الكتاب: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب المؤلف: ابن عذاري المراكشي، أبو عبد الله محمد بن محمد (المتوفى: نحو 695هـ) تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال الناشر: دار الثقافة، بيروت - لبنان الطبعة: الثالثة، 1983 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ابن عذاري المراكشي الكتاب: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب المؤلف: ابن عذاري المراكشي، أبو عبد الله محمد بن محمد (المتوفى: نحو 695هـ) تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال الناشر: دار الثقافة، بيروت - لبنان الطبعة: الثالثة، 1983 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الحمد الله مصرف الأقدار ومحيي الآثار والمتعالي عن الأشباه والأنظار، المتنزه عن تمثيل الأوهام وتكييف الأذكار الذي احتجب بحجاب عزته وقدرته فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار الذي خضعت لهيبته وعظمته رقاب الأكاسرة والجبابرة والأشرار، العالم بالكونين على اختلافها والحوادث مع تشتيت أوصافها، وكل شيء عنده بمقدار، مكور الليل على النهار، والنهار على الليل ما جرى الفلك الدوار وجعلهما آيتين بينتين للمتفكر في العظة والاعتبار وخص الإنسان بفضل النظر والاستبصار فقال جل وتعالى " فاعتبروا يا أولي الأبصار " وعلمه ما لم يكن يعلم وكرر عليه ما لم يلحق من انباء القرون الماضية في الأزمان والأعصار وأراه متقلبهم في هذه الدنيا الفنية التي جعلها لهم دار انتقال، ومفر وزوال، وجعل الأيام بينهم دولا والأقوام بعضهم من بعض بدلا ذلك تقدير العزيز القهار نحمده على ما نعم به علينا من الهداية للنظر في مواقع الأدلة بأن هو الله الملك الغفار ونشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، الذي اختار لرسالته وختم به الرسل الكرام الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحبه الأكرمين الأخيار، وسلم كثيراً. وبعد جعلنا الله ممن نظر فاعتبره، ووعظ فازدجره فإن خير ما شغلت به الأذكار والأفكار، وتحدثت معه الليل والنهار، حفظ ما فاد من العلوم والأخبار وأن أولى ما ريضنا به النفوس البشرية مجالسة العلماء والأخيار، ومذاكرة الأدباء ذوي الهمم وعلو المقدار، ففي مجالستهم ومذاكرتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 ما يسحر الذهن وينور الأفكار فان فقدت مجالستهم فلا عوض منها غير كتاب يتخذه جليسه ويجده في كل وقت أنيسه ويتنسمه روضا يانع الأزهار وإذا نظر اللهيب بفطنته إلى أصناف العباد ومختلف الآباد أغناه ذلك عن المشاهدة وقام له الاستماع مقام المعاينة والاستخبار. قال المؤلف: ولما كنت كلفت بأخبار الخلفاء والأئمة والأمراء بالبلاد الشرقية والمغربية وما والاهما من الأقطار، وولعت بالمناظرة في ذلك مع الفضلاء والأخلاء ذوي الأقدار والأخطار، طلب بعضهم إلي، ممن يجب إكرامه على، أن أجمع له كتابا مفردا في أخبار ملوك البلاد الغربية على سبيل الإيجاز والاختصار، ولازمني في طلبه مرارا، فلم يمكنني التوقف في ذلك ولا الاعتذار وحملني على جمعه وتأليفه حمل اضطرار لا اختيار، فجمعت له في هذا الكتاب نبذا ولمعا من عيون التواريخ والأخبار، مما جرى الله به تصاريف الأقدار فيما مر من الأزمنة والأعصار في بلاد المغرب وما والاهما من الأقطار: جمعت ذلك من الكتب الجليلة مقتضيا من غير إسهاب ولا إكثار فاقتطفت عيونها واقتضبت فنونها ووصلت الحديث بالقديم والقديم بالحديث لأنه إذا اتصل يستظرف ويستحلى كما قال بعضهم: وسئت كل مآربي ... فكأن أطيبها خبيث إلا الحديث فأنه ... عند اسمه ابدأ حديث فنقلت والله ولي التوفيق من تاريخ الطبري والبكري والرقيق والقضاعي ومن كتاب (الذيل) لابن شرف ومن كتاب ابن أبي الصلت ومن (المجموع المفترق) ومن كتاب (بهجة النفس وروضة الأنس) ومن كتاب (المقباس) و (القبس) ومن مختصري عريب وابن حبيب ومن (درر القلائد وغرر الفوائد) ومن (القلائد) و (المطمح) لابن خاقان ومن كتاب ابن حزم (ذخيرة) ابن بسام ومن (أخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الدولة العامرية) لابن حيان، ومن كتاب (تقصي الأنباء في سياسة الرؤساء) ومن كتاب (الأنوار الجلية في الدولة المرابطية) ومن (نظم الجمان في أخبار الزمان) لابن القطان، ومن كتابي (الاشيري) و (البيذق) وكتاب يوسف الكاتب وكتاب بن صاحب الصلاة أبي مروان، ومن كتاب بن رشيق ومن كتاب وجدته أو تعليق، ومن شيوخ أخذت الأخبار الوقتية عنهم بتحقيق والله الهادي إلى سواء الطريق. ولما كمل ما قيدته وجردته على ثلاثة أجزاء: كل جزء كتاب قائم بنفسه ليكون لمطالعه أوضح البيان وأسهل مرام لدى العيان وسميته بالبيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب. أما الجزء الأول فاختصرت فيه أخبار أفريقية من حين الفتح الأول في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ثم أخبار أمرائها من ولاة الخلفاء الأمويين ومن دخل الغرب منهم ومن قام بأفريقية من الصفرية والاباضية ثم قام فيها بالدولة العباسية ومن ملكها من بني الأغلب وأخبار بني عبيد الشيعة وأخبار زناته والصهاجيين وغيرهم وكل ما اشتهر من أمرهم إلى حين انتقال العبيدية إلى البلاد المصرية واستخلافهم صهاجة على أفريقية ثم خلع صهاجة لهم واستيلائهم على أفريقية ونذكر فتنة العرب وأسبابها ودخولهم إلى القيروان وخرابها وتنقل أمراء صهاجة إلى المهدية ومن ملكها منهم وما اشتهر في ذلك من الأخبار عنهم من ملوك المناديين والحماديين إلى حين ظهور الموحدين ولخصت في ذلك كله أخبار أمراء البلاد الغربية ومن دخلها من أخبار الدولة العبيدية وذكرت أخبار المدراريين السجلماسيين والأمراء الإدريسيين وأخبار البرغواطيين والزناتيين ومن ملك فاسا من زناتة المغراويين ومن ولاء الخلفاء الأمويين الأندلسيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 على أن أخبار المغرب الأقصى أكثر من أن تحصى لكني نسقتها نسق الأسلاك وسقت من كان فيه على الولاء من الأملاك من حين فتحه الأول إلى حين ابتداء الدولة اللمتونية المرابطية. والجزء الثاني اختصرت فيه أخبار جزيرة الأندلس وأملاكها الغابرين الدرس من حين الفتح الأول ثم من وليها من الأمراء للخلفاء الأمويين بالمشرق ثم من قام بها من العرب الفهريين إلى حين دخول الخلفاء الأمويين في ابتداء أمرهم ومن قام عليهم من الثوار الأندلسيين وذكرت بعض أخبارهم وآثارهم في غزواتهم وحركاتهم إلى انقضاء مدتهم بعد ذكر حجابهم العامريين ومآثرهم إلى حين انقضاء الدولة العامرية وقيام الفتنة البربرية وذكرت فيه أخبار ملوك الطوائف بعد انقضاء دول الخلائف من الحموديين والهوديين والجهوريين والعباديين وفتيان العامريين والصمادحيين والزناتيين والبكريين والافطسيين والصهاجيين وغيرهم من الرؤساء الأندلسيين وكل ذلك إلى حين دخول لمتونة إلى الأندلس سنة 478. والجزء الثالث: اختصرت فيه أخبار الدولة المرابطية اللمتونية وخروجهم من صحرائهم في ابتداء أمرهم واستيلائهم على مملكة أمراء المغرب والأندلس وخلعهم لجميعهم وتغلبهم على مملكة كل منهم وما تسنى لهم فيها من الفتوحات والمنوحات إلى حين ابتداء دولة الموحدين وظهورهم ونبذ من أحوالهم وأمورهم ثم ما كان بين أمراء الدولتين من مقاتلات ومنازلات وحصر من حصر ونصر من نصر - سمه الله لهم - وذلك إلى حين انقضاء الدولة المرابطية وابتداء دولة الموحدية ثم ما تخلل ذلك للموحدين من النصر والتأييد ومن فتوح ومنوح وصنع عجيب في البلاد الأفريقية والأندلسية إلى حين انقراض دولتهم وذلك بسبب أحداث حدثت عليهم وأحوال نسبت إليهم وذكرت الدولة الحفصية الموحدية الهتاتية في البلاد الأفريقية والدولة الهودية المتوكلية والنصرية الاحمرية في البلاد الأندلسية والدولة السعيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 المرينية في البلاد الغربية اختصرت في ذلك كله ما اشتهر أمره وأمكنني ذكره وذكرت بعض البيعات والرسائل السلطانيات وما تعلق بها وكان بسببها من الوقائع المذكورات والأمور المشهورات وذلك إلى انقضاء الدولة الموحدية واستيلاء الإمارة اليوسفية المرينية على حضرتهم المراكشية وذلك على مرور السنين إلى عام 667. قال المؤلف - سمح الله له - فإن كنت اقتصرت فيما اقتصرت فعذراً فيما ظهر من تقصير وباع قصير فان الذهن كليل والقلب شغيل وكنت قد نسخت نسخة من هذا الكتاب وربما زدت في هذه الثانية أو نقصت إذا كان الأولى بي والأحرى إلا القدم الأولى ولا أؤخر الأخرى ولكني ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا وحسبي الاعتراف فهو سبيل الإنصاف نسأل الله الإرشاد إلى سواء فهو حسبي ونعم الوكيل. ذكر حد المغرب وأفريقية وما اتصل بهما وعد معهما قال أبو مروان في كتاب (المقباس) وابن حمادة في كتاب (القبس) وغيرهما من المؤرخين لأخباره المعتنين بآثاره: إن حد المغرب هو من ضفة النيل بالإسكندرية التي تلي بلاد المغرب إلى آخر بلاد المغرب وحده مدينة سلاء وينقسم أقساما: فقسم من الإسكندرية إلى طرابلس وهو أكبرها وأقلها عمارة وقسم من طرابلس وهي بلاد الجريد ويقال أيضاً بلاد الزاب الأعلى ويلي هذه البلاد بلاد الزاب الأسفل وحدها إلى مدينة تيهرت ويليها بلاد المغرب وهي بلاد طنجة وحدها مدينة سلا وهي آخر المغرب وإذا جزت سلا وأخذت إلى ناحية الجنوب تركت مغرب الشمس يمنة وأخذت منها قافلا إلى قبلة فتسمى تلك البلاد تامسنا ويقال لها أيضاً بلاد السوس الأدنى وحدها إلى جبل درن وإذا جزت هذا الجبل فعن يمينك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بلاد السوس الأقصى ويقال لها بلاد ماسة ويتصل السوس الأقصى ببلاد الصحراء إلى السودان وهي بلاد الزهج وبلاد الأندلس أيضاً من المغرب وداخلة فيه لاتصالها به ويليها المجاز الأعظم الذي يسمى بحر الزقاق وفيه مصب البحر الكبير الذي يسمى المحبط ويقال له بحر الظلمات وهذا البحر لا يعلم له ساحل غير الذي عليه بلاد السودان وبلاد الكجوس الذين يلون بلاد الأندلس ويصب ماء الزقاق في البحر الرومي ويقال له أيضاً البحر الشامي وهو يتصل إلى البلاد الشام إلى ناحية القسطنطينية وبينه وبين بحر الزقاق الخليج الذي منه وذكر بن حمادة أن حد المغرب من بحر القلزوم وهو الهابط من اليمن إلى عدن إلى عيداب إلى القلزوم وإلى مصر قبلة وشرقا وحد المغرب من الجوف البحر الشامي وهو بحر الإسكندرية وهو المتفرغ في بحر الزقاق من جزيرة طريف وعلامته صنم قادس وحد المغرب من الغرب البحر المحيط المسمى الابلاية وصار المغرب كالجزيرة دخل فيه بعض أعمال مصر وأفريقية كلها والزاب والقيروان والسوس الأدنى والسوس الأقصى وبلاد الحبشة ومنه يتفرع نيل مصر. ذكر فضل المغرب وما ورد من الأخبار والآثار روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لا تزال طائفة من أمتي بالمغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) وذكر البخاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يضرهم من خالفهم، حتى يروا قياما فيقولون: غشيتم فيغشون سرعان خيلهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فيرجعون إليهم فيقولون: الجبال سيرت فيخرون سجدا فتنقبض أرواحهم) وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول (خير الأرض مغاربها وأعوذ بالله من فتنة المغرب) وذكر خالد بن سعيد أن محمد بن عمر بن لبلاة كان يروى عن عبيد الله بن خالد عمن حدثه عن أبي زيد المصري يرفع الحديث عن أبي عباس - رضي الله عنه - عن أبي أيوب الأنصاري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف إذ توجه تلقاء المغرب فسلم وأشار بيده فقلت (على من تسلم يا رسول الله) قال (على رجال من أمتي يكونون في هذا المغرب بجزيرة يقال لها الأندلس حيهم مرابط وميثهم شديد وهم ممن استثنى الله من كتابه " فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ") وصح وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الإسلام سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها فكان الأمر كما وعد وقال الحميدي في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يزال أهل الغرض ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) هذا وإن كان عاما فللأندلس منه حظ وافر بدخولها في الإسلام وتحققها من الغرب وإنها عن آخر المعمور فيه وبعض ساحلها الغربي والبحر محيط بجميع جهاتها فصارت بين البحر والروم وروى الرفيق عن عبد الله بن وهب يرفع الحديث إلى النبي انه بعث سرية في سبيل الله فلما رجعوا ذكروا شدة البرد الذي أصابهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لكن أفريقية أشد بردا وأعظم أجرا) وعن سفيان بن عيينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (الشر عشرة أجزاء، فتسعة في المشرق، وواحد في سائر البلدان) . ويقال بأن أفريقية ساحلا يقال له المنستيد وهو باب من أبواب الجنة وبها جبل يقال له المطمور: باب من أبواب جهنم. وفي الحديث أن أفريقية يحشر منها سبعون ألف شهيد ووجوههم كالقمر ليلة البدر وعن سفيان بن عيينة قال يروي ان المغرب باب المنوبة مفتوحا مسيرة أربعين خريفا لا يغلغه الله حتى تطلع منه الشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ودخل أفريقية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين الأولين ناس كثير ودخل الأندلس من التابعين قوم فأول من دخل أفريقية غازيا في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عمرو بن العاص وكان استفتح مصر سنة 20 من الهجرة ووجه منها عقبة بن نافع الفهري إلى لوبية وأفريقية فافتتحهما ثم توجه عمرو بنفسه إلى برقة فصالح أهلها إلى الجزية: دينار على كل حالم وتوجه منها إلى طرابلس فافتتحهما بعد استغاثة أهلها بقبيل من البربر يقال لهم نفوسة إذا كانوا دخلوا معهم في دين النصرانية. ابتداء التاريخ سنة إحدى وعشرين من الهجرة فيها افتتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية وفي سنة 22 بعدها افتتح بلاد طرابلس وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخبره بما أفاءه الله عليه من النصر والفتح وأن ليس أمامه إلا بلاد أفريقية وملوكها كثير وأهلها في عدد عظيم وأكثر ركوبهم الخيل فأمره بالانصراف عنها فأمر عمرو العسكر بالرحيل قافلا إلى مصر ثم استشهد عمرو - رضي الله عنه - فلما ولي عثمان الخلافة عزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن أبي سرح سنة 25 من الهجرة. وفي سنة 27 من الهجرة أمر أمير المؤمنين عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري بغزو أفريقية. فتح أفريقية للإسلام ندب عثمان - رضي الله عنه - الناس إلى غزوهم فخرج المسلمون في جيش عظيم فيهم مروان بن الحكم وجمع كثير من بني أمية وبشر كبير من بني أسد بن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 العزى وعن عبد الله بن الزبير بن العوام في عدة من قومه وعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه - وعن عبد الله بن عمر بن العاص والمطلب بن سائب وبشر ابن أرطأة وغير هؤلاء من المهاجرين وأعان عثمان المسلمين في هذه الغزوة بألف بعير يحمل عليها ضعفاء الناس وفتح بيوت السلاح التي كانت للمسلمين فلما توافى الناس جدوا السير وذلك في المحرم من هذه السنة وأمر الناس فعسكروا وقام فيها خطيبا فوعظهم وذكرهم وحرضهم على الجهاد ثم قال (وقد عهدت إلى عبد الله بن سعد أن يحسن صحبتكم ويرفق بكم وقد استعملت عليكم الحارث بن الحكم إلى أن تقدموا على ابن أبي سرح فيكون الأمر له) . بعض أخبار عبد الله بن سعد وإمرته نسبه: هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان يكتب الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين بمكة وكان معاوية بن أبي سفيان بمكة قد أسلم وحسن إسلامه فاتخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتبا للوحي بعد ابن أبي سرح فلما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة استجار ابن أبي سرح فأخذ له عثمان الأمان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن أبي سرح أخا لعثمان من الرضاعة فحسن إسلامه من ذلك الوقت فلما أفضت الخلافة إلى عثمان - رضي الله عنه - ولاه ملك مصر وجندها فكان يبعث المسلمين في جرائد الخيل يغيرون على أطراف أفريقية فيصيبون كثيراً من الأنفس والأموال فكتب إلى عثمان بذلك فكان السبب في توجيه الجيش إليه وتقديمه عليه وأمر له بالدخول لغزو أفريقية فخرج عبد الله من مصر في عشرين ألف إلى أفريقية وصاحبها بطريق يقال له جرجير وكان سلطانه من طرابلس إلى طنجة فبعث عبد الله السرايا في آفاق أفريقية فغنموا في كل وجه والتقى عبد الله مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 البطريق ضحى النهار في موضع يعرف بسبيطلة وكان جرجير في مائة وعشرين ألفا فضاق المسلمون في أمرهم واختلفوا على لين سعد في الرأي فدخل فسطاطه مفكرا في الأمر فلما رأى جرجير خيل العرب اشتد رعبه وأهمته نفسه فأخرج ديدبانه وصد فيه يشرف على العساكر ويرى القتال وأمر ابنته فصعدت الديدبان وسفرت عن وجهها وكان عدة خدمها اللائي صعدن الديدبان أربعين جارية في الحلي والحلل من أجمل ما يكون ثم قدم كراديسه كردوساً كردوسا وهو تحت الديدبان ثم قال لهم (أتتعرفون هذه) فقالوا (نعم هذه سيدتنا، ابنة الملك وهؤلاء خدمها) فقال لهم (وحق المسيح ودين النصرانية لئن قتل رجل منكم أمير العرب عبد الله بن سعد لأزوجه ابنتي هذه وأعطيه ما معها من الجواري والنعمة وأنزله المنزلة التي لا يطمع فيها أحد عندي) وما زال ذلك من قوله حتى مر على المسامع خيله ورجله فحرض بذلك تحريضاً شديدا. وإن عبد الله بن سعد لما انتهى إليه ما فعل جرجير وما كان من قوله نادى في عسكره فاجتمعوا فأخبرهم بالذي كان من جرجير ثم قال (وحق النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لا قتل أحد منكم جرجير إلا نفلته ابنته ومن معها) ثم زحف المسلمين فالتقى الجمعان واستحر القتال واشتعلت نار الحرب والمسلمون قليل والمشركين في عشرين ومائة ألف وأشكل الأمر على ابن سعد ودخل فسطاطه مفكرا في الأمر. ذكر قتل عبد الله بن الزبير لجرجير ملك أفريقية والمغرب كله قال عبد الله بن الزبير: فرأيت عورة من جرجير والناس على مصافهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعا عنهم معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس فأتيت فسطاط عبد الله بن سعد فطلبت الإذن عليه فقال له حاجبه (دعه فإنه يفكر في شأنكم ولو اتجه له رأي لدعا بالناس) فقلت (أني محتاج إلى مذكراته) فقال له (أمر في أن أحبس الناس عنه، حتى يدعوني) قال فدرت حتى كنت من وراء الفسطاط فرأى وجهي فأومأ إلي أن تعال فدخلت عليه وهو مستلق على فراشه فقال (ما جاء بك؟ يا بن الزبير) فقلت (رأيت عورة من عدونا. فرجوت أن تكون فرصة هيأها الله لنا، وخشيت الفوت) فقام من فوره وخرج حتى رأى ما رأيت فقال (أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم) فتسرع إلي جماعة اخترت منها ثلاثين فارسا فقلت (إني حامل فاصرفوا عن ظهري من أرادني فأني سأكفيكم ما أمامي إن شاء الله) قال عبد الله: فحملت في الوجه الذي هو فيه وذب عني الناس الذين انتدبوا معي واتبعوني حتى خرقت صفوفهم إلى أرض خالية فضاء بيني وبينهم فوالله ما حسب إلا أني رسول إليه حتى رأى ما بي من أثر السلاح فقدر أني هارب إليه فلما أدركته، طعنته، فسقط: فرميت نفسي عليه وألقت جارياته عليه أنفسهما فقطعت يد إحداهما، وأجهزت عليه ورفعت رأسه على رمحي وحال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فانهزم الروم وقتلهم المسلمون كيف شاءوا وثارت الكمائن من كل جهة ومكان وسبقت خيول المسلمين ورجالهم إلى حضن سبيطلة فمنعوهم من دخوله. وركبهم المسلمون يمينا وشمالا في السهل والوعر فقتلوا أنجادهم وفرسانهم وأكثروا فيهم الأسرى حتى لقد كنت أرى في موضع واحد أكثر من ألف أسير. وذكر أشياخ من أهل أفريقية أن ابنة جرجير لما قتل أبوها تنازع الناس في قتله وهي ناظرة إليهم فقالت (قد رأيت الذي أدرك أبي، فقتله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فقال لها الأمير بن ابن أبي سرح (هل تعرفينه؟) فقالت (إذا رأيته، عرفته) قال فمر الناس بين يديها حتى مر عبد الله بن الزبير فقالت (هذا والمسيح قتل أبي) فقال له ابن أبي سرح (لم كتمتنا قتلك إياه) ؟ فقال عبد الله (علمه الذي قتلته من أجله) فقال الأمير (إذا والله أنفلك ابنته) فنفله ابن أبي سرح ابنة الملك جرجير فيقال إنه اتخذها أم ولد ولما انهزمت جيوش جرجير سار عبد الله بن أبي سرح حتى نزل باب مدينته العظمى قرطاجنة، فحصرها من كان معه من المسلمين حصارا شديدا أتى فتحت فأصاب فيها من السبي والأموال ما لم يحيط به الوصف وكان أكثر أموالهم الذهب والفضة فكانت توضع بين أيديه أكوام الفضة والذهب لأنه افترع أفريقية مبكرا فعجب هو والمسلمون من كثرة ذلك فقال للأفارقة: (من أين لكم هذا؟) فجعل الرجل منهم يلتمس شيئاً من الأرض حتى بنواة زيتون، فقال: (من هذا أصبنا الأموال لأن أهل البحر والجزر ليس لهم زيت فكانوا يمتارونه من هنا) فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينارا عينا وسهم الراجل ألف دينار وقسم ابن أبي سرح السرايا والغارات من مدينة سيبطلة فبلغت جيوشه بقصر قفصة فسبوا كثير وغنموا فأذلت هذه الوقعة الروم بأفريقية ورعبوا رعباً شديداً فجاءوا إلى الحصون والمعاقل ثم طلبوا من عبد الله بن سعد أن يقبض منهم ثلاثمائة قنطار من الذهب في السنة جزية على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم فقبل ذلك منهم وقبض المال وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم وما أصابوه بعد الصلح ردوه عليهم ودعا الأمير عبد الله بن سعد عبد الله بن الزبير فقال له (ما أحد أحق بالبشارة منك فامض فبشر أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - بالمدينة، بما أفاء الله على المسلمين) فتوجه عبد الله بن الزبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 من سبيطلة فقيل إنه وافى المدينة في أربعة وعشرين يوما وكانت إقامته بأفريقية سنة وشهرين ثم وصل فيء أفريقية إلى المدينة فبيع المغنم فطفق مروان بن الحكم على الخمس فأخذ منه خمسين ألف دينار فسلم له من ذلك عثمان - رضي الله عنه - فكان ذلك مما انتقد عليه. وفيه وفي رد الحكم أبيه بعد أن نفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عبد الرحمن أخو كندة: سأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله شيئا سدى ولاكن خلقت لنا فتنة ... لكي نبتلي بك وتبتلى دعوت اللعين فأدنيته ... خلافا لسنة من قد مضى وأعطيت مروان خمس العباد ... ظلماً لهم وحميت الحمى وقال مروان بن الحكم يوما في مجلس معاوية (ثلاث لم أدخل فيهن حراما قط: داري بالمدينة، ومالي بذي خشب، وصدقات نسائي) فنظر معاوية إلى عبد الله بن الزبير وكان حاضراً فقال له (ما تقول؟ فإنك طعان) فقال (مهلا أبا عبد الملك خرجنا مع ابن أبي سرح إلى غزو أفريقية فوالله ما كان مروان أحسننا وجهها ولا أكثرنا نفقة، ولا أعظمنا في العدو نكاية فطفق على خمس أفريقية بم تعلم وتحابى له من تعلم فنى منه الدار واتخذ منه المال وتزوج منه النساء) فقال له مروان (أتطعن على أمير المؤمنين عثمان؟) فقال له معاوية (دعه وخذ مني غير هذا فإنك صحة ما أقول) قال الطبري (كان عثمان - رحمه الله - قال لعبد الله بن سعد: إن فتح الله عليك أفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس نفلاً) فلما فتح أفريقية في هذه السنة وهي سنة 27 قسم عبد الله الفيء على المسلمين فأبقى الخمس لنفسه وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان وضرب فسطاطه في أرض القيروان فوفد وفد على عثمان يشكون بابن أبي سرح فيما أخذ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الخمس فقال لهم عثمان (أنا نفلته إياه وذلك الآن إليكم فإن رضيتم فقد جاز وإن غضبتم فهو رد) قالوا: (فإنا نسخط) فكتب عثمان إلى ابن سعد برد ذلك قالوا (فأعزله عنا أنا لا نريد أن تأمر علينا وقد وقع ما وقع فكتب إليه أن استخلف على أفريقية رجلا ترضاه ويرضونه واقسم خمس الخمس الذي كنت نفلتك في سبيل الأخماس فإنهم قد سخطوا النفل) ففعل ذلك عبد الله ورجع إلى مصر وقد فتح الله أفريقية فما زالوا من أسمع أهل الأقاليم وأطوعهم إلى زمن هشام بن عبد الملك ثم ورد الخمس على أمير المؤمنين عثمان فكان من أمر مروان بن الحكم فيما تقدم ذكره. وفي سنة 28 غزا حبيب بن مسلمة قورية من أرض الروم ذكر ذلك الطبري وغيره. وفي سنة 29 هجرة افتتح عبد الله بن عامر أرض فارس. وفي سنة 30 سقط الخاتم من يد عثمان - رضي الله عنه - في بئر اريس وقد ذكرنا خبر سقوطه في كتابنا المسمى (البيان المشرق في أخبار المشرق) وفي سنة 31 كانت غزة ذات الصواري وغزة ذات الاساورة في قول الواقدي وفي سنة 32 توفي عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وهو ابن خمس وسبعين سنة، وفيها مات عبد الله بن زيد بن عمرو بن نفيل وفيها مات أبو طلحة وأبو ذر - رضي الله عنهما - وبها توفي عبد الله بن مسعود فدفن بالبقيع. وفي سنة 33 كانت غزوة عبد الله ابن أبي سرح أفريقية مرة ثانية حين نقض أهلها العهد هكذا ذكره عريب في مختصره وقد تقدم خبر ابن أبي سرح على الجملة دون تعيين سنة. وفي سنة 34 مات عبادة بن الصامت في قول الواقدي وهو ابن اثنين وتسعين سنة ودفن بالرملة وفيها غزا معاوية بن حديج أفريقية وهي أول غزواته إلى المغرب ثم اشتغل الناس بعد ذلك بأمر عثمان - رضي الله عنه - وبوقائع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الجمل وصفين وغيرهما إلى أن اعتدلت الخلافة إلى معاوية ابن أبي سفيان وفي سنة 35 استشهد عثمان - رضي الله عنه - واستخلفه أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - فنازعه معاوية ولم يبايعه. وفي سنة 36 عزل علي - رضي الله عنه - ابن أبي سرح عن مصر وأقام عليها قيس بن عبادة الأنصاري. وفي سنة 37 كان العامل على مصر محمد ابن أبي بكر الصديق وفي سنة 38 قتل محمد ابن أبي بكر الصديق بمصر قتله معاوية ابن أبي حديج بأمر معاوية بن أبي سفيان وقد ذكرنا شرح مقتله في (البيان المشرق في أخبار المشرق) وفي سنة 40 كانت مهادنة بين علي - رضي الله عنه - وبين معاوية إلى أن توفي علي - رضي الله عنه - وفيها دعي معاوية بأمير المؤمنين وكان قبل ذلك يدعى الأمير. وفي سنة 40 المذكورة توفي أمير المؤمنين أبو الحسن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - وبويع بالخلافة ابنه الحسن - رضي الله عنهما - وفي سنة 41 كان تسليم الحسن - رضي الله عنه - الأمر لمعاوية واستوسقت المملكة له وفيها غزا معاوية بن حديج أفريقية المرة الثانية قال عريب في مختصره: ذكر أهل العلم بأخبار أفريقية أن معاوية بن حديج نزل جبلا فيها، فأصابه فيها مطر شديد فقال (إن جبلنا هذا لممطوراً) فسمي البلاد ممطورا إلى الآن. وقال (اذهبوا بنا إلى ذلك القرن) فسمي ذلك الموقع قرنا وكانت لمعاوية هذا إلى أفريقية ثلاث غزوات. وفي سنة 43 ولد الحجاج بن يوسف الثقفي وولى معاوية مروان بن الحكم المدينة وفيها غزا عقبة بن نافع أفريقية، قال عريب في مختصره للطبري: فيها غزا بن نافع المغرب وافتتح غدامس فقتل فيها وسبى. وفي سنة 43 مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر فذكر إنه عمل فيها لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أربع سنين ولعثمان - رضي الله عنه - أربع سنين ولمعاوية سنتين إلا شهراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وفي سنة 44 عمل مروان بن الحكم المقصورة بمسجد المدينة - كرمها الله - وعملها أيضاً معاوية في الشام. وفي سنة 45 غزا معاوية بن حديج الكندي أفريقية وكانت حرباً كلها قال الطبري: وذلك أن حبابة الرومي قدم على معاوية بن أبي سفيان فسأله أن يبعث معه جيشاً إلى أفريقية فوجه معاوية بن حديج في عشرة آلاف مقاتل فسار حتى انتهى إلى الإسكندرية فاستعمل عليها حبابة الرومي ومضى ابن حديج حتى دخل أفريقية وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وعن أبيه - وعن عبد الله ابن الزبير - رضي الله عنه وعن أبيه وعبد الملك بن مروان ويحيح ابن الحكم بن المعاصي وغيرهم من أشراف قريش فبعث ملك الروم إلى أفريقية بطريقاً يقال له نجفوراً في ثلاثين ألف مقاتل فنزل الساحل فخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة فسار حتى نزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة اثني عشر ميلا فلما بلغ ذلك نجفوراً اقلع في البحر منهزما من غير قتال فأقبل بن الزبير حتى نزل على باب سوسة فوقف على البحر وصلى بالمسلمين صلاة العصر والروم يتعجبون من جرأته فأجروا له خيلاً وابن الزبير مقبلا على صلاته لا يهوله خبرها حتى قضى الصلاة ثم ركب وخمل على الروم بمن معه فانكشفوا منهزمين ورجع ابن الزبير إلى معاوية ابن حديج وهو بجبل القرن. ثم وجه ابن حديج عبد الملك ابن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء فحاصرها وقتل من أهلها عدداً كثيراً حتى فتحها عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية وأخذ جميع ما كان في المدينة وحمل ذلك كله إلى معاوية بن حديج فقسمه على المسلمين فيقال أنه أصاب كل رجل منهم مائتي مثقال وأغزى معاوية بن حديج جيشاً في البحر إلى صقلية في مائتي راكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فسبوا وغنموا شهراً ثم انصرفوا إلى أفريقية بغنائم كثيرة ورقيق وأصنام منظومة بالجوهر فاقتسموا فيهم وبعث ابن حديج بالخمس إلى معاوية ابن أبي سفيان هكذا نص عريب في مختصره للطبري. أخبار معاوية بن حديج الكندي بأفريقية ذكر الرقيق في كتابه قال: كان هرقل ملك القسطنطينية العظمى ورومة يؤدي إليه كل نصراني في بر وبحر جزيته منهم المقوقس صاحب الإسكندرية وبرقة ومنهم صاحب طرابلس وصبرة ومنهم صاحب صقلية وروم أفريقية والأندلس فلما بلغه ما صالح عليه أهل أفريقية عبد الله ابن أبي سرح بعث إلى أفريقية بطريقاً يقال له اوليمة وأمره أن يأخذ ثلاثمائة قنطار من الذهب كما اخذ ابن أبي سرح فنزل قرطاجنة واخبرهم بذلك فأبوا عليه وقالوا (إن الذي كان بأيدينا من الأموال فدينا به أنفسنا من العرب وأما الملك فهو سيدنا فيأخذ عادته منا) وكان القائم بأمرهم رجلاً يقال له حبابة فطردوا وليمة الواصل إليهم واجتمع رأيهم على تقديم الاطربون وصار حبابة إلى الشام فقدم على معاوية فوصف له حال أفريقية فسأله أن يبعث معه جيشاً من العرب فوجه معه معاوية بن حديج في جيش كثيف وذلك سنة 45 فسار ابن حديج حتى وصل أفريقية وقد صارت ناراً وكان معه جماعة وقد تقدم أكثرهم وبعث ملك الروم البطريق المتقدم ذكره في ثلاثين ألفاً فبعث ابن حديج إليه عبد الله ابن الزبير فقاتله فأقلع منهزماً في البحر وحاصر ابن حديج جلولا فكان يقاتلهم وسط النهار وينصرف إلى عسكره فلما انصرف ذات يوم نسى عبد الملك ابن مروان قوساً له معلقاً بشجرة فأنصرف إليها فإذا بجانب من سور المدينة قد انهدم فصاح في أثر الناس فرجعوا فكان بينهم قتال شديد حتى دخلت المدينة عنوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 واحتوى المسلمون على جميع ما فيها كما تقدم ذكره وكان بين معاوية ابن حديج وعبد الملك بن مروان تنازع في ذلك لان عبد الملك أراد محاباة إخوانه وأصحابه لأنه كان سبب فتح المدينة فقال حنش الصنعاني يوما لعبد الملك: (ما شأنك؟ فوالله لتلين الخلافة ويصير ذلك الأمر إليك فلا تغتم) فلما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بعث الحجاج بن يوسف لقتال عبد الله بن الزبير فأخذ حنش الصنعاني أسيراً وبعث إلى عبد الملك ابن مروان فلما وقف بين يديه: (ألست أنت الذي بشرتني بالخلافة يوم جلولاء؟) قال: (نعم) قال: (فلما ملت عني إلى ابن الزبير؟) فقال: (رأيته يريد الله ورأيتك تريد الدنيا فلذلك ملت إليك) فقال: (قد عفوت عنك) . وفي سنة 46 قال البلاذري: أول من غزا صقلية معاوية بن حديج بعث إليها عبد الله بن قيس ففتحها وأصاب فيها أصناما من الذهب والفضة مكللة بجوهر فحملت إلى معاوية ابن أبي سفيان فبعث بها إلى الهند فأخذ ثمنها فأنكر الناس عليه ذلك إنكاراً كلياً وكان العامل على بلاد أفريقية من قبل معاوية ابن أبي سفيان معاوية بن حديج الكندي. وفي سنة 47 عزل معاوية ابن أبي سفيان عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر وولاها معاوية بن حديج الكندي وكان عثمانياً فسار متوجهاً إليها من أفريقيا وكان قد قتل محمد ابن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فلقية عبد الرحمن ابن أبي بكر فقال له (يا معاوية قد أخذت أجره من معاوية ابن أبي سفيان حين قتلت محمد ابن أبي بكر الصديق ليوليك مصر فقد ولاكها) فقال (ما قتلت محمد ابن أبي بكر لولاية وإنما قتلته لما فعل بعثمان - رضي الله عنه - وفي سنة 48 كان العامل على مصر وأفريقية لمعاوية ابن أبي سفيان معاوية ابن حديج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وفي سنة 49 غزا عقبة بن نافع الفهري الروم في البحر بأهل مصر وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة وأمر عليها سعيد بن العاص وكانت ولاية مروان المدينة لمعاوية ثماني سنين وشهرين. وفي سنة 50 من الهجرة عزل معاوية بن سفيان معاوية بن حديج عن أفريقية وافره على ولاية مصر ووجه إلى أفريقية عقبة بن نافع الفهري. ذكر ولاية عقبة بن نافع أفريقية وغزواته فيها واختطاطه مدينة القيروان نسبه هو عقبة بن نافع بن عبد قبس بن لقبط بن عامر بن أمية بن طرف بن الحارث بن فهر ومن فهر بن مالك تفرقت القبائل وقال ابن أبي الفياض أن عقبة ولد قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنة واحدة قال إبراهيم بن القاسم: ووصل عقبة بن نافع الفهري إلى أفريقية في عشرة آلاف من المسلمين فافتتحها ودخلها ووضع السيف في أهلها فإنني من بها من النصارى ثم قال (إن أفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون غزا للإسلام إلى آخر الدهر) فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين وقالوا (نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط) فقال عقبة (إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يدركه صاحب البحر إلا وقد علم به) وإذا كان بينها وبين البحر ما يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون فلما اتفق رأيهم على ذلك قال (قربوها من السبخة فإن دوابكم الإبل وهي التي تحمل أثقالكم فإذا فرغنا منها لم يكن لنا بد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الغزو والجهاد حتى يفتتح الله لنا منها الأول فالأول وتكون إبلنا على باب قصرنا في مراعيها آمنة من عادية البربر والنصارى) قال الاشبيلي في مسالكه (إن البربر حين دخلوا المغرب وجدوا الإفرنج قد سبقوهم إليه فأخلوهم حتى اصطلحوا على أن يسكن البربر الجبال وتسكن الإفرنج الاوطئة فبنوا المدائن بها. (رجع الخبر) وفي سنة 51 شرع عقبة - رضي الله عنه - في ابتداء بناء مدينة القيروان وأجابه العري إلى ذلك ثم قالوا (إنك أمرتنا ببناء في شعاري وغياض لا ترام ونحن نخاف من السباع والحيات وغير ذلك) وكان في عسكره ثمانية عشر رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائرهم من التابعين. فدعا الله سبحانه وأصحابه يؤمنون على دعائه ومضى إلى السبخة وواديها ونادى (أيتها الحيات والسباع نحن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارحلوا عنا فأنا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه) فنظر الناس بعد ذلك إلى أمر معجب من أن السباع تخرج من الشعرى وهي تحمل أشبالها سمعاً وطاعة والذئب يحمل جروه والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس (كفوا عنهم حتى يرحلوا عنها) فلما خرج ما فيها من الوحش والسباع والهوام والناس ينظرون إليها حتى أوجعهم حر الشمس فلما لم يروا منها شيئاً دخلوا فأمرهم أن يقطعوا الشجر فأقام أهل أفريقية بعد ذلك أربعين عاما لا يرون فيها حياً أو عقرباً ولا سبعاً فاختط عقبة أولا دار الإمارة ثم أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختطه ولم يحدث فيها بناء فكان يصلي فيه وهو كذلك فاختلف عليه الناس في القبلة وقالوا (إن جميع أهل المغرب يضعون قبلتهم على قبلة هذا المسجد فأجهد نفسك في تقويمها) فأقاموا أياما ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس فلما رأى أمرهم قد اختلف بات مغموماً فدعا الله - عز وجل - أن يفرج عنهم فأتاه آت في منامه فقال له (إذا أصبحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فخذ اللواء في يدك واجعله على عنقك فإنك تسمع بين يديك تكبيراً ولا يسمعه أحد من المسلمين غيرك فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير: فهو قبلتك ومحرابك وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة وسوف يعز الله بها دينه ويذل بها من كفر به) فاستيقظ من منامه وهو جزع فتوضأ للصلاة وأخذ يصلي وهو في المسجد ومعه أشراف الناس فلما أفجر الصبح وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين إذا بالتكبير بين يديه فقال لمن حوله (أتسمعون ما أسمع؟) فقالوا (لا) فعلم أن الأمر من عند الله فأخذ اللواء فوضعه على عنقه وأقبل يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير فركز لواءه وقال (هذا محرابكم) فاقتدى به سائر مساجد المدينة ثم أخذ الناس في بناء الدور والمساكن والمساجد وعمرت وشد الناس إليها المطايا من كل أفق وعظم قدره وكان دورها ثلاثة عشر ألف ذراع وستمائة ذراع حتى كمل أمرها. وكان عقبة خير وال خير أمير مستجاب الدعوة. وفي سنة 55 استعمل معاوية ابن أبي سفيان على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري وعزل معاوية بن حدريج عن مصر وعزل عقبة بن نافع عن أفريقية فكانت ولايته عليها أربعة أعوام وكان معاوية قد ولى مسلمة مصر فلما ولي مسلمة الآن أفريقية عزل منها عقبة وولى عليها مولاه أبا المهاجر ديناراً وبقي هو صاحب مصر جمع ذلك كله معاوية له من أطراف إقليم مصر إلى طنجة وهو أول من جمع له المغرب كله فلم يزل واليا عليه حتى هلك معاوية ولاية أبي المهاجر أفريقية وعزل عقبة لما جمع معاوية ولاية المغرب لمسلمة بن مخلد استعمل عليه مولاه ديناراً ويكنى أبا المهاجر وعزل عقبة عن أفريقية فقيل لمسلمة بن مخلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 والي مصر لو استعملت عقبة وأقررته على أفريقية؟ فإن له فضلاً وسابقاً وهو الذي بنى القيروان فقال مسلمة (إن أبي المهاجر كأحدنا صبر علينا في غير ولاية ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه ونصطنعه) فقدم أبي المهاجر أفريقية فأساء عزل عقبة ونزل خارجا عن المدينة وكره أن ينزل الموضع الذي اختطه عقبة ومضى حتى خلفه بميلين مما يلي طريق تونس فاختط بها المدينة وأراد أن يكون له ذكرها ويفسد عمل عقبة فبنى مدينة وأخذ في عمرانها وأمر الناس أن تحرق القيروان ويعمروا مدينته فخرج عقبة منصرفاً وأدركه الخير في الطريق فتوجه إلى المشرق آسفاً على أبي المهاجر ودعا الله عليه أن يمكنه منه فبلغت أبي المهاجر دعوته فقال (هو عبد لا ترد دعوته) ولم يزل أبي المهاجر خائفاً منه نادماً على ما فعل معه ولما قدم عقبة على معاوية قال له (فتحت البلاد ودانت لي وبنيت المنازل واتخذت مسجداً للجماعة وسكنت الناس ثم أرسلت عبد الأنصار فأساء عزلي) فاعتذر له معاوية وقال له (قد عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام عثمان وبذله مهجته صابراً محتسباً طع من أطاعه من قومه ومواليه وأنا أرددك إلى عملك) وتراخى الأمر حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد ابنه فلما علم حال عقبة قال (أدركها قبل أن تفسد) فرده والياً على أفريقية وقطعها على مسلمة بن مخلد والي مصر. وفي سنة 56 من الهجرة دعا معاوية بن أبي سفيان إلى بيعة يزيد وجعله ولي عهده من بعده فانقاد له الناس كلهم إلا خمس نفر (الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -) . وفي سنة 57 عزل معاوية مروان عن المدينة واستعمل الوليد بن عقبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكان العامل على مصر وأفريقية مسلمة بن مخلد وولى مسلمة على أفريقية أبو المهاجر وبقى الحال على ذلك إلى وفاة معاوية. وفي سنة 60 توفي معاوية بن أبي سفيان يوم الجمعة منتصف رجب وهو ابن اثنين وثمانين سنة وتولى الخلافة من بعده يزيد ابنه وتلقب بالمستنصر بالله في بعض الأقوال وكنيته أبو خالد وقد ذكرنا أخباره في تأليف وفي سنة 61 كان مقتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - وفيها أظهر عبد الله بن الزبير الخلافة بمكة وخلع طاعة يزيد بن معاوية وخبرهما. وفي سنة 62 ولى يزيد بن معاوية على بلاد أفريقية والمغرب كله عقبة ابن نافع الفهري وهي ولايته الثانية على أفريقية. ذكر فتح المغرب الأقصى على يد عقبة وغزواته فرحل عقبة من الشام ومعه خمسة وعشرون رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما مر على مسلمة بن مخلد صاحب مصر خرج إليه واعتذر من فعل أبي المهاجر وأقسم له إنه خالفه فيما صنع وإنه كان قد أوصاه بتقوى الله وحسن السيرة وأن يحسن عشرة عقبة فقبل منه عقبة ومضى خنقاً على أبي المهاجر حتى قدم أفريقية فأوثق أبي المهاجر في الحديد وأمر بتخريب مدينته التي بناها ورد الناس إلى القيروان وركب في وجوه العسكر ومن معه من الصحابة والتابعين فدار بهم حول مدينة القيروان وهو يدعو لها ويقول (يا رب املأها عابدين واملأها بالمطيعين لك واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك) ثم عزم - رضي الله عنه - على الغزو في سبيل الله وترك بها جندا من المسلمين واستخلف عليهم زهير بن قبس البلوي وكان رجلاً صالحاً ودعا عقبة أولاده فقال لهم إني قد بعت نفسي من الله - عز وجل - وعزمت على من كفر به حتى أقتل فيه وألحق به ولست أدري أتروني بعد يومي هذا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وفي سنة 76 كان حدوث السكة في الإسلام وأمر أمير المؤمنين عبد الملك بضرب الدنانير والدراهم بنقش الإسلام. وفي سنة 77 ثار المطرف بن المغيرة بن شعبة على عبد الملك بن مروان فكايده عبد الملك واحتال عليه إلى أن قتل وفيها كان قتل رؤساء الخوارج. ولاية حسان بن النعمان أفريقية والمغرب وفي سنة 78 قدم حسان بن النعمان أفريقية اختاره لها عبد الملك بن مروان وقدمه على عسكر فيه أربعون ألف أقامه أولاً في مصر بالعسكر عدة لما يحدث ثم كتب إليه يأمره بالنهوض إلى أفريقية ويقول له (أني قد أطلقت يدك في أموال مصر فأعط من معك ومن ورد عليك وأعط الناس واخرج إلى بلاد أفريقية على بركة الله وعونه) . بعض أخبار حسان بن النعمان نسبه: هو حسان بن النعمان بن عدي بن بكر بن مغيث بن عمرو بن مزيقيا بن عامر بن الازد قدم أفريقية في عسكر عظيم فلم يدخل المسلمون قط أفريقية بمثل ما دخلها حسان بن نعمان فلما حصل القيروان سأل أهل أفريقية (من اعظم ملوك بها قدراً؟) فقالوا (صاحب قرطاجنة دار ملك أفريقية فسار نعمان حتى نزل عليها وكان بها من الروم خلق لا يحصى كثرة فخرجوا إليه مع ملكهم فقاتلهم حسان بن نعمان حتى هزمه وقتل أكثرهم ثم نازلها حتى افتتحها وهي كانت دار الملك بأفريقية. ذكر قرطاجنة أفريقية ويسميها أهل تونس اليوم بالمعلقة وكانت قرطاجنة مدينة عظيمة تضرب أمواج البحر سورها وهي من مدينة تونس على اثني عشر ميلاً وكان بينهما قرى متصلة عامرة وكان البحر لم يخرق إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 تونس وإنما انخرق بعد ذلك وفي هذه المدينة آثار عظيمة وأبنية ضخمة وأعمدة ثابتة غليظة تدل علة عظم قدرة الأمم الدائرة وأهل تونس إلى الآن لا يزالون يطلعون في خرابها على أعاجيب ومصانع لا تنقطع بطول الأزمان لمتأمل. فلما قدم حسان إليها وقتل فرسانها ورجالها اجتمع رأي من بقي بها على الفرار منها وكانت لهم مراكب كثيرة فمنهم من مضى إلى صقلية ومنهم مضى إلى الأندلس فلما انصرف عنها حسان وعلم أهل بواديها وأقاليمها هروب الملك عنها بادروا إليها فدخلوها فرحل إليها حسان ونزل عليها فحاصرها حصاراً شديداً حتى دخلها بالسيف فقتلهم قتلاً ذريعاً وسباهم ونهيهم وأرسل لمن حواليها فاجتمعوا إليه مسارعين خوفاً من عظيم سطوته وشدة بأسه فلما أتوه ولم يبق منهم أحد أمرهم بتخريب قرطاجنة وهدمها فخربوها حتى صارت كأمس الغابر ثم بلغه أن النصارى اجتمعوا وأمدهم البربر بعسكر عظيم في بلاد صطفورة فرحل إليهم حسان حتى لقيهم وقاتلهم حتى هزمهم وقتل الروم والبربر قتلاً ذريعاً وحمل عليهم أعنة خيله فما ترك في بلادهم موضعاً إلا وطئه ولجأ الروم هاربين خائفين باجة فتحصنوا بها وهرب البربر إلى إقليم بونة وانصرف حسان إلى القيروان. خبر حسان مع الملكة الكاهنة وهزيمتها له لما دخل حسان القيروان أراح بها أياماً ثم سأل أهلها عمن بقي من أعظم ملوك أفريقية ليسير إليه فيبيده أو يسلم فدلوه على امرأة بجبل أوراس يقال لها الكاهنة وجميع من بأفريقية من الروم منها خائفون وجميع البربر لها مطيعون (فإن قتلتها دان لك المغرب كله ولم يبق لك مضاد ولا معانداً) فدخل بجيوشه إليها وبلغ الكاهنة خبره فرحلت من الجبل في عدد لا يحصى ولا يبلغ بالاستقصاء وسبقته إلى مدينة باغاية فأخرجت منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الروم وهدمتها وظنت أن حسان يريد مدينة ليتحصن بها فبلغ خبرها حساناً فنزل بوادي مسكيانة فرجلت الكاهنة حتى نزلت على الوادي المذكور فكان هو يشرب من أعلى الوادي وهي من اسله فلما توافت الخيل دنا بعضهم من بعض فأبى حسان أن يقاتلها آخر النهار فبات الفريقان ليلتهم على سروجهم فلما أصبح الصباح التقى الجمعان فقاتلوا قتالاً لم يسمع بمثله وصبر الفريقان صبراً لم ينته أحد إليه إلى أن انهزم حسان بن النعمان ومن معه من المسلمين وقتلت الكاهنة العرب قتلاً ذريعاً وأسرت ثمانين رجلاً من أعيان أصحابه وسمي ذلك الوادي وادي العذارى واتبعته الكاهنة حتى خرج من عمل قابس فكتب حسان إلى أمير المؤمنين عبد الملك يخبره بذلك وإن أمم الغرب ليس لها غاية ولا يقف أحد منها على نهاية كلما بادت أمة خلفتها أمم وهي من الجهل والكثرة كسائمة النعم فعاد له جواب أمير المؤمنين يأمره أن يقيم حيثما وافاه الجواب فورد عليه في عمل برقة فأقام بها وبنى هنالك قصوراً تسمى إلى الآن بقصور حسان. وملكت الكاهنة المغرب كله بعد حسان خمس سنين فلما رأت إبطاء العرب عنها قالت للبربر إن العرب إنما يطلبون من أفريقية المدائن والذهب والفضة ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي فلا نرى لكم إلا خراب بلاد أفريقية كلها حتى ييئس منها العرب فلا يكون لهم رجوع إليها إلى آخر الدهر فوجهت قومها إلى كل ناحية يقطعون الشجر ويهدمون الحصون فذكروا أن أفريقية كانت ظلاً واحداً من طرابلس إلى طنجة وقرى متصلة ومدائن منظمة حتى لم يكن في أقاليم الدنيا أكثر خيرات ولا أوصل بركات ولا أكثر مدائن حصوناً من إقليم أفريقيا والمغرب مسيرة ألف ميل في مثله فخربت الكاهنة ذلك كله وخرج يومئذ من النصارى والأفارقة خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 كثير يستغيثون بما نزل بهم من الكاهنة فتفرقوا على الأندلس وسائر الجزر البحرية. وكانت الكاهنة لما أسرت ثمانين رجلاً من أصحاب حسان أحسنت إليهم وأرسلت بهم إلى حسان وحبست عندها خالد بن يزيد فقالت له يوماً: (ما رأيت في الرجال أجمل منك ولا أشجع وأنا أريد أن أرضعك فتكون أخاً لولدي) وكان له ابنان أحدهما بربري والآخر يوناني وقالت له (نحن جماعة البربر لنا رضاع: إذا فعلناه نتوارث به) فعمدت إلى دقيق الشعير فلثته بزيت وجعلته على ثديها ودعت ولديها وقالت (كلا معه على ثديي) ففعلا فقالت (قد صرتم اخوة) . ذكر مقتل الكاهنة الملكة ثم إن حسان توافت عليه فرسان العرب ورجالها من قبل أمير المؤمنين عبد الملك فدعا حسان عند ذلك برجل يشق به وبعثه إلى خالد بن يزيد بكتاب. فقراه وكتب في ظهره (أن البربر متفرقون لا نظام لهم ولا رأى عندهم فأطو المراحل وجدوا في السير) وجعل الكتاب في خبزة وجعلها زاداً للرجل ووجهه بها إلى الأمير حسان فلم يغب عن خالد بن زيد إلا يسيراً حتى خرجت الكاهنة ناثرة شعرها تضرب صدرها وتقول (يا ويلكم يا معشر البربر ذهب ملككم فيما يأكله الناس) فافترقوا يميناً وشمالاً يطلبون الرجل فساره الله تعالى حتى وصل حساناً فكسر الخبزة وقرأ الكتاب الذي كتب إليه خالد فوجده قد أفسدته النار فقال له حسان: (ارجع إليه) فقال الرجل: (إن المرأة كاهنة: لا يخفى عليها شيء من هذا) فرحل حسان بجنوده إليه وبلغ الكاهنة خبره فرحلت من جبل أوراس في خلق عظيم ورحل إليها حسان فلما كان في الليل قالت لبنيها: (إني مقتولة) وأعلمتهم أن رأسها مقطوع موضوعاً بين يدي ملك العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الأعظم الذي بعث حساناً فقال لها خالد: (فارحلي بنا وخلي له عن البلاد) فامتنعت ورأته عاراً لقومها فقال لها خالد وأولادها (فما نحن صانعون بعدك؟) فقالت: (أما أنت يا خالد فستدرك ملكاً عظيماً عند الملك الأعظم وأما أولادي فيدركون سلطاناً مع هذا الرجل الذي يقتلني ويعقدون للبربر غرائم) ثم قالت: (اركبوا واستأمنوا إليه) فركب خالد وأولادها في الليل وتوجهوا إلى حسان فأخبرها خالد بخبرها وإنها عملت قتلها، وقد وجهت إليك بأولادها فوكل بهما من يحفظهما وقدم خالد على أعنة الخيل وخرجت الكاهنة ناشرة شعرها فقالت انظروا ما دهمكم فأني مقتولة ثم التحم القتال واشتد الحرب والنزال فانهزمت الكاهنة واتبعها حسان حتى قتلها. وكان مع حسان جماعة من البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من قبائلهم اثني عشر ألفا يجاهدون مع العرب فأجابوه وأسلموا على يديه فعقد لولدي الكاهنة لكل واحد منهما على ستة آلاف فارس وأخرجهم مع العرب يجولون في المغرب يقاتلون الروم ومن كفر من البربر وانصرف حسان إلى مدينة القيروان بعد ما حسن إسلام البربر وطاعتهم وذلك في شهر رمضان سنة 83 وفي هذه السنة استقامت بلاد أفريقية لحسان بن النعمان فدون الدواوين وصالح على الخراج وكتبه على عجم أفريقية وعلى من أقام معهم على دين النصرانية. وأقام حسان بعد قتل الكاهنة لا يغزو أحداً ولا ينازعه أحداً ثم عزله عبد العزيز بن مروان الوالي على مصر وكان الوالي على مصر يولي على أفريقية فعزل حساناً وأمره بالقدوم عليه فعلم حسان ما أراد عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك فعمد إلى الجوهر والذهب والفضة فجعله في قرب الماء وأظهر ما سوى ذلك من الأمتعة وأنواع الدواب والرقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وسائر أنواع الأموال فلما قدم على أمير مصر عبد العزيز بن مروان أهدى إليه مائتي جارية من بنات ملوك الروم والبربر فسلبه عبد العزيز جميع ما كان معه من الخيل والأحمال والأمتعة والوصائف والوصفان ورحل حسان بالأثقال التي بقيت له حتى قدم على الوليد فشكا له ما صنع به عبد العزيز فغضب الوليد على عمه عبد العزيز ثم قال لحسان لمن معه: (ائتوني بقرب الماء) ففرغ منها من الذهب والفضة والجوهر والياقوت ما استعظمه الوليد وعجب من أمر حسان فقال له الوليد (جزاك الله خيراً يا حسان) فقال (يا أمير المؤمنين إنما خرجت مجاهداً في سبيل الله وليس مثلى يخون الله والخليفة) فقال له الوليد: (أنا أردك إلى عملك وأحسن إليك وأثق بك) فحلف حسان (لا أولي لبني أمية أبداً) فغضب الوليد بن عبد الملك على عمه عبد العزيز. وكان حسان يسمى الشيخ الأمين وغزوات حسان لم تنضبط بتاريخ محقق ولا فتحه لمدينة قرطاجنة وتونس ولا قتله للكاهنة وذكر ابن قطان أن عزل حسان وولاية موسى بن نصير كان من قبل عبد العزيز بن مروان دون أمر أخيه عبد الملك ولا مشورته. ذكر ولاية أبي عبد الرحمن موسى بن نصير أفريقية والمغرب وبعض أخباره رحمة الله عليه نسبه: قيل إنه من لخم وقيل من بكر بن وائل وذكر ابن بشكوال في كتاب (الصلة) له إنه موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد وكان موسى على خراج البصرة قدمه عليها عبد الملك بن مروان فاحتجن الأموال على ما ذكره لنفسه فأوصى الحجاج به ألا يفوته فخافه موسى وقصد إلى عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 العزيز بن مروان صاحب مصر لانقطاع كان منه إليه فتوجه عبد العزيز مع موسى إلى الشام فوفدا على عبد الملك فأغرمه عبد الملك مائة ألف دينار فغرم عنه عبد العزيز نصفها وعاد مع عبد العزيز إلى مصر فولاه منها أفريقية. فأول فتوحه قلعة غزوان ونواحيها وبينها وبين القيروان مسيرة يوم كامل وبنواحي غزوان قبائل بربر بعث إليهم موسى خمسمائة فارس ففتحها الله فبلغ سببهم عشرة آلاف وهو أول سبي دخل القيروان في ولاية موسى ثم وجه ابناً له اسمه عبد الله إلى بعض نواحي أفريقية فأتى بمائة ألف رأس من السبي ثم وجه ابنه مروان فأتى بمثلها فكان الخمس يومئذ ستين ألفا فكتب موسى إلى عبد العزيز يعلمه بالفتح ويعلمه أن الخمس بلغ ثلاثين ألفا وكان ذلك وهماً من الكاتب: كتب ثلاثين ألفا بدلا من ستين ألفا فلما قرأ عبد العزيز بن مروان الكتاب وأن الخمس من السبي ثلاثون ألفا استكثر ذلك ورأى إنه وهم من الكاتب لكثرته فكتب إلى موسى يقول له: (إنه قد بلغني كتابك تذكر أن خمس ما فاء الله عليك ثلاثون ألف رأس فاستكثرت ذلك وظننته وهماً من الكاتب فاكتب بالحقيقة) فكتب إليه موسى (قد كان ذلك وهماً من الكاتب على ما ظنه الأمير والخمس أيها الأمير ستون ألف رأس ثابتاً بلا وهم) فلما بلغه الكتاب عجب كل العجب وامتلئ سروراً وقد كان عبد الملك كتب إلى أخيه عبد العزيز (قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من رأيك في عزل حسان وتوليه موسى وقد أمضى لك أمير المؤمنين ما كان من رأيك وولاية من وليت) فكتب عبد العزيز إلى أخيه يعلمه بالفتح وكتاب موسى ثم وجه عبد الملك رجلاً إلى موسى ليقبضن ذلك منه على ما ذكر فدفع موسى إليه مثل ذلك وزاد ألفا وكان موسى عند وصوله إلى أفريقية لما صار في الجيش الأول أتى عصفور حتى نزل على صدره فاخذ به موسى وذبحه ولطخ بدمه صدره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 من فوق الثياب وطرحه على نفسه وقال (هو الفتح ورب الكعبة) . قال ابن قتيبة: فتح موسى بن نصير سجومه وقتل ملوكها وأمر أولاد عقبة: عياضاً وعثمان وأبا عبدة أن يأخذوا حقهم من قاتل أبيهم فقتلوا من أهل سجومه ستمائة رجل من كبارهم ثم قال لهم: (كفوا) فكفوا وذلك سنة 83 (على قول من قال أنه ولي فيها) . ثم فتح موسى هوارة وزناته وكتامه فأغار عليهم وقتلهم وسباهم فبلغ سبيهم خمسة آلاف رأس وكان عليهم رجل يقال له طامون فبعث به موسى إلى عبد العزيز بن مروان فقتله عند البركة التي عند قرية عقبة فسميت بركة طامون إلى اليوم وكانت قد قدمت على موسى فولى عليهم رجلاً منهم وأخذ منهم رهائن من خيارهم. وفي سنة 85 توفى عبد العزيز بن مروان صاحب ملك مصر من قبل أخيه عبد الملك بن مروان ووليها عبد الله بن مروان أخو عبد الملك وكان عبد الملك بن مروان أراد أن يخلع أخاه عن مصر في هذه السنة على ما فعل من عزل حسان بن النعمان وفيئه فنهاه قبيصة بن ذويب وقال (لعل الموت يأتيه فنستريح منه) فكف عبد الملك عنه وبقيت نفسه تنازعه أن يخلعه فبينا هو على ذلك وروح بن زنباع الجذامي يقول له يوماً: (لو خلعته ما انفطح فيه عنزان) إذ دخل عليهما قبيصة فقال) (آجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك فقال (وهل توفي؟) قال: (نعم) فقال عبد الملك: (كفانا الله يا أبا زرعة ما كنا أجمعنا عليه) وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأول من السنة المؤرخة. وفي سنة 86 توفي عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين فكتب الوليد إلى عمه عبد الله بن مروان بولاية موسى بن نصير أفريقية والمغرب وقطعها عن عمه وكانت أكثر مدن أفريقية خالية باختلاف البرابر عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فتح المغرب الأقصى على يد الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير ثم خرج موسى - رحمه الله - غازياً من أفريقية إلى طنجة فوجد البربر قد هربوا إلى الغرب خوفاً من العرب فتبعهم وقتلهم قتلاً ذريعاً وسبى منهم سباً كثيراً حتى بلغ السوس الأدنى وهو بلاد درعة فلما رأى البربر ما نزل بهم استأمنوا وأطاعوا فولى عليهم والياً واستعمل مولاه طارقاً على طنجة وما والاها في سبعة عشر ألف من العرب واثني عشر ألف من البربر وأمر العرب أن يعلموا البربر القرآن وأن يفقهوهم في الدين ثم مضى موسى قافلاً إلى أفريقية. قال ابن القطان: وذكر أن موسى بن نصير بعث أثر بيعته للوليد في هذه السنة المؤرخة زرعة بن أبي مدرك إلى قبائل من البربر فلم يلق حرباً منهم فرغبوا في الصلح منه فوجه رؤساءهم إلى موسى بن نصير فقبض رهونهم ثم عقد لعياش بن اخيل على مراكب أفريقية فمشى في البحر إلى صقلية فأصاب مدينة يقال لها سرقوسة فغنمها وجميع ما بها وقفل سالماً غانماً. ولما حمل أبو مدرك زرعة بن أبي زرعة رهائن المصامدة جمعهم موسى مع رهائن البربر الذين أخذهم إلى أفريقية والمغرب وكانوا على طنجة وجعل عليهم مولاه طارقاً ودخل بهم جزيرة الأندلس وترك موسى بن نصير سبعة عشر رجلاً من العرب يعلمونهم القرآن وشرائع الإسلام وقد كان عقبة بن نافع ترك فيهم بعض من أصحابه يعلمونهم القرآن والإسلام: منهم شاكر صاحب الرباط وغيره ولم يدخل المغرب الأقصى أحد من ولاة خلفاء بني أمية بالمشرق إلا عقبة بن نافع الفهري ولم يعرف المصامدة غيره وقيل أن أكثرهم أسلموا طوعاً على يديه ووصل موسى بن نصير بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وفي سنة 93 من الهجرة جاز طارق إلى الأندلس وافتتحها بمن كان معه من العرب والبرابر ورهائنهم الذين ترك موسى عنده والذين أخذهم حسان من المغرب الاوسط قبله. وكانت ولاية طارق على طنجة والمغرب الأقصى في سنة 85 وفي هذا التاريخ تم إسلام أهل المغرب الأقصى وحولوا المساجد التي كان بناها المشركون إلى القبلة وجعلوا المنابر في مساجد الجماعات وفيها صنع مسجد اغمات هيلانة. ونسب طارق: هو طارق بن زياد بن عبد الله بن ولغو بن ورنجوم بن نبرغاسن بن ولهاص بن بطوفت بن نفزاو فهو نفزي ذكر إنه من سبي البربر وكان مولى موسى بن نصير وفي سنة 92 جاز موسى بن نصير إلى الأندلس فعبر البحر غاضباً على طارق ومشى على غير طريقه وفتح فتوحاً كثيرة يقع ذكرها إن شاء الله في الجزء الثاني من هذا الكتاب في فتح الأندلس. وفيها ولى عبد الله بن موسى أفريقية عوضاً من أبيه حين توجه إلى الأندلس إلى أن وصل أبوه منها متوجهاً إلى المشرق فقدم مدينة قيروان في أواخر سنة 95. وفي سنة 95 انصرف موسى من الأندلس إلى أفريقية بما أفاء الله عليه فأجاز الأموال من الذهب والفضة والجوهر في المراكب إلى طنجة ثم حملها على العجلات. قال الرفيق: كانت وسق مائة عجلة وأربع عشرة عجلة وفيها المائدة وكانت من ذهب يشوبه شيء من فضة مطوفة بثلاثة أطواق: طوق ياقوت وطوق زبرجد وطوق جوهر وحملت يوماً على بغل عظيم أفره وأقوى ما وجد فما بلغ المرحلة حتى تفسخت قوائمه. قال الليث بن سعد: لم يسمع بمثل سبايا موسى بن نصير في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ولما قدم عليه ابنه من السوس خرج للقائه مع وجوه الناس فلما التقيا قال مروان بن موسى لرجاله: (مروا لكل من خرج مع والدي بوصيف أو وصيفة) وقال موسى: (مروا أنتم لهم من عندي بمثل ذلك) فرجع الناس كلهم بوصيف أو وصيفة ومن أخبار موسى بن نصير أيضاً - رحمه الله - لما انصرف من الأندلس ولى عليها ابنه عبد العزيز وشخص قافلاً إلى أفريقية فقدم القيروان في آخر سنة 95 فلم يدخلها ونزل بقصر الماء ثم قعد في مجلسه وجاءته جيوش العرب من القيروان فمنهم من سافر معه ومنهم مع تخلف مع ابنه عبد الله بأفريقية فقال لأصحابه: (أصبحت اليوم في ثلاث نعم: منها كتاب أمير المؤمنين بالشكر والثناء ثم وصف ما جرى الله على يديه من الفتوحات ثم كتاب ابني عبد العزيز يصف ما فتح الله عليه في الأندلس بحمد الله تعالى. فقاموا إليه فهنئوه وما الثالثة فأنا أريكموها وقام فأمر برفع الستر فإذا فيه جوار مختلفات كأنهن البدور الطوالع من بنات ملوك الروم والبربر عليهن الحلي والحلل) فهنئ أيضاً بذلك فقال علي ابن رباح السلمي (أيها الأمير أنا انصح الناس إليك: ما من شيء انتهى إلا ورجع فارجع قبل أن يرجع إليك) قال: فانكسر موسى وفرق جواريه من حينه على الناس. ثم رحل إلى المشرق وخلف على أفريقية ابنه عبد الله وعلى الأندلس ابنه عبد العزيز وعلى طنجة ابنه عبد الملك وقال ابن القطان: الأكثرون يقولون أن مستقر طارق قبل محاولة الأندلس كان طنجة ومنهم من يقول كان بموضع سجلماسة وإن سلا وما ورائها من أرض فاس وطنجة وسبتة كانت للنصارى قال: واختلف الناس هل دخل موسى القيروان في هذه الوجهة أم لا. ثم رحل عنها مه بقية أولاده: مروان، وعبد الأعلى وغيرهما ومعه أشراف الناس من قريش والأنصار وسائر العرب ومن وجوه البربر مائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 منهم كسيلة بن لمزم وبنو يسور ومزدانة ملك السوس وملك مبورقة ومتورقة ومن أولاد الكاهنة ومائة من وجوه ملوك الأندلسيين وعشرون ملكاً من ملوك المدائن التي افتتحها بأفريقية وخرجوا معه بأصناف ما كان في كل بلد من طرفها حتى انتهى إلى مصر فلم يبق بها فقيه ولا شريف إلا وصله وأعطاه ثم خرج من مصر متوجها إلى فلسطين فتلقاه آل روح بن زنباع ونحروا له خمسين بعيراً ثم خرج وترك لهم عندهم بعض أهله وصغار ولده فأعطى آل روح بن زنباع عطاء جزلا ثم وافاه كتاب الخليفة الوليد بن عبد الملك يأمره بشد السير إليه ليدركه في قيد الحياة وكان مريضاً ووفاه كتاب من سليمان بن عبد الملك ولي عهد أخيه الوليد يأمره بالتأني والتربص فأسرع موسى ولم ينظر في كتاب سليمان إلى أن وصل إلى الوليد قبل موته بثلاث أيام فقال سليمان: (لئن ظفرت به لأصلبنه) فدفع موسى الأموال والمائدة والدر والياقوت والتيجان والذهب والفضة إلى الوليد بن عبد الملك. وقال المسعودي في كتابه (عجائب البلاد والزمان) قال: لما فتح طارق طليطلة وجد بها بيت الملوك ففتحه فوجد فيه زبور داود - عم - في ورقات الذهب مكتوباً بماء ياقوت محلول من عجيب العمل الذي لم يكد ير مثله ومائدة سليمان - عم - وقد تقدم وصفها ووجد فيه أربعة وعشرين تاجاً منظمة بعدد ملوك القوطيين بالأندلس: إذا توفي أحدهم جعل تاجه بذلك البيت وفعل الملك بعده لنفسه غيره جرت عوائدهم على ذلك ووجد فيه قاعة كبيرة مملوءة بإكسير الكيمياء فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك. وفي سنة 96 توفى الوليد بن عبد الملك في جمادى الأخير وولي الخلافة سليمان فغضب على موسى غضباً عظيماً وأمر عليه فأوقف في يوم شديد الحر في الشمس وكان رجلاً بادناً ذا نسمة فوقف حتى سقط مغشياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 عليه وقال له سليمان (كتبت إليك فلم تنظر كتابي هلم مائة ألف دينار) قال (يا أمير المؤمنين قد أخذتم ما كان معي من الأموال فمن أين لي مائة ألف دينار؟) قال: (لابد من مائتي ألف) فاعتذر فقال (لا بد من ثلاثمائة ألف دينار) وأمر بتعذيبه وعزم على قتله فاستجار بيزيد ابن المهلب وكانت له حظوة عند سليمان فاستوهبه منه وقال (يؤدي ما عنده) وقيل أن موسى افتدي من سليمان بألف ألف دينار ذكر ذلك بن حبيب وغيره ثم أن يزيد بن المهلب سهر ليلة مع الأمير موسى فقال له: (يا أبا عبد الرحمن في كم كنت تعتد أنت وأهل بيتك من الموالي والخدام؟ أتكونون في ألف؟) فقال (نعم) وألف ألف إلى منقطع النفس قال (فلم ألقيت بنفسك إلى التهلكة؟ أفلا أقمت في قرار عزك وموضع سلطانك؟ والله لو أردت ذلك لما أنالوا من أطرافي شيئاً ولكني آثرت الله - عز وجل - ورسوله ولم أر الخروج عن الطاعة) وقيل أن سليمان بن عبد الملك بعد ما افتدي منه موسى دعا يوماً بطست من ذهب فرآه موسى ينظر إليه فقال له: (يا أمير المؤمنين إنك لتعجب من غير عجب والله ما أحسب أن فيه عشرة آلاف دينار والله لو بعثت إلى أخيك الوليد بتنور من زبرجد أخضر كان يصب فيه اللبن فيخضر ولقد قوم بمائة ألف دينار ولقد أصبت كذا بكذا) وجعل يكثر عليه في ذلك حتى بهت الأمير من قوله. وكان مولد موسى بن نصير سنة 19 ووفاته سنة 98 فكان عمره تسعاً وسبعين سنة وفي سنة 88 ولي أفريقية فأقام عليها أميراً وعلى الأندلس والمغرب كله نحو ثمان عشر سنة إلى أن مات ومما ذكر في وفاته أنه حج مع سليمان فلما وصلا المدينة قال موسى بن نصير لأصحابه: (ليموتن بعد غد رجل قد ملئ ذكره المشرق والمغرب) فمات موسى في ذلك اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ولاية محمد بن يزيد أفريقية والمغرب قال الواقدي: ثم أن أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك قال لرجاء بن حيوة: (أريد رجلاً له فضل في نفسه أوليه أفريقية) ، فقال له: (نعم) فمكث أياماً ثم قال: (قد وجدت رجلاً له فضل) قال: (من هو؟) قال: (محمد بن يزيد مولى قريش) فقال: (أدخله علي) فأدخله عليه فقال سليمان: (يا محمد بن يزيد اتق الله وحده لا شريك له وقم فيما وليتك بالحق والعدل وقد وليتك أفريقية والمغرب كله) قال فودعه وانصرف وهو يقول: (ما لي عذر عند الله ما لم أعدل) وفي سنة 97 من الهجرة استقر محمد بن يزيد بأفريقية بأحسن سيرة وأعدلها ثم وصله الأمر بأخذ عبد الله موسى بن نصير وتعذيبه واستئصال أموال بني موسى فسجنه محمد وعذبه ثم قتله بعد ذلك وكان سليمان قد أمره بأخذ أهل موسى وولده وكل من تلبس به واستئصال أموالهم وتعذيبهم حتى يؤدوا ثلاثمائة ألف دينار وتولى قتل عبد الله بن موسى خالد ابن أبي حبيب القرشي وأما عبد العزيز بن موسى فخلع دعوة بني مروان واستبد بأمره لما بلغه ما نزل بأبيه وأخيه وأهل بيته وجاءت الكتب إلى حبيب بن أبي عبده ووجوه العرب من سليمان بن عبد الملك يأمرهم بقتله فقتلوه وحمل رأسه ورأسه أخيه عبد الله حتى وضعا بين يدي أبيهما موسى وهو في عذابه فكان فعل سليمان هذا بموسى وبنيه وقد فعل من الفتح في الإسلام ما فعل من هفوات سليمان التي تزل تنقم عليه. واستعمل محمد بن يزيد على الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي وكانت الأندلس إذ ذاك إلى والى أفريقية كما كان أيضاً والي أفريقية من قبل والي مصر وكان محمد بن يزيد يبعث بسرية إلى ثغور أفريقية فما أصابه قسمه عليهم وكانت ولايته سنتين واشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وفي سنة 99 توفي سليمان بن عبد الملك واستخلف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يوم وفاته فاستعمل على أفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم. وفي سنة 100 ولي إسماعيل بن أبي المهاجر أفريقية من قبل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فكان خير أمير وخير وال وما زال حريصاً على دعاء البربر إلى الإسلام حتى اسلم بقية البربر بأفريقية على يده في دولة عمر بن عبد العزيز وهو الذي علم أهل أفريقية الحلال والحرام وبعث معه عمر - رضي الله عنه - عشرة من التابعين أهل علم وفضل منهم عبد الرحمن بن نافع وسعد بن مسعود التجيبي وغيرهما وكانت الخمر بأفريقية حلالاً حتى وصل هؤلاء التابعون فبنوا تحريمها - رضي الله عنه -. وفيها استخلف إسماعيل بن أبي المهاجر على الأندلس السمح بن مالك الخولاني فكان حلوله بها في رمضان من السنة. وفي سنة 101 توفي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بدير سمعان لست خلون من شعبان فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وولي الخلافة بعده يزيد ابن عبد الملك فولى على أفريقية يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف وصاحب شرطته. وفي سنة 102 قدم إلى أفريقية والياً عليها يزيد ابن أبي مسلم وكان ظلوماً غشوماً وكان البربر يحسنونه فقام على المنبر خطيباً فقال (أني رأيت أن أرسم اسم حرسي في أيديهم كما نصنع ملوك الروم يحرسها فأرسم في يمين الرجل اسمه وفي يساره حرسي ليعرفوا بذلك من بين سائر الناس فإذا وقفوا على أحد أسرع لما أمرت به) فلما سمعوا ذلك منه أعني حرسه اتفقوا على قتله وقالوا: (جعلنا بمنزلة النصارى) فلما خرج من داره إلى المسجد لصلاة المغرب قتلوه في مصلاه فتكلم في رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يقوم بأمرهم حتى يأتيهم أمر الخليفة فتراضوا بالمغيرة بن أبي بردة وكان شجاعاً كبيراً فقال له ابنه عبد الله: (إن يزيد ابن أبي مسلم قتل بحضرتك فإن قمت بهذا الأمر اتهمت بقتله ولكن الرأي أن نتراضى لمحمد ابن أوس الأنصاري) وكان غازياً بصقلية فلم يلبث يسيراً حتى قدم بغنائم قد أصابها فقلدوه أمر الخليفة فكتب إلى يزيد بن عبد الملك يخبره بما حدث من الأمر فاستعمل على أفريقية بشر بن صفوان. ولاية بشر بن صفوان أفريقية هو بشر بن صفوان بن توبل بن بشر بن حنظلة بن علقمة بن شراحبل ابن عزيز ابن خالد ولي أفريقية سنة 103 فاستصفى بقايا آل موسى بن نصير ووفد بعد ذلك إلى يزيد ابن عبد الملك فألفاه قد هلك. وفي سنة 105 هلك يزيد بن عبد الملك في ربيع الأول وولى هشام بن عبد الملك فرد بشر بن صفوان إلى أفريقية فلما قدمها ولي على الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبي ثم أن بشر بن صفوان غزا بنفسه صقلية فأصاب بها سبياً كثيرا وقفل إلى القيروان فلما حضرته الوفاة قالت جاريته: (وا شماتة الأعداء) فقال لها: (قولي للأعداء لا يموت) واستخلف العباس بن باضعة الكلبي. وفي سنة 107 ولي بشر بن صفوان على الأندلس يحي بن سلمة الكلبي فقدمها في شوال وفي هذه السنة اختلط أمر ولاة مصر اختلاطا كثيراً وفي سنة 109 توفي بشر بن صفوان والى أفريقية بمدينة القيروان فكانت ولايته سبع سنين وبقى نائبه على القيروان حتى وصل وال من قبل الخليفة هشام بن عبد الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ولاية عبيدة بن عبد الرحمن السلمي أفريقية والمغرب وهو ابن أخي أبي الأعور السلمي صاحب خيل معاوية بصفين فقدم أفريقية سنة 110 في ربيع الأول فدخل القيروان فجأة وذلك يوم الجمعة فألفى خليفة بشر بن صفوان قد تهيأ لشهود الجمعة ولبس ثيابه فقيل له: (هذا عبيدة قد قدم أميراً) فقال: (لا حول ولا قوة إلا بالله هكذا تقوم الساعة بغتة) وألقى بنفسه فما حملته رجلاه ودخل عبيدة فأخذ عمال بشر وأصحابه فحبسهم وأغرمهم وعذب بعضهم. وفي سنة 110 ولى عبيدة بن عبد الرحمن المذكور عثمان بن أبي نسمة على الأندلس فقدمها في شعبان. وفي سنة 111 قدم إلى الأندلس والياً أيضاً من قبل عبيدة بن عبد الرحمن صاحب أفريقية والمغرب كله حذيفة بن الاحوص القيسي وقيل: الاشجعي وذلك في غرة محرم من السنة المذكورة. وفي سنة 112 ولى عبيدة المذكور على الأندلس أيضاً الهيثم بن عبيد الكناني فقدمها في محرم أيضاً من هذه السنة ثم توفي سنة 114 وكانت ولايته سنتين وأياماً ولما أخذ عبيدة عمال بشر وأصحابه وأغرمهم وعذبهم كان فيهم أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي وكان شريفاً في قومه مع صفاحة وبراعة وكان ولي في أفريقية ولايات كبيرة في أيام بشر بن صفوان فعزله عبيدة ونكل به فقال طويل: أفألم بني مروان فيها دماءنا ... وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل كأنكم لم تشهدوا مرج راهط ... ولم تعلموا من كان ثم له الفضل تعاميتم عنا بعين جلية ... وأنتم كذا ما قد علمنا لنا فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وبعث بهذه الأبيات إلى الخليفة هشام بن عبد الملك فأمر هشام بعزل عبيدة من أفريقية والمغرب فقفل منه واستخلف عقبة بن قدامة وذلك في شوال سنة 114 فكان ملك عبيدة بأفريقية أربع سنين وستة أشهر وتوجه إلى الشام سنة 114 بهدايا وتحف عظيمة وبقي خليفته على القيروان ستة أشهر. وفي سنة 113 كان عمال أفريقية والأندلس الذين كانوا في السنة قبلها ثم ولي الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي فغزا الروم واستشهد مع جماعة من عسكره سنة 115 بموضع يعرف ببلاط الشهداء وفيها أصاب الناس مجاعة عظيمة. ولاية عبيد الله بن الحبحاب أفريقية والمغرب كله وهو مولى بن سلول وكان رئيساً نبيلاً وأميراً جليلاً بارعاً في الفصاحة والخطابة حافظاً لأيام العرب وأشعارها ووقائعها فقدم أفريقية في ربيع الآخر من سنة 116 وهو الذي بنى المسجد الجامع ودار الصناعة بتونس وكان أول الأمر كاتباً ثم تناهت به الحال إلى ولاية مصر وأفريقية والأندلس والمغرب كله فاستخلف على مصر ابنه القاسم واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي واستعمل على طنجة وما والاها من المغرب الأقصى ابنه إسماعيل ثم عمر بن عبد الله المرادي. وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري غازياً إلى السوس الأقصى فبلغ أرض السودان ولم يقابله أحد إلا ظهر عليه ولم يدع بالمغرب قبيلة إلا داخلها وأصاب من السبي أمراً عظيماً ووجد جاريتين ليس لكل واحدة منهما إلا ثدي واحد ثم رجع سالماً ظافراً فغزا صقلية وظفر بأمر لم يره مثله. ثم أن عمر بن عبد الله المرادي عامل طنجة وما والاها أساء السيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وتعدى في الصدفات والعشر وأراد تخميس البربر وزعم أنهم فيء المسلمين وذلك ما لم يرتكبه عامل قبلة وإنما كان الولاة يخمسون من لم يجب للإسلام فكان فعله الذميم هذا سبباً لنقض البلاد ووقوع الفتن العظيمة المؤدية إلى كثير القتل في العباد نعوذ بالله من الظلم الذي هو وبال على أهله. فلما علم البربر خروج حبيب بن أبي عبيدة إلى بلاد الروم نقضوا الطاعة لعبيد الله بن الحبحاب بطنجة وأقاليمها وتداعت برابر المغرب بأسره فثارت المغرب بالمغرب الأقصى فكانت أول ثورة فيه وفي أفريقية في الإسلام. وفي سنة 122 كانت ثورة البربر بالمغرب فخرج ميسرة المدغري وقام على عمر بن عبد الله المرادي بطنجة فقتله وثارت البرابر كلها مع أميرهم ميسرة الحقير ثم خلف ميسرة على طنجة عبد الأعلى بن حديج وزحف إلى إسماعيل بن عبيد الله بن الحبحاب إلى السوس فقتله ثم كانت وقائع كثيرة بين أهل المغرب الأقصى وأهل أفريقية يطول ذكرها وكان المغرب حينئذ قوم ظهرت فيهم دعوة الخوارج ولهم عدد كثير وشوكة كبيرة وهم برغواطة وكان السبب في ثورة البربر وقيام ميسرة إنها أنكرت على عامل ابن الحبحاب سوء سيرته كما ذكرنا وكان الخلفاء بالمشرق يستحبون طرائف المغرب ويبعثون فيها إلى عامل أفريقية فيبعثون لهم البربر السنيات فلما أفضى الأمر إلى ابن الحبحاب مناهم بالكثير وتكلف لهم أو كلفوه اكثر مما كان فأضطر إلى التعسف وسوء السيرة فحينئذ عدة البرابر على عاملهم فقتلوه وثاروا بأجمعهم على ابن الحبحاب. وكان لعبيد الله بن الحبحاب أولاد قد أعجبتهم أنفسهم قدم عقبة بن الحجاج عليهم وكان أبو عقبة قد عانق الحبحاب والد عبيد الله فلما دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عقبة على عبيد الله وأقعده على سريره فلما خرج عقبة من عنده أنكر عليه ذلك أولاده فقال لهم: (ما رأيكم) فقالوا (إن تعطيه شيئاً وتصرفه عنا فلا يكسر شرفنا فقال لهم: (نعم) فلما كان في غد أمر الناس فدخلوا عليه ودخل عقبة في جملتهم فقام إليه وأجلسه على سريره ووقف قائماً فقال: (أيها الناس إن بني هؤلاء غرتهم غرة الشيطان لعزة السلطان وأرادوا أمرا أخرج به عن الحق وأنكروا ما رأوا من بري بهذا الرجل وإنما أخبركم أنه مولاي وأن أباه أعتق أبي وإن أكره كتمان أمر الله - سبحانه - شهيد به علي) ثم خير عقبة في ولاية ما شاءه من سلطانه فاختار الأندلس فولاه عليها وذلك في سنة 116 وأقام بها إلى سنة 121 وقام عليه عبد الملك بن قطن الفهري فخلعه وقيل: بل هو استخلفه. رجع الخبر إلى ميسرة المدغري رأس الصفرية أمير الغرب: لما بلغ عبيد الله بن الحبحاب قتل عامله وولده كتب إلى حبيب ابن أبي عبدة يأمره بالرجوع من صقلية ليأخذ في الحركة مع أهل أفريقية إلى ميسرة وولى ابن الحبحاب على عسكر أفريقية وأشرافهم ووجوههم خالد ابن أبي حبيب الفهري فشخص إلى ميسرة ووصل حبيب ابن أبي عبدة في أثره وسار خالد حتى عبر وادي شلف وهو بمقربة تيهرت ثم قدم حبيب فنزل على مجاز الوادي المذكور فلم يبرح منه ومضى خالد من فوره حتى لقي ميسرة بمقربة من طنجة فاقتتل معه قتالاً شديداً لم يسمع قط بمثله ثم انصرف ميسرة إلى طنجة فأنكرت البربر عليه سوء سيرته وتغيره عما كانوا بايعوه عليه. قال الرفيق: وكان ميسرة قد تسمى بالخلافة وبويع عليها فقتلوه وولوا أمرهم بعده خالد بن حميد الزناتي فالتقى خالد بن أبي حبيب بالبربر فكان بينهم قتال شديد فبينا هم كذلك إذ غشيهم خالد بن حميد الزناتي من خلفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بعسكر عظيم، فتكاثرت عليهم البربر؛ فانهزم العرب وكره خالد بن أبي حبيب أن يهرب؛ فألقى بنفسه هو وأصحابه إلى الموت أنفة من الفرار. فقُتل ابن أبي حبيب ومن معه، حتى لم يبق من أصحابه رجل واحد. فقُتل في تلك الوقعة حماة العرب، وفرسانها، وكماتها، وأبطالها؛ فسميت الغزوة غزوة الأشراف؛ فانتفضت البلاد. وبلغ أهل الأندلس ثورة البربر؛ فوثبوا على أميرهم؛ فعزلوه وولوا عبد الملك بن فطن. فاختلت الأمور على ابن الحبحاب؛ فاجتمع الناس عليه وعزلوه. وبلغ ذلك الخليفة هشام بن عبد الملك فقال: (والله لأغضبن لهم غضبة عربية ولأبعثن جيشاً أوله عندهم وآخره عندي) ثم كتب إلى ابن الحبحاب بقدومه عليه؛ فخرج في جمادى الأولى من سنة 123. ولاية كلثوم بن عياض إفريقية ومقاتلته مع أمير المغرب خالد بن حُميد الزّناني لما بلغ هشام بن عبد الملك انتقاض البلاد الغربية والأندلسية، بعث كلثوم بن عياض هذا إلى أفريقية، وعقد له على اثني عشر ألفا من أهل الشام. وكتب إلى والي كل بلد أن يخرج معه بمن معه. فصارت عمال مصر وطرابلس وبرقة معه حتى قدم أفريقية في رمضان سنة 123. فنكب عن القيروان. وكان على طلائعه بلجُ بن بشر القشيري ابن عمه. فلما وصل بلج قال لأهل أفريقية (لا تغلقوا أبوابكم، حتى يعرف أهل الشام منازلكم) ومع ذلك كلام كثير يغيظهم به. فكتبوا إلى حبيب بن أبي عبدة يعرّفونه بمقالة بلج. فكتب إلى كلثوم: (إن ابن عمك السفيه قال كذا وكذا. فارحل بعسكرك عنهم، وإلا حولنا أعنة الخيل إليك!) فكتب كلثوم يعتذر إليه ويأمره أن يقيم بشلف حتى يقدم عليه. فاستخلف كلثوم على القيروان عبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عقبة الغفاري، وسار حتى عسكر حبيب، فرفضه واستهان به، وسب بلج بن بشر لحبيب وتنقصه وقال: (هذا الذي يحول أعنة الخيل إلينا) فقام إليه عبد الرحمن بن حبيب وقال (يا بلج هذا حبيب! فإذا شئت فاعرض له للمقابلة!) وصاح الناس (السلاح! السلاح!) فمال أهل أفريقية إلى ناحية. ومعهم أهل مصر. ثم سعى بينهم الصلح. فكان هذا الاختلاف سبب هلاكهم، مع سوء رأي كلثوم وبلج. ولما قدم كلثوم على وادي سنبو، وهو في ثلاثين ألفا، وقال ابن القطان: فيهم عشرة آلاف من صلب بني أمية، وعشرون ألفا من سائر العرب. فتوجه إليهم خالد بن حميد الزناتي الذي تولى الأمر بعد ميسرة. فوجه كلثوم بلجا ليلا ليوقع بالبربر. فسرى ليلته، وأوقع بهم عند الصباح؛ فخرجوا إليه عراة؛ فهزموه ووصلوا إلى كلثوم. فأمر بدبدبان فنصب له، وقعد عليه. ثم نشب القتال، وقعدت البربر تحت الدرق، ونشبت الخيلُ الخيلَ العرب خيل البربر؛ ثم انكشفت خيل العرب، وألتفت الرجال بالرجال. فكان صبر وقتال. وخالطت خيل البربر ورجّالتُهم كلثوم