا" انتهى. والأمة المتوفى عنها تعتد نصف هذه المدة المذكورة؛ فعدتها شهران وخمسة أيام بلياليها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على تنصيف عدة الأمة في الطلاق؛ فكذا عدة الموت. قال الموفق ابن قدامة: "في قول عامة أهل العلم؛ منهم: مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي"، وقال في "المبدع": "أجمع الصحابة على أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة"، وإلا فظاهر الآية العموم. هذا؛ ولعدة الوفاة أحكام تختص بها: فمن أحكامها: أنه يجب أن تعتد المتوفى عنها في المنزل الذي مات زوجها وهي فيه؛ فلا يجوز لها أن تتحول عنه؛ إلا لعذر لقوله صلى الله عليه وسلم: "امكثي في بيتك"، وفي لفظ: "اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 زوجك"، وفي لفظ: "حيث أتاك الخبر"، رواه أهل السنن. فإن اضطرت إلى التحول إلى بيت غيره: فإن خافت على نفسها من البقاء فيه أو حولت عنه قهرًا أو كان البيت مستأجرًا وحولها مالكه أو طلب أكثر من أجرته؛ فإنها في هذه الأحوال تنتقل حيث شاءت دفع اللضرر. ويجوز للمعتدة من وفاة زوجها: الخروج من البيت لحاجتها في النهار، لا في الليل؛ مظنة الفساد، ولقوله صلى الله عليه وسلم للمعتدات من الوفاة: "تحدثن عند إحداكن، حتى إذا أردتن النوم؛ فلتأت كل واحدة إلى بيتها". ومن أحكام عدة المتوفى عنها: وجوب الإحداد على المعتدة مدة العدة، والإحداد: اجتنابها ما يدعو إلى ويرغب في النظر إليها. قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها على أكمل الوجوه؛ فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة، وتمكث المرأة في أضيق بيت وأوحشه، لا تمس طيبا، ولا تدهن، ولا تغتسل ... إلى غير ذلك مما هو تسخط على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 الرب وأقداره، فأبطل الله بحكمه سنة الجاهلية، وأبدلنا به الصب والحمد. ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تقاضاه الطباع؛ سمع لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك [يعني: لغير الزوجة، وهو ثلاثة أيام] ؛ تجد بها نوع راحة، وتقضي بها وطرًا من الحزن، وما زاد؛ فمفسدته راجحة، فمنع منه. والمقصود أنه أباح لهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام، وأما الإحداد على الزوج؛ فإنه تابع للعدة بالشهور، الحامل؛ فإذا انقضى حملها؛ سقط وجوب الإحداد، وذكر أنه يستمر إلى حين الوضع؛ فإنه من توابع العدة، ولهذا قيد بمدتها، وهو حكم من أحكام العدة، وواجب من وجباتها، فكان معها وجودًا وعدما ... ". إلى أن قال: "وهو من مقتضياتها ومكملاتها، وهي إنما تحتاج إلى التزين لتتحبب إلى زوجها، فإذا مات وهي لم تصل إلى آخر؛ اقتضى تمام حق الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله: أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن، مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة" انتهى كلامه رحمه الله. فيجب على المعتدة من الوفاء في هذا الإحداد أن تجتنب عمل الزينة في بدنها بالتحسين بالأصباغ والخضاب ونحوه، وتتجنب لبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 الحلي بأنواعه، وتتجنب الطيب بسائر أنواعه، وهو كل ما يسمى طيبا، وتجتنب الزينة في الثياب؛ فلا تلبس الثياب التي فيها زينة، وتقتصر على الثياب التي لا زينة فيها؛ فتجتنب كل ذلك مدة العدة. وليس للإحداد لباس خاص، فتلبس المحدة ما جرت عادتها بلبسه، ما لم فيه زينة. وإذا خرجت من العدة؛ لم يلزمها أن تفعل شيئا؛ كما يظنه بعض العوام. وعدة الآيسة: ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} . والمطلقة إذا كانت تحيض، ولم يكن حمل: تعتد بثلاث حيض؛ لق وله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنّ} ؛ أي: والمطلقات ينتظرن بأنفسهن وتمكث إحداهن بعد طلاق زوجها {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ؛ أي: ثلاث حيض، ثم بعد ذلك تتزوج إن شاءت. وتفسير الإقراء بالحي ض مروي عن ع مر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، ولأنه ورد الأقراء في لسان الشرع؛ ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: "فإذا أتى قرؤك؛ فلا تصلي". ولا بد أن تكون الحيضة كاملة؛ فلا تعتد بحيضة طلقت فيها؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 فالطلاق في الحيض يقع مع التحريم، لكن لا تعتد بتلك الحيضة التي طلقت فيها. ودون كانت المطلقة أمة؛ اعتدت بحيضتين؛ لما روي: "قرء الأمة حيضتان"، ولأن هذا قول عمر وابنه وعلي بن أبي طالب، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، ويكون ذلك مخصص العموم ق وله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، وكان القياس أن تكون عدتها حيضة ونصف حيضة، لكن الحيض لا يتبعض، فصارت حيضتين. وأما المطلقة الآيسة من الحيض لكبرها والصغيرة التي لم تحض بعد؛ فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْن} ؛ أي: واللائي لم يحضن من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر. قال الإمام موفق الدين قدامة وغيره: "أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة الآيسة والصغيرة التي لم تحض ثلاثة أشهر". ومن بلغت ولم تحض؛ اعتدت عدة الآيسة، ثلاثة أشهر، لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْن} . وإن كانت المطلقة الآيسة أو الصغيرة أم ولد؛ فعدتها شهران؛ لقوله عمر رضي الله عنه: "عدة أم الولد حيضتان، فإن لم تحض؛ شهران"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وذلك لأن الأشهر بدل من القروء، وذهب بعض العلماء إلى أن عدتها شهر ونصف؛ لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة، وعدة الحرة التي لا تحيض ثلاثة أشهر، فتكون عدة الأمة الآيسة شهرًا ونصف شهر. وأما المطلقة التي كانت تحيض، ثم ارتفع حيضها، وانقطع انقطاعا طارئا لا لكبر؛ فهذه لها حالتان: الحالة الأولى: أن لا تعلم السبب الذي منع حيضها؛ فهذه عدتها سنة: تسعة أشهر للحمل، وثلاثة أشهر للعدة "أي: عدة الآيسة". قال الإمام الشافعي رحمه الله: "هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم علمناه"، ولأن الغرض من العدة هو العلم ببراءة رحمها من الحمل، فإذا مضت تسعة الأشهر؛ دلت على براءة رحمها منه، فتعتد حينئذ عدة الآيسة ثلاثة أشهر، فيكون المجموع اثني عشر شهرًا، وبها يحصل العلم ببراءة رحمها من الحمل والحيض". الحالة الثانية: أن تعلم السبب الذي ارتفع حيضها؛ كالمرض والرضاع وتناول الدواء الذي يرفع الحيض؛ فهذه تنتظر زوال ذلك المانع، فإن عاد الحيض بعد زواله؛ اعتدت به، وإن زال المانع ولم يعد الحيض؛ فالصحيح أنها تعتد سنة كالتي ارتفع حيضها ولم تدر سبب رفعه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رواية عن الإمام أحمد. وأما المستحاضة؛ فلها حالات: الحالة الأولى: أن تكون تعرف قدر أيام عادتها قبل الاستحاضة، وتعرف وقتها فهذه تنقضي عدتها بمضي المدة التي يحصل لها بها مقدار ثلاث حيض حسب أيام عادتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 الحالة الثانية: أن تنسى أيام عادتها، ولكن يكون دمها متميزًا؛ فهذه تعتبر الدم المتميز حيضا تعتد به إن صلح أن يكون حيضا. الحالة الثالثة: أن تنسي عادتها وليس لها تمييز يعتبر؛ فهذه تعتد عدة الآيسة ثلاثة أشهر. ومن الأحكام المتعلقة بالعدة: مسألة خطبة المعتدة؛ فالمعتدة من وفاة والمعتدة البائن بطلاق يحرم التصريح بخطبتهما؛ كقوله: أريد أن أتزوجك ونحوه؛ دون التعريض؛ كأن يقول لها: إني في مثلك لراغب؛ لق وله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} . ويباح للرجل أن يخطب من أبانها دون الثلاث ومن طلقها طلاق ارجعي اتصريح اوعريض ا؛ لأنه يباح له أن يتزوج من أبانها دون الثلاث، وأن يراجع مطلقته الرجيعة ما دامت في عدتها. وأما زوجة المفقود وهو من انقطع خبره، فلم تعلم حياته ولا م وته؛ فتنتظر زوجته قدومه أو تبين خبر في مدة يضربها القاضي تكون كافية للاحتياط في شأنه، وتبقى في عصمته في تلك المدة؛ لأن الأصل حياته، فإذا تمت مدة الانتظار المضروبة؛ حكم بوفاته، واعتدت زوجته عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد حكم الصحابة رضي الله عنهم بذلك. قال الإمام ابن القيم: "حكم الخلفاء في امرأة المفقود كما ثبت عن عمر، وقال أحمد: ما في نفسي شيء منه، خمسة من الصحابة أمروها أن تتربص". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 قال ابن القيم: "قول عمر هو أصح الأقوال وأحراها بالقياس. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو الصواب" انتهى. فإذا انتهت عدتها؛ حلت للأزواج، ولا تفتقر إلى طلاق ولي زوجها بعد اعتدادها للوفاة، فإن تزوجت، وقدم زوجها الأول؛ فالصحيح أنه يخبر بين استرجاعها وبين إمضاء تزوجها من الثاني، ويأخذ صداقه، سواء كان قدومه بعد دخول الزوج الثاني أو قبله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصواب في امرأة المفقود مذهب عمر وغيره من الصحابة، وهو أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرًا وباطن ا، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها؛ خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد"، ثم قال: "والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 باب في الاستبراء الاستبراء هو: تربص؛ يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك يمين، مأخوذ من البراءة، وهي التمييز والقطع. فمن ملك أمة يوطأ مثلها ببيع أو هبة أو سبي أو غير ذلك؛ حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يسقي ماءه زرع غيره"، رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وفي حديث آخر رواه أبو داود: "لا توطأ حامل حتى تضع". واستبراء الأمة الحامل ينتهي بوضع الحمل؛ لعموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وغير الحامل إن كانت تحيض؛ فاستبراؤها بحيضة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في سبي أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة"، رواه أحمد وأبو داود؛ فدل هذا الحديث على وجوب استبراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 الأمة المسبية وغيرها قبل وطئها، ودل على بيان ما تستبرأ به الحامل والحائض من المسبيات. وأما الأمة الآيسة من الحيض والأمة الصغيرة؛ فتستبرءآن بمضي شهر؛ لقيام الشهر مقام الحيضة في العدة. والحكمة في استبراء الأمة قبل وطئها يبينها قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يسقي ماءه زرع غيره"؛ فبين أن الغرض من الاستبراء تجنب اختلاط المياه واشتباه الأنساب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 أبواب باب في أحكام الرضاع قال تعالى في سياق بيان المحرمات من النساء: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} . وفي "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة"، رواه الجماعة. والرضاع لغة: مص اللبن من الثدي أو شربه، وشرعا: هو مص من دون الحولين لبن اثاب عن حمل أو شربه أو نحوه. والرضاع حكمه حكم النسب في النكاح والخلوة والمحرمية وجواز النظر على ما يأتي تفصيله. ولكن لا تثبت له هذه الأحكام إلا بشرطين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 الشرط الأول: أن يكون خمس رضعات فأكثر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "أنزل في القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخ من ذلك خمس رضعات، وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك"، رواه مسلم، وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم، وهو مبين لما أجمل في الآية والأحاديث في موضوع الرضاع. الشرط الثاني: أن تكون خمس الرضعات في الح ولين؛ لق وله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ؛ فدلت هذه الآية الكريمة على أن الرضاع المعتبر ما كان في الحولين، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام"، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ومعناه: أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما وصل إلى الأمعاء ووسعها؛ فلا يحرم القليل الذي لم إليها ويوسعها، ولا يحرم إلا ما كان قبل الفطام؛ أي: ما كان في زمن الصغر، وقام مقام الغذاء؛ فالذي يثبت الحرمة حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعه وينبت لحمه، فيكون ذلك جرءًا منه. وحدّ الرضعة: أن يمتص الثدي ثم يقطع امتصاصه لتنفس أو انتقال من ثدي لآخر أو لغير ذلك؛ فيحتسب له بذلك رضعة، فإن عاد؛ فرضعتان ... وهكذا، ولو في مجلس واحد، وذلك لأن الشارع اعتبر عدد الرضعات ولم يحدد الرضعة، فيرجع في تحديدها إلى العرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 ولو وصل اللبن إلى جوف الطفل بغير الرضاع؛ له حكم الرضاع؛ كما لو قطر في فمه أو أنفه، أو شربه من إناء ونحوه؛ أخذ ذلك حكم الرضاع؛ لأنه يحصل به ما يحصل من التغذية؛ بشرط أن يحصل من ذلك خمس مرات. وأما ما ينشره الرضاع من الحرمة: فمتى أرضعت امرأة طفلاً دون الحولين خمس رضعات فأكثر؛ صار المرتضع ولدها في تحريم نكاحها عليه وفي إباحة نظره إليها وخلوته بها، ويكون محرما لها؛ لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ، ولا يكون ولدًا لها في بقية الأحكام؛ فلا تجب نفقتها عليه، ولا توارث بينهما، ولا يعقل عنها، ولا يكون ولي الها؛ لأن النسب أقوى من الرضاع؛ فلا يساويه إلا فيما ورد فيه النص، وهو التحريم، وما يتفرغ عليه من المحرمية والخلوة. ويصير المرتضع ولدًا لمن ينسب لبنها إليه بسبب حملها منه، أو بسبب وطئه لها بنكاح أو شبهه؛ للحوق نسب الحمل به في تلك الأحوال والرضاع فرع عنه، فيكون المرتضع ولدًا له في الأحكام المذكورة في حق المرضعة فقط، وهي تحريم النكاح وجواز النظر والخلوة والمحرمية دون بقية الأحكام. وتكون محارم من نسب إليه اللبن كآبائه وأولاده وأمهاته وأجداده وجداته وإخوته وأخواته وأولادهم وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته يكونون محارم للمرتضع، وتكون محارم المرضعة كآبائها وأولادها وأمهاتها وأخواتها وأعمامها ونحوهم محارم للمرتضع. وكما تثبت الحرمة على المرتضع تنتشر كذلك على فروعة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 أولاده وأولاد أولاده دون أصوله وحواشيه؛ فلا تنتشر الحرمة على من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته، كما لا تنتشر إلى من هو في درجته من حواشيه وهم إخوانه وأخواته. ومن رضع من لبن امرأة موطوءة بعقد باطل أو بزنى؛ صار ولدًا للمرضعة فقط؛ لأنه لما لم تثبت الأبوة من النسب؛ لم يثبت من الرضاع وهو فرعها. ولبن البهيمة لا يحرم، فلو ارتضع طفلان من بهيمة؛ لم ينشر الحرمة بينهما. واختلف في لبن المرأة إذا در لها لبن بدون حمل وبدون وطء تقدم، ورضع منه طفل، فقيل: لا ينشر الحرمة؛ لأنه ليس بلبن حقيقة، بل رطوبة متولدة، لأن اللبن ما أنشز العظم وأنبت اللحم، وهذا ليس كذلك، والقول الثاني: أنه ينشر الحرمة الموفق وغيره. ويثبت الرضاع بشهادة امرأة مرضية في دينها. قال شيخ الإسلام: "إذا كانت معروفه بالصدق، وذكرت أنها أرضعت طفلاً خمس رضعات؛ قبل على الصحيح، ويثبت حكم الرضاع" انتهى. وإن شك في وجود الرضاع، أو شك في كماله خمس رضعات، وليس هناك بينة؛ فلا تحريم؛ الأصل عدم الرضاع، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 باب في أحكام الحضانة الحضانة: مشتقة من الحضن، وهو الجنب؛ لأن المربي يضم الطفل إلى حضنه، والحاضنة هي المربية. هذا معناها لغة. وأما معناها شرعا؛ فهي: حفظ صغير ونحوه عما يضره وتربيته بعمل مصالحه البدنية والمعنوية. والحكمة فيها ظاهرة، ذلك أن الصغير ومن في حكمة ممن لا يعرف مصالحه كالجنون والمعتوه يحتاج إلى من يتولاه ويحافظ عليه بجلب منافعه ودفع المضار عنه وتربية السليمة. وقد جاءت شريعتنا بتشريع الحضانه لهؤلاء؛ رحمه بهم، ورعاية لشؤونهم، وإحسان اإليهم؛ لأنهم لو تركوا؛ لضاعوا وتضرروا، وديننا دين الرحمة والتكافل والمواساة، ينهى عن إضاعتهم، ويوجب كفالتهم، وهي حق للمحضون على قرابته، وحق للحاضن بتولي شؤون قربيه كسائر الولايات. وهي تجب للحاضنين على الترتيب: فأحق الناس بالحضانة الأم: قال الإمام موفق الدين بن قدامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 رحمه الله: "إذا افترق الزوجان ولهما ولد طفل أو معتوه؛ فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها، ذكرًا كان أو أنثى، وهو قول مالك وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحدًا خالفهم" انتهى. فإذا تزوجت الأم؛ انتقلت الحضانة إلى غيرها، وسقط حقها فيها؛ لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينزعه مني؟ فقال: "لأنت أحق به ما لم تنكحي"، رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه؛ فدل الحديث على أن الأم أحق بحضانة ولدها إذا طلقها أبوه وأراد انزاعه منه، وأنها إذا تزوجت؛ سقط حقها من الحضانة. وتقديم الأم في حضانة ولدها لأنها أشفق عليه وأقرب إليه، ولا يشاركها في القرب إلا أبوه، وليس له مثل شفقتها، ولا يتولى الحضانة بنفسه، وإنما يدفعه إلى امرأته، وأمه أولى به من امرأة أبيه، وقال ابن عباس لرجل: "ريحها وفراشها وحجرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الأم أصلح من الأب؛ لأنها أوثق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأخبر وأرحم به؛ فهي أقدر وأخبر وأصبر في هذا الموضع؛ فتعينت في حق الطفل غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 المميز بالشرع" انتهى. ثم بعد سقوط حق الأم للحضانة تنتقل إلى أمهاتها جدات الطفل القربى فالقربى؛ لأنهن في معنى الأم؛ لتحقق ولادتهن وشفقتهن على المحضون أكمل من غيرهن. ثم بعد الجدات اللاتي من قبل الأم تنتقل الحضانة إلى أبي الطفل؛ لأنه أصل النسب، وأقرب من غيره، وأكمل شفقة؛ فقدم على غيره. ثم بعد سقوط حق الأب من الحضانة تنتقل إلى أمهات الأب أي: الجدات من قبل الأب القربى فالقربى؛ لأنهن يدلين بعصبة قريبة، وقدمن على الجد؛ لأن الأنوثة مع التساوي توجب الرجحان؛ كما قدمت الأم على الأب. ثم بعد سقوط حق الجدات من قبل الأب في الحضانة تنتقل إلى الجد من قبل الأب، الأقرب فالأقرب؛ لأنه في معنى أبي المحضون، فينزل منزلته. ثم بعد الجد تنتقل الحضانة إلى أمهات الجد القربى فالقربى؛ لأنهن يدلين بالجد، ولما فيهن من وصف الولادة؛ فالمحضون بعض منهن. ثم بعد أمهات الجد تنتقل الحضانة إلى أخوات المحضون؛ لأنهن يدلين بأبويه أو بأحدهما، فتقدم الأخت لأبوين لقوة قرابتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 ولتقدمها في الميراث، ثم الأخت لأم؛ لأنها تدلى بالأمومة، والأم مقدمة على الأب، ثم الأخت لأب، وقيل: الأولى تقديم الأخت لأب على الأخت لأم؛ لأن الولاية للأب، وهي أقوى في الميراث؛ لأنها أقيمت فيه مقام الأخت لأبوين عند عدمها، وهذا وجيه. ثم بعد الأخوات تنتقل الحضانة إلى الخالات؛ لأن الخالات يدلين بالأم، ولما في "الصحيحين"؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخالة بمنزلة الأم"، وتقدم خالة لأبوين، ثم خالة لأم، ثم خالة لأب؛ كالأخوات. ثم بعد الخالات تنتقل إلى العمات؛ لأنهن يدلين بالأب، وهو مؤخر عن الأم. وقال شيخ الإس لام ابن تيمية رحمه الله: "العمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب أحق، فيقدمن على نساء الأم؛ لأن الولاية الأب، وكذا أقاربه، وإنما قدمت الأم على الأب لأنه لا يقوم مقامها هنا أحد في مصلحة الطفل، وإنما قدم الشارع خالة بنت حمزة على عمتها صفية؛ لأن صفية لم تطلب، وجعفر طلب نائب اعن خالتها، فقضى لها بها في غيبتها". وقال رحمه الله: "مجموع أصول الشريعة تقديم أقارب الأب على أقارب الأم، فمن في الحضانة؛ فقد خالف الأصول والشريعة" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 ثم بعد العمات تنتقل الحضانة إلى بنات الإخوة. ثم بعدهن إلى بنات الأخوات. ثم بعد بنات الإخوة وبنات الأخوات تنتقل الحضانة إلى بنات الأعمام. ثم إلى بنات العمات. ثم بعدهن تنتقل الحضانة لباقي العصبة الأقرب فالأقرب؛ الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام، ثم بنوهم. فإن كانت المحضونة أنثى؛ اشترط كون الحاضن من محارمها، فإن لم يكن محرم الها؛ سلمها إلى ثقة يختارها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 باب في موانع الحضانة من موانع الحضانة: الرق؛ فلا حضانة لمن فيه رق، ولو قل لأن الحضانة ولاية، والرقيق ليس من أهل الولاية، ولأنه مشغول بخدمة سيده، ومنافعه مملوكة لسيده. ولا حضانة لفاسق؛ لأنه لا يوثق به فيها، وفي بقاء المحضون عنده ضرر عليه؛ لأنه يسيء تربيته، وينشئه على طريقته. ولا حضانة لكافر على مسلم؛ لأنه أولى بعدم الاستحقاق من الفاسق؛ لأن ضرره أكثر؛ فإنه يفتن المحضون في دينه ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتربيه عليه. ولا حضانة لمزوجة بأجنبي من محضون؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوالدة الطفل: "أنت أحق به ما لم تنكحي"، ولأن الزوج يملك منافعها، ويستحق منعها من الحضانة، والمراد بالأجنبي هنا من ليس من عصبات المحضون، فلو تزوجت بقريب محضونها؛ لم تسقط حضانتها. فإن زال أحد هذه الموانع؛ بأن عتق الرقيق، وتاب الفاسق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وأسلم الكافر، وطلقت المزوجة؛ رجع من زال عنه المانع من هؤلاء إلى حقه في الحضانة؛ لوجود سببها، مع انتفاء المانع منها. وإذا أراد أحد أبوي المحضون سفرًا طويلاً، ولم يقصد به المضارة، إلى بلد بعيد ليسكنه، وهو وطريقه آمنان؛ فالحضانة تكون للأب، سواء كان هو المسافر أو المقيم؛ لأنه هو الذي يقوم بتأديب ولده والمحافظة عليه، فإذا كان بعيدًا عنه؛ لم يتمكن من ذلك، وضاع الولد. وإن كان السفر إلى بلد قريب دون مسافة القصر لغرض السكنى فيه؛ فالحضانة للأم، سواء كانت هي المسافرة أو المقيمة؛ لأنها أتم شفقة على المحضون، ولأنه يمكن لأبيه الإشراف عليه في تلك الحالة. أما إذا كان السفر لحاجة، ثم يرجع، أو كان الطريق أو البلد المسافر إليه مخوفين؛ فإن الحضانة تكون للمقيم منهما؛ لأن في السفر بالمحضون إضرارًا في هاتين الحالتين. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "لو أراد الإضرار والاحتيال على إسقاط حضانة الأم، فسافر ليتبعه الولد؛ فهذه حيلة مناقضة الشارع؛ فإنه جعل الأم أحق بالولد من الأب مع قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت ... ". إلى أن قال: "وأخبر "يعني: النبي صلى الله عليه وسلم" أن من فرق بين والدة وولدها؛ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، ومنع أن تباع الأم دون ولدها والولد دونها، وإن كانا في بلد واحد؛ فكيف يجوز مع هذا التحيل على التفريق بينها وبين ولدها تفريق اتعز معه رؤيته ولقاؤه، ويعز عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 الصبر عنه وفقده، هذا من أمحل المحال، بل قضاء الله ورسوله أحق؛ أن الولد للأم، سافر الأب أو أقام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت أحق به ما لم تنكحي"؛ فكيف يقال ك أنت أحق به ما لم يسافر الأب؟ وأين هذا في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو فتاوى أصحابه أو القياس الصحيح؟ فلا نص ولا قياس ولا مصلحة" انتهى. وأما تخيير الغلام بين أبويه؛ فيحصل عند بلوغه السابعة من عمرهن فإذا بلغ سبع سنين وهو عاقل؛ فإنه يخبر بين أبويه، فيكون عند من اختار منهما، قضى بذلك عمر وعلي رضي الله عنهما. وروى الترمذي وغ يره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت ام رأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب ب ابني. فقال: "يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك؛ فخذ بيد أيهما شئت. فأخذ بيد أمه، فانطلقت به"؛ فدل الحديث على أن الغلام إذا استغنى بنفسه؛ يخبر بين أبويه؛ فإنه إذا بلغ حدًا يستطيع معه أن يعرب عن نفسه، فمال إلى أحد الأبوين؛ دل على أنه أرفق به وأشفق عليه، فقدم لذلك. ولا يخير إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون الأبوان من أهل الحضانة. والثاني: أن يكون الغلام عاقلاً، فإن كان معتوها؛ بقي عند الأم؛ لأنها أشفق عليه وأقوم بمصالحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وإذا اختار الغلام العاقل أباه؛ صار عنده ليلاً ونهارًا؛ ليحفظه ويعلمه ويؤدبه، لكن لا يمنعه من زيادة أمه؛ لأن منعه من ذلك تنشئة له على العقوق وقطيعة الرحم، وإن اختار أمه؛ صار عندها ليلاً وعند أبيه نهارًا؛ ليعلمه ويؤدبه، وإن لم يخبر واحدًا منهما؛ أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر إلا بالقرعة. والأنثى إذا بلغت سبع سنين؛ فإنها تكون عند أبيها إلى أن يتسلمها زوجها؛ لأنه أحفظ لها وأحق بولايتها من غيره، ولا تمنع الأم من زيارتها مع عدم المحذور، ف فن كان الأب عاجزًا عن حفظ البنت أو لا يبالي بها لشغله أو لقلة دينه، والأم تصلح لحفظها؛ فإنها تكون عند أمها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر، فلو قدر أنه عاجز عن حفظها وصيانتها، ويهملها لاشتغاله عنها، والأم قائمة بحفظها وصيانتها؛ فإنها تقدم في هذه الحال، فمع وجود فساد أمرها مع أحدهما؛ فالآخر أولى بها بلا ريب". وقال رحمه الله: "وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة، وهو يتركها عند ضرة أمها، لا تعمل مصلحتها، بل تؤذيها وتقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها؛ فالحضانة هنا للأم قطع ا" انتهى، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 باب في نفقة الزوجة النفقات جمع نفقة، وهي لغة: الدراهم ونحوها من الأموال، وشرعا: كفاية من يموٍّنه بالمعروف قوتا ومسكنا وتوابعها. وأول ما يجب على الإنسان: النفقة على زوجته، فيلزم الزوج نفقة زوجته قوت اوكسوة وسكنى بما يصلح لمثلها. قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" رواه مسلم وأبو داود. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويدخل في {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} : جميع الحقوق التي للمرأة وعليها، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم، ويجعلونه معدودًا، ويتكرر" انتهى. ويعتبر الحاكم تقدير نفقة الزوجة بحال الزوجين يسارًا وإعسارًا أو يسار أحدهما وإعسار الآخر عند التنازع بينهما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 فيفرض للموسرة تحت الموسر من النفقة قدر كفايتها مما تأكل الموسرة تحت الموسر في محلهما، ويفرض لها من الكسوة ما يلبس مثلها من الموسرات بذلك البلد، ومن الفرش والأثاث كذلك ما يليق في ذلك البلد. ويفرض للفقيرة تحت الفقير من القوت والكسوة والفرش والأثاث ما يليق بمثلها في البلد. ويفرض للمتوسطة مع المتوسط والغنية تحت الفقير والفقيرة تحت الغني ما بين الحد الأعلى وهو نفقة الموسرين والحد الأدنى وهو نفقة الفقيرين بحسب العرف والعادة؛ لأن ذلك هو اللائق بحالهما. وعلى الزوج مؤونة نظافة زوجته من دهن وسدر وصابون ومن ماء للشرب والطهارة والنظافة. وما ذكر هو ما إذا كانت الزوجة في عصمته، أما إذا طلقها وصارت في العدة: فإن كان طلاقها رجعي ا؛ فإنها تجب نفقتها عليه ما دامت في العدة؛ كالزوجة لأنها زوجة؛ بدليل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِك} . وأما المطلقة البائن بينونة كبرى أو بينونة صغرى؛ فلا نفقة لها ولا سكنى؛ لما في "الصحيحين" من حديث فاطمة بنت قيس: طلقها زوجها ألبتة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا نفقة لك ولا سكنى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، بل الموافقة لكتاب الله، وهي مقتضى القياس، ومذهب فقهاء الحديث" انتهى. إلا أن تكون المطلقة البائن حاملاً؛ فلها النفقة؛ لق وله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "لا نفقة لك؛ إلا أن تكوني حاملاً"، ولأن الحمل ولد للمطلق، فلزمه الإنفاق عليه، ولا يمكنه ذلك إلا بالإنفاق على أمه. قال الموفق وغيره: "وهذا بإجماع أهل العلم، لكن اختلف العلماء هل النفقة للحمل أو للحامل من أجل الحمل". ويتفرع على القولين أحكام كثيرة موضعها كتب الفقه والقواعد الفقهية. وتسقط نفقة الزوجة عن زوجها بأسباب متعددة: منها: إذا حبست عنه؛ سقطت نفقتها؛ لفوات تمكنه من الاستمتاع بها، والنفق إنما تجب في مقابل الاستمتاع. ومنها: إذا نشزت عنه؛ فإنها تسقط نفقتها، والنشوز هو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 معصيتها إياه فيما يجب عليها له، كما لو امتنعت من فراشه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن يليق بها، أو خرجت من منزله بغير إذنه؛ فلا نفقة لها في هذه الأحوال؛ لأنها تعتبر ناشزًا، لا يتمكن من الاستمتاع بها والنفقة في نظير تمكينها من الاستمتاع. ومنها: لو سافرت لحاجتها؛ فإنها تسقط نفقتها؛ لأنها بذلك منعت نفسها منه بسبب لا من جهته، فسقطت نفقتها. والمرأة المتوفى عنها لا نفقة لها من تركة الزوج؛ لأن المال انتقل من الزوج إلى الورثة، ولا سبب لوجوب النفقة عليها، فتكون نفقتها على نفسها، أو على من يمونها إذا كانت فقيرة. وإن كانت المتوفى عنها حاملاً؛ وجبت نفقتها في حصة الحمل من التركة إن كان للمتوفى تركة، وإلا وجبت نفقتها على وارث الحمل الموسر. وإذا اتفق الزوجان على دفع قيمة النفقة أو اتفقا على تعجيلها أو على تأخيرها مدة طويلة أو قليلة، جاز ذلك؛ لأن الحق لهما، وإن اختلفا؛ وجب دفع نفقة كل يوم من أوله جاهزة، وإن اتفقا على دفعها حبا؛ جاز ذلك؛ لاحتياجه إلى كلفة ومؤونة، فلا يلزمها قبوله إلا برضاها. وتجب لها الكسوة كل عام من أوله، فيعطيها كسوة السنة، ومن غاب عن زوجته ولم يترك لها نفقة، أو كان حاضرًا ولم ينفق عليها؛ لزمته نفقة ما مضى؛ لأنه حق يجب مع اليسار والإعسار، فلم يسقط بمضي الزمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 ويبدأ وقت وجوب نفقة الزوجة على زوجها من حين تسليم نفسها له، فإن أعسر بالنفقة؛ فلها فسخ نكاحها منه؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا: في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته؛ قال: "يفرق بينهما"، رواه الدارقط ني، ولقوله تع الى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، وليس الإمساك مع ترك النفقة إمساك ابمعروف. وإن غاب زوج موسر، ولم يدع لامرأته نفقة، وتعذر أخذها من ماله أو استدانتها عليه؛ فلها الفسخ بإذن الحاكم، فإن قدرت على ماله؛ أخذت قدر كفايتها، لما في "الصحيحين"؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال لهند: "خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف"، لما ذكرت له أن زوجها لا يعطيها ما يكفيها وولدها. ومن هذا وغيره ندرك كمال هذه الشريعة، وإعطاءها كل ذي حق حقه، شأنها في كل تشريعاتها الحكيمة؛ فقبح الله قوم ايعدلون عنها إلى غيرها من القوانين الكفرية، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 باب في نفقة الأقارب والمماليك المراد هنا: بأقارب الإنسان كل من بفرض أو تعصيب. والمراد بالمماليك: ما تحت ملك الإنسان من الأرقاء والبهائم. ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب إذا كان من عمودي النسب، وهم والدا المنفق وأجداده وإن علوا وأولاده وإن نزلوا: أن يكون المنفق عليه منهم فقيرًا ر يملك شيئ ا، أو لا يملك ما يكفيه، ولا يقدر على التكسب. وأن يكون المنفق غني ا، عنده ما يفضل عن قوته وقت زوجته ومملوكه. وأن يكون المنفق والمنفق عليه على دين واحد. وإن كان المنفق عليه من غير أولاد المنفق وآبائه؛ اشترط زيادة على ذلك كون المنفق وارث اللمنفق عليه. والدليل على وجوب نفقة الوالدين على ولدهما: قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، ومن الإحسان الإنفاق عليهما، بل ذلك من أعظم الإحسان إلى الوالدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 والدليل على وجوب نفقة الأولاد على أبيهم قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} ؛ أي: وعلى المولود له، وهو الأب. {رِزْقُهُنَّ} أي: طعام الوالدات، {وَكِسْوَتُهُنَّ} أي: لباسهن، {بِالْمَعْرُوف} ؛ أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن على قدر الميسرة من غير إسراف ولا إقتار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". والدليل على وجوب نفقة القريب الذي يرثه المنفق بفرض أو تعصيب قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك} ، ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال المورث من سائر الناس؛ فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دون غيره ممن لا يرث. وفي هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك} أي: على وارث الولد غير والده والذي يكون بحيث لو مات هذا الولد وله مال ورثه من الإنفاق على الطفل مثل ما على والده من ذلك. وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} . وغير ذلك من الأدلة الدالة على وجوب نفقة الأقارب المحتاجين على قريبهم الغني. وروى أبو داود؛ أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أبر؟، قال: "أمك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وأباك وأختك وأخاك"، وللنسائي وصححه الحاكم من حديث طارق المحاربي: "وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك"، وهذا الحديث يفسر قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} . والوالد تجب عليه نفقة ولده كاملة، ينفرد بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"؛ فدل هذا الحديث الشريف على انفراد الأب بنفقة ابنه، مع قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} ، وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ؛ فأوجب على الأب نفقة الرضاع دون أمه. وأما الفقير الذي له أقارب أغنياء، وليس منهم الأب؛ فإنهم يشرمون في الإنفاق عليه كل بقدر إرثه منه؛ لأن الله تعالى رتب النفقة على الإرث؛ بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِك} ، فوجب أن يتريب مقدار النفقة على مقدار الإرث، فمن له جدة أو أخ شقيق مثلاً؛ وجب على الجدة سدس نفقه، والباقي على الشقيق؛ لأنهما يرثانه كذلك، وعلى هذا فقس. وأما نفقة المماليك من الأرقاء والبهائم: فإنه يجب على السيد نفقة رقيقه من قوت وكسوة وسكنى بالمعروف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وللمملوك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 طعامه وكسوته بالمعروف، لا يكلف من العمل ما لا يطيق"، رواه الشافعي في "مسنده". وروى مسلم في "الصحيحين" من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده؛ فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم". مع قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ؛ ففي هذه النصوص دليل على وجوب نفقة الرقيق على مالكه. وإن طلب الرقيق نكاح ا؛ زوجّه سيده أو باعه؛ لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُم} ، والأمر يقتضي الوجوب عند الطلب. وإن طلبته أمة؛ خير سيدها بين وطئها أو تزويجها أو بيعها؛ إزالة للضرر عنها. ويحب على من يملك بهيمة علفها وسقيها وما يصلحها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عذبت امرأة في هرة حبستها، حتى ماتت جوع ا؛ فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض"، متفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 فدل هذا الحديث على وجوب النفقة على الحيوان المملوك؛ لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرة بدون إنفاق، وإذا كان هذا في الهرة؛ فغيرها من الحيونات التي تحت ملكه من باب أولى. ولا يجوز لمالك البهيمة أن يحملها ما تعجز عنه؛ لأن ذلك تعذيب لها. ولا يجوز له أن يحلب من ابنها ما يضر ولدها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". ويحرم عليه لعن البهيمة وضربها في وجهها ووسمها فيه، فإن عجز مالك البهيمة عن الإنفاق عليها؛ أجبر على بيعها أو تأجيرها أو ذبحها إن كانت مما تؤكل؛ لأن بقاءها في ملكه مع عدم الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 كتاب القصاصات والجنايات باب في أحكام القتل وأنواعه وقد عرف فقهاؤنا رحمهم الله الجنايات: بأنها جمع جناية، وهي لغة التعدي على بدن أو مال أو عرض. وقد عقدوا للنوع الأول منها وهو التعدي على البدن كتاب الجنايات. وعقدوا للنوع الثاني والثالث وهما التعدي على المال والعرض كتاب الحدود. والتعدي على البدن: هو ما يوجب قصاصا أو مالاً أو كفارة. وقد أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق، ودليل ذلك من الكتاب والسنة. وقال الله تعالى: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقّ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، رواه مسلم وغيره، والأحاديث بمعناه كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 فمن قتل مسلما عدوانا؛ فقد توعده الله تعالى بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . وحكمه: أنه فاسق؛ لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب. وأمره إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ فهو داخل تحت المشيئة؛ لأن ذبه دون الشرك. وهذا إذا لم يتب، أما إذا تاب، فتوبته مقبولة؛ فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . لكن لا يسقط عنه حق المقتول في الآخرة بمجرد التوبة، بل يأخذ المقتول من حسنات القاتل بقدر مظلمته، أو يعطيه الله من عنده، ولا يسقط حق المقتول بالقصاص؛ لأن القصاص حق لأولياء المقتول. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "التحقيق: أن القتل تتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله، وحق للمقتول، وحق للولي، فإذا سلم القاتل نفسه طوعا للولي ندما وخوفا من الله، وتاب توبة نصوحا؛ سقط حق الله بالتوبة، وحق الأولياء باستيفاء القصاص أو الصلح أو العفو، وبقى حق المقتول، يعوضه الله يوم القيامة عن عبده التائب، ويصلح بينه وبينه". والقتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام عند أكثر أهل العلم، وهي: القتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 فأما العمد والخطأ؛ فقد ورد ذكرهما في القرآن الكريم؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} الآية إلى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . وأما شبه العمد؛ فثبت في السنة المطهرة؛ كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه مغلط مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح"، رواه أحمد وأبو داود. وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها"، رواه الخمسة إلا الترمذي. فالقتل العمد: هو أن يقصد من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به. فنأخذ من هذا التعريف أن القتل لا يكون عمدًا إلا إذا توفرت فيه هذه الشروط: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 الشرط الأول: وجود القصد من القاتل، وهي إرادة القتل. الشرط الثاني: أن يعلم أن الشخص الذي قصد قتله آدمي معصوم الدم. الشرط الثالث: أن تكون الآلة التي قتله بها مما يصلح للقتل عادة، سواء كان محددًا أو غير محدد. فإن اختل شرط من هذه الشروط؛ لم يكن القتل عمدًا؛ لأن عدم القصد لا يوجب القود، وحصول القتل بما لا يغلب على الظن موته به يكون اتفاقا لسبب أوجب الموت غيره. وللعمد تسع صور معلومة بالاستقراء: إحداها: أن يجرحه لما له نفوذ في البدن؛ كسكين وشوكة ونحو ذلك من المحددات. قال الموفق: "لا اختلاف فيه بين العلماء فيما علمناه". الثانية: أن يقتله بمثقل كبير الحجر ونحوه، فإن كان الحجر صغيراً فليس بعمد؛ إلا إن كان في مقتل، أو في حال ضعف قوة المجني عليه من مرض أو صغر أو كبر أو حر أو برد ونحوه، أو ردد ضربه الحجر الصغير ونحوه حتى مات، ومثل قتله بالمثقل لو ألقى عليه حائطا أو دهسه بسيارة أو ألقاه من مرتفع فمات. الثالثة: أن يلقيه إلى حيوان مفترس كأسد، أو إلى حية؛ لأنه إذا تعمد إلقاءه إلى هذه القواتل؛ فقد تعمد قتله بما يقتل غالبا. الرابعة: أن يلقيه في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 الخامسة: أن يخنقه بحبل أو غيره أو يد فمه وأنفه فيموت من ذلك. السادسة: أن يحسبه ويمنع عنه الطعام والشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا، ويتعذر عليه الطلب؛ لأن هذا يقتل غالبا. السابعة: أن يقتله بسحر يقتل غالبا، والساحر يعلم أن ذلك غالبا يقتل. الثامنة: أن يسقيه سمّا لا يعلم به، أو يخلطه بطعامه، فيأكله جاهلاً بوجود السم فيه. التاسعة: أن يشهد عليه شهود بما يوجب قتله من زنى أو ردة أو قتل، فيقتل ثم يرجع الشهود عن شهادتهم، ويقولون: تعمدنا قتله، فيقتلون به؛ لأنهم توصلوا إلى قتله بما يقتل غالبا. وشبه العمد: قد عرفه الفقهاء رحمهم الله بقولهم: "هو أن يقصد جناية لا تقتل غالبا 1، فيموت بها المجني عليه، سواء كان ذلك بقصد العدوان عليه، أو لأجل تأديبه، فيسرف في ذلك، وسمي هذا النوع من الجنايات شبه العمد؛ لأن الجاني قصد الفعل وأخطأ في القتل". قال ابن رشد: "من قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا؛ كان حكمه مترددًا بين العمد والخطأ، فشبهه للعمد من جهة قصد ضربه، وشبهه للخطأ من جهة ضربه بما لا يقصد به القتل" انتهى.   1 ولم يجرحه بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 ومن أمثله شبه العمد: ما لو ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا صغير لكزه بيده أو لكمه في غير مقتل فمات؛ كان ذلك شبه عمد، تجب به الكفارة في مال الجاني، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد؛ صام شهرين متتابعين كما يجب الخطأ، ووجبت الدية مغلظة في مال عاقلة الجاني؛ لحديث أبي هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها"، متفق عليه. فدل الحديث على عدم وجوب القصاص في شبه العمد، وعلى أن ديته تكون على عاقلة الجاني؛ لأنه قتل لا يوجب قصاصا فكانت ديته على العاقلة كالخطأ. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنها على العاقلة". وقال الموفق وغيره: "لا نعلم خلافا أنها على العاقلة ... " انتهى. وأما قتل الخطأ؛ فقد عرفه الفقهاء بقولهم: وهو أن يفعل ما له فعله؛ مثل أن يرمي صيدًا أو هدفا، فيصيب آدميا معصوما لم يقصده، فيقتله، أو يقتل مسلما في صف كفار يظنه كافرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وعمد الصبي والمجنون يجري مجرى الخطأ؛ لأنهما ليس لهما قصد؛ فهما كالمكلف المخطئ. ويجري مجرى الخطأ أيضا القتل بالتسبب؛ كما لو حفر بئرًا أو حفرة في طريق أو قف سيارة، فتلف بسبب ذلك إنسان. ويجب بالقتل الخطأ: الكفارة في مال القاتل، وهي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد الرقبة، أو وجدها ولم يقدر على ثمنها؛ صام شهرين متتابعين، وتجب الدية على عاقلته، وهم ذكور عصابته. ومن قتل مسلما في صف كفار يظنه كافرًا؛ لا يجب فيه إلا الكفارة فقط؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} . فجعل قتل الخطأ على قسمين: قسم فيه الكفارة على القاتل والدية على عاقلته، وهو قتل المؤمن خطأ في غير صف الكفار، وفيما إذا كان القتيل من قوم بيننا وبينهم عهد. وقسم تجب فيه الدية فقط، وهو قتل المؤمن بين الكفار يظنه القاتل كافرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 قال الإمام الشوكاني رحمه الله في "فتح القدير": {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ أي: فإن كان المقتول من قوم عدو لكم، وهم الكفار الحربيون، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذي كان منهم، ثم أسلم ولم يهاجر، وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه؛ فلا دية على قاتله، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة. واختلفوا في وجه سقوط الدية؛ فقيل: وجهه أن أولياء القتيل كفار، لا حق لهم في الدية، وقيل: وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال .... " انتهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذا في المسلم الذي هو بين الكفار معذور كالأسير، والمسلم الذي لا تمكنه الهجرة والخروج من صفهم، فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره؛ فلا يضمن بحال؛ أنه عرض نفسه للتلف بلا عذر". والدليل على وجوب دية قتل الخطأ على عاقلة القاتل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لزوجها وبنتيها، وأن العقل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 عصبتها"، متفق عليه. فدل الحديث على أن دية الخطأ على العاقلة، وقد أجمعوا على ذلك. والحكمة في ذلك والله أعلم: أن إيجاب الدية في مال المخطئ فيه ضرر عظيم في غير ذنب تعمده، والخطأ يكثر وقوعه؛ ففي تحميله ضمان خطئه إجحاف بماله، ولا بد من إيجاب بدل للمقتول؛ لأنه نفس محترمة، وفي إهدار دمه ضرر بورثته، لا سيما عائلته؛ فالشارع الحكيم أوجب على من عليهم موالاة القاتل ونصرته أن يعينوه على ذلك، وذلك كإيجاب النفقات، وفكاك الأسر، ولأن العاقلة يرثون المعقول عنه لو مات في الجملة؛ فهم يتحملون عنه جنايته الخطأ من قبيل: "الغنم بالغرم". وحمل القاتل الكفارة لأمور: أولاً: احترام النفس الذاهبة. ثانيا: لكون القتل لا يخلو من تفريطه. ثالثا: لئلا يخلو القاتل من تحمل شيء حيث لم يحمل من الدية. فكان في جعل الدية على العاقلة والكفارة على القاتل عدة حكم ومصالح؛ فسبحان الحكيم العليم، الذي شرع للناس ما يصلحهم وينفعهم في دينهم ودنياهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 ولا يدخل في العاقلة: الرقيق والفقير والصغير والمجنون والأنثى والمخالف لدين الجاني؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل النصرة والمواساة. وتؤجل دية الخطأ على العاقلة ثلاث سنين، ويجتهد الحاكم في تحميل كل منهم ما يستطيع، ويبدأ بالأقرب فالأقرب. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا تؤجل الدية على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك ... " انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 باب في أحكام القصاص أجمع العلماء على مشروعية القصاص في القتل العمد إذا توفرت شروطه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} ، وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وهذا في شريعة التوراة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "أي: لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة؛ لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر؛ كف عن القتل؛ وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية، وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع؛ فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا؛ إبقاء على أنفسهم، واستدامة لحياتهم، وجعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل، وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة؛ فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة، ولا يفكر في أمر مستقبل؛ كما قال بعض فتاكهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... عليَّ قضاء الله ما كان جالبا ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أن: تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص، فيكون ذلك سببا للتقوى ... " انتهى. وجاءت السنة النبوية بأن ولي القصاص يخير بين استيفائه، وبين العفو إلى أخذ الدية، أو العفو مجانا، وهو أفضل؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين: إما أن يودى، وإما أن يقاد"، رواه الجماعة إلا الترمذي. وقال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . فدلت الآية الكريمة والحديث على أن الولي يخير بين القصاص والدية، فإن شاء؛ اقتص وإن شاء؛ أخذ الدية، وعفوه مجانا أفضل؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ولحديث أبي هريرة: "ما عفا رجل عن مظلمة؛ إلا زاده الله بها عزًا"، رواه أحمد ومسلم والترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 فالعفو عن القصاص أفضل ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة؛ فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العفو لا يصلح في قتل الغيلة؛ لتعذر الاحتراز منه؛ كالقتل مكابرة، وذكر القاضي وجها أن قاتل الأئمة يقتل حدّاً لأن فساده عام. وذكر العلامة ابن القيم على قصة العرنيين: "أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدّاً؛ فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهو مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ، وأفتى به رحمه الله ... " انتهى. ولا يستحق ولي القتيل القصاص؛ إلا بتوفر شروط أربعة: أحدهما: عصمة المقتول؛ بأن لا يكون مهدر الدم؛ لأن القصاص شرع لحقن الدماء، ومهدر الدم غير محقون، فلو قتل مسلم كافرًا حربيا أو مرتدًا قبل توبته أو قتل زانيا؛ لم يضمنه بقصاص، ولا دية لكنه يعزر لافتياته على الحاكم. الثاني: أن يكون القاتل بالغا عاقلاً؛ لأن القصاص عقوبة مغلطة، لا يجوز إيقاعها على الصغير والمجنون؛ لعدم وجود القصد منهما، أو لأنه ليس لهما مقصود صحيح، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق". قال الإمام موفق الدين ابن قدامة: "لا خلاف بين أهل العلم في أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 لا قصاص على صبي ولا مجنون، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه؛ كالنائم والمغمى عليه". الشرط الثالث: المكافأة بين المقتول وقاتله حال جنايته؛ بأن يساويه في الدين والحرية والرق؛ فلا يكون القاتل أفضل من المقتول بإسلام أو حرية: فلا يقتل مسلم بكافر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقتل مسلم بكافر"، رواه البخاري وأبو داود. ولا يقتل حر بعبد؛ لما رواه أحمد عن علي رضي الله عنه: "من السنة ألا يقتل حر بعبد". ولأن المجني عليه إذا لم يكن مساويا للقاتل فيما ذكر؛ كان أخذه به أخذ الأكثر من الحق. ولا يؤثر التفاضل بين الجاني والمجني عليه في غير ما ذكرن فيقتل الجميل بالدميم، والشريف بضده، والكبير بالصغير، ويقتل الذكر بالأنثى، والصحيح بالمجنون والمعتوه؛ لعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرّ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 الشرط الرابع: عدم الولادة؛ بأن لا يكون المقتول ولدًا للقاتل ولا لابنه وإن سفل، ولا لبنته وإن سفلت؛ فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل؛ لقولهصلى الله عليه وسلم: "لا يقتل والد بولده". قال ابن عبد البر: "هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم .... " انتهى. وبهذا الحديث ونحوه تخص العمومات الواردة بوجوب القصاص، وهو قول جمهور أهل العلم. ويقتل الولد بكل من الأبوين؛ لعموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وإنما خص منه الوالد إذا قتل ولده بالدليل. فإذا توافرت هذه الشروط الأربعة؛ استحق أولياء القتيل القصاص. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ؛ فتبّا لقوم يقولون: إن القصاص وحشية وقسوة، وهؤلاء لم ينظروا إلى وحشية الجاني حين إقدامه على قتل البريء، ووإقدامه على بث الرعب في البلد، وإقدامه على ترميل النساء وتيتيم الأطفال وهدم البيوت، هؤلاء يرحمون المعتدي ولا يرحمون البريء؛ فتبا لعقولهم، وتبّا لقصورهم، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 والقصاص هو فعل مجني عليه أو فعل وليه بجان مثل فعله أو شبهه، وحكمته التشفي وبرد حرارة الغيظ؛ فقد شرع الله القصاص زجرًا عن العدوان، واستدراكا لما في النفوس، وإذاقة للجاني ما أذاقه المجني عليه، وفيه بقاء وحياة النوع الإنساني. وكانت الجاهلية تبالغ في الانتقام، وتأخذ في الجريمة غير المجرم، وهذا جور لا يحصل به المقصود، بل هو زيادة فتنة وإطاشة للدماء، وقد جاء دين الإسلام وشريعته الكاملة بتشريع القصاص وإيقاع العقاب بالجاني وحده؛ فحصل بذلك العدل والرحمة وحقن الدماء. وقد سبق بيان شرط وجوب القصاص، لكن تلك الشروط لو توفرت ووجب القصاص؛ فإنه لا يجوز تنفيذه؛ إلا بعد توفر شروط أخرى ذكرها الفقهاء رحمهم الله، وسموها: شروط استيفاء القصاص، وهي ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكون مستحق القصاص مكلفا؛ أي: بالغا عاقلاً، فإن كان مستحق القصاص أو بعض مستحقيه صبيا أو مجنونا؛ لم يستوفه لهما وليهما؛ لأن القصاص لما فيه من التشفي والانتقام ولا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره؛ فيجب الانتظار في تنفيذ القصاص، ويحبس الجاني إلى حين بلوغ الصغير وإفاقة المجنون من مستحقيه؛ لأن معاوية حبس هدبة بن خشرم في قصاص، حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة، لم ينكر، فكان إجماعا من الصحابة الذين في عصر معاوية. رضى الله عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 فإن احتاج الصغير أو المجنون من أولياء القصاص إلى نفقة؛ فلولي المجنون فقط العفو إلى الدية؛ لأن المجنون لا يدري متى يزول بخلاف الصبي. الشرط الثاني: اتفاق الأولياء والمشتركين في القصاص على استيفائه، وليس لبعضهم أن ينفرد به دون البعض الآخر؛ لأن الاستيفاء حق مشترك، لا يمكن تبعيضه، فإذا استوفى بعضهم؛ كان مستوفيا لحق غيره بغير إذنه، ولا ولاية عليه. وإن كان من بقي من الشركاء في استحقاق القصاص غائبا أو صغيرًا أو مجنونا؛ انتظر قدوم الغائب وبلوغ الصغير وعقل المجنون منهم. ومن مات من مستحقي القصاص؛ قام وارثه مقامه. وإن عفا بعض المشتركين في استحقاق القصاص؛ سقط القصاص. ويشترك في استحقاق القصاص جميع الورثة بالنسب والسبب: الرجال والنساء، الكبار والصغار، وقال بعض العلماء: إن العفو يختص بالعصبة فقط، وهو قول الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. الشرط الثالث: أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى إلى غير الجاني؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} . فإذا أفضى القصاص إلى التعدي؛ فهو إسراف، وقد دلت الآية الكريمة على المنع منه، فإذا وجب على حامل أو من حملت بعد وجوب القصاص عليها؛ لم تقتل حتى تضع ولدها؛ لأن قتلها يتعدى إلى الجنين، وهو بريء، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 ثم بعد وضعه: إن وجد من يرضعه؛ أعطي لمن يرضعه، وقتلت؛ لزوال المانع من القصاص؛ لقيام غيرها مقامها في إرضاع الولد، وإن لم يوجد من يرضعه؛ تركت حتى تفطمة لحولين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلت المرأة عمدًا؛ لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً، وحتى تكفل ولدها، وإذا زنت؛ لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً، وحتى تكفل ولدها"، رواه ابن ماجه، ولقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة المقرة بالزنى: "ارجعي حتى تضعي ما في بطنك"، ثم قال لها: "ارجعي حتى ترضعيه". فدل الحديثان والآية على تأخير القصاص من أجل الحمل، وهو إجماع، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة وعدالتها، حيث راعت حق الأجنة في البطون، فلم تجز فلم تجز إلحاق الضرر بهم، وراعت حق الأطفال والضعفة، فدفعت عنهم الضرر، وكفلت لهم ما يبقي عليهم حياتهم؛ فلله الحمد على هذه الشريعة السمحاء الكاملة الشاملة لمصالح العباد. وإذا أريد تنفيذ القصاص؛ فلا بد أن يتم تنفيذ بإشراف الإمام أو نائبه؛ ليمنع الجور في تنفيذه، ويلزم بالوجه الشرعي في ذلك. ويشترط في الآلة التي ينفذ بها القصاص أن تكون ماضية؛ كسيف وسكين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة". ويمنع استيفاء القصاص بآلة كالة؛ لأن ذلك إسراف في القتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 ثم إن كان الولي يحسن الاستيفاء على الوجه الشرعي، وإلا؛ أمره الحاكم أن يوكل من يقتص له. والصحيح من قولي العلماء أنه يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برض رأس يهودي لرضه رأس جارية من الأنصار. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والكتاب والميزان على أنه يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه، كما فعل صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق على ذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة ... " انتهى. فعلى هذا؛ لو قطع يديه، ثم قتله؛ فعل به ذلك، وإن قتله بحجر أو غ قه أو غير ذلك؛ فعل به مثل ما فعل، وإن أراد ولي القصاص أن يقتصر على ضرب عنقه بالسيف؛ فله ذلك، وهو أفضل، وإن قتله بمحرم؛ تعين قتله بالسيف، ومثل قتل السيف في الوقت الحاضر قتله بإطلاق الرصاص عليه ممن يحسن الرمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 باب في القصاص في الأطراف القصاص في الأطراف والجروح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . وفي "الصحيحين" في قصة كسر ثنية الربيع قال صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص". فمن أقيد بأحد في النفس؛ أقيد به في الطرف والجروح إذا توفرت شروط القصاص السابقة، وهي: العصمة، والتكليف، والمكافأة، وعدم الولادة، وذلك بأن يكون المجني عليه معصوما، والجاني مكلفا، ويكون المجني عليه مكافئا للجاني في الحرية والرق، ويكون الجاني غير والد للمجني عليه، ومن لا يقاد بأحد بالنفس؛ لا يقاد به في الطرف والجروح، وهذه هي القاعدة في هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وموجب القصاص في الأطراف والجروح هو موجب القصاص في النفس، وهو العمد المحض؛ فلا قود في الخطأ ولا في شبه العمد، ويجري القصاص في الأطراف، فتؤخذ العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، واليد باليد، والرجل بالرجل، واليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، من كل ما ذكر، ويكسر سن الجاني بسن المجني عليه المماثلة لها، ويؤخذ الجفن بالجفن، الأعلى بالأعلى، والأسفل بالأسفل، وتؤخذ الشفة بالشفة؛ العليا بالعليا، والسفلى بالسفلى؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص} ، ولأن كلا من الجفن والشفة له حد ينتهي إليه، وتؤخذ الكف بالكف المماثلة؛ اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، ويؤخذ المرفق بمثله؛ الأيمن بالأيمن، والأيسر بالأيسر؛ للماثلة فيهما، ويؤخذ الذكر بالذكر؛ لأن له حذًا ينتهي إليه، ويمكن القصاص فيه من غير حيف؛ لعموم قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص} . ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط: الشرط الأول: الأمن من الحيف، وذلك بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه، فإن لم يكن كذلك؛ لم يجز القصاص؛ فلا قصاص في جراحة لا تنتهي إلى حد؛ كالجائفة، وهي التي تصل إلى باطن الجوف؛ لأنها ليس لها حد تنتهي القطع إليه، ولا قصاص في كسر عظم غير سن؛ ككسر الساق والفخذ والذراع؛ لعدم إمكان المماثلة، أما كسر السن؛ فيحري فيه القصاص؛ بأن يبرد سن الجاني ختى يؤخذ منه قدر ما كسر من سن المجني عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 الشرط الثاني: التماثل بين عضوي الجاني والمجني عليه في الاسم والموضع؛ فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين الأيدي والأرجل والأعين والآذان ونحوها؛ لأن كل واحد منها يختص باسم، وله منفعة خاصة؛ فلا تماثل، ولا تؤخذ خنصر ببنصر من الأصابع؛ للاختلاف في الاسم، ولا يؤخذ عضو أصلي بعضو زائد. الشرط الثالث: استواء العضوين من الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال؛ فلا يؤخذ يد أو رجل صحيحة بيد أو رجل شلاء، ولا تؤخذ يد أو رجل كاملة الأصابع أو الأظفار بناقصتها، ولا تؤخذ عين صحيحة بعين قائمة، وهي التي بياضها وسوادها صافيان غير أنها لا تبصر؛ لعدم التساوي، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس؛ لنقصه، ويؤخذ العضو الناقص بالعضو الكامل، فتؤخذ الشلاء بالصحيحة، وناقصة بكاملة الأصابع؛ لأن المعيب من ذلك كالصحيح في الخلقة، وإنما نقص في الصفة، ولأن المقتص يأخذ بعض حقه؛ فلا حيف، وإن شاء أخذ الدية بدل القصاص. وأما القصاص في الجروح: فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم؛ لإمكان الاستيفاء فيه بلا حيف ولا زيادة، وذلك كالشجة الموضحة في الرأس والوجه، وكجرح العضد والساق والفخذ والقدم تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاص} . وأما ما لا ينتهي إلى عظم؛ فلا يجوز القصاص فيه من الجراحات، سواء كانت شجة أو غيرها؛ كالجائفة، وهي التي تصل إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 باطن جوف؛ كبطن وصدر ونحر؛ لعدم الأمن من الحيف والزيادة. روى ابن ماجه مرفوعا: "لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة"، والمأمومة: هي الشجة التي تصل إلى جلدة الدماغ، والجائفة: هي التي تصل إلى باطن جوف، والمنقلة: هي التي تهشم الرأس وتنقل العظام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القصاص في الجراح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة، فإذا شجه؛ فله شجه كذلك، فإذا لم يمكن؛ مثل أن يكسر عظما باطنا، أو شجه دون الموضحة؛ فلا يشرع القصاص، بل تجب الديه". وأما القصاص في الضربة بيده أو بعصا أو سوط ونحوه ذلك: قال شيخ: "فقالت طائفة: لا قصاص فيه، بل فيه التعزير، والمأثور عند الخلفاء وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك، وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء، وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب. قال عمر: إني ما أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم، فوالذي نفسي بيده؛ من فعل؛ لأقصنه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه، رواه أحمد. ومعناه أن يضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز، فأما الضرب المشروع؛ فلا قصاص فيه بالإجماع" انتهى كلام الشيخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وقال ابن القيم رحمه الله: "قال الشافعية والحنفية والمالكية ومتأخرو الأصحاب: لا قصاص في اللطمة والضربة، وحكى بعضهم الإجماع، وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة، وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} . فالواجب للملطوم أن يفعل بالجاني عليه كما فعل به، فلطمة، وضربة بضربة، في محلها، بالآلة التي لطمه بها، أو مثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزير بغير جنس اعتدائه وصفته، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ومحض القياس، ونصوص أحمد" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 باب في القصاص من الجماعة للواحد إذا اشترك جماعة في قتل شخص عمدًا عدوانا؛ اقتص له منهم جميعا، وقتلوا به على الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله؛ لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . ولإجماع الصحابة على ذلك؛ فقد روى سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً واحدًا، وقال رضي الله عنه: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء؛ لقتلتهم به جميعا". وثبت عن آخرين من الصحابة أيضا قتل الجماعة بالواحد، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم؛ فكان إجماعا. قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "اتفق الصحابة وعامة الفقهاء على قتل الجميع بالواحد، وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وقال ابن رشد: "فإن مفهومه [أي: القصاص] : أن القتل إنما شرع لينفي القتل كما نبه عليه القرآن، فلو لم تقتل الجماعة بالواحد؛ لتذرع الناس إلى القتل؛ بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، ولأن التشفي والزجر لا يحصل إلا بقتل الكل" انتهى. ويشترط لقتل الجماعة بالواحد: أن يصلح فعل كل واحد منهم للقتل لو انفرد، ذلك بأن يباشر الجميع القتل، ويكون فعل كل واحد منهم قاتلاً لو انفرد. فإن لم يصح فعل كل واحد منهم للقتل لو انفرد، وكانوا قد تمالؤوا وتواطؤوا على قتل المجني عليه؛ وجب القصاص منهم جميعا، لأن غير المباشر صار ردئا للمباشر. ومن أكره شخصا على قتل آخر، فقتله؛ وجب القاص على المكرَه والمكرِه إذا توافرت شروطه؛ لأن القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره، والمكرِه تسبب إلى القتل بما يفضي إليه غالبا. ومن أمر صغيرًا أو مجنونا بقتل شخص، فقتله؛ وجب القصاص على الآمر وحده؛ لأن المأمور آلة للآمر، ولا يمكن إيجاب القصاص عليه، فوجب أن يكون على المتسبب به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وكذا إذا كان المأمور مكلفا "أي: بالغا عاقلاً"، لكنه يجهل تحريم القتل؛ كمن نشأ بغير بلاد الإسلام، فيجب القصاص على الآمر؛ لتعذره في حق المأمور؛ لجهله، فيكون على المتسبب به. وأما إن كان المأمور بالغا عاقلاً لا يجهل التحريم؛ فإنه يجب القصاص عليه؛ لمباشرته القتل بغير حق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، سواء كان الآمر سلطانا أو سيدًا أو غير ذلك، ويكون على الآمر في هذه الحالة التعزير بما يراه الإمام؛ لأنه ارتكب معصية، وليرتدع عن ذلك. وإذا اشترك اثنان في قتل شخص عمدًا عدوانا، وكان أحدهما لا تتوفر فيه شروط وجوب القصاص، والآخر تتوفر فيه؛ وجب القصاص على من تتوفر فيه الشروط منهما؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان، وامتنع القصاص في حق شريكه لمعنى فيه، لا لقصور في سبب القصاص؛ فيجب على من لا مانع به منه، ومن أمسك إنسانا لآخر حتى قتله؛ قتل قاتل وحبس ممسك حتى يموت. وكما يقتص للواحد من الجماعة في النفس؛ فإنه يقتص له منهم في الطرف والجراح، فإذا قطع جماعة طرفا أو جرحوا جرحا يوجب القود، ولم تتميز أفعال بعضهم عن بعض، كما لو وضعوا حديدة على يد شخص، وتحاملوا عليها حتى انقطعت اليد، وجب قطع أيديهم جميعا؛ لما روي عن علي رضي الله عنه؛ أنه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة، فقطع يده، ثم جاءا بآخر، وقالا: هذا السارق، وأخطأنا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الأول. فرد شهادتهما على الثاني وغرمهما دية الأول، وقال: "لو علمت أنكما تعمَّدتما؛ لقطعتكما" رواه البخاري وغيره، فدل على أن القصاص على كل منهما لو تعمدا، وقياسا على قتل الجماعة بالواحد. وسراية الجناية على النفس وما دونها لها حكم الجناية؛ لأنها أثرها، وأثر المضمون مضمون، فلو قطع إصبعا، فتآكلت الإصبع الأخرى أو اليد وسقطت من مفصله؛ وجب القود في اليد، وإن، سرت الجناية إلى النفس، فمات المجني عليه؛ وجب القصاص. ولا يجوز أن يقتص في عضو أو جرح قبل برئه؛ لحديث جابر: "أن رجلاً جرح رجلاً، فأراد أن يستقيد، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح"، رواه الدارقطني وغيره، وذلك لمصلحة المجني عليه؛ إذ قد تسري الجناية إلى طرف آخر أو إلى النفس؛ فلا بد أن يعرف مدى نهاية الجناية، فلو اقتص قبل البرء، ثم سرت الجناية بعد ذلك؛ فلا شيء له؛ لأنه استعجل فبطل حقه، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أقدني. فقال: "حتى تبرأ". ثم جاء إليه فقال: أقدني. فأقاده. ثم جاء إليه فقال يارسول الله! قد عرجت. قال: "قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك"، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 من جرح حتى يبرأ منه صاحبه، رواه أحمد والدارقطني. وبهذا تعلم أيها المسلم محاسن الشريعة، واشتمالها على العدالة التامة والرحمة العامة، وصدق الله العظيم: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . فتبا لقوم يستبدلون بها غيرها من أحكام الطاغوت والقوانين الوضعية الناقصة الظالمة، {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} ، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 باب في أحكام الديات الديات: جمع دية، وهي المال المؤدى إلى مجني عليه أو وليه بسبب جناية، يقال: وديت القتيل: إذا أعطيت ديته، فالدية مصدر ودي، والهاء فيها بدل من الواو التي حذفت؛ مثل: عدة وصلة من الوعد والوصل. والدليل على وجوب الدية: الكتاب والسنة، والإجماع. قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الآية. وفي الحديث الصحيح: "من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين: إما أن يفدي، وإما أن يقتل"، رواه الجماعة. فتجب الدية على كل من أتلف إنسانا بمباشرة؛ كما لو ضربه أو دهسه بسيارة، أو قتله بتسبب؛ كمن حفر بئرًا في طريق أو وضع فيه حجرًا فتلف بسبب ذلك إنسان، سواء كان التالف مسلما أو ذميا أو مستأمنا أو مخادنا؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 فإن كانت الجناية التي تلف بسببها المجني عليه عمدًا محضا؛ فإن الدية تجب كلها في مال الجاني حالة؛ لأن الأصل يقتضي أن بدل المتلف يجب على متلفه. قال الموفق ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل، لا تحملها العاقلة، وهذا يقتضيه الأصل، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} انتهى. وإنما خولف هذا الأصل في دية الخطأ لكثرة الخطأ؛ فإن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة؛ فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل تخفيفا عنه؛ لأنه معذور، والعامد لا عذر له؛ فلا يستحق التخفيف عنهن ولأنه قد وجب عليه القصاص، فإذا عفي عنه؛ فإنه تحمل الدية؛ فداء نفسه، وتجب عليه الدية حالة كسائر بدل المتلفات. وأما دية القتل شبه العمد ودية القتل الخطأ؛ فإنهما يكونان على عاقلة القاتل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها"، متفق عليه، فدل الحديث على أن دية شبه العمد تتحملها عاقلة القاتل. وأما دية الخطأ؛ فقال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 العلم أنها على العاقلة"، وقال الموفق: "لا نعلم خلافا أنها على العاقلة"، وكذا دية ما يجري مجرى الخطأ؛ كانقلاب النائم على إنسان فيقتله، وحفر البئر تعديا فيقع فيها إنسان فيموت. وما ترتب على الفعل المأذون به شرعا من تلف؛ فهو غير مضمون؛ كما لو أدب الرجل ولده أو زوجته، أو أدب سلطان أحدًا من رعيته، ولم يسرف واحد من هؤلاء في التأديب، ومات المؤدَّب، لم يجب شيء على المؤدب؛ لأنه فعل ما له فعله شرعا، ولم يتعدَّ فيه، فإن أسرف في التأديب فزاد فوق المعتاد، فتلف المؤدَّب؛ ضمنه لتعديه بالإسراف. وإن كان التأديب لامرأة حامل، فأسقطت حملها بسببه وجب على المؤدب ضمان الحمل بغرة عبد أو أمة؛ لما في "الصحيحين": "أنه صلى الله عليه وسلم في قضى إملاص المرأة بعبد أو أمة"، وهو قول أكثر أهل العلم. ومن أوقع حاملاً فأسقطت جنينها بسبب ذلك؛ كما لو طلبها سلطان، أو استعدى عليها رجل بالشرط؛ وجب ضمان الجنين على من أفزعها؛ لهلاكه بسببه؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه: "أنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها! ما لها ولعمر؟، فبينما هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 في الطريق؛ إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولدًا فصاح صيحتين ثم مات. فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ليس عليك شيء. فقال علي: إن كانوا قالوا في هواك؛ فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها فألقته". ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرًا أو يصعد شجرة ونحوها، ففعل، وهلك بسبب نزوله أو صعوده؛ لم يضمنه الآمر؛ لأنه لم يجن ولم يتعد عليه في ذلك. فإن كان المأمور غير مكلف؛ ضمنه الآمر؛ لأنه تسبب في إتلافه. ولو استأجر شخصا لنزول البئر وصعود الشجرة فمات بسبب ذلك؛ لم يضمنه المستأجر؛ لأنه لم يجن ولم يتعد. ومن دعا من يحفر له بئرًا بداره، فمات بهدمه لم يلقه عليه أحد؛ فهو هدر؛ لعدم التعدي عليه. ومن ذلك ندرك مدى اهتمام الإسلام بحفظ الأرواح وحقن دماء الأبرياء. لكن في وقتنا هذا كثر التهاون بهذه المسؤولية على أيدي أولئك الذين يتهورون في قيادة السيارات، فيعرضون أرواحهم وأرواح غيرهم للهلاك وكم هلك بسبب ذلك من الأرواح البريئة المحرمة فقد تذهب الجماعة بأسرها أو العائلة بأكملها على يد طائش متهور لا يقدر المسؤولية ولا ينظر في العواقب، وقد يكون السبب في ذلك آباء هؤلاء الأطفال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 المتهورين، حين يشترون لهم السيارات الفارهة، ويسلمونها لهم؛ ليزهقوا بها الأرواح البريئة؛ إنهم بذلك يسلمونهم سلاحا فتاكا يعبثون به ويحصدون به الأنفس ويروِّعون به الآمنين. فيجب على هؤلاء أن يتقوا الله في أولادهم وفي أرواح المسلمين، ويجب على ولاة الأمور وفقهم الله أن يأخذوا على يد الجميع بما يضمن سلامة الجميع واستتباب الأمن؛ فإن الله يزع بالسلطان ملا يزع بالقرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 باب في مقادير الديات مقادير ديات النفس تختلف باعتبار الإسلام والحرية والذكورة والأنوثة وكون الشخص المقتول موجودًا للعيان أو حملاً في البطن. وأكثرها مقدار دية الحر المسلم، حيث تبلغ ألف مثقال من الذهب، أو اثنى عشر ألف درهم من الدراهم الإسلامية التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل، أو مئة من الإبل، أو مئتي بقرة، أو ألفي شاة؛ لحديث أبي داود عن جابر رضي الله عنه: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مئة من الإبل، وعلى أهل البقر مئتي بقرة وعلى أهل الشاء ألقي شاة". وعن عكرمة عن ابن عباس: "أن رجلاً قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألف درهم"، رواه أبو داود وابن ماجه. وفي كتاب عمرو بن حزم: "على أهل الذهب ألف دينار"، رواه النسائي وغيره. وقد اختلف أهل العلم؛ هل هذه المذكورات أصول للدية؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 بحيث إذا دفع من تلزمه واحدًا منها؛ يلزم الولي قبوله، سواء كان ولي الجناية من أهل ذلك النوع أم لا؛ لأنه أتى بأصل في قضاء الواجب عليه. هذا قول جماعة من أهل العلم. والقول الثاني أن الأصل هو الإبل فقط، وهو قول جمهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: "في النفس المؤمنة مئة من الإبل"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ مئة من الإبل". ولأبي داود أن عمر قام خطيبان فقال: "ألا إن الإبل قد غلت؛ فقوِّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر الفا، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة". ولأن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ في الإبل دية العمد، وخفف بها دية الخطأ، وأجمع على ذلك أهل العلم؛ فهي الأصل. وهذا القول هو الراجح، وعليه؛ فيكون ما عدا الإبل من الأصناف المذكورة يكون معتبرًا بها من باب التقويم. وتغلظ الدية في قتل العمد وشبهه، فتجعل المئة من الإبل أرباعا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون جذعة؛ لما روى الزهري عن السائب بن يزيد؛ قال: "كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا: خمسا وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين حقة، وخمسا وعشرين لبون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وخمسا وعشرين بنت مخاض"، فإن جاء بالإبل على هذا النمط؛ لزم ولي الجناية أخذها، وإن شاء دفع قيمتها حسب ما تساوي هذه الأصناف في كل عصر بحسبه. وتكون الدية في الخطأ مخففة؛ بحيث تجعل المئة من الإبل خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون من بني مخاض، هذه الأصناف أو قيمتها حسب ما تساوي في كل عصر بحسبه. وبنت المخاض ما تم لها سنة، وبنت اللبون ما تم لها سنتان، والحقة ما تم لها ثلاث سنوات، والجذعة ما تم لها أربع سنين. ودية الحر الكتابي سواء كان ذميا أو مستأمنا أو معاهدًا نصف دية المسلم؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين"، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. ودية المجوسي الذمي أو المعاهد أو المستأمن ودية الوثني المعاهد أو المستأمن: ثمان مئة درهم إسلامي؛ لما روى ابن عدي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا: "دية المجوسي ثمان مئة درهم"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وهو قول أكثر أهل العلم. ونساء أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان على النصف من دية ذكرانهم؛ كما أن دية نساء المسلمين على النصف من دية ذكرانهم. قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل، وفي كتاب عمرو بن حزم:: "دية المرأة على النصف من دية الرجل". قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "لما كانت المرأة نقص من الرجل، والرجل أنفع منها، ويسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العلم إلا بها، والذب عن الدنيا والدين؛ لم تكن قيمتها مع ذلك متساوية، وهي الدية؛ فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال؛ فاقتصت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته؛ لتفاوت ما بينهما". ويستوي الذكر والأنثى فيما يوجب دون ثلث الدية؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته"، أخرجه النسائي، وقال سعيد بن المسيب: "إنه السنة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وقال الإمام ابن القيم: "وإن خالف فيه أبو حنيفة والشافعي وجماعة، وقالوا: هي على النصف في القليل والكثير، ولكن السنة أولى، والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه؛ أن ما دونه قليل، فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل، ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية؛ لقلة ديته، وهي الغرة، فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين ... " انتهى. ودية القن قيمته، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، بالغة ما بلغت، وهذا مجمع عليه إذا كانت قيمتة دون دية الحر، فإن بلغت دية الحر فأكثر؛ فذهب أحمد في المشهور عنه ومالك والشافعي وأبو يوسف إلى أن فيه قيمته بالغة ما بلغت. ويجب في الجنين ذكرًا كان أو أنثى إذا سقط ميتا بسبب جناية على أمه عمدًا أو خطأ غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة"، متفق عليه. وتورث الغرة عنه، كأنه سقط حيا؛ لأنها دية له، وهو مذهب الجمهور، وتقدر الغرة بخمس من الإبل؛ أي: بعشر دية أمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 باب في ديات الأعضاء والمنافع أولا: دية الأعضاء قال بعض العلماء: في الآدمي خمسة وأربعون عضوًا، وهذه الأعضاء منها ما في الإنسان منه شيء واحد، ومنها ما في الإنسان منه اثنان فأكثر: فإذا تلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف وللسان والذكر؛ ففيه دية تلك النفس التي قطع منها على التفصيل السابق، سواء كان ذكرًا أو أنثى، حرًا أو عبدًا أو ذميا أو غيره؛ لأن في إتلاف هذا العضو الذي لم يخلق الله في الإنسان منه إلا شيئا واحدًا إذهاب منفعة الجنس؛ فهو كإذهاب النفس، فوجبت فيه دية النفس، وهذا محل وفاق، وفي حدي عمرو بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وفي الذكر الدية، وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية، وفي اللسان الدية"، رواه أحمد والنسائي واللفظ له، وصححه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي. وما في الإنسان منه شيئان؛ كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين "وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان"، وثديي المرأة وثندوتي الرجل واليدين والرجلين والأنثيين؛ في إتلاف الاثنين مما ذكر الدية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 كاملة، وفي إتلاف أحدهما نصفها؛ لأن فيهما منفعة وجمالاً، وليس في البدن غيرهما من جنسهما. قال الموفق: "لا نعلم فيه مخالفا". وفي كتاب عمرو بن حزم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له: "وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية". قال ابن عبد البر رحمه الله: "كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه متفق عليه؛ إلا قليلاً". وما في الإنسان منه ثلاثة أشياء: إذا أتلفها جميعا؛ ففيها دية كاملة، وفي الواحد منها ثلث الدية، وذلك كالأنف؛ فإنه يشمل ثلاثة أشياء هي: المنخران والحاجز بينهما، فتوزع الدية عليها كما توزع الأصابع. وما في الإنسان منه أربعة أشياء ففيها جميعا إذا أتلفت دية كاملة، وفي الواحد منها ربع الدية، وذلك كالأجفان الأربعة؛ لأن فيها جمالاً ظاهرا ونفعا كاملاً؛ حيث تُكِنُّ العين، وتحفظها من الحر والبرد، فوجبت فيها الدية، وفي بعضها بقدرة. وفي أصابع اليدين الدية كاملة، وكذا أصابع الرجلين دية كاملة إذا قطعت جميعا، وفي كل أصبع عشر الدية؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 "دية أصابع الدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع"، رواه الترمذي وصححه، وللبخاري عنه مرفوعا: "هذه وهذه سواء [يعني: الخنصر والإبهام] "، فدل الحديثان على وجوب الدية في أصابع اليدين والرجلين، وأن في كل أصبع عشرها. وفي كل أنملة من أصابع اليدين والرجلين ثلث عشر الدية؛ لأن في كل إصبع ثلاثة مفاصل، فتقسم دية الإصبع على عددها، كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية، والإبهام فيه مفصلان، في كل مفصل منهما نصف عشر الدية لما سبق. وفي كل سن نصف عشر الدية "خمس من الإبل"؛ لحديث عمرو بن حزم مرفوعا: "وفي السن خمس من الإبل"، رواه النسائي. قال الموفق: "لا نعلم خلافا في أن دية الأسنان خمس خمس في كل". ثانيا: دية المنافع وأما المنافع؛ فالمراد بها منافع تلك الأعضاء المذكورة؛ كالسمع، والبصر، والشم، والكلام، والمشي؛ فكل عضو له منفعة خاصة. ومن ذلك الحواس الأربع، وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق؛ ففي كل حاسة منها إذا ذهبت بسبب الجناية دية كاملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 قال ابن المنذر: "أجمع عوام أهل العلم على أن في السمع الدية". وقال الموفق: "لا خلاف في وجوب الدية بذهاب السمع". وفي كتاب عمرو بن حزم: "وفي المشام الدية". ولقضاء عمر رضي الله عنه في رجل ضرب رجلاً فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات والرجل حي، ولا يعرف له مخالف من الصحابة. وتجب الدية كاملة في إذهاب كل من الكلام والعقل والمشي والأكل والنكاح وعدم استمساك البول والغائط؛ لأن في كل واحدة من هذه منفعة كبيرة، ليس في البدن مثلها. ويجب في كل واحد من الشعور الأربعة الدية كاملة، وهي شعر الرأس وشعر اللحية وشعر الحاجبين وأهداب العينين، وفي الحاجب الواحد نصف الدية، وفي الهدب الواجب ربع الدية؛ لأن الدية تتوزع عليها بعددها. ومن هنا نعلم ما للحية في الإسلام من احترام وقيمة، حيث أوجب في إتلافها دية كاملة، وذلك لعظيم منفعتها وجمالها ووقارها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوفيرها وإكرامها، ونهى عن حلقها وقصها والتعدي عليها؛ فتبا لقوم حاربوها واعتدوا عليها بحلقها وإزالتها من وجوههم تشبها بالنساء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 وتشبها بالكفار والمنافقين وتحولاً من الرجولة والشهامة إلى الميوعة ... وهكذا. يُقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن فيجب على هؤلاء أن يراجعوا رشدهم، ويحكموا عقولهم، ويطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم ويوفروا لحاهم التي خلقها الله جمالاً لهم وعلامة على رجولتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 باب في أحكام الشجاج وكسر العظامد ... باب في أحكام الشجاج وكسر العظام الشجاج: جمع شجة، وهي الجرح في الرأس والوجه خاصة، سميت بذلك من الشج، وهو لغة: القطع لأنها تقطع الجلد، فإن كان القطع في غير الرأس والوجه؛ سمي جرحا لا شجة. وتنقسم الشجة باعتبار تسميتها المنقولة عن العرب إلى عشرة أقسام، كل قسم له اسم خاص وحكم خاص: الأولى: الحارصة، وهي التي تحرص الجلد؛ أي: تشقه قليلاً ولا تدميه، وتسمى القاشرة؛ أي: لأنها تقشر الجلد. الثانية: البازلة، وهي التي يسيل منها الدم قليلاً، وتسمى الدامعة؛ تشبيها بخروج الدمع من العين. الثالثة: الباضعة، وهي التي تبضع اللحم؛ أي: تشقه بعد الجلد. الرابعة: المتلاحمة، وهي الغائصة في اللحم، ولذلك اشتقت منه. الخامسة: السمحاق، وهي التي تنفذ من اللحم، ولا يبقى بينها وبين العظم سوى جلدة رقيقة تسمى السمحاق، سميت الجارحة الواصلة إليها باسمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 وهذه الخمس المذكورة من الشجاج ليس في ديتها مبلغ مقدر من الشارع، فيقدر فيها حكومة، يجتهد الحاكم في تقديرها. السادسة: الموضحة، وهي التي توضح العظم وتبرزه، وديتها خمسة أبعرة؛ لحديث عمرو بن حزم: "وفي الموضحة خمس من الإبل". السابعة: الهاشمة، وهي التي توضح العظم وتهشمه؛ أي: تكسره، ويجب فيها عشر من الإبل، ويروى ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، ولم يعرف له مخالف في عصره من الصحابة. الثامنة: المنقلة، وهي التي توضح العظم وتهشمه وتنقل العظام بحيث تحتاج إلى جمع لتلتئم، ويجب فيها خمس عشرة من الإبل؛ لحديث عمرو بن حزم الذي كتبه له النبيصلى الله عليه وسلم؛ قال: "وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل". التاسعة: المأمونة، وهي التي تصل إلى أم الدماغ؛ أي: جلدة الدماغ. العاشرة: الدامغة، وهي التي تخرق تلك الجلدة. ويجب في كل واحدة من هاتين الشجتين المأمومة والدامغة ثلث الدية؛ لحديث عمرو بن حزم: "وفي المأمومة ثلث الدية"، والدامغة أبلغ منها؛ فهي أولى منها، والغالب أن صاحبها لا يسلم، ولذلك لم يرد بخصوصها تقدير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 وفي الجراحة الجائفة ثلث الدية؛ لما في كتاب عمرو بن حزم: "وفي الجائفة ثلث الدية". قال الإمام الموفق: "وهو قول عامة أهل العلم، منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي". والمراد بالجائفة: الجراحة التي تصل إلى باطن جوف بطن وظهر وصدر وحلق ومثانة. وأما ما يجب في كسر العظام: فيجب في الضلع إذا جبر بعد كسره كما كان بعير، ويجب في كل واحدة من الترقوتين بغير؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "في الضلع جمل، وفي الرقوة جمل"، والترقوة هي العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف، ولكل إنسان ترقوتان. وإن انجبر الضلع أو الترقوة بدون استقامة؛ وجب في ذلك حكومة. ويجب في كسر الذراع، وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد، إذا جبر مستقيما: بعيران، كما يجب ذلك أيضا في كسر الفخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وكسر الساق وكسر الزند؛ لما روى سعيد عن عمرو بن شعيب: "أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر؟، فكتب إليه عمر: أن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندان؛ ففيهما أربعة من الإبل". ولم يظهر له مخالف من الصحابة. وهذا ما ورد فيه التقدير من الجراح والكسور، وما عداه من الجرح وكسر العظام كخرز الصلب وعظم العانة؛ ففيه حكومة. والحكومة معناها: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، يقوم وهي به قد برئت؛ فما نقص من القيمة؛ فللمجني عليه مثل نسبته من الدية. مثال ذلك: لو قدر أن قيمته لو كان عبدًا سليما ستون، وقيمته بالجناية خمسون؛ ففيه سدس ديته؛ لأن الناقص بالتقويم واحد من ستة، وهو سدس قيمته، فيكون للمجني عليه سدس ديته. قال الموفق رحمه الله: "الصحيح أنع لا تقدير في غير الخمس: الضلع والترقوتين والزندين؛ لأن التقدير إنما ثبت بالتوقيف، ومقتضى الدليل وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها، يعني: سوى هذه الخمس لقضاء عمر ... " انتهى. قال الفقهاء رحمهم الله: فإن كانت الجراحة التي تقدر فيها الحكومة في محل له مقدر في الشرع، وذلك كالشجة التي هي دون الموضحة؛ فلا يجوز أن يبلغ بحكومتها أرش الموضحة؛ لأن الجراحة لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 كانت موضحة؛ لم تزد غرامتها على خمس من الإبل؛ فما دونها من باب أولى. وإذا برئ المجني عليه، وعاد كما كان؛ لم تنقصه الجناية شيئا؛ فإنه يقوم وقت جريان الدم؛ لأنه لا بد في هذه الحالة من نقصه؛ للخوف عليه، ولتأثير الجناية عليه حينئذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 باب في كفارة القتل ... باب في كغارة القتل الكفارة سميت بذلك اشتقاقا من الكفر، وهو الستر؛ لأنها تستر الذنب وتغطية. والدليل على وجوب كفارة القتل الكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلى قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيما} . وروى أبو داود والنسائي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في القاتل: "أعتقوا عنه؛ يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار". وإنما تجب الكفارة في القتل الخطأ وشبه العمد، وأما القتل العمد العدوان؛ فلا كفارة فيه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} ، ولم يذكر فيه كفارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وروي أن سويد بن الصامت قتل رجلاً، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القود، ولم يوجب كفارة، وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين عمدًا، فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب عليه كفارة، ولأن الكفارة وجبت في الخطأ لتمحو إثمه؛ لكونه لا يخلو من تفريط؛ فلا تلزم في موضع عظم الإثم فيه؛ بحيث لا يرتفع بها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا كفارة في قتل العمد، ولا في اليمين الغموس، وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبها". وذكر موفق الدين بن قدامة وغيرة: "أن القتل الخطأ لا يوصف بتحريم ولا إباحة؛ لأنه كقتل المجنون، لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة؛ فلذلك وجبت الكفار فيها ... " انتهى. ومعناه: أن الحكمة في تشريع الكفارة في القتل الخطأ ترجع إلى أمرين: الأمر الأول: أن الخطأ لا يخلو من تفريط من القاتل. الأمر الثاني: النظر إلى حرمة النفس الذاهبة به. وأما العمد؛ فلا تجب فيه الكفارة؛ لأن إثمه لا يرفع بالكفارة؛ لعظمه وشدته، لكن القاتل عمدًا إذا تاب إلى الله تعالى، ومكن من نفسه؛ ليقتص منه؛ فإن ذلك يخفف عنه الإثم، فيسقط عنه حق الله بالتوبة، وحق الأولياء بالقصاص أو العفو عنه، ويبقى حق القتيل يرضيه الله بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 شاء، هذا معنى ما قرره العلامة ابن القيم في كتابه "الجواب الكافي". فمن قتل نفسا محرمة، ولو كان مملوكه، أو كان كافرًا معاهدًا أو مستأمنا، مولودًا أو جنينا بأن ضرب بطن حامل فألقت جنينا ميتا، ومن قتل واحدًا من هؤلاء؛ وجبت عليه الكفارة؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} . وسواء انفرد بقتل النفس أو شارك في ذلك غيره، وسواء كان القتل بمباشرة أو تسبب؛ كمن حفر بئرًا متعديا في حفرها، أو نصيب سكينا ... ونحوها ذلك من كل فعل نتج عنه وفاة شخص. قال الموفق: "يلزم كل واحد من شركائه كفارة، هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي" انتهى. وتجب الكفارة على القاتل، سواء كان كبيًرا أو صغيرًا أو مجنونا، وسواء كان حرا أو عبدا؛ لعموم الآية. والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد؛ فصيام شهرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 متتابعين، ولا يجرئ إطعام فيها، فإذا لم يستطع الصوم؛ بقي في ذمته، ولا يجزئ عنه الإطعام؛ لأنه تعالى لم يذكره، والأبدال في الكفارات تتوقف على النص دون القياس. ويكفر العبد بالصوم؛ لأنه لا مال هل يعتق منه. وإن كان القاتل مجنونا أو صغيرًا؛ كفر عنه وليه بعتق؛ لعدم إمكان الصوم منهما، ولا تدخله النيابة، وقد وجبت الكفارة على كل منهما؛ لأنه حق مالي يتعلق بالقتل أشبه الدية، ولأنها عبادة مالية أشبهت الزكاة. وتتعدد الكفارة بتعدد القتل كتعدد الدية بتعدد القتل، فلو قتل عدة أشخاص؛ وجبت عليه عدة كفارات بعددهم. وإن كان القتل مباحا كقتل الباغي والمرتد والزاني المحصن والمقتول قصاصا أو حدًا أو لأجل الدفاع عن النفس؛ فلا كفارة في تلك كله؛ لعدم حرمة المقتول. تنبيه أداء كفارة القتل مما يتساهل فيه بعض الناس اليوم، خصوصا في حوادث السيارات التي تذهب فيها أنفس كثيرة؛ فقد يستثقل من تحمل المسؤولية في ذلك الصيام، ولا سيما إذا تعددت عليه الكفارات؛ فلا يصوم، وتبقى ذمته مشغولة، كما أن هناك ظاهرة أخرى، وهي أن عاقلة القاتل لا تتحمل دية الخطأ، وإن تحمل أحد منهم شيئا منها؛ فإنه يظنه من باب التبرع، ولذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 نرى بعض من حصل منهم القتل الخطأ يسألون الناس سداد الدية، وهذا تعطيل لحكم شرعي عظيم، أدى إلى جهل الكثير به، وربما يكون بعض المتسولين باسم تلك الغرامة متحيلاً، فيجب الأخذ على يده وردعه عن أكل المال بالباطل والتحيل بواسطة حمل بعضهم صور صكوك غير شرعية ولا حقيقة، وقد يكون مضى عليها حين طويل من الدهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 باب في أحكام القسامة القسامة لغة: اسم مصدر، من قولهم: أقسم إقساما وقسامة؛ أي: حلف حلفا، والمراد بها هنا الأيمان؛ أي: أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم. وتشرع القسامة في القتيل إذا وجد ولم يعلم قاتله واتهم به شخص. والدليل عليها السنة والإجماع. ففي "الصحيحين" عن سهل بن أبي حثمة؛ أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه، فأتى يهود، فقال: أنتم قتلتموه. فقالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ". وفي رواية: "تأتون بالبينة؟ ". قالوا: ما لنا بينة. فقال: "أتحلفون؟ ". قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! فقال: "تبرئكم يهود بخمسين يمينا". فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟، فوداه بمئة من الإبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 فدل ذلك على مشروعية القسامة، وأنها أصل من أصول الشرع، مستقل بنفسه، وقاعدة من قواعد الأحكام، فتخصص بها الأدلة العامة. وأما شروط القسامة: فمن أهمها: وجود اللوث، وهو العداوة الظاهرة بين القتيل والمتهم بقتله؛ كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله من أجله؛ فللأولياء حينئذ أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله، وإن كانوا غائبين. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن اللوث لا يختص بالعدواة، بل يتناول كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى؛ كتفرق جماعة عن قتيل، وشهادة من لا يثنب القتل بشهادتهم ... ونحو ذلك. قال أحمد: "أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان قم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل مثل هذا". قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على ذلك: "فذكر أمورًا أربعة: اللطخ: وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة، والسبب البين كالتفرق عن قتيل، والعداوة، وكون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أحسن الاستشهاد؛ فإنه اعتماد على ظاهر الأمارات المغلبة على الظن صدق المدعى، فيجوز له أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 يحلف بناء على ذلك، ويجوز للحاكم بل يجب عليه أن يثبت له حق القصاص أو الدية، ومع علمه أنه لم ير ولم يشهد ... " انتهى. لكن لا ينبغي للأولياء أن يحلفوا إلا بعد الاستيثاق من غلبة الظن، وينبغي للحاكم أن يعظم ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة من العقوبة. ومن شروط القسامة: أن يكون المدعى عليه القتل فيها مكلفا؛ فلا يصح الدعوى فيها على صغير ول مجنون. ومن شروطها: إمكان القتل من المدعى عليه، فإن لم يمكن منه القتل؛ لعبده عن مكان الحادث وقت وقوعه؛ لم تسمع الدعوى عليه. وصفة القسمة: أنها إذا توفرت شروط إقامتها؛ يبدأ بالمدعين، فيحلفون خمسين يمينا توزع عليهم على قدر إرثهم من القتيل: أن فلانا هو الذي قتله، ويكون ذلك بحضور المدعى عليه. فإن أبى الورثة أن يحلفوا، أو امتنعوا من تكميل الخمسين يمينا؛ فإنه يحلف المدعى عليه خمسين يمينا إذا رضي المدعون بأيمانه، فإذا حلف برئ، وإن لم يرض المدعون بتحليف المدعى عليه؛ فدى الإمام القتيل من بيت المال؛ لأن الأنصار لما امتنعوا من قبول أيمان اليهود؛ فدى النبي صلى الله عليه وسلم القتيل من بيت المال، ولأنه يبق سيبل لإثبات الدم على المدعى عليه، فوجب الغرم من بيت المال؛ لئلا يضيع دم المعموم هدرًا بلا مبرر لإهداره. وقد اختلف الفقهاء في ذلك يثبت في القسامة إذا توفرت شروطها وحلف أولياء القتيل خمسين يمينا، والصحيح أنها إذا توفرت شروط القصاص بعد توفر شروط القسامة وتمامها إنما يثبت بها القصاص على المدعى عليه؛ لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "يحلف خمسون منكم على رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 منهم، فيدفع إليكم برمته"، وفي لفظ لمسلم: "ويسلم إليكم"، فتقوم القسامة مقام البينة. قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن ثبوت الحكم بالقسامة: "وليس إعطاء بمجرد الدعوى، وإنما هو بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه، فوق تغليب الشاهدين، وهو اللوث والعداوة الظاهرة والقرينة الظاهرة؛ فقوى الشارع هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء المقتول الذين يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولو يعطى أناس بدعواهم" لا يعارض القسامة بوجه؛ فإنما نفى الإعطاء بدعوى مجردة ... " انتهى. قال الفقهاء رحمهم الله: ومن مات في زحمة جمعة أو طواف؛ فإنه تدفع ديته من بيت المال؛ لما روي عن عمر وعلي: "أنه قتل رجل في زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر، فقال: بينتكم على قاتله. فقال علي: يا أمير المؤمنين! لا يطل دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعط ديته من بيت المال" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 كتاب الحدود والتعزيرات باب في أحكام الحدود الحدود: جمع حد، وهو لغة المنع. وحدود الله تعالى: محارمه التي منع من ارتكابها وانتهاكها. والحدود في الاصطلاح الشرعي: عقوبة مقدرة شرعا في معصية لتمنع من الوقوع في مثلها. والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الحدود صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم؛ كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض ... " انتهى. والحكمة في تشريع الحدود: أنها شرعت زواجر للنفوس ونكالاً وتطهيرًا، فهي عقوبة مقدرة لحق الله تعالى، ثم لأجل مصلحة المجتمع؛ فالله تعالى أوجبها على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع البشرية؛ فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فلا تتم سياسة الملك إلا بزواجر عقوبات لأصحاب الجرائم، منها ينزجر العاصي ويطمئن المطيع وتتحقق العدالة في الأرض ويأمن الناس على أرواحهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وأعراضهم وأموالهم، كما هو المشاهد في المجتمعات التي تقيم حدود الله؛ فإنه يتحقق فيها من الأمن والاستقرار وطيب العيش ما لا ينكره؛ بخلاف المجتمعات التي عطلت حدود الله، وزعمت أنها وحشية، وأنها لا تليق بالحضارة المعاصرة، فحرمت مجتمعاتها من هذه العدالة الإلهية، ومن نعمة الأمن والاستقرار، وإن كانت تملك من الأسلحة والأجهزة الدقيقة ما تملك؛ فإن ذلك لا يغني عنها شيئا، حتى تقيم حدود الله التي شرعها لمصالح عباده؛ فإن المجتمعات البشرية لا تحكم بالحديد والآلة فقط، وإنما تحكم بشريعة الله وحدوده، وإنما الحديد والأجهزة آلة لتنفيذ الحدود الشرعية، إذا أحسن استعمالها، وكيف هؤلاء المنحرفون حدود الله التي هي هدى ورحمة للعالمين؟! كيف يسمونها وحشية ولا يسمون عمل المجرم المعتدي وحشية وهو يروع الآمنين ويجني على الأبرياء ويخلخل أمن المجتمع؟! إن هذا هو الوحشية، وإن الذي عليه أظلم منه وأشد منه وحشية، ولكن إذا انتكست العقول وفسدت الفطر فإنها ترى الحق باطلاً والباطل حقا؛ كما قال الشاعر: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم وهذا؛ ولا يجوز تطبيق الحد على الجاني؛ إلا إذا توفرت شروط تطبيقه، وهي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون مرتكب الجريمة بالغا عاقلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 حتى يستيقظ"، رواه أهل السنن وغيرهم، فإذا كانت العبد لا تجب على هؤلاء؛ فالحد أولى بالسقوط؛ لعدم التكليف، ولأنه يدرأ بالشبهة. الشرط الثاني: أن يكون مرتكب الجريمة عالما بالتحريم؛ فلا حد على من يجهل التحريم؛ لقول عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم: "لا حد إلا على من علمه"، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة، وقال الموفق ابن قدامة: "هو قول أهل العلم". فإذا توفرت هذه الشروط في مرتكب الجريمة التي يترتب عليها الحد الشرعي؛ فإنه يقيمه عليه الإمام أو نائبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود، ثم خلفاؤه من بعده كانوا يقيمونها، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم من يقيم الحد نيابة عنه؛ حيث قال: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها"، وأمر صلى الله عليه وسلم برجم ماعز ولم يحضره، وقال في سارق: "اذهبوا به فاقطعوه" ... ولأن الحد يحتاج إلى اجتهاد، ولا يؤمن فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 الحيف، فوجب أن يتولاه الإمام أو نائبه؛ ضمانا للعدالة في تطبيقه، سواء كانت الحدود لحق الله تعالى كحد الزنى أو كانت لحق الآدمي كحد القذف. قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "الحدود التي ليست لقوم معينين تسمى حدود الله وحقوق الله؛ مثل قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم، ومثل الحكم في الأموال السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات، يجب على الولاة البحث عنها وإقامتها من غير دعوى أحد بها، وتقام الشهادة من غير دعوى أحد بها، وتجب إقامتها على الشريف والوضيع والقوي والضعف .... " انتهى. ولا يجوز إقامة الحد في المسجد، وإنما تقام خارجه؛ لحديث حكيم ابن حزام: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستفاد بالمسجد، وأن تنشد الأشعار، وأن تقام فيه الحدود" ... والمراد الأشعار غير النزيهة. وتحرم الشفاعة في الحد بعد أن يبلغ السلطان لأجل إسقاطه وعدم إقامته، ويحرم على أولي الأمر قبول الشفاعة في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضاد الله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 أمره"، وقال صلى الله عليه وسلم في الذي أراد أن يعفو عن السارق: "فهلا قبل أن تأتيني به". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يحل تعطيله [أي: الحد] لا بشفاعة ولا هدية ولا غيرها، ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته؛ فعليه لعنه الله". وقال رحمه الله: "ولا يجوز أن يؤخذ من السارق والزاني والشارب وقاطع الطريق ونحوه مال يعطل به الحد لا لبيت المال ولا لغيره، وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك جمع بين فسادين عظيمين: تعطيل الحد وأكل السحت وترك الواجب وفعل المحرم، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب ونحو ذلك لتعطيل الحد سحت خبيث، وهو أكثر ما يوجد من إفساد أمور المسلمين، وهو سبب سقوط حرمة المتولي وسقوط قدره وانحلال أمره ... " انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 فالجرائم لا يحسمها ويقي المجتمع من شرها إلا إقامة الحدود الشرعية على مرتكبيها، وأما أخذ الغرامة المالية منهم وسجنهم وما أشبه ذلك من العقوبات الوضعية؛ فهو ضياع وظلم وزيادة شر. قال فقهاؤنا رحمهم الله: إن الجنايات التي تجب فيها الحدود خمس؛ هي: الزنى، والسرقة، وقطع الطريق، وشرب الخمر، والقذف، وما عدا ذلك؛ يجب فيه التعزير؛ كما يأتي بيانه إن شاء الله. وقالوا: أشد الجلد في الجدود جلد الزنى، ثم جلد القذف، ثم جلد الشرب، ثم جلد التعزير؛ لأن الله تعالى خص الزنى بمزيد تأكيد؛ لقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، وما دونه أخف منه في العدد؛ فلا يجوز أن يزيد عليه في الصفة. وقالوا: من مات في حد؛ فهو هدر، ولا شيء علة من حده؛ لأنه أتى به على الوجه المشروع بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. أما لو تعدى الوجه المشروع في إقامة الحد، ثم تلف المحدود؛ فإنه يضمنه بديته؛ لأنه تلف بعدوانه، فأشبه ما لو ضربه في غير الحد. قال الموفق رحمه الله: "بغير خلاف نعلمه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 باب في حد الزنى قال الفقهاء رحمهم الله: ويجب في إقامة حد الزنى حضور إمام أو نائبه، وحضور طائفة من المؤمنين؛ لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . والزنى من أعظم الجرائم، وهو يتفاوت في الشناعة الإثم والقبح؛ فالزنى بذات زوج والزنى بذات المحرم والزنى بحليلة الجار من أعظم أنواعه. ولما كان الزنى من أعظم الجرائم وكبار المعاصي؛ لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل بسببه التعارف والتناصر على حق، وفيه هلاك الحرث والنسل، لما كان يشتمل على هذه الآثار القبيحة؛ رتب الله عليه هذا الحد الصارم، وهو رجم الزانى بالحجارة حتى يموت أو جلده وتغريبه عن بلده؛ ليحصل بذلك الردع عن ارتكابه، إضافة إلى ما ينشأ عنه من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات، ولذلك نهى عنه الشارع أشد النهي، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} ، ورتب على ارتكابه تلك العقوبة المؤلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 وقد عرف الفقهاء رحمهم الله الزنى بأنه فعل الفاحشة في قبل أو دبر. وقال ابن رشد: "هو كل وطء وقع على غير نكاح صحيح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه في الجملة من علماء الإسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة يدرأ الحد أو لا ... " انتهى. فإذا كان الزاني محصنا مكلفا؛ رجم بالحجارة حتى يموت، رجلاً كان أو امرأة، في قول أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج. والرجم مع ذلك ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية المتواترة. وكان الرجم مذكورًا في القرآن الكريم، ثم نسخ لفظه وبقى حكمه، وذلك في قوله تعالى: {والشيخ والشيخة إذا زنيا؛ فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم} . ومع ثبوت الرجم بالقرآن المنسوخ لفظة دون حكمة، وبالسنة المتواترة والإجماع؛ فقد تجرأ الخوارج ومن في حكمهم من بعض الكتاب المعاصرين إلى إنكار الرجم؛ تبعا لأهوائهم، وتخطيا للأدلة الشرعية وإجماع المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 والمحصن الذي يجب رجمه إذا زنى هو من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن اختل شرط من هذه الشروط المذكورة في أحد الزوجين؛ فلا إحصان. والشروط تتلخص في الآتي 1 أن يحصل منه الوطء في القبل 2 أن يكون الوطء في نكاح صحيح. 3 حصول الكمال في كل منهما؛ بأن يكون بالغا حرًّا عاقلاً. وخص الثيب بالرجم لكونه تزوج فعلم ما يقع به العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنى، فزال عذره من جميع الوجوه، وكملت في حقه النعمة، ومن كملت في حقه النعمة؛ فجنايته أفحش؛ فهو أحق بزيادة العقوبة. وإذا زنى المكلف الحر غير المحصن؛ جلد مئة جلدة؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، وخفف عنه عقوبة المحصن، وهي القتل، وصار إلى الجلد؛ لما حصل له من العذر، فيحقن دمه، ويزجر عن الزنى بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد، وهو ضرب الجلد، وقال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ؛ أي: لا ترحموهما بترك إقامة الحد عليهما، {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} ؛ فإن الإيمان يقتضي الصلابة في الدين، والاجتهاد في إقامة أحكامه. وثبت مع الجلد تغريبه عاما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما روى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 الترمذي وغيره: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب"، وقال صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام". وإذا كان الزاني مملوكا؛ جلد خمسين جلدة؛ لقوله تعالى في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} ، ولا فرق بين الذكر والأنثى، والعذاب المذكور في القرآن الكريم وهو الجلد، والرجم وإن كان قد ذكر في القرآن؛ فإنه نسخ لفظه وتلاوته وبقي حكمة. ولا تغريب على الرقيق؛ لأن في ذلك إضرار بسيده، ولأن السنة لم يرد فيها تغريب المملوك إذا زنى؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا لم تحصن: "إذا زنت؛ فاجلدوها، ثم إن زنت؛ فاجلدوها"، ولم يذكر تغريبها. ولا يجب الحد إلا إذا خلا الوطء من الشبهة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم"؛ فلا حد على من وطئ امرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 يظنها زوجته، أو وطئها بعقد باطل اعتقد صحته، أو وطئ في نكاح مختلف فيه، أو كان يجهل تحريم الزنى وهو قريب عهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة عن دار الإسلام، أو كانت المرأة مكرهة على الزنى. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تبدأ بالشبهات .... " انتهى. وهذا من يسر هذه الشريعة؛ لأن الشبهة تدل على عدم تعمده للجريمة، والله تعالى: يقول: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . ومن شروط وجوب إقامة الحد على الزاني: ثبوت وقوع الزنى منه، ولا يثبت إلا بأحد أمرين. الأمر الأول: أن يقر به أربع مرات، وذلك لحديث ماعز بن مالك رضي الله عنه؛ فإنه اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات: الأولى، ثم الثانية، ورده حتى أكمل أربع مرات، فلو كان ما دونها يكفي؛ لأقام الحد عليه به. ويشترط لصحة الإقرار بالزنى أن يصرح بحقيقة الوطء، وأن لا يرجع عن إقراره حتى يقام عليه الحد، فلو لم يصرح بذكر حقيقة الزنى؛ لم يحد؛ لاحتمال أنه أراد غيره مما لا يوجب الحد من الاستمتاع المحرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لماعز رضي الله عنه حينما أقر عنده: "لعلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 قبلت، أو غمزت؟ " قال: لا. وكرر معه صلى الله عليه وسلم الاستيضاح، حتى زالت كل الاحتمالات. ولو رجع عن إقراره قبل إقامة الحد عليه؛ لم يقم عليه، وذلك لما ثبت من تقريره صلى الله عليه وسلم ماعزًا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع، ولقوله صلى الله عليه وسلم لما هرب: "فهلا تركتموه، لعله يتوب فيتوب الله عليه". الأمر الثاني: أن يشهد به عليه أربعة شهود؛ لقوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، ولقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} . ويشترط لصحة شهادتهم عليه شروط: الأول: أن يشهدوا عليه في مجلس واحد. الثاني: أن يشهدوا عليه بزنى واحد؛ أي: واقعة واحدة. الثالث: أن يصفوا الزنى بما يدفع كل الاحتمالات عن إرادة غيره من الاستمتاع المحرم؛ لأن الزنى قد يعبر به ما لا يوجب الحد؛ فلا بد من تصريحهم به لتنتفي الشبهة. الرابع: أن يكونوا رجالاً عدولاً؛ فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا شهادة الفساق. الخامس: أن لا يكون فيهم من به مانع من عمى أو غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 فإن اختل شرط من هذه الشروط؛ وجب إقامة حد القذف عليهم؛ لأنهم قذفة، والله تعالى: يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة} . وثبوت الزنى بالبينة المذكورة أو الإقرار متفق عليه بين العلماء، وقد اختلفوا هل يثبت بأمر ثالث، وهو الحبل، كما لو حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد: فقال بعضهم: لا يثبت بذلك حد؛ لأنه يحتمل أنه من وطء إكراه أو شبهة. وقال بعضهم: بل تحد بذلك إن لم تدَّع شبهة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بالأصول الشرعية، ومذهب أهل المدينة؛ فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها". وقال ابن القيم: "وحكم عمر برجم الحامل بلا زوج ولا سيد، وهو مذهب مالك، وأصح الروايتين عن أحمد؛ اعتماد على القرينة الظاهرة". وكما يجب الحد بالزنى إذا توفرت شروط إقامته، كذلك يجب الحد باللواط، وهو فعل الفاحشة في الدبر، وهو جريمة خبيثة، وشذوذ قبيح مخالف للفطرة السليمة. قال الله تعالى: في قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} ، وتحريمه معلوم بالكتاب والسنة والإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وقد وصف الله اللوطية بأنهم يمارسون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد في العالمين؛ فهم شذاذ في العالم، ووصفهم بأنهم عادون ومسرفون ومجرمون، وأحل بهم عقوبة لم ينزلها بغيرهم؛ لقبح جريمتهم؛ حيث خسف بهم الأرض، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاعل والمفعول به. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصحيح الذي عليه الصحابة أنه يقتل الاثنان: الأعلى والأسفل، إن كانا محصنين أو غير محصنين". قال: "ولم يختلف الصحابة في قتله، وبعضهم يرى أنه يرفع على أعلى جدار في القرية، ويلقى، ويتبع بالحجارة". وقال الموفق: "ولأنه "أي: قتل اللوطي" إجماع الصحابة؛ فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته". وقال ابن رجب: "الصحيح قتله، سواء كان محصنا أو غير محصن؛ لقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} ، وعن أحمد: "حده الرجم؛ بكرًا كان أو ثيبا"، وهو قول مالك وغيره، وأحد قولي الشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 فاقتلوا الفاعل والمفعول به"، رواه أبو داود، وفي رواية: "فارجموا الأعلى والأسفل". ومن اللوطية إتيان الرجل زوجته في دبرها؛ قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ؛ قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: "يعني: الفرج". قال على بن أبي طلحة عن ابن عباس: " {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ} ؛ يقول: في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئا من ذلك؛ فقد اعتدى". ومثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة رادعة، فإن استمر على فعل هذه الجريمة؛ وجب على زوجته طلب مفارقته والابتعاد عنه؛ لأنه نذل سافل، لا يصلح لها البقاء معه على هذه الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 باب في حد القذف عرف الفقهاء رحمهم الله القذف بأنه الرمي بزنى أو لواط، وهو في الأصل الرمي بقوة، ثم استعمل في الرمي بالزنى واللواط. وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ،. هذه عقوبة القاذف العاجلة في الدنيا: الجلد ورد شهادته، واعتباره فاسقا ناقصا سافلاً إذا لم يثبت ما قال. وأما عقوبته في الآخرة؛ فقد بينها الله تعالى: بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يومئذ يوفيهم الله يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وعد منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات. وقد أوجب الله الحد الرادع على القاذف، فإذا قذف المكلف المختار محصنا بزنى أو لواط؛ فإنه يجلد ثمانين جلدة؛ لقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . ومعنى الآية الكريمة: أن الذين يقذفون بالزنى المحصنات الحرائر العفائف العاقلات، ثم لم يأت هؤلاء القذفة بأربعة شهداء على ما رموهن به؛ فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا فرق بين كون المقذوف ذكرًا أو أنثى، وإنما خص النساء بالذكر؛ لخصوص الواقعة، ولأن قذف النساء أشنع وأغلب وإنما استحق القاذف هذه العقوبة صيانة لأغراض المسلمين عن التدنيس، ولأجل كف الألسن عن هذه الألفاظ الذرة التي تلطخ أغراض الأبرياء، وصيانة للمجتمع الإسلامي عن شيوع الفاحشة فيه. والمحصن الذي يجب الحد بقذفه هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله. قال ابن رشد: "اتفقوا على أن من شروط المقذوف أن يجتمع فيه خمسة أوصاف: البلوغ، والحرية، والعفاف، والإسلام، وأن يكون معه آلة الزنى، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف؛ لم يجب الحد". وحد القذف حق للمقذوف؛ يسقط بعفوه، ولا يقام إلا بطلبه، فإذا عفا المقذوف عن القاذف؛ سقط الحد عنه، ولكنه يعزَّر بما يردعه عن التمادي في القذف المحرم المتوعَّد عليه باللعن والعذاب الأليم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يحدُّ القاذف إلا بالطلب إجماعا" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 ومن قذف غائبا؛ لم يحد حتى يحضر المقذوف ويطالب، أو تثبت مطالبته بذلك في غيبته. وألفاظ القذف تنقسم إلى قسمين: ألفاظ صريحة لا تحتمل غير القذف؛ فلا يقبل منه تفسيره بغير القذف. وألفاظ كنايات تحتمل القذف وغيره، فإذا فسرها بغير القذف؛ قبل منه. فالألفاظ الصريحة؛ مثل قوله: يا زاني، يا لوطي، يا عاهر، وكنايته مثل: يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة، فإذا قال القاذف: أردت بالقحبة أنها تتصنع للفجور، أو قال: أردت بالفاجرة أنها مخالفة لزوجها فيما يجب طاعته فيه، وأردت بالخبيثة أنها خبيثة الطبع؛ قبل منه هذا التفسير، ولم يجب عليه حد؛ لأن لفظه يحتمل، والحدود تدرأ بالشبهات. وإذا قذف جماعة لا يتصور منهم الزنى أو قذف أهل بلد؛ لم يحد، وإنما يعزر بذلك؛ لأنه مقطوع بكذبة؛ فلا عار عليهم بذلك، وإنما يعزَّر لأجل تجنب هذه الألفاظ القبيحة والشتائم البذيئة، وذلك معصية يجب تأديبه عليها، ولو لم يطالبه أحد منهم. ومن قذف نبيا من الأنبياء؛ كفر؛ لأن ذلك ردة عن الإسلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقذف نساء النبي صلى الله عليه وسلم كقذفه؛ أي: كقذف النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بردة القاذف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وقال شيخ في القاذف إذا تاب قبل علم المقذوف هل تصح توبته: "الأشبه أنه يختلف باختلاف الناس، وقال أكثر العلماء: إن علم به المقذوف؛ لم تصح توبته، وإلا؛ صحت، ودعا له، واستغفر .... " انتهى. ومن هذا يتبين لنا خطر اللسان، وما يترتب على ألفاظه من مؤاخذات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه، ويزن ألفاظه، ويسدد أقواله؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 باب في حد المسكر المسكر: اسم فاعل من أسكر الشراب فهو مسكر، إذا جعل صاحبه سكران، والسكران خلاف الصاحي، والسكر في الاصطلاح هو اختلاط العقل. والخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . والخمر: كل ما خامر العقل، أي: غطاه من أي مادة كان. وفي "الصحيحين" وغيرهما: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"، "كل شراب أسكر؛ فهو حرام"؛ فكل شراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 أسكر كثيرة؛ فقليله حرام، وهو خمر، من أي شيء كان، سواء كان من عصير العنب أو من غيره. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الخمر ما خامر العقل"؛ فكل شيء يستر العقل يسمى خمرًا؛ لأنها سميت بذلك؛ لمخامرتها للعقل؛ أي: سترها له. وهذا قول جمهور أهل اللغة. قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "والحشيشة نجسة في الأصح، وهي حرام، سواء سكر منها أم لم يسكر، والمسكر منها حرام باتفاق المسلمين، وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر، وظهورها في المئة السادسة" انتهى كلامه. وهذه الحشيشة وسائر المخدرات من أعظم ما يفتك اليوم بشباب المسلمين، وهي أعظم سلاح يصدره الأعداء ضدنا، ويروجها المفسدون في الأرض من اليهود وعملائهم؛ ليفتكوا بالمسلمين، ويفسدوا شبابهم، ويعطلوهم عن الاتجاه للعمل لمجتمعاتهم والجهاد لدينهم وصد عدوان المعتدين على شعوبهم وبلادهم، حتى أصبح كثير من شباب المسلمين مخدرين، عالة على مجتمعهم، أو يعيشون رهن السجون، كل ذلك من آثار رواج تلك المخدرات والمسكرات في بلاد المسلمين؛ فلا حول ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 قوة إلا بالله العلي العظيم. والخمر حرام بأي حال، لا يجوز شربه، لا لذة ولا لتداو ولا لعطش ولا غيره: أما تحريم التداوي بالخمر؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء"، رواه مسلم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". أما تحريم شربه لدفع العطش؛ فلأنه لا يحصل به ري، بل فيه من الحرارة ما يزيد العطش. وإذا شرب المسلم خمرًا أو شرب ما خلط به كالكولونيا ونحوها من الأطياب التي فيها كحول تسكر، متى شرب المسلم شيئا من ذلك مختارًا عالما أن كثيره يسكر فإنه يجب أن يقام عليه الحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر؛ فاجلدوه" رواه أبو داود وغيره. ومقدار حد الخمر ثمانون جلدة؛ لأن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "اجعله كأخف الحدود ثمانين. فضرب عمر ثمانين، وكتب إلى خالد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وأبي عبيدة في الشام". رواه الدارقطني وغيره. وكان هذا بمحضر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فلم ينكره أحد منهم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الحق أن عمر حد الخمر بحد القذف، وأقره الصحابة". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "حد الشرب ثابت بالسنة وإجماع المسلمين أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر وكانوا لا يرتدعون بدونها". وقال: "الصحيح أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، ولا محرمة على الإطلاق، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام؛ كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه .... " انتهى. ويثبت حد الخمر بإقرار الشارب أو بشهادة عدلين. واختلف العلماء: هل يثبت حد الخمر على من وجدت فيه رائحتها على قولين: فقيل: لا يحد بل يعزر، وقيل يقام عليه الحد إذا لم يدع شبهة، وهو رواية عن أحمد وقول مالك واختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 قال شيخ الإسلام: "من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة به أو إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة". وقال ابن القيم رحمه الله: "حكم عمر وابن مسعود بوجوب الحد برائحة الخمر في الرجل أو غيره، ولم يعلم لهما مخالف" انتهى. وخطر الخمر عظيم، وهي مطية الشيطان التي يركبها للإضرار بالمسلمين، {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} . والخمر أم الخبائث، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فيها عشرة؛ حيث قال: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها وحاملها، والمحمولة إليه". فيجب على المسلمين أن يقفوا في مقاومتها موقف الحزم والشجاعة؛ بحسم مادتها، وعقوبة من يتعاطاها أو يروجها بالعقوبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 الرادعة؛ فإنها تجر إلى كل شر، وتوقع في كل رذيلة، وتثبط عن كل خير، كفى الله المسلمين شرها وخطرها. وقد ورد في الحديث: أن قوما في آخر الزمان يستحلونها، وقد يسمونها بغير اسمها، ويشربونها؛ فيجب على المسلمين أن يكونوا حذرين متيقظين لأولئك الأشرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 باب في أحكام التعزير التعزير لغة: المنع، ويطلق التعزير ويراد به النصرة؛ لأنه يمنع المعادي من الإيذاء، قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} ؛ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم؛ ويقال عزرته بمعنى أدبته؛ فهو من الأضداد. ومعنى التعزير في الاصطلاح الفقهي: التأديب، سمي بذلك لأنه يمنع مما لا يجوز فعله، ولأنه طريق إلى التوقير؛ لأن المعزَّر إذا امتنع بسببه من فعل ما لا ينبغي؛ حصل له الوقار. وحكم التعزير في الإسلام: أنه واجب في فعل كل معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ من فعل المحرمات، وترك الواجبات. ويفعله ولي الأمر إذا رأى المصلحة فيه، ويتركه إذا رأى المصلحة في تركه، ولا يحتاج في إقامة التعزير إلى مطالبة، فيعزَّر المعتدي ولو لم يطلب المعتدى عليه، ومرجعه إلى اجتهاد الحاكم؛ حيث كانت الجرائم تتفاوت في الشدة والضعف والكثرة والقلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 والصحيح أنه ليس فيه حد معين، لكن إذا كانت المعصية في عقوبتها مقدر من الشارع كالزنى والسرقة؛ فلا يبلغ بالتعزير الحد المقدر. وقد يصل التعزير إلى القتل إذا اقتضته المصلحة؛ مثل قتل الجاسوس، وقتل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى غير كتاب الله وسنة نبيه .... وغير ذلك مما لا يندفع إلا بالقتل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا أعدل الأقوال، وعليه دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين؛ فقد أمر بضرب الذي أحلت له امرأته جاريتها مئة، وأبو بكر وعمر أمرا بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مئة مئة وضرب عمر صبيعا ضربا كثيرًا". وقال الشيخ: "إذا كان المقصود دفع الفساد، ولم يندفع إلا بالقتل؛ قتل، وحينئذ؛ فمن تكرر منه جنس الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة، بل استمر على الفساد؛ فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل، فيقتل". ولا حد لأقل التعزير؛ لتفاوت الجرائم بالشدة والضعف واختلاف الأحوال والأزمان؛ فجعلت العقوبات على بعض الجرائم راجعة إلى اجتهاد الحاكم بحسب الحاجة والمصلحة، ولا تخرج عما أمر الله به ونهى عنه، وكما يكون التعزير بالضرب يكون الحبس والصفع والتوبيخ والعزل عن الولاية ونحو ذلك ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 "وقد يكون التعزير بالنيل من عرضه؛ كيا ظالم! يامعتدي! وبإقامته من المجلس". والذين أجازوا الزيادة في التعزير على عشرة أسواط أجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط؛ إلا في حد من حدود الله"، متفق عليه، بأن المراد بالحد هنا المعصية، لا العقوبات المقدرة في الشرع، بل المراد المحرمات، وحدود الله محارمه، فيعزر بحسب المصلحة على قدر الجريمة. ولا يجوز أن يكون التعزير بقطع عضو أو بجرح المعزَّر أو حلق لحيته؛ لما في ذلك من المثلة التشويه؛ كما لا يجوز أن يعزَّر بحرام؛ كسقيه خمرًا. ومن عرف بأذية الناس وأذى مالهم بعينه، حبس حتى يموت أو يتوب. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "يحبس وجوبا، ذكره غير واحد من الفقهاء، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف؛ لأنه من نصيحة المسلمين وكف الأذى عنهم". وقال: "العمل في السلطنة بالسياسة هو الحزم؛ فلا يخلو منه إمام؛ ما لم يخالف الشرع، فإذا ظهرت أمارات العدل، وتبين وجهه بأي طريق؛ فثم شرع الله؛ فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 بل موافقة لما جاء به، بل جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق؛ فقد حبس صلى الله عليه وسلم في التهمة، وعاقب في التهمة لما ظهرت آثار الريبة، فمن أطلق كلاً منهم وخلى سبيله، أو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض؛ فقوله مخالف للسياسة الشرعية، بل يعاقبون أهل التهم، ولا يقبلون الدعوى التي تكذبها العادة والعرف". وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله في أهل الشعوذة: "يعزر الذي يمسك الحية ويدخل النار ونحوه". ويعزر من ينتقص مسلما بأنه مسلماني، ومن قال لذمي: يا حاج! أو سمى من زار القبور والمشاهد حاجّا ... ونحو ذلك. وإذا ظهر كذب المدعي بما يؤذي به المدعى عليه؛ عزر، ويلزمه ما غرم بسببه ظلما؛ لتسببه في ظلمه يغير حق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 باب في حد السرقة قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً". وأجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق في الجملة. والسارق عنصر فاسد في المجتمع، إذا ترك؛ سرى فساده في جسم الأمة؛ فلا بد من حسمه بتطبيق الحد المناسب لردعه، ومن ثم شرع الله سبحانه وتعالى قطع يده، تلك اليد الظالمة التي امتدت إلى ما لا يجوز لها الامتداد إليه، تلك اليد التي تهدم ولا تبني، تأخذ ولا تعطي. والسرقة هي: أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه، إذا كان هذا الآخذ ملتزما لأحكام الإسلام، وكان المال المأخوذ بلغ النصاب، وقد أخذه من حرز مثله، وكان مالك المال المأخوذ معصوما، ولا شبهة للآخذ منه. فلا بد أن يستجمع السارق والمسروق منه والمال المسروق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وكيفية السرقة أوصافا محددة تضمنها هذا التعريف متى اختل وصف منها؛ انتفى القطع، وهذه الأوصاف هي: أن يكون الأخذ على وجه الخفية، فإن لم يكن على وجه الخفية؛ فلا قطع؛ كما لو انتهب المال على وجه الغلبة والقهر على مرأى من الناس، أو اغتصبه؛ لأن صاحب المال حينئذ يمكنه طلب النجدة والأخذ على يد الغاشم والغاصب. قال الإمام ابن القيم: "إنما قطع السارق دون المنتهب والمغتصب؛ لأنه لا يمكن التحرز منه؛ فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، فلو لم يشرع قطعه؛ لشرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة" انتهى. وقال صاحب "الإفصاح": "اتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب على عظم جنايتهم وآثامهم لا قطع على واحد منهم، ويسوع كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة الرادعة". ومن الأوصاف التي توجب القطع في السرقة: أن يكون المسروق مالاً محترما؛ لأن ما ليس بمال لا حرمة له؛ كآلة اللهو والخمر والخنزير والميتة، وما كان مالاً، لكنه غير محترم، لكون مالكه كافرًا حربيا؛ فلا قطع فيه؛ لأن الكافر الحربي حلال الدم والمال. ومن الأوصاف التي يجب توافرها في القطع في السرقة: أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 المسروق نصابا، وهو ثلاثة دراهم إسلامية، أو أربع دينار إسلامي، أو ما يقابل أحدهما من النقود الأخرى، أو أقيام العروض المسروقة في كل زمان بحسبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينا فصاعدا"، رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم. وفي تخصيص القطع بهذا القدر حكمة ظاهرة؛ فإن هذا القدر يكفي المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبا؛ فانظر كيف تقطع اليد في سرقة ربع دينار مع أن ديتها لو جنى عليها خمس مئة دينار؛ لأنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت، ولهذا لما اعترض بعض الملاحدة وهو المعري بقوله: يدُ بخمس مئين عسجد وُدِيَت ... ما بالُها قُطعت في رُبُع دينار أجابه بعض العلماء بقوله: عزُ الأمانة أغلاها وأرخصها ...... ذُلَّ الخيانةُ فافهم حكمة الباري ومن الأوصاف التي يجب توافرها للقطع في السرقة: أن يأخذ المسروق من حرزه، وحرز المال: ما العادة حفظه فيه؛ لأن الحرز معناه الحفظ، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه؛ فالأموال الثمينة حرزها في الدور والدكاكين والأبنية الحصينة وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة، وما دون ذلك حرزن بحسبه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 عادة البلد، فإن سرقه من غير حرز، كما لو وجد بابا مفتوحا، أو حرزًا معتوكا، فأخذه منه؛ فلا قطع عليه ولا بد أن تنتفي الشبهة عن السارق فيما أخذ، فإن كان له شبهة يظنها تسوِّغ له الأخذ؛ لم يقطع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم"؛ فلا قطع عليه بسرقته من مال أبيه ولا بسرقته من مال ولده؛ لأن نفقة كل منهما تجب من مال الآخر، وذلك شبهة تدرأ عنه الحد، وهكذا كل من له استحقاق في مال؛ فأخذ منه؛ فلا قطع عليه، لكن يحرم عليه هذا الفعل، ويؤدب عليه، ويرد ما أخذ. ولا بد من توافر ما سبق من الصفات من ثبوت السرقة: إما بشهادة عدلين يصفان كيفية السرقة وحرزها وقدر المسروق وجنسه؛ لتزول الاحتمالات والشبهات، وإما بإقرار السارق مرتين على نفسه بالسرقة؛ لما روى أبو داود؛ أنه صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف، فقال له: "ما أخالك سرقت" قال: بلى. فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا؛؛ فأمر به، فقطع. ولا بد في إقراره أن يصف السرقة؛ ليندفع احتمال أنه يظن القطع فيما لا قطع فيه، وليعلم توافر شروط أو عدم توافرها. ولا بد أن يطالب المسروق منه بماله، فلو لم يطالب؛ لم يجب القطع لأن المال يباح بإباحة صاحبه وبذله له، فإذا لم يطالب؛ احتمل أنه سمح به له، وذلك شبهة تدرأ الحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 وإذا وجب القطع لتكامل شروطه؛ قطعت يده اليمنى؛ لقراءة ابن مسعود في قوله تعالى: {فاقطعوا أيمانهما} ، ومحل القطع من مفصل الكف؛ لأن اليد آلة السرقة، فعوقب بإعدام آلتها، واقتصر القطع على الكف؛ لأن اليد إذا أطلقت؛ انصرفت إليه، وبعد قطعها يعمل لها ما يحسم الدم ويندمل به الجرح من أنواع العلاج المناسبة في كل زمان بحسبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 باب في حد قطاع الطريق الله سبحانه يريد للمسلمين أن يسيروا في أرضه آمنين؛ لتبادل مصالحهم، وتنمية أموالهم، وصلة الرحم فيما بينهم، وتعاونهم على البر والتقوى، ولا سيما السفر إلى بيته العتيق؛ لأداء شعيرة الحج والعمرة. فمن أراد أن يعوق سيرهم، أو يسد طريقهم، أو يخوفهم في أسفارهم؛ فقد شرع له حدًا رادعا، يزيل هذا العائق، ويميط الأذى عن الطريق، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . والمراد بالمحاربين الذين يسعون في الأرض فسادًا: قطاع الطريق، وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء أو البنيان، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة. ويشترط لتطبيق الحد عليهم أن يبلغ ما أخذوه نصاب السرقة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وأن يأخذوه من حرز؛ بأن يأخذوا المال من يد صاحبه وهو في القابلة، وأن يثبت قطعهم للطريق بإقرارهم أو بشهادة عدلين. وحدهم يختلف باختلاف جرائمهم: فمن قتل منهم وأخذ المال؛ قتل حتما وصلب حتى يشتهر أمره، ولا يجوز العفو عنه بإجماع العلماء؛ كما حكاه ابن المنذر. ومن قتل ولم يأخذ المال؛ قتل حتما ولم يصلب. ومن أخذ المال، ولم يقتل؛ قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد، وحسمت عن النزيف، ثم خلي. ومن أخاف السبيل فقط، ولم يقتل، ولم يأخذ مالاً؛ نفي من الأرض؛ بأن يشرد؛ فلا يترك يأوي بلد، بل يطارد. فتختلف عقوبتهم باختلاف جرائمهم؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} ، فهذه الآية نزلت في قطاع الطريق عند أكثر السلف، وهي الأصل في حكمهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا قتلوا وأخذوا المال؛ قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا يأخذوا المال؛ قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا؛ قطعت لأيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً؛ نفوا من الأرض"، رواه الشافعي. ولو قتل بعضهم؛ ثبت حكم القتل عليهم جميعا، وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم؛ قتلوا جميعا وصلبوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 ومن تاب منهم قبل القدرة عليه؛ سقط عنه ما كان واجبا لله تعالى من نفي عن البلد وقطع يد ورجل وتحتم قتل، وأخذ بما للآدميين من الحقوق من نفس وطرف ومال؛ إلا أن يعفى له عنها من مستحقيها؛ لقوله تعالى: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اتفقوا على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر، ثم تابوا بعد ذلك؛ لم يسقط الحد عنهم، بل تجب إقامته، وإن تابوا، وإن كانوا صادقين في التوبة". فاستثناء التوبة قبل القدرة عليهم فقط؛ فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد؛ للعموم والمفهوم والتفصيل، ولئلا يتخذ ذريعة إلى تعطيل حدود الله؛ ‘ذ لا يعجز عليه الحد أن يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة. ومن صال على نفسه من يريد قتله، أو صال على حرمته كأمه وبنته وأخته وزوجته من يريد هتك أعراضهن، أو صال على ماله من يريد أخذه أو إتلافه؛ فله الدفع عن ذلك، سواء كان الصائل آدميا أو بهيمة، فيدفعه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه؛ لأنه لو منع من الدفع؛ لأدى ذلك إلى تلفه وأذاه في نفسه وحرمته وماله، ولأنه لو لم يجز ذلك؛ لتسلط الناس بعضهم على بعض، وإن لم يندفع الصائل إلا بالقتل؛ فله قتله، ولا ضمان عليه؛ لأنه قتله لدفع شره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 وإن قتل المصول عليه؛ فهو شهيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أريد ماله بغير حق، فقاتل، فقتل؛ فهو شهيد". وروى مسلم وغيره من أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال: أرأيت أن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار". وهذا الدفع عن النفس غيره وعن حرمته عليه إذا لم يؤد إلى الفتنة؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . ويلزمه الدفع عن نفي غيره وعن حرمة غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، ومعنى نصرته إذا كان ظالما منعه من الظلم. وإذا دخل لص في منزل إنسان؛ فحكمه حكم الصائل؛ بأن يدفعه بالأسهل فالأسهل. ومن نظر في بيت رجل من خصاص باب أو نافذة أو من فوق سطح؛ فله دفعه ومنعه من ذلك، ولو أصاب عينه ففقأها؛ فهي هدر، وكذا لو طعنه بعود، فأتلف عينه؛ فهي هدر؛ لحديث: "من اطلع في بيت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 ففقئت عينه؛ فلا دية ولا قصاص". وهذا لحرمة المسلم وحرمة ماله وعرضه وكرامته عند الله. وهذا هو عدل الإسلام، وحفاظه على سلامة المجتمع، وانتظام مصالحه؛ لتعمر البلاد، ويأمن العباد، وتنتظم المواصلات بين الأقطار، فيسير الناس فيها ليالي وأياما آمنين. ولا صلاح للبشرية إلا بتطبيق هذا التشريع الحكيم؛ فقد عجزت أنظمة الأرض كلها وقواها المادية أن تحقق للناس شيئا من الأمن المنشود بدون تطبيق هذه الشريعة، وصدق الله العظيم: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 باب في قتال أهل البغي قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ؛ فأوجب تعالى في هذه الآية الكريمة على المؤمنين قتال الباغين إذا لم يقبلوا الصلح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم، وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه"، رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "من خرج على أمتي وهم جميع؛ فاضربوا عنقه بالسيف، كائنا من كان"، رواه مسلم أيضا. وأجمع الصحابة على قتال الباغي. والبغي في الأصل معناه: الجور والظلم والعدول عن الحق. فأهل البغي هم: أهل الجور والظلم والعدول عن الحق ومخالفة ما عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 أئمة المسلمين، ذلك أنه لابد للمسلمين من جماعة وإمام؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد"، وهذا من الضروريات؛ لأن بالناس حاجة إلى ذلك؛ لحماية البيضة، والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر المسلمين من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا الدنيا إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا باجتماع الجماعة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، وقد أجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض؛ تنبيها بذلك على أنواع الاجتماع". وقال رحمه الله: "من المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، ولو تولى من الظلمة؛ فهو خير لهم من عدمهم؛ كما يقال: سنة من إمام جائر خير من ليلة بلا إمارة .... " انتهى. فإذا خرج على الإمام قوم لهم شوكة ومنعة بتأويل مشتبه، يريدون خلعه أو مخالفته وشق عصا الطاعة وتفريق الكلمة؛ فهم بغاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 ظلمة؛ فيجب على الإمام أن يراسلهم فيسألهم عما ينقمون عليه، فإن ذكروا مظلمة؛ أزالها، وإن ادعوا شبهة؛ كشفها؛ لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . والإصلاح إنما يكون بذلك، فإن كان ما ينقمون منه مما لا يحل فعله؛ أزاله، وإن كان حلالاً، لكن التبس عليهم، فاعتقدوا أنه مخالف للحق؛ بيَّن لهم دليله، وأظهر لهم وجهه، فإن فاؤوا ورجعوا إلى الحق والتزموا الطاعة؛ تركهم، وإن لم يرجعوا؛ قاتلهم وجوبا، وعلى رعيته معونته؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ؛ فيجب قتالهم حتى يندفع شرهم، وتطفأ فتنتهم. ويتجنب في قتالهم الأمور التالية: أولاً: يحرم قتالهم بما يعم؛ كالقذائف المدمرة. ثانيا: يحرم قتل ذريتهم ومدبرهم وجريحهم ومن ترك القتال منهم. ثالثا: من أسر منهم؛ حبس حتى تخمد الفتنة. رابعا: لا تغنم أموالهم؛ لأنها كأموال غيرهم من المسلمين، لا يجوز اغتنامها؛ لبقاء ملكهم عليها، وبعد انقضاء القتال وخمود الفتنة من وجد منهم ماله بيد غيره؛ أخذه، وما تلف منه حال الحرب؛ فهو هدر، ومن قتل من الفريقين في الحرب غير مضمون. قال الزهري: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أنه لا يقاد لأحد، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن؛ إلا ماوجد بعينه" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وقال في "الإفصاح": "اتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي؛ فلا ضمان فيه، وما يتلفه أهل البغي كذلك". وإن اقتتلت طائفتان من المسلمين، ولم تكن واحدة منهما في طاعة الإمام، بل لعصبية بينهما، أو طلب رئاسة؛ فهما ظالمتان؛ لأن كلاً منهما باغية على الأخرى؛ حيث لا ميزة لواحدة منهما؛ فتضمن كل واحدة منهما ما أتلفه على الأخرى، وإن كانت إحداهما تقاتل بأمر الإمام؛ فهي محقة، والأخرى باغية كما سبق. وإن أظهر قوم رأي الخوارج؛ كتكفير مرتكبي الكبيرة، واستحلال دماء المسلمين، وسب الصحابة، فإنهم يكونون خوارج بغاة فسقة، فإن أضافوا إلى ذلك الخروج على قبضة إمام المسلمين؛ وجب قتالهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الخوارج: "أهل السنة متفقون على أنهم مبتدعة، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة، بل قد اتفق الصحابة على قتالهم، ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل، وهل يقاتلون من أئمة الجور؟ نقل عن بعض أهل العلم أنهم يقاتلون، وكذلك من نقض العهد من أهل الذمة، وهو قول الجمهور، وقالوا: يغزى مع كل أمير برّاً كان أو فاجرًا إذا كان الغزو الذي يفعله جائزًا، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالاً مشروعا؛ قوتل معه، وإن كان قتالاً غير جائز؛ لم يقاتل معه" انتهى كلامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 وإن لم يخرج هؤلاء الذي أظهروا رأي الخوارج عن قبضة الإمام، ولم يشقوا عصا الطاعة؛ لم يقاتلوا، وأجريت عليهم أحكام الإسلام، لكن يجب تعزيرهم، والإنكار عليهم، وعدم تمكينهم من إظهار رأيهم ونشر بدعتهم بين المسلمين. هذا على القول بعدم تكفيرهم؛ كما عليه الجمهور، وأما من يرى كفر الخوارج؛ فإنه يجب عنده قتالهم بكل حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 باب في أحكام الردة المرتد في اللغة: هو الراجع، يقال: ارتد فهو مرتد: إذا رجع، قال تعالى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} ؛ أي: لا ترجعوا. والمرتد في الاصطلاح: هو الذي يكفر بعد إسلامه طوعا بنطق أو اعتقاد أو شك أو فعل. والمرتد له حكم في الدنيا، وحكم في الآخرة: أما حكمه في الدنيا؛ فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "من بدَّل دينه فاقتلوه"، وأجمع العلماء على ذلك، وما يتبع ذلك من عزل زوجته عنه ومنعه من التصرف في ماله قبل قتله. وأما حكمه في الآخرة؛ فقد بينه الله تعالى: بقوله {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . والردة تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام، سواء كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 جادّاً أو هازلاً أو مستهزئا، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . أما المكره إذا نطق بسبب الإكراه؛ فإنه لا يرتد؛ لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ} . ونواقض الإسلام التي تحصل بها الردة كثيرة: من أعظمها الشرك بالله تعالى: فمن أشرك بالله تعالى؛ بأن دعا غير الله من الموتى والأولياء والصالحين؛ أو ذبح لقبورهم، أو أنذر لها، أو طلب الغوث والمدد من الموتى؛ كما يفعل عباد القبور اليوم؛ فقد ارتد عن دين الإسلام؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم؛ كفر إجماعا. وكذلك من جحد بعض الرسل أو بعض الكتب الإلهية؛ فقد ارتد؛ لأنه مكذب لله، جاحدًا لرسول من رسله أو كتاب من كتبه. وكذلك جحد الملائكة أو جحد البعث بعد الموت؛ فقد كفر؛ لأنه مكذب للكتاب والسنة والإجماع. وكذلك من سب الله تعالى أو سب نبيا من أنبيائه؛ فقد كفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وكذلك من ادعى النبوة، أو صدَّق من يدعيها بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد كفر؛ لأنه مكذب لقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . ومن جحد تحريم الزنى، أو جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر، أو حرم شيئا مجمعا على حله؛ مما لا خلاف في حله؛ كالمذكاة من بهيمة الأنعام؛ فقد كفر. وكذلك من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام". ومن استهزأ بالدين، أو امتهن القرآن الكريم، أو زعم أن القرآن نقص منه شيء، أو كتم منه شيء؛ فلا خلاف في كفره". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وباتفاق جميع المسلمين أن من سوَّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض". وقال: "ومن سخر بوعد الله أو بوعيده، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ كفر إجماعا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 وقال: "من سب الصحابة أو أحدًا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليّا إله أو نبي، وأن جبريل غلط؛ فلا شك في كفره" انتهى كلامه رحمه الله. ومن حكم القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية؛ يرى أنها أصلح للناس من الشريعة الإسلامية، أو اعتنق فكرة الشيوعية أو القومية بديلاً عن الإسلام؛ فلا شك في ردته. وأنواع الردة كثيرة؛ مثل من ادعى علم الغيب، ومثل من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو يصحح ما هم عليه، ومثل من يعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غير النبي صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، ومثل من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه، وكذلك ظاهر المشركين وأعانهم على المسلمين، ومن اعتقد أن بعض الناس يجوز له الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كغلاة الصوفية، ومن أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به؛ كل هذه الأمور من أسباب الردة ومن نواقض الإسلام. قال الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله: "ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف؛ إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعا؛ فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه". هذه نماذج من نواقض الإسلام، وهي أكثر مما ذكر بكثير؛ فعليك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 أن تتعلمها وتعرفها لتحذر منها وتتجنبها؛ فإن من لا يعرف الشرك؛ يوشك أن يقع فيه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". وإني أنصحك أن تقرأ كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب "المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشرحها للعلامة العراقي محمود شكري الألوسي رحمه الله. فمن ارتد عن دين الإسلام؛ فإنه يجب أن يستتاب ويمهل ثلاثة أيام، فإن تاب، وإلا قتل؛ لقول عمر رضي الله عنه لما بلغه أن رجلاً كفر بعد إسلامه فضربت عنقه بعد استتابته، فقال: "فهلا حبستموه ثلاثا، فأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه؛ لعله يتوب أو يراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني"، رواه مالك في "الموطأ". ولأن الردة لا تكون إلا لشبهة، ولا تزول في الحال؛ فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها، وأما الدليل على وجوب قتله إذا لم يتب؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، رواه البخاري وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 والذي يتولى قتله هو الإمام أو نائبه؛ لأنه قتل لحق الله؛ فكان إلى ولي الأمر. والحكمة في وجوب قتل المرتد: أنه لما عرف الحق وتركه؛ صار مفسدًا في الأرض، لا يصلح للبقاء؛ لأنه عضو فاسد، يضر المجتمع، ويسيء إلى الدين. وتحصل توبة المرتد بالشهادتين؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، ومن كانت ردته بسبب جحوده لشيء من ضروريات الدين؛ فتوبته مع إتيانه بالشهادتين إقراره بما جحده. ويمنع المرتد من التصرف في ماله؛ لتعلق حق الغير به؛ كمال المفلس، ويقضى ما عليه من ديون، وينفق عليه من ماله وعلى عياله مدة منعه من التصرف فيه، فإن أسلم المرتد؛ أخذ ماله ومكن من التصرف فيه لزوال المانع، وإن مات على ردته أو قتل مرتدًا؛ صار ماله فيئا لبيت مال المسلمين من حين موته؛ لأنه لا وراث له؛ فلا يرثه أحد من المسلمين؛ لأن المسلم لا يرث الكافر، ولا يرثه أحد من الكفار، ولو من أهل الدين انتقل إليه؛ لأنه لا يقر على ردته، والمرتد لا يرث من كافر ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 مسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" 1. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم قبول توبة من سب الله تعالى أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم: فقال بعضهم: لا تقبل توبته في أحكام الدنيا كترك قتله وتوريثه والتوريث منه، وإنما يقتل على كل حال؛ لعظم ذنبه وفساد عقيدته واستخفافه بالله تعالى. والقول الثاني: أنه تقبل توبته؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} . وكذلك اختلف العلماء رحمهم الله في قبول توبة من تكررت ردته: فقال بعضهم: إنها لا تقبل في الدنيا؛ فلا بد من تنفيذ حكم المرتد فيه، ولو تاب؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} . وقيل: تقبل توبته؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ؛ فالآية عامة، تتناول بعمومها من تكررت ردته.   1 ومن الأحكام المتعلقة بالمرتد أنه يفرق بينه وبين زوجته، فإن تاب قبل انقضاء عدتها؛ رجعت إليه، وإن انقضت عدتها قبل أن يتوب؛ تبين فسخ النكاح منذ ارتد، وكذا لو كانت الردة قبل الدخول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وكما اختلفوا في قبول توبة الزنديق، وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر: فقيل: لا تقبل توبته؛ لأنه لا يبين منه ما يظهر رجوعه إلى الإسلام، والله تعالى يقول: {إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} ، فإذا أظهر التوبة؛ لم يزد على ما كان قبلها، وهو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر. وقيل: تقبل توبة الزنديق؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين بما أظهروا من الإسلام. ومن الزنادقة: الحلولي، والإباحية، ومن يفضل متبوعة على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن يرى أنه إذا حصلت له المغرفة؛ سقط عنه الأمر والنهي، أو أنه إذا حصلت له المعرفة؛ جاز له التدين بدين اليهود والنصارى وأمثالهم من الطوائف المارقة عن الإسلام من غلاة الصوفية وغيرهم. كما اختلف العلماء رحمهم الله في صحة إسلام الطفل المميز ووقوع الردة منه؛ فقيل: تحصل منه الردة إذا ارتكب شيئا من أسبابها؛ لأن من صح إسلامه؛ صحت ردته، والمميز يصح إسلامه، فتصح ردته، لكن لا يقبل حتى يستتاب بعد البلوغ ويمهل ثلاثة أيام، فإن تاب؛ قبلت توبته، وإن بقي على ردته؛ قتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 وقد اختلفوا فيمن ترد الصلاة تهاونا مع إقراره بوجوبها، والصحيح أنه يكفر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر الصلاة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها؛ فقد كفر"، ولقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ؛ فدلت الآية الكريمة على أن من لم يقم الصلاة؛ فليس من إخواننا في الدين، ولم يقل: وأقروا بوجوب الصلاة، وإنما قال: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة ... " الحديث، ولم يقل: والإقرار بوجوب الصلاة، وإنما قال: "وإقام الصلاة". وقد كثر اليوم التهاون بالصلاة والتكاسل عنها، والأمر خطير جدًا، فيجب على من يتهاون بالصلاة أن يتوب إلى الله، وينقذ نفسه من النار؛ فإن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي تنهى عن الفحشاء والآثام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 كتاب الأطعمة باب في أحكام الأطعمة لما كان الطعام يتغذى به جسم الإنسان، وينعكس أثره على أخلاقه وسلوكه؛ فالأطعمة الطيبة يكون أثرها طيبا على الإنسان، والأطعمة الخبيثة بضد ذلك، ولذلك أمر الله العباد بالأكل من الطيبات، ونهاهم عن الخبائث: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} . وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} . قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} . قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق} . والأطعمة جمع طعام، وهو ما يؤكل ويشرب. والأصل فيها الحل؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} ، وغير ذلك من النصوص الكتاب والسنة التي تدل على أن الأصل في الأطعمة الحل؛ إلا ما استثني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأصل فيها الحل لمسلم عمل صالحا؛ لأن الله تعالى إنما أحل الطيبات لمن يستعين بها على طاعته، ولا على معصيته؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ، ولهذا لا يجوز أن يستعان بالمباح على المعصية؛ كمن يعطي اللحم والخبز من يشرب عليه الخمر ويستعين به على الفواحش، ومن أكل الطيبات ولم يشكر؛ فمذموم، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ؛ أي: عن الشكر عليه" انتهى. فالله تعالى أباح لعباده المؤمنين الطيبات لكي ينتفعوا بها، وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} . وقد بين الله لعباده ما حرمه عليهم من المطاعم والمشارب: قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه} ، فما لم يبين تحريمه؛ فهو حلال. قال النبي صلى الله عليه وسل: "إن الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها، وحد حدودًا؛ فلا تعتدوها، وحرم أشياء؛ فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها" قال النووي رحمه الله: "حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 فكل ما لم يبين الله ولا رسوله تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس؛ فلا يجوز تحريمه؛ فإن الله قد فصل لنا ما حرم؛ فما كان حراما؛ فلا بد أن يكون تحريمه مفصلاً؛ فكما أنه لا يجوز إباحة ما حرم الله؛ فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا الله عنه ولم يحرمه. والقاعدة في ذلك: أن كل طعام طاهر لا مضرة فيه؛ فهو مباح؛ بخلاف الطعام النجس؛ كالميتة، والدم، والرجيع، والبول، والخمر، والحشيشة، والمتنجس، وهو الذي خالط النجاسة؛ فإنه يحرم؛ لأنه خبيث مضر؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية. فأما الميتة؛ فهي ما فارقته الحياة بدون ذكاة شرعية، وحرمت لما فيها من خبث التغذية، والغاذي شبيه بالمغتذي، ومن محاسن الشريعة تحريمهن فإن اضطر إليه؛ أبيح له، وانتفى وجه الخبث منه حال الاضطرار؛ لأنه غير مستقل بنفسه في المحل المغتذي به، بل هو متولد من القابل والفاعل؛ فإن ضرورتة تمنع قبول الخبث الذي في المغتذي به، فلم تحصل تلك المفسدة؛ لأنها مشروطة بالاختيار الذي به يقبل المحل خبث التغذي، فإذا زال الاختيار؛ زال شرط القبول، فلم تحصل المفسدة أصلاً. وأما الدم؛ فالمراد به المسفوح منه، وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر، ويشوونه، ويأكلونه، فأما ما يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى في العروق؛ فمباح، حتى لو مسه بيده فظهر عليها أو مسه بقطنة؛ لم ينجس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصحيح أنه إنما يحرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 الدم المسفوح المصبوب المهراق، فأما ما يبقى في عروق اللحم؛ فلم يحرمه أحد من العلماء" انتهى. ولا يحل من الأطعمة ما فيه مضرة كالسم والخمر والحشيشة والدخان التبغ؛ لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، فالآية الكريمة تدل على تحريم أكل أو شرب كل ما فيه مضرة، مع أدلة أخرى تدل على تحريم الأطعمة والأشربة الضارة للعقول والأبدان. والأطعمة المباحة على نوعين: حيوانات ونباتات كالحبوب والثمار، فيباح منها كل ما لا مضرة فيه. والحيوانات على نوعين: حيوانات تعيش في البر، وحيوانات تعيش في البحر. فحيوانات البر مباحة؛ إلا أنواعا منها حرمها الشارع: ومن ذلك: الحمر الأهلية؛ لحديث جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسل نهى يوم خبير عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل"، متفق عليه. قال ابن المنذر: "لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها". وحرم من حيوانات البر أيضا ما له ناب يفترس به؛ لقول أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسل عن كل ذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ناب من السباع"، متفق عليه، ويستثنى من ذلك الضبع، فيحل، لحديث جابر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسل بأكل الضبع". قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "إنما حرم ما له ناب من السباع العادية بطبعها كالأسد، وأما الضبع؛ فإنما أحد الوصفين، وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث للمغتذي بها شبها، ولا تعد الضبع من السباع العدية، لا لغة ولا عرفا ... " انتهى. والطيور مباحة؛ إلا ما استثنى؛ فيحرم من الطير ماله مخلب يصيد به، وهو الظفر الذي يصيد به الحيوانات؛ كالعقاب والبازي والصقر؛ لقول ابن عباس: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسل عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطيور"، رواه أبو داود وغيره. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسل بالنهي عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث على وابن عباس وأبي هريرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 وأبي ثعلبة الخشني" اهـ ويحرم من الطيور أيضا ما يأكل الجيف؛ كالنسر، والرخم، والغراب، وذلك لخبث ما يتغذى به. ويحرم من الحيوانات ما يستخبث؛ كالحية، والفأرة، والحشرات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أكل الحيات والعقارب حرام مجمع عليه، فمن أكلها مستحلا لها؛ استتيب، ومن اعتقد التحريم وأكلها؛ فهو فاسق عاص الله ورسوله". وتحرم الحشرات لأنها من الخبائث. ويحرم من الحيوانات أيضا ما تولد من مأكول وغيره؛ كالبغل من الخيل والحمر الأهلية؛ تغليبا لجانب التحريم. وقد أجمل بعض العلماء ما يحرم من حيوانات البر في ستة أنواع هي: 1 ما نص عليه بعينه؛ كالحمر الأهلية. 2 ما وضع له حد وضابط؛ كما له ناب من السباع أو مخلب من الطير. 3 ما يأكل الجيف؛ كالرخم والغراب. 4 ما يستخبث؛ كالفأرة والحية. 5 ما تولد من مأكول وغير مأكول؛ كالبغل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 6 ما أمر الشارع بقتله أو نهى عن قتله؛ كالفواسق الخمس والهدهد والصرد. وما عدا ما ذكر من الحيوانات والطيور؛ فهو حلال على أصل الإباحة؛ كالخيل، وبهيمة الأنعام، والدجاج، والحمر الوحشية، والظباء، والنعامة، والأرنب، وسائر الوحوش؛ لأن ذلك كله مستطاب، فيدخل في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} . ويستثنى من ذلك الجلاّلة من البقر والإبل، وهي التي أكثر علفها النجاسة، فيحرم أكلها؛ لما روى أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر: "نهى عن أكل الجلالة وألبانها"، ومن حديث عمرو بن شعيب: "نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وعن ركوب الجلالة وأكل لحمها"، سواء في ذلك بهيمة الأنعام أو الدجاج ونحوه، ولينها وبيضها نجس حتى تحبس ثلاثا وتطعم الطاهر فقط. قال ابن القيم: "أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست وعلفت الطاهرات؛ حل لبنها ولحمها، وكذا الزرع والثمار: إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر؛ حلت؛ لاستحالة وصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 الخبيث وتبدله بالطيب" انتهى. ويكره أكل بصل وثوم ونحوهما مما له رائحة كريهة، خصوصا عند حضور المساجد؛ لقوله صلى الله عليه وسل: "من أكل هذه الشجرة؛ فلا يقر بن مصلانا". ومن اضطر إلى محرم بأن خاف التلف إن لم يأكله غير السم؛ حل له منه ما يسد رمقه "أي: يمسك قوته ويحفظها"؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، ومن اضطر إلى طعام مع غيره اضطرار صاحب ذلك الطعام إليه؛ لزم بذله له بقدر ما يسد رمقه بقيمته. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن كان المضطر فقيرًا؛ لم يلزمه عوض؛ إذ إطعام الجائع وكسوة العاري فرض كفاية ويصيران فرض عين على المعين إذا لم يقم غيره به" اهـ ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه؛ كثياب لدفع برد، أو حبل أو لاستقاء ماء، وكقدر لطبخ؛ وجب يذله له مجانا، مع عدم حاجة صاحبه إليه؛ لأن الله تعالى ذم على منعه بقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} . قال ابن عباس مسعود وغيرهما: "الماعون هو ما يتعاطاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 الناس بينهم ويتعاورونه من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك". ومن مر بثمر بستان في شجرهن أو متساقط عنه، ولا حائط عليه، ولا ناظر؛ فله الأكل منه مجانا من غير حمل، روي ذلك عن ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهم، وليس له صعود شجرة، ولا رميها بشيء، ولا الأكل من ثمر مجموع؛ إلا لضرورة. فتلخص أن للمار بالبستان أن يأكل من ثمره بشروط: الأول: أن يكون لا حائط عليه وليس عنده حارس. الثاني: أن يكون الثمر على الشجر أو متساقطا عنه لا مجموعا. الثالث: أن لا يحتاج إلى صعود الشجر، بل يتناوله من غير صعود. الرابع: أن لا يحمل معه منه شيء. الخامس: يشترط عند الجمهور أن يكون محتاجا. فإن اختل شرط من هذه الشروط؛ لم يجز له الأكل. وتجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوما وليلة، أما المدن؛ فلا تجب فيها الضيافة؛ فيها المطاعم والفنادق؛ فلا يحتاج إلى الضيافة؛ بخلاف القرى والبوادي. ودليل وجوب الضيافة المذكور قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفة جائزته". قالوا: وما جائزته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 يا رسول الله؟ قال: "يومه وليلته"، متفق عليه، فدل الحديث على وجوب الضيافة؛ لقوله: "من كان يؤمن بالله ... " الخ، وتعليق الإيمان بإكرام الضيف يدل على وجوبه، وفي "الصحيحين": "إن نزلت بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف؛ فاقبلوا، وإن لم يفعلوا؛ فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له". وقصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع ضيفه وتقديمه العجل لهم تدل على أن الضيافة من دين إبراهيم، وتدل على أنه يقدم للضيف أكثر مما يأكل، وهذه من محاسن هذا الدين، ومن مكارم الأخلاق التي لا تزال متواترة في ذريته، حتى أكدها الإسلام، وحث عليها، بل إن دين الإسلام جعل لابن السبيل حقا ضمن الحقوق العشرة المذكورة في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... } إلى قوله: {وَابْنِ السَّبِيل} ، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ، بل جعل له حقا في الزكاة ضمن الأصناف الثمانية، وابن السبيل هو المسافر المنقطع به. فلله الحمد على هذا الدين الكامل والتشريع الحكيم الذي هو هدى ورحمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 باب في أحكام الذكاة لما كان من شرط حل الحيوان البري أن يكون مذكىً الذكاة الشرعية، وأن ما لم تجر عليه تلك الذكاة ميتة حراما؛ كان بحث الذكاة ومعرفة ما يلزم لها مهمّا جدّاً. وقد عرفها الفقهاء رحمهم الله بأنها ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع حلقومه ومريئه أو عقر الممتنع منه، سميت بذلك أخذًا من المعنى اللغوي، إذ الذكاة في اللغة إتمام الشيء؛ لأن ذبح الحيوان معناه إتمام زهوقه، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} ؛ أي: أدركتموه وفيه حياة، فأتممتم زهوقه، ثم استعمل ذلك في الذبح، سواء كان بعد إصابة سابقة، أو ابتداء. وحكم الذكاة: أنها لازمة، لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بدونها؛ لأن غير المذكى يكون ميتة، وقد أجمع أهل العلم على أن الميتة حرام إلا لمضطر، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ؛ إلا السمك والجراد وكل ما لا يعيش إلا في الماء، فيحل بدون ذكاة؛ لحل ميتته؛ لحديث ابن عمر يرفعه: "أحل لنا ميتتان ودمان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 فأما الميتتان: الحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال"، رواه أحمد وغيره، وقال صلى الله عليه وسل في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". ويشترط للذكاة أربع شروط: الشرط الأول: أهلية المذكي؛ بأن يكون عاقلاً، ذا دين سماوي، من المسلمين أو أهل الكتاب؛ فلا يباح ما ذكاه مجنون أو سكران أو طفل لم يميز؛ لأنه لا يصح من هؤلاء قصد التذكية؛ لعدم العقلية فيهم، ولا يحل ما ذكاه كافر وثني أو مجوسي أو مرتد أو قبوري ممن ينادون الموتى ويلوذون بالأضرحة ويطلبون من أصحابها المدد؛ لأن هذا شرك أكبر. وأما الكافر الكتابي، وهو اليهودي أو النصراني؛ فتحل ذبيحة ذبيحته؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ؛ أي: ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى حلُّ لكم أيها المسلمون، وهذا بإجماع المسلمين؛ قال الإمام البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: "طعامهم ذبائحهم". ومفهوم الآية الكريمة أن الكافر غير الكتابي لا تحل ذبيحته، وهذا بالإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 والحكمة في إباحة ذبيحة الكافر الكتابي دون غيره من الكفار: أن أهل الكتاب يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، وتحريم الميتات؛ لما جاءت به أنبياؤهم؛ بخلاف بقية الكفار؛ فإنهم يذبحون للأصنام ويستحلون الميتات. الشرط الثاني: توفر الآلة، فتباح الذكاة بكل محدد ينهر الدم بحدة، سواء كان من الحديد أو الحجر أو غير ذلك، ما عدا السن والظفر؛ فلا يحل الذبح بهما لقوله صلى الله عليه وسل: "ما أنهر الدم؛ فكل، فليس السن والظفر"، متفق عليه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام، إما لنجاسة بعضها، أو لتنجيسها على مؤمني الجن، وتمام الحديث: "وسأحدثكم عن ذلك: أما السن؛ فعظم"؛ أي: ذلك عظم؛ فلا يحل الذبح به، وقال: "وأما الظفر؛ فمدى الحبشة"، أي: فسكين الحبشة؛ فلا يحل الذبح به". الشرط الثالث: قطع الحلقوم، وهو مجرى النفس، وقطع المريء، وهو مجرى الطعام والشراب، وأحد الودجين، وهما الوريدان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وتقطع المريء والحلقوم والودجان، والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربعة يبيح، سواء كان فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 الحلقوم أو لم يكن؛ فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم وأبلغ في إنهار الدم". والسنة نحر إبل؛ بأن يطعنها بمحدد في لبتها، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وذبح غيرها في حلقه. والحكمة في تخصيص الذكاة في المحل المذكور؛ لعدم التمكن منه؛ كالصيد والنعم المتوحشة والواقعة في بئر ونحوها، تكون ذكاته بجرحه في أي موضع من بدنهن ويكفي ذلك في ذكاته؛ لحديث رافع قال: ندَّ بعير، فأهوى إليه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسل: "ما ندَّ عليكم؛ فاصنعوا به هكذا"، متفق عليه، وروى ذلك عن على وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وما أصيب من الحيوانات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 والنطيحة وما أكل السبع، إذا أدركت وفيها حياة مستقرة، فذكيت؛ حلّت؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... } إلى قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ؛ أي: إلا ما أدركتم وفيه حياة، فذكيتموه؛ فليس بمحرم. والمنخنقة: هي التي التف على عنقها حبل ونحون فخنقها. والموقوذة هي التي ضربت بشيء ثقيل. والمتردية: هي التي تسقط من شيء مرتفع. والنطيحة: هي التي نطحها حيوان آخر برأسه. وما أكل السبع؛ أي: افتراسه الذئب ونحوه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الذكاة المجزية في هذه الأنواع: "متى ذبح، فخرج الدم الأحمر الذي من المذكى في العادة، ليس هو دم الميتة؛ فإنه يحل أكله، ولو مع عدم تحركه بيد أو رجل أو طرف عين أو مصع ذنب ونحو ذلك في الأصح ... " انتهى. الشرط الرابع: أن يقول الذابح عند حركة يده بالذبح: بسم الله؛ لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق} . قال الإمام ابن القيم: "لا ريب أن يذكر اسم الله الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح، فإذا أخل به؛ لا بس الشيطان الذابح والمذبوح، فأثر خبثا في الحيوان، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح سمى، فدلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 الآية على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلما ... " انتهى. ويسن مع التسمية التكبير. وللذكاة آداب: فيكره أن يذبح بآلة كالَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسل: "ويحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". ويكره أن يحدها والحيوان يبصره؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسل: "أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم"، رواه أحمد. ويكره أن يوجه الحيوان إلى غير القبلة. ويكره أن يكسر عنقه أو يسلخه قبل أن يبرد. والسنة نحر الإبل قائمة معقول يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم مضجعة على جانبها الأيسر. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 باب في أحكام الصيد الصيد: مصدر صاد يصيد صيدًا، وهو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعا غير عليه، ويطلق على المصيد، فقال للحيوان: صيد؛ تسمية للمفعول باسم المصدر. وحكم الاصطياد: أنه إذا كان لحاجة الإنسان؛ فهو جائز من غير كراهة، وأما إذا كان للهو واللعب لا لأجل الحاجة؛ فهو مكروه، وإن ترتب عليه ظلم للناس بالاعتداء على زروعهم وأموالهم؛ فهو حرام. والدليل على جوازه في غير الحالة الأخيرة: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ؛ وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} . وقال النبي صلى الله عليه وسل: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكل"، متفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 والصيد بعد إصابته وإمساكه له حالتان: الحالة الأولى: أن يدرك وهو حي حياة مستقرة؛ فهذا ل بد من ذكاته الذكاة الشرعية التي سبق بيانها، ولا يحل بالاصطياد. الحالة الثانية: أن يدرك مقتولاً بالاصطياد، أو حيا حياة غير مستقرة؛ ففي هذه الحالة يكون حلالاً إذا توفرت شروط. الشرط الأول: أن يكون الصائد من أهل الذكاة؛ أي: ممن تحل ذبيحته؛ لأن الصائد بمنزلة المذكي، فيشترط فيه الأهلية؛ بأن يكون عاقلاً مسلما أو كتابيا؛ فلا يحل ما صاده مجنون أو سكران؛ لعدم العقلية، ولا ما صاده مجوسي أو ثني ونحوه من سائر الكفار، كما لا تحل ذكاتهم. الشرط الثاني: الآلة، وهي نوعان: الأول: محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح؛ بأن ينهر الدم، ويكون غير سن وظفر، وأن يجرح الصيد بحده لا بثقله، فإذا كانت الآلة التي قتل بها الصيد غير محددة؛ كالحصاة والعصا والفخ والشبكة وقطع الحديد، فإنه لا يحل ما قتل به من الصيد؛ إلا الرصاص الذي يطلق من البنادق اليوم، فيحل ما قتل به من الصيد؛ لأن فيه قوة الدفع التي تخرق وتنهر الدم كالمحدد وأشد. الثاني: الجارحة من الكلاب والطيور التي يصاد بها، فيباح ما قتلته من الصيد إن كانت معلمة، سواء كانت مما يصيد بنابه كالكلب أو بمخلبه كالطير؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} ؛ أي: تؤدبونهن آداب أخذ الصيد من العلم الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 علمكم الله، وتعليم الجارح: أنه إذا أرسله؛ استرسل، وإذا أشلاه؛ استشلى، وإذا أخذ الصيد؛ أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه. الشرط الثالث: أن يرسل الآلة قاصدًا للصيد؛ لقوله صلى الله عليه وسل: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكل"، متفق عليه، فدل الحديث على أن إرسال الجارحة يمنزلة الذبح، فيشترط له القصد، فلو سقطت الآلة من يده، فقلت صيدًا؛ لم يحل؛ لعدم القصد منه، وكذا لو استرسل الكلب من نفسه، فقتل صيدًا؛ لم يحل؛ لعدم إرسال حاصبه له، وعدم قصده، ومن رمى صيدًا، فأصاب غيره؛ قتل جماعة من الصيود؛ حل الجميع؛ لوجود القصد. الشرط الرابع: التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة؛ بأن يقول: بسم الله لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْه} ، وقال النبي صلى الله عليه وسل: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه؛ فكل"، متفق عليه فإن ترك التسمية؛ لم يحل الصيد؛ لمفهوم الآية والأحاديث. ويسن أن يقوم مع التسمية: الله أكبر؛ كما يقال ذلك في الذكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسل كان إذا ذبح؛ يقول: "بسم الله، والله أكبر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 تنبيهان التنبيه الأول: هناك حالات يحرم فيها الصيد: فيحرم على المحرم قتل صيد البر أو اصطياده والإعانة على صيده بدلالة أو إشارة أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . ويحرم عليه الأكل مما صاده أو كان له تأثير في اصطياده أو صيد من أجله؛ لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} . وكذلك هناك محل يحرم فيه الصيد، فيحرم قتل صيد الحرم على المحرم وغير المحرم بإجماع؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسل يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة؛ لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده" الحديث. التنبيه الثاني: يحرم اقتناء الكلب لغير ما رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسل، وهو أحد ثلاثة أمور: إما لصيد، أو لحراسة ماشية، أو لحراسة زرع؛ قال النبي صلى الله عليه وسل: "من اتخذ كلبا؛ إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع؛ انتقص من أجره كل يوم قيراط"، متفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وبعض الناس لا يبالي بهذا الوعيد، فيقتني الكلب لغير هذه الأغراض الثلاثة التي رخص فيها الرسول صلى الله عليه وسل؛ لأجل المفاخرة وتقليد الكفار، ولا يبالي بنقصان الأجر الذي يترتب على ذلك، ولكن لو كان ينقص في دنياه شيئا؛ لما صبر عليه؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله. وقد أحبر النبي صلى الله عليه وسل أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه الكلب، والصورة؛ فليتق المسلم ربه، ولا يظلم نفسه بإيقاعها في الإثم وحرمانها من الأجر. والله المستعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 كتاب الأيمان والنذور باب في أحكام الأيمان الأيمان: جمع يمين، واليمين: توكيد الحكم بذكر معظم على وجه مخصوص، سمي بذلك أخذًا من اليد اليمنى؛ لأن الحالف يعطي يمنيه ويضرب على يمين صاحبه؛ كما في العهد والمعاقدة. واليمين التي تجب بها الكفارة هي اليمين التي يحلف فيها باسم الله أو بصفة من صفاته؛ كأن يقول: والله، أو: ووجه الله، أو: وعظمته وكبريائه وجلاله وعزته ورحمته، أو وعهده، أو: إرادته، أو: بالقرآن، أو بالمصحف. والحلف بغير الله تعالى محرم، وهو شرك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا؛ فليحلف بالله أو ليصمت"، متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم: "ومن حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من حلف بالأمانة"، رواه أبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 فدلت هذه الأحاديث على تحريم الحلف بغير الله، وأنه شرك، كأن يقول: والنبي، وحياتك، والأمانة، والكعبة ... وما أشبه ذلك قال ابن عبد البر: "وهذا أمر مجمع عليه". وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: "يحرم الحلف بغير الله، وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أحلف بغيره صادقا". وقال الشيخ موجها كلام ابن مسعود هذا: "لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك ... " انتهى. ويشترط لوجوب الكفارة إذا حلف بالله ثم نقض اليمين ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن تكون اليمين منعقدة، بأن يقصد الحالف عقدها على أمر مستقبل ممكن. قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} ، فدلت الآية على أن الكفارة لا تجب إلا في الأيمان المنعقدة. ولا يكون العقد إلا في المستقبل من الزمان دون الماضي؛ لعدم إمكان البر والحنث فيه، لكن حلف على أمر ماض كاذبا متعمدًا؛ فهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 اليمين الغموس؛ لأنها تغمسه في الإثم، ثم في النار، ولا كفارة فيها؛ لأنها أعظم من أن تكفر، وهي من الكبائر. وإذا تلفظ باليمين بدون قصد لها؛ كما لو قال: لا والله، وبلى والله، وهو لا يقصد اليمين، وإنما جرى على لسانه هذا اللفظ بدون قصد؛ فهو لغو، لا كغارة فيه؛ لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم} ، وحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "اللغو في اليمين كلام الرجل في بينه: لا والله، وبلى والله"، رواه أبو داود. وكذا لو حلف عن قصد يظن صدق نفسه فبان بخلافه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذا لو عقدها على زمن مستقبل، ظانا صدقه، فلم يكن كمن حلف على غيره يظن أنه يطيعه فلم يفعل" انتهى. الشرط الثاني: أن يحلف مختارًا، فإن حلف مكرها؛ لم تنعقد يمينه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، فدل على أن المكره على الحلف معفو عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 الشرط الثالث: أن يحنث فيها؛ بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله مختارًا ذاكرًا ليمينه، فإذا حنث ناسيا ليمينه أو مكرها؛ فلا كفارة عليه؛ لأنه لا إثم عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وإن استثنى في يمينه، كما لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله؛ لم يحنث في يمينه إذا نقضها؛ بشرط أن يقصد الاستثناء متصلاً باليمين لفظا أو حكما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث"، رواه أحمد وغيره، فإن لم يقصد الاستثناء، بل قصد بقوله: إن شاء الله: مجرد التبرك بهذا اللفظ، لا التعليق، أو لم يقل: إن شاء الله؛ إلا بعد مضي وقت انتهاء التلفظ باليمين؛ من غير عذر؛ لم ينفعه هذا الاستثناء، وقيل: ينفعه الاستثناء، وإن لم يرده إلا بعد الفراغ من اليمين، حتى لو قال له بعض الحاضرين: قل إن شاء الله؛ نفعه. قال شيخ الإسلام: "وهو الصواب". ونقض اليمين تارة يكون واجبا، وتارة يكون محرما، وتارة يكون مباحا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 فيجب نقض اليمين إذا حلف على ترك واجب؛ كما لو حلف لا يصل رحمه، أو حلف على فعل محرم؛ كما لو حلف ليشربن خمرًا؛ فهنا يجب عليه أن ينقص يمينه، ويكفر عنها. وقد يحرم نقض اليمين؛ كما لو حلف على ترك محرم أو فعل واجب؛ فإنه يجب عليه الوفاء باليمين، ولا يجوز له نقضها. ويباح نقض اليمين فيما إذا حلف على فعل مباح أو على تركه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني"، وقال صلى الله عليه وسل: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه". ومن حرم على نفسه شيئا مباحا سوى زوجته كالطعام والشراب واللباس؛ كما لو قال: ما أحل الله علي حرام، أو قال هذا الطعام حرام علي؛ فإنه لا يحرم عليه؛ فله تناول، ويكون عليه كفارة يمين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَات} إلى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ؛ أي: التكفير عن تحريم الحلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وأما لو حرم زوجته؛ فإن ذلك يعتبر ظهارًا، تجب فيه كفارة الظهار، ولا تكفي فيه كفارة اليمين. ومما يجب التنبيه عليه في هذا الباب حكم الحلف بملة غير الإسلام؛ كما لو قال: هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا وكذا! أو لم يفعله! وهذا من الألفاظ البغيضة؛ فهذا محرم شديد التحريم؛ لما في "الصحيحين"؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على ملة غير الإسلام كاذبا متعمدًا؛ فهو كما قال"، وفي رواية الإمام أحمد: "من قال: إنه بريء من الإسلام: فإن كان كاذبا؛ فهو كما قال، وإن كان صادقا؛ لم يعد إلى الإسلام سالما". نسأل الله العافية من مقالة السوء، ونسأله أن يسدد أقوالنا ونياتنا؛ إنه قريب مجيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 باب في كفارة اليمين من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الكفارة التي بها تحلة اليمين. قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وفي "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسل؛ قال: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها؛ فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك". وكفارة اليمين فيها تخيير وفيها ترتيب، فيخير من لزمته بين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام، أو كسوة عشرة مساكين لكل واحد منهم ثوب يجزئه في صلاته، أو عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب، فمن لم يجد شيئا من هذه الثلاثة المذكورة؛ صام ثلاثة أيام. فتبين بهذا التفصيل أن كفارة اليمين تجمع تخييرًا وترتيبا؛ تخييرًا بين الإطعام والكسوة والعتق، وترتبيها بين ذلك وبين الصيام. والدليل على هذا قول الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} . ومعنى الآية الكريمة إجمالاً أن كفارة ما عقدتم من الأيمان إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 حنثتم فيها: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم؛ أي: من خير وأمثل قوت عيالكم، أو كسوتهم مما يصح أن يصلى فيه، أو عتق رقبة، واشترط الجمهور كونها مؤمنة، وقد بدأ سبحانه وتعالى بالأسهل؛ فأي هذه الخصال فعل؛ أجزأه بالإجماع. واشترط الجمهور في صيام ثلاثة الأيام أن تكون متتابعة؛ لقراءة عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: {فصيام ثلاثة أيام متتابعة} . وهنا يغلط كثير من العوام، فيظنون أنهم مخيرون بين الصيام وبين بقية خصال الكفارة، فيصومون، مع قدرتهم على الإطعام أو الكسوة، والصيام في هذه الحالة لا يجزئهم ولا يبرىء ذمتهم من كفارة اليمين؛ لأنه لا يجزىء إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق؛ فيجب التنبيه لمثل هذا الأمر. ويجوز تقديم الكفارة على الحنث، ويجوز تأخيرها عنه، فإن قدمها؛ كانت محللة لليمين، وإن أخرها؛ كانت مكفرة له. والدليل على ذلك ما ثبت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسل أنه قال: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها؛ فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك"، فدل هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 الحديث على جواز تأخير الكفارة عن الحنث. ولأبي داود:: "فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير"؛ فدل هذا الحديث على جواز تقديم الكفارة على الحنث، فدلت الأحاديث على جواز التقديم والتأخير. ومن السنة ومن حق الأخ على أخيه المسلم إبرار قسمه إذا أقسمه عليه؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسل بسبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام". وإن كرر الأيمان قبل التكفير على فعل واحد، موجبها واحد، ثم حنث فيها؛ فعليه كفارة واحدة. وكذا لو حلف يمينا واحدة على عدة أشياء؛ كما لو قال: والله لا آكل ولا أشرب ولا ألبس، ثم حنث في أحد هذه الأشياء؛ فعليه كفارة واحدة، وانحلت البقية؛ لأنها يمين واحدة. أما إذا حلف عدة أيمان علو عدة أفعال، ثم حنث فيها؛ فعليه كفارة لكل يمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من كرر أيمانا قبل التكفير؛ فروايات، ثالثها وهو الصحيح: إن كانت على فعل؛ فكفارة، وإلا؛ فكفارات" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 إن حلف لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا أو مكرها أو جاهلاً أنه المحلوف عليه؛ لم يحنث، ولم تجب عليه كفارة؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، ولأن فعل المكره غير منسوب إليه، وقد رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا حلف على إنسان قاصدًا إكرامه؛ لا يحنث مطلقا؛ إلا إذا كان قاصدًا إلزامه؛ فإنه يحنث ... " انتهى. تنبيه يقول الله تعالى بعدما ذكر كفارة اليمين: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} ؛ فأمر سبحانه بحفظ الأيمان، ومعناه عدم المسارعة إلى اليمين، أو المسارعة إلى الحنث فيها، أو أنها لا تترك بدون كفارة، وعلى كل؛ ففي الآية الكريمة الأمر باحترام اليمين، وعدم الاستهانة بها. ومما يجب التنبيه عليه: أن بعض الناس إذا حلف؛ يحتال على مخالفة اليمين، ويظن أنه بهذه الحلية يسلم من تبعة اليمين. وقد نبه الإمام ابن القيم رحمه الله على ذلك بقوله: "ومن الحيل الباطلة: لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يسكن في الدار هذه السنة، أو لا يأكل هذا الطعام؛ قالوا: يأكل الرغيف ويدع منه لقمة واحدة، ويسكن السنة كلها إلا يوما واحدًا، ويأكل الطعام كله إلا القدر اليسير منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ولو أنه لقمة، وهذه حيلة باطلة باردة، ومتى فعل ذلك؛ فقد أتى بحقيقة الحنث، وفعل نفس ما حلف عليه، ثم يلزم هذا المتحيل أن يجوز للمكلف كل ما نهى الشارع هن جملته، فيفعله إلا القدر اليسير منه؛ فإن البر والحنث في الأيمان نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، ولذلك لا يبرأ إلا بفعل المحلوف عليه جمعيه لا بفعل بعضه كما لا يكون مطيعا إلا بفعله جميعه، ويحنث بفعل بعضه كما يعصي بفعل بعضه" انتهى. ومن الناس من يحلف على عدم فعل شيء، ثم يوكل من يفعله بدلاً عنه، وهذا من الحيل التي لا تبرئ ذمته من تبعة اليمين؛ إلا إذا كان قاصدًا عدم مباشرة فعل الشيء بنفسه؛ فله ما نوى. وعلى كل حال؛ فشأن الأيمان شأن عظيم، لا يجوز التساهل به، ولا الاحتيال للتخلص من حكمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 باب في أحكام النذر النذر لغة: الإيجاب، تقول: نذرت كذا: إذا أوجبته على نفسك. وتعريفه شرعا: إلزام مكلف مختار نفسه شيئا لله تعالى. والنذر نوع من أنواع العبادة، لا يجوز صرفه لغير الله تعالى، فمن نذر لغير الله تعالى من قبر أو ملك أو بني أو ولي؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المخرج من الملة؛ لأنه بذلك قد عبد غير الله؛ فالذين ينذرون لقبور الأولياء والصالحين اليوم أشركوا بالله الأكير والعياذ بالله؛ فعليهم أن يتوبوا إلى الله، ويحذروا من ذلك، وينذروا قومهم لعلهم يحذرون. وحكم النذر ابتداء: أنه مكروه، وقد حرمه طائفة من العلماء؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال: "إنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل". قال في "المنتقى": "رواه الجماعة إلا الترمذي". ولأن الناذر يلزم نفسه بشيء لا يلزمه في أصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 الشرع، فيحرج نفسه ويثقلها بهذا النذر، ولأنه مطلوب من المسلم فعل الخير بدون نذر. لكن إذا نذر فعل طاعة؛ وجب عليه الوفاء بذلك: لقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} . وقال تعالى في وصف الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} . وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} . وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسل أنه قال: "من نذر أن يطيع الله؛ فلطعه، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه". وقال الإمام ابن القيم: "الملتزم الطاعة لله لا يخرج عن أربعة أقسام: إما أن تكون بيمين مجردة، أو بنذر مجرد، أو بيمين مؤكدة بنذر، أو بنذر مؤكد بيمين؛ كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} ؛ فعليه أن يفي به؛ وإلا دخل في قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} ؛ وهو أولى باللزوم من أن يقول: لله علي كذا" انتهى. وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله: أنه يشترط لانعقاد النذر أن يكون الناذر بالغا عاقلاً مختارًا لقوله صلى الله عليه وسل: "رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ"، فدل الحديث على أنه لا يلزم النذر من هؤلاء؛ لرفع القلم عنهم. ويصح النذر من الكافر إذا نذر عبادة، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم؛ لحديث عمر رضي الله عنه؛ قال: إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة. فقال له النبي صلى الله عليه وسل: "أوف بنذرك". والنذر الصحيح خمسة أقسام: أحدها: النذر المطلق، مثل أن يقول: لله علىَّ نذر، ولم يسم شيء؛ فيلزمه كفارة يمين، سواء كان مطلقا أو معلقا؛ لما روى عقبة بن عامر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسل: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين"، رواه ابن ماجة والترمذي، وقال: "حسن صحيح غريب". فدل هذا الحديث على وجوب الكفارة إذا لم يسم ما نذر لله عز وجل. الثاني: نذر اللجاج والغضب، وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب؛ كما لو قال: إن كلمتك، أو: إن لم أخبر بك، أو: إن لم يكن هذا الخبر صحيحا، أو: إن كان كذبا؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 فعلي الحج أو العتق ... ونحو ذلك؛ فهذا النذر يخير بين فعل ما نذره أو كفارة يمين؛ لحديث عمران بن حصين؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسل يقول: "لانذر في غضب، وكفارته كفارة يمين"، رواه سعيد في "سننه". والثالث: نذر المباح، كما لو نذر أن يلبث ثوبه أو يركب دابتهن ويخير بين فعله وبين كفارة يمين إن لم يفعله؛ كالقسم الثاني. واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا شيء عليه في نذر المباح؛ لما روى الإمام بالبخاري: بينما النبي صلى الله عليه وسل يخطب؛ إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم. فقال: "مروه؛ فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه". الرابع: نذر المعصية، كنذر شرب الخمر وصوم أيام الحيض ويوم النحر؛ فلا يجوز الوفاء بهذا النذر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسل: "من نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه"، فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية؛ لأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال، ومن نذر المعصية النذر للقبور أو لأهل القبور، وهو شرك أكبر كما سبق، ويكفِّر عن هذا النذر كفارة يمين عند بعض أهل العلم، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم انعقاد نذر المعصية، وأنه لا يلزمه به كفارة، وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: "ومن أسرج قبرًا أو مقبرة أو جبلاً أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان؛ لم يجز، ولا يجوز الوفاء به إجماعا، ويصرف في المصالح؛ ما لم يعلم ربه ... " انتهى. الخامس: نذر التبرر، وهو نذر الطاعة؛ كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه، سواء كان مطلقا "أي: غير معلَّق على حصول شرط"؛ كما لو قال: لله عليَّ أن أصلي وأصوم ... ، أو معلقا على حصول شرط؛ كقوله: إن شفى الله مرضي؛ فلله عليَّ كذا، فإذا وجد الشرط؛ لزمه الوفاء به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه"، رواه البخاري. ولقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، ولقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ، والله اعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 كتاب القضاء باب في أحكام القضاء في الإسلام قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والواجب اتخاذ ولاية القضاء دينا وقربة؛ فإنهما من أفضل القربات، وإنما فسد حال الأكثر بطلب الرئاسة والمال بها ... " انتهى. والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ} . وقد تولاه النبي صلى الله عليه وسل بنفسه، ونصب القضاة في الأقاليم التي دخلت تحت الحكم الإسلامي، وكذلك خلفاؤه من بعده. وأجمع المسلمون على نصب القضاة للفصل بين الناس. والقضاء في اللغة معناه: إحكام الشيء والفراغ منه؛ قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} ، وله معان أخرى، وأما معناه اصطلاحا؛ فهو تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هو من جهة الإثبات شاهد، ومن جهة الأمر والنهي مفت، ومن جهة الإلزام بذلك ذو سلطان ... " انتهى. وحكم القضاء في الإسلام أنه فرض كفاية؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه. قال الإمام أحمد: "لا بد للناس من حاكم لئلا تذهب الحقوق". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلتأمير الواحد في الاجمتاع القليل العارض في السفر، وهو تنبيه على أنواع الاجتماع ... " انتهى. ويجب على من يصلح للقضاء الدخول فيه إذا لم يوجد غيره، وفي ذلك فضل عظيم لمن قوي عليه، وفيه خطر عظيم في حق من لم يؤد الحق فيه. ويجب على إمام المسلمين أن يعين القضاة حسب المصلحة التي تدعو إلى ذلك؛ لئلا تضيع الحقوق، ويختار أفضل من يجده علما وورعا، ومن لم يعرف صلاحيته؛ سأل عنه. ويجب على القاضي أن يجتهد في إقامة العدل بين الناس غاية ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 يمنكه، ولا يلزمه ما يعجز عنه، ويفرض له ولي الأمر من بيت المال ما يكفية حتى يتفرغ للقيام بالقضاء، وقد فرض الخلفاء الراشدون للقضاء من بيت المال ما يكفيهم. وصلاحيات القاضي يرجع فيها إلى العرف في كل زمان بحسبه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما يستفيد بالولاية [يعنى: من الصلاحيات] لا حد له شرعا، بل يتلقى من الألفاظ والأحول والعرف؛ لأن كل ما لم يحدد شرعا؛ يحمل على العرف؛ كالحرز والقبض". قال: "وولاية الأحكام يجوز تبعيضها، ولا يجب أن يكون عالما في غير ولايته؛ فإن منصب الاجتهاد ينقسم، حتى لو ولاه المواريث؛ لم يجب أن يعرف غير الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك، وإن ولاه عقود الأنكحة وفسخها؛ لم يجب أن يعرف إلا ذلك، وعلى هذا؛ إذا قال: اقض فيما تعلم؛ كما يقول: أفت فيما تعلم؛ جاز، ويسمى ما لا يعلم خارجا عن ولايته؛ كما نقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار وفي الحكمين في جزاء الصيد ... " انتهى. وفي هذا الزمان قد وزارة العدل نظاما يسير عليه القضاة في ولاياتهم، وتتحدد به صلاحياتهم؛ فيجب الرجوع إليه، والتقيد به؛ لأن في ذلك ضبطا للأمور، وتحديد الصلاحيات، وهو لا يخالف نصا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله؛ فيجب العمل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 ويشترط فيمن يتولى القضاء أن تتوفر فيه عشر صفات تعتبر حسب الإمكان: أن يكون مكلفا: أي: بالغا عاقلاً؛ لأن غير المكلف تحت ولاية غيره؛ فلا يكون واليا على غيره. وأن يكون ذكرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسل: "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" أن يكون حرًا؛ لأن الرقيق مشغول بحقوق سيده. وأن يكون مسلما؛ لأن الإسلام شرط للعدالة، ولأن المطلوب إذلال الكفار، وفي توليته القضاء رفعة واحترام له. وأن يكون عدلاً؛ فلا تجوز توليه الفاسق؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، وإذا كان لا يقبل خبره؛ فعدم قبول حكمه من باب أولى. وأن يكون سميعا، لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين. وأن يكون بصيرًا؛ لأن الأعمى لا يعرف المدعي من المدعي عليه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قياس المذهب تجوز ولايته كما تجوز شهادته؛ إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم، ولا يحتاج إلى ذلك، بل يقضي على موصوف؛ كما قضى داود الملكين، ويتوجه أن يصح مطلقا، ويعرف بأعيان الشهود والخصوم كما يعرف بمعاني كلامهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 الترجمة، إذ معرفة كلامه وعينه سواء ... " انتهى. ويشترط في القاضي أن يكون متكلما؛ لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته. وأن يكون مجتهدًا، ولو في مذهبه الذي يقلد فيه إماما من الأئمة؛ بأن يعرف القول الراجح فيه من المرجوح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب ولاية الأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى الأنفع من الفاسقين وأقلهما شرًا، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد". قال صاحب "كتاب الفروع": "وهو كما قال". وقال الإنصاف في تولية المقلد: "وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا؛ تعطلت أحكام الناس". وذكر ابن القيم: أن المجتهد هو العالم بالكتاب والسنة، ولا ينافي اجتهاده تقليد غيره أحيانا؛ فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 باب في آداب القاضي المراد بالآداب هنا: الأخلاق التي ينبغي له التخلق بها. قال الإمام أحمد رحمه الله: "حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحقد". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات؛ فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه عنه، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع، ومتى أخطأ في واحد من هذه الثلاثة؛ أخطأ في الحكم" انتهى. وينبغي للقاضي أن يكون قويا من غير عنف؛ لئلا يطمع فيه الظلم، وأن يكون لينا من غير ضعف؛ لئلا يهابه صاحب الحق. قال شيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "إن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، وينبغي للقاضي أن يكون حليما؛ لئلا يغضب من كلام الخصم، فيمنعه ذلك من الحكم؛ فالحكم زينة العلم وبهاؤه وجماله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، وينبغي له أن يكون ذا أناة "أي: تؤدة وتأن"؛ لئلا تؤدي عجلته إلى ما لا ينبغي، وأن يكون ذا فطنة؛ لئلا يخدعه بعض الخصوم، وأن يكون عفيفا "أي: كافا نفسه عن الحرام"، وأن يكون بصيرًا بأحكام من قبله من القضاة، ويكون مجلسه في وسط البلد إذا أمكن؛ ليستوي أهل البلد في المضي إليه، ولا بأس بالقضاء في المسجد، وقد جاء عن عمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يقضون في المسجد، ويجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لحظه ومجلسه ودخولهما عليه، وروى أبو داود عن ابن الزبير؛ قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلمأن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم"؛ فوجب أن يعدل بينهما في مجلسه وفي ملاحظته لهما وكلامه لهما". قال الإمام ابن القيم: "نهى عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته والقيام له دون خصمه؛ لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته وثقل لسانه بها، ولا يتنكر للخصوم؛ لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم وإحراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم". ويحرم على القاضي أن يسار أحد الخصمين أو يلقنه حجته أو يضيفه أو يعلمه كيف يدعي؛ إلا أن يترك ما يلزمه في الدعوى. وينبغي للقاضي أن يحضر مجلسه الفقهاء، وأن يشاورهم فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 يشكل عليه إن أمكن، فإذا اتضح له الحكم؛ حكم به، وإلا؛ أخره حتى يتضح. ويحرم على القاضي أن يقضي وهو غضبان غضبا كثيرًا؛ لما في الحديث المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلمقال: "لا يقضي حاكم بين اثنين وهو غضبان"، ولأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد. ويقاس على الغضب كل ما يشوش الفكر؛ كحالة الجوع، والعطش، وشدة الهم، أو النعاس، أو برد مؤلم، أو حر مزعج، أو في حالة احتباس بول أو غائط؛ لأن ذلك كله يشغل الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغلب؛ فهو في معنى الغضب. ويحرم على الحاكم قبول رشوة؛ لحديث ابن عمر؛ قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسل الراشي والمرتشي"، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". والرشوة نوعان: أحدهما: أن يأخذ من أحد الخصمين ليحكم له بالباطل. والثاني: أن يمتنع من الحكم بالحق للمحق حتى يعطيه الرشوة، وهذا من أعظم الظلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 وكذا يحرم على القاضي قبول هدية ممن لم يكن يهاديه قبل ولايته القضاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم "هدايا العمال غلول"، رواه أحمد، ولأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته. ويكره للقاضي تعاطي البيع والشراء إلا بوكيل لا يعرف أنه له؛ خشية المحاباة؛ فإن في البيع والشراء كالهدية. ولا يحكم القاضي لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له كوالده وولده وزوجته ولا يحكم على عدوه؛ لقيام التهمة في هذه الأحوال، ومتى عرضت قضية تختص به أو لمن لا تقبل شهادته له؛ أحالها إلى غيره؛ فقد حاكم عمر أبيا إلى زيد بن ثابت، وحاكم علي رجلاً عراقيا إلى شريح، وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم. ويستحب للقاضي أن يقدم النظر في القضايا التي تستدعي حالة أصحابها سرعة النظر فيها؛ كقضايا المساجين، وقضايا القصار من الأيتام والمجانين، وثم قضايا الأوقاف والوصايا التي ليس لها ناظر. ولا ينقض من أحكام القاضي إلا ما خلف الكتاب والسنة، أو خالف إجماعا قطعيا؛ فما كان كذلك؛ وجب نقصه؛ لمخالفته الكتاب والسنة أو الإجماع. وبهذا الاستعراض السريع لآداب القاضي؛ يتبين عدالة القضاء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 الإسلام، وما يكون عليه القضاة من مستوى رفيع مما تعجز كل نظم الأرض عن الإتيان بمثله أو قريب منه، وصدق الله العظيم: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . فقبح الله قوما أعرضوا عن هذا الحكم الرباني واستبدلوه بالقانون الشيطاني، وهؤلاء قد {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 باب في طريق الحكم وصفته إذا حضر إلى القاضي خصمان؛ أجلسهما بين يديه، وقال: أيكما المدعي؟ أو انتظر حتى يبدأ المدعي بالكلام، فإذا ادعى؛ استمع دعواه. فإن جاءت على الوجه الصحيح؛ سأل القاضي المدعي عليه: ما موقفه حيال هذه الدعوى؟. فإن أقر بها؛ حكم عليه للمدعي بهذه الدعوى. وإن أنكر المدعى عليه هذه الدعوى؛ قال القاضي للمدعي: إن كانت لك بينة فأحضرها. لأن على المدعي حينئذ تصحيح دعواه ليحكم له بها، فإن أحضر بينة؛ سمع القاضي شهادتها وحكم بها. ولا يحكم القاضي بعلمه؛ لأن ذلك يفضي إلى تهمته. قال العلامة ابن القيم: "لأن ذلك ذريعة إلى حكمه بالباطل، ويقول: حكمت بعلمي". قال: "وقد ثبت عن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية المنع من ذلك، ولا لهم في الصحابة مخالف، ولقد كان سيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 الحكام صلوات الله وسلامه عليه يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم، ويتحقق ذلك، ولا يحكم فيهم بعلمه، مع براءته عند الله وملائكته وعباده من كل تهمة". قال: "ولكن يجوز له "أي: القاضي" الحكم بما تواتر عنده وتضافرت به الأخبار اشترك في العلم به هو وغيرهن ويجوز له الاعتماد على سماعه بالاستفاضة؛ لأنها من أظهر البينات، ولا يتطرق إلى الحاكم تهمة إذا استند إليها؛ فحكمه بها حكم بحجة، لا بمجرد علمه الذي لا يشاركه فيه غيره" انتهى. وإن قال المدعي: ما لي بينه؛ أعلمة القاضي أن له اليمين على خصمه؛ لما روى مسلم وأبو داود: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسل حضرمى وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن هذا غلبتي على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي وليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسل للحضرمي: "ألك بينة؟ "، قال: "فلك يمينه". قال الإمام ابن القيم: "وهذه قاعدة الشريعة المستمرة؛ لأن اليمين إنما كانت في كانت في جانب المدعي عليه حيث لم يترجح المدعي بشيء غير الدعوى، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين؛ لقوته بأصل براءة الذمة، فكان هو أقوى المتداعيين باستصحاب الأصل، فكانت اليمين من جهته" انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 فإذا طلب المدعي تحليف المدعى عليه؛ حلفه القاضي وخلى سبيله؛ لأن الأصل براءة ذمته. ولكن يشترط لصحة يمين المدعى عليه أن يكون على صفة جوابه للمدعي، وأن تكون بعد أمر الحاكم له بطلب المدعي تحليفه؛ لأن الحق في اليمين للمدعي؛ فلا تستوفى إلا بطلبه. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين وأبى أن يحلف؛ قضي عليه بالنكول؛ فإنه لولا صدق المدعي؛ لدفع المدعى عليه دعواه باليمين، فلما نكل عنها؛ كان نكوله قرينة ظاهرة دالة على صدق المدعي، فقدمت على أصول براءة الذمة. والقضاء بالنكول هو مذهب جماعة من أهل العلم، وقد قضى به عثمان رضي الله عنه، وقال جماعة من أهل العلم: ترد اليمين على المدعي ولا سيما إذا قوي جانبه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الذي جاءت به الشرعية أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين؛ فأي الخصمين ترجح جانبه؛ جعلت اليمين من جهته، وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كأحمد والشافعي ومالك وغيرهم"، وقال: "كما حكم به الصحابة وصوبه أحمد وغيره"، وقال: "ما هو ببعيد يحلف ويأخذ، واختاره الشيخ". وقال أبو عبيد: "رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس المنقول عن الصحابة في النكول ورد اليمين بمختلف، بل هذا له موضع وهذا له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 موضع؛ فكل موضع أمكن المدعي معرفته والعلم به؛ فرد المدعى عليه اليمين؛ فإنه إن حلف استحق، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعى عليه، وهذه كحكومة عثمان بن عفان". قال ابن القيم: "وهذا الذي اختاره شيخنا هو فصل النزاع في النكول ورد اليمين". وقال: "إذا كان المدعى عليه منفرًا بمعرفة الحال، فإذا لم يحلف؛ قضي عليه، وأما إذا كان المدعي هو المنفرد؛ رد عليه، فإذا لم يحلف؛ لم يقض له بنكول المدعى عليه. فهذا التحقيق أحسن ما قيل النكول ورد اليمين" انتهى. وإذا حلف المنكر وخلى الحاكم سبيله كما سبق، ثم أحضر المدعي بينة بعد ذلك، فإن كان قد سبق منه نفيها؛ بأن قال: ما لي بينة؛ فإنها لا تسمع بعد ذلك؛ لأنه مكذب لها بقوله: ما لي بينة، وإن لم يكن نفاها؛ سمعت، وحكم بها القاضي. ولا تكون يمين المنكر مزيلة للحق؛ لأن الدعوى لا تبطل بالاستحلاف ويمين المنكر إنما تكون مزيلة للخصومة لا مزيلة للحق، وكذا لو قال: لا أعلم لي بينة، ثم وجدها؛ فإنها تسمع ويحكم بها؛ لأنه ليس بمكذب لها، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 باب في شروط الدعوى لا تصح الدعوى إلا محررة، فإن كانت بدين على ميت مثلاً؛ ذكر موته ونوع الدين وقدره وكل المعلومات التي بها تتضح الدعوى؛ لأن الحكم مرتب عليها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإنما أقضي على نحو ما أسمع"، فدل الحديث على وجوب تحير الدعوى؛ ليتبين للحاكم وجه الحكم. ولا تصح الدعوى أيضا إلا معلومة المدعى به؛ فلا تصح بمجهول، بل لا بد أن تكون بشيء معلوم؛ ليتأتى الإلزام به إذا ثبت؛ إلا الدعوى بما يصح مجهولاً؛ كالوصية بشيء من ماله وعبد من عبيده جعله مهرًا ونحوه، فتصح الدعوى بمثل هذا، وإن كان مجهولاً. ولا بد أن يصرح بالدعوى؛ فلا يكفي قوله: لي عنده كذا، حتى يقول: وأنا مطالبه به، ولا بد أن يكون المدَّعى به حالاً؛ فلا تصح الدعوى بدين مؤجل؛ لأنه لا يجب الطلب به قبل حلوله، ولا يحبس عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 ويشترط لصحة الدعوة انفكاكها عما يكذبها؛ فلا تصح الدعوى على إنسان أنه قتل أو سرق منذ عشرين سنة وسنه أقل من ذلك؛ لأن الحس يكذبها. وإن ادعى عقد أو إجارة؛ اشترط لصحة الدعوى ذكر شروط العقد؛ لأن الناس يختلفون في الشروط، وقد لا يكون ذلك العقد صحيحا عند القاضي. وإن ادعى الإرث؛ فلا بد من ذكر سببه؛ لأن أسباب الإرث تختلف؛ فلا بد من تعيين السبب. ويعتبر لصحة الدعوى تعيين المدعى به إن كان حاضرًا في المجلس أو البلد؛ ليزول اللبس، وإن كان المدعى به غائبا؛ فلا بد من وصفه بما يصح به السلم؛ بأن يذكر ما يضبطه من الصفات. ويشترط لصحة البينة عدالتها؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . واختلف الفقهاء رحمهم الله: هل لا بد من عدالة البينة ظاهرًا وباطنا أو تكفي العدالة ظاهرًا على قولين، الراجح منهما اعتبار العدالة ظاهرًا؛ لقبوله صلى الله عليه وسل شهادة الأعرابي، ولقول عمر رضي الله عنه: "المسلمون عدول". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 ويحكم القاضي بالبينة العادلة ما لم يعلم خلافها، فإن علم خلاف ما شهدت به؛ لم يجز له الحكم بها. ومن جهل القاضي عدالته من الشهود؛ سأل عنه ممن له به خبرة باطنه بصحبة أو معاملة أو جوار، قال عمر رضي الله عنه لرجل زكى رجلاً عنده: أنت جاره؟، قال: لا، قال: صحبته في السفر الذي تظهر فيه جواهر الرجال؟، قال: لا، قال: عاملته بالدينار والدرهم؟، قال: لا، قال: لست تعرفه. وإن تعارض الجرح والتعديل في الشاهد؛ قدم الجرح؛ لأن الجارح معه زيادة علم خفيت على المزكي، والجارح يخبر عن أمر باطن، والمزكي يخبر عن أمر ظاهر فقط، والجارح مثبت، والمزكي ناف، والمثبت مقدم على النافي. وتعديل الخصم للبينة وحده أو تصديقه لها تعديل؛ لأن البحث عن عدالتها لحقه، ولأن إقراره بعدالة البينة إقرار بما يوجب الحق عليه لخصمه، فيؤخذ بإقراره. وإذا علم القاضي عدالة البينة؛ حكم بها، ولم يحتج إلى التزكية، وكذا لو علم عدم عدالتها؛ لم يحكم بها، وإن ارتاب في الشهود؛ سألهم تحملوا الشهادة؟ وأين تحملوها؟. قال الإمام ابن القيم: "وذلك واجب عليه متى عدل عنه أثم وجار في الحكم، وشهد رجلان عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق؛ فاستراب منهما، فأمرهما بقطع يده، فهربا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 وإن جرح الخصم الشهود؛ كلف إقامة البينة بالجرح؛ لحديث: "البينة على المدعي"، فينظر ثلاثة أيام، فإن لم يأت ببينة على الجرح؛ حكم عليه بالبينة؛ لأن عجزه عن إقامة البينة على الجرح في الممدة المذكورة دليل على عدم ما ادعاه. وإن جهل القاضي حال البينة؛ طلب من المدعي تزكيتهم؛ لتثبت عدالتهم، فيحكم بما شهدوا به، ولا بد في تزكية الشخص من شاهدين يشهدان بعدالته، وقيل: يكفي في التزكية شاهد واحد. ويحكم على الغائب مسافة قصر إذا ثبت عليه الحق؛ لأن هندًا قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من الفقة ما يكفيني وولدي؛ قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، متفق عليه. فدل على صحة الحكم على الغائب، ثم إذا حضر الغائب؛ فهو على حجته؛ لزوال المانع. ويعتبر في القضاء على الغائب أن يكون في غير محل ولاية القاضي، أما لو كان غائبا في محل ولايته، ولا حاكم فيه؛ فإن القاضي يكتب إلى من يصلح للقضاء بالحكم بينهما، فإن تعذر؛ فإلى من يصلح بينهما، فإن تعذر؛ قال للمدعي: حقق دعواك، فإن فعل؛ أحضر خصمه، وإن بعدت المسافة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وذكر الإمام أحمد أن مذهب أهل المدينة أنهم يقضمن على الغائب، وقال: "هذا مذهب حسن". قال الزركشي: "فلم ينكر أحمد سماع الدعوى ولا البينة"، وحكى قول أهل المدنية والعراق، وكأنه عنده محل وفاق. وتسمع الدعوى أيضا على غير المكلف، ويحكم بها؛ لحديث هند، ثم إذا كلف بعد الحكم عليه؛ فهو على حجته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 باب في القسمة بين الشركاء دليل القسمة بين الشركاء من الكتاب والسنة والإجماع: قال الله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الشفعة فيما لم يقسم"، وكان يقسم الغنائم. وذكر الإجماع عليها غير واحد من العلماء. والحاجة داعية إليها؛ إذ لا سبيل إلى إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم من الشيء المشترك إلا بالقسمة. والقسمة إفراز الأنصباء بعضا عن بعض. وهي نوعان: قسمة تراض، وقسمة إجبار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 النوع الأول: قسمة التراضي: هي التي لا بد أن يتفق عليها جميع الشركاء، ولا تجوز بدون رضاهم، وهي التي لا تمكن إلا بحصول ضرر، ولو على بعض الشركاء، أو برد عوض من أحد الشركاء على الآخر، وتكون في الدور الصغار والدكاكين الضيقة والأرض المختلفة أجزاؤها بسبب بناء أو شجر في بعضها أو كون بعضها يتلعق به رغبة تخضه دون البعض الآخر. فهذا النوع من المشترك لا يجوز قسمته إلا باتفاق الشركاء وتراضيهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"، رواه أحمد وغيره؛ فهو يدل بعمومه على عدم جواز قسم ما لا ينقسم إلا بضرر إلا بالتراضي. وهذه القسمة تأخذ حكم البيع، برد ما فيه عيب، ويدخلها خيار المجلس والشرط ونحوه، ولا يجبر من امتنع من قبولها من الشركاء، لكن متى طلب أحد الشركاء بيع هذا المشترك؛ أجبر الممتنع، فإن أبى؛ باعة الحاكم عليهما، وقسم الثمن بينهما على قدر حصصهما. وضابط الضرر الذي يمنع هذه القسمة هو نقص القيمة بالقسمة، سواء انتفعوا به مقسوما أم لا؛ فلا يعتبر ضرر كونهما لا ينتفعان به مقسوما. النوع الثاني: قسمة الإجبار. وهي ما لا ضرر في قسمته، ولا رد عوض في قسمته، سميت بذلك لأن الحاكم يجبر الممتنع منهما إذا كملت شروطها، وذلك كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض الواسعة والدكاكين الواسعة والمكيل والموزون من جنس واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 ويشترط لإجبار الممتنع من هذه القسمة ثلاثة شروط: أن يثبت عند الحاكم ملك الشركاء، وأن يثبت أن لا ضرر، وأن يثبت إمكان تعديل السهام في العين المقسومة من غير شيء يجعل فيها. فإذا توافرات هذه الشروط، وطلب أحد الشركاء القسمة؛ أجبر شريكه الآخر عليها، وإن امتنع من القسمة مع شريكه؛ لأن القسمة تزيل الضرر الحاصل في الشركة، وتمكن كل واحد من التصرف في نصيبه والانتفاع به بإحداث الغراس والبناء مما لا يتمكن منه مع بقاء الشركة. وإن كان أحد الشركاء غير مكلف؛ قسم عنه وليه، وإن كان غائبا؛ قسم عنه الحاكم بطلب شريكه. وهذه القسمة في الحقيقة إفراز لحق أحد الشريكين عن الآخر، ولا تأخذ حكم البيع؛ لأنها تخالفه في الأحكام. ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم أو بقاسم ينصبونه هم أو يسألون الحاكم نصبه. وتعديل السهام يكون بالأجزاء إن تساوى المقسوم كالمكيلات والموزونات غير المختلفة، وتعدل بالقيمة إن اختلفت أجزاء المقسوم في القسمة، فيجعل السهم من الرديء أكثر من السهم من الجيد، فإن لم يمكن التعديل بالأجزاء ولا بالقيمة؛ عدلت بالرد؛ بأن يجعل لمن يأخذ الرديء أو القليل دراهم على من يأخذ الجيد أو الأكثر. فإذا اقتسموا أو اقترعوا؛ لزمت القسمة؛ لأن القاسم كالحاكم، والقرعة كحكم الحاكم، يلزم العمل بها، وكيف اقترعوا بالحصى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 أو غيره؛ جاز، والأحوط القرعة بأن يكتب اسم كل شريك على رقعة، ثم تجمع وتلف وتدفع إلى شخص لم يحضر ولم يرها، ويؤمر بأن يخرج الرقاع ويضعها على الأسهم، فمن وجد اسمه على سهم؛ فهو له. وإن خير أحدهما الآخر؛ لزمت القسمة برضاهم وتفرقهم. ومن ادعى غلطا فيما تقاسماه بأنفسهما وأشهدا على رضاهما به؛ لم يلتفت إليه؛ لأنه رضي بالقسم على الصورة التي وقعت، ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه يلزمه. ومن ادعى غلطا فيما قسمه قاسم حاكم أو قاسم نصباه؛ قبل ببينة، وإلا؛ حلف منكر له؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإن أقام بينة على الغلط؛ قبلت ونقضت القسمة؛ لأن سكوته قد استند إلى ظاهر حال القاسم، فإذا قامت البينة بغلطه؛ كان له الرجوع فيما غلط به. وإن ادعى كل من الشريكين شيئا أنه له؛ تحالفا، ونقضت القسمة؛ لأن ذلك المدعى به لم يخرج عنهما، ولا مرجح لأحدهما على الآخر. ومن ظهر في نصيبه عيب قد جهله؛ خير بين الفسخ والإمساك مع الأرش؛ لأن ظهور العيب في نصيبه نقص، فيخير بين الأرش والفسخ كالمشتري، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 باب في بيان الدعاوى والبينات الدعاوى: جمع دعوى، وهي لغة الطلب، قال الله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} ؛ أي: يطلبون ويتمنون. والدعوى في اصطلاح الفقهاء: إضافة الأنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو ذمته. والبينات: جمع بينه، وهي العلامة الواضحة، وهي كل ما يبين الحق من شهود أو يمين. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "البينة في الشرع اسم لما يبين الحق ويظهره، وقد نصب سبحانه على الحق علامات وأمارات تدل عليه وتبينه، فمن أهدر العلامات والأمارات بالكلية؛ فقد عطل كثيرًا من الأحكام، وضيع كثيرًا من الحقوق ... " انتهى. والفرق بين المدعي والمدعى عليه: أن المدعي هو الذي إذا سكت ترك؛ فهو المطالب، والمدعى عليه هو الذي إذا سكت؛ لم يترك؛ فهو المطالب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 ويشترط لصحة الدعوى وصحة الإنكار: أن يكون من جائز التصرف، وهو الحر المكلف الرشيد. وإذا تداعيا عينا بأن ادعى كل منهما أنها له وهي بيد أحدهما؛ فهي لمن هي بيده مع يمينه. ويسمى من كانت العين بيده منهما الداخل، ويسمى من لم تكن العين بيده بالخارج فإن أقام كل منهما بينته أن العين المدعى بها له؛ قضي بها للخارج لحديث ابن عباس مرفوعا: "لو يعطى الناس بدعواهم؛ لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"، رواه أحمد ومسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" رواه الترمذي. فدل الحديثان على أن البينة على المدعي، فإذا أقامها؛ قضي بها له، وأن اليمين على من أنكر إذا لم يكن مع المدعي بينة، وذهب أكثر أهل العلم في هذه المسألة أن العين تكون لمن هي بيده، وهو ما يسمى بالداخل، وأن الحديث محمول على ما إذا لم يكن مع من هي بيده بينة، وإلا؛ فاليد مع بينته أقوى، والأخذ بقول الأكثر أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وإن لم تكن العين التي تداعياها بيد أحد، وليس هناك ظاهر يعمل به ولا بينة لأحدهما؛ تحالفا؛ بأن يحلف كل واحد أنه لا حق للآخر فيها، وقسمت بينهما بالسوية؛ لا ستوائهما في الدعوى، وعدم المرجح لأحدهما، وإن دل الظاهر لأحدهما؛ عمل به. فلو تنازع الزوجان في قماش البيت ونحوه؛ فما يصلح للرجل يكون للزوج، وما يصلح للمرأة يكون للزوجة، وما يصلح للاثنين؛ فلهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 باب في الشهادات الشهادة: مشتقة من المشاهدة؛ لأن الشاهد يخبر عما شاهده وعلمه. وهل يشترط في أداء الشهادة أن يكون ذلك بلفظ: "أشهد"، أو "شهدت"؟، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة. والقول الثاني وهو رواية عن أحمد وقول جماعة من الأئمة: أن ذلك لا يلزم. واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. قال الشيخ: "ولا يشترط في أداء الشهادة لفظ "أشهد"، وهو مقتضى قول أحمد وغيره، ولا أعلم نصا يخالفه، ولا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشترط لفظ الشهادة". وقال ابن القيم: "الإخبار شهادة محضة في أصح الأقوال، وهو قول الجمهور؛ فإنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ: "أشهد"، بل متى قال الشاهد: رأيت كيت وكيت، أو سمعت، أو نحو ذلك؛ كانت شهادة منه، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول صلى الله عليه وسلم وضع واحد يدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 اشتراط لفظ الشهادة، ولا عن رجل واحد من الصحابة، ولا قياس ولا استنباط يقتضيه، بل الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ولغة العرب تنفي ذلك" انتهى. وتحمل الشهادة في غير حق الله تعالى فرض كفاية، إذا قام به من يكفي؛ سقط عن بقية المسلمين؛ لحصول الغرض، وإن لم يوجد إلا من يكفي؛ تعين عليه؛ لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ؛ أي: إذا دعوا لتحمل الشهادة؛ فعليهم الإجابة، والآية عامة في الدعوة للتحمل والأداء، وقال ابن عباس وغيره في معنى الآية: المراد به التحمل للشهادة وإثباتها عند الحاكم، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لإثبات الحقوق والعقود؛ فكان واجبا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما أداء الشهادة؛ فهو فرض عين على من تحملها متى دعي إليها؛ لقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه} . ومعنى الآية الكريمة: إذا دعيتم إلى إقامة الشهادة؛ فلا تخفوها ولا تغلوها، {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه} ؛ أي: فاجر قلبه، وهذا وعيد شديد بمسخ القلب، وإنما خصه لأنه موضع العلم بالشهادة، فدلت الآية الكريمة على فرضية أداء الشهادة عينا على من تحمل متى دعي إليه. قال الإمام العلامة ابن القيم: "التحمل والأداء حق يأثم بتركه". وقال: "قياس المذهب أن الشاهد إذا كتم الشهادة بالحق؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 ضمنه؛ لأنه أمكنه تخليص حق صاحبه، فلم يفعل، فلزمه الضمان؛ كما لو أمكنه تخليصه من هلكة فلم يفعل ... " انتهى. ويعتبر لوجوب التحمل والأداء انتفاء الضرر عن الشاهد فإن كان يلحقه بذلك ضرر في نفسه أو عرضه أو ماله أو أهله؛ لم يجب عليه؛ لقوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} ، ولحديث: "لا ضرر ولا ضرار"، والله أعلم. ويجب على الشاهد أن يكون على علم بما يشهد به؛ فلا يحل له أن يشهد إلا بما يعلم؛ قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وقال تعالى: {إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؛ أي: يعلم ما شهد به على بصيرة ويقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة؟ فقال: "ترى الشمس؟ " قال: نعم، فقال: "على مثلها فاشهد أو دع"، رواه الخلال في "جامعه". وقال البيهقي: "لم يرد من طريق يعتمد عليه"، وقال ابن حجر: "ولكن معنى الحديث صحيح". والعلم يحصل بأحد أمور: إما بسماع، أو رؤية من مشهود عليه، فيشهد بما سمع أو رأي، وإما بسماع الشاهد عن طريق الاستفاضة فيما يتعذر علمه بدونها غالبا كالنسب والموت، لكن لا يشهد بالاستفاضة إلا إذا بلغته عن عدد يقع بهم العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 ويشترط فيمن تقبل شهادته شروط: أحدهما: البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبيان إلا فيما بينهم. قال العلامة ابن القيم: "عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا؛ فإن الرجال لا يحضرون معهم، ولو لم تقبل شهادتهم؛ لضاعت الحقوق وتعطلت وأهملت، مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاؤوا مجتمعين قبل تفرقهم إلى بيوتهم، وتواطؤوا على خبر واحد، وفرقوا وقت الأداء، واتقفت كلمتهم؛ فإن الظن الحاصل حينئذ بشهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده ... " انتهى. الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه، وتقبل الشهادة ممن يخنق أحيانا إذا تحمل وأدى في حال إفاقته؛ لأنها شهادة من عاقل أشبه من لم يجن. الثالث: الكلام، فلا تقبل شهادة الأخرس، لو فهمت إشارته؛ لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين، وإنما اكتفي بإشارة الأخراس في الحكام الخاصة به كنكاحه وطلاقه للضرورة، لكن لو أدى الأخرس الشهادة بخطه؛ قبلت لدلالة الخط على للفظ. الرابع: الإسلام، لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ؛ فلا تقبل شهادة الكافر إلا على الوصية في حال السفر، فيقبل شهادة كافرين عليها عند عدم غيرهما؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة} الآية، هذا لأجل الضرورة. الخامس: الحفظ، فلا تقبل شهادة المغفل والمعروف بكثرة السهو والغلط؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، ولا يغلب على الظن صدقه؛ لاحتمال أن يكون ذلك من غلطه، وتقبل شهادة من يقل منه السهو والغلط؛ لأن ذلك لا يسلم منه أحد. السادس: العدالة، وهي لغة: الاستقامة، ومن العدل، وهو ضد الجور، والعدالة شرعا: استواء أحواله في دينه، واعتدال أقواله وأفعاله. ودليل اشتراط العدالة في الشاهد قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . وقد قال جمهور العلماء: إن العدالة صفة زائدة على الإسلام، وهي أن يكون ملتزما بالواجبات والمستحبات، ومجتنبا للمحرمات والمكروهات. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ورد شهادة من عرف بالكذاب متفق عليها بين الفقهاء". وقال: "والعدل في كل زمان ومكان وطائفة بحسبها، فيكون الشهيد في كل قوم من كان ذا عدل منهم، وإن كان لو كان في غيرهم؛ لكان عدله على وجه آخر، بهذا يمكن الحكم بين الناس، وإلا؛ لو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات، كما كان الصحابة؛ لبطلت الشهادات كلها أو غالبها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 وقال: "يتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود، عند الضرورة؛ مثل: الحبس، وحوادث البدو، وأهل القربة الذين لا يوجد فيهم عدل" انتهى. قال الفقهاء رحمهم الله: ويعتبر للعدالة شيئان: أحدهما: أداء الفرائض أي: الصلوات الخمس والجمعة بسننها الراتبة فلا تقبل شهادة من داوم على ترك السنن الرواتب والوتر. قال الإمام أحمد رحمه الله فيمن يواظب على ترك سنة الصلاة: "إنه رجل سوء؛ لأنه بالمداومة يكون راغبا عن السنة، وتلحقه التهمة". وكما يعتبر أداء القرائض يعتبر اجتناب المحارم؛ بأن لا يأتي كبيرة، ولا يدمن على صغيرة. وقد نهى الله عن قبول شهادة القاذف، وقيس عليه كل مرتكب لكبيرة، والكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة؛ كأكل الربا، وشهادة الزور، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر ... وغير ذلك؛ فلا تقبل شهادة الفاسق. والثاني: استعمال المروءة أي: الإنسانية، وهو فعل ما يجمله ويزينه؛ كالسخاء، وحسن الخلق، وحسن المجاورة، واجتناب ما يدنسه ويشينه عادة من الأمور الدنيئة المزرية به؛ كالمغنى، والمتمسخر، وهو الذي يأتي بما يضحك الناس من قول أو فعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 قال الشيخ: "وتحرم محاكاة الناس للضحك، ويعزر هو ومن يأمره؛ لأنه أذى". أقول: وهذا يتناول التمثيليات اليوم، وقد أصبح الغناء في هذا الزمان من الفنون التي يشجع أهلها ويشاد بها؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومتى زالت هذه الموانع من الشخص، فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق؛ قلبت شهاداتهم؛ لعدم المانع من قبولها وتوفر الشروط، والله أعلم. ولا تقبل شهادة عمودي النسب وهم الآباء وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا بعضهم لبعض؛ فلا تقبل شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه؛ للتهمة في ذلك؛ بسبب قوة القرابة بينهما. وتقبل شهادة الأخ لأخيه، والصديق لصديقه؛ لعموم الآيات، وانتفاء التهمة. ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه؛ لأن كلا منهما ينتفع بمال صاحبه، ولقوة الوصلة بينهما مما يقوي التهمة، وتقبل الشهادة عليهم من هؤلاء؛ لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} ، فلو شهد على أبيه أو ابنه أو زوجته أو شهدت عليه؛ قبلت. ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعا بتلك الشهادة أو يدفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 عنها بها ضررًا. ولا تقبل شهادة عدو على عدوه. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "منعت الشريعة من قبول شهادة العدو على عدوه؛ لئلا تتخذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة ... " انتهى. وضابط العداوة المانعة من قبول الشهادة هنا أن من سره مساءة شخص أو غمه فرحه؛ فهو عدوه. والمراد العدواة الدنيوية، وأما العدواة في الدين؛ فليست مانعه من قبول الشهادة، فتقبل شهادة مسلم على كافر، وشهادة سني على مبتدع؛ لأن الدين يمنع ارتكاب المحرم. ولا تقبل شهادة من عرف بعصبية وإفراط في حمية لقبيلته؛ لحصول التهمة في ذلك. وأما عدد الشهود؛ فهو يختلف باختلاف المشهود به: فلا يقبل لثبوت الزنى واللواط إلا أربعة رجال؛ لقوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، ولأنه مأمور فيه بالستر، ولهذا غلظ فيه النصاب. ويقبل في إثبات عسرة من عرف بالغنى وادعى أنه فقير ثلاثة رجال؛ لحديث: "حتى تشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلاتا فاقة"، رواه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 ويقبل لإثبات بقية الحدود غير حد الزنى كحد القذف وحد المسكر والسرقة وقطع الطريق والقصاص رجلان، ولا تقبل فيها شهادة النساء. وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالبا؛ كنكاح وطلاق ورجهة؛ يقبل فيها رجلان، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله قبول شهادة النساء على الرجعة؛ لأن حضورهن عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق. ويقبل في المال وما يقصد به المال؛ كالبيع، والأجل، والإجارة ... ونحو ذلك؛ يقبل فيها رجلان، أو رجل وامرأتان؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان} ، وسياق الآية الكريمة يدل على اختصاص ذلك بالأموال. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "اتفق المسلمون على أنه يقبل في الأموال رجل وامرأتان، وكذا توابعها من البيع والأجل فيه والخيار فيه والرهن والوصية للمعين وهبته والوقف عليه وضمان المال وإتلافه ودعوى رق مجهول النسب وتسمية المهر وتسمية عوض الخلع" انتهى. والحكمة والله أعلم في قبول شهادة المرأة في المال؛ أنه تكثر فيه المعاملة، ويطلع عليه الرجال والنساء غالبا، فوسع الشرع في باب ثبوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وقد جعل سبحانه المرأة على النصف من الرجل في عدة أحكام أحدها هذا، والثاني في الميراث، والثالث في الدية، والرابع في العقيقة، والخامس في العتق. وقد بين سبحانه الحكمة في ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ؛ أي تذكرها إن ضلت، وذلك لضعف العقل؛ فلا تقوم الواحدة مقام الرجل، وفي منع قبولها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق وتعطيل لها، فضم إليها في الشهادة نظيرتها؛ لتذكرها إذا نسيت، فتقوم شهادة المرأتين مقام شهادة الرجل. ويقبل أيضا في المال وما يقصد به المال أيضا رجل واحد ويمين المدعي؛ لقول ابن عباس: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"، رواه أحمد وغيره. قال الإمام أحمد رحمه الله: "مضت السنة أنه يقضى باليمين مع الشاهد". قال ابن القيم: "ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "اليمين على المدعى عليه"؛ فإن المراد به إذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد الدعوى؛ فإنه لا يقضى له بمجرد الدعوى، فأما إذا ترجح جانبه بشاهد أو لوث أو غيره؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 لم يقض له بمجرد دعواه، بل بالشاهد المجتمع من ترجيح جانبه ومن اليمين ... " انتهى. وما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع واستهلال المولود ونحو ذلك يقبل فيه شهادة امرأة عدل؛ لحديث حذيفة: "أن النبي صلى الله عليه وسل أجاز شهادة القابلة وحدها"، رواه الدارقطني وغيره، وفي إسناده مقال، وقد قيل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة المرأة الواحدة في الرضاع كما في "الصحيحين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 باب في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة ورجوع الشهود كتاب القاضي إلى القاضي قد تدعو الحاجة إليه؛ فإن من له حق في غير بلده لا يمكنه إثياته والطلب به إلا عن طريق إثباته عند قاضي ذلك البلد والكتابة بذلك إليه؛ لاستكمال بقية الإجراءات الحكمية؛ إذ يتعذر السفر بالشهود، وربما كانوا معروفين في بلد دون بلد، فيتعذر إثبات الحق بدون كتاب القاضي إلى قاض آخر. وقد أجمعت الأمة على قبول كتاب القاضي إلى القاضي لأثبات الحقوق وتنفيذها، وقد كتب سليمان عليه السلام إلى بلقيس، وكتب النبي محمد صلى الله عليه وسل إلى النجاسي وإلى قيصر وإلى كسرى يدعوهم إلى الإسلام، وكاتب صلى الله عليه وسل عماله وسعاته، فدل ذلك على مشروعية العمل به. ويقبل في كل حق لآدمي، ولا يقبل في حدود الله؛ كحد الزنى وشرب الخمر؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على الستر والدرء بالشبهات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 كتاب القاضي إلى القاضي على نوعين: النوع الأول: يكون فيما حكم به القاضي الكاتب لينفذه القاضي المكتوب إليه، وهذا يقبل، ولو كان كل من الكاتب والمكتوب إليه في بلد واحد؛ لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حال، إلا؛ تعطلت الأحكام، وكثرت الخصومات. والنوع الثاني: أن يكتب القاضي فيما ثبت عنده إلى قاض آخر ليحكم به، ويشترط لقبول هذا النوع أم يكون بين الكاتب زالمكتوب إليه مسافة قصر فأكثر؛ لأنه نقل شهادة إلى المكتوب إليه، فلم يجز مع القرب. وصورة الثبوت أن يقول: ثبت عندي أن لفلان على فلان كذا وكذا. والثبوت ليس بحكم، بل خبر بالثبوت. قال الشيخ: "ويجوز نقله إلى مسافة قصر فأكثر، ولو كان الذي ثبت عنده لا يرى جواز الحكم به؛ لأن الذي ثبت عنده ذلك الشيء يخبر بثبوت ذلك عنده، وللحاكم الذي اتصل به ذلك الثبوت الحكم به إذا كان يرى حجته، ويجوز أن يكون القاضي المكتوب إليه غير معين، كأن يقول: إلى كل من يصل إليه كتابي من قضاة المسلمين؛ من غير تعيين، ويلزم من وصل إليه قبوله؛ لأنه كتاب حاكم من محل ولايته وصل إلى حاكم، فلزم قبوله، كما لو كتب إلى معين". ويشترط لقبول كتاب إلى القاضي القاضي أن يشهد به القاضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 الكاتب شاهدين عدلين يضبطان معناه وما يتلعق به من الحكم. هذا قول، والقول الآخر: يجوز العمل بكتاب القاضي إلى القاضي إذا عرف خطه، وإن لم يشهد، وهو رواية عن الإمام أحمد، وفي وقتنا هذا يمكن أن يكتفي بختم المحكمة الرسمي عن الإشهاد. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "أجمع الصحابة على العمل بالكتاب، وكذا الخلفاء بعدهم، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب، فإن لم يعمل بما فيها؛ تعطلت الشريعة". وقال: "ولم يزل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم لبعض، ولا يشهدون حاملها على ما فيها، ولا يقرؤونه عليه، وهذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن". قال: "والقصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف وتيقن؛ كان كنسبة اللفظ إليه، وقد جعل الله في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره؛ كتميز صورته وصورته، والناس يشهدون شهادة ولا يستريبون فيها على أن هذا فه خط فلان". وقال الشيخ تقي الدين: "ومن عرف خطه بإقرار أو إنشاء أو عقد أو شهادة؛ عمل به ... " انتهى. وأما الشهادة على الشهادة؛ فهي أن يقول شخص لآخر: اشهد على شهادتي بكذا، أو اشهد أني أشهد بكذا، ونحو ذلك؛ ففيها معنى النيابة، ويسمى الشاهد الأصلي شاهد الأصل، والنائب عنه شاهد الفرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 قال أبو عبيد: "أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال". وسئل الإمام أحمد عن الشهادة على الشهادة؟ فقال: "هي جائزة". ولأن الحاجة داعية إليها؛ لأنها لو لم تقبل؛ لتعطلت الشهادة على الوقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم أو ماتت شهوده، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة؛ فوجب قبولها كشهادة الأصل. ويشترط لقبول الشهادة على الشهادة شروط: أولاً: أن يأذن شاهد الأصل لشاهد الفرع؛ لأنها في معنى النيابة، ولا ينوب عنه إلا بإذنه. ثانيا: أن يكون فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وهو حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى. ثالثا: أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو خوف من سلطان أوغيره. رابعا: أن يستمر عذر شاهد الأصل إلى الحكم. خامسا: دوام عدالة شاهد الأصل وشاهد الفرع إلى صدور الحكم. سادسا: أن يعين شاهد الفرع شاهد الأصل الذي تحمل عنه الشهادة. وأما الرجوع عن الشهادة: فإنه إذا رجع شهود المال بعد الحكم؛ فإنه لا ينقض؛ لأنه قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 تم، ووجب المشهود به للمشود له، وهما متهمان بإرادة نقض الحكم، فينفذ الحكم، ويلزمهم الضمان؛ بأن يضمنوا المال الذي شهدوا به؛ لأنهم أخرجوه من يد مالكه بغير حق، وحالوا بينه وبينه. وإن حكم القاضي بشاهد ويمين، ثم رجع الشاهد؛ غرم المال كله؛ لأنه حجة للدعوى، واليمين قول الخصم، وقول الخصم ليس مقبولاً على خصمه، وإنما هو شرط للحكم. وإن رجع الشهود عن الشهادة قبل الحكم؛ ألغي، ولا حكم ولا ضمان، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 باب في اليمين الدعاوى اليمين من جملة الطرق القضائية؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر". فاليمين من جانب المنكر إذا لم يكن للمدعي بينة، وهي تقطع الخصومة عند التنازع، ولا تقطع الحق، فلو تمكن المدعي من إقامة البينة فيما بعد؛ مكن من ذلك، وسمعت بينته، وحكم له بها، وكذا لو تراجع الحالف عن اليمين بعدما حلف، وأدى ما عليه من الحق؛ قبل منه ذلك، وحل للمدعي أخذه. ومجال اليمين في دعوى حقوق الآدميين خاصة؛ فهي التي يستحلف فيها. أما حقوق الله تعالى فلا يستحلف فيها، وذلك كالعبادات والحدود، فإذا قال: دفعت زكاتي أو ما علي من كفارة أو نذر؛ قبل منه، ولم يستحلف، وكذا لا يستحلف منكر لحد عليه من حدود الله؛ لأنها يستحب سترها، ولأنه لو أقر بها ثم رجع عن إقراره؛ قبل منه، وخلي سبيله، فلئلا يستحلف مع عدم الإقرار أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 ولا يعتد باليمين في دعوى حقوق الآدميين إلا إذا أمره بها الحاكم بعد طلب المدعي، وتكون على صفة جوابه للمدعي. ولا بد أن يكون أداؤها في مجلس الحاكم. ولا يكون اليمين إلا بالله تعالى:؛ لأن الحلف بغير الله شرك. ويكفي فيها الإتيان بلفظ الجلالة في اليمين، فإذا قال: والله؛ كفى؛ لأن هذا القسم جاء في كتاب الله تعالى؛ مثل قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} ، {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ، لأن لفظ الجلالة علم على الله تعالى، لا يسمى به غيره. ولا تغلظ اليمين إلا فيما له أهمية كبرى؛ كجناية لا توجب قودًا أو عتقا؛ فللحاكم تغليظها باللفظ؛ كوالله، الذي لا إله غيره، عالم الغيب والشهادة، الطالب، الغالب، الضار، النافع، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومن توجه عليه حق لجماعة؛ حلف لكل واحد يمينا؛ لأن حق كل واحد منهم غير حق الآخر؛ إلا إذا رضوا يمينا واحدة؛ فيكتفي بها؛ لأن الحق لهم، وقد رضوا بإسقاطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 باب في أحكام الإقرار الإقرار: هو الاعتراف بالحق، مأخوذ من المقر، وهو المكان كأن المقر يجعل الحق في موضعه. وهو إخبار عما في نفس الأمر من حق الغير، لا إنشاء لحق جديد. قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "التحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه؛ فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه؛ فهو مدع، وإن أخبر بما على غيره لغيره: فإن كان مؤتمنا عليه؛ فهو مخبر، وإلا؛ فهو شاهد؛ فالقاضي والوكيل والكاتب والوصي والمأذون له، كل هؤلاء ما أدون مؤتمنون فيه، فإخبارهم بعد العزل ليس إقراراً، وإنما هو خبر محض، وليس الإقرار بإنشاء، وإنما هو إظهار وإخبار لما هو في نفس الأمر" انتهى. ويشترط لصحة الإقرار: أن يكون المقر مكلفا؛ فلا يصح من صبي، ولا مجنون ونائم، ويصح من الصغير المأذون له في التجارة في حدود ما أذن له فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 ويشترط: أن يكون المقر قد أقر في حالة اختياره؛ فلا يصح الإقرار من مكره؛ إلا أن يقر بغير ما أكره على الإقرار به. ويشترط لصحة الإقرار أيضا: أن لا يكون المقر محجورً عليه؛ فلا يصح من سفيه إقرار بمال. ويشترط أيضا: أن لا يقر بشيء في يد غيره أو تحت ولاية غيره؛ كما لو أقر أجنبي على صغير أو على وقف في ولاية غيره أو اختصاصه. وإن ادعى المقر أنه أكره على الإقرار، ولم يقر باختياره؛ قبل منه ذلك مع قرينة تدل على صدقه أو بينة على دعواه. ويصح إقرار المريض بمال لغير وارثه؛ لعدم التهمة، ولأن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه لما يراد منه. وإن ادعى إنسان على شخص بشيء، فصدقه المدعى عليه؛ صح تصديقه، واعتبر إقرارًا يؤاخذ به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عذر لمن أقر". ويصح الإقرار بكل ما أدى معناه من الألفاظ؛ كأن يقول لمن ادعى عليه: صدقت، أو: نعم، أو: أنا مقر بذلك. ويصح استثناء النصف فأقل في الإقرار؛ فلو قال: له عليَّ عشرة إلا خمسة؛ لزمه خمسة، وقد ورد الاستثناء في كتاب الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 واختار كثير من العلماء جواز استثناء أكثر من النصف. ويشترط لصحة الاستثناء في الإقرار: أن يكون متصلاً باللفظ؛ فلو قال: له علىَّ مئة، ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفا، أو: مؤجلة؛ لزمه مئة جيدة حالة، وما أتى به بعد سكوته لا يلتفت إليه؛ لأنه يرفع به حقا قد لزمه. وإن باع شيئا أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر أن ذلك الشيء كان لغيره؛ لم يقبل منه، ولم ينفسخ البيع ولا غيره؛ لأنه إقرار على غيره، ويلزمه غرامته للمقرِّ له؛ لأنه فوته عليه. ويصح الإقار بالشيء المجمل، وهو ما احتمل أمرين فأكثر على السواء عند المقر: فإذا قال إنسان: لقلان عليَّ شيء، أو: له عليَّ كذا؛ صح الإقرار، وقيل للمقر: فسره؛ ليتأتى إلزامه به، فإن أبى تفسيره؛ حبس حتى يفسره؛ لوجوب تفسيره عليه؛ لأنه حق عليه يجب بيانه وأداؤه لصحابه، وإن قال: لا علم لي بما أقررت به؛ حلف وغرم أقل ما يقع عليه الاسم، وإن مات قبل تفسيره؛ لم يؤاخذ وارثه بشيء، وإن خلف تركة؛ لاحتمال أن يكون المُقَرّ به غير مال. وإن قال له عليَّ ألف إلا قليلاً؛ حمل الاستثناء على ما دون النصف. وإن قال: له عليَّ ما بين درهم وعشرة؛ لزمه ثمانية؛ لأن ذلك هو مقتضى لفظه؛ لأن الثمانية هي ما بين واحد وعشرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 وإن قال: له عليَّ ما بين درهم إلى عشرة؛ لزمه تسعة؛ لعدم دخول الغاية في المغيِّي وعند بعض العلماء أن الغاية إن كانت من جنس المغِّيي؛ دخلت، وإلا فلا. وإن قال: له ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط؛ لم يدخل الحائطان؛ لأنه إنما أقر بما بينهما. وإن أقر لشخص بشجرة أو بشجر؛ لم يشمل إقراره الأرض التي عليها ذلك الشجر؛ فلا يملك الغرس في مكانها لو ذهبت، ولا يملك رب الأرض قلعها؛ لأن الظاهر وضعها بحق. أما لو أقر ببستان فإنه يشمل الأشجار والبناء والأرض؛ لأنه اسم للجميع. وإن قال: له عليَّ تمر في جراب أو سكين في قراب أو ثوب في منديل؛ فهو مقر بالمظروف دون الظرف، وهكذا كل مقر بشيء جعله ظرفا أو مظروفا؛ لأنهما شيئان متغايران، لا يتناول الأول منهما الثاني، ولأنه لا يلزم أن يكون الظرف والمظروف لواحد، والإقرار لا يلزم مع الاحتمال. وإن قال: هذا الشيء مشترك بيني وبين فلان؛ رجع في بيان حصة الشريك إلى المقر، وقيل: يكون بينهما نصفين؛ لأن هذا مقتضى القاعدة في أن مطلق الشركة يقتضي التسوية بين المشتركين، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث} . ويجب على من عنده حق الإقرار به إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُم} ، وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل} . قال الموفق في "الكافي": "والإملال هو الإقرار، والحكم بالإقرار واجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها"، ولرجم النبي صلى الله عليه وسل ماعزًا والغامدية بإقرارهم، ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة؛ فلا يجب بالإقرار مع بعده عن الريبة من باب أولى". والحمد لله رب العالمين. تم الاختصار، ونسأل الله أن يعفو عما حصل فيه من الخطأ والنقص، وأن ينفعنا والقراء الكرام بما فيه من الصواب، وأن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667