وأصحابه. فقتل كلثوم، وحبيب بن أبي عبدة، وسليمان بن أبي المهاجر. ووجوه العرب. فكانت هزيمة أهل الشام إلى الأندلس، وهزيمة أهل مصر وأفريقية إلى أفريقية. قال ابن القطان: لما بعث هشام بن عبد الملك كلثوما واليا على أفريقية والمغرب، وأمره بالجد والاجتهاد في أمرها، إذ كانوا بين أمية يجدون في الدريات أن الملك القائمين عليهم لا يجاوز الزاب. فتوهموا إنه زاب مصر، وإنما كان زاب أفريقية. وعهد إليه في سدها وضبطها، وعهد أن حدث بكلثوم حدث أن يكون ابن أخيه بلج مكانه. فدارت بينه وبين البربر حروب، هزموا في بعضها كلثوم بن عياض وقتلوه، وصار أمر العرب بأفريقية إلى بلج بالعهد المذكور. ولجأ فلهم إلى سبتة، وبقوا بها حتى ضاق عليهم الأمر؛ فكاتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 بْج وأصحابه عبد الملك بن قطن أمير الأندلس، وسألوه إدخالهم الأندلس. فلم يأمنهم عبد الملك، ومطلهم بالميرة والسفن. ثم أضطر إلى إدخالهم الأندلس بعد ذلك، لسبب أشرحه في الجزء الثاني إن شاء الله؛ وهو موضعه في أخبار الأندلس. فكاتبهم، وشرط عليهم إقامة سنة في الأندلس، ثم يخرجون عنها. فرضوا بذلك؛ وكانوا نحو عشرة آلاف من عرب الشام. ولما دخلوا الأندلس وأقاموا فيها سنة، ترفهوا بها. فأمرهم عبد الملك بالخروج منها، كما أشترط عليهم. فامتنعوا، وقتلوا عبد الملك بن قطن، واستولى بلج على الأندلس، وبقي بها أحد عشر شهرا، أميرا. وقد شرحنا أمره في أخبار الأندلس في الجزء الثاني وقال الرقيق: لم ينهزم من أهل أفريقية إلا عبد الرحمن بن حبيب؛ فإنه جاز على الأندلس؛ فقال لأميره عبد الملك بن قطن: (هؤلاء أهل الشتم يقلون: ابعث لنا مراكب نجوز فيها، وهم، إن جازوا إليك، لم بأمنهم عليك!) فلما أجازهم إليها، ما لبثوا فيها إلا سنة حتى وثبوا عليه مع بلج. فكانت بينهم اثنتا عشرة وقيعة، وكلها على عبد الملك بن قطن حتى قتله بلج واستولى على الأندلس. وفي سنة 124، قتل بلج بالأندلس، ووليها ثعلبة بن سلامة العاملي، وأعقده أصحاب بلج مكانه بما عهد به هشام إليهم، وبايعوه. فثار في أيامه بقايا البربر بمادرِة؛ فغزاهم ثعلبة، وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم نحو الألف، وانصرف إلى قرطبة. فكانت ولايته عشرة أشهر. وفيها كان ابتداء ظهور برغواطة. ذكر برغواطة وارتدادهم عن الإسلام قال ابن القطان وغيره: كان طريف من ولد شمعون ابن إسحاق وإن الصفيرة رجعت إلى مدينة القيروان لنهبها استباحتها في ثلث مائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ألف من البربر مع أمير منهم. وكانوا قد اقتسموا بلاد أفريقية وحريمها وأموالها؛ فهزمهم الله تعالى بأهل القيروان، وهم في أثنى عشر ألف مقاتل، نصرهم الله تعالى عليهم؛ وخبرهم طويل، يمنع من إيراده هنا خيفة التطويل،. وكان طريف هذا من جملة قواد هذا العسكر؛ وإليه تنسب جزيرة طريف. فلما هزمهم الله بأهل القيروان، تفرقوا، وقتل من قتل منهم، وتشتت جمعهم، سار طريف إلى تامسنا، وكانت بلاد بعض قبائل البربر. فنظر إلى شدة جهلهم؛ فقام فيهم، ودعا إلى نفسه. فبايعوه وقدموه على أنفسهم. فشرع لهم ما شرع، ومات بعد مدة. وخلف من الولد أربعة. فقدم البربر ابنه صالحا. فأقام فيهم على الشرع الذي شرعه أبوه طريف. وكان قد حضر مع أبيه حرب ميسرة الحقير ومغرور بن طالوت الصفريين. فأدعى إنه أنزل عليهم قرآنهم، الذي كان يقرءونه؛ وقال لهم إنه صالح المؤمنين، الذي ذكره الله في كتابه العزيز. وعهد صالح إلى ابنه الياس بديانته، وعلمه شرائعه وفقهه من دينه، وأمره ألا يظهر الديانة حتى يظهر أمره، وينتشر خبره، فيقتل حينئذ من خالفه. وأمره، موالاة أمير المؤمنين بالأندلس. وخرج صالح إلى المشرق، ووعده إنه يرجع في الدولة السابع من ملوكهم، وزعم إنه الهدي الذي يكون في أخر الزمان لقتال الدجال وأن عيسى - عم - يكون من رجاله وأنه يصلي خلفه. وذكر في ذلك كلاما نسبه إلى موسى - عم -. فولى بعد خروجه إلى المشرق ابنه الياس خمسين سنة. فكتم شريعته إلى سنة 172. فخرج عن ذلك كله من أمر صالح وابنه أن ابتداءه كان في هذه السنة، أو التي قبلها، وما يأتي بعدها من السنين، إذ خمسون سنة أخرها سنة 172، مبدأها سنة 124 أو نحوها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ولاية حنظلة بن صفوان أفريقية والمغرب كله ولما بلغ أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك قَتْلُ كلثوم بن عياض وأصحابه بعث إلى أفريقية والمغرب حنظلة بن صفوان الكلبي. وكان عامله على مصر ولاه عليها سنة 119. فقدمها في شهر ربيع الآخر منها. فبعث إليه أهل الأندلس أن يبعث إليهم عاملا، فوجه إليهم أبا الخطار حسام بن ضرار الكلبي. فسار في البحر من تونس إلى الأندلس، واليا عليها. فقدمها في رحب، وسأذكر خبره في أخبار الأندلس إن شاء الله. ومن أخبار حنظلة أمير أفريقية مع بعض القبائل الغربية: وذلك لما استقر حنظلة بالقيروان، لم يمكث فيها إلا يسيرا، زحف إليه عكاشة الصفري الخارجي، في جمع عظيم من البربر، وزحف أيضا إلى حنظلة عبد الواحد بن يزيد الهواري في عدد عظيم. وكانا افترقا في الزاب. فأخذ عكاشة على طريق مجانسة. فنزل في القيروان، وأخذ عبد الواحد على طريق الجبال، وعلى مقدمته أبو قرة المغيلي. فرأى حنظلة أن يعجل قتال عكاشة، قبل أن يجتمعا عليه. فزحف إليه بجماعة أهل القيروان. فالتقوا بالقرن، وكان بينهم قتال شديد فهزم الله عكاشة ومن معه، وقتل من البربر ما لا يحصى كثرة، وقيل إن حنظلة لما رأى ما دهمه من البربر قال لأصحابه: (نستمد أمير المؤمنين!) فقال له شاب جميل الوجه: (بل نخرج إلى عدونا حتى يحكم الله بيننا!) فعزم حنظلة، وخرج فهزم الله عكاشة في خبر طويل. قال عبد الله بن أبي حسان: فأخرج حنظلة كل ما في الخزائن من السلاح وأحضر الأموال، ونادى في الناس فأول من دخل عليه، رجل من بحصب فقال له: (نصر بن ينعم!) قال: فتبسم حنظلة كالمكذب له وقال له (بالله أصْدُق!) فقال (والله) مالي أسم غير ما قلت لك فتفاءل به وقال (نصر وفتح) فأعطى الناس وخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 لمقابلة الصفرية وهم بالخوارج. فكان بينه وبينهم حرب يطول ذكرها، فالتحم فيها القتال، وتداعى الأبطال ولزم الرجالة الأرض، فلا تسمع إلا وقع الحديد على الحديد، وتقابض الأيدي بالأيدي. وكانت كسرة على ميسرة العرب، ثم انكسرت ميسرة البربر وقلبهم، ثم كرت العرب على ميمنة البربر، فكانت الهزيمة. وسيق إلى حنظلة رأس عبد الواحد، وأخذ عكاشة أسيرا، فأتى به إلى حنظلة، فقتله وخر لله ساجدا. وقيل إنه ما علم في الأرض مقتله كانت أعظم منها. أراد حنظلة أن يحصى من قُتل، وأمر بعدهم. فما فدر على ذلك. فأمر بقَصَبٍ فطرح قصبة على كل قتيل. ثم جمعت القصب، وعُدّت، فكانت القتلى مائة ألف وثمانين ألفا. وكانوا صفرية يستحلون النساء وسفك الدماء. وكتب بذلك حنظلة إلى أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك. فسر بذلك سرورا عظيما. وكان الليث بن سعد يقول: (ما من غزوة كنت أحب أن أشهدها، بعد غزوة بدر، أحب إلي من غزوة القرن والأصنام) . وفي سنة 125، توفي أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بعلة الذبحة. وعماله في هذه السنة هم الذين كانوا في السنة قبلها، ومن جملتهم حفص بن الوليد على مصر، وحنظلة بن صفوان على أفريقية والمغرب، وأبو الخطار على الأندلس. ثم استخلف بعده الوليد بن يزيد، يوم موت هشام بن عبد الملك، وذلك يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الأخر. وفي سنة 126 توفي الوليد بن يزيد مقتولا يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، قتله يزيد بن الوليد المسمى بالناقص واستخلف يزيد ولم يكن في أيامه في هذه السنة بأفريقية أمر. وبويع بدمشق وجعل العهد نعده لابنه إبراهيم بن يزيد فأقام نحو شهر ونصف، ثم خلع نفسه لمروان الجعدي. فقيل إنه نبش على يزيد بن الوليد وأخرجه من قبره وصلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 انتزاء عبد الرحمن بن حبيب الفهري بإفريقية وبعض أخباره كان عبد الرحمن بن حبيب هذا قد هرب إلى الأندلس. عند هزيمته من الوقيعة التي قتل فيها أبوه حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، مع كلثوم بن عياض. فلم يزل. وهو بالأندلس، يحاول أن يتغلب عليها. فلم يمكنه ما أراد، إلى أن وجهة حنظلة أبا الخطاب إليها، فخاف على نفسه، وخرج مستترا، فركب البحر إلى تونس، فنزل بها، وذلك في جمادى الأولى سنة 127، فدعا الناس إلى نفسه، فأجابوه. وأراد حنظلة الخروج إليه، والزحف لقتاله. ثم كره قتال المسلمين. وكان ذات ورع ودين، فوجه إلى حنظلة جماعه من وجوه أفريقية يدعونه إلى مراجعة الطاعة. فلما قدموا عليه. أوثقهم في الحديد، وأقبل بهم إلى القيروان، وقال (أن رمى أحد من أوليائهم بحجر، قتلتهم) وكانوا وجوههم ورؤساءهم. فلما رأى حنظلة ذلك دعا القاضي والعدول، وفتح بيت المال؛ فأخذ منه ألف دينار، وترك الباقي، وقال: (لا أتلبس منه ألا بقدر ما يكفيني ويبلغني) ثم شخص عن أفريقية في سنة 139 في جمادى الأول. وأقبل عبد الرحمن حتى دخل القيروان، ونادى مناديا: (لا يخرجن أحد مع حنظلة، ولا يشيعه) فرجع عنه الناس خوفا من عبد الرحمن. ولما قفل حنظلة إلى الشرق، دعا على عبد الرحمن وعلى أهل أفريقية، وكان مستجاب الدعوة. فوقع الوباء والطاعون بأفريقية سبع سنين، لا يكاد يرتفع إلا مرة في الشتاء ومرة في الصيف. وقال بعض المؤرخين أن مروان بن محمد الجعدي بعث إلى عبد الرحمن ابن حبيب بولايته على أفريقية بعد تغلبه عليها. ولما ولي عبد الرحمن، ثار عليها جماعة من العرب والبربر. ثم ثار عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 عروة بن الوليد الصدفي؛ فستولى على تونس، وثار عليها عرب الساحل، وقام عليه ابن عطاف الأزدي. وثارت. البربر في الجبال الصنهاجية بباجة؛ فأخذها. فخرج إلها الياس بن حبيب، أخو عبد الرحمن، في ستمائة فارس؛ ولم يظهر إنه خرج إليه، بل أعمل الحيلة مع أخيه في ذلك. ولما وصل الجاسوس، قال: (إن القوم آمنون غافلون) خرج العسكر إليهم؛ فقتل ابن عطاف وأصحابه، وأمعن عبد الرحمن بن حبيب في قتل البربر، وأمتحن الناس بهم، ابتلاهم بقتل الرجال صبرا، يؤتي الأسير من البربر، فيأمر من يتهمه بتحريم دمه بقتله، فيقتله. وكانت بأفريقية حروب ووقائع يطول ذكرها. وكان عبد الرحمن بن حبيب قد كتب إلى مروان بن محمد، وأهدى إليه الهدايا. فكتب إلى مروان، يأمره بالقدوم عليه. ثم ضعف أمر بني أمية بالمشرق، وأشتغل بحرب المسودة. فأقام عبد الرحمن بالقيروان، حتى كانت سن 135. فغزا تسلمان، وخلف ابنه حبيبا على القيروان؛ فظفر بطوائف من البربر، وعاد إلى القيروان. ثم أغزى صقلية. ثم بعث إلى (سر دانية) ؛ فقتل من بها قتلا ذريعا؛ ثم صالحوا على الجزية. وبعث إلى إفرنجة؛ فأتى بسيها؛ ودوخ المغرب كله، وأذل من به من القبائل، لم يهزم له عسكر. ولا ردت له راية. وداخل جميع أهل المغرب الرعب والخوف منه. وقتل مروان بن محمد بالمشرق، وزالت دولة بني أمية. وبقي عبد الرحمن ابن حبيب أمير أفريقية والمغرب. وهرب جماعة من بين أمية خوفا من بني العباس، ومعهم حرمهم. فتزوج منهم عبد الرحمن وأخواته. وكان فيمن قدم ابنا الوليد بن يزيد، وكانت ابنة عمها عند أليس بن حبيب، فأنزلهما عبد الرحمن في دار؛ ثم أحتال في بعض الليالي؛ فأطلع عليهما من موضع خفي، وهما على نبيذ، ومولاهما يسقياهما، إذ قال أحدهما: (أيظن عبد الرحمن إنه يبقى أميرا معنا، ونحن أولاد الخليفة) فلما سمع هذا منه أنصرف. ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 دعاهما، وأظهر لهما بشرا، حتى أتاهما من أخبرهما أن عبد الرحمن سمع كلامهما. فركبا جملين وهربا فبعث عبد الرحمن الخيل في طلبهما، وأدركا. فآمر بضرب أعناقهما. وكانت ابنة عمّهما عند إلياس، فقالت له (قتل أختانك وأنت صاحب حربه وصاحب سيفه! وجعل العهد من بعد عهده لحبيب ولده! فهذا تَهاون بك!) ولم تزل به حتى اجنمع رأي الياس وأخيه عبد الوارث على قتل أخيهما عبد الرحمن. وهاودهما على ذلك جماعة من أهل القيروان على ما يأتي ذكره. وفي سنة 127 كان دخول عبد الرحمن بن حبيب هذا أفريقية ودعواه لنفسه، كما تقدم. وفيها كان انتزاء ثُوابة بن سلامة بالأندلس، وبويع بها. وكان قد هزم أبا الخطار سنة 125. وتم له الأمر في هذه السنة، لكن لا بعهد من بني أمية ولا من بني العباس، بل عنوة بالسيف. وأقام معه الصميل؛ فكان السلطان لثوابه للصميل. وفي سنة 128، هلك أمير الأندلس ثوابه في شعبان، فكانت دولته نحو سنة، حسب ما أذكر ذلك في أخبار الأندلس، أن شاء الله. فبقيت الأندلس دون أمير أربعة أشهر. فأجتمع الناس على الصميل بن حاتم، فوقع نظره ونظرهم على تقدين يوسف بن عبد الرحمن الفهري. وفي سنة 129، أستقل يوسف الفهري بولاية الأندلس فكانت ولايته إياها عشر سنين: فما من سنة من هذه السنيين ألا ويمكن أن يكون له فيها غزو، إذا قالوا إنه واصل الجهاد؛ وسيأتي ذكره وخبره في خبر الأندلس إن شاء الله. وفيها كانت بالأندلس حروب ووقائع وغلاة في الشعر. وقيل أن ولاية يوسف كانت في صفر من هذه السنة، وإنهم كتبوا لعبد الرحمن بن حبيب عامل القيروان؛ فأنفذ إليه عهد بولاية الأندلس. وفي سنة 130، كان استيلاء أبي مسلم على مرو، وتفريقه كلمة العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 واختياره اليمانية لنصرته، وتشريده المضرية وكان له غزوات ومواقعات؛ وعبد الرحمن بن حبيب أمير أفريقيا كذلك، في حروب ووقائع البربر. وفي سنة 131 كان استيلاء أبي مسلم على خراسان، وعامل مصر وأفريقيا والأندلس على ما كان عليه قبل ذلك. وفيها بني عبد الرحمن بن حبيب سور مدينة طرابلس، وانتقل الناس إليها من كل مكان. وفي سنة 132 كانت الوقعة التي هزم فيها الأمويون مع أبي هريرة، وفتح العباسية للكوفة. ثم اتصلت الولايات العباسية والفتوح للبلاد الشرقية وخروجها عن الأموية واحدا من بعد واحد. فقلت مروان بن محمد الجعدي في هذه السنة، وانقطعت الدولة الأموية. وكانت دولتهم 91 سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام وهم أربعة عشر رجلا: منها أيام ابن الزبير تسع سنين واثنان وعشرون يوما. ثم تفرقت بنو أمية في البلاد هربا بأنفسهم، وهرب عبد الرحمن ابن معاوية إلى الأندلس. فبايعه أهلها وتجددت لهم بها دولة استمرت إلى بعد الأربعة والعشرين والأربعمائة. فانقطعت دولتهم ست سنين أو نحوها، من هذه السنة إلى حين دخول عبد الرحمن الأندلس. وجددها في سنة 137. فإن صح أن عهد عبد الرحمن بن حبيب، صاحب القيروان وأفريقية من قبل بني أمية، وصل إلى يوسف بن عبد الرحمن المتغلب على الأندلس، الذي أدخل عبد الرحمن إليها وهو أميرها، فعلى هذا، كانت لهم دولة متصلة بالأندلس. فتأمل هذا فإن إن صح بكته غريبة وفائدة عجيبة قال أبو محمد بن حزم: انقطعت بني أمية. وكانت على علاتها دولة عربية، لم يتخذوا قاعدة ولا قصبة. وإنما كان سكني كل أمير منهم في داره وضعيته التي كانت له قبل خلافته، ولا كلفوا المسلمين أن يخاطبوهم بالعبودية والملك ولا تقبيل يد ولا رجل، وأما كان غرضهم التولية والعزل في أقاصي البلاد؛ فكانت عمالهم وولاتهم في الأندلس، وفي الصين، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 السند، وفي خراسان، وأرمينية، واليمن، والشام، والعراق، ومصر، والمغرب وسائر البلاد الدنيا، ما عدى الهند. وانتقل الأمر إلى بني العباس في هذه السنة. قال ابن حزم في جملة كلامه أيضا: فكانت دولتهم أعجمية: سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر مُلكا غضوضا كسرويا، إلا أنهم لم يعلنوا بسبب أحد من الصحابة - رضوان الله عليهم - افترقت في دولة بني العاس دعوة المسلمين وكلمتهم، فتغلبت على البلاد طوائف من الخوارج والشيعة والمعتزلة ومن ولد إدريس وسليمان ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين - ظهروا في المغرب الأقصى وتملكوا فيه. ومنهم من ولد معاوية تغلبوا على الأندلس، وكثيرا من غيرهم أيضا. وفي خلال هذه الأمور تغلبت الكفرة على أكثر بلاد الأندلس وأكثر بلاد السند. وفي سنة 132 المذكورة كان المولون للعمال بالبلاد أربعة أمراء: وهم مروان بن محمد وأبو سلمة الخلال، وأبو مسلم، وأبو العباس السفاح. فأما مروان فعزل الوليد بن عروة عن المدينة، وولاها أخاه عيسى، وأما أبو سلمة، فاستعمل محمد بن خالد على الكوفة إلى أن ظهر أبو العباس السفاح ظهوراً تاما، وأما أبو مسلم، فهو كان السلطان الأعظم الذي لا يرد أمره، وهو الذي قدم محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك، وأما أبو العباس، فوجه بعد ذلك إسماعيل بن علي واليا على فارس، وأخاه أبا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وولى أخاه يحيى بن محمد عليّ على الموصل، وولى على مصر أبا عون عبد الملك بن يزيد، وولى على أفريقية عبد الرحمن بن حبيب لأنه، لما بلغته بيعة أبي العباس كتب إليه بالسمع والطاعة فأقره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وفي سنة 133 ولى أبو العباس السفاح عمه سليمان بن عليّ البصرة وأعمالها والبحرين وغير ذلك، وولى عمه إسماعيل على الأهواز، وولى عمه داود المدينة، وولى عماله سائر البلاد الشرقية، وأفريقية والأندلس على ما كانت عليه. وفي سنة 134 بعث أبو العباس السفاح موسى ين كعب في اثني عشر ألفاً لقتال منصور بن جمهور من المنتزين على العباس، فسار إليه حتى لحقه بأرض الهند، فهزمه ومن كان معه، ومضى فمات عطشا في الرمال. وفيها كان أيضا العزل والولايات بالمشرق. وبقى على مصر أبو عون وعلى أفريقية عبد الرحمن بن حبيب، وعلى الأندلس يوسف الفهري. وفي سنة 135 كانت غزوة عبد الرحمن بن حبيب صاحب أفريقية صقلية، فسبى وغنم. وغزا أيضا سودانية، وصالحهم على الجزية. وغزا أرض البربر بجهة تلمسان. ومدينة تلمسان قاعدة المغرب الأوسط وهي دار مملكة زناتة. قال البكري: بنو يغمراسن من هوارة يعتدون في ستين ألفا. وتلمسان دار مملكة زناتة على قديم الزمان، ومتوسط بلاد القبائل من زناتة وغيرهم ومقصد النجار، ونزلها محمد بن سليمان من ذرية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومن ذريته أبي العيش عيس بن إدريس بن محمد بن سليمان الذي بنى مدينة جراوة. ونسب زناتة: قال أبو المجد المغيلى، وعلي بن حزم، وغيرهما: أن زناتة هم أولاد جانا بن يحيى بن صلوات بن ورتناج بن ضرى بن سفكو بن قيدواد بن شعبا بن مادغيس بن هود بن هرسق بن كداد بن مازيغ. وذكروا أن ضرى هو ابن وزجيج بن مادغس بن بر، فولد ابن برنوس. وولد برنوس كتامة ومصمودة واوربة ووزداجة واوزيغة، فولد أوزيغة هوارة، ومن قبيل هوارة بنو كهلان ومليلة، وولد يحيى جذانا وسمجان وورسطيف، وولد جذانا ورسيج وولد ورسيج مرين، وولد مرين نجد ونمالة، وولد ورسطيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وركنة ومكناسة، وولد ضرى أيضا تمزيت، وولد تمزيت مطماطة ومدغرة وصدينة ومغيلة وملزوزة، ومديونة، وولد وزجيج لاوى الكبير، وولد لاوى الكبير لاوى الصغير ومغرواة وأيفرن وولد لارى الصغير نفزاو وولد نفزاو يطوفت وولد لاوى الصغير أيض كطوف وولد كطوف ونبطط، فولد ونبطط سدراتة وكانت سدراتة أخوان بني مغراوة لأمهم، وكان أولاد مغراوة وبني يفرن من أعظم بطون زناتة. قال رجال من كتابه: كان بنو مرين يسكون وراء تلمسان، وهو من زناتة، من ولد جانا بن يحيى بن ضريس بن لوا بن نفزاو بن بتر بن قيس غيلان بن الياس بن مضر. قال: وبنو مرين من العرب الصريحيون. وفي سنة 136، كان ابتداء أبي العباس السفاح محاولة الغدر بأبي مسلمة، وضفر أبي مسلم بمن حاول ذلك، وقتله لهم، وذلك في خبر طويل. وقيل: بل كان ابتداء تلك المحولة في 135 قبلها. وقدم أبو مسلم في هذه السنة على أبي العباس مستأذنا في الحج، فهم أبو العباس بقتله ثم انثنى على ذلك وحج أبو مسلم وأبو جعفر. وفيها توفي أبو العباس السفاح في ذي الحجة، بعد أن ولى العهد لأخيه أبو جعفر المصور، فاستوسقت له الأمور، وبايعه الجمهور. وفي 137، كان قدوم أبي جعفر المنصور من مكة، وتتميم بيعته، فدخل أبو جعفر الكوفة وصلى الجمعة، ووافاه كاتب أبي مسلم بالحيرة، ثم شخص أبي مسلم إلى الأنبار. وفيها انتزى عبد الله بن عليّ على أخيه وامتنع من بيعته، فبعث إليه أبو جعفر أبى مسلم، فحاربه. وفيها قتل المنصور أبا مسلم. وكيفية ذلك في (تاريخ) أخبار المشرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 بقية أخبار عبد الرحمن بن حبيب بأفريقية لما صار الأمر إلى أبي جعفر المنصور، كتب إلى عبد الرحمن يدعوه إلى الطاعة. فأجابه، ودعا له، ووجه إليه بهدية كان فيها بزة وكلاب، وكتب إليه: (أن أفريقية اليوم إسلامية كلها، وقد أنقطع السيئ منها) فغضب أبو جعفر المنصور وكتب إليه يتوعده. فلما وصل إليه الكتاب، غضب غضبا شديدا؛ ثم نادى (الصلاة جامعة) فاجتمع الناس؛ وخرج عبد الرحمن في مطرف خز، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه؛ ثم أخذ في سب أبي جعفر، وقال (أني ظننت هذا الخائن يدعو إلى الحق ويقوم به، حتى تبين لي خلاف ما بايعته عليه من أقامة العدل! وأني خلعته كما خلعت نعلي هذا!) وقذفه من رجله. ثم دعا بخلع السود وأمر بتخريقها وقال: (هذا لباس أهل النار في النار!) قال الرقيق: (كان قد لبسها قبل ذلك، ودعا فيها لأبي جعفر؛ فقطعت قطعا وأحرقت.) وقال ابن القطان: كان عبد الرحمن بن حبيب يظهر الطاعة لأبي جعفر، يدعو له على المنبر، ألا إنه لم يلبس السواد، وقال: (أن هذا لباس أهل النار في النار!) ثم خلعه ونبذ طاعته. وحقق عريب أن خلعه لطاعة أبي جعفر كان في هذه السنة. مقتل عبد الرحمن كان عبد الرحمن يوجه أخاه غازيا؛ فإذا ظفر، كتب عبد الرحمن بالفاتح، ويزعم أن ابنه كان يتولى الفتوح وكان قد ولاه عهده، فعمد الياس إلى قتل أخيه عبد الرحمن، وشاور في ذلك أخاه عبد الوارث، فأجابه. ودعوا إلى ذلك قوما من أهل القيروان من العرب على أن يقتلوا عبد الرحمن ويؤمروا الياس بن حبيب، وتكون الطاعة لأبي جعفر. وكان عبد الرحمن ولى أخاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الياس تونس، وودعه للخروج إليها، وعبد الرحمن إذ ذاك مريض. فدخل عليه، وهو في غلالة ورداء، وابن له صغير في حجرة، فقعد طويلا، وعبد الوارث يغمزه. فلما قام يودعه أكب علية ووضع السكين بين كتفيه حتى وصل إلى صدره ثم ردة يده على السيف فضربه، وخرج هاربا دهشا. فقال له أصحابه: (ما فعلت؟) قال: (قتلته!) قالوا: (أرجع! فهز رأسه!) فرجع وهز. وثارت الصيحة. وأخذ الياس أبواب دار الإمارة، وسمع ابنه حبيب الصيحة، فأخبر بقتل والده، فأختفى، ثم تحامل على وجهه إلى باب تونس أحد أبواب القيروان فخرج منه ومضى إلى عمه عمران بن حبيب، وهو والي تونس لوالده فكانت ولاية عبد الرحمن بن حبيب أفريقية عشر سنين وسبعة أشهر. وكان أول ثائر متغلب على بلاد أفريقية ولاية الياس بن حبيب أفريقية ولما قتل أخاه، ولي أمور أفريقية والقيروان، وحبيب عند عمه عمران بتونس. فأخبره بخبر أبيه، ولحق بهما مواليهما وعبيدهما من كل ناحية. فخرج إلياس، وأتاه حبيب وعمران بمن معهما؛ فهموا بالقتال، ثم اصطلحوا على أن يعود عمران إلى ولاية تونس وصطفورة والجزيرة، ويكون حبيب على قفصة وقسطليلة، وألياس لسائر أفريقية والمغرب. ومضى الياس مع أخيه عمران إلى تونس؛ فوثب عليه ألياس، وبعث به إلى الأندلس. وولي على تونس محمد ابن المغيرة، وانصرف إلى القيروان؛ فبلغه عند حبيب أخبار كرهها. فعلم ذلك حبيب؛ فدس له من زين له الخروج إلى الأندلس؛ ففعل؛ ووجه معه شقيقه عبد الوارث ومن أحب من مواليه. فركبوا البحر، وقد تعذرت بهم الريح؛ فكتب حبيب إلى الياس يعلمه بأن الريح ردته، ووقفوا بطية. فكتب الياس إلى عاملة بها يحذره من أمره. فسمع به موالي عبد الرحمن وأهل طاعته؛ فأتوا إليه من كل ناحية، وطرقوا سليمان بن زياد عامل الياس ليلا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وهو في معسكره يحارس حبيبا. فأسروه، وشدوا وثاقه، وركبوا إلى حبيب، فأخرجوه إلى البر. ذكر قيام حبيب بن عبد الرحمن بن حبيب على عمه الياس وتغلبه على بلاد أفريقية لما خرج حبيب هذا إلى البر، واجتمعت عليه أهل طاعة أبيه، ظهر أمره، وشاع ذكره. وتوجه إلى الأربس؛ فأخذها. وبلغ خبره إلى ألياس؛ فخرج يريده، وأستخلف على القيروان محمد بن خالد القرشي، فلما قرب الياس منه، تحاربا حرباً خفيفة. فلما أمس حبيب، أوقد النيران ليضن الناس إنه مقيم. ثم سرى، فأصبح بجلولا. ثم نفذ إلى القيروان، فيتولى عليها. ثم رجع الياس في طلبه، ففسد عليه من كان معه، وتقوى حبيب وخرج إليه في جمع عظيم. فلما التقيا، ناداه حبيب: (لما نقتل صنائعنا وموالينا، وهم لنا حصن! ولكن أبرز أنا وأنت.. فأينا قتل صاحبه، استراح منه!) فناداه الناس.. (قد أنصفك يا الياس) فخرج كل واحد منهما إلى صاحبه، ووقف أهل العسكر ينظرون إليهما، فتطاعنا حتى تكسرت قناتاهما ثم تضاربا بسيوفهما وعجب الناس من صبرهما. ثم ضرب الياس حبيبا ضربة (في ثيابه ودرعه، ووصلت إلى جسده وضرب حبيب عمه الياس ضربة) أسقطته ثم أكب عليه، فحز رأسه وأمر برفعه على رمح وأقبل به على القيروان فدخلها وبين يديه رأس عمه ورؤوس أصحابه، فيهم عم أبيه محمد بن أبي عبدة بن عقبه ورأس محمد بن مغيرة القرشي وغيرهما من وجوه العرب وذلك في عام 138 فكانت ولاية الياس إلى أن قتل نحو سنة وستة أشهر. وفي سنة 138، قام البربر في أفريقيا على حبيبي بن عبد الرحمن بن حبيب ولما قتل حبيب عمه الياس هرب عبد الوارث بن حبيب ومن كان معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 إلى عسكر الياس أخيه إلى بطن من البربر يقال لهم ورفجومة من نقزة لاجئين إليهم فنزلوا عليهم وأميرهم عاصم بن جميل فكتب إليه حبيب يأمره بتوجيههم إليه فلم يفعل فزحف إليه حبيب ولقيه عاصم ومعه كل من هرب من حبيب فاقتتلوا وانهزم حبيب وكان إذا خرج إليهم استخلف على القيروان أبا كريب القاضي فكتب بعض أهل القيروان إلى عاصم وأشياخ ورفجومة وظنوا أنهم يوفون لهم بالعهد وأظهروا لهم أنهم إنما يريدون أن يدعوا لأبي جعفر فزحف عاصم بن جميل وأخوه مكرم من كان معهم من البربر ومن لجأ إليهم من العرب بعد أن هزموا حبيبا وساروا إلى ناحية قابس، حتى انتهوا إلى القيروان. فلما دنا بعضهم من بعض، خرج جماعة من عسكر عاصم، فقتلوا منهم أناسا وتفرق الناس عن القاضي أبي كريب ورجعوا إلى القيروان ولم يعلموا ما يحل بهم من البربر وثبت أبي كريب في نحو ألف رجل من أهل الدين، مستسلمين للموت فقاتلوا حتى قتل أبي كريب وأكثر أصحابه ودخل ورفوجمة القيروان، فاستحلوا المحارم، وارتكبوا الكبائر، ونزل عاصم بمصلى روح ثم استخلف عل القيروان عبد الملك ين أبي جعد اليفرني وسار إلى حبيب، وهو بقابس. فانهزم حبيب ولحق بجبل أوراس. فسار إليه عاصم، فهزمه حبيب، وقتله مع جملة من أصحابه. وأقبل حبيب إلى القيروان، فخرج إليه عبد الملك بن أبي الجعد فاقتتلا، فنهزم حبيب وقتل في المحرم ن سنة 140 فكانت ولاية وتاريخ عبد الرحمن بن حبيب نحو 10 سنين وأشهر، وولاية أخيه الياس سنة وستة أشهر (ثم تغلب على أفريقية بعض القبائل الصفرية بعد قتل حبيب وعاصم، فدخل القيروان وربطوا دوابهم في المسجد الجامع، وقتلوا كل من كان من قريش وعذبوا أهلها. وأساءت ورفجومة لأهل القيروان سوء العذاب وندم الذين استدعوهم أشد ندامة. ثم قام أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 المعافري وكان ثائرا متغلبا خرج طرابلس بعد ما كان استولى عليها يريد القيروان لقتال ورفجومة. فالتقى معهم وقاتلهما. ثم هزمزهم وتبعهم يقتلهم، ثم انصرف إلى القيروان. فولى عليهم عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بعد ذلك ومضى الخطاب إلى طرابلس وكانت مدة هذه الأهوال والفتن التي اختصرناها هنا مجملة في نحو ثلاثة أعوام. وفي سنة 139، كان الفداء بين أبي جعفر المنصور والروم، فاستنقذ المنصور منهم أسرى المسلمين. ولم تكن بعد ذلك صائفة للمسلمين إلى سنة 146. وقي سنة 141 كان ابتداء بناء سجلماسة. وفيها كان خروج أبي الخطاب إلى القيروان لقتال ورفجومة، فخرج إليه واليها عبد الملك، فخذله أهل القيروان وانهزموا عنه، فقتل عبد الملك وأصحابه في صفر وكان تغلب ورفجومة على القيروان سنة وشهرين. وفي سنة 142، أقبل أبي الأحوص اعجلي بالمسَوِّدةِ. فخرج إليه أبي الخطاب. فالتقى بمقداس على شاطئ البحر، فانهزم أبي الأحوص وأصحابه واحتوى أبي الخطاب على عسكرهم. ورجع أبي الأحوص إلى مصر وانصرف أبو الخطاب طرابلس. وكانت أفريقية في يديه إلى أن وجه المنصور بن الأشعث. وفي سنة 143 اتصل أبي الخطاب أن أبي الأشعث يريد القيروان. فخرج إليه في زهاء مائتي ألف. فعسكر بهم في أرض سرت واتصل ذلك بمحمد بن الأشعث. وفي سنة 144، ولي أفريقية محمد بن الأشعث الخزاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ذكر ولاية محمد بن الأشعث الخزاعي أفريقيا لما غلبت الصفرية على أفريقيا بعد أن قتلت ورفجومة من قتلت من قريش وغيرهم، خرج جماعة من عربها إلى المنصور يستنصرون به على البربر ويصفون له ما نالهم منهم. فولى أبو جعفر بن الأشعث مصر. فوجه أبا الأحوص. فهزمته البربر كما تقدم. فكتب أبو جعفر إلى ابن الأشعث أن يسير بنفسه، فخرج إلى أفريقية في أربعين ألفا، عليها ثمانية وعشرون قائدا. فالتقوا بأبي الخطاب، وكان قد جمع أصحابه في كل ناحبة، ومضوا في عدد عظيم. فضاق ذرع ابن الأشعث بلقاء أبي الخطاب لما بلغه كثرة جيوشه. ثم أن زناتة وهوارة تنازعت فيما بينها، واتهمت زنانة أبا الخطاب في ميله مع هوارة. فارقه جماعة منهم وبلغ ذلك بن الأشعث فسر به ورحل إليه. فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم البربر وقتل أصحاب أبي الخطاب وأبو الخطاب. فظن ابن الأشعث ألا بقية بعد أبي الخطاب. ثم طلع عليهم أبي هريرة الزناتي في ستة عشر ألفا. فتلقاهم أبي الأشعث فهزمهم وقتل بعضهم، وذلك في ربيع الأول من السنة. ووجه أبي الأشعث برأس أبي الخطاب إلى بغداد. ولما انتهى إلى عبد الرحمن ابن رستم قَتل أبي الخطاب وولى هاربا إلى موضع تبهرت، فاختطها ونزلها وأخذ أهل القيروان عامله عليها فأوثقوه في الحديد وولوا على أنفسهم عمرو بن عثمان القرشي، إلى أن وفد عليهم أبي الأشعث ودخل القيروان غرة جمادى الأولى من السنة. وفي هذه السنة وأمر ابن الأشعث بناء سور القيروان في ذي القعدة وكان تمامه في رجب سنة 146. وضبط ابن الأشعث أفريقية وأعمالهم وأمعن في كل من خالفه من البربر بالقتل فخافوه وأذعنوا له بالطاعة. ثم ثار عليه موسى بن موسى بن عجلان كان أحد جنده، في جماعة من قواده فأخرجوا ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الأشعث من القيروان من غير قتال. فكان خروج ابن الأشعث من القيروان في ربيع الأول سنة 148. فكانت ولايته بها ثلاثة أعوام وعشرة أشهر، في خلافة أبي جعفر المنصور. وفي سنة 145، اشتغل ابن الأشعث بناء سور القيروان. وأخصبت بلاد أفريقية وكان قد بعث إلى زويلة وودان، فافتتحهما وقتل من بهما من الأباضية وقتل عبد اله بن حيان الأباضي، وكان رأس أهل زويلة. وسكّن ابن الأشعث أحوال أهل أفريقية في هذه السنة. فلم تكن بها حركة له وفي سنة 146، استتم ابن الأشعث بناء سور مدينة القيروان. وفيها أيضا استم المنصور بناء بغداد ولازم العمل فيها، وانتقل إلى سكناها في شهر صفر من هذه السنة. وفي سنة 147، كان الأمير على مصر يزيد بن حاتم، وعلى أفريقية محمد ابن الأشعث الخزاعي، وليس هو محمد ابن الأشعث الكندي ابن أخت عائشة. وفي سنة 148، ثار الجند على محمد ابن الأشعث بأفريقية وسألوه الخروج عنهم. فخرج في ربيع كما تقدم ذكره. ثم اتفق الجند على تولية عيسى بن موسى الخراساني. ثورة عيسى بن موسى بالقيروان وببعض بلاد أفريقية فتغلب عليها بعض العرب والجند من غير عهد من المنصور، ولا رضى منه، ولا تراض من العامة، وذلك في شهر ربيع آخر من عام 148 المذكور. فكانت مدته ثلاثة أشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ولاية الأغلب بن سالم التميمي لما بلغ المنصور ما كان من أمر قواد الجند المصرية وصرفهم محمد بن الأشعث بعث إلى الأغلب بن سالم بن عقال التميمي عهده بولايته، في آخر جمادى الآخر من السنة المؤرخة فاستقامت له الحال. وكان من أهل الرأي وذوي المشورة، ووصله كتاب المنصور بعد كتاب العهد يأمره بالعدل في الرعية وحسن السيرة في الجند، وتحصين مدينة القيروان وخندقها وترتيب حرسها ومن يترك فبها إذا رحل إلى عدوه، وغير ذل كمن أموره. وسنة 149، لم يكن فيها حركة. وفي سنة 150، ثار الحسن بن حرب الكندي بالقيروان عل الأغلب ين سالم، وسبب ذلك أن أبا قرة الصغرى خرج في جمع كبير من البربر، فسار إليه الأغلب في عامة القواد الذين معه، وخلف على القيروان سالم بن سوادة فلما علم أبوه أن الأغلب قرب منه هرب وتفرق أصحابه. وقدم الأغلب الزاب وعزم على الرحيل منه إلى تلمسان، قاعدة زناتة ثم إلى طنجة. فكر الجند المسير معه، وقالوا: (قد هرب أبو قرة الذي خرجنا إليه!) وجعلوا يتسللون عنه إلى القيروان. فلم يبقى معه إلا نفر يسير من وجوههم وكأن الحسن بن حرب بيونس فلما خرج الأغلب يريد أبا قرة، كاتب جميع القواد. فلحق به بعضهم وأقبل معهم إلى القيروان فدخلها، وأخذ سالم بن سوادة عاملها، فحبسه. وبلغ الخبر الأغلب فأقبل في عدة يسيرة وكتب إليه، يعرفه بفضل الطاعة، ووبال المعصية. فأعاد الجواب إلى الأغلب، وفي آخره (وافر) ألا قولوا لأغلب غير سوء ... مغلغلة عن الحسن بن حرب بأن البغي مرتعه وخيم ... عليك وقربه لك شر قرب فإن لم تنثني لتنال سلمي ... وعفوى فأذن من ُطعن وضربي وأقبل الأغلب يحث السير بعد ما مضى إلى قابس، وقدم رسول المنصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 عليه بكتاب منه إليه وإلى الحسن بن حرب يدعوا الحسن إلى الطاعة، فلم قبل فأقبل إليه الأغلب. فاقتتلوا وانهزم الحسن ومضى راجعا إلى تونس، ودخل الأغلب القيروان. ثم حشد الحسن وسار في عدة عظيمة إلى القيروان. ثم أن الأغلب لما بلغه قدوم الحسن إليه، جمع أهل بيته وخاصته، وخرج إليه فأصابه سهما فمات منه في شعبان من السنة المؤرخة. فكانت ولايته سنة واحدة وثمانية أشهر ولاية عمرو بن حفص بن قبيصة أفريقية ثم ولي أفريقية عمرو بن حفص بن قبيصة سنة 151. وكان شجاعا بطلا. وسبب ولايته أن أبا جعفر لما بلغه قتل الأغلب ين سالم، وجهه في نحو خمسمائة فارس فأقام بالقيروان ثلاثة سنين وأشهر من ولايته، والأمور له مستقيمة ثم سار إلى الزاب، واستخلف حبيب بن حبيب بن يزيد بن الهلب فخلت أفريقية من الجند وثار بها البربر فخرج إليهم حبيب والتقى معهم، فهزموه وهزموا عسكر طرابلس معه. فاشتدت الفتنة بأفريقية واشتعل نارها. واتاها أمراء القبائل من كل فج، واجتمعوا في اثني عشر عسكرا وتوجهوا إلى الزاب ولبس مع عمرو بن حفص إلا خمسة عشر ألفا وخمسمائة. وكان أمراء المغرب في ذلك الوقت ورؤسائهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفا، وعبد الرحمن بن رستم الأباضيُّ في خمسة عشر ألفا وأبو حاتم في عدد كثير وعاصم السدراني في عدد كثير: قبل في ستة آلاف والمصور الزناتي في عشرة آلاف وعبد الملك بن سكرديد الصنهاجي الصفري في ألفين سوى جماعات. قال الرقيق: لم أذكرهم. فلما رأى عمرو بن حفص ما أحاط به من العساكر بمدينه طبنة بالزاب، جمع قواده، فاستشارهم، وقال لهم: (إني أريد مناهضة هذا العدو!) فأشاروا عليه ألا يبرح من مدينة طبنة وقالوا له: (أخرج من أردت إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عدوك ولا تخرج أنت! فإنك، أن أصبت، تَلَفَ المغرب وفَسد!) فوجه عمرو إلى أبي قرة مالا كثيرا وكسي كثيرة: على أن ينصرف عنه فقال: (لا حاجة لي بذلك!) فانصرف الرسول بذلك إلى أخيه. فدفع له بعض المال والثياب على أن يعمل في صرف أخيه أبي قرة والصفرية إلى بلادهم. فعمل في ليلته تلك، واجتمع بأهل العسكر فلام يعلم أبي قرة حتى انصرف عنه أكثر أهل العسكر فلم يجد بدا من اتباعهم. فلما انصرف الصفرية وجه عمرو إلى أبي رستم عسكرا، وكان تهودا فانهزم ابن رستم، وقتل من أصحابه نحو ثلاثة ألاف. ووصل منهزما إلى تيهرت. ورجع عمرو بن حفص إلى القيروان؛ فجعل يدخل إليها كل ما يصلحه من الطعام والمرافق وعدة الحصار. ثم أقبل أبو حاتم في جموعه حتى نزل عليه. وكثرت الفتن ببلاد أفريقية. ويقال أن عدة من حاصر القيروان مائة ألف وثلاثون ألف وكان ابن حفص يخرج إليهم في كل يوم فيحاربهم. فلم يزالوا كذلك ضاق أمرهم، وأكلوا دوابهم وكلابهم وسنانيرهم، وماتوا جوعا وانتهى الملح عندهم أوقية بدرهم. واضطرب علي ابن حفص أمره وساءت خلقه، وبلغ أن يزيد بن حاتم بعث أمير المؤمنين في ستين ألفا لنصرة القيروان. فقال: (لا خير في الحياة بعد أن يقال: يزيد أخرجه من الحصار! إنما هي رقدة وأبعث إلى الحساب!) وخرج، فجعل يطعن ويضرب حتى قتل في النصف من ذي الحجة من سنة 154. ولم يعط الحال تفصيل هذه السنين من سنة 151 إلى 153 بعدها سنة: فاجتملت أمرها هنا أجملا مختصرا يغني عن أعادتها في كل واحدة منها. ولما قتل عمرو بن حفص، بايع الناس أخاه جميل بن حفص بالقيروان. فلما طال عليه الحصار، دعاه الاضطرار إلى مصالحة أبي حاتم، على أن جميلا وأصحابه لا يخلعون سلطانهم، ولا ينزعون سوادهم. فغضب أبو حاتم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وأحرق أبواب القيروان، وثلم سورها ودخلها. ولما دخل أبو حاتم القيروان، أخرج أكثر أهلها إلى الزاب. ثم بلغ قدوم يزيد بن حاتم؛ فتوجه للقائه نحو طرابلس وأستخلف على القيروان عبد العزيز المعافري. فقام عليها عمر بن عثمان؛ وقتل أصحاب أبي حاتم. فزحف إليهم أبو حاتم إلى القيروان؛ فاقتتل معهم. وتوجه أبو عثمان إلى تونس؛ ورجع أبو حاتم إلى طرابلس، حين بلغه قدوم يزيد ابن حاتم. فقيل إنه كان بين العرب والبربر، من لدن قاتلهم عمرو بن حفص إلى انقضاء أمرهم، ثلاثمائة وخمس وسبعون وقيعة. وفي سنة 151 ولي المنصور عمرو بن حفص المتقدم الذكر أفريقية. فقدمها في صفر في خمسمائة فارس. وكان قد ولي أفريقية سنة 150، بعد موت الأغلب، المخارق بن غفار الطائي، أستخلفه الأغلب على القيروان؛ واجتمع الناس عليه في رمضان؛ فوجه الخيل في طلب الحسن بن حرب؛ فهرب من تونس إلى كتامة فأقام شهرين، ورجع إلى تونس؛ فخرج إليه من بها من الخيل؛ فقتل الحسن بن حرب. وفي سنة 152 كان ما تقدم ذكره على الجملة الأفريقية. وفيها عزل المنصور يزيد بن حاتم عن مصر، وولاها محمد بن سعيد. وكان سائر عمالها الذين كانوا في السنة قبلها وفي سنة 153، قال الطبري: قتل عمر بن حفص: قتله حاتم الأياضي وأبو غادي ومن كان معهما من البربر؛ وكانوا فيما ذكر ثلاث مائة ألف وخمسون ألفا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفا، ومعهم أبو قرة اليقرني أمير تلسمان، في أربعين ألفا. وكان يسلم عليه بالخلافة هكذا ذكر ابن القطان في (نظم الجمان) وقد يقدم أن قتل عمرو بن حفص كان سنة 154. ذكر كذلك الرقيق وابن حماده وغيرهما. قال الرقيق وعريب: وفي سنة 153 زحف أبو قرة من تسلمان في جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 من كبير من البربر إلى القيروان. فصالحه عمرو بن حفص وانصرف. وفيها ثارت البربر بطرابلس وقدموا أبا حاتم الأباضي: وأسمه يعقوب بن لبيب. وفي سنة 154، قال عريب: استخلف عمرو بن حفص على طبنة المهنى بن المخارق، وخرج عمرو إلى القيروان، فأقبل إليه أبو حاتم الأباضي إلى أن قتل عمرو كما تقدم ذكره. ولما بلغ المنصور قتل عمرو وبعث إلى أفريقية يزيد بن حاتم، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وفي سنة 155، قال الطبري: فيها افتتح يزيد بن حاتم أفريقية، وقتل أبا غادي وأبا حاتم، واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بن حاتم القيروان ثم قدم يزيد. ولاية يزيد بن حاتم أفريقية والمغرب وهو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، وكان يكنى أبا خالد. ولاه أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور العباسي وحاله في كرمه. وجوده، وشجاعته، وبعد صيته، ونفاذ رأيه، وتقدمه، معروف غير منكر. وكان كثير الشبه بجده المهلب ابن أبي صفرة في حروبه وكرمه، وكان له أولاد مذكورون بالشجاعة والإقدام. ويقال إنه انتهى ولد المهلب ثلاثمائة ولد من الذكور والإناث، من مات منهم ومن عاش. وكان أبو جعفر المنصور عالما ببلاد أفريقية، وكان لا يبعث إليها إلا خاصته. وكان يزيد هذا حسن السيرة فقدم أفريقية، وأصلحها، ورتب أسوار القيروان، وجعل كل صناعة في مكانها. ولم تزل البلاد هادئة إلى أن ثارت عليه البربر. فزحف لهم وأوقع بهم. وله فيهم ملامح مشهورة. وقيل فيه: (شتان ما بين اليزيدين!) يعني يزيد بن سليم ويزيد بن حاتم. ومن شعر ربيعة فيه. في قصيدة (طويل) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... يمين أمري آلي وليس بآثم لشاتنا ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم وقدم يزيد على أفريقية ومعه كل من جند من الشام والعراق وخراسان، فنزل أولا طرابلس، وسار إليه أبو حاتم، فزحف إليه يزيد، واقتتل معه قتالا شديدا. فانهزم أبو حاتم وقتل هو وكثير من أصحابه. واتبع سائرهم، فقتل من أدرك منهم. واستعمل يزيد على طرابلس سعيد بن شداد، وحينئذ نهض إلى القيروان، فدخلها يوم الاثنين لعشر بقين لجمادى الآخرة من هذه السنة. وفي هذه السنة، أنكرت الصفرية المجتمعة بسلجمانة على أميرهم عيسى بن يزيد أشياء، فشدوه وثاقا ووضعوه على قنة جبل، فلم يزل كذلك حتى مات، وقدموا سمغو بن واسول بن مدلان المكناسي جد مدرار. وفي سنة 156 بعث يزيد بن حاتم العلاء بن سعيد المهلبي مددا لمخارق بمدينة طبنة بالزاب، وقلعة حبحاب بجبل كتامة، وهرب عبد الرحمن بن حبيب عنها وقتل العلاء جماعة ممن أدرك فيها. ثم انصرف إلى القيروان. وثار على يزيد بن حاتم أبو يحيى بن قرياس الهواري بناحية طرابلس، واجتمع إليه كثير من البربر. وكان بها عبد الله بن السمط الكندي قائدا ليزيد، فالتقوا على شاطئ البحر، واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أبو يحيى وقتل عامة أصحابه. وتهدنت أفريقية ليزيد بن حاتم وضبطها. وفي سنة 157، جدد يزيد يناء المسجد الجامع بالقيروان. وكان غاية في الجود والحسن. وفيها توفي أبو جعفر المنصور، في ذي الحجة من السنة المؤرخة. وفي سنة 158، ولي الخلافة المهدي، بويع يوم مات أبو جعفر بمكة - شرفها الله - نعهد من أبيه، وذلك يوم السبت لست خلون لذي الحجة. واستقل بالملك والخلافة في هذه السنة. وكان أديبا ن جوادا، محبا لآهل الأدب والشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقد ذكرنا بعض أشعاره وأخباره في تاريخ المشرق، والغرض هنا أخبار المغرب الأقصى والأوسط وفي سنة 163، توفي أبو خالد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم القاصي بالقيروان، وصلى عليه أمير أفريقيا يزيد بن حاتم، وتمثل بهذا البيت لما رأى ازدحام الناس عليه (بسيط) . يا كعب ما راح من قوم ولا أنكروا ... ألا وللموت في آثارهم حادي وكان مرضه إنه أكل حوتا وشرب عليه لبناً على مائدة يزيد، وكان قد جاوز 90 سنة، فهلك من ليلته. وفي سنة 163، أمر المهدي يحيى بن خالد بن برمكة أن يكون كاتبا لأبنه هارون، وقال له: (إني اخترتك ووليتك الكتابة) وأمر له بمائة ألف درهم معونة على سفره مع هارون إبنه. وفي سنة 165، أغزى المهدي ابنه هارون إلى بلاد الروم، في 95 ألفا، بمائة ألف ألف من العين، وبعشين ألف ألف من الورق. فبلغ خليج البحر على القسطنطينية، وأذعن له الروم بالجزية 90 ألف دينار في كل سنة وانصرف بخمسة آلاف من الأسرى والغنائم. وفي سنة 166، قدم هارون ابن أمير المؤمنين كمنم غزوته هذه، وقدمت الروم بالهدية والجزية. وفيها سخط المهدي على وزيره يعقوب بن داود. وكان قد فوض إليه أمور خاصته!. وفي سنة 169، توفي المهدي بن المنصور واختلف في سبب موته: فقيل مسموما غلطا وقيل غير ذلك واستخلف ابنه موسى الهادي. وفي سنة 170، توفي موسى الهادي في ربيع الأول، وهو ابن ستة وعشرين سنة ونصف، فكانت خلافته سنة وشهرين واستخلف هارون بن محمد الرشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وفي سنة 171، توفي أمير أفريقيا يزيد بن حاتم، وكان خاصا بأبي جعفر المنصور، وتولى ولايات كثيرة قبل قدومه المغرب ك منها أرمينية، والسند، ومصر، وأذربيجان، وغير ذلك، وكانت ولايته مصر سنة 144 إلى سنة 153 وكان حسن السيرة بأفريقية، امتدحه كثير من فحول الشعراء، فأجزل لهم العطاء. قال الزبير بن بكار عمن حدثه من الشعراء، قال: (كنت أمدح يزيد بن حاتم من غير أن أعرفه ولا ألقاه.) فلما ولاه المنصور مصر أخذ على طريق المدينة فألقيه. فأنشده منذ خرج من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسجد الشجرة. فأعطاه رزمتي ثياب وعشرة آلاف دينار. هكذا ذكر الرقيق. ومما قيل (كامل) .. يا واحد العرب الذي دانت له ... قحطان قاطبة وساد نزارا إني لأرجو إذ بلغتك سالما ... ألا أكابد بعدك الأسفار وفيه قيل (طويل) : شتان ما بين اليزيدين في الندى ... إذا عد في الناس المكارم والمجد وقوله: (لشتان ما بين اليزيدين) مثلٌ يتمثل به في كل ناحية على لسان كل سائر. وكان على ربيعة الشاعر دية فأعطاه عشرة ديات، ووصله وأحسن إليه وكان سخيا ومن قول يزيد بن حاتم رحمة الله (بسيط) ما بألف درهم المضروب خرقتنا ... إلا لماما يسيرا ثم ينطلق يمر مرا عليها وهي تلفظه ... إلى أمرؤ لم يحالف خرقتي الورق ومن أخباره بأفريقية - رحمه الله - روى إن بعض وكلائه زرع قولا كثيرا في بعض رياضاته. فقال له: (يا بني يابن اللخناء أتريد أن أعبر بالبصرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فيقال: (يزيد بن حاتم يا فلان) ثم أمر أن يباح للناس، وخرج أيضا يوما في طريقه من القيروان متنزها. فنظر إلى غنم كثيرة كانت لابنه فزجره عليها وأمر بذبحها وأن تباح للناس، فانتهبوها وأكلوها، وجعلوا جلودها في كدية، فهي تعرف من ذلك الوقت بكدية الجلود. وكانت وفاته في رمضان من سنة 171 فكانت ولايته خمسة عشر سنة وثلاثة أشهر في بعض خلافة المنصور وخلافة المهدي كلها وبعض خلافة هارون الرشيد. ولاية داود بن يزيد بن حاتم أفريقية استخلفه أبوه في مرضه فأقام واليا بأفريقية تسعة أشهر ونصفاً، يحارب أمراء قبائل البربر محاربة عظيمة، وكان بينه وبينهم مواقف كثيرة في جبال باجة وغيرها. وقال عليه نصير بن صالح الأياضي فخرج إليه المهلب ين يزيد فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة. فوجه إليهم داود سليما بن يزيد في عشرة آلاف فهرب البربر أمامهم فتبعهم، وقتل منهم أكثر من عشرة آلاف وأقام داود على أفريقية إلى أن قدم عليه عمه روح بن حاتم أميرا على المغرب. ذكر ابتداء الدولة الهاشمية بالبلاد الغربية وهم الأدارسة - رحمهم الله - اتفق جماعة المؤرخين إن دخول إدريس بن عبد الله - رضي الله عنه - إلى المغرب كان في سنة 170، وهو إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنه - وكان دخوله في إمارة يزيد بن حاتم أفريقية وإمارة هشام بن عبد الرحمن لداخل بقرطبة، وأول ظهور بني مدرار بسلجمانة. وكان نزوله بوادي الزيتون، بموضع يعرف بمدينة البلد وكان وصوله مع مولاه راشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقال البكري في (المجموع المفترق) وكان نزوله بوليلى وهي اسم لطنجة باللسان البربري وذكر محمد بن يوسف أنها كانت على مسافة يوم من موضع فاس الآن. وكانت مدينة أزلبة وبها مات إدريس - رضي الله عنه - وكان سبب وصول إدريس إلى المغرب، على ما ذكر الرقيقي والنوفلي في (المجموع المفترق) وغيرها من المؤرخين، وذلك أن الحسين بن على بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان قد قام بالمدينة أيام موسى الهادي، ثم خرج إلى مكة في ذي الحجة سنة 69 وخرج معه جماعة من إخوانه وبني عنه ومنهم إدريس ويحيى ابنا عبد الله بن حسن وبلغ ذلك الهادي، فولى حربه محمد بن سليمان بن على وكانت الوقعة بفخ، فقتل الحسين بن علي وأكثر أصحابه وأفلت إدريس هذا الداخل إلى المغرب، فهرب إلى مصر وكان على بر يدها واضح، مولى صالح بن المنصور، فحمله على البريد إلى أرض المغرب فوقع بمدينة وليلة من أرض طنجة، فاستجاب له من بها من قبائل البربر ولما ولى الرشيد وبلغه أمره، بعث إلى واضح، فضرب عنقه ودس إلى إدريس الشماخ مولى الهادي، فخرج حتى وصل وليلة، وذكر إنه متطبب من شيعتهم العلوية ودخل إلى إدريس فأنس به واطمئن إليه ثم إنه شكى له علة في أسنانه فأعطاه سنونا مسموما قاتلا وأمر أن يستن به عند طلوع الفجر فأخذه منه. وهرب الشماخ من تحت ليلته. فلما طلع الفجر استن إدريس، وأكثر منه في فمه فسقطت أسنانه ومات من وقته وطلب الشماخ، فلم يظفر به، وقدم على الرشيد، فولاه بريد مصر هكذا ذكر الرقيق في كتابه. وفي سنة 172، اجتمعت القبائل على إدريس بن عبد الله من كل جهة ومكان، فأعطوه وعظموه وقدموه على أنفسهم، وأقاموا معه مغتبطين بطاعته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ومتشرفين بخدمته طول حياته. وكان رجلا صالحا مالكا لشهواته، فاضلا في ذاته، مؤشرا للعدل مقبلا على أعمال البر وفي سنة 173، كان خروجه بعساكر القبائل الغربية حتى انتهى إلى بلاد السوس الأقصى، ودخل ماسة، فغنم وسبى، ورجع إلى الغرب سالما غانما. وفي سنة 174، توجه بعسكره إلى رباط تازا لما قفل من حركة السوس. فوجد في جبلها معدن الذهب. وأجابه جميع القبائل الغربية وأطاعوه وبايعوه في هذه السنة، وكملت له الإمارة فيهم. ولاية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب أفريقية ولاه عليها أمير المؤمنين هارون بن محمد الرشيد، فقدمها في سنة 171. وكان له ولايات كثيرة: فحجب المنصور، ثم ولاه البصرة، وولى الكوفة في أيام المهدي، وولي السند وطربستان وفلسطين وغير ذلك. ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا في الشمس عند باب المنصور، فقال له. (لقد طال وقفك في الشمس!) فقال له: (ليطول بذلك وقفي في الظل) وفىّ له ابنٌ، فدخل عيه أصحابه وهو ضاحكٌ فتوقفوا عن تعزيته، فعرف ذلك منهم فأنشأ يقول (طويل) . . وأنا لقوم ما تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قسم الظهر وقيل إنه بعث لكاتبه ثلاثين ألف درهم ووقع إليه: (إني بعثت إليك بكذا، لا أستقلها لك تكبرا، ولا أستكثرها تمننا، ولا أقطع عنك بها رجاء بعد. والسلام.) وكان روح أكبر سنا من أخيه يزيد واكثر ولاية. وعندما يطول جلوسه بالقيروان، ربما خطر عليه النعاس من الضعف والشاخة وكان بكى أبا خالد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 توفي ليلة الأحد لسبع بقين من رمضان المعظم من سنة 174، فكانت ولايته ثلاثة سنين وثلاثة أشهر. ولاية نصر بن حبيب المهلبي أفريقية وكان صاحب البريد وأبو العنبر القائد قد كتبا! إلى الرشيد، في جملة من كتب إليه من الفؤاد، يعلمانه بضعف روح بن حاتم وكبره وإنهما لا يأمنان موته عن قريب، وأفريقية ثغر كبير لا يصلح بغير سلطان وكان نصر هذا على شرطة يزيد بن حاتم بمصر وأفريقية، وكان محمود السيرة. فكتب الرشيد عهده وبعثه سرا إليه. فلما مات روح، بويع قبيصة ابنه في المسجد الجامع، وأجمع الناس على بيعته. وكان الفضل بن روح عاملا في الزاب، فركب أبو العنبر وصاحب البريد بعهد أمير المؤمنين هارون إلى نصر بن حبيب فأوصى إليه وسلما عليه بالإمارة وركبا معه إلى المسجد فيمن معهما، حتى أتيا قبيصة، وهو جالس على الفراش. فأقاموه، وأقعدا نصر بن حبيب وأعلما الناس بأمره. وقرء الكتاب الواصل من أمير المؤمنين هارون إلى نصر بن حبيب على الناس، فاستمعوا وأطاعوا. وكان ذلك في العشر الأواخر لرمضان المعظم من عام 174. فحسنت سيرته، وعدل في أحكامه فولا سنتين وثلاثة أشهر. وفي سنة 175، عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام ولاية عهد المسلمين من بعده، وأخذ عليه بيعة القواد والجند وسماه بالأمين، وله يومئذ خمسين سنة. وفي سنة 176، ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالتسلم، واشتدت شوكته وقوي أمره، فاغتّم الرشيد لذلك ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فصرف إليه الفضل بن يحيى في خمسين ألف رجل، فانهزم يحيى بن عبد الله. وفي سنة 177، ولي أفريقية الفضل بن روح بن حاتم، ولاه أمير المؤمنين الرشيد عليها، وكتب بعزله نصر بن حبيب، وأن يقوم بأمر الناس المهلب بن يزيد إلى أن يقدم الفضل. فكان قدومه في محرم من هذه السنة. ولما قدم الفضل ولى ابن أخيه المغيرة تونس، وكان غير ذي تجربة ولا سياسة للجمهور فستخف بالجند وسار بهم سيرة قبيحة، فاجتمعوا وكتبوا كتابا لعمة الفضل يخبرونه بما صنع المغيرة فيهم وقبح سيرته، فتثاقل الفضل عن جوابهم فقالوا (كل جماعة لا رأس لها لا ينجح سعيهم ولا مطالبهم) فقال بعضهم: (أشير عليكم بعبد الله بن عبد ربه بن الجارود فانطلقوا إليه وقالوا له: (قد رأيت ما فعل بنا المغيرة، وقد خاطبنا عمه، فلم يصلنا جوابه وأنت المنظور إليه، والمعمول في الأمور عليه، ونحن نصير أمرنا إليك، ونعتمد فيه عليك.) فقال لهم: (ليس لي من الجواب ألا النصيحة لي ولكم، وأنا أخاف على نفسي وأقنع بالعافية؛ وإن كان أمر، وكنت فيه كأحدكم) فقالوا له: (وما لك من هذا بد!) فقال لهم (أعطوني من بيعكم ما أثق به) فبايعوه وأطاعوه. وفي سنة 178 ثار الجند على أمير أفريقية الفصل بن روح بن حاتم، وقدموا ابن الجارود بتونس. ثم ساروا إلى المغيرة، وهو بدار الإمارة؛ فقالوا له: (الحق بصاحبك أنت ومن معك!) وكتب للفضل بن روح: (من عبد الله بن الجارود. أما بعد، فأنا لم نخرج المغيرة خروجا عن الطاعة، ولكن لأحداث أحداثها فينا، ظهر فيها فساد الدولة. فعجل لنا من ترضاه يقوم بأمرنا؛ وإلا نظرنا لأنفسنا!) وكتب الفضل إلى عبد الله بن الجارود: (أما بعد، فإن الله يجري فضاءه على ما أحب الناس أو كرهوا، وليس اختياري أن أولى عليكم! فاختاروا لأنفسكم! ولكن أوجه إليكم عاملا.) فوجه عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ابن محمد إلى تونس. فلما وصل إليها، قال لهم ابن الجارود: (كيف تصنعون ذلك، وأنتم قد أخرجتم ابن اخيه وشتمتموه؟ والله! ما بعث إليكم إلا ليطيبكم حتى ترجعوا عن رأيكم؛ فإذا اطمأننتم أخذتم واحد بعد واحد!) قالوا له: (فما رأيك؟) قال: (الذي ذكرت لكم) فخرجوا حتى التقوا بالعسكر الواصل مع العامل من قبل الفضل أمير أفريقية والقيروان بموضع الزيتون، فدفعوه عن أنفسهم، وجرى بين الجند كلام كثير يطول ذكره، إلى أن وقعت الحرب بين ابن الجارود وعسكر الفضل، فهزمهم ابن الجارود واتبعهم إلى القيروان، فنزل عليها. فاجتمع الفضل مع بني عمه وخاصته وتساور معهم في أمره، فاضطرب الآمر عليه، ولم يصح له أمر. فلما أصبح أقبل عبد الله بن عبد ربه بن الجارود في عسكره، والفضل في دار الإمارة مع أصحابه. وكان بعض القواد على الأبواب، فلما قرب ابن عبد ربه منها فتحوها له، فدخل أصحابه، لا يدافعهم أحد، ونزل ابن عبد ربه خارج المدينة، ثم دخل دار الإمارة، فأمن الفضل وأصحابه، ثم أمرهم بالخروج إلى قابس وقال لهم: (إني لا آمن أصحابي عليكم، ولكن أوجه معكم من يوصلكم إلى قابس.) فوجه إليهم أبا الهيثم في جماعة، وأخذ عليه الإيمان ألا يسلم الفضل. فخرج الفضل معه، مع ثلاثة من بني عمه وبعض أصحابه من باب آخر. فقال لهم البواب: (اخرجوا يا كلاب النار! لا رحمكم الله!) فقال الفضل عند ذلك: (لا غله إلا اله! لم يبق أحد إلا صار علينا حتى من أعتقناه!) وسار ليلته ونهاره حتى دنا الغروب، فسمع طبلا، فقال: (فلان جاء بمائة فارس، بعثه ابن الجارود إليك لأنه خاف عليك الجند!) ثم سمع طبلا آخر، فإذا هوم منصور بن هاشم. فقال له: (ما جاء بك؟) فقال (كذا وكذا) م سمع طبلا آخر، فإذا هو صاحب شرطة ابن عبد ربه بن الجارود، فقيل للفضل: (إذا جاء ليردك!) وذلك إنه أشار على ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الجارود جماعة من أصحابه أن: ((لن) تتركوا الفضل يدخل طرابلس لئلا يقوم الناس معه ويرجع القيروان، فنادى مناديه (من كان من طاعة ابن الجارود فلينعزل!) فانعزل الناس ولم يبق مع الفضل أحد فردوه إلى القيروان، بعدما خلو عن المهلب وجميع الناس الذين كانوا مع الفضل إلا محمد بن هشام والفضل بن يزيد، فانطلقوا بهما حتى جعلوا في الدار معه. ثم قُتِلَ الفضل بن رَوح في شعبان من سنة 178، فكانت ولايته سنة واحدة وخمسة أشهر، فكانت دولة المهالبة بأفريقية ثلاثا وعشرين سنة، وثار بن الجارود في جمادى الآخرة من سنة 178، فكانت له مع البربر وقائع عظيمة، ثم أمنه الرشيد، فأجاب إلى الطاعة. وفي سنة 179، كتب ابن الجارود المتغلب على أفريقية إلى يحيى بن موسى وهو بطرابلس، أن: (أقدم القيروان: فإني مسّلم لك سلطانها!) فخرج يحيى بن موسى بمن معه، في محرم، فلما بلغ قابس، تلقاه بها عامة الجند من القيروان، ومعهم النظر بن حفص، وعمرو بن معاوية، فخرج ابن الجارود من القيروان، واستخلف عليها المفرج بن عبد الملك، فكانت أيلم ابن الجارود سبعة أسهر. وأقبل يحيى بن موسى والعلاء بن سعيد متسابقين إلى القيروان، فسبقه العلاء إليها فقتل بها جماعة من أصحاب ابن الجارود، فبعث إليه يحيى بن موسى أن يفرق جموعه إن كان في الطاعة. فأمر من كان معه أن ينصرفوا إلى مواضعهم. ورحل العلاء إلى طرابلس، وكان ابن الجارود قد وصل إليها قبل وصول العلاء، فلقي بها يقطين بن موسى، فخرج معه سائرا إلى المشرق فلقوا هرثمة بن أعين قد وصل بولاية أفريقية. وقد كان العلاء كتب إلى هرثمة يعلمه بأنه هو الذي أخرج ابن الجارود من أفريقية فأجازه بجائزة سنية، وكان يحيى بن موسى قدمه هرثمة ابن الجارود، سيره إلى أمير المؤمنين الرشيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ولاية هرثمة بن أعين أفريقية ولاه عليها أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقدم القيروان غرة ربيع الآخر، فأنس الناس وسكنهم، وأحسن إليهم قال ابن حمادة: وصل هرثمة في جيش كثيف حتى نزل تبهرت، فخرج إليه بن الجارود واقتتل معه فهزم ابن الجارود، وطاعت البربر لهرثمة، وانصرف راجعا إلى القيروان وهو الذي بنى القصر الكبير المعروف بالمنستير. قاله الرقيق. وفي سنة 180 كانت الزلزلة العظمى بأرض مصر وسقط رأس منار الإسكندرية. قال الرقيق: لما رأى هرثمة بن أعين ما رأى من الخلاف بأفريقية وسوء طاعة أهلها، طلب الاستعفاء فكتب إليه الرشيد بالقدوم عليه فرجع إلى المشرق وهو الذي بنى سور طرابلس. ولاية محمد بن مقاتل العكي أفريقية وفي سنة 181 ولى أمير المؤمنين الرشيد على أفريقية محمد بن مقاتل بن حكيم العكي، فقدمها في رمضان. وكان رضيع الرشيد، وكان أبوه من كبار أهل دولته. وكان محمد هذا غير محمود السيرة، فاضطرب أمره واختلف عليه جنده. ولو لم يكن من سوء سيرته، وقبيح ما يؤثر عنه من أخباره، إلا أقدامه على عابد زمانه وورع عصره البهلول. بن راشد فضربه بالسياط ظلما وحبسه، فكان ذلك سبب موته. ومن أخباره إنه اقتطع أرزاق الجند وأساء السيرة فيهم وفي الرعية، فمشى القائد فلاح في أهل خراسان وأهل الشام، فلم يزل بهم حتى اجتمع رأيهم على مخلد بن مرة الأزدي. وخرج على العكي تمام بن تميم التميمي، وكان عامله بتونس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ثورة تمام بن تميم التميمي على محمد بن مقاتل العكي وفي سنة 183 زحف تمام من تونس مع جماعة القواد والأجناد من أهل الشام وخراسان متوجها إلى القيروان، في النصف من رمضان. فخرج إليه العكي فتقاتلا. فأنهزم العكي ورجع إلى القيروان، فتحصن في داره التي بنها وترك دار الإمارة. وأقبل تمام فنزل بعسكره خلف باب أبي الربيع. فلما أصبح تمام فتح له الأبواب فدخل يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان سنة 183، فآمن تمام العكي على دمه وأهله وماله. فكانت ولايته إلى أن أخرجه تمام من القيروان سنتين وعشرة أشهر ثم ولى أفريقيا أبو الجهم بن تميم التميمي. وكان ثائرا متغلبا من غير عهد من الرشيد وهو جد أبي العرب بن تميم صاحب التواليف. فدخل القيروان، وخرج العكي منها بأمانه ومشى لطرابلس ولحق به قوم من خرسان منهم طرحون صاحب شرطته فاجتمع رأيهم على أن يدخلوه فدخلها وأقام تمام ملك القيروان فنهض إليه إبراهيم بن الأغلب من الزاب، وكان أمير عليه. فلما بلغ تمام إقباله إليه سار إلى تونس، فدخل ابن الأغلب القيروان، وأبتدر المسجد الجامع، وصعد المنبر وكان فصيحا بليغا فأعلم الناس إنه ما وصل إلا لنصره العكي محمد بن مقاتل، وأنه أميرهم المودم عليهم من أمير المؤمنين وكتب إلى العكي يخبره بما فعل في حقه ويؤكد عليه في الوصول. فأقبل راجعا حتى دخل هو ومن معه القيروان فمشى يوما في أزقتها فنادته امرأة من طاقها تقول له (أشكر إبراهيم بن الأغلب! فهو الذي رد عليك ملك أفريقيا!) فكبر ذلك عليه وكان تمام بن تميم بتونس. فقال لأصحابه: (أن إبراهيم بن الأغلب رد الملك على العكي والذين مع العكي قد ملئوا رعبا من وقعتنا بهم وإذا بلغهم خروجي من تونس يسلمونه ويصلون ألي! ومع هذا فأن العكي حسود، لا بد أن يخالف إبراهيم بن الأغلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فيما يشير به عليه.) وكان الناس يقولون (استرحنا من العكي، فرد إبراهيم علينا! فلموت خير لنا من الحياة في سلطان العكي!) ففزع الناس إلى تمام بن تميم التميمي. فلما رأى كثرة من معه، طابت نفسه لقتال العكي. فكتب تمام إلى العكي: (أما بعد، فأن إبراهيم بن الأغلب لم يبعث إليك فيردك من كرامتك عليه، ولا للطاعة التي يظهرها للخليفة؛ ولكن كره ان يبلغ إليك أخذه البلاد فترجع إليه؛ فأن منعك، كان مخالفا لأمير المؤمنين؛ وان دفعها إليك، كان ما فعل لغيره، فبعث إليك لترجع؛ ثم يسلمك إلى القتال. وغدا تعرف ما جربت من وقعتنا لك بالأمس!) وفي آخر كتابه (الطويل) : وما كان إبراهيم من فضل الطاعة ... يرد عليك الملك لكن لتقتلا فلو كنت ذا عقل وعلم بكيده ... لما كنت منه يا ابن عك لتقبلا فلما وصل كتابه إلى محمد بن مقاتل العكي، قرأه ودفعه إلى ابن الأغلب؛ فقراه وضحك، وقال: (قاتله الله! ضعف رأيه!) وكتب إليه ابن العكي: (من محمد بن مقاتل إلى الناكث ابن تميم. أما بعد فقد بلغني كتابك، ودلني على قلة رأيك. وفهمت قولك في إبراهيم؛ فأن كانت نصيحة، فليس من خان الله والخليفة مقبول منه ما نصح به! وإن كانت خديعة، فأقبح الخداع ما فطن له!) وفي آخر كتابه (طويل) : وإني لأرجو إن لقيت ابن أغلب ... إذا في المنايا أن تفل وتقتلا تلاقي فتى يستصحب الموت في الوغى ... ويحمي بصدر الرمح عزا موثلا وأقبل تمام من تونس بعسكر عظيم؛ وأمر ابن العكي من كان معه من أهل الطاعة بالخروج إليه، مع إبراهيم بن الأغلب؛ فتقاتلوا قتالا شديدا؛ فانهزم تمام، ورجع إلى تونس. وانصرف ابن العكي إلى القيروان، وأمر إبراهيم ابن الأغلب بالمسير إلى تونس. وفي سنة 184 خرج العسكر من القيروان لحصار تونس وقتال تمام؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وذلك في محرم منها. فلما اقبل تمام إقباله، طلب الأمان منه؛ فأمنه إبراهيم، وأقبل به إلى القيروان، يوم جمعة، لثمان خلون من محرم المذكور ولاية إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال التميمي أفريقية وصله عهد الرشيد في العشر الوسط لجمادى الأخيرة من سنة 184؛ وقال له فيه: (قد تقدم لكم بأفريقية أمره) وكان الرشيد ولاه على بلاد الزاب، وقي بلاد الجريد، وابن العكي على أفريقية. وكان إبراهيم بن الأغلب فقيها، أدبيا، شاعرا، خطيبا، ذا رأى ونجدة وبأس وحزم وعلم بالحروب ومكايدها، جرى الجنان، طويل اللسان، لم يل أفريقية أحسن سيرة منه، ولا أحسن سياسة، ولا أرأف برعيته، ولا أوفى بعهد، ولا أرعى لحرمة منه. فطاعت له قبائل البربر، وتمهدت أفريقية في أيامه. وعزل العكي عمها، واستقامت الأحوال بها. وكان إبراهيم قد سمع من الليث بن سعد، ووهب له جلا جل أم ولده لمكانه منه ولقد قال الليث يومها: (ليكونن لهذا الفتى شأن!) وكان لإبراهيم فضائل جمة ومآثر حسنة. وكان له مع راشد أمير الغرب مولى إدريس الحسنى مواقف ومحاربة؛ وكان راشد قد علا أمره. ومن قول إبراهيم، وكان قد خلف أهله بمصر (بسيط) ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة ... ألا وذكريني دائما عنقي ولا ذكرتك إلا بت مرتقبا ... أرعى النجوم كان الموت مغتبقي ولما ملك أفريقية، قمع أهل الشر بها وضبط أمرها. وكان له مع بربرها حروب طويلة ذكرها. وأحسن إلى عرب جيشها. وفي سنة 185 شرع إبراهيم في بناء مدينة القصر القديم وصار بعد ذلك دار الأمراء. وكان على ثلاثة أميال من القيروان؛ وكان قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 اشترى موضعه من بني طالوت؛ فبناه ونقل إليه السلاح والعدد سرا، وسكن حوله عبده وأهل الثقة به من خدمته. وكان حافظا للقران، عالما به وثار عليه الكندي بتونس؛ وكانت له معه وقائع وافقت محاربة المأمون للأمين، بعد موت الرشيد. وفيها، قال الطبري: وقعت بالمسجد الحرام صاعقة، فقتلت رجلين. وفي سنة 186 حج بالناس هارون الرشيد، وأخرج معه ابنيه محمدا الأمين، وعبد الله المأمون، وقواده، ووزراءه، وقضاته، وولي عهد عبد الله. قال الطبري: وكان الرشيد عقد لأبنه محمد ولاية العهد في شعبان سنة 173، وسماه الأمين، وضم إليه الشام والعراق في سنة 175، ثم بويع لعبد الله المأمون بالرقة في سنة 183؛ وولاه من حد همدان إلى أخر المشرق. ولما قضى مناسكه في هذه السنة، كتب للمأمون كتابين: أحدهما على محمد بما أشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم وما ولى لعبد الله من الأعمال، وما صير له من الضياع والأموال؛ والأخر نسخة البيعة التي أخذها لعبد الله على محمد وعلى الخاصة والعامة. وأشهد في ذلك في البيت الحرام، وأمره بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد. وأشهد عليهما جماعة من حضر من بني هاشم وغيرهم. ثم أمر ان يعلق الكتاب في الكعبة. فلما علق، وقع؛ فقيل: (أن هذا لأمر سريع انتفاضه قبل تمامه!) وفي سنة 187 كان قتل الرشيد لجعفر بن يحيى، وإيقاعه بالبرامكة؛ والوالي على أفريقية إبراهيم بن الأغلب كما كان. وفي سنة 188، كان غزو إبراهيم بن جبريل أرض الروم: وجهه الخليفة هارون، ودخل أرض الروم من درب الصفصاف؛ فخرج للقائه البطريق نقفور، فورد عليه من ورائه أمر صرفه عن لقائه؛ فانصرف ومر بقوم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المسلمين؛ فخرجوا عليه، وأنهزم، وقتل من الروم أربعون ألفا وبسعمائة، واخذ له أربع آلاف دابة. وفي سنة 189 كان شخوص الرشيد إلى الرى: وبعث حسينا الخادم إلى طبرستان بالأمان لمرزبان صاحب الديلم؛ وقدم عليه؛ فأمنه وأمن غيره. وقال أبو العتاهية في خرجة هارون هذه (سريع) إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم؛ فلما يبق في أرض الروم مسلم إلا فدى. وفي سنة 190 فتح الرشيد هرقلة من مدائن الروم. وقال شبيل الترجمان: لما فتح الرشيد هرقلة رأيت على بابها لوح رخام مكتوب فيه بلسانه؛ فجعلت أقراه، والرشيد ينظر إلي، وأنا لا أشعر، فإذا فيه: (يا بن آدم! غافص الفرصة قبل إمكانها وقل الأمور إلى وليها، ولا يحملنك أفرادها السرور على المآثم، ولا تحمل نفسك هم يوم لم يأت! فأنه أن يكن من أجلك وبقية عمرك، ويأت الله فيه برزقه! فلا تكن من المغرورين يجمع المال! فكم قد رأينا جامعا لبعل خليلته، ومقترا على نفسه توفيرا لخزانة غيره!) وفي سنة 191 ولي الرشيد هرمثة بن أعين غزو الصائفة، وضم إليها ثلاثين ألفا من جند خراسان. وفيها امر الرشيد بهدم الكنائس في الثغور. ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة بالمشرق إلى سنة 215. وفي سنة 193، توفي هارون بن محمد الرشيد - رحمه الله - بطوس من أرض خراسان، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الأخير. واستخلف محمد الأمين ابنه. ولما صار المر إلى الأمين، أقر إبراهيم بن الأغلب على أفريقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فبقي بها إلى أن توفي بالقيروان في العشر الأخرى من شوال من سنة 196 وعمره خمس وستون سنة وولايته أفريقية اثنا عشرة سنة واشهر. ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب أفريقية وفي سنة 196 ولي عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب أفريقية. وذلك إنه لما مات إبراهيم بن الأغلب، كان ابنه عبد الله هذا غائبا بمدينة طرابلس؛ فقام له أخوه زيادة الله بالأمر، وأخذ له البيعة على نفسه وعلى أهل بيته وجميع رجاله وخدمته، وبعث إليه بذلك. وفي سنة 197 قدم أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من طرابلس؛ فتلقاه أخوه زيادة الله، وسلم الأمر إليه. وحمل عبد الله في إمارته على أخيه زيادة الله حملا شديدا؛ وكان يتنقصه، ويأمر ندماءه بإطلاقه ألسنتهم بسبه، وزيادة الله مع ذلك يظهر له التعظيم والتجبيل والصنع الجميل، ولا يظهر له ثغيرا ولا يظهر عليه منه أثر. وقد كان عبد الله بن إبراهيم أراد أن يحدث جورا عظيما على رعيته فأهلكه الله فبل ذلك. وكان من أجمل الناس وجها، وأقبحهم فعلاً، وأعظمهم ظلما، أحدث بأفريقية وجوها من الظلم شنيعة، منها قطع العشر حبا، وجعله ثمانية دنانير للقفيز وأصاب أو لم يصب، وغير ذلك من الظلم والمغارم والمظالم. فأشتد على الناس ذلك. وفي سنة 198، قتل الأمين بن الرشيد: قتله ابن طاهر عامل أخيه المأمون؛ وذلك لخمس بقين من المحرم. واستخلف أخوه المأمون؛ فأقر عبد الله بن الأغلب على أفريقية. ولما قدم حفص بن حميد الصالح على أفريقية، ومعه قوم صالحون من الجزيرة، قصدوا إليه؛ فوعظوه في أمر الدين ومصالح المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فتهاون بهم، فخرجوا مغمورين يريدون القيروان، وكان هو في القصر القديم. فلما وصلوا وادي القصارين، قال لهم حفص بن حميد (قد يئسنا من المخلوق فلا نيئس من الخالق! فاسألوا المولى واضرعوا إليه في زوال ظلمه عن المسلمين! فإن فتح في الدعاء، فقد أذن في الإجابة) فتوضأ جميعهم وساروا إلى كدية مصلى رَوْح، فصلى بهم حفص ركعتين، ودعوا الله أن يكف عن المسلمين جور أبي العباس، ويريحهم من أيامه. فيقال أن قرحة خرجت له تحت أذنه، فقتلته في السادس من دعاء القوم. وقال من حضر غسله أنه، لما كشف عنه ثيابه، ضُن إنه عبد أسود بعد جماله وذلك بسوء فعاله، وكانت وفاته ليلة الجمعة لست خلون من ذي الحجة من سنة 201 فكانت دولته خمسة أعوام وأشهراً. وفي سنة 201كان تقديم أهل بغداد منصور بن المهدي أميرا عليهم خديما للمأمون، إلى أن يَقْدَم أو يقَدِّم وكانت وقائع قبل ذلك وبعده. وفيها مات ابن الأغلب كما ذكرناه، وولى أخوه زيادة اله ساعة موته. ذكر ولاية زيادة الله بن الأغلب أفريقية وبعض أخباره كنيته أبو محمد. وهو أول من أسمه زيادة الله ممن ولى من بني الأغلب بويع يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة، فأساء السير في الجند وسفك فيم الدماء وأشتد عليهم في كل وجه. فثار عليه زياد بن الصقلبية بفحص أبي صالح إليه سالم بن سوادة، فهزمه سالم. ثم ثار العامة عليه أيضاً وذلك أن زيادة الله كان أغلظ على الجند، وأمعن في سفك دمائهم، والاستخفاف بهم، وحمله على ذلك سوء ضنه بهم لوثوب على الأمراء قبله وخلافهم على أبيه. وكان أكثر سفكه وسوء فعله إذا سكر، وكثر الخوض عليه. وخالفت الجند عليه وغيرهم، فكانت بينه وبينهم حروب ووقائع، حتى خاف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 نفسه، فحصن القصر القديم وبقى فيه على ما يأتي ذكره أن شاء الله تعالى. وفي سنة 202 توجه الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب إلى المشرق، خوفا من أخيه زيادة الله وذلك أن الأغلب كان شقيق أبي العباس عبد الله بن إبراهيم، وكان أبو العباس طول ولايته، يتنقص زيادة الله ويأمر ندماءه بإطلاق ألسنتهم فيه فلما صار الأمر إلى زيادة الله جاءه الأغلب، فأستأذنه في الخروج إلى الحج فأذن له زيادة الله، فخرج الأغلب، وخرجت معه أبناء أخيه: محمد المكنى بأبي فهر، وإبراهيم المكنى بأبي الأغلب وهما إذ ذاك صغيران، فحج وأقام بالمشرق. وكان وزير زيادة الله والقائم بأمره الأغلب بن عبد الله المعروف بغلبون وفي سنة 203، كانت ولاية أبي عبد الله أسد بن فرات بن سنان مولى بن سليم قضاء القيروان، وهو ممن سمع من مالك بن أنس. فلما ولى أسد القضاء ضاق أبو محرز القاضي إذ تشرك معه، ولم يعلم قبلهما قاضيان في وقت واحد؟. وفي سنة 204 لم يكن فيها ولا في التي بعدها خبر يجتلب. وفي سنة 206 غزا المسلمون جزيرة سردانية، وعليهم محمد بن عبد الله ألت ميمي فأصابوا وأصيب منهم، قفلوا. وفي سنة 207 ثار زياد بن سهل على زيادة الله بن الأغلب، وزحف إلى حرب باجة، فحاصرهما أياما. فأخرج إليه زيادة الله العساكر فهزموا زيادا، وقتلوا من وجدوا معه على الخلاف وغنموا الأموال. وكانت فيها وفات اليسع بن أبي القاسم صاحب سلجماسة، وتقديم أهلها على أنفسهم أخاه الياس المنتصر بن أبي القاسم الذي كانوا خلعوه. وفي سنة 208 ثار عمرو بن معاوية القيسي على زيادة الله بن إبراهيم بالقصرين وتغلب على تلك الناحية وكان عاملا لزيادة الله. وكان له ولدان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يقال لأحدهما حباب وللأخر سجمان، فقال له ابنه حباب: (إنك دخلت في أمر عظيم وعرضت نفسك للهلاك، ولست من رجال هذا الأمر ولا ينفعك عدد ولا عدة! فراجع أمرك، واتق الله في نفسك!) فضربه مائتي سوط وتمادى على الخلاف. فأخرج إليه زيادة الله جيشا كثيفا حاصره أياما، ثم نزل هو وولداه على أمان، وجئ بهم إلي زيادة الله، فألفى على شراب مع قوم من وجوه أهل بيته، فأمر بحبسهم حتى يرى فيهم رأيه، ودخل إثر ذلك مضحك له يقال له أبو عمار فقال له زيادة الله: (ما يقول الناس يا أبا عمار؟) فقال (يقولون إنما منعك أن تقتل عمرو بن معاوية مخافة أن تشب القيسية على عمك بمصر) فوقع كلامه بقلب زيادة الله، ثم شرب ساعة والتفت غبلون وزيره، فقال (أنقل نرو بن معاوية وولديه من حبسك إلى حبسي!) ففعل فلما كان في نصف الليل أقبل زيادة الله إلى السجن وبيده السيف فقتل عمرو بن معاوية ثم رجع إلى قصره فعاد حباب وسجمان ابني عمرو. فأمر بحباب أن يقتل، فقال (أيها الأمير) إني مظلوم وقد بلغتك نصيحتي لأبي فيك حتى ضربني بالسياط. فقال أجل قد كان ذلك! ولكني أعلم أنك لا تخلص لي وأمر بضرب عنقه واستبقى الأصغر، وهو سجمان فلما أصبح دعا بترس، فوضع فيه الرأسين ودعا بسجمان، فقال (أتعرف هذين الرأسين) فقال: أعرفهما! ولا خير في الحياة بعدهما فأمر زيادة الله بضرب عنقه وجعل رؤوسهم في ترس وشرب عليها ذلك اليوم مع أهل منادمته. وفي سنة 209 ثار منصور الطنبذي بتونس فأخرج زيادة الله محمد ابن حمزة في ثلاثمائة فارس مسلحين وأوصاه بكتمان حركته حتى يبغت منصورا بتونس، فيقبض عليه ويأتي به مصفدا. فسار ابن حمزة إلى تونس، فألفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 منصورا غائبا في قصره بطنبذة. فنزل دار الصناعة ووجه إليه شجرة بن عيسى القاضي في أربعين شيخا من أشياخ تونس يناشده الله ويرغبه في الطاعة ويعرفه بما له في ذب لك من الحظ من دينه ودنياه فتوجه شجرة بن عيسى مع المشايخ إلى منصور فدعوه إلى الطاعة فقال منصور (ما خاعت يدا ولا أحدثت حدثا! وأنا سائر معكم إلى زيادة اله، ولك أقيموا علي ّ يومي هذا حتى أعد لكم ما يصلحكم، فأقاموا معه، ووجه إلى ابن حمزة والذين معه ببقر وغنم وعلف وأحمال قهوة وكتب إليه (إني قادم عليك بالغداة. القاضي شجرة) فركن ابن حمزة لقوله وذبح البقر والغنم وأكل هو والناس الذين معه وشربوا. قلما أمسى منصور، أخذ القاضي والذين معه فحبسهم في قصره وأخذ دوابهم فجعل عليها أصحابه، وجمع خيله وأشياعه، وزحف إلى تونس، وأمر أصحابه ألا يسمع لهم حسٌ ولا حركة حتى يصيروا إلى دار الصّناعة. وسار حتى إذا كان بالقرب من دار الصّناعة، أمر بالطبول، فضربت وأمر أصحابه فكبروا، فوثب ابن حمزة ومن كان معه، والتحم القتال على الليل. وكثر الناس عليهم، فقتل من كان مع ابن حمزة، ولم يسلم منهم إلا سبح البحر، وذلك يم الاثنين لخمس بقين من صفر. وأصبح منصور، فاجتمع إليه الجند وقالوا (نحن لا نثق بك، نأمن أن يستنزلك السلطان بدنياه وماله فتميل له ولكن إن أحب أن نقوم بنصرك، فأخضب يدك في دماء أصحاب السلطان وأهل بيته! فوجه حينئذ عن عامل زيادة الله على تونس، وهو إسماعيل بن سالم بن سفيان وعن ولده محمد فأمر بقتلهما معا. فلما اتصل الخبر بزيادة الله، وما كان من قتل رجاله وعامله عقد لغلبون وزيره على عسكر جليل وقال: (والله! لئن انهزم واحد منكم، لأجعل عقوبته ما فرّ وهو السيف) فسار غلبون في العاشر لربيع الأول. حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وصل إلى سبخة تونس، فخرج إليهم منصور الطنبذيُّ تعبئة عباها لنفسه، فاقتتلوا مليا. ثم حمل منصور حملة كانت فيها هزيمة غلبون وأصحابه لعشر بقين مكن ربيع الأول، وسار منهزما إلي زيادة الله، فاعتذر غلبون عن الهزيمة وحاف أنهم نصحوا واجتهدوا ولكن قضاء الله لا يرد. وتواثب القواد على أعمال أفريقية، كل قائد على بلدة يضبطها، ويمتنع فيها من عقوبة زيادة الله التي توعدهم بها. واضطرمت أفريقيا نارا، ورمى الجند كلهم إلى منصور الطنبذي أزمة أمورهم وولوه على أنفسهم. وقدم غلبون على زيادة اله، فأعلمه بما كان من أمره ونَغَل الجند فكتب إليهم زيادة اله صكوك أمان، وبعث ربها إليهم، فلم يثقوا بها منه، وخلعوا الطاعة. ولما ظفر منصور، واجتمع إليه بتونس جميع الجند والحشود والوفود من كل جهة ومكان، فزحف بهم من تونس، فوصل إلى القيروان لخمس خلون من جمادى الأولى. فركب إليه القاضيان أبو محرز وأسد، فكان بينهما وبينه كلام لم يفد. وخندق منصور الطنبذي على نفسه فكانت بينه وبين زيادة الله وقائع كثيرة. ثم رحل منصور من خندقه، ونزل منزلا آخر، وأخذ منصور في إصلاح سور القيروان فوالاه أهل القيروان وحاربوا معه. فدامت الحرب بين منصور وبين عسكر زيادة اله أربعين يوما. ثم زحف زيادة اله على تعبئة عباها لنفسه قلبا وميمنة. فلما رأى ذلك منصور هاله وراعه. والتقت الفئتان، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم منصور وولى هاربا وقتل أصحابه قتلا ذريعا، في منتصف جمادى الآخرة، وانتهى زيادة الله إلى القيروان فأمر برفع القتال وتمادى منصور في هزيمته إلى أن دخل قصره بتونس، والناس لا يشعرون. وعفا زيادة اله عن أهل القيروان، وصفح عن جميعهم غير إنه جعل عقوبتهم هدم سور القيروان حتى ألصقه بالأرض. وفي سنة 210 كانت وقيعة سبيبة، وهي مدينة. وذلك أن الجند الذين تقدم ذكر سيرتهم وتنمعهم لأجل الهزيمة التي طرأت عليهم كان قائدهم عمر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 نافع وأقر زيادة الله على الجيش محمد بن عبد اله بن الأغلب، فالتقوا هنالك لعشر بقين من المحرم فانهزم ابن الأغلب وقتل وتمادت الهزيمة إلى القيروان من ضحى النهار إلى بعد صلاة العشاء، فاغتنم لذلك زيادة الله وأخذ في ضم الرجال وبذل الأموال. وكان عيال الجند بالقيروان، فلم يعرض لهم زيادة الله. ثم أن الجند سألوا منصور أن يحتال في نقل عيالاتهم من القيروان، فزحف بهم منصور إليها ونزل على القصر نحو ستة عشر يوما، فلم يكن بينه وبين زيادة اله فيها قتال، وأخرج الجند حرمهم عن القيروان. ثم انصرف مصور إلى تونس ولم يبق بيد زيادة الله من أفريقية كلها إلا قابس والساحل ونفزاوة وطرابلس، فانهم تمسكوا بطاعته، ولم ينقصوه شيئا من جبايته. وملك منصور جميع عمل زيادة الله، وضرب السكة باسم نفسه. وكتب الجند إلى زيادة اله (ارحل عن أفريقية ولك الآمان في نفسك ومالك) فشاور زيادة اله أهل بيته وخدمته، وقد ضاق به الأمر فقال له سفيان بن سوادة: (مكني ممن أثق بهم أتقدم بهم إلى نفزاوة) فانتقى له مائة فارس، فأعطاهم وسار بهم إلى نفزاوة فدعا بربرها إلى نصرته. فأجابوه. فأقبل عامر بن نافع في الجند نحو نفزاوة فلما وصل إلى قسطيلية جمع ألف أسود ومعهم الفؤوس والمساحي وخرج بهم إلى نفزاوة فنزل بتقيوس وبلغ ابن سواد قدومه، فخرج إليه وأقتتل معه، فانهزم الجند وقتل منهم عدد كبير. ورجع عامر إلى قسطيلية فأقام بها ثلاثة أيام يجبي أموالها ليلا ونهارا، حتى كمل له من ذلك ما أراد، وسار نحو القيروان. وفي سنة 211، قام عامر بن نافع على منصور الطبنذي. وكان حاسدا له لأن منصورا كان يتوعده على الشراب، فعمل عليه عامر مع الجند، فلم يشعر منصور وهو بقصره بطبنذة حتى زحف إليه عامر من تونس، فحاصره. فراسله منصور وطلب منه الآمان، على أن يتوجه في سفينة إلى المشرق. فأجابه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ذلك وخرج منصور في أول اليل مستخفيا يريد الأربس. فلما أصبح عامر، قفا أثره وأثر من اكن معه، حتى أدركهم. فاقتتل معهم فانهزم منصور ودخل الأربس، فتحصن بها فحاصره عامر فيها. فلما ضاق الحصار بأهلها، قالوا المنصور (إما أن تخرج عنا وإلا دفعناك إلى عامر!) فرغب منهم أن يمهلوه حتى يعمل في الخلاص لنفسه. فأرسل إلى عبد السلام بن الفرج (وكان من وجوه الجند) يسأله الاجتماع به. فأتاه فقال له منصور من أعلى السور: (بهذا كان جزائي منكم يا معشر الجند! وقد علمتم أن قيامي على القوم إنما كان من أجلكم. فإذا كان قد صار الأمر إلى ما صار إليه فأحب أن تسعى في أماني وخلاصي وأخرج عنكم إلى المشرق) فأجابه عبد السلام إلى ما سأل، واستعطف له عامر بن نافع فأسعفه في ذلك. ثم وجهة عامر منصورا مع خيل وأمر مقدمهم سراً أن يعرجوا به إلى مدينة جَربة ويحبسه بها. ففعل ذلك وحبس منصور هنالك. فلكا علم عبد السلام بهذه الغدرة من عامر حقد عليه وكان بباجة مع أصحابه، وكان هاشم أخو عامر واليا عليها، فأخذوه وحبسوه وكتبوا إلى أخيه عامر (أما أن تخلي عن منصور وإلا قتلنا أخاك) فكتب إليهم عامر (إني لست أخلى عن منصور فاصنعوا بهاشم ما شئتم! فستعلمون عاقبة أمركم) فلما جاءهم كتابه، أطلقوا هاشما. وأمر بضرب عنق منصور وأخيه حمدون. واستقامت الأمور لعامر بن نافع. وفي سنة 212، أغزى زيادة اله صقلية. واجتمع له سبعون مركبا حمل فيها سبعمائة فرس. وعرض القاضي أسد بن الفرات نفسه على زيادة الله في الخروج للغزو، فولاه على الجيش، وأقره على القضاء مع القيادة، فخرج معه أشراف أفريقية من العرب والجند والبربر والأندلسيين، وأهل العلم والبصائر، وذلك في حفل عظيم وعدة جليلة في ربيع الأول. فساروا إلى حصون الروم ومدنهم فأصابوا سبيا كثيرا وسائمة كثيرة وكثرت الغنائم عند المسلمين. واحتل القاضي أسد بمن معه على مدينة سرقوسة، وحاصرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 برا وبحرا وأحرق مراكبها، وقتل جماعة من أهلها. وجائته الأمداد من أفريقية والأندلس وغيرها. وفي سنة 213 توفي عامر بن نافع على فراشه. فلما بلغ موته زيادة الله، قال: (اليوم وضعت الحرب أوزارها!) فاستأمن بنوه إلى زيادة اله، فأمنهم. وفيها توفي إدريس بن إدريس الحسني فقام بأمر فاس والبر بر ابنه محمد، فولى أخاه البصرة وطنجة وما يليهما، وولى سائر اخوته بلاد المغرب. ذكر مدينة البصرة بالغرب. كانت قبل مدينة كبيرة أزلية، تعرف ببصرة الكتان لأنهم كانوا يتابعون، في بدء أمرها في أكثر تجاراتهم بالكتان. وتعرف أيضا بالحمراء. لأنها حمراء التراب. وكان سورها مبنيا بالحجارة والطوب. ولها عشرة أبواب. ولجامعها سبع بلاطات. وبها حمامان كبيران ومقبرتها الكبرى في شرقيها، والأخرى في غربيها، وهي التي تعرف بمقبرة قضاعة. وماؤها زعاق وشربهم من ماء عذب كبير على باب المدينة، يعرف ببئر أبي ذلفاء. ونساء البصرة مخصوصات بالجمال الفائق والحسن الرائق، ليس بأرض المغرب أجمل منهن، وفيهن يقول أحمد بن فتح التيهرتي في قصيدة مدح بها أبا العيش الحسني (كامل) : ما حاز كل الحسن إلا قينة ... بصرية في حمرة وبياض الخمر في لحضاتها والورد في ... وجناتها هيفاء غير مفاض وأست البصرة في الوقت الذي أسست فيه أصيلا أو قريبا منه. ومنها إلى قصر كتامة وهو قصر عبد الكريم، مرحلة ومنها إلى مدينة جنيارة مرحلة. وقيل أنها كانت قرية على وادي سبو بينها وبين فاس مرحلة ومن مدينة البصرة طريق آخر إلى فاس، فمنها إلى ورغة مرحلة، ثم إلى وادى ماسنة مرحلة وهي مدينة عيسى بن حسن الحسني المعروف بالحجام ثم إلى مدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 سداك وهي قاعدة خلوف بن محمد المغيلي ثم إلى فاس. فذلك سبع مراحل. وفي هذه السنة توفي أسد بن الفرات في رجب منها وهو محاصر لسرقوسة فلما توفي، هربت رهن الروم التي كانت عنده ووقع الموت في عسكر المسلمين، فاغتنموا لذلك، وولوا على أنفسهم الجراوي. وفي سنة 214 توفي القاضي أبو محرز الكلابي. وفيها وصل من الأندلس إلى صقلية نحو ثلاثمائة مركب، فيها أصبغ بن وكيل المعروف بفرغلوش. وبلغ المسلمين المحصورين بها خير وصولهم، فاستغاثوا بهم، فودعهم بالغوث. وفي سنة 215، كان غزو فرغلوش الواصل في المركب إلى صقلية هو والوقاد الذين معه، فأخذا القلاع، وسبقوا، وغنموا في بلاد الروم. ثم سألوا إغاثة من كان من المسلمين بها، فأجابوهم إلى ذلك على أن يكون أمر الناس إلى فرغلوش فساروا إلى ذلك وأخذوا في طريقهم القلاع وأغاروا حتى انتهوا إلى ميناو. فخرج مخنق من كان بها من مسلين، وحرقوا المدينة وهدموها، وانتقلوا عنها. وسار المسلمون إلى غلواليه، فحصروها وتغلبوا عليها. واعتل جماعة من المسلمين بها وأخذ الوباء ومات فرغلوش وغيره من القواد فرحل المسلمون وركب العدو أثرهم، فقتل منهم خلق كثير في خبر طويل ثم أخذوا في إصلاح مراكبهم قافلين إلى الأندلس. وفيها ولي سعيد بن إدريس مدينة نكور. وفي سنة 216 كانت وقيعة بين مطبق السلمي وإسماعيل بن الصمصامة بإفريقيا فتقاتلا بما من معهما فهزم مطبق وقتل ونهزم أصحابه أبو فهر صقلية. وفي سنة 217 توجه أبو فهر محمد بن عبد الله التميمي من إفريقيا إلى صقلية وهرب عثمان بن عرقب عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وفي سنة 218 قام بمدينة تونس فضل بن أبي العنبر بعد هزيمته لخليل زيادة الله، فضبطها لنفسه. وسار إليه أبو فهر بن عبد الله بن الأغلب في جيش كثيف حتى افتتحها وقتل فيها عباس بن الوليد الفقيه الصالح. وفي سنة 219 أمن زيادة الله كل من طلب الأمان ممن تلفت من تونس وخرج عنها وقت دخول أبي فهر لها. فأمنهم وسكنت أحوالهم وكان فيهم عبد الرحمن وعلي ابنا أبي سلمة وأبو العزاف كانوا شعراء فصحاء فأنش عبد الرحمن مديحا له فيه فلما أنقض إنشاده قام يعقوب بن يحيا الشاعر يحرض زيادة الله على بني أبي سلمة وأبي العزاف بهذه الأبيات وأوفر: تسمع أيها الملك المعان ... قوافي في معانيها البيان يتم أمان من الخضب العوالي ... وليس لشاعر أبدا أمان لأن قوافي الأشعار تبقى ... على الأيام ما بقى الزمان وقد يرجى لجرح السيف برءٌ ... ولا برءٌ لما جرح اللسان فلم يلتفت زيادة الله إلى قوله وأمضى لهم أمانهم وقال لأبي العزاف: ما منعك أن تستأمن إلينا قبل هذا الوقت؟ قال: أيها الأمير كنت مع قوم حمقى يولون كل يوم واليا ويعزلون آخر. فرجوت أن تكون لي معهم دولة، فضحك زيادة الله وقال: لقد عفوت عنك وفي سنة 220 ولي أحمد بن أبي محرز قضاء أفريقية وفيها غزى محمد ابن عبد الله بن الأغلب صقلية. فالتقى بالمشركين فانهزموا أمامه. وانصرف بالغنائم إلى بسلوم. وكانت بصقلية في هذه السنة غزوات كثيرة للمسلمين برا وبحرا وكذلك بالأندلس. وفيها وصل ابن الأغلب إلى بسلوم قاعدة صقلية واليا عليها، في رمضان، بعد أن رأى شدة في البحر وعطبت له مراكب وحطمت له أخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وأصاب له النصارى حرّاقة من مراكبه. وجاهدهم محمد بن السندي في حراقات فاتبعهم حتى حال الليل بينهم. وفي سنة 21 2، توفي قاضي صقلية ابن أبي محرز. وكان قد أوصى أخاه عمران أن يكتكم موته حتى يكفنه ويصلي عليه، خوفا أن يكفنة زيادة الله ويصلي عليه، ففعل عمران ذلك. فلما حمل نعشه وخرج به من داره أقبل خلف الفتى يمسك كثير وأكفان من قبل زيادة الله فقال له عمران: قد كفناه: فذر خلف المسك الذي كان معه عليه وحمل إلى المصلى حضر زيادة اله دفنه وعزى أخاه عنه وقال: يا أهل القيروان لو أراد الله بكم خيرا لما خرج ابن ابي محرز من بين أظهركم. وكان زيادة الله يقول: ما أبالي ما قدمت عليه يوم القيامة وفي صحيفتي أربع حسنات: بنياني المسجد الجامع بالقيروان وبنياني قنطرة أبي الربيع، وبنياني حصن مدينة سوسة ونوليتي أحمد بن محرز قاضي أفريقية، وولي القضاء بعده ابن أبي الجواد. وفي هذه السنة، ابتدأت الفتنة بسلجمانة بين ميمون وأخيه ابني المنتصر ابن اليسع. وفي سنة 222 كانت غزوة صقلية للمسلمين إلى ناحيو جبل النار، فأصابوا وغنموا وقفلوا سالمين غانمين. وفيها فتح المسلمون حصن مدنار ومعاقل كثيرة في غزوة للفضل بن يعقوب، أغزاه أبو الأغلب، وغزوة أخرى لعبد السلام بن عبد الوهاب، أغزاه أيضا إياها أبو الأغلب، فخرج إليه العدو فانهزم المسلمين وأصيب منهم جماعة وأسر عبد السلام حتى فدي بعد ذلك. وفي سنة 223 توفي زيادة اله بن إبراهيم بن الأغلب صاحب أفريقية، يوم الثلاثاء لربع عشرة ليلة خلت من رجب وهو ابن إحدى وخمسين سنة. فكانت ولايته إحدى وعشرين سنة، وسبعة أشهر وثمانية أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ولاية أبي عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب أفريقية وهو الملقب بخزر، فلنا ولي أمن الناس وأحسن إليهم وإلى الجند، وغير أحداثا كثيرة كانت قبله وأجرى على العمال أرزاقا واسعة وصلات جزلة وقبض أيديهم عن الغبة، وقطع النبيذ من القيروان، وعاقب على بيعه وشربه. وتوفى في العشر الأواخر لربيع الآخر سنة 226، وهو ابن ثلاثة وخمسين سنة فكانت ولايته سنتين وتسعة أشهر وأياما. وفي سنة 224، كانت وقعة بأفريقية بين عيسى بن ريعان الآزدي، وقد أخرجه السلطان لذلك، وبين لواته وزاغة ومكناسه فقتلهم عن آخرهم بين قفصة وقسطيلية. ذكر ذلك ابن القطان. وفيها، قدم أهل سلجماسة ميمون بن مدرار وأخرجوا أخاه. فلما استقر الأمر لميمون أخرج أباه مدرار وأمه إلى بعض قرى سلجمانة. وفي سنة 225، كانت وفاة أبي جعفر موسى بن معاوية الصمادحي، مولى آل جعفر وكان ممن روى عنه سحنون. وفي سنة 226، توفي أبو عقال الأغلب ين إبراهيم في ليلة الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر، وولاية ابنه أبي العباس يوم موت أبيه ولاية أبي العباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم ابن الأغلب أفريقية كانت ولايته في أولها ساكنة، والأمور معتدلة. وقلد أحمد بن الأغلب كثيرا من أموره وكان محمد هذا قليل العلم، ذكر أن رجاء الكاتب كان يوما بين يديه، فكتب محمد (لحم ضبي) بضاد مسقوطة. فلما حفلا المجلس، قال له كاتبه: (أيد الله الأمير الظبي يكتب بضاء مرفوعة) فقال له محمد: (قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 علمنا فيها اختلافا فأبو حنيفة يجعله بالظاء ومالك يجعله بالضاد) فعجب الحاضرون من قوله وكان عقيما لا يولد له. وكان مظفرا فيء حروبه. وفي سنة 227، توفي أبو محمد عبد الله بن أبي حسان اليحصبي فقيه أفريقية، ولقي مالك، وسمع منه. وسأله زيادة اله في النبيذ، فقال له: (كم دية العقل؟) قال: (ألف دينار) قال: (أصلح الله الأمير يعمد الرجل إلى ما قيمته ألف دينار، فيبعه بنصف دسهم فقبل له: (أنه يعود ويرجع) فقال: (أصلح الله الأمير! بعد كشفه سوئته، وإبداءه عورته وضرب هذا وشتم هذا) وفي سنة 228، كانت أفريقية هادئة ساكنة قال عريب وغيره لم يكن في أفريقية هذه السنة خبر يذكر ولا في السنتين بعدها. وفي سنة 230 توفي بهلول بن عمرو بن صالح الفقيه، سمع من مالك وطبقته. وفي سنة 231 كانت ثورة أحمد بن الأغلب عل أخيه محمد واستيلائه عليه، وذلك أن أحمد تواعد مع جملة من الموالي إلى موضع، فتوافوا هنالك وقت الظهيرة، فقصدوا إلى مدينة القصر القديم، وقد خلى الباب من الرجال فدخلوا، وأغلقوا الباب، ثم ساروا حتى أغلقوا لأبواب الأُخر. ثم هجموا على أبي عبد الله بن علي بن حميد الوزير فأمر أحمد فضربت عنقه ووقع القتال بين رجال محمد بن الأغلب وبين رجال أحمد بن الأغلب وجعل أصحاب أحمد يقولون لأصحاب محمد: (ما لكم تقاتلوننا! نحن في طاعة محمد ابن الأغلب. إنما قمنا على أولاد علي بن حميد الذين أفقروكم واستولوا على أموال مولاكم دونكم وإما نحن في الطاعة) لما سمعوا ذلك، أوقفوا عن القتال، ولما نظر محمد إلى ما دهمه من غير استعداد، قعد في مجلسه الذي يقعد فيه للعامة، وأذن لأخيه أحمد والرجال الذين معه في الدخول عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فدخلوا بسلاحهم. فكانت بينهما معاتبة. ثم حلفا أن لا يغدر أحدهما بصاحبه واصطلحا. واعتدلت الأمور لأحمد بن الأغلب إلا أن أسم الإمارة فقط وقبض أحمد على من شاء، واستصفى من أراد وعذب من أحب وأعطى الرجال وجنى الأموال، واستوزر نصر بن حمزة. وفي سنة 232، ظفر محمد بن الأغلب بأخيه أحمد، وحبسه، ورجع له سلطانه. وقام معه في ذلك جماعة من بني عمه ومواليه. وسقى البوابين واحتال عليهم حتى دخل المدينة، وحارب أخاه طول الليل وأطلق من كان في حبس أخيه، فاستمد بهم ووصل أهل القيروان حتى أنفذ جميع ما في خزائنه من الأموال والكسي ثم نفى محمد بن الأغلب أخاه إلى المشرق فمات بالعراق. وفيها عزل عبد الله بن أبي الجواد عن القضاء، فقال سحنون لمحمد بن الأغلب: (أيها الأمير، أحسن الله جزائك! فقد عزلت فرعون هذه الأمة وجبارها وظالمها) وابن أبي الجواد حاضر ولحيته تضطرب على صدره وكان تام اللحية. وفي سنة 233 ولي سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي الفقيه (واسمه عبد السلام، إنما سمي بسحنون لحدة ذهنه) القصاء بأفريقية بعد أن رجع محمد بن الأغلب في ذلك عاما كاملا، وهو يأبى عليه، حتى حلف له بأيمان المؤكد وأعطاه العهود المغلظة إنه يطلق يديه على أهل بيته وقرابته وخدمه وحاشيته، وينفذ عليهم الحق، أحب أو كرهوا. وفيها كانت ثورة سالم بن غلبون وقتله، وذلك إنه كان واليا على الزاب فعزاه محمد بن الأغلب. فأقبل سالم يريد القيروان. ثم عدل في بعض طريقه إلى الأربس مظهرا للخلاف، فمنعه أهلها من دخولها فسار إلى باجة فدخلها وضبطها فأخرج إليه ابن الأغلب خفاجة بن سفيان في جيش كثيف فنزل عليه وحاربه أياما، فهرب سالم بن غلبون في الليل، فاتبعه خفاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فلحقه لما أصبح وقتله، وحمل رأسه إلى محمد بن الأغلب وكان ابنه أزهر محبوسا عنده فأمر بضرب عنقه. وفي سنة 234، ثار عمر بن سليم النجيبي بتونس، فأخرج إليه ابن الأغلب خفاجة بن سفيان، فأقام عليه بقية هذه السنة، ثم انصرف عنه من غير ظفر وفيها مات عبد الله بن أبي الجواد في سجن سحنون وكان ورثته ابن القلقاط يطلبونه بخمسمائة دينارا وديعة واستظهروا بخطه. فأنكر الوديعة والخط. فكان سحنون يخرجه كل جمعة، فإذا استمر على الإنكار، ضربه عشرة أسواط. وأرادت زوجته فدائه بمالها، فامتنع سحنون إلا أن يعترف ابن أبي الجواد بأن هذا مال الأيتام أو عوضا عنه. فأبى ابن أبي الجواد. فما زالت تلك حاله إلى أن مرض، فمات. فشنع الناس على سحنون أن قتله. وكان يقول بخلق القرآن. وفي سنة 235 كانت وقيعة، بمقربة من تونس، بين المنتزي في العام الفارط عمرو بن سليم المعروف بالقوبع، وبين محمد بن موسى المعروف بعريان، الذي استقوده ابن الأغلب لمحاربته، ففزع كثيرا ممن موالي ابن الأغلب إلى القوبع. فوقعت على محمد بن موسى هزيما، وأسر أحد قواده، بعد أن انكسرت رجله، ثم طعنه ولد القوبع طعنة كان في حتفه، وقتل كثير من أصحابه. وأنصرف باقي الجيش إلى ابن الأغلب مفلولين. واشتدت شوكة القوبع. وفي سنة 236، كانت وقعته بين عمرو بن سليم القوبع المنتزي بتونس وبين خفاجه بن سفيان، قائد جيش قائد بن الأغلب، فاقتتلوا قتالا شديدا، فنهزم القوبع، وقوتل أصحابه مقتلة عظيمة. وأدرك القوبع، فضربت عنقه، وحمل رأسه إلى محمد بن الأغلب، فوصل قاتله، وكساه، وأحسن إليه. ودخل خفاجة مدينة تونس بالسيف، يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول وسبى فيها، وانصرف بالجيش إلى القيروان، فكساه ابن الأغلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ولاية العباس بن الفضل جزيرة صقلية لما توفي صاحب صقلية أبو الأغلب إبراهيم بن عبد الله الأغلب، قدم أهلها على أنفسهم العباس بن الفضل هذا، وكتبوا إلى محمد بن الأغلب بن خبر. فأقر العباس، وكتب إليه بعهده بولاية صقلية. فجاهد كثيرا، وغزا طويلا. وكان له في الروم مواقف أذلهم بها. وفي سنة 237 ولي حبيب بن نصر التميمي المظالم بالقيروان بتقديم القاضي سحنون إياه عليها. وفي أغزى العباس بصقلية أرض الروم، فغنم غنائم عظيمة، وسبى سبيا كثيرا وأداخ بلاده. وفي سنة 238 أغزى العباس بن الفضل صاحب صقلية الروم فقتل الله المشركين. وبعث العباس برؤوسهم إلى مدينة بالرم، وقام ينتسف زروعهم، ويطأ أرضهم، ويسبى من ظفر بهم منهم. ثم قفل إلى صقلية. وفي سنة 239 كان الجهاد بصقلية في غزوة العباس بن الفضل في الصائفة فأفسد زروع النصارى، وبث السرايا في كل موضع، وغنم وقصر يانة وقطانية وسرقوسة وغيرها، وحاصر مدينة بنيرة ستة أشهر حتى صالحوه على ستة آلاف رأس قيضها منهم. وقفل إلى حضرة بلرم، وفتح مدينة سبرينة. وفي سنة 240، توفي الفقيه سحنون - رحمه الله - وفيها كان الجهاد أيضا بصقلية: غزا العباس بن الفضل صاحبها بلاد الروم فسبى ونكى وخرب وانتسف وبث السرايا، فغنموا غنائم عظيمة. وفي سنة 241، غزا العباس بن الفضل أيضا الروم بصقلية، فأفسد زروعهم وبث السرايا في أراضيهم، فغنمت غنائم كثيرة. وأقام في جبل مانع ثلاثة أشهر يضرب كل يوم حول يلنة فيقتل ويصيب، وتتوجه سراياه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فتغنم في كل جهة. وأغزى أخاه علي بن الفضل في البحر، فأصاب وغنم وانصرف برؤوس كثيرة. وفي سنة 242، توفي أبو العباس محمد بن الأغلب صاحب أفريقية ليلتين خلتا من المحرم، فكانت ولايته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر واثنتي عشرة يوما ومات وهو ابن ستة وثلاثين سنة. وولي بعده ابن أخيه. ولاية أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب أفريقية وليها وهو ابن عشرين سنة. وكان حسن السيرة، كريم الأخلاق والأفعال، من أجود الناس وأسمحهم وأرفقهم بالرعبة، مع دين واجتناب للظلم على حداثة سنه وقلة عمره. وكان يركب في ليالي شعبا ورمضان وبين يديه الشمع فيخرج من القصر القديم ويمشي حتى يدخل من باب أبي الربيع ومعه دواب بالدراهم، فكان يعطي الضعفاء والمساكين حتى ينتهي إلى المسجد الجامع بالقيروان فيخرج الناس إليه يدعون له. وفيها ولي القضاء بأفريقية أبو الربيع سليمان بن عمران بن أبي هاشم الملقب بخروفة. وفيها كان الجهاد بصقلية. غزا صاحبها العباس بن الفضل الروم بالصائفة فغنم وسبى وانتقل من حصن إلى حصن، ففتح أكثرها، وصالحه بعض أهلها. وفي سنة 243، كان الجهاد بصقلية. غزا العباس بن الفضل صاحبها بالصائفة فسبى وغنم، وصالحه أهل قصر الحديد، بعد أن حاصرهم شهرين بخمسة عشر ألف دينار، وصالحه أهل حصن شلفودة على أن يخرجوا منه ويهدمه، ففعل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وفي سنة 244 غزا العباس صاحب صقلية أرض الروم، فغنم غنائم كثيرة وخرج أخوه في مراكب في البحر إلى جزيرة إقريطش، فقتل وسبى. وغنم ثم دارت على المسلمين جولة، فقتل منهم، وأخذت لهم عشرون مركبا. وفي سنة 245، أخرج أبو إبراهيم بن الأغلب صاحب أفريقية مالا كثيرا لحفر المواجل، وبنيان المساجد والقناطر لكلمة كانت منه على سُكرٍ. وفي سنة 246، كان حفر المآجل الكبير على باب تونس. وفيها توفي أبو خلف الزاهد، واسمه مطروح بن قيس. وكان عابداً زاهدا. وفي سنة 247، كان بالقيروان سيل عظيم كسر القنطرة فأمر صاحب أفريقية بإصلاحها. وفيها توفي عبد الرحمن بن عبد ربه، وكان مستجاب الدعوة. وفيها توفي العباس بن الفضل صاحب صقلية، في جمادى الأولى لثلاث خلون منها، وولى عمه أحمد صقلية: ولاه أهلها، وكتبوا بذلك إلى صاحب أفريقية أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب، فجاء كتابه بإثباته. وفي سنة 248، كمل بناء ماجل باب تونس الكبير وتمت الزيادة في جامع القيروان وكمل إصلاح قنطرة باب أبي الربيع، وفيها كانت غزوة رباح فأصاب وغنم، ثم دارت عليه وقيعة، أخذت فيها طبوله وأعلامه، ثم أُسرَ قوم من أصحابه ثم تراجع وافتتح مدينة جبل أبي مالك، وسبى جميع كما كان فيها وأحرقها وبث سرايا كثيرة فأصابت وغنمت. وفي سنة 249، توفي أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب صاحب أفريقية يوم الثلاثاء لثلاث خلت من ذي القعدة، فكانت ولايته سبع سنين وعشرة أشهر ونصفا. وهو ابن ثمان وعشرين سنة. ولاية زيادة الله بن محمد بن الأغلب ابن إبراهيم بن الأغلب أفريقية ولي يوم وفاة أبي إبراهيم، في ذي القعدة، فكتب إلى خفاجة بإمضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ولايته وخلعَ عليه. وكان أبو محمد زيادة الله هذا عاقلا حليما حسن السيرة جميل الأفعال، ذا رأي ونجدة وجود وشجاعة. وهو الثاني ممن أسمه زيادة اله في بني الأغلب. ول تطل في الملك مدته، فتكون له أخبار تؤثر. وتوفي ليلة السبت لعشر بقين من ذي القعدة من سنة 250 فكانت دولته سنة واحدة وسبعة أيام. ولاية أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب ولي سنة 250، وهو ابن أخي زيادة الله المتوفى قبلُ. ولي يوم السبت لعشر بقين من ذي القعدة، ولقب بأبي الغرانيق لأنه كان يهوى صيدها، حتى بنى قصرا يخرج إليه لصيدها، أنفق فيه ثلاثين ألف مثقال من الذهب. وكان مسرفا في العطاء، مع حسن سيرة في الرعية. ثم غليت عيه اللذات والانشغال بها فلم يزل كذلك طول مدته، ولم تكن له همة في جمع مال. فلما مات لم يجد أخوه في بيتا المال شيئا يذكر، وكانت ولايته حروبا أكثرها على ما يأتي ذكره. وفي سنة 251 كانت غزوة السرية المعروفة بسرية ألف فارس، وذلك أن خفاجة صاحب صقلية غزا قصر يانة، فأفسد زرعه وسار إلى سرقوسة فقاتل أهلها. ثم رحل عنهم وأخرج ابنه محمدا إليهم في سرية فكمن لهم وقتل منهم ألف فارس، فسميت تلك السرية سرية ألف فارس. وفي سنة 252، بنى محمد بن حمدون الأندلسي المعافري الجامع الشريف بالقيروان المنسوب إليه: بناه بالآجر والجص والرخام، وبنى فيه جبابا للماء. وغزا خفاجة صاحب صقلية أرض الروم، وافتتح حصونا كثيرة؛ ثم مرض مرضا شديدا، فانصرف في محمل إلى بلرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وفي سنة 253 قال ابن القطان: عريت هذه السنة من أخبار أفريقية، فلم يكن فيها خبر مشهورا يجتلب. وفي سنة 254 غزا خفاجة صاحب صقلية بطريقا وصل من القسطنطينية، في جمع كبير نفي البر والبحر، فأنهزم البطريق بعد قتال شديد، وقتل من أصحابه آلاف كثيرة، وأخذ لهم سلاح وخيل. ودخل خفاجة إلى سرقوسة وغيرها؛ فغنم غنائم كثيرة، ورجع إلى بلرم قاعدة أول يوم من رجب. وفي سنة 255 خرج خفاجة صاحب صقلية للغزو؛ فلقيه العدو في جمع كبير؛ فاقتتلوا قتالا شديد، فقتل شجاع من شجعان المسلمين؛ فانكسروا لقتله. فسارة خفاجة إلى سرقوسة فامتنعت منه؛ فأقام عليها، وأفسد زرعها. وفيها توفي خفاجة؛ وذلك أنه؛ لما أكمل غزاته المذكورة، قفل من سرقوسة، يريد بلرم؛ فأدلج ليلا؛ فأغتاله رجل من عسكره، وطعنه طعنه مات منها، وذلك أول يوم من رجب. وهرب الذي طعنه إلى سرقوسة. وحمل خفاجة إلى بلرم؛ فدفن بها. فولى أهل صقلية ولده محمد. وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن أحمد أبن الأغلب أبي الغرانيق؛ فكتب إليه بالولاية، وخلع عليه. وقي سنة 256 توفي محمد بن سحنون التنوخي، وكان فقيها ورعا - رضي الله عنه -! وفي سنة 257 ولى القضاء بإفريقيا عبد الله بن أحمد بن طالب صارفا سليمان بن عمران. وفيها، توفي صاحب صقلية محمد بن خفاجة قتله خدمة نهار لثلاث خلون من رجب، وكتموا أمره، فلم يعرف قتله ألا بعد يوم لهروب الخدم، فأخذوا وقتل بعضهم. فولى صقلية أحمد بن يعقوب بتقديم ابن الأغلب إياه. وولى على الأرض الكبير عبد الله بن يعقوب، فكانت لهما في هذا العالم غزوة أوقعا فيها بالمشركين. ولم يكن في بإفريقيا في سنة سبع خبر يذكر. وفي سنة 258، توفي أحمد بن يعقوب صاحب صقلية، وولى ابنه الحسين مكانه. وأوفر صاحب أفريقيا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وفي سنة 259، ولى سليمان بن عمران قضاء أفريقية، وعزل عبد الله بن أحمد بن طالب التميمي عنه. وفيها عزل صاحب صقلية سرقوسة، فصالحه أهلها على أن يخرجوا إليه من أير المسلمين الذين كانوا عندهم ثلاثمائة وستين أسيرا. وفي سنة 260 كانت المجاعة العامة بالمشرق والمغرب، والوباء، والطاعون. وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن عبدوس الفقيه العالم، الذي دون (المجموعة) ، وكان مجاب الدعوة. وفي سنة 261 توفي أبو الغرانيق محمد بن أحمد بن الأغلب ليلة الأربعاء لست خلون من جمادى الأول من هذه السنة، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر ونصفا، وفي دولة المستعين بالله والمعتز والمهتدي المعتمد في بعض أيامه. ولاية إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب وصفة ولايته أن أبى الغرانيق كان عهد لأبنه أبي عقال، وأستخلف أخاه إبراهيم بن أحمد ألا ينازعه في ملكه بخمسين يمينا. فلما مات أبو الغرانيق، أتى أهل القيروان إلى إبراهيم بن أحمد، وهو إذ ذاك والي على القيروان. فقالوا له (قم، فأدخل القصر، فأنت الأنير!) وكان إبراهيم قد أحسن السيرة فيهم. فقال لهم (قد علمتم أن أخي قد عقد البيعة لابنه، واستحلفني خمسين يمينا ألا أنازع ولده ولا أدخل قصره) فقالوا له (تكون أمير في دارك بالقصر القديم، ولا تنازع ولده! فنحن كارهون ولايته ومبايعون لك! وليس في أعناقنا له بيعة!) فركب من القيروان، ومع أكثر أهلها، فحاربوا أهل القصر حتى دخل إبراهيم داره، فبايعه مشايخ أهل أفريقية ووجوهها، وبايعه جماعة بني الأغلب. وفي سنة 262 توفي أبو زيد شجر بن عيسى القاضي بتونس، وكان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 خيار القضاة، له مناقب كثيرة، وهو ابن تسع وتسعين سنة. وفيها أسست قلعة مدينة تنس، أسسها البحريون من أهل الأندلس. وفي سنة 263 ابتدأ إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ببناء مدينة رقادة. وفي سنة 264 كمل بناء القصر المعروف بالفتح، وانتقل إليه إبراهيم ابن أحمد. وقتله للموالي بالقصر القيم لأنهم ثاروا عليه. وفيها فتحت سرقوسة يوم الأربعاء لأربعة عشرة ليلة خلت لرمضان، وقتل فيها أكثر من أربعة آلاف علج، وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصل بمدينة من مدائن الشرك ولم ينج من رجالهم أحد. وكان مقام المسلمين بصقلية عليها على أن فتحت تسعة أشهر، وقاموا بعد فتحها شهرين، ثم تهدمت. وفيها، قتل صاحب صقلية جعفر ابن محمد. قتله غلمانه مع الأغلب بن محمد بن الأغلب، الملقب بخرج الرعونة، وبي عقال الأغلب بن أحمد، وكانا محبوسين عنده فتولى خرج الرعونة بلرم وضبطها، فوثب أهلها عليه وعلى أبي عقال ومن أتصل بهما، فأخرجوهم من صقلية إلى أفريقية. وولي الحسن بن رباح صقلية. وفي سنة 265 غزا صاحب صقلية الحسن بن الرياح الصائفة إلى طرمين، ودارت بينه وبين مشركي صقلية حرب قتل فيها من المسلمين، ثم كانت لهم الكرة على المشركين، فهزموهم، وقتلوهم، وقتلوا بطريقتهم. وفي سنة 266 كان القحط العظيم والغلاء المفرط بأفريقية. وفيها أغزى صاحب صقلية الروم، فالتقى في البحر بمراكبهم، وهم في نحو مائة وأربعين مركبا، فدارت بينهم حرب شديدة حتى أسلم المسلمون مراكبهم وأخذها الروم وأنصرف من وكان في تلك المراكب إلى بلرم، فأقاموا بها شهورا يبثون السرايا ويغنمون أرض الروم المجاورين لهم. وفي سنة 267 ولي عبد الله بن أحمد بن طالب التميمي القضاء صارفا لسليمان بن عمران عنه. وفيها ولي الحسن بن العباس جزيرة صقلية. وفيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كانت فتنة ولد ابن طولون، حين أراد التغلب على إفريقية. وهاأنا أذكر قصته إلى أن هزم. وذلك أن العباس بن أحمد بن طولون ولد صاحب مصر، قدم في هذه السنة في ثمانمائة فارس وعشرة آلاف من سودان أبيه على خمسة آلاف جمل إلى مدينة برقة، في ربيع الآخر يريد إفريقيا والتغلب عليها وإخراج بني الأغلب عنها. وحمل مع نفسه من بيت مال مصر ثمانمائة حمل دنانير ذهبا فأعطى أصحابه الأرزاق بها. وقيل أن مبلغ ما حمل من المال ألف ألف دينار ومائتا ألف دينار. ومعه عبد الله أحمد بم محمد الكاتب مكبلا لأنه أظهر الامتناع من الخروج معه، أشار عليه بأن يؤخر التقدم إلى طرابلس حتى يصانع البربر فقال (أخشى أن تقدم العساكر من الشام قبل أحكام هذا الأمر (يعني عساكر أبيه، لأنه كان ثائرا على أبيه) ويكون أيضا في ذلك فسحة لإبراهيم بن أحمد فيتمهل في الاستعداد. ولكني أمضي على فوري هذا، فآتى لبدة وإطرابلس فجأة، ثم أخذ في استمالة البربر بعد ذلك بالعطاء والأفضال وأبعد من مصر، فلا يقوم لأحمد بن طولون (يعني أباه) أمل في مطالبتي لبعدي عنه!) وخرج يريد لبلده فأنصل خبره لإبراهيم بن أحمد فأخرج إليه أحمد بن قهرب في ألف وستمائة فارس، خيلا مجردة لا رجال فيها وأمره بإعداد السير والسرى بالليل حتى دخل لإطرابلس قبل وصول العباس بن أحمد بن طولون إلى لبدة ثم أحشد ابن قهرب من أمكنه من جند إطرابلس وبربرها، ثم بادر إلى لبدة ودخلها وأقبل العباس ابن طولون وقد صنع له ببرقة خمسة آلاف بند فجعل له كل جملا رجلا ببنده وزحف بثمانمائة فارس وخمسة آلاف رجل فالتقى به أحمد بن قهرب على خمسة عشر ميلا من لبدة وقد تأخرت الجمال بالرجالة أصحاب البنود فلم يكن بينهم ألا مناوشة يسيرة حتى أنهزم أحمد بن قهرب وهو يضن أن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ناوشة من أصاحب ابن طولون كانوا مقمد للجيش. ووصل أحمد بن قرهب إلى إطرابلس منهزما وركب العباس بن طولون أثره حتى نزل إطرابلس منصب عليها المجانيق وناصبهم الحرب. وأقام محاصرا لهم ثلاثة وأربعين يوما فتعدى بعضهم سودانه على بعض حرم البوادي وهتكوا الستر فستغاث أهل إطرابلس بأبي منصور صاحب منقوسة فقام متحسبا وناصرا جيرانه من المسلمين وجحف في اثنا عشرة ألفا من رجال نفوسة إلى العباس بن أحمد بن طولون فناشبوا الحرب فقال العباس لأبي عبد الله الكاتب (ما الرأي؟) فقال له (ببرقة خلفته!) وألح أهل نفوسة في محاربة ابن طولون فأنهزم وخرج إلى برقة بعد انتهاب أهل إطرابلس لجميع عسكره. ول يتلبس النفوسيون منه بشيء بل تورعوا عنه. وكان إبراهيم بن أحمد قد حشد الأجناد وضرب حلى نسائه دنانير ودراهم إذ لم يبق أبو الغرانيق مالا. ثم خرج بنفسه يريد إطرابلس فلقيه خبر هزيمة ابن طولون فبحث ابن الأغلب عن الأموال وأخذ ممن وجت عنده، فكان الرجل من أهل العسكر يبيع مثاقيل ابن طولون سرا بما أمكنه خوفا من أن تأخذ منه وفي سنة 268 كان فتك إبراهيم بن الأغلب بأهل الزاب فقتلهم وقتل أطفالهم وحملوا على العجل إلى الحفر فألقوا فيها وفيها عزل صاحب صقلية الحسين بن عباس ووليها محمد بن الفضل. وفي سنة 269 توفي سليمان بن حفص الفراء، وكان جهميا. وكان يقول بخلق القرآن ودعا الناس إليه فهموا بقتله. وفي سنة 270 توفي سليمان بن عمران القاضي مفلوجا. وتوفي حسين بن زيد بن علي. وتوفي أبو حاتم هشام بن حاتم الفقيه، وكان مجاب الدعوة. وفي سنة 271، توفي الحسين بن أحمد صاحب صقلية. ووليها سواد بن محمد بن خفاجة التميمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وفي سنة 272 أغزى سوادة صاحب صقلية سراياه إلى بلاد الروم فغنمت انصرفت. وفيها كانت وقائع بين المسلمين وبين بطريق جاء من القسطنطينية، يقال له نجفور، في عسكر كبير، فدخل مدينة سبريينة، وخرج منها المسلمون بأمان إلى صقلية. وفي سنة 273 وثب أهل بلرم على سوادة بن محمد صاحب صقلية وعلى أخيه وبعض رجاله فوجهوهم مفيدين إلى أفريقيا. وأجتمع أهل البلد على أبي العباس بن علي، فولوه على أنفسهم. وفي سنة 274 كان وصول أحمد بن عمر بن عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب المعروف بحبشي. وفيها توفي أحمد بن حدير بإفريقيا، وله سماع من سحنون. وفي سنة 275 كان لأهل صقلية على المشركين صولة، فقتل فيها من المشركين أكثر من سبعة آلاف وغرق نحو من خمسة آلف، حتى أخلى الروم كثير من المدن والحصون التي تجاور المسلمون. ووصلت سرايا المسلمين إلى الأرض الكبيرة فسبت وانصرفت. وكانت بإفريقيا هيجة تعرف بثورة الدراهم. ثورة الدراهم على إبراهيم بن أحمد وذلك أن إبراهيم بن أحمد ضرب الدراهم الصحاح، وقطع ما كان يتعامل به من القطع. فأنكرت ذلك العمة وغلقوا الحوانيت، وتألفوا، وصاروا إلى رقادة، وصاحوا على إبراهيم، فحبسهم في الجامع. وتصل ذلك بأهل القيروان فخرجوا إلى الباب وأظهروا المدافع. فوجه إليهم إبراهيم بن أحمد وزيره أبا عبد الله بن أبي إسحاق فرموه بالحجارة وسبوه. فانصرف إلى السلطان إبراهيم بن أحمد، فأعلمه بذلك. فركب إبراهيم إلى القيروان، ومعه حاجبه نصر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الصمصامة في جماعة من الجند، فناصبه أهل القيروان القتال. فتقدم إبراهيم بن أحمد إلى المصلى، فنزل وجلس وكف أصحابه عن قتاله. فلما اطمأن به مجلسه، وهدأ الناس، خرج إليه الفقيه الزاهد أبو جعفر أحمد بن مغيث، فمان بينهما كلام كثير. ودخل أبو عبد الله بن أبي إسحاق الوزير مدينة القيروان مع أحمد بن مغيث فشق صماطها وسكن أهلها. فرجع إبراهيم بن أحمد إلى رقاده، وأطلق المحبوسين بالجامع. وانقطعت النقود والقطع من أفريقيا إلى اليوم، وضرب إبراهيم بن أحمد دينارا ودرهما وسماها العاشرية، في كل دينار منها عشرة دراهم. وفيها، عزل عبد الله بن أحمد بن طالب بن سفيان عن قضاء أفريقيا وحبسهة، ثم أرسل إليه بطعام مسموم وأكله في الحبس، فمات من فوره في رجب، واستقضى إبراهيم بن أحمد محمد بن عبدون بن أبي ثور، وكان جده طحانا، وكان يكتب أسمه: محمد بن عبد الله الرعيني. وفي سنة 276 كان الجهاد بصقلية في غزوة سوادة بن محمد إلى طرمين، فحاصرها. وفيها حبس إبراهيم بن أحمد كاتبه محمد بن حيون المعروف بابن البريدي فكتب إليه من السجن (بسيط) : هبني أسأت فأين العفو والكرم إذ قادني نحوك الإذعان والندم يا خير من مدت الأيدي إليه أما ترثي لصب نهاه عبدك القلم بالغت في السخط فأصفح صفحا مقتدرا أن الملوك إذا ما استرحموا رحموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال: فلما قرا إبراهيم بن أحمد أبياته، قال: (يكتب إلي: (هبني أسأت!) وهو قد أساء! أما إنه لو قال (وافر) : ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرم الكاتبينا لعفوت عنك!) ثم أمر - قبحه الله - به، فجعل في تابوت حتى مات - رحمه الله تعالى! - 277 قتل إبراهيم بن أحمد حاجبه نصر بن الصمصامة بان ضربه خمسمائة صوت، فلم ينطق بكلمة ولا تحرك من موضعه ثم أمر بضرب عنقه. فقال لنن حوله (لا تظنوا أني أجزع من الموت!) ووددهم إنه يفتح يده ويغلقها ثلاث مرات بعد ضرب عنقه ففعل، فأخبر إبراهيم بذلك فتعجب وأمر بشق بطنه شقا لطيفا ويؤتي إليه بقلبه. فنظر منه إلى منظر عجيب وذلك أمه كان فأتى في كبده ووجت فيه شعيرات نابت في أكثر أجزائه. وفي سنة 278 كانت ولاية أبي العباس أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب للمظالم، وولاية محمد بن الفضل صقلية، وعرض ديوان الخراج على سوادة النصراني على أن يسلم، فقال: (ما كنت لأدع ديني على رياسة أنالها!) فقطع بنصفين وصلب. وفي سنة 279 كانت ولاية محمد بن الفضل صقلية. ودخل حضرة بلرم لليلتين خلتا من صفر. وفيها، قتل إبراهيم بن أحمد من أهل أفريقية من قتل بطرا وشهوة فممن قتل في هذه السنة: إسحاق بن عمران المتطبب المعروف بسم ساعة؛ قتله وصلبه، ومنهم حلجبه فتح، ضربه بالسياط حتى مات. وقتل فيها جميع فتيانه؛ وسبب ذلك إنه كان كثير الإصغاء إلى قول المنجمين والكهنة، وكانوا قالوا له إنه يقتله رجل ناقص العقل، وانه يمكن أن يكون فتى، فكان إبراهيم، إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 رأى أحد من فتيانه، فيه حركة ونشاط وجدة، يتقلد سيفا، قال: (هذا هو صاحبي!) فلما قتل منهم جماعة، وقع بقلبه إنه قد استفسد إليهم فضمه الحذر منهم إلى قتل جميعهم، فقتلهم في هذا العام، واستخدم عوضا عنهم السودان. ثم عرض لهم منه ما عرض للفتيان الصقالبة: فقتل السودان أجمعين. وفي سنة 280 كان الإيقاع برجال بلزمه، وقصتهم ان إبراهيم بن احمد ابن الأغلب كان قد حاربهم وأستقدم منهم إلى مدينة رقادة نحو من سبعمائة رجل من ابطالهم، فأنزلهم ووسع عليهم، وبنى لهم دارا كبيرة تشمل على دور ترجع إلى باب واحد، وأسكنهم فيها. فلما سكنوا واطمأنوا، جمع ثقات رجاله لأخذ أرزاقهم؛ ثم أمرهم بمصابحة ابنه عبد الله لما أمره به. فلما اجتمعوا إليه ركب إلى دار البلزميين في الجند، فقتلهم عن أخرهم، بعد أن دافعوا عن أنفسهم إلى وقت العصر. وكان ذلك من أسباب انقطاع دولة بني الأغلب، إذ كان أهل بلرمة في نحو ألف رجل من أبناء العرب والجند الداخلين إلى أفريقية عند افتتاحها وبعده، وكان أكثرهم من قيس، وكانوا يذلون كتامة. فلما قتلهم إبراهيم، استطالت كثامة، ووجدت السبيل للقيام مع الشيعي على بن الأغلب. وفيها، كان تمنع البلاد ومخالفتها على السلطان إبراهيم بن أحمد، وانتزاء من انتزى عليه. وذلك أن أهل تونس والجزيرة والأربس وباجة وقمودة خالفوا عليه وقدموا على أنفسهم رجالا من الجند وغيرهم، لأن السلطان إبراهيم بن الأغلب أخذ عبيدهم وخيلهم، وجار عليهم، فصارت أفريقية على نار موقدة، ولم يبق يده من أعمال إلا الساحل والشرق إلى طرابلس. فحفر حفيرا حوالي رقادة، ونصب عليها أبواب حديد، وجمع إلى نفسه ثقاته، وقرب السودان من قصره، وقد كان جمع منهم خمسة آلاف أسود ز وفيها، وكانت وقائع انجلت عن فتح تونس عندة، قمودة تحركوا لقتال إبراهيم بن الأغلب؛ فأخرج إليهم ميمونا الحبشي. فقاتلهم حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 انهزموا، وقتل جماعة منهم، ثم فعل ذلك أهل تونس، فهزمهم ميمون أيضا، وهزم أهل الجزيرة وصطفورة، وقتل منهم كثيرا، حتى سيق القتلى في العجل إلى القيروان. ثم دخلت تونس بالسيف، لعشر بقين من ذي الحجة، فنهبت الأموال وسبيت الذرية، واستحلت الفروج. ومما كان بأفريقية في هذا العام، دخول أبي عبد الله، داعية الشيعة أفريقية، ونزوله بكتامه منها. فلنذكر الآن مبتدأ أمرا مختصرا، إلى أن استقل بالملك. ثم نرجع ما كنا بصدده. ابتداء الدولة العبيدية الشيعية قال الوراق: لم تزل الشيعة منذ مات على ابن أبي طالب - رضي الله عنه - تدعو إلى إمام معصوم، يقوم بالحق، على زعمهم؛ فترسل دعاة إلى سائر النواحي، فلا ينجح لهم سعي. ثم تفاوضوا وتراسلوا على أن يرسلوا داعيا إلى المغرب، يدعو الناس إلى التدين بحب الله البيت، وتكاتبوا من سائر الأفاق. فاختاروا منهم رجلا ذا فهم، وفصاحة وجدال، ومعرفة، يسمى أبا عبد الله الصنعاني، وجمعوا له مالا يتقوى به على سفره. فسار أبو عبد الله هذا إلى موسم الحج ليجتمع به مع من يحج تلك السنة من أهل المغرب، ويذوق أخلاقهم، ويطلع على مذاهبهم، ويتحيل على بيل الملك بضعيف الحيل. فسبحان مقدرة المقدورة، ومحكم الأمور كيف يشاء لا إله إلا هو فلما وصل للموسم، لا للحج لأن الحج ليس من مذهبهم الفاسد، بل تكلف حضوره ليتسبب في مراده، فرأى في الموسم قوما من أهل المغرب، فلصق بهم وخالطهم. وكانوا نحو عشرة رجال من قبيلة كتامة، ملتفين على شيخ منهم. فسألهم عن بلادهم، فأخبروه بصفتها، وسألهم عن مذهبهم، فصدقوه عنه. فتكلم أبو عبد الله الداعي في المذاهب؛ فوجد الشيخ يميل في مذهبه إلى مذهب الأباضية النكارة، فدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 عليه من هذه الثملة ولم يزل يستدرجهم ويخلبهم بما أوتي من فضل اللسان والعلم بالجدل إلى أن سلبهم عقولهم بسحر بيانه. فلما حان رجوعهم إلى بلادهم سألوه عن أمره وشأنه فقال لهم (أنا رجل من أهل العراق وكنت أخدم السلطان ثم رأيت أن خدمته ليست من أفعال البر فتركتها وصرت أطلب المعيشة من المال الحلال فلما أر لذلك وجها ألا تعليم القرآن للصبيان، فسألت أين يأتي ذلك تأتيا حسنا، فذكر لي بلاد مصر.) (ونحن سائرون إلى مصر وهي طريقنا. فكن في صحبتنا إليها!) ورغبوا منه في ذلك فصحبهم في الطريق. فكان يحدثهم ويميل بهم إلى مذهبه ويلقي إليهم الشيء بعد الشيء إلى أن أشربت قلوبهم محبته فرغبوا منه أن يسر إلى بلادهم ليعلم صبيانهم. فاعتذر لهم بعد الشقة وقال: (أن وجت بمصر حاجتي أقمت بها وألا فربما أصحبكم إلى القيروان.) فلما وصلوا مصر غاب عنهم كأنه يطلب بغيته. ثم أجتمع بهم وسألوه فقال لهم: (لم أجد في هذه البلاد ما أريد.) فرغبوه أن يصحبهم فأنعم لهم بذلك. فكانوا في صحبته حتى وصلوا إلى القيروان فرادوه على أن يصل معهم إلى البلاد وضمنوا لهم ما أراد من تعليم الصبيان فقال لهم (لابد لي المقام بالقيروان حتى أطلب فيها حاجتي. فلما اتفق لي فيها غرضي وإلا نهضت إليكم.) وكان شيخهم أحرصهم عليه وأكرمهم له، فوصف له منزله وموضعه من قبيلة كتامة، فأقام بالقيروان يتعرف أخبار القبائل حتى صح عنده أن ليس في قبائل أفريقية أكثر عددا ولا أشد شوكة ولا أصعب مراما على السلطان، من كتامة. فلما تقرر ذلك عده، نهض نحو صاحبه الشيخ الكتامي، فاشترى بغلة شهباء ودخل الطريق مع الفقة حتى قرب من موضع الشيخ صاحبه، فعدل إليه، ومر في الطريق بأندر، والبقر فيه تدرس الزرع ورجل كهل من أهل كتامة جالس فيه مع ابنه، فقرب منهما، وسلم عليهما. فقاما إليه ورحبا به، ورغبا منه في النزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 عندهما، فأجابهما إلى ذلك، فأنزلوه وأكرموه. فقال الداعي للرجل: (ما اسم ولدك هذا؟) قال: ما اسمك أنت؟ قال: مُعارِك. فقال في نفسه: تم أمرنا أن شاء الله، لكن بعد مَعارك. ثم أراد الداعي الانصراف، فصرفوه مع امرأة نتدله على الطريق، لأن الحرب كانت بينهم وبين بني عمهم. فسار حتى نزل في منزل من منازل كتامة. فأتى المسجد، وفيه معلم يعلم الصبيان. فقام إليه المعلم وسلم عليه، وهو راكب على بغلته الشهباء فجعل المعلم يطيل النظر إليه، فاستراب لذلك أبو عبد الله، ونزل عن الدابة ودخل المسجد. ثم دعا المعلم فقال له: لقد رأيتك تنظر إلي كثيرا وإلى البغلة. فقال له: ذلك لسبب أنا أقوله لك. وذلك إنه كان فيهما تقدم رجل من كتامة كاهن، يقال له فيلق، وكان إذ رأى تفاتنهم يقول لهم: إنما ترون الحرب إذا جاءكم الرجل الشرقي صاحب البغلة الشهباء. فلما رأيتك، تذكرت قوله. فلما وقر ذلك في سمعه استبشر. وكان ذلك والذي قبله من الفال تقوية له على أمره، وزيادة إقدام، لولا هو لم يقدر أن يتجاسر على شيء منه. فسبحان مسبب الأسباب. فسار عبد الله الداعي حتى وافى منزل الشيخ صاحبه الكتامي، فقصد إلى المسجد ونزل به، وفيه معلم يعلم الصبيان وعنده أبناء الشيخ صاحبه فلما حان وقت الظهر أذن المعلم فسمع الشيخ الأذان فخرج إلى المسجد، فرأى عبد الله فسلم عليه، وعانقه فلما أراد المعلم الدخول للمحراب، أخره عنه الشيخ وقدّم عبد اله لداعي، فلما انقضت الصلاة قم معه إلى منزله وبالغ في إكرامه، وتحدث معه إلى أن حانت صلاة العصر، فخرج معه لصلاة. فاستراب معلم الصبيان بذلك فترك ذلك المسجد والتعليم فيه وانصرف. وصار عبد الله في ذلك المسجد يصلي ويعلم الصبيان. واجتهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 في تعليم الأولاد فجمعوا له أربعين دينارا، وزاد عليها الشيخ وأتى بها إلى أبي عبد الله، فدفعها له، واعتذر له من ذلك. فتركها أبو عبد الله أمامه ورد يده إلى كيس كان معه، وصب منه خمسمائة دينار أمام الشيخ وقال له: لست بمعلم الصبيان إنما الأمر ما أخبرك به فاسمع إنما نحن أنصار أهل البيت وقد جاءت الرواية فيكم يا أهل كتامة! إنكم أنصارنا، والمقيمون لدولتنا، وإن الله يظهر بكم دينه، ويعز بكم أهل البيت! وإنه سيكون غمام منهم أنتم أنصاره والباذلون مهجتهم دونه، وإن اله يستفتح بكم الدنيا كلها ويكون لكم أجركم مضاعفا. فيجتمع لكم خير الدنيا والآخرة!. فقال له: الشيخ: أنا أرغب فيما رغبتني فيه وأبذل فيه مهجتي ومالي ومن اتبعني وأنا أطوع إليك من يدك: فمر بما شئت أمتثله!. فقال له: ادع لخاصة من بني عمك الأقرب فالأقرب. فقال: نعم. فنظر الشيخ فيما قاله، وبث دعوته في أقاربه ومن يختص به. وجاء شهر رمضان. فقال أبو عبد اله للشيخ: إن رمضان قد جاء ومذهبنا أن لا تصلى التراويح لأنها ليست من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما سنها عمر ونحن نطوّل القراءة في صلاة العشاء الأخيرة، ونقرأ بالسور الطوال، فيكون ذلك عوضا عن التراويح. فقال له الشيخ: أنا طائع لك فافعل ما تريده. وبلغ خبر هذه الصلاة ولمع من أخبار هذا لداعي إلى بعض من اتصل بمنزل الشيخ وبأخيه. فسار أخو الشيخ إليه وقال له: ما لك ولهذا المشرقي الذي أفسد دينك. وغيّر مذهبك؟. فلما فرغ من كلامه قال له الشيخ: أنا أدعوك للأمر الذي دخلت فيه، فأما أن تتقلد ما تقلدته وأما أن لا تلقاني بذم من قد بلوت خيره وفضله ودينه!. فانصرف عنه أخوه مغضبا. وانفرد الشيخ مع سائر الجماعة، فوصف لهم أبا عبد اله بكل فضيلة حتى تمكنت محبته في قربهم، ثم أخرجه إليهم وقال له: كلمهم يا أبا عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الله فكلمهم بلسانه وقال لهم: أنتم أنصار أهل البيت وشيعته! حتى خلب عقولهم بحلاوة لفظه. فلم يبرحوا حتى دخلوا في دعوته. ثم أن أخا الشيخ توجه إليه، يفخر عليه بمعلم أولاده، ويدعي إنه أعلم من أبي عبد الله ويطلب مناظرتهما. فتواعدوا لذلك. ولنا حان الموعد جاء أخو الشيخ وأبنائه، وبلغ أخاه مجيئه، فأتى بجماعة منت بني عمه ممن دخل في مذهبه وقال لهم: إذا نحن اجتمعنا، اضربوا أنتم على قيطون أخي كأنكم أعدائه! وأمر جماعة أخرى، فكمنت له في طريقه. فبينما أخو الشيخ مع معلمه وأولاده، إذ صرخت صارخة من نحو قيطونة، فأسرع يركض إلى ناحيته، فخرج عليه الكمين، فخبطوه بأسيافهم، وتركوه عقيرا. وبلغ الشيخ خبر قتل أخيه، فبادر كأنه لا علم عنده من ذلك، وجاء بنو عمه يعزونه في أخيه، فذبحت البقر، وصنع طعاما لبني عمه ونعى لهم أخاه، واحتال على قوم من بني عمه وأخذ عليهم العهود والمواثيق بطاعة الداعي فاجتمع له منهم خلق كثير. وأقام هذا الشيخ في حرب مع قومه وبني عمه مدة من سبعة أعوام، إلى أن وافاه أجله. فلما حضرته الوفاة، جمع بني عمه وقرابته، وقال لهم: أوصيكم بهذا الرجل ألا تختلفوا عليه! وأوصى عبد اله على أولاده، وقضى نحبه. فالتزمت كتامة الطاعة لأبي عبد الله ودخلت قبائل كثيرة في دعوته. فصير لهم ديوانا، وألزمهم العسكرية، وقال لهم: أن لا أدعوكم لنفسي، وإنما أدعوكم لطاعة الإمام المعصوم من أهل البيت، الذي صفته كذا وكذا. ووصف لهم من كراماته ما تنكره العقول. فكانت تصح عندهم، ويقول لهم: هو صاحب هذا الأمر، وأنا منصرف من بين يديه إذا ظهر! يعني عبيد الله. ولم يكن رآه قط، وإنما يسمع من شيوخ الشيعة، وكان يعتقد ذلك اعتقادا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 صحيحا لا مرية فيه، إلى أن صفا له أمر البربر، فنازل الحواضر وهزم ملك أفريقية وانتزعها من يديه. وفى سنة 281، أمر إبراهيم ابن الأغلب صاحب أفريقية ميمونا الحبشي أن يسير إلى تونس، فيقتل بها جماعة من بني تميم وغيرهم، فقتلوا وصلبوا على بابها. فوفد أكابر أهل تونس مع ميمون الحبشي، فكسا السلطان ميمونا الخزّ والوشي والديباج، وطوقه بالذهب، وحماه على فرس، وصرفه إلى تونس من غده. وفيها خرج السلطان إبراهيم بن الأغلب إلى تونس، لثمان خلون من رجب، فاستوطنها. وفي سنة 282، انعقد الصلح بين أهل صقلية والروم لأربعين شهرا على إخراج ألف أسير من المسلمين، وعلى أن تكون عندهم رهائن الإسلام في كل ثلاثة اشهر من العرب وثلاثة من البربر وفيها قدم إبراهيم بن الأغلب بنيه على بلاد أفريقية. وفي سنة 283، رجع إبراهيم بن أحمد من تونس إلى رقادة. وخرج أبو منصور أحمد بن إبراهيم إلى طرابلس. وخرج أبو بحر بن أدهم إلى مصر. وفيها كانت وقعة نفوسة، وذلك إن إبراهيم بن أحمد اعترضته نفوسة بين قابس وطرابلس ومنعته الجواز، وكانوا في زهاء عشرين ألف رجل لا فارس معهم فناصبهم الحرب وقاتلوهم قتالا شديدا حتى هزموهم وقتلوا أكثرهم. ثم تمادى إلى مدينة طرابلس، فقتلوا بها أبو العباس محمد بن زيادة الله بن الأغلب وكان أديبا ظريفا، له تواليف، وسبب قتله أن المعتضد بالله العباسي كتب إلى إبراهيم بن أحمد يعنفه على جوره وسوء فعله بأهل تونس ويقول له:: إن انتهيت عن أخلاقك هذه، وإلا فسلم العمل الذي بيدك لابن عمك محمد بن زيادة الله! ثم نهض من طرابلس إلى تاورغا: فقتل بها خمسة عشر رجلا، وأمر بطبخ رؤوسهم مظهرا إنه يريد أكلها، هو ومن معه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 رجاله فارتاع أهل العسكر منه، وقالوا: (قد خولط) فانفض الناس عنه فلنا رأى ذلك، خشي أن يبقى وحده. فرجع إلى تونس فجعل عقوبة من انفض عنه غرم ثلاثين دينارا، فسمي غَرْم الهاربين. وفي سنة 284، كانت وقعة بنفوسة لأبي العباس بن إبراهيم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم نحو ثلاثمائة. فلما وصل بهم إلى والده إبراهيم بن أحمد دعا بهم. فقُرِّبَ إليه الشيخ منهم، فقال له إبراهيم: أتعرف عليّ بن أبي طالب؟ فقال له: لعنك الله يا إبراهيم على ظلمك وقتلك! فذبح إبراهيم وشق عن قلبه، وأخرجه بيده، وأمر أن يفعل ببقية الأسرى كذلك، حتى أتى على أخرهم. ونظمت قلوبهم في حبال، ونصبت على باب تونس. قصة ابن الأغلب مع الشيخ الصالح أبي الأحوص وذلك إن أبا الأحوص أحمد بن عبد اله المكفوف المتعبد، من أهل سوسة كان زاهدا ورعا. فلما أكثر إبراهيم بن أحمد الجور والقتل، دعا برجل من لأهل سوسة، وأملى عليه رسالة إلى إبراهيم، كان في فصل منها: يا فاسق! يا جائر! يا خائن! قد حدت عن شرائع الإسلام! وعن قريب تعاين مقعدك من جهنم، وسترد فتعلم! وبعث به إليه فلما قرأه، غضب وبعث إلى أبي الأحوص من قال له: عذرناك لفضلك ودينك! ولكن ابعث إلي الذي كتب الكتاب. وبالله لئن لم تفعل، لأقتلن فيه من أهل سوسة كذا وكذا، ويكون إثم ذلك في عنقك! فقال أبو الأحوص للرسول:: قال له لئن قتلت ألفا لا يكون إثمهم إلا عليك! ولو عملت ما عملت ما أعلمتك بالرجل. فتب إلى خالقك، وأرجع عن جورك! فأمسكه الله عنه، ومات أبو الأحوص في هذه السنة. وفي سنة 275، كانت فتنة بصقلية، بين عربها وبربرها، وفي خلال ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وردت كتب ابن الأغلب يدعوهم إلى الرجوع للطاعة، ويؤمنهم أجمعين، حاشى أبا الحسن بن يزيد وولديه الحضرمي، فتقبض عليه وبعث بهم إلى لأبن الأغلب فأما أبو الحسن فإنه تناول سما فمات من ساعته وصلبت جثته وقتل ولداه. وجعل إبراهيم من يضاحك الحضرمي ويهازله، فقال له: ليس هذا وقت هزل! وأمر به فقتل بالمقارع بين يديه. وفي سنة 286، سخط إبراهيم ابن الأغلب على جماعة من فتيانه وقتلهم. وفيها كانت وقعة أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب وبين بني بلطيط ببسكرة، ففرق جموعهم وقتل عددا كثيرا منهم وأصلح ما كان التاث هناك. وفي سنة 287، كانت بصقلية ملحمة كبيرة، وذلك إن أبا العباس عبد الله بن إبراهيم بن أحمد أخرجه أبوه بالأسطول مصلحا لها، فأسرع إلى بلرم يؤمن أهلها. فأتاه قاضيا في جماعة من أهلها، فحسبهم عند نفسه وصرف القاضي. ثم وجه إليهم ثمانية مشايخ من أهل أفريقية، فحسبوهم مكافأة افعله في مشايخهم. ثم زحفوا إليه وحاربوه فانهزموا وقتل منهم عدد كثير ودقت لهم سفن. وتمادت هزيمتهم إلى بلرم. ثم زحف إليهم، فحاربهم على باب بلرم، وقتل منهم عددا كثيرا، وطلبوه بالأمان فأمنهم. ودخلها لعشر بقين من رمضان من السنة. وفي سنة 288، أخرج إبراهيم بن أحمد ولده أبا عبد الله في جيش كثير إلى الزاب. وفيه أغزى أبو العباس صاحب صقلية، فدخل مدينة رية عنوة وغنم فيها غنائم كثيرة واستأمنت له حصون وأعطوه الجزية. وفي سنة 289، أظهر صاحب أفريقية إبراهيم بن احمد التوبة لنا استقام أمر أبي عبد الله الداعي بكتامة. فأراد إبراهيم بن أحمد أن يرضي العامة ويستميل قلوب الخاصة بفعله، فرد المظالم وأسقط القبالات، وأخذ العُشُر طعاما، ونرك لأهل الضياع خراج السنة، وسماها سنة العدل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأعتق مماليكه، وأعطى فقهاء القيروان ووجوه أهلها أموالا عظيمة ليفرقوها على الضعفاء والمساكين فاستوكلت وأعطيت من لا يستحقها وأنفقت في اللذات. وصرفت في الشهوات. وقدِم ولده أبو العباس من صقلية مستدعي فأسلم إليه أبوه الملك، فولي أبو العباس على الكور من أحب. أخبار إبراهيم بن أحمد على الجملة ووفاته كان مولده يوم الأضحى سنة 261، وتوفي يوم الاثنين لثلاث عشر ليلة بقيت من ذي القعدة من هذه السنة المؤرخة بأرض الروم وسيق ميتا إلى جزيرة صقلية، فدفن بها بعد ثلاثة وأربعين يوما من موته. وكان عمره اثنين وخمسين سنة ومدة ولايته ثمانية وعشرين سنة وستة أشهر واثنتي عشرة يوما. وأقام في أول ولايته سبعة أعوام على ما كان أسلافه من حسن السيرة وحميد الأفعال، ثم تغيرت أحواله، وأخذ في جمع الأموال. ثم صار في كل سنة يزداد تغيرا وسوء حال. ثم اشتد نكاده، فأخذ في قتل أصحابه وحجابه حتى إنه قتل ابنه المكنى بأبي الأغلب، وقتل بناته وأتي بأمور لم يأت بها أحد غيره. وكان كثير الملل، شديد الحسد. وكانت له في بدء أمره سيرة حسنة، وأفعال محمودة، ثم غلب عليه خلط سوداوي، فتغير وساءت أخلاقه كما ذكرنا. فقيل إنه افتقد منديلا صغيرا كان يمسح به فمه، وكان سقط من يد بعض جواريه فأصابه خادم له، فقتل بسبه ثلاثمائة خادم. وكان سبب قتله لولده ظن منه به، فضربت رقبته بين يديه صبرا. وقتل أخزته ثمانية: ضربت أعناقهم بين يديه. وكانت أمه إذا ولدت له ابنة أخفتها وربتها، لئلا يقتلها حتى اجتمع عندها منهن ست عشرة جارية، كأنهن البدور، فقالت له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 يوما وقد رأت منه رقة: يا سيدي قد ربيت لك وصائف ملاحا، وأحب أن تراهن. قال: نعم. فلما رآهن قالت له: هذه بنتك من فلانة وهذه بنتك من فلانة. حتى عدتهن. فلنا خرج من عند أمه قال لخادم له أسود: امض إليهن وجئني برؤوسهن. فوقف اسيتعضا ما لذلك. فقال له: أمض وإلا قدمتك قبلهن! فلما دخل على أمه، كبر ذلك عليها، وعظم في قلبها وقالت له: راجعه! فقال لها: لا سبيل إلى ذلك! فقتلهن وأخذ برؤوسهن، وجاء بها إليه معلقة بشعورهن، فطرحها بين يديه - قبحه الله - وأدخل كثيرا من فتيانه الحمام وأغلق عليهم باب البيت السخن، فماتوا فيه جميعا. وأخباره كثيرة في هذا المعنى، ذكرها الرقيق وغيره. وفي سنة 289 المذكورة استرجع أبو العباس بن إبراهيم بن أحمد المال الذي أخرجه أبوه إلى الفقهاء ووجوه الناس ليفرقوه في المساكين، فرجع معظمه وقال لمشايخ أفريقية: اغتنمتم الفرصة في المال لمرض الأمير أبي ومغيبي عنه! وفيها شخص أبو عبد الله الأحول بن أبي العباس إلى مدينة طبنة إلى محاربة الشيعة. وفيها تساقطت النجوم لثمان بقين من ذي القعدة، فسميت السنة سنة النجوم، فلهذه السنة ثلاث أسماء سنة العدل وسنة الجور، (سماها العامة بذلك) وسنة النجوم وفي سنة 290، كتب أبو العباس بن إبراهيم إلى العمال ليأخذوا له البيعة لأن أباه فوض إليه وتخلى له عن الملك واشتغل بالعبادة، وذلك قبل أن يبلغه وفاة أبيه. ولاية أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد وسيرته وذلك إنه أظهر التقشف، والجلوس على الأرض، وإنصاف المظلوم وجالس أهل العلم وشاورهم. وكان لا يركب إلا إلى الجامع فقال قوم: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أهل النجوم أمروه بذلك! وقال قوم: به وسوسة! وكتب إلى ابنه زيادة الله يستحثه في القدوم عليه من صقلية لأنه وشي به إليه إنه يريد الانتزاء عليه. فقدم زيادة الله على أبيه لعشر بقين من جمادى الأخيرة، فقبض أبو العباس ما كان معه من الأموال والعدة، وحبس زيادة الله ي بيت داخل داره وحبس ناسا من أصحابه. مقتل أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد قتل يوم الأربعاء، ليوم بقى من شعبان فكانت ولايته بعد أبيه تسعة أشهر وأحد عشر يوما، ومن يوم أفضى إليه أبوه الأمر سنة واثنان وخمسون يوما. وكان قتله على ما أصفه: وذلك إنه خرج من الحمام إلى دار خالية واستلقى على سرير الخيزران، ووضع تحت رأسه سيفا ونام بعد أن خرج كل من كان في الدار غير فتيين كان يثق بهما فلما نام تآمرا على قتله وقالا: (هذه فرصة في تقديم اليد عند زيادة الله! فنطلقه من أسره ونستريح من أبيه ويلي مكانه ونفوز بالخطوة عنده.) فأستل السيف الذي كان تحت رأسه وضربه ضربة فقطع عنقه ولحيته حتى نفذ إلى السرير. ومضى الفت الأخر إلى ناحية من الدار فارتقى الحائط ونفذ إلى زيادة الله وأعلمه لأن أباه قتل فظن أنها مكيدة عليه فقال له (أن كنت صادقا فأريني الرأس فانطلق مسرعا ورمى إليه بالرأس فعند ذلك صدقه. ولاية زيادة الله بن أبي العباس عبد الله ابن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب وذلك أن زيادة الله لما صح عنده قتل أبيه ورأى الرأس بين يديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 كسر قيوده وبادر خوفا أن يشعر بالأمر أحد من أعمامه فيسبقه. فلما صار زيادة الله في الدار أرسل في عبد الله بن الصائغ وفي أبي مسلم منصور بن إسماعيل، (وهما ممن كان سجن معه تهمة،) وفي عبد الله بن أبي طالب. فلما دخلوا عليه قال لهم: (انظروا لي ولأنفسكم!) فقالوا له: (أرسل في أعمامك في لسان أبيك، وفي جودة الرجال والقواد.) فأرسل فيهم ودفع إليهم الصلات، وأخذ عليهم البيعة وأمر أن ينادي بتونس: (من كان هاهنا من الجند فليوافوا باب الأمير!) فركعوا بأسلحتهم فأمر بإدخالهم واحداً واحدا: يدخل الرجال فيبايع ويعطي خمسين مثقالا ففعل ذلك بالجودة. أو كتب ذلك كتاب بيعته، فقرأ بتونس على منبر جامعها. وأخذت له البيعة على العامة بها. وكتب إلى العمال (بالبلاد) بأن يأخذوا له البيعة على من قبلهم. فلما قرب العشاء، نودي في الجند (اصبحوا للأخذ عطاياكم) ومطل عمومته بالانصراف (عنه) إلى الليل ثم أكبلهم أجمعين وأخلهم في شيني، ووكل بهم ثقاته، وأمرهم أن يمضوا بهم إلى جزيرة الكراث، وهي على اثني عشر ميلا من مدينة تونس، فضربت هناك رقابهم ليلة السبت لثلاث خلون لرمضان. وأصبح الجند والموالي من غد ذلك اليوم لأخذ الصّلات. فلما مضى صدر من النهار قيل لهم: انصرفوا فإنه يوم شغل! ثم أتوا من الغد فدفعوا. فلم يزالوا يترددون إلى أن بردت قلوبهم وملوا الاختلاف. ولما كمل الأمر لزيادة الله دعا بالفتيين الذين قتلا أباه. فأمر بهما فقطعت أيديهما وأرجلهما وصلبا على باب القيروان وباب الجزيرة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أبواب تونس. وقتل أيضا زيادة الله عمه أبا الأغلب الزاهد الساكن يسوسه وقتل أخاه أبا عبد الله الأحول بعد أن استقدمه من طبنة. وولى زيادة اله الوزارة والبريد عبد الله بن الصائغ، وولى أبا مسلم منصور بن إسماعيل ديوان الخراج! وولى قضاء القيروان حماس بن مروان ابن سماك الهمداني، وكان ورعا عالما بمذهب مالك وأصحابه، فعدل في أحكامه، ولم يكن يهيب أحدا في ولايته (ونظره. وفيها مات محمد بن مجمد بن الفرج البغدادي مولى بني هاشم، وكانت له عناية وطلب، ومات محمد بن ابن المنهال، وكانت له رياسة بأفريقية. وفيها قتل بن الفياد إذ اتهمه زيادة الله بأنه أشار على أبيه يؤدبه وحبسه. وفيها مات محمد بن سليمان وكان ثقة الحديث والرواية وسمع أبوه من سفيان بن عيينة) . وفي هذه السنة، أسست مدينة وهران، على يديّ محمد بن أبي عون بن عبدون وجماعة من الأندلسيين. (وفيها مات علي بن الهيثم المحدث، وإبراهيم بن عثمان القرشي التونسي وكانا من أهل الرواية والعلم.) وفي سنة 291 ولي محمد بن زيادة الله العهد، وأخذت البيعة له بذلك. (وفيها قتل هذيل النفطي، صاحب ديوان الخراج، وقتل ابن المنبت الملقب بالعجل، وفيها توفي محمد بن زرزور الفقيه الفارسي وكان على مذهب أبي حنيفة، وكان حافظا لبيبا، ونظر في النجوم والحساب، وخولط في عقله، فكان إذا قيل له: (يا زواغي) يهيج وينشط) وولي على بن أبي الفوارس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 (التميمي) عمالة القيروان ثم عزل عنها، ووليها أحمد بن مسرور. وولى إبراهيم بن حبشي التميمي قتال أبي عبد الله الشيعي. وفيها مات أبو جعفر أحمد بن داود الصواف، مولى ربيعة، وكان فاضلا من رجال سحنون وكان في حداثته يقول الشعر ثم تركه. وفيها خرج الحسن بن حاتم إلى العراق رسولا من عند زيادة الله بهادايا وطرف. وولى الحسن بن أبي العيش بن إدريس بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن (أبن الحسن) بن علي بن أبي طالب (رضه) عمل جراوة لوفاة أبيه أبي العيش. ورفع زيادة الله فقهاء إفريقيا إلى مدينة تونس مستظهرا بهم على أبي عبد الله الشيعي فاجتمعوا عند عبد الله بن الصائغ صاحب البريد، وتفاوضا في أمره وقال لهم ابن الصائغ (أن الأمير يقول لكم هذا الصنعاني الخارج علينا مع كتامه يعلن أب بكر وعمر رضنهما ويزعم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتدوا ويسمى أصحابه: المؤمنين ومن يخالفه في مذهبه: الكافرين ويبيح دم من خالف رأيه) فأظهر الفقهاء لعنه والبراءة منه، وحرضوا الناس على قتله وأفوتهم بمجاهدته. (وأرس زيادة الله هدية للعابس فيها عشرة آلاف مقال في كل مثقال منها عشرة مثاقيل وكتب في كل مثقال هذين البيتين (كامل) : يا سائرا نحو الخليفة قل له ... أن قد كفاك الله أمرك كله بزيادة الله بن عبد الله سي ... ف الله من دون الخليفة سله وفي سنة 239 قد أبو مسلم بن إسماعيل بن يونس لإصلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مدينة رقادة ورقع ما وهي فيها وإنشاء مركبا على ماجل القيروان وسمى الزلاج. وقدم زيادة الله في تونس في شهر ربيع الأخر فنزل على الماجل الكبير بالقيروان. وفيها ضرب الخال طوف بمدينة القيروان مخسبا على بغل بأكاف. وفيها، ظهر النجم ذو الذوابة في الجدي بجه الشمال، بقرب بنات نعش وذلك في رجب. وقفيها كانت وقعة على عسكر السلطان وذلك أن أبى عبد الله (الداعي) ، لما علم بخروج العسكر إليه وكثرة من معه من وجوه الرجال وأمجاد العرب والموالي، وما معه من العدة وآلات الحرب، وأرتاع لذلك، وأخذ في حشد كتامة وكان حشده بغير ديوان إنما كان يكتب إلى رؤساء القبائل، فيحشدوا من يليهم، طاعة له ورغبة فيه. وكان لا يزيدهم في كتابه إليهم على أن يقول: (أن الوعد يوم كذا في موضع كذا) ويصرخ صاروخ بين يديه: (حرام على من تخلف) فلا يتخلف عنه أحد من كتامة، فأجتمع منهم ما لا يحصى كثرة. وتأهب لملاقاة إبراهيم بن حبشي، فالتقى مع إبراهيم بن حبشي أمير العسكر بكينونة فكانت بينهما ملحمة عظيمة تطاعنوا فيها بالرماح حتى تحطمت وتجادلوا بالسيوف حتى تقطعت، من أول النهار إلى أخره ثم انهزم إبراهيم ووقع القتل على أصحابه فذهب كثير منهم ونجى باقيهم في ظلمة الليل واشتغلت عنهم كتامة بالغنيمة والأموال والسلاح والسروج واللجم وضروب الأمتعة. وهي أول غنيمة أصابها الشيعي وأصحابه، فلبسوا أثواب الحرير، وتقلدوا السيوف الموحلات، وركبوا بسروج الفضة واللجم الملهبة، وكثر عندهم السلاح، فشرفت أنفسهم، وتحققت آمالهم، وصح عندهم ما كان الشيعي يعدهم به من النصر، ويبسط له الآمال فيه من التأييد لهم والنصر والغلبة لعدوهم. ووقع الوهي على أهل إفريقيا، وداخلهم الوهن والجزع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وكتب أبو عبد الله الداعي إلى عبيد الله الشيعي، وهو يومئذ بسجلماسة يعلموا بالفتح ووجه إليه بمال كثير مع قومه من أهل كتامة سرا. وذكر رجل من بني هاشم بن عبد المطلب يسمى بأحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن علي بن زيد بن ركانة بن عبدون بن هاشم، كان مع عبيد الله بسجلمانة قال: (وصلني عبيد الله بمال كثير من دنانير لا توجد في ذلك البلد، فكثر تعجبي منها. فلما رأى مني ذلك، وعلم مني ما أوجبه ثقته بي واستنامته إلي. قرأ على كتاب أبي عبد الله بالفتحة، وأمرني بكتمان الخبر، وألا أبدل حالتي الأولى، ولا أغير حيلتي وملبسي؛ وقال لي: (عن علينا عيونا ورقابة؛ فلا يطلعوا منا على تبدل الحال، واستفادة مال) وفيها، مات أبو سهل فرات بن محمد العبدي الفقيه، سمع من سحنون، وعبد الله بن بي حسان، وموسى بن معاوية، وغيرهم بأفريقية، ورحل إلى المشرق فسمع كمن رؤساء أصحاب مالك وله لسان طويل ومعرفة بالأنساب، وكان أعلم الناس بالناي وأوقع الناس في الناس حتى نسب إلى الكذب. وفيها، ولد محمد بن يوسف الوراق بالقيروان. وفي سنة 293، أخرج زيادة الله بن عبد الله بن الأغلب جيشا إلى الأربس لمحاربة أبي عبد الله الشيعي وولى عليهم مدلج بن زكرياء، وأحمد بن مسرور الخال، فخالفا عليه يوم الاثنين لعشر خلون من جمادى الأخيرة، ووافيا بالعسكر مدينة القيروان يوم الخميس لثلث عشرة ليلة خلت من جمادى الأخيرة، فخرج ألهم الغوغاء من القيروان ودافعوهما. وكبا بمبلج فرسه، فقتل من ساعته وقل مع ابن بربر، وصلب على باب رقادة وقد كان زيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الله برز لقتال مدلج، حتى أتاه الخبر بقتل العامة له، فكتب بذلك فتحا قرى بالقيروان وأعمالها. وكان سبب خلافه على زيادة الله إنه حكم عليه في منية له كا تعرف بالجليدية، وسجل عليه فيها القاضي حماس بن مروان فأضغن ذلك، وجعل سببا إلى الخلاف عليه. وفيها، ورد كتاب المكتفي بالله، يحث أهل أفريقيا على نصرة زيادة الله، ومحاربة الشيعي. وقرأ كتابه على الناس. وفيها، كسفت الشمس كلها، وصلى القاضي حماسة بن مروان بالناس صلاة الكسوف في الجامع. وفيها خرج زيادة الله بن عبد الله إلى مدينة الأربس فنزل بغريبها، واجتمعت إليه عساكر كثير، وأعطى بها الأموال جزافا بالمصحاف كيلا بلا وزن، لكل رجل صحفة توضع له في كسائه دنانير ويحمل على فرس، ثم يخرج الرجل، فلا يرى بعدها. فأنفق فيها أموال جسيمة وبذل مجهوده في الإحسان إلى الرجال. والشيعي مع ذلك ازداد ظهورا. ووجه عساكر إلى بدعاية، وشك مدين طبنة وشحنها بالرجال وقد عليها حاجبه أبا المقارع حسن بن أحمد بن نافذ مع سبيب بن أبي شداد القمودي وخفاجة العيسي، وكانوا من أهل البسالة، وأمرهم بشن الغارات على كتامة، فكان بينهم وقائع قتل فيها كثير من الفريقين. وفيها، ولي قضاء مدينة رقادة محمد بن عبد الله المعروف بابن جيمال، وكان مولى لبني أمية، ولم يكن عنده علم ولا ورع وإنما عنيت به عبد الله بن الصائغ، وكانت فيه غفلة شديدة وضعف وقيل إنه باع نفسه في حداثته تين أيام الشدة، ثم أثبت بعد ذلك حريته، وأنطلق. وشهدت عنده بينه بأن امرأة وكلت ولدها، فقال لهم: (وكلته وهي بالغة؟) قالوا له (وهو أبنها! أصلحك الله! فكيف لا تكون بالغا!) وضحكوا عليه، فأستحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وفيها، قدم أبو يعقوب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي المتطبب على زيادة الله من المشرق مع أبي الحسن بن حارث فوصل إليه وهو بالاربس. قال إسحاق: (فدخلت على زيادة الله ساعة وصولي، ورأيت مجلسه قليل الوقار، كثير اللهو. فابتدأني بالكلام ابن حبيش المعروف باليوناني، فقال لي: (تقول أن الملوحة تحلو؟) فقلت له: (نعم) قال (وتقول أن الحلاوة تحلو؟) قلت له: (نعم) فقال لي: (فلحلاوة هي الملوحة والملوحة هي الحلاوة!) فقلت له: (أن الحلاوة تحلو بلطافة وملائمة، والملوحة تحلو بعنف وقوة) فتمادى على المكابرة في ذلك، حتى قلت له (تقول أنك حي والكلب حي؟) قال (نعم) قلت له (فأنت الكلب والكلب أنت) فضحك زيادة الله ضحكا شديدا قال: (فعلمت أن رغبتك في الهزل أكثر من رغبتك في الجد) . وفي هذه السنة تغلب أبو عبد الله الداعي على مدينة بالرمة وعلى مدينة طبنة، ودخلهما بالأمان في أخر ذي الحجة وبها أبو المقارع حسن بن أحمد والى زيادة الله وعامله عليهما مع صاحبيه المذكورين قبل هذا. وكان بهما جباة على ضروب المغارم، فأتوه بما في أيديهم من الجباية، فقال لأحدهم (من أين جمعتم هذا المال؟) فقالوا له (من العشر) فقال عبد الله: (إنما العشر حبوب وهذا عين) ثم قال لقوم من ثقاة طبنة: (أذهبوا بهذا المال فليرد على كل رجل ما أخذ منه، وأعلموا الناس أنهم إمناء على ما يخرج الله لمن أرضهم، وسنة العشور معروفة في أخذه وتفرقته وعلى ما ينصه كتاب الله عز وجل) ثم قال لأخر (من أين هذا المال الذي بين يدك؟) قال: (جبيته من اليهود والنصارى جزية عن حول مضى لهم.) فقال (وكيف أخذته عينا، وإنما كان يأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الملأ ثمانية وأربعين درهما، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهما ومن الفقير أثنى عشر درهما!) فقال له: (أخذت العين عن الدراهم بالصرف الذي كان يأخذه عمر) فقال أبو عبد الله: (هذا مال طيب) ثم أمر أحد الدعاة بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 يفرقه على أصحابه وقال لمن أتاه بمال الخرج: (هذا ما لا خير فيه ولا قابلة ولا خراج على المسلمين في أموالهم!) ثم أمر ثقاة أهل طبنة برده على أهله وقبض مال الصدقة من الإبل والبقر والغنم، بعد أن قيل له أنها قبضت الأنعام على الإنسان الواجبة في الصدقات، ثم بيعت وجمعت أثمانها. فرضي بذلك وجوزه. فلما نظر أهل طبنة إلى فعله، سروا به وجوا أن يستعمل فيهم الكتاب والسنة. وانتشر فعله في جميع نواحي إفريقيا فتاقت أنفسهم إليه، وكاتبوه ودخلوا في طاعته وبلغ ذلك زيادة الله فأغتنم به غما شديدا (وأخذ في حشد الرجال والاستكثار منهم) وأمر بلعنة الشيعي على المنابر. (وفيها قدم زيادة الله بن الطبني من بغداد وفيها توفي أبو جعفر محمد بن الحسين المروزي بجزيرة صقلية وكان فقيها وأتهم بالكذب وتوفي فيها محمد بن المنيب الأزدي الفقيه، وكان مذهبه مذهب أهل العراق وكان من أهل الخير، وعرض عليه القضاء فلم يقبله. مات محمد بن نصر المتعبد وكانت له رواية، ومحمد بن أبي الحميد السوسي، وزيدان بن إسماعيل الأزدي وكانا في الثقات في العلم) . وفي سنة 294، (خرج إبراهيم بن حبشي بن عمر من الأندلس بالعسكر لملاقاة أبي عبد الله الشيعي بمدينة طبنة في النصف من المحرم. وفيها عزل عبد الله ابن محمد بن مفرج المعروف بابن الشاعر عن قضاء قسطيلية، ورفع إلى زيادة الله وهو بالأربس، مخشبا، فأمر بضربه وقيده وحبس بحبس الأربس، وذلك أن وجود قسيلية رفعوا عليه إلى زيادة الله، تظلموا منه، وكتب إلى عامله بعزله وتخشيبه ورفعه إلى بابه فقدم الكتاب والعامل غائب، وتبادر بعض القوم الذين رفعوا عليه إلى مجلس القضاء الذي كان فيه فسبوه وهموا بالبسط إليه فأمر غلمانه بأخذهم وضربهم وقيدهم وحبسهم، ثم قدم القدم العامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقد نفذ فيهم كلما أحب، فأوثقه حديدا، وخشبه، ووجه إلى زيادة الله فضربه بالدرة وحبسه، وذلك للنصف من محرم. وفيها، أنصرف زيادة الله من الأربس إلى رقادة، واستخلف على الجيش بالأربس إبراهيم بن أحمد بن أبي عقال. وبنى زيادة الله سور مدينة رقادة بالطوب والطوابي، والتزم التنزه على البحر وغيره، واتباع اللذات، ومنادمة العيارين والشطار والزمامرة والضراطين. وكان إذا فكر في زوال ملكه وغلبت عدوه على أكثر مواضع عمله، يقول لندمائه (املأ اأسقني! من القرن يكفيني!) وأشتد كلفه بغلام له يسمى بخطاب فكتب اسمه في سكة الدنانير والدراهم، ثم وجد عليه فحبسه وقيده، فغنت له جارية تستعطف على الخطاب (بسيط) : يا أيها الملك الميمون طائره ... رفقا فأن يد المعشوق فوق يدك كم ذا التجلد والأحشاء خافقة ... أعيذ كفك أن تسطو على كبدك فرض عن الخطاب وأعاده إلى منزلته. وكان إذا أظهر الغم بأمره الشيعي أخذوا له في التسلي فغنت جارية له يوم (كامل) : أصبر لدهر نال م ... نك فهكذا مضت الدهور فرح وحزن مرة ... ولا الحزن دام ولا السرور فقال لها (صدقتني!) وأمر لها بصلة. وفيها، استعفى حماس بن مروان عن القضاء بالقيروان، فعوفي، وولي زيادة الله مكانه محمد بن جيمال، فلم يزل قاضيا إلى أن هرب زيادة الله. وفيه، دخل أبو عبد الله الشيعي مدينة بغاية بالأمان، في شعبا، فعظم غم زيادة الله بذلك، وأستشار ابن الصائغ في أمره، فقال له (ارحل إلى مصر سرا وأستخلف على إفريقيا قائدا تجعل إليه أمر العساكر، وتترك له الأموال) فنظر في ذلك، وأمر بشراء خمسمائة جمل لرحيله. ثم ظهر له خطأ هذا الرأي، وخشي قيام الناس عليه وثورتهم به، فأمسك. وشعر إبراهيم بن حبشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ابن عمر بما كان هم زيادة الله من الهرب فتعرض له حتى أدخله قصر البحر وأراه ما زخرفه له فيه وقال: (يا سيدي! أين البنية من قصر جدك القديم الذي صبر فيه على الحصار أعوام كثيرة وقد أبغضه جل أهل بلده! وقام عليه رؤساء جنده، فبقى مقيما فيه وضابطا له، حتى أظهره الله عليهم، ومكنه منهم! فكيف بك وقد كثر مالك وأحبك رجالك؟ وأهل إفريقيا معك! وإنما خرج عليك شيخ لا يعرف مكانه في البربر وأنت في حصن منيع! والله يدفع عنك! فدفع ما يقال لك! فإنك الظافر بحول الله وقوته، إن شاء الله) فأصغى زيادة الله غالى قوله، وسر بما سمع منه وجعل يرسل الرجال والأموال إلى الأربس وهو أقصى ثغوره. فكانت خيل أبي عبد الله الشيعي تغير على الأربس من باغاية من الأربس. وفيها قدم حبشي وابن حجر وابن عباس من بلد الروم ومعهم رسول صاحب القسطنطينية. وكساهم زيادة الله وأنزل الرسول في الملعب بقرب رقادة وجمع الناس للمباهاة بهم فكان جمعا عظيما. وفيها ضرب القباب والأخبية حوالي مدينة رقادة وأخذ أهل مدينة القيروان بالعسس حولها والمبيت في الأخبية المضروبة جوارها. وجدد زيادة الله الحشد ورغب الناس بالأموال وفيها توفي محمد بن أبي الهيثم اللؤلؤي الفقيه، ولي قهرب الحجارة في شعبان. وفي سنة 295، خرج زيادة الله إلى مدينة تونس في شهر محرم (ليحاول أموره فيها.) . (وفيها استسقى القاضي أبو العباس بن جيمال بالناس يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر. وفيها عزل ابن الوليد عن الصلاة وولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 مكانه ابن يزيد للنصف من شهر ربيع الأخر. وفيها توفي أبو الحسن بن حاتم الرسول إلى بغداد، في شوال. وفيها توفي أبو موسى عيسى بن مسكين القاضي فصلى عليه أبو جعفر أحمد بن خالد السهمي في قريته بالساحل. و (فيها) توفي (أبو عياش) أحمد بن موسى بن مخلد (الفقيه وكان يحمي إلى غافق، وكان من أصحاب سحنون بن سعيد) ، وكان زاهدا ورعا متعبدا فاضلا (وعالما بما فيه كتبه، كثير لحكاية، سمع منه بشر كثير من أهل القيروان، ودف بباب سلم. وفيها، مات سعيد بن إسحاق الفقيه، مولى كلب وكان من رجال سحنون بن سعيد، وسمع من جماعة من إفريقية وكان كثير الرباط والرواية والجمع للحديث، وكان مولده سنة 212) . وفقي سنة 296، وصل خليل (أبي عبد الله الشيعي) (الداعي) إلى قسطيلية، وانهزم أبو مسلم منصور بن إسماعيل، (وشبيب بن أبي الصارم، وانقبضا) إلى مدينة توزر، وانبسطت الخيل (هنالك واحترقت القرى) وأفسدت ما مرت به من النعم. وكان أبو عبد الله قبل ذلك قد أمر أصحابه بالكف عن الغارات وألا يرموا مكانه، فأقاموا نحو شهرين لم تظهر له حركة، حتى قيل فيه نأنه مريض وقيل: بل مات. ولما وصل الخبر بانبساط جيوش أبي عبد الله إلى زيادة الله هالة وراعه، وارتجت الحضارة واضطربت أحوال الجند ويئسوا من البلد وخافوا على ذراريهم وأهاليهم السبي والاسترقاق: وجعل عبد الله بن الصائغ يقول لزيادة الله (هذا ما تضيع الشيخ السوء أبي مسلم ومن سوء نظره!) وكان ابن الصائغ كاتبا لأبي مسلم في أيام إبراهيم بن أحمد، ففسدت الحال بينهما، ولم يزل يرفع على أبي مسلم يومئذ حتى عزل. ثم لما دارت هذه الدائرة بقسطيلية، نسب ذلك ابن الصائغ إليه وأوقد زيادة الله عليه وأغراه به حتى كتب إلى شبيب بن أبي الصارم يأمره بضرب عنق أبي مسلم وصلبه يوما وليلة ثم يدفنه. وبعث إليه من ثقاته من يحضر تنفيذ ذلك فيه فلما وصل الكتاب إلى شبيب اغتنم ولم يجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 بلدا من التنفيذ فدفع الكتاب إلى أبي مسلم وهو مع يومئذ بتوزر وقال له: (عز على ما وردني فيك!) فلما قرأه أبو مسلم قال (أنا الله وأنا إليه راجعون! خدع الصبي الأحمق وذهب ملكه) ثم قبض بيده اليسرى على لحيته وصفع باليمنى قفا نفسه صفعات، وقال: (هذا جزاء من عصى الله وأطاع الآدميين، وسفك الدماء المحرمة! أما الله! ولو تركته ولم أشر عليه بقل عمومته وأخوته وشغلتهم بهم ما دار على من قبله ما دار!) ثم قال لشبيب (أمهلني أتوضأ وأصلي ركعتين أختم بهما عملي!) ففعل وصلى ودعا وبكى ثم قدم، فضربت عنقه وصلب ودفن في اليوم الثاني وذلك في النصف من صفر. وفيها توفي أبو العباس بن أبي خدش صاحب المظالم أيام ابن عبدون. وفيها مات أبو عقال بن خير الفقيه، وكان يذهب مذهب أهل العراق، وكتب لابن عبدون أيامه على القضاء. ذكر خروج بن الأغلب من أفريقية وفيها، زحف أبو عبد الله الشيعي إلى الأربس ونازلها، وبها إبراهيم بن أبي الأغلب في عساكر أفريقية وجمهور أجنادها، فقاتلها حتى أخذها عنوة ودخلها بالسيف لست بقين من جمادى الأخيرة. فهرب إبراهيم بن أبي الأغلب وإليها، ونجا في جماعة من القواد والجند. ولجأ أهل الأربس ومن كان اجتمع فيها من فلال العسكر جامعها. وركب بعض الناس بعضا وقتلهم الشيعي (لعنه الله) أجمعين حتى كانت الدماء تسيل من أبواب المسجد كما يسيل الماء من وابل الغيث. وقيل إنه قتل داخل المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثلاثين ألف رجل. وكان قتلهم من بعد الصلاة العصر إلى أخر الليل. فلما أصبح، وقد فرغ من القتل والنهى والسبي، نادى بالرحيل، وانصرف إلى مدينة باغاية، إذ خشي أن يحاشد عليه من أهل أفريقية. هروب زيادة الله من رقادة واتصل الخبر بزيادة الله في اليوم الثاني، وهو يوم الأحد لخميس بقين من جمادى الأخيرة، فسقط ما بيده، وعلم إنه خارج عن ملكه. وجعل ابن الصائغ يطفئ الخبر ويكذبه له، ويظهر أن الفتح كان لهم على الشيعي. وبرح على أبواب مدينة رقادة: (من أراد اللحاق وجزيل العطاء، للفارس عشرون دينارا وللراجل عشرة دنانير، فليلحق بقصره الأمير!) فلما سمع الناس ذلك بدر إليهم سوء الظن، وعلموا أن الدائرة كانت على أصحاب زيادة الله، وماجوا فيما بينهم. وجعلت الخاصة وأهل الخدمة يفرون من رقادة. فلما رأى ذلك زيادة الله، أخذ في شد الحمال بما خف من الجوهر والمال، وحرك خاصته للخروج معه. فلما كان وقت صلاة العتمة من ليلة الاثنين لأربع بقين من جمادى الأخير، ركب فرسه، وتقلد سيفه، وقدم الحمال فمر من بين يديه، هاربا أعلى عيون أهله وحرمه وولده. فأخذت جارية من جواريه عودا ووضعته على صدرها، وغنته على حمله معه، فقالت (منسرح) : لم أنسن من الوداع موقفها ... وجفنها من دموعها غرق قولها، والركاب سائرة: ... (تركنا سيدي وتنطلق أستودع الله ظبية جزعت ... للبين والبين فيه لي حرق) فدمعت عينا زيادة الله عند سماعها، وشغله سوء الموقف وضيق الحال عن حملها معه. وخرج عن مدينة رقادة متوجها إلى مصر في ثلث الليل الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ومعه وجوه رجاله وفتيانه وعبيده، (وأخذ طريق الجادة) حتى لحق بمدينة إطرالبس. وكان عبد بن الصائغ يتقلد جميع أوامره (وينظر على أهل خدمته) فوطأ خزان الأموال على انقطاع ثلاثين حملا من المال، في كل حمل ستة عشر ألف مثقال؛ فواعدهم موضعا يجتمع فيه معهم؛ فأخطئوه في الليل، وخرجوا إلى مدينة سوسة؛ فقبض عليهم ابن الهمداني عاملها، وخزنها في قصر الرباط بسوسة، حتى صارت إلى الشيعة. وأصبح الناس من ليلة خروج زيادة الله هاربا إلى مدينة رقادة، فأنتهبوها وأخذوا من بقايا أموال بني الأغلب ومتاعهم وصنوف الآنية من الذهب والفضة وما لا يحيط به وصف. ورجع القوى يأخذ من الضعيف ما سبق إليه. والهارب أبو مضر زيادة الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الأغلب، المعروف بخزر ابن إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال التميمي. وكانت ولايته بأفريقية خمس سنين وأحد عشر شهرا وأربعة أيام. وكانت إمارة بني الأغلب بأفريقية مائة سنة، وإحدى عشرة سنة ن وثلاثة أشهر. ثم أن إبراهيم بن الأغلب، المنهزم من الأربس، أقبل إلى القيروان فيمن بقى معه من القواد. قفنزل بدار الإمارة. وبعث في وجوه الناس، وجعل يظهر عندهم عتب زيادة الله، ويأخذ في انتقاصه، وأنه أسند أمر المسلمين إلى من كان يسعى في زوال ملكه. وقال للناس: (أن كتامة مفسدون في الأرض ناصحون لله ولهدا الدين، وأمدوني بالرجال والأموال) وحضر صلاة الظهر؛ فسلم على رأس الإمارة؛ ثم أجتمع إليه الناس وقالوا له: (بلدنا لا يعرف الفتن، ونحن لا نقوم بالحرب؛ وأنت لم تستطع دفع كتامة بالعساكر والسلاح والمال! فكيف نقوى نحن على دفعهم بأموال؟) ثم صاح الناس به: (لا طاعة لك علينا، ولا بيعة في أعناقنا! فأخرج عنا!) فركب فرسه، وشهر سيفه ودف الفرس، ونجا هاربا حتى خرج من باب أبي ربيعة، ولحق بزيادة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وركب عبد الله بن الصائغ في البحر يريد المشرق؛ فألقاه البحر بمدينة طرابلس، وبها زيادة الله. فأتى إليه به؛ فقربه وأدناه، وعاتبه في فراره عنه؛ فأعتذر إليه ابن الصائغ بما اخذ من الحيرة والخوف؛ فهم زيادة الله باستيحائه؛ فأشار إليه كل من معه من أهله وقواده بقتله؛ فأمر راشدا الأسود بضرب عبقه؛ فقتله. وكان يحكى علي بن إسحاق بن عمران المتطبب إن عبد الله بن الصائغ كان، إذا رأى راشدا الأسود قبل ذلك، أربد وجهه؛ وإذا ذكر له تنكر سروره، حتى يعرف ذلك كل من حضره. قال: فسألته يوما عن ذلك؛ فقال لي: (تحدثني نفسي أن ملك الموت يقدم علي في صورة راشد الأسود، عبد قبضه لروحي؛ فإذا رأيته، لم املك من البصر شيئاً) ذكر دولة الشيعة وبلغ أبا عبد الله الشيعي هروب زيادة الله. فتحرك من الأربس يريد القيروان. فهال الناس أمره، وخافوه على أنفسهم. وخرج إليه الفقهاء ووجوه الناس؛ فقطع بهم محبوب بن عبد ربه الهواري بوضع يعرف بحفص باروقس، بين مدينة جلولا وحمام السرادق؛ وذلك يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأخير؛ فانصرفوا أقبح انصراف، وكتبوا إلى عبد الله، يذكرون ما دار عليهم، ويعنذرون بذلك إليه، ويسألونه ان يحد لهم موضعا يلقونه، فأجابهم: (موعدكم ساقية ممس يوم السبت.) وبعث أبو هبد الله غروية بن يوسف الملوسي بقطيع من الخيل لضبط مدينة رقادة، وتحصين ما أدرك بها من الأموال؛ فنزل عليها يوم الجمعة لانسلاخ جمادى الأخير؛ فألقى الناس بين داخل وخارج؛ فأمر الخارج ألا يعود، والداخل بالخروج فارغا. ولم يكن منه إلى الناس إلا خير. وفيها أقبل إلى مدينة رقادة في سبعة عساكر، وعدد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فيها، على ما ذكر ثلاثمائة ألف بين فارس وراجل. فوصل إليهم يوم السبت غرة رجب؛ فخرج إليه أهل القيروان من الفقهاء والوجوه وجلة التجار؛ فالتقوا به على ساقية ممس، وأظهروا له الرغبة في دولته، وسألوه الأمان، فأمنه، (وصوب فعلهم) ، ووعدهم بالإحسان والعدل فيهم، وكان قد وعد قبل ذلك قواد كتامة ورجالها بأن يوكلهم القيروان ويسلط أيديهم فيها ويقطعهم جميع أموال أهلها. فلما سمعوا بأمنته للقوم، ساءهم ذلك وكلموه فيه وذكروه ما كان وعدهم به. فتلا عليهم: وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها) وقال لهم: (هي القيروان) فقلوا قوله وسلموا لأمره ثم تقدم بإنزال عساكره حوالي مدينة رقادة فدخلها وقارئ يقرأ بين يديه: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " (إلى آخر) الآية ويقرأ: " كم تركوا من جنات وعيون " إلى آخر السورة. ونزل بالقصر المعروف بقصر الصحن وبعث غرويه بن يوسف إلى مدينة سوسة فأمن أهلها وأتاه بالثمانية والعشرين الحمل من المال التي كانت مخزونة بقصر الرباط المتقدم ذكرها وأمن من ألفى بالقيروان من بني الأغلب وقوادها الذين تخلفوا عن زيادة الله، وأمر بقتل السودان من موالي بني الأغلب وقتل إبراهيم بن بربر بن يعقوب التميمي المعروف بالقوس، فقتل خنقا إذ كانوا هموا بالوثوب عليه. وقال أبو عبد الله: (ما أمنت بأفريقية حتى قتلت القوس!) وبعث أبو عبد الله الشيعي إلى طرابلس، فأتى منها بأخيه أبو العباس المخطوم، وكان بها محبوسا، وبأبي جعفر الخزري، وبأمن عبيد الله الشيعي، وكانت هنالك مع الخزري، فقدموا عليه. وكان أبو العباس المخطوم عجولا، كثير الكلام، ضعيف العقل فأراد أن ينفى من القيروان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 كل من يذهب من الفقهاء. مذهب أهل المدينة، فلم يجبه أخوه أبو عبد الله إلى ذلك. وولي أبو عبد الله الشيعي على مدينة القيروان الحسن بن أحمد بن علي بن كليب المعروف بابن أبي خنزير، وأمره بقتل من خرج ليلا أو شرب مسكرا، أو حمله أو وجد عنده. وولي على مدينة القصر القديم خلف بن أحمد بن علي بن كليب، أخاه ابن أبي خنزير، وأمره بمثل ذلك. وأمره بأن تزداد في الأذان بعد (حي على الصلاة) (حي على خير العمل) ، وأسقط من أذان الفجر (الصلاة خير من النوم) وأمره بجمع ما انتهب من الأموال بمدينة رقادة، وضم عبيد زيادة الله ووقف جواريه وولي النظر في ذلك أحمد بن فروخ الطبين الأحدب. وولى على السكة أبي بكر الفيلسوف المعروف بابن القمودي، ونقش فيها: " الحمد لله رب العالمين " وسميت السيدية. وكان نقش خاتم أبي عبد الله: " فتوكل على الله أنك على الحق المبين " وفي الخاتم الذي يطبع به السجلات: " وتمت كلامات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " ووشم في أفخاذ الخيل: (الملك لله) وكتب في بنوده: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " و " قل جاء الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا " وآيات كثير من القرآن في هذا المعنى. وأمر الصلاة على علي بن أبي طالب في الخطب بأثر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى فاطمة، والحسن والحسين وأظهر التشيع في علي وماذة من قدم عليه من أصحاب النبي - عليه السلام -. وفيها، ولي أبو عبد الله على قضاء مدينة القيروان محمد بن عمر ابن يحيى بن عبد الأعلى المروزي من جند خراسان، يوم الخميس لأثنتا عشرة ليلة بقيت من شعبان، فقعد في الجامع وأمر بإسقاط صلاة الإشفاع في شهر رمضان وأجنح في ذلك على الفقهاء، وأنكر عليهم الاقتداء بفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 عمر بن الخطاب في القيام، وتركهم الاقتداء بفعل علي بن أبي طالب في زيادة (حي على خير العمل) في الأذان، وقال لهم: (أعملوا بمذهب أهل البيت واتركوا الفضول) . فلما كان في أول يوم من شهر رمضان، أقبل المروزي إلى المسجد الجامع، فوجد في حائط المسجد في القبلة، وفي موضع جلوسه، مكتوبا: " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها " إلى أخر الآية. فلما رآه، سأل القوم هل رأوا من جلس في ذلك الموضع فقالوا: (لا) فأمر بموحه، وأنتقل عن الجلوس بذلك الموضع. ووقف يوم على المروزي رجل محمق خليع، والناس حوله، فقال له: (قد لطفت لنا - أصلح الله - في قطع قيام شهر رمضان فلو احتلت لنا في ترك صيامه، لكفيتنا مئونته كلها) فقال له المروزي: (أذهب عني يا ملعون) وأمر بدفعه. وأمر عبد الله الشيعي وجوه كتامة بدعوة الناس إلى مذهبهم من التفضيل لآل علي البراءة فدخل في ذلك معهم كثير من الناس فلذ لك سميت دعوته، لأتباعهم رجالا من (أهل) المشرق. ذكر توجه الداعي إلى سجلمانة واجتماعه بعبيد الله الشيعي بها ونظر أبو عبد الله في إقامة الجيوش والاستعداد والغزو إلى سجلمانة. وكان بها عبيد الله الشيعي وابنه أبو القاسم محبوسين. وكان أبو عبد الله الداعي يدعو إلى عبيد الله الشيعي ويزعم إنه إلمام من آل علي. قلما كمل له ما أراد من جوشه وجهازه وعدده وآلات وسفره، أستخلف على إفريقية أخاه أبا العباس وأبا زاكي تمام بن معارك الأجاني. ثم خرج من رقادة يوم الخميس من للنصف شهر رمضان في جموع كالدبي النتشر ومعه وجه رجاله وأهل دعوته وفيهم إبراهيم بن محمد الشيباني المعروف بأبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 اليسر الكاتب وزياد بن خلفون المتطبب مولى بن الأغلب. وغزا معه أحمد بن سيرين، الفقيه بمذهب أهل العراق، راجلا يرى إنه محتسب للثواب في طلب الأمام وبهذا السبب ولي قضاء مدين برقة بعد ذلك. فسار ابو عبد الله حتى حل بمدينة تيهرت، فخلها بالأمان وقتل بها من الرستمية يقظان بن أبي يقظان، وجماعة من أهل بيته. وبعث برؤوسهم إلى أخيه أبي العباس وأبي زاكي خليفته برقادة؛ وطوفت بالقيروان، ونصبت على باب مدينة رقادة. وانقضت دولة بني رستم بتيهرت؛ وكان لها مائة وثلاثون سنة. ثم ولي أبو عبد الله على تيهرت أبا حميد دواس بن صولات اللهيصي، وإبراهيم بن محمد اليماني بالهواري وكان يلقب السيد الصغير. ثم نهضة حتى احتل على مدينة سجلماسة يوم السبت لست خلون من ذي الحجة. فأحاط بها في جموعه وجيوشه، وحاربها يوم الأحد لسبع خلون منه، ففتحها في هذا اليوم، وأخرج منها عبيد الله الشيعي وابنه أبا القاسم، وكانا محبوسين في غرفة عند مريم بنت مدرار. فلما بصر به عبد الله الشيعي ترجل له، وخضع بين يديه، وبكى من إفراط سروره به. ثم مشى أمامه راجلا حتى أنزله في الفازة، وسلم إليه الأمر، وقال لمن معه: (هذا هو مولاي ومولاكم! قد أنجز الله له وعده، وأعطاه حقه، وأظهر أمره!) وانتهب أبو عبد الله الشيعي ورجاله سجلماسة، وأحرقت. وهرب منها اليسع صاحبها في جماعة من بني عمه ليلا، فطلبه أبو عبد الله الشيعي، فلم يقدر عليه. وفيها، مات إبراهيم بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن حسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ودفن في داره بآرشقول. وفيها، ومات أبو عبد الرحمن بكر بن حمادة بن سهر بن أبي إسماعيل، وهو زناتي، في شوال بقلعة ابن حمة، بجوفي مدينة تيهرت، وبها كان مولده ومنشأه، وصلى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 موسى بن الفارس الفقيه، وهو يوم مات ابن ست وتسعين سنة، ورحل بكر إلى المشرق في سنة 217، وهو حدث السن، فسمع من الفقهاء وجلة العلماء وكان عالما بالحديث وتميز الرجال، وشاعر مفلقا ومدح المعتصم ووصله بصلات جزيلة، أجتمع بحبيب وصريع ودعبل وعلي بن الجهم وغيرهم من شعراء العراق وله أبيات إلى المعتصم يحرض فيها على دعبل وهي (طويل) : أيهجو أمير المؤمنين ورهطه ... ويمشي على الأرض العريضة دعبل؟ أما والذي أرسى ثبيرا مكانه! ... لقد كانت الدنيا لذاك تزلزل ولكن أمير المؤمنين بفضله ... بهم يعفو أو يقول فيفعل فعاتبه حبيب فيه وقال له: (قتلته، والله! يا بكر) فقال في قصيدته هذه طويلة وعاتبني فيه حبيب وقال لي: ... (لسانك محذور وسمك يقتل) وأني، وأن صرفت في الشعر منطقي ... لأنصف فيما قلت فيه وأعدل وفيها مات محمد بن الحسن المعروف بابن ورصيد من قسطنطينية، وكانت له رحلة وسماع من الفقهاء، ومات محمد بن يزيد الفارسي من أهل القيروان له سماع من سحنون ومن ابنه محمد. وفي سنة 297، غدر قوم من البربر يعرفون بني خالد باليسع بن مدرار واستأمنوا به إلى أبي عبد الله الشيعي فأمنهم، وذلك في مستهل المحرم. وفيها، ولي عبيد الله على مدينة سجلماسة إبراهيم بن غالب المزاتي وترك معه خمسمائة فارس من كتانة، ورحل بالعساكر إلى أفريقية. وفيها قتل بالقيروان، في صفر، إبراهيم بن محمد الضبي المعروف بابن البرذون وأبو بكر بن هذيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الفقيهان، وكانت عندهما رواية، وأدب، وتصرف في فنون منة العلم وكان محمد الكلاعي وأصحابه على مذهب أهل العراق وهو الجائز عند الشيعة لما عنده من الترخيص فسعوا بها إلى أبي العباس المخطوم وذكروا عندهما أنهما يطعفان في الدولة، ويشوبان على علي ابن أبي طالب بأبي بكر وعمر وعثمان، فحبسهما المخطوم ثم أمر ابن أبي خنزير بقتلهما بعد أن يضرب إبراهيم بن الرذون خمسمائة سوط، إذ كان القول فيه أشنع، والسعي عليه أعظم، فغلط ابن أبي خنزير فيهما، وضرب ابن هذيل، ثم قتله وقتل ابن البرذزن بلا أن يضربه، وذلك في صفر، وطيف بهما في سماط القيروان، مجرورين مكشوفين ثم صلبا بعد ذلك. وكتب أبو العباس إلى أخيه بالخبر فعنفه عليه، ولامه فيه، وقال: (قد افسد علينا من أهل البلد وأهله ما كانت بنا حاجة إلى صلاحه) . وفيها خالف علي أبي عبد الله الشيعي محمد بن خزر بن صيلات الزناتي وأقبل إلى مدينة تيهرت وطمع بأخذها وأخرج دواس بن صولات منها وأن يقطع بابي عبد الله وبمن معه في انصرافهم من سجلماسة. وباطنه على ذلك قوم من أهل تيهرت يعرفون بني دبوس، فاستدعوه فوشى بهم إلى دواس عامل الموضع فحبسهم بحصن برقجانة المعروف بتيهرت القديمة وحارب محمد بن خزر تيهرت وتغلب على بعض أرباضها. فلما رأى ذلك دواس هرب إلى ابن حمة صاحب القلعة، ووثب أهل حصن برقجانة على بني دبوس عندهم، فقتلوهم. ودفع أهل تيهرت محمد بن خزر، وحاربوه حتى قتلوه ثم كاتبوا دواس، فأنصرف إليهم. وولي عبيد الله على مدينة سجلماسة إبراهيم بن غالب المزاتي، وخلف معه ألفي فارس من كتامة. وتوجه عبيد الله وأبو عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الله نحو أفريقية ومعهم بنو مدرار وأهلهم مكبلين، فلما بلغوا مدينة أربا أتصل بهم خبر محمد بن خزر، فساروا نحوه فهرب، ودخل الرمال. وأمر عبيد الله بقتل اليسع بن مدرار، فقتل، وهو مريض. وفيها ثار أهل سجلماسة بإبراهيم ابن غالب المزاتي عاملها فقتلوه ومن كان معه من الشيعة، ومن كاتمة، وذلك يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، وولوا على أنفسهم وأسول ابن الأمير ابن مدرار. التعريف بأمر سلجماسة من حين ابتدائها إلى هذه السنة المؤرخة كان أبو القاسم سمغون بن واسول المكناسي صاحب ماشية كثيرة، ينتجع موضع سلجمانة، ويتردد إليها وكان براجا، يجتمع الناس فيه من قبائل البربر المجاورين له يتسوقون فيه. فاجتمع قوم من الصفرية على أبي القاسم، وسكنوا معه هنالك في خيمات. ثم شرعوا في البناء في حدود الأربعين ومائة. ثم قدموا على أنفسهم عيسى بي يزيد الأسود وولوه أمرهم. ثم أنكروا عليه أشياء فأخذوه وشدوا وثاقه. وربطوه إلى شجرة في رأس جبل، وتركوه حتى مات ثم ولى أبو القاسم سمغون المتقدم ذكره، قيل إنه ابن واسول، وقيل ابن مدلان فلم يزل واليا عليهم إلى أن مات سنة 168. ثم ولي الياس ابن أبي القاسم، وسمي أبا الوزير، فبقي سنتين، وقام عليه أخوه. ثم ولي أخوه أليسع بن سمغون بن مدلان المكناسي في سنة 170 وسمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 بالمنتصر، وكان جبارا عنيدا، فظفر بمنم عانده من قبائل البربر وقهرهم وأذلهم، وأظهر الصفرية، وأخذ خمس معادن درعةة. وعظم قدره في ذلك الوقت. وموضع سلجمانة قد عمر بالديار دون سور. ثم زاد ملك اليسع المذكور، وأمر ببناء السور ن، أسفله بالحجارة، وأعلاه بالطوب. فقيل أ، بناءه من ماله، لم يشاركه فيه أحد. فسكن سلجمانة، وتوفي في سنة 208، فكانت مدته بها نحو أربعة وثلاثين سنة. ثم ولى ابنه مدرار بن اليسع، وهو المنتصر بن سمغون المتقدم ذكره، فلم يزل واليا عليها إلى أن اختلف الأمر بين ولديه ميمون المعروف بابن أروا (وهي أمه بنت عبد الرحمن بن رستم صاحب تبهرت) وابنه المعروف بابن بقية. فتنازعا في الأمر بينهما، وتقاتلا ثلاثة أعوام. فمال مدرار والدهما مع ابنه ميمون بن الرستمية، وأخرج أخاه ابن بقية من سلجمانة. فولى ميمون بن مدرار، وخلع أبوه لنفسه، ثم قام عليه أهل سلجمانة، فجعلوه وأرادوا خلع أبيه وتقديم أخيه ابن بقية، فأبى أن يتأمر على أبيه، فأعادوا أباه مدرار بعد خلعه، ثم سمع أهل سلجمانة إنه استدعى ابنه ابن الرستمية فيمن أطاعه من درعة، فتوجهوا إلى مدرار وحصروه، ثم خلعوه أيضا وقدموا ابن بقية فولى أمرهم. فلم يزل واليا عليها إلى أن مات سنة 263. وفي دولته مات أيوه مدرار. ثم ولي أليسع بن ميمون بن مدرار بن اليسع بن سمغون بن مدلان المكناسي في صفر سنة 270 وتلقب بالمنتصر على أسم جده وهو الذي سجن عبيد الله بسلجمانة حين عرف عنه إنه قام بدعوته الشيعي. ثم زحف إليه الشيعي من أفريقية، وفر أمامه، وخرج عبيد اله من سلجمانة من سجنه، واستولى على المملكة. ثم ظفر به في سنة 296، فقتله، فكانت مدة اليسع ابن مدرار المذكور بسلجمانة سبعا وعشرين سنة. وانقرضت دولة بني مدرار بسلجمانة وما والاها، فكانت مائة سنة ونحو ستين سنة. فولي عليها الشيعي عامله فوثب عليه أهلها فقتلوه، فكانت مدته بها خمسين يوما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ذكر وصول عبيد الله الشيعي إلى رقادة ونبذ من أخباره وما قيل في نسبه وفيها وصل عبيد الله إلى مدينة رقادة، ومعه ابنه أبو القاسم، (جعفر بن على الحاجب، وأبو الحسن الطيب بن إسماعيل المعروف. بالحاضن) ولقبه الفقهاء ووجوه القيروان، فدعوا له وهنئوه وأظهروا (له) السرور بأيامه، وسألوه تجديد الأمان لهم (أنتم آمنون في نفسكم أو ذراريكم!) ولم يذكر الأموال، فعاوده بعضهم وسألوه التأمين لهم في الأموال، فأعرض عنهم) فخافه أهل العقل من ذلك الوقت. ودخل مدينة رقادة (وعليه ثوب خز أدكن، وعمامة مثله، وتحته فرس ورد، وأبو القاسم ابنه خلفه عليه ثوب خز خلوقي، وعمامة مثله وتحته فرس أشقر، وأبو عبد الله إمام عبيد الله، وعليه ثوب توتي، وظهارة كتان، وعمامة، ومنديل إسكندراني، وتحته فرس كميت وبيده سبنية يمسح بها العرق والغبار عن وجهه، والناس حواليه بين يديه أقواط يسلمون عليه) في القصر المعروف بالصحن، ونزل ابنه بقصر أبي الفتح وتسمى عبيد الله بالمهدي. واختلف في نسبه فادعى هو إنه عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر ابن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - وهو مذهب الحكم المستنصر بالله الأموي، وقال سائر الناس إنه ابتسامة للطالبين دعوة باطلة، وذكروا عن أبي القاسم بن طباطبا العلوي إنه قال: والله الذي لا أله إلا هو! ما عبيد اله الشيعي منا، ولا بيننا مبينه نسب! وقال مقاتل: هو عبيد اله بن محمد بن عبد الرحمن البصري. وقد فضح القاضي أبو بكر ابن الطيب الباقلاني نسبه في (كتاب كشف الأسرار، وهتك الأسرار) وذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أنهم قرامطة، وأن أبا عبد الله الشيعي أحدث لهم هذا المذهب، ونسبهم هذا النسب. وحكي بعض المؤرخين أن جعفر بن علي كانت له جارية، فغشيها رجل من القرامطة، وقيل من اليهود، دفعت له مالا، فكان يهواها وتهواه، وقتلت جعفرا مولاها، فولدت جد عبيد الله هذا. فمن خفيت عليه هذه القصة قال إنه علوي، ومن علمها علم دعوته وكذبه. والله اعلم! هكذا ذكر ابن القطان في نسبه. ونقش في خاتمه: أفمن المهدي يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون! واستحجب أبا الفضل جعفر بن عبي وأبا أحمد جعفر بن عبيد الله، وأبا الحسن طيب بن إسماعيل المعروف بالحاضن، وأبا سعيد عثمان بن سعيد المعروف بمسلم السلجماسي. واستكتب أبا اليسر إبراهيم بن محمد البغدادي الشيباني. وولي على بيت النال أبا جعفر الخزري وعلى ديوان الخراج القاسم بن القديم وعلى السكة بكر الفيلسوف المعروف بابن القمودي وعلى العطاء عبدون بن حباسة وعلى قضاء مدينة رقادة المصلح بن هارون الملوسي. وأقر علي عمالة القيروان الحسن ابن أبي خنزير وعلى القضاء بها المروزي. وأمر أن تقلع من المساجد والمواجل والقصور والقناطر أسماء الذين بنوها، وكتب عليها اسمه. وأظهر عبيد الله التشيع القبيح وسب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه حاشى علي بن أبي طالب، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وزعم أن أصحاب النبي - رضي الله عنهم - ارتدوا بعده غير هؤلاء الذين سميناهم ومنع المروزي الفقهاء، أن يفتي أحدهم إلا بمذهب زعم إنه مذهب زعم إنه مذهب جعفر بن محمد منه سقوط الحنث عمن طلق بالبته، وإحاطة البنات بالميراث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وأشياء كثيرة يطول ذكرها. ومدحت الشعراء عبيد الله بالكفر، فاستجازه. وكان فيما مدح به شعر لمحمد البديل، كاتب أبي قضاعة، وفيه (بسيط) : حل برقادة المسيح ... حل بها آدم ونوح حل بها أحمد المصطفى ... حل بها الكبش والذبيح حل بها الله ذو المعالي ... وكل شيء سواه ريح - لعنه الله، وغضب عليه وأخزى القائل والقول فيه! - وكانت أيمان كتامة أول دخول أفريقية: (وحق عالم الغيب والشهادة، مولانا المهدي الذي برقادة) حتى كتب بعض أحداث القيروان هذين البيتين، وتلطفوا في وصولها إلى عبيد اله من حيث لا يعلم، وهي (مجتث) : الجور قد رضينا ... لا الكفر والحماقة! يا مدعي الغيوب ... من كاتب البطاقة؟ فاشتد عليه ذلك لما وصل ليه، وكشف سرا عن كاتب ذلك، فلم يقع له على خبر فيها. خالف بلد كتامة بباب مع قبائل من البربر، واجتمع إليه عدد عظيم، فكتب عبيد الله إلى أن تمسك بطاعته من كتامة، يأمرهم بمحاربتهم. فقتل أكثرهم، وأخذ بباب أسيرا، وقرى كتاب الفتح بمدينة القيروان ورجعت قبيلة زناتة إلى تيهرت، وحاصروا دواس بن صولات فيها فأخرج إليهم عبيد الله قائدا يعرف بشيخ المشايخ فهزم زناتة، وقتل كثيرا منها. وفيها خرج أبو القاسم يوم الفطر إلى المصلى بمدينة رقادة وصلى بالناس وخطبهم وخرج مع أبو عبد الله الشيعي وجماعة قواد كتامة وهو أول عيد صلى فيه بأفريقية، وقرى بذلك كتاب عبيد الله على منبر القيروان وأعمالها. وفيها خرج أبو عبيد الله الشيعي، مع جماعة من قواد كتامة ودعاتهم إلى أرض المغرب، ولنا ظهر فيه من الالتياث، وفساد الطرق، وقيام القبائل على عمالهم، فافتتح المدن، وقتل وسبى. ووردت له كتب كثيرة بالفتوح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فقرأت بأفريقية. وفيها مات جبلة بن حمود بن جبلة الصدفي مولى الإمام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكان فقيها زاهدا، من رجال سحنون وممن نبذ الدنيا وتركها، وكان أبوه من خدمة السلطان وأهل الأموال، فنابذه في حياته، ثم تبرأ من تركته بعد وفاته، وكانت تركته نحو ثمانين مثقال. وفيها مات دعامة ابن محمد الفقيه، وكان من رسحنون، وونلي القضاء بصقلية في أيام بني الأغلب التميمي، وعبد الله بن أبي المنهال. وفيها صلى أبو القاسم يوم الأضحى بالناس، وخطب وقرى بذلك كتاب عبيد الله بالقيروان. وفيها مات محمد بن خالد القيسي المعروف بابن الطرزي وكان من رجال سحنون، ومات أبو السميدع المؤدب النحوي. وفيها قتل في مدينة رقادة أحمد بن يحيى بن طيب المتطبب الفقيه بقول أهل العراق. وفي هذه السنة وصل أبو عبد الله الشيعي إلى مدينة (تنس) ونزل بالموضع المعروف (بالجّوزا) وذلك يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة. فجمع إلى نفسه وجوه كتامة وتكلم معهم في أمر عبيد الله وعمل معهم على خلعه وقال لهم: إن أفعاله قبيحة، ليست تشبه أفعال المهدي الذي كتب أدعو إليه. وأخشى أن أكون قد غلطت فيه وعرض لي ما عرض لإبراهيم الخليل - عم - إذ جن عليه الليل، فرأى كوكبا، فقال (هذا ربي) ويجب علي وعليكم امتحانه وكشفه عن العلامات الموجودة في الإمام المعروفة عند النقباء. وزعم لهم بأن الرواية أتت أن بين كتفي المهدي مكتوبا: المهدي رسول الله، كما بين كتفي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبوة. وأن المهدي يأتي بالآيات البينات، ويطبع بخاتمه بالجندل. فعقد مع جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كتامة على امتحانه إذا انصرفوا (نحوه) إلى رقادة، ودخل معه في هذا العقد عَرُبة بن يوسف (وتعاهدوا على ذلك) . وفي سنة 298، تجول أبو عبد الله الشيعي في بلاد البربر وحارب صدينة وزناتة. وقتل الرجال، وأخذ الأموال وسبى الذرية وأحرق بعض المدن بالنار، وكتب بالفتوحات إلى عبيد الله، فقرأت كتبه على الناس. ثم قفل أبو عبد الله إلى مدينة رقادة، بعد أن تجول بالغرب شهورا كثيرة، فلنا توصل أبو عبد اله إلى مدينة رقادة أخبر عروبة بن يوسف عبيد الله الشيعي بما كان من أبي عبد الله في جانبه وقت وصوله إلى مدينة تنس وما عمل عليه مع جماعة كتامة من خلعه، فالتزم عبيد الله الاحتراس منه في سر أمره، وفيها ولي أبو جعفر البغدادي ديوان الكشف، مشتركا مع عمران بن أبي خالد بن أبي سلام. وفيها مات من الفقهاء المدنيين من أصحاب سحنون، يحيى بن عون بن يوسف وعبد الله بن الوليد المعروف بابن الصدفي، وكان فقيها من أهل الانقباض والخير. وفيها مات أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني البغدادي المعروف بالرياضي، يوم الأحد لأربع عشر ة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ودفن باب سالم، وكان ظريفا، أديبا، مرسلا، شاعرا، حسن التأليف، وقدم الأندلس على الإمام محمد بن عبد الرحمن. رحمه الله، بكتاب اخترقه إليه على ألسنة أهل الشام فتقبله الإمام محمد وأنزله ووسع عليه ووصله، واطلع على أن الكتاب مخترق مصنوع، فلما أراد أبو اليسر الانصراف، دفع إليه كتاب مختوم جوابا عن كتاب أهل الشام فيما رأى. فلما جاز البحر فك أبو اليسر الكتاب ليقرأه، فإذا هو بياض ليس فيه إلا (بسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الله الرحمن الرحيم) فعلم إنه تمويه لن يجز وأن الذي أعطى وحبى عن تكرم وفضل وعلم في عينه ملوك الأندلس ورجاله، وحدث بما عرض له، وعجب الناس منه وكتب أبو اليسر لبني الأغلب حتى انصرمت أيامهم ثم كتب لعبيد اله حتى مات. وله مؤلفات حسان في فنون من العلم، ومسند في الحديث وكتاب في قرآن سماه (سراج الهدى) وله (كتاب لقيط المرجان) ورسالة (الوحيدة المؤنسة) و (قطب الأدب) وغير ذلك من الأوضاع. وفيها استكتب عبيد الله أبا جعفر محمد بن أحمد بن هارون البغدادي، بعد أبي اليسر وقربه وأدناه، واستعان به على أمر أبي عبد الله وأبي العباس وجماعة كتامة، فكان منه في ذلك رأي جميل ونفع عظيم. وكان أبو جعفر ذا دهاء وفهم حسن ودخل الأندلس في أيام الأمام عبد الله - رحمه الله - فصحب الناس وجالس أهل الأدب وكان بعد ذلك يحافظ من جاز به قاصدا إلى الحج من خلطائه بقرطبة ويكرمهم. وفيها خالفت هوارة بطرابلس وقدموا على أنفسهم أبا هارون الهواري، وزحف أيضا جماعة من زناتة ولماية وغيرهم من القبائل إلى مدينة طرابلس محاصرين لأهلها. فأخرج إليهم عبيد اله الشيعي أبا زاك تمام بن معارك الأجاني، وكان يذهب مذهب أبي عبد اله في الغدر بعبيد الله والخلع له. فأراد أن يبعده لما كان يحاوله عبيد الله من قتل عبد الله وجيّش مع أبي زاك جيشا عظيما، فحاربهم أبو زاك حتى هزمهم وفرق جموعهم وقتل كثيرا منهم وبعث بؤس كثيرة وآذان مقرطة لمن قتل فنصبت برقادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ذكر قتل عبيد الله الشيعي لأبي عبد الله الشيعي وأبي زاك وذلك أن عبيد الله كتب إلى (ماقنون بن دبارة الأجاني) عامله بطرابلس يأمره بقتل أبي زاك تمام بن معارك الأجاني على بنية بناها ونية نواها في قتله وقتل أبي عبد الله الشيعي بعده فبعث عامل طرابلس في أبي زاك! وكان عمه، ثم عرض عليه كتاب عبيد الله إليه يأمره يقتله. فلما قرأه أبو زاك قال له: يا عم نفذ ما أمرت به! فقدمه فصرب عنقه، وكتب إلى عبيد الله بخبر قتله مع حمام وصل إلى رقادة من ساعته، وذلك يوم الثلاثاء، غرة ذي الحجة سنة 298. فلما وصل الخبر إلى عبيد الله الشيعي، أمر عروبة ابن يوسف الملوسي وجبر بن مناسب الميلي أن يكمنا خلف قصر الصحن، فإذا مر بهما أبو عبد الله الشيعي وأخوه أبو العباس طعنوهما بالرماح حتى يموتا. فكمنا لهما هناك مع جماعة من كتامة. وبعث عبيد الله في أبي عبد الله وأبي العباس ليحضرا طعاما على جاري عادتهما معه. فلما مرا بالموضع الذي فيه الكمين، خرج عليهما فصاح أبو عبد الله بعروبة: لا تفعل يا ولدي! فقال له: أمرني بقتلك من أمرت الناس بطاعته (وانخلعت له من الملك بعد توطئته ثم طعمه بيده طعنة واحدة خر منها صريعا، ووقعت في أبي العباس تسع عشرة طعنة، وذلك يوم الثلاثاء وقت الزوال، مستهل ذي الحجة. ومكثا صريعين (على صف الحفير المعروف بالبحر) إلى بعد الظهر، ثم أمر عبيد الله بدفنهما، فدفنا في الجنان، وقال: رحمك الله أبا عبد الله، وجازاك في الآخرة (بقديم سعيك) ! ولا رحمك الله أبا العباس، إنك صددته عن السبيل وأوردته موارد الهلاك! ثم قرأ: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وأنهم ليصدونهم عن السبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ويحسبون أنهم مهتدون "! وكتب إلى الشيعة بالمشرق في أمرهما: أما بعد فقد علمتم محل أبي عبد الله وأبي العباس من السلام. فاستنزلهما الشيطان فطهرتهما بالسيف والسلام! وحدّث الثقة أن أبا عبد الله نلام في حضرة أحابه وعنده جماعة من دعاة كتامة فتحرك في نومه فانكشفت سوئته، فنظر بعضهم إلى بعض، ولم يقدموا أن يستروه. فمد عروبة بن يوسف يده إلى الملحفة التي كانت عليه فستره بها وانتبه أبو عبد الله فقال: من سترني إذا انكشفت؟ فقال له عروبة: هو والله قاتلي! فجعل عروبة يبكي بين يديه ويقول له: يا سيدي مر بقتلي! فقال له: لا سبيل إلى ذلك! لكنك والله قاتلي! فكان الأمر كما كان ذكره. واحتجب عبيد الله عن كتامة أياما كثيرة، ثم أمنهم وأدخلهم على نفسه مفترقين على حذر منهم ثم عمل على جماعة منهم، فقتلهم بأصناف من القتل. وفيها خرج سي بن دوقان ورجاء بن أبي قنة، إلى لواتة في عسكر ضخم. فقتلوهم، وغنموا أموالهم وسبوا ذرياتهم (وقرى بذلك كتاب عبيد الله بالقيروان وأعمالها، وفي سنة 299، أخرج عبيد الله إلى المغرب جماعة من قواده لمحاربة زناتة في عساكر عظيمة، فكانت بينهم وبين زناتة وقعة عظيمة بموضع يعرف بفلك مديك، قتل فيها من زناتة عدد لا يحصى. وفيها فتحت مدينة تبهرت، وكان أهلها قد ثاروا على دواس عاملها وأرادوا قتله فهرب منها إلى تبهرت القديمة وتحصن بها. وقتل فيها أكثر أصحابه، وكانوا في نحو ألف فارس. واستدعوا محمد بن خزر فقدم عليهم وأدخلوه البلد، وولوه، وبرزوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إليه بأم دواس وعياله وأكثر سلاحه ثم خذلوه وخذلهم، فزال عنهم وانصرف إلى موضعه. ثم أخرج عبيد الله العساكر إلى تبهرت في أعداد عظيمة وخلق لا يحصى كثرة فنزلت عليها يوم الجمعة لانسلاخ المحرم، وحروب أهلها ثلاثة أيام. ثم أخذوا بالكيد ودخلت العساكر تبهرت يوم الثلاثاء لأربع خلون من صفر فقتلوا الرجال وسبوا النساء والذرية وانتهبوا الأموال، وحرقوا المدينة بالنار. وبلغ عدد القتلى بها ثمانية آلاف رجل. ثم ولى عبيد الله تبهرت مصالة بن حبوس بن منازل بن بهلول المكناسي. وانصرف دواس ابن صولات إلى مدينة رقادة. وقتله عبيد الله بعد ذلك. وفيها كانت بالقيروان زلازل وهدات، وخسف بقرية في الساحل تعرف بالباس. وفيها كانت واقعة كتامة بالقيروان يوم الثلاثاء لعشر بقين من شعبان فقتل منهم في الأزقة والأسواق أكثر من ألف رجل، وذلك أن كتامة كانوا يسألون عبيد الله أن يطلق أيديهم على نهب القيروان وكان يسوفّهم في ذلك، ويعلق أطماعهم به، وهم يتحاملون علة أهل القيروان بالتطاول والأذى حتى شرق الناس بهم، فقاموا عليهم في بعض الأيام بسبب استطالة رجل من جند كتامة على رجا من تجار أهل القيروان. فلما دافعوه عنه، شهروا عليهم السلاح وأرادوا نب الحوانيت. فصاح أهل الأسواق (النفير، النفير) فقتل من كتامة أكثر من ألف رجل. وركب احمد بن أبي خنزير صاحب مدينة القيروان، فسكن الناس، وأمر بتغييب القتلى، فطرحوا في المراحيض. ولحق من كان حوالي رقادة من كتامة ببلادهم. فلما حصلوا بها، أظهروا الخلاف على عبيد الله. وقدموا على أنفسهم حدثا يعرف بالمارطي واسمه كادوا بن معارك وجعلوه قبلة يصلون إليه وزعموا انه المهدي المنتظر، وكتبوا كتابا فيه شريعة زعموا أنها نزلت عليه. فتغلب على جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الزاب، وقوى أمره، واشتدت شوكته. فأخرج إليه عبيد الله قوادا حاربوهم وهرب إليهم أحد القواد وهو صولات بن جندة في نحو مائتي رجل، ثم أخرج عبيد الله أبنه أبا القاسم إلى بلد كتامة لمحاربة المارطي ففصل من رقادة من يوم السبت لخمس بقين من شهر رمضان. فافتح مدينة القسطنطينية من أرض كتامة وغيرها ز وكانت له على المارطي وقائع. وهرب من قواد أبي القاسم إلى المارطي رجال، ثم أمنهم أبي القاسم ولاطفهم حتى انصرفوا إليه. وفيها قتل بالقيروان قوما اتهموا بالميل مع أبي عبد الله الشيعي، إذ نوى الغدر بعبيد الله، ومنهم محمد ابن أبي سعيد الميلي صاحب السوق، وعبد الله ابن محمد المعروف بابن القديم، ومحمد ابن أبي رحال الباغائي، وأبو الوهب بن عمرو بن زرارة العبدري، وجماعة من بني الغلب وقوادهم. وقتل أبو إبراهيم المعروف بابن البجاري القرشي الفهري، وهو القائم على إبراهيم بن أحمد بنم الأغلب مع أهل تونس. وفيها ولد أبو الطاهر إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي وولي أفريقية سبع سنين. وفيها مات زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب الهارب من أفريقية إلى مصر ودفن ببيت المقدس، (وكان لما فر عن القيروان بعياله وماله وألف سقلبي ترك جارية فغنت له محركة على حمل نفسها (منسرح) لم انس يوم الوداع موقفها ... وجفنها في دمعها غرق وقولها والركاب واقفة ... تتركني سيدي وتنطلقوا قال المظفري فحط حمل مال، وحملها في مكانها. وقال عريب فدمعت عيناه، واشتغل عنها نما هو فيه، فتركها. ووصل إلى مصر فبقية عن عيسى النوسري صاحبها ثمانية أيام، ورحل إلى الرقة، فمنع الدخول إلى بغداد وأمر بالانصراف إلى مصر فسمه بعض عبيده فمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وفيها، مات من الفقراء المدنيين، وأهل العلم باللغة والنحو وفصاحة اللسان، عبد الله بن محمد التميمي المعروف بالبيدى، وهو من ولد عباد بن كثير ما ابن سبع وثمانين سنة. وفي سنة 300، خالف أهل مدينة طرابلس على عبيد الله الشيعي، إذ كان قد استعمل عليهم ماقنون بن دبارة الأجاني؛ فبسط أيدي بني عمه من كتامة على الناس، وتطاولوا إلى الحرم، فتحرك السواد، ومدوا أيديهم إلى من لقوا من كتامة، فقتلوهم، وهرب ماقنون. وأغلق أهل طرابلس أبواب المدينة، وقتلوا من كان داخلها من كتامة، وقدموا على أنفسهم حمد بن إسحاق، المعروف بابن القرلين، ولحق ماقنون بعبيد الله. فأخرج إليهم جيشا، وحاربهم شهورا. وفيها، قفل أبو قاسم الشيعي (من بلد كتامة) إلى رقداة، ومعه المارطي الثائر وأصحابه أسرى فطوفوا بالقيروان على الجمال، وعليهم القلانس الطوال المشمرة بالقرون والمصافع، فقتلوا بمدينة رقادة. وفيها، خالفت جزيرة صقلية، وثاروا بالحسن وعلى أبني أحمد بن محمد بن أبي الخنزير العاملين عليها، وطاردوهما، وانتهبوا دورهما. وأرادوا أهل صقلية أن يقدموا على أنفسهم أحمد بن زيادة الله بن قرهب، فامتنع عليهم، وهرب منهم وتوارى عنهم في غارة، فاجتمع وجوه أهل البلدة عليه، وأوثقوه من أنفسهم أنهم لا يخذلونه. فتولى أمرهم، وكتب إلى المقتدر ببغداد بأن يكون داعيا له، وقائما بأمره بجزيرة صقلية، فأنفذ المقتدر ذلك له، وبعث إليه بألوية سود، وخلع سود، وطوق ذهب، ووصل ذلك إلى أحمد بن زيادة الله بن قرهب، فسر به، وأظهر الحزم والجد في أمره. وفيها، خرج أبو القاسم بن عبيد الله لمحاربة طرابلس وفصل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 رقادة يوم الأحد لليلتين خلتا من جمادى الأولى. ووجه إليها عبيد الله في البحر خمسة عشر مركبا حربية. فلما وصلت إلى طرابلس أخرجوا إليها مراكبهم فحرقوا الأسطول، وقيلوا من فيه. وسار أبو القاسم في البر نحو طرابلس فأوقع بأهل هوارة، ثم نزل على طرابلس فحاربها وحاصرها حتى أكلوا الميتة فرغبوا إلى أبو القاسم في الأمان، فأمنهم إلى ثلاثة أنفس اشترط التحكم فيهم: وهم محمد بن إسحاق القرشي ومحمد بن نصر ورجل يعرف بالحوحة. فدخل طرابلس وتحكم فيها. ثم قفل بالعسكر إلى رقادة وبين يديه الثلاثة الذين تقدم ذكرهم، فطوفوا بالقيروان على الجمال بالقلانس، ثم قتلوا. وفيها، قتل أبو القاسم في مدينة طرابلس عند افتتاحه لها، من كان معه من بني الأغلب وقوادهم. وفيها، خرج عبيد الله من مدينة رقادة إلى تونس وقرطاجنة ونواحي البحر، يرتاد موضعا يتخذه دار مملكته. فوقع اختياره على جزيرة جمة فابتدأ ببنائها، وهي التي تسمى بالهدية. وفيها، ولي أبو جعفر محمد بن أحمد بن هارون البغدادي ديوان البريد فلم يزل يتولى ذلك إلى أن هلك. وفيها، قتل بالقيروان محمد بن أبي أيوب المعروف بأبي العاهة وكان ممن رفع عليه أنه يحاول القيام على عبيد الله فأختفى، وهدمت بسببه دور، ثم خرج بنصيحة أظهرها لعبيد الله في أهل القيروان فغفل عنه أيام، ثن قتله. وفيها، قتل من التجار أبناء الأندلسيين بالقيروان أبو جعفر بن خيرون صاحب المسجد الشريف والفنادق المجاورة للسجن بسعي، كان القاضي المروذي عليه وشهادة شهد بها أن قِبَلَه وديعة كبيرة فطولب بها وعذب حتى مات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وفي سنة 301 أخرج عبيد الله الشيعي حباسة ابن يوسف بالجيوش إلى المشرق؛ فدخل مدينة سرت بالأمان، وهرب من كان فيها من جند بني العباس، وقرى بذلك كتاب في الجوامع بأفريقية. ودخل حباسة مدينة أجدابية بالأمان أيضا، وهرب من كان فيها لبني العباس. ودخل مدينة برقة. وكان عبيد الله يمد حباسة بن يوسف بالجيوش، فكلما دخل مدينة قتل أهلها، وأخذ أموالهم، وعاث فيهم، وتعلل على أهل العافية منهم، حتى لقد أخذ ببرقة جماعة كانوا يلعبون بالحمام؛ فأضرم لهم النار وأجلسهم حواليها، وأمرهم أن تقطع لحومهم وتشوى، ثم يطعمونها؛ وقذفهم بعد ذلك في النار، وقال: (إن هذه الحمام تأتيهم بالأخبار من قبل بني العباس!) وبرح ببرقة: (من أراد العطاء والرزق الواسع فليأتي!) فأكتب عنده جماعة، وأمر العرفاء من كتامة بأن يعرفوا بأعينهم، ويرقب كل واحد منهم رجلا من أولئك المكتتبين عنده، ثم أمرهم أن يحضروا بالغداة لأخذ الأرزاق، فلما حضروا، قتل جميعهم، وكانوا نحو من ألف رجل، فأمر بجمع جثثهم، ووضع عليها كرسيا، وجلي فوقهم، ثم أدخل وجوه أهل البلد، فنظروا إلى ما هالهم من كثرة القتلى، ومات منهم ثلاث من الخوف والرعب، فلما مثل أهل البلد بين يديه، سبهم، وقال: (أن لم تحضروني غدا مائة ألف مثقال، قتلتكم أجمعين) فأحضروه إياها. ووردت على حباسة عساكر عظيمة من مصر لمحاربتهم؛ فدارت بينهم حرب عظيمة، كانت فيها ردعات على حباسة، ثم انهزمت جيوش مصر، وأتبعهم حباسة، وقتل كثير منهم. وفيها، قتل حباسة بن يوسف حارثا ونزارا أبني حمال المزتاني، في نفر من أبنائهم وبني عمهم، بمدينة برقة،، وباع نسائهم، وأخذ جميع أموالهم، إذ كان عبيد الله الشيعي قد خطر بهم في حين قدومه من مصر؛ فأدعى أنهم سرقوا له حمل مال ومتاع. فلما طلب ذلك عندهم، قام إليه رجل منهم، فشمته ولطمه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فكان ذلك سبب قتل حباسة لهم، على ما أمره به عبيد الله وحده له. ثم أن هل برقة كتبوا إلى عبيد الله بما دار عليهم من حباسة، وقتله رجالهم، وسبائه نسائهم، وأخذ أموالهم، فجاوبهم يعتذر إليهم، ويحلف أنه ما أمر بشيء مما ذكروه إلا في النفر الثلاث. وكتب إلى حباسة، يأمره بالرحيل عنهم. فتوجه بالعساكر نحو مصر. فنزل بجبل مقة، وحارب الحصون التي تجاوره حتى أخذها، وقتل أهلها، وأخذ أموالهم وسبى ذراريهم. خروج أبا القاسم الشيعي لمحاربة مصر وفيها، خرج أبو القاسم بن عبيد الله من مدينة رقادة، غازيا إلى مصر في حشود عظيمة، وفيها، أحرق محمد بن أحمد بن زيادة الله بن قرهب أسطول عبيد الله الشيعي بمرسى لبطة، وقتل قائده الحسن بن أحمد بن أبي خنزير: قتله محمد بن قرهب ذبحا بيده، وقطع يديه ورجليه، وأسر من أصحابه نحو ست مائة رجل، وأحرق جميع الأسطول. وبلغ عبيد الله ذلك، فبعث جيشا للمدافعة عن الأسطول، إذ ظن أنه لم يحرق. فخرج أصحاب بن قرهب إليهم، وقاتلهم حتى هزموهم، وغنموا ما كان في العسكر. وفيها مات بالقيروان أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن الحسن البصري القرشي وفيها مات بقصر الطوب وهو موضع رباط بجانب سوسة، أبو يونس الزاهد، ونفر أهل القيروان لشهود جنازته وفي سنة 302، دخل أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي مدينة الإسكندرية ومعه حباسة القائد فألفاها خالية، وقد هرب أهلها في البحر بما خف من أموالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وأسلموا سائر أثقالهم. فاحتوى أبو القاسم وحباسة على جميع ذلك ووصل أبو القاسم إلى الفيوم، فعسكر بها حتى قدم قائد الخليفة مؤنس الفتى من العراق لمحاربته. ثم أن حباسة بن يوسف هرب من مصر إلى أرض المغرب، وكان سبب هربه أن أبا القاسم مبعث إليه من الفيوم أبا فريدن القائد، وأمره أن يستخلفه على الجيوش ويلحق حبالسة به في الفيوم، فأغضبه ذلك، وقال: لما أشرفت على أخذ البلد، يفوز أبو فريدن بخيره وذكره. فركب حباسة في نحو ثلاثين فارسا من بني عمه، وخرج هاربا إلى جهة المغرب. فكتب أبو القاسم إلى عمال الطريق بخبره وأمرهم بارتصاده وأخذه أن مر بهم. وكتب إلى أبيه عبيد الله بذلك. ونزل مؤنس الفتى مصر يوم الاثنين للنصف من شهر رمضان فرحل أبو القاسم من الفيوم منصرفا إلى أفريقيا بما خف من الأموال والكسي والسلاح. فضربت جيوش مصر في ساقته، فأخذت مضاربه وسلاحا كثيرة وأثاثا. ووصل حباسة إلى حوز برقة، ثم إلى نفزاوة، فعثر عليه وعلى أصحابه فهرب أصحابه. وأخذ حباسة، وقيد، وحمل إلى عبيد الله فحبسه وحبس جميع أهله. وفيها حاول عروبة الهرب من تبهرت، إذ بلغه خبر حباسة وهربه، وقيل أن حباسة كاتبه وإنه كاتبه يرجو اللحاق به والاعتصام بكونه معه. فلما أخذ حباسة، نفر عروبة وخاف فهرب بماله. فظفر به بجبل أوراس، فقتل، وبعث برأسه إلى عبيد الله، فنظر إليها وإلى رأسي حباسة وعروبة، فقال: (ما أعجب أمور الدنيا! هذه الرؤوس ضاق بها المشرق والمغرب، وحملتها هذه القفة!) وأمر بطرحها بجامع الإسكندرية سرا. وفي هذه السنة، مات سعيد بن محمد بن صبيح الغساني الفقيه، وكان قد صحب سحنون بن سعيد وحمل عنه علمه. وفيها، خالفت مدينة برقة وكان أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 القاسم، لما مر بهم في انصرافه من مصر وقد هنئوه بسلامة، فزعم لهم إنه إنما كان طلب حباسة ليعاقبه على فعله بهم، وأمرهم بنيان ثلم مدينتهم، واستخلف عليهم رجالا من كتامة. فلما ولى عنهم أبا القاسم، وعلموا الحال التي انصرف عليها من مصر بدر الغوغاء إلى من كان خلف عندهم من كتامة، فقتلوهم ووصل أبو القاسم إلى مدينة رقادة من صرفه عن الفيوم يوم الأحد لعشر خلون من ذي القعدة. وفي سنة 303 مات زيادة الله بن عبد الله بن إبراهين بن الأغلب بالرملة، وترك من المال، في ما ذكر منن كان بحضرته، ألف مثقال من ضرب سكته. وكان بأفريقية وما والها في هذا العام وباء كثير، فمات بها من قريش القيروان أبو المصعب بن زرارة العبدري. ومات حماس القاضب ابن مروان بن سماك الهمداني، وكان فقيها زاهدا ورعا. ومات محمد بن عبادة السوسي. وما ت خلف بن معمر بم منصور من الفقهاء العراقيين وكان يروى عن أبيه عن أسد بن الفرات، وكان قد تشرق أول دخول الشيعة أفريقية ليعتصم بذلك من مطالبت الشيعة لولده بمال كان غمس يديه فيه عند هرب زيادة الله من رقادة، وكان والده معمر بن منصور قد سمع من ابن فروخ، ومن أسد ابن الفرات، وكان أصح أصحابه سماعا عنه وكان معمر يقول بتحليل المسكر ما لم يسكر منه. وفيها مات القاضي المروذي، وهو محمد بن عمر في العذاب برقادة، ودفن بباب سالم ليلا، وطولب أهل القيروان بماله، فامتحن بذلك جماعة من وجوه أهل القيروان وفضلائهم وتجارهم. وفيها، أخرج عبيد الله الجيوش إلى مدينة برقة مع أبي مدين بن فروخ اللهيطي. وفيها، ولي عبيد الله (فأفريقية الخراج) أبا معمر عمران بن أحمد ابن عبد الله بن أبي محرز القاضي، فتولى بوظيفة التقسيط على ضياع أفريقية بعد أن وزع جميعها ونظر إلى أوفر مال ارتفع من العشور في سنة وأقله ثم جمع المالين ووظف الشطر على كل ضيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وفيها اضطرب أمر جزيرة صقلية على ابن قرهب، وأجمع بعضهم على خلعه وكاتبوا عبيد الله في أمره، فداراهم ابن قلاهب وذكرهم بأيمانهم له، فلم يلين ذلك حتى صارت بسببه فتنة بصقلية طائفة كانت معه وطائفة كانت عليه. فأراد ابن قرهب جواز البحر إلى الأندلس واكترى مراكب، وشحن فيها متاعا كثيرا فحال أهل صقلية بينه وبين ما أراد، وانتهبوا ما كان له في تلك المراكب، وأسروا ابن قرهب وأبنه وقاضيه المعروف بابن الخامي وقيدوا أجمعين، وبعثوا إلى عبيد الله. وكتب أهل جزيرة صقلية أن يوجه إليهم عاملا وقاضيا وإنهم لا يحتاجون إلى رجال ولا مدد واشترطوا في كتابهم إليه اشتراطا أغضه عليهم، وأغراه بهم، وحرك منهم لمحاصرتهم على ما سيأتي ذكره أن شاء الله تعالى. وفي سنة 304 في المحرم منها وصل، وصل ابن قرهب وأصحابه إلى مدينة سوسة مصفدين في الحديد. وكان عبيد الله الشيعي بها. فأوصل ابن قرهب إلى نفسه وقال له: (ما حملك على الخلاف علينا وجحد حقنا؟) فقال له: (أهل صقلية ولوني، وأنا كاره، وخلعوني وأنا كاره!) فأنصرف عبيد الله بهم إلى رقادة وأمر بابن قرهب وأصحابه، فضربوا بالسياط وقطعت أيديهم وأرجلهم على قبر الحسن بن أبي خنزير بباب سالم وصلبوا هناك. وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة، كمل سور المهدية ونصبت أبوابها. وفيها، أخرج عبيد الله الجيوش والأساطيل إلى صقلية وقد عليهم أبا سعيد المعروف بالضيف. فحاصرهم شهورا، وقتل منهم جملا، وأجال كتامة على من ألفا في أرباض المدينة من النساء والذرية، فعبث بهم وافترع الجواري الأبكار. وكتب أبو سعيد الضيف إلى عبيد الله بالفتح فيهم، فأمده بمراكب ورجال كثيرة. فلما رأى ذلك أهل صقلية، رغبوا إليه في الأمان على أن يدفعوا عليهم من كان شايع ميما أحدثوه. فأمنهم، وهدم سور المدينة وأخذ سلاحهم وخيلهم ورقيقهم، وفرض عليهم مغرما، وبعث بمن أخذ منهم إلى عبيد الله في مراكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فانكفأ بهم في البحر. وولي أبو سعيد الضيف على جزيرة صقلية سال بن أبي راشد، وأبقى معه جماعة من كتامة وانصرف إلى القيروان. وفي هذه السنة فتحت مدينة برقة على يد أبي مدين الموجه إليهم بعد أن أفنت الحرب أكثر ألها مدت ثمانية عشر شهرا، وحوصروا فيها، وأحرق قوم منهم بالنار، واستصفى أبو مدين أموالهم، وبعث جماعة منهم إلى عبيد الله، فأمر بقتلهم. وفيها، مات محمد بن اسود بن شعيب القاضي الصديني. وفيها مات ميمون بن عمر الفقيه، ومحمد بن أحمد الصدفي الزاهد. وفيها خرج مصالة ابن حبوس من تبهرت لمحاربة سعيد بن صالح بن سعيد بن إدريس، صاحب نكور، فدارت بينهم حروب كثرة. وفي سنة 305 أفتتح مصالة بن حبوس، قائد عبيد الله الشيعي مدينة نكور، وقتل بها سعيد بن صالح رئيسها، وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من محرم. وانتهب مصالح مدينة نكور وسبى النساء والذرية، ثم أنصرف إلى تبهرت، وكتب بالفتح إلى عبيد الله وبعث إليه سعيد بن صالح ورؤوس أصحابه، فطوفت بالقيروان. ثم أن بين صالح خرجوا فارين بأنفسهم إلى الأندلس معتصمين بما تناهى إليهم من فضل أمير المؤمنين الناصر وحن مذهبه في كل نازع إليه ومعتصم به، فنزلوا مرسى مالقة، وعهد بإنزالهم والتوسع عليهم، وبعث إليهم بضروب الكسوة وكل ما احتاجوا إليه من المرافق وخيروا في القدوم إلى قرار السلطان أو المقام في ذلك المكان، فاختاروا المقام على بره وحبائه. وكان مصالة قد أستخلف على نكور رجلا يقال له ذلول، وانصرف إلى تبهرت، فافترق عن ذلول من كان معه وبقي في فل من المشارفة. فقصده صالح بن سعيد بن صالح من مرسى مالقة، فقتله، وقتل أصحابه ولزم نكور، وهادي أمير المؤمنين بالخيل والجمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 تلخيص أخبار أمراء مدينة نكور من حين بنائها على الجملة إلى هذه السنة المؤرخة وذلك أن صالح بن منصور، المعروف بالعبد الصالح، كان دخل أرض المغرب في الافتتاح الأول زمن الوليد بن فيد الملك، فنزل في بني تمسمامان وعلى يديه أسلم بربرها، وهم صنهاجة وغمارة. ثم ارتد أكثرهم لما ثقلت عليهم شرائع الإسلام، وقدموا على أنفسهم رجلا يسمى داود ويعرف بالمزيدي وكان من نفزة وأخرجوا صالحا من بينهم. ثم أفاء الله بالإسلام عليهم، وتابوا من شركهم، وقتلوا داود المزيدي، وردوا صالحا. فبقى ذلك إلى ا، مات بتسمامان، وكان له من الولد ثلاثة: المعنصم، وأدريس: أمه صنهاجية وعبد الصمد، فولوا المعتصم، ومكث فيهم يسيرا، ومات. فولوا على أنفسهم إدريس. ثم مات. وولى سعيد ابن إدريس، وهو الذي بنى مدينة نكور. ومنها إلى مدينة زواغة، التي كانت للحسن بن أبي العيش، مسيرة خمسة أيام. وكان لها أربعة أبواب: منها أبواب سليمان، وباب بني ورياغل، وباب المصلى وباب اليهود. وبها جامع كبير. وأكثر خشبهم الأرز. وبها حمامات كثيرة، وأسواق عامرة ممتدة. وهي بين نهرين، أحدهما اسمه نكور، وبه سميت المدينة. ودخلها المجوس سنة 244، وتغلبوا عليها، وانتهبوا من كان فيها إلا من خلصه الله بالفرار، وأقام المجوس بها ثمانية أيام، وخرجوا منها. وبينها وبين البحر خمسة أميال. وقامت البرانس على سعيد بن إدريس، فأظفره الله عليهم وهزمهم وقتل رئيسهم. ثم رجع من بقى منهمك إلى الطاعة. ومات سعيد بن إدريس بعد أن ملكهم سبعا وثلاثين سنة. وولي ابنه صالح بن سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور. وكان لسعيد من الولد كمنصور وحماد وزيادة الله والرشيد، وعبد الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الشهيد ومعاوية وعثمان وعبد الله وإدريس. وكان عبد الرحمن فقيها بمذهب مالك، وحج أربعا، وعبر البحر إلى الأندلس برسم الجهاد، فقتل الثائر ابن حفصون كل من كان معه، وتخلص هو بنفسه إلى مرسية، وحضر غزوة أبي العباس القائد، واستشهد فيها. وقام علي صالح أخوه إدريس في بني ورياغل وجزناية، فالتقوا بجبل وزناية، وانهب إدريس عسكره، واستمر إلى مدينة نكور ليدخلها، فامتنع أهلها إلى أن أتاهم صالح صاحبها في خاصته، فدخلها في جوف الليل، ولن يعلم أخوه إدريس بذلك، وكان قد نول عليها وطمع فيها. فلما كلن في غد اقبل إدريس على فرسه وهو لا يعلم بأمر أخيه فأدخله المدينة، وأرجله فتيان صالح عن دابته، وأتوا به إلى أخيه، فأمر بحبسه. ثم سار عليه قاسم الوشتاقي بقتله، فأمر فتى من فتيانه يقال له عسلون فقتله، وامتنعت مكناسة على صالح، وحبسوا مغارمهم. فكتب إليهم يتوعدهم، وختم الكتاب، وأدخله في مخلاة، وشدها على حماره! وبعثه مع ثقته، وقال له (إذا توسطت مكناسة، فاترك الحمار بما عليه وانصرف) ففعل فوجد مكناسة حمار صالح، وقرؤوا كتابه فتمادوا على امتناعهم عليه. ثم انصرف رأيهم إلى جمع ما كان عليهم فجمعوه، وجللوا الحمار بملفحة، وأتوا صالحا بالحمار وبمغارمهم واستعفوه فعافاهم. وبقى صالح بن سعيد أميرا إلى أن نوفى بعد أن ملك أزيد من عشرين سنة. وولى بعد ابنه سعيد بن صالح. فلما توطد الأمر له، دخل عليه عبيدهم الصقالبة، فسألوه العتق فقال لهم: أنتم جندنا وعبيدنا لا تدخلون في ورثنا. فما طلبكم للعتق؟ فألحوا عليه في ذلك وناله جفاء منهم، وخلعوه وقدموا أخاه عبيد الله وعمه الرضي المكنى بأبي علي وزحفوا بهما إلى القصر فحاربهم سعيد من أعلى القصر بمن كان معه وبالنساء. وقامت عليهم العامة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فأخرجوه من البلد وهزموهم. فتحصنوا بقرية سبعة أيام، ثم ظفر بهم سعيد. وكان عنه الرضى صهره، فحبسه مع أخيه عبيد الله، وقتل من خرج معهما من بني عمه، منهم الأغلب، وأبو الأغلب، فقام سعادة الله بن هارون، وهو ابن عم الأغلب فقال: قتل ابن عني وأبقى عمه وأخاه! فألب عليه بني يصلاتن، وعقد أه معهم، وسعدة الله مع سعيد بمدينة نكور. ثم خذله سعادة الله، وانحاز إلى بني يصلاتن بمن معه فانهزم سعيد، وأخذت بنوده وطبوله، وقتل من مواليه نحو ألف رجل، وأتوا مع سعادة الله حتى حاصروا سعيد بن صالح بنكور. ثم كانت الكرة لسعيد عليهم، فهزمهم، واسر ميمون بن هارون أخا سعادة الله، وسار إلى تمسامان. فأحرق دياره وخربها وانصرف إلى نكور. وخرج سعادة الله بعد ذلك إلى بطوية وبني ورتدي، وزحف بهم إلى زناتة، فحاربهم وهزمهم، وانقادت له جميع تلك البلاد. ثم انصرف إلى مدينة نكور، فأقام بها مصافيا لسعيد المذكور. ولما تغلب عبيد الله الشيعي، كتب إلى أهل المغرب، يدعوهم إلى الدخول في طاعنته والتدين بإمامته. وكتب بمثل ذلك إلى سعيد بن صالح، وفي أسفله أبياتا كثيرة منها (طويل) . فإن تستقيموا أستقم لصالحكم ... وأن تعدلوا عني أرى قتلكم عدلا وأعلو بسيفي قاهر السيوفكم ... وأدخلها عفوا وأملوها قتلا فأجابه شاعرهم، فقال: (طويل) . كذبت وبيت الله لا تعرف العدلا ... ولا عرف الرحمن من قولك الفضلا وما أنت إلا كافر ومنافق ... تميل مع الجهال في السنة المثلا وهمتنا العليا لدين محمد ... وقد جعل الرحمن همتك السفلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فكتب عبيد الله الشيعي إلى مصالة قائده على تبهرت، يأمره بالنهوض إلى مدينة نكور، ويأمره بمحاربة سعيد بن صالح المذكور. فخرج مصالة من تبهرت في غرة ذى الحجة من السنة الفارطة عن هذه المؤرخة، فنزل من مدينة نكور على مسيرة يوم. فخرج إليه سعيد، فحاربه ثلاثة أيام مكافئا له. وكان مع سعيد رجل من أعلام البربر يقال له أحمد بن العباس من بني يطوفت، دعته نفسه إلى أن يقصد محلة مصالة في سبعة فوارس، واقتحم إلى مصالة، فتصايح الناس، وأخذ أحد أسيرا زمن معه، فأمر مصالة بضرب أعناقهم، فقال له أحمد: ليس مثلي يقتل! فقال مصالة: لم؟ قال: لأنك لا تطمع في سعيد إلا بسببي! فاستبقاه وقربه حتى أنس به، ثم أعطاه جيشا فقصد به جانبا كان يعلم الغرة منه، حتى دخل عسكر سعيد من حيث لا يظن به. ففرق جمعه وغشى سعيدا ما لم يتأهب له، وترادفت عليه العساكر، ونظر أمرا لا يستطيع المقام معه، فبعث إلى مدينة نكور، فأخرج كل من كان في قصره وما معهم، وساروا إلى جزيرة في موسى نكور، ومعهم صالح بن سعيد، وإدريس والمعتصم. وقابل سعيد حتى قتل واستبيح عسكره. ودخل مصالة مدينة نكور، فقتل رجالها، وسبى النساء والذراري. وفي ذلك يقول بعض الشعراء (رجز) . لما طغى الأرذل وابن الأرذل في عصبة من الطغاة الجهل قال: نكور دون ربّي معقلي أتاه محتوم القضاء الفيصل من الإله المتعالي الأعدل حطم أهل كفرها بالكلكل وجاء رأس رأسها المبدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 على قنا من الرماح الذبل ذو لمة شعناء لم تقتل ولحية غراء لم ترجل وركب من نجا من ذرية سعيد البحر إلى مقالة، فاستقروا بها لقربها من بلدهم ورجائهم العودة إليه. وبقى مصالبة في نكور نحو ستة أشهر، ثم استخلف عليها ذلول. فكان من أمره ما تقدم ذكره. وذلك أنه لما افترق عن ذلول أصحابه سمع بذلك بنو سعيد بمقالة، فعبروا البحر في مراكب مختلفة، في ليلة واحدة، واتفقوا على أن من وصل غليها قبل فالولاية له، ثقة منهم برعيتهم. وكانوا إدريس والمعتصم وصالح بني سعيد. فوصل صالح من ليلته، فتسامع البربر بقدومه، فتسارعوا إليه، وعقدوا له الأمرة، ولقبوه باليتيم، وزحفوا إلى ذلول وأصحابه فقتلوهم أجمعين. وكتب صالح بالفتح والنصر إلى أمير المؤمنين الناصر فأمر بإمداد صالح بالأخبية والآلات والأسلحة والبنود والطبول،، فتوطد الملك بالمغرب لصالح بن سعيد، وبقي أخوته في البحر شهرا يترددون فيه إلى أن وصلوا بعد ذلك إلى نكور. وهي في وقتنا هذا مدينة المزمة أو قريبا منها، وفي هذه السنة تم شأن القاسمية بالقيروان، وانتقل إليها التجار وأهل الصناعات، وذلك في شهر ربيع الأول. وفيها مات أبو جعفر أحمد بن محمد القرشي المعروف بالمغرباني، وكان من أهل الزهد والعبادة، وله سمات كثيرة من سحنون وغيره. وفيها مات القاضي بقفصه، وهو مالك بن عيسى بن نصير، وكانت له رحلتان في طلب بالحديث، أقام فيهما عشرين سنة، وكان به بصيرا، وفي علمه نافذا. وفيها مات بمدينة رقادة من قريش أفريقية أبو الفضل محمد بن عبد السلام بن عبد السلام، من ولد عبد الملك بن مروان، وكان قد تولى جباية طرابلس وتونس لينج مع القوم ويبقى معهم، فتوصل بذلك إلى أخذ نعمته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ومات في عذاب الشيعة. وفيها أخذ أهل الضياع بأعمال أفريقية بمغرم سمى التضيبع. وزعموا أنمه من بقايا التقسيط. وفي سنة 306، خرج أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي إلى مصر في سفرته الثانية وذلك يوم الاثنين مستهل ذي القعدة بعد أن حشد من كتامة جملا كثيرة ومن عرب أفريقية وبربرها وخرج معه خليل بن إسحاق وأبو غانم الكاتب، وغيرهما من رجال أبيه. وعزل عبيد الله عن القيروان منّ الله بن الحسن بن أبي خنزير، وأخرجه مع ابنه أبي القاسم إلى مصر، وولى عمل القيروان أبا سعيد الضيف، وفيها وقعت النار بالقيروان في سوقها ليلة الأربعاء لثلاث عشرة ليلة من ذي الحجة. وفيها توفي أبو سعيد محمد بن محمد بن سحنون، وله سماع من ابيه، وغلبت عليه الزهادة والعبادة. وفيها، مات أبو الأسود موسى بن عبد الرحمن ابن جندب المعروف بموسى القطان، وكان من رجال محمد بن سحنون، وولي قضاء مدينة طرابلس في أيلام عيسى بن مسكين، وعزله إبراهيم بن أحمد عن القضاء وحبسه، وله اثني عشر جزءا ألفها في أحكام القران. وفيها مات بمدينة برقة أبو مدين بن فروخ اللهبطي، وكان قائد الشيعة بها. وفي سنة 307، كان بأفريقية وما والاها إلى مصر، طاعون شديد وغلاء وغلاء سعر مع الجور الشامل من الشيعة، والتعلل على أموال الناس في كل جهة. وفيها، قدم أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي سليمان بن كافي، صاحب مقدمته إلى الإسكندرية في حملة من رجال كتانة وغيرهم، فوجد أهلها غافلين. فلما أحسوا بالخيل، وتلاحق بهم أبو القاسم بجيوشه، أخلوا المدينة وتركوها. فدخلها أبو القاسم الشيعي، وانتهب أموال أهلها وكتب إلى أبيه بالفتح، ثم قدم سليمان بن كافي بالجيوش إلى الفيوم فدخلها بالسيف، وقتل أهلها، وانتهب أموالها وسبى الذرية وجبى الخراج، وأقبلت العساكر من أفريقية يتلوا بعضها بعضا، فاجتمع إلى أبو القاسم عدد يجل عن الإحصاء. فتنقل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 محته عن الإسكندرية إلى الفيوم ونزل بالأشمونين في رجب. وألقى الأطعمة في الأنادر لم تخزن، فانتهبها العساكر. وغلت الأسعار بمصر وبالعسكر، ووقع الوباء في الناس وجلا كثيرا منهم. وكانت مصر في ذلك الحين خالية من الجند، فاجتمعوا وتشاوروا في أمرهم، فردوه إلى محمد بن على المادراني وأخيه أبي زنبور، فكتبا إلى أبو القاسم سرا يعرفنه بغيبة الجند وضعف البلد وأظهرا له المسارعة إلى طاعته، وسألاه الاستثناء عليهم لما يتوقعون من العوام، وكان مذهبهما أن يكتف عنهم حتى تأتيهم الرجال من بغداد. وكتب المارداني إلى المقتدر بنزول العساكر عليهم. وفي هذه السنة أقبل ثمل الفتى بالمراكب الشامية، مغيثا لأهل الإسكندرية. فألفى الشيعة بها أسطولا لمحاربة ثمل حتى تغلب على الأسطول بمن فيه، وذلك يوم الأحد لاثنتي عشر ليلة بقيت من شوال، وأسر جملة من رجال كتامة ثم نهض ثمل بالأسرى إلى الفسطاط، فطوفهم على الجمال مشهرين، وفيهم جماعة من رجال الشيعي المشهورين بالبأس. وفيها مات القاضي محمد بن محفوظ القمودي بإفريقيا، وكان ضعيف الرأي جائر الحكم وولى القضاء بالقيروان إسحاق بن أبي المنهال. وفيها هبت بالقيروان رياح مظلمة صفراء دامت أياما وسدت الأفق حتى كان الرجال لا يرى جليسه، وأتبعها الوباء الذي تقدم ذكره. وفيها مات أحمد بن علي بن دودان الفقيه وكانت له رحلة سمع فيها من يونس والمزني. ومات محمد بن أحمد بن يحيى بن مهران الفقيه من رجال محمد بن سحنون. ومات أبو سليمان داود بن مسرور الغساني وكان متزهدا فاضلا ومات محمد بن عبد الله ابن القاضي أحمد بن محرز. ومات بمدينة تونس من قريش محمد بن أحمد بن عبد الله بن سعيد بن خالد بن عبيد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وكان يلقب بالبعرة وكان طرأ على إبراهيم بن أحمد من المدينة، ودخل الأندلس مرتين. وفي هذه السنة قتل بالقيروان عروس المؤذن بمسجد أبو عياش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الفقيه إذ شهد عليه قوم من المشارقة بأنه أذن ولم يقل: (حي على خير العمل) وكان من المتزهدين يطحن بيده، ويعمل الخلفاء، ويتعيش من ذلك. وفيها مات من الفقهاء بالقيروان عبد الله بن محمد بن يحيى الرعيني من أصحاب سحنون، ومحمد بن موسى التميمي من شيوخ العراقيين، وإسحاق بن إبراهيم بن أبي عاصم الفارسي، وأبو جعفر أحمد بن منصور مولى بني تميم وكان يعرف بابن المقرعة الغاسل، وسمع بمكة ومصر. ومات جماعة من التجار ومن خدم السلطان ومن الأطباء ممن يطول الكتاب بذكره. وفي سنة 308 سار مصالة قائد عبيد الله الشيعي نحو المغرب بالجيوش. فلما بلغ قريبا من نكور خرج صالح بن سعيد عن مدينة نكور وتحصن بجبل هناك يعرف بجبل أبي الحسين. ودخل مصالة المدينة وضبطها ثم سار منها إلى جهة فاس. وكان بها حينئذٍ يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس في أهله ورجاله. فلما قرب منها، أرادوا مدافعته. فحاربهم أياما حتى هزمهم. ودخل مصالة مدينة فاس وضبطها. وقال شاعرهم وقد عرض بها بسيط: دخلت فاسا وشوق إلى فاس ... والجبن يأخذ بالعينين والرأس فلست أخل فاسا ما حييت ولو ... أعطيت فاسا بما فيها من الناس وفيها قتل أبو سعيد موسى بن أحمد بن موسى بن أحمد بمدينة القيروان زيادة بن خلفون المقطبب مولى بني الأغلب، وكان عالما بالطب، حسن الذهن فيه، وكان عبيد الله قد احتاج إلى زيادة، وقربه من نفسه وحذره من أبي سعيد، لاختلاف كان قد وقع بينهما، وأمره أن لا يدخل القريوان إذا كان أبو سعيد بها، فالتزم زيادة ذلك إلى ا، بات ليلة بالقيروان، وأبو سعيد برقادة، وكانت له عيون عليه فبعث إليه من دخل عليه داره، وقتله بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وفي هذه السنة انتقل عبيد الله الشيعي بعياله وأمواله ونقله إلى المهدية يوم الخميس لثمان خلون من شوال، بعد أن كمل قصره بها، وقصر ولده أبي القاسم، وسور المدينة وبعض دور رجاله، ولم يكمل الكل. وكانت في هذه السنة بالقيروان ورقادة أمطار كثيرة، هدمت المباني، فاضطر عبيد الله إلى استعجال التنقل. فقالت شعراء أفريقية في انتقاله واستيطانه من الشعر ما ذكرنا أبياتا منها ليستدل بما فيها على ما كان يستحله ويجوز عنده من الأشعار (وافر) ليهنك أيها الملك الهمام ... قدوم فيه الدهر ابتسام حططت الرحل في بلد كريم ... رعته لك الملائكة الكرام لئن عظم الحرام وما يليه ... كما عظمت مشاهده العظام لقد عظيت بأرض الغرب دار ... بها الصلوات تقبل والصيام هي المهدية الحرم الموقى ... كما بتهامة البلد الحرام كأن مقام إبراهيم فيه ... ثرى قدميك إن عدم المقام وإن لئم الحجيج الركن أضحى ... لنا بعراص قصركم التشام لئن شاب الزمان وشاب منك ... دعائمه إذا عجمت حطام لملكك أيها المهدي ملك ... غلام والزمان به غلام لك الدنيا ونسلك حيث كنتم ... فكلكم لها أبدا إمام وفي هذه السنة قتل بالقيروان من قريش تميم علي بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن هاشم بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رحمه الله - قتله أبو سعيد موسى بن أحمد إذ اتهمه برفع كتاب إلى عبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الله بأن أهل القيروان عقدوا مع أبي سعيد هذا على الخلاف فحكمه عبيد الله فيه وحبسه، ثم خنق حتى مات. وفيها مات من قواد بني الأغلب أبو جعفر أحمد بن تميم، ومن الفقهاء سعيد بن حكمون، وكان زاهدا. وتوفي إبراهيم ابن تونس المعروف بابن الحساب، مولى موسى بن نصير، وكان يلقب حارث حسبة، وولي أحكام القيروان وقضاء مدينة رقادة. وتوفي من الفقهاء العراقيين أحمد بن عبد الرحمن اللخمي، سمع كمن محمد بن وهب وغيره. وتوفي منهم أحمد ابن غبدون بن وهب. وتوفي الربيع بن هشام التميمي، وكان من الزهاد المتعففين. وفي سنة 309 فتح مصالة بن حبوس مدينة سلجمانة، وانتهب أموالها وقتل بها أحمد بن مدرار وولي عليها المعتز بن محمد بن مدرار، وانصرف. وفيها أظهر منيب بن سليمان الكمناسي الداعي التشريق بجانب تبهرت وتحليل المحرمات. وقيل أن عبيد الله وغيره من الأطراف، وأمرهم بإظهار التشريق فإن وجدوا الناس محتملين له ومغضبين عليه، نشروه عند العامة، وأظهروه. فلما كشف منيب بجبل ونشريش ما أمره عبيد الله به وكان الرجل يدخل إلى حليلة جاره، فيطأها وزوجها حاضر ينظر إليه ثم يخرج، فيبصق في وجهه، ويصفع قفاه ويقول له: تَصَبّر فإذا صبر عد كامل الإيمان وسمي من الصابرة. فقام عليهم الناس وقتلوا بعضهم! وفيها، وصل أبو القاسم الشيعي إلى المهدية يوم السبت مستهل رجب منصرفة من الفيوم وكانت سفرته هذه سنتين وثمانية أشهر. وفيها، أمر عبيد الله بحبس نحو مائتي رجل أظهروا التشريق بالقيروان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وباجة تونس، وجاهروا بتحليل المحرم وأكلوا الخنزير وشربوا الخمر في رمضان جهارا. وعلم بذلك الخاص والعام حتى عير به أبو القاسم أيام كونه بالفيوم وكثر القول من الناس في هذا فكتب عبيد الله إلى عماله بهذه المواضع بأن يرفعوهم إليه مقيدين، ثم حبسوا، فمات أكثرهم بالسجن وكلهم مشهور بأفريقية: منهم أحمد البلوي النخاس بالرقيق كان يصلي إلى رقادة أيام كون عبيد الله بها وهي منه في المغرب فلما انتقل عبيد الله إلى المهدية وهي منه في المشرق، صلى إليها وكان يقول: لست ممن يعبد من لا يرى! وكان يتصدى لعبيد الله ويقول له: أرق إلى السماء كم تقيم في الأرض وتمشي في الأسواق! وكان يقول لأهل القيروان في عبيد الله: أنه يعلم سركم ونجواكم! فاقرب إليه يرجلا يوما وهو يقول ذاك فأخذ أذنه ونطق فيها: عبيد الله الذي نقول زان! ابن الزانية! فإن كان يعلم ما قلت لك، فلينتصر! فصاح صيحة عظيمة وقال: يا مسكين! إنه حليم لا يعجل! ومنهم إبراهيم بن غازي، وكان يأكل في شهر رمضان جهارا ويركب الكبائر وكان في أيام بني الأغلب من المتزهدين المرابطين بقصر الطوب المجاور لسوسة وقد كان أهل سوسة أرادوا تقديمه لصلات الجماعة. وفيها تصدى جماعة من أهل القيروان بالنساء والذرية لأبي القاسم، وشكوا إليه سرا جور أبي سعيد وأصحاب المحارس، ووصفوا إفسادهم وغارتهم على أموالهم فاستأذن لهم على أبيه، فدخلوا كافة، وشكوا غليه بما شكوا به إلى أبي القاسم وأبو سعيد جالس عنده فحلف لهم عبيد الله أنه ما علم بظلمهم، وأمرهم بالانصراف ووعدهن بالإنصاف وأمر أبا سعيد برفع كتابه وقوم من أصحاب المحارس إليه فحسبهم عبيد الله وأطلق كاتبه. وفيها، أمر عبيد الله بأن يكون طريق الحاج على المهدية، لأداء ما وظف عليهم من المغارم في الشطور، وألا يتعدى هذا الطريق أحد وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 من أمثال أهل القيروان في أيام بني الأغلب عند مطالبة شيء ممتنع: إذا أردت الحج، فخذ على بندون! وبندون هذه قرية في طريق جمة والطريق القصدة إنما هي على مصر. فلما عهد عبيد الله بأن تكون طريقهم على المهدية صار المثل القديم حقا. وفبه، أمر عبيد اله بقتل أبي علي حسن بن مفرج الفقيه، ومحمد الشذوني الزاهد، إذ رفع عليهما إليه بتفضيل بعض الصحابة على عليّ وفيها مات بمدينة سوسة أبو الغصن نقش الفقيه، سمع من سحنون زمن عون بن يوسف وغيرهما، وتوفي محمد بن هيثم بن سليمان بن حمدون القيسي الفقيه ومحمد، ومحمد ابنا عبد السلام بن إسماعيل من بني عبد الملك بت مروان، وفي سنة 310، قدم مصالة بن حبوس إلى المهدية على عبيد الله. فأقام بها أياما. ثم صرفه إلى تبهرت. فخرج إليها في شعبان. وفيها، قرى كتاب لعبيد الله الشيعي في جامع القيروان بوقعة كانت بين فلاح بن قمون وبين جند مصر بذات الحمام. وفيها، قتل بجبل أوراس أبو معلوم فحلون الكتامي من قواد عبيد الله وكان قد أخرجه إلى هذا الجبل، فكلف أهله فوق وسعهم وأمرهم برفع عيالاتهم إلى المهدية، فأظهروا الطاعة له، وشرعوا فيما أمرهم به فلما كان في بعض الليالي، وثبوا عليه وعلى جند كتامة الذين كانوا معه، فقتلوهم أجمعين. وفيها خالفت نفوسة على عبيد الله، وقدموا على أنفسهم أبا بطة فاجتمع إليه عدد كثير واشتدت شوكته. فأخرج إليهم عبيد الله علي بن سلمان الداعي في جمع كثير فلما قرب منهم بيتوه فقتلوا من أصحابه وانهزم الباقون وتفرقوا عن علي بن سلمان، فسار علي إلى طرابلس، وكتب إلى عبيد اله بذلك فكتب عبيد الله إلى علي بن لقمان عامله على قابس بأن يقتل كل من مر به من المنهزمين فقتل منهم جماعة. وامتد عبيد الله بن سلمان بالجيوش، وأخذ في حصار نفوسة بعزم. وفيها، غزا مسعود الفتى بلد الروم في البحر في عشرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 شينيا فافتتح مدينة أغاثي، وسباها وانصرف إلى المهدية وفيها، توفي محمد بن سلام بن سيار البرقي الهمداني وكان متفقها على مذهب الشيعة وتوفي من قريش أحمد بن يحيى بن خالد السهمي، بعد أن جاوز التسعين وكانت له رحلة، وسمع من أبي سنجر مسنده. وقام حسن بن على الحسني مع البربر فأتى إلى فارس، وبها ريحان الكتاني قائدا عليها من قبل عبيد الله فأخرجه منها واستبد بها ثم غدره حامد بن حمدان وأدخل بن أبي العافية، وكان وكان يتولى لبني أمية، فبقى بها إلى أن أرسل الشيعي قائديه مسرورا وجواهرا. ففر أمامهما. وبقى فيها قائد الشيعي إلى أن أخرجه بنو إدريس ورجع ملكها لهم حتى حاربها عسكر الناصر الأموي صاحب الأندلس وملكها. وفيها، مات أبيو جعفر الطبري. وفي سنة 311، عزل عبيد الله إسحاق بن أبي المنهال عن قضاء مدينة القيروان يوم السبت لعشر بقين من جمادى الآخرة، وأخرج إليه عبيد الله من قال له: لم نعزلك عن حرجة، وإنما عزلناك للينك ومهانتك! وولى قضاء مدينة القيروان محمد بن عمران النفطي وكان قبل ذلك على قضاء مدينة طرابلس، فجمع بها أموال كثيرة من الرشى والأحباس ورفعها إلى عبيد الله فكانت له وسيلة إليه. وفيها، أوقع علي بن أبي سلمان بأهل نفوسة، ودخل حصنهم وهدمه وقتل الرجال، وسبى الذرية، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان. وفيها، ضرب محمد بن العباس الهذلي الفقيه بالدرة في الجامع عريانا، وصفع قفاه حتى جرى الدم من رأسه، وبرح عليه في أسواق القيروان إذ شهد عليه قوم من المشارقة بأنه يطعن على السلطان ويفتي بقول مالك، وفيها، دخل مسرور بن سليمان بن كافي الواحات من صعيد مصر وهما حضنان في قفار ورمال، وكان عليها عامل لصاحب مصر يعرف بالبكربازي، فهزمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 مسرور وأسر ولده وابن أخيه، واستحوذ على الموضع ثم وقع الطاعون في أصحاب مسرور فأخرب الحصن، وقلع أثمارها، وانصرف إلى برقة. وفي هذه السنة، مات بالقيروان من العدول وأهل السنة والخير محمد بن شيبة بن حسان وكان شيبة من القواد الداخلين أفريقية مع يزيد بن حاتم وفيها، مات بتونس أبو جعفر محمد بن تميم التميمي وكان من قواد زيادة الله فهرب إلى أبا عبد الله الشيعي ودخل معه أفريقية. وفيها، مات أبو الفضل أحمد بن جعفر بن موسى الصمادحي. وفي سنة 312، خرج مصالة من تبهرت إلى زناتة فأداخ بلدهم وقتل وسبى وأخرج خيلا إلى بعض ؤنواحي ابن خرز وكان فيها أكثر حماته ووجوه رجاله، وبقى مصالة في نفر من أصحابه. فبلغ ذلك ابن خرز فقصد نحو مصالة، ودارت بين الفريقين حرب عظيمة، قتل فيها مصالة وانهزم أصحابه وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان. وفيها، خرج أبو جعفر ابن عبيد الحاجب في أسطول كبير إلى صقلية يريد غزو الروم فشتى بصقلبة تلك السنة، ولم يلق العدو، وفي هذه السنة، مات بالقيروان القاضي محمد بن عمران النفطي في شهر ربيع الأول، وكان يرتشي على الأحكام، ويستهتر في ضروب من المنكر. فولى عبيد الله القضاء مكانه إسحاق بن أبي المنهال مرة ثانية وكتب في عهده: وإنما كنا عزلناك للينك ومهانتك! ورددناك لدينك وأمانتك! وفيها، مات محمد بن حفص الفهم، وكان من أهل الفضل والدين، وأم بالناس الإشفاع بجامع القيروان في أيام بني الأغلب قم ولى صلاة جامع رقادة وكان يرتوق في كل شهر عشرة مثاقيل فأحضره المروذي عند نفسه وقال: لا يوم بنا إلا ولى من أولياء أمير المؤمنين. فأدخل إلى بعض الدعاة يأخذ عليك البيعة، وتبقى على خطتك! وإنما أراد أن يتشرق معهم ويدخل في الكفر مدخلهم. فقال له: أنظرني اليوم أشاور نفسي! فأنظره ثم أتاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 من الغد وقد كره الدخول معهم في شيء مما هم عليه فعزا عن الصلاة. وفيها، قريّ كتاب عبيد الله بالقيروان وأعمالها بدخول مسرور بن سليمان بن كافي الواحات، وملكه لها، وتاريخه يوم الخميس لثمان ليال بقين من محرم. وفي سنة 313، غزا أبو أحمد جعفر بن عبيد الحاجب بلد الروم من صقلية، فافتتح أماكن كثيرة ومنها مدينة واري، وقتل بها ستة آلاف مقاتل، وأخرج منها عشرة آلاف سبية وأسر بها بطريقا صالحه عن نفسه ومدينته بخمسة آلاف مثقال وانصرف إلى صقلية فوصل إليها لأربع بقين من شهر ربيع الآخر، وكتب إلى عبيد الله الشيعي بالفتح، ثم قدم جعفر بعد ذلك إلى المهدية وأوصل جميع الغنائم إلى عبيد الله الشيعي فذكر بعض رجاله أنه دخل عليه وبين يديه جوهر كثير، وديباج سني، وأموال، فقال له: يا مولاي، ما رأيت كاليوم منظر! فقال له عبيد الله: هذه من الغنائم التي أصيبت بوارى! فقال له الرجل: أن من أدى هذا لأمين! وأراد أن يثني بذلك على جعفر الحاجب فقال له عبيد الله مبادرا: والله! ما أعطاني من الجمل إلا أذنيه! وفيها، ولي أحمد بن بحر بن علي بن صالح، المعروف بابن أخي كرام، مظالم القيروان وجلس للنظر يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأخيرة، وفيها، مات بمدينة سوسة محمد بن يسطام بن رجاء الضبي الفقيه وكانت له رحلة سمع فيها من ابن عبد الحكم وغيره. ومات عبد العزيز بن شيبة وكانت له رحلة أيضا سمع فيها من بندار وأبي موسى الزمن، وأبي حفص القلاس، ولم يتخلف هذا المتوفى وارثا، فورثه عبيد الله وكان له مسجد يجاور داره وفندقه، فأغلق الناظر في المواريث لعبيد الله المسجد، ووصله بالدار والفندق. وفيها ابتدأ عبيد الله الشيعي ببناء مدينة المسيلة وسماها المحمدية على بد علي بن حمدون الجذامي المعروف بابن الأندلسي في وسط أرض بني برزال وبني كهلان على قرب من هوارة. وكانت على واد ولها سوران تنيهما ساقية من هذا الوادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وفي سنة 314، عزل عبيد اله الشيعي عن عمالة القيروان نسينا فتاه وضمه إلى المهدية، وحبس عند جوذر الفتى، وقبض على أمواله، وكان نسيم سريع الغضب والضرب بالسوط. وولي عبيد الله عمالة القيروان صابر الفتى مولى بن قرهب. وفيها، زحف ابن خزر إلى تبهرت وحاربها فانهزم عنها وأخرج عبيد الله في أثره موسى بن محمد الكتامي في جماعة من القواد فلما صاروا بطبنة، دخل محمد بن خزر الصحراء، وأبقى أخاه عبد الله مع وجوه رجاله بوادي مطماطة، فدا ت بينه وبين رجال الشيعي حرب عظيمة كان الظفر فيها والغلية لابن خزر. ثم أخرج عبيد الله إلي إسحاق بن خليفة وأصحابه وخالفت على الشيعي لماية، وما جاورها من القبائل واستمدوا بابن خزر فكتبوا إلى عبيد الله مستمدين، فأمدهم بجيش كبير فهزموه. وأرسلت هذه القبائل إلى محمد بن جزر، فولى عليهم أخاه عبد الله. ودارت بينه وبين جيوش الشيعي وقائع كثيرة. وفيها، مات مونس البغدادي المغني مولى موسى بن بغل بالمهدية فجأة. وفي سنة 315، خرج أبو القسم بن عبيد الله الشيعي من المهدية يريد المغرب، يوم الخميس لتسع ليال خلون من صفر. وكانت طريقه على القيروان، ثم نزل الأريس. فأقام بها أياما حتى اجتمعت إليه العساكر. فسار إلى باغاية، ثم إلى كتامة، ونقدم إلى جبل فيه بنو برزال، وقوم من مكلاتة. فامتنعوا عليه، فحاربهم حتى فتح له عليهم ونوجه إلى مدغرة، ثم إلى سوق إبراهيم. فأقام في تلك الجهة أكثر من شهر لكلب الشتاء وكثرة الوحل. فحكى بعض رجال عبيد الله أنه كان بين يديه، هو وطائفة من خدمه وصحبه، وقد توقفت كتب أبو القاسم عن الورود حتى ساءت الظنون من جهته، فورد كتابه على أبيه بمحضرهم. فلما فتحه وقرأه، بكى، قال: فخفنا أن يكون حدث وأمر وهممنا بالبكاء معه حتى افتتح الكلام، فقال: اللهم أنك تعلم أنني ما أردت إخراجه إلى المغرب إلا رضاك، ونصرة دينك، وإذلال أعدائك! وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 يسهل عليّ أن أفارقه يوما واحدا، قال: ثم التفت إلينا فقال: هذا مولاكم يذكر في كتابه أنه أقام فير مناخ واحد شهرا كاملا، عليه المطر كل يوم بالغدو والآصال، وأنه مشى عقابا كثيرة راجلا، إذ لم يستطع الركوب فيها لوعرها، ويقتات كل يوم ببيضة أو نحوها لكثرة الذباب في العسكر! وفيها، خرج صابر الفتى إلى صقلية لغزو بلد الروم، في أربعة وأربعين مركبا، فأصاب في غزاته هذه وسبى وقتل. وفيها، قتل برملة المهدية معلى بن محمد الملوسي الداعي، بعثه أبو القاسم من المغرب مقيدا. فأمر عبيد الله بضرب عنقه،. وفيها، قتل بمصمود الساحل، من أحواز طنجة حاميم المفتري ابن منّ الله. وكان قد تنبأ بالجبل المنسوب إليه، وأجابه بشر كثير من البربر الجهال، وشهدوا له بالرسالة. وقد كان سنّ لهم صوم يزم الخميس، فمن أكل فيه، غرم خمسة أثوار، وصوم الاثنين، فمن أكل فيه غرم ثورين، ونحو هذا من الباطل والحماقات. ومما قيل فيه (طويل) . قالوا افتراء إن حاميم مرسل ... إليهم بدين واضح الحق باهر فقلت: كذبتم بدد الله شملكم! ... فما هو إلا عاهر وابن عاهر! فإن كان حاميم رسولا فإنني ... بمرسل حاميم لأول كافر! رووا عن عجوز ذات إفك بهيمة ... تجاوز في أسحارها كل ساحر أحاديث إنك حاك إبليس نسجها ... يسرونها والله مبدي السرائر! وفي هذه السنة، توفي محمد بن سلمون القطان بأفريقية، وله سماع كثير من رجال سحنون. وتوفي من التجار وأهل العدالة حاتم بن عبد الرحمن بن حاتم، سمع من سحنون ورحل إلى العراق. وفي سنة 316، زحف أبو القاسم الشيعي إلى قبائل البربر بالمغرب، فنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ببرقاجنة على حصنها المعروف بأغزر يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقاتلهم، ونقب السور عليهم حتى سقط، وهلك ممن كان تحته وفوقه عدد كثير. فلما نظروا إلى الغلبة، أحرقوا الأمتعة، وعرقبوا الدواب والمواشي، وقاتلوا الشيعة حتى قتلوا، وأسر منهم من استأسر وانتهب ما في الحصن. وأجابت هوارة ولماية إلى طاعة الشيعة، فأمنهم أبو القاسم، ثم سار إلى جهة تبهرت فأقام بها نحو شهر، وتقدم منها إلى تامغلت، فأقام بها شهرين، مناظرا لين خزر، وهو حينئذ بموصع يقال له أورن ثم نكب أبو القاسم إلى مدينة طبنة، وانصرف إلى المهدية دون أن يلقي ابن حزر. وقيل أن سبب انصرافه، إنما كان لكتاب ورده من قبل ابنه قاسم، يعلمه أن الناس تحدثوا بمبايعة عبيد الله لابنه أحمد المكنى بأبي عليّ وأنه صلى بالناس عيد الفطر وعيد الأضحى. فأقلقه ذلك، وقدم المهدية. وفيها غزا صابر من صقلية إلى بلد الروم فافتتح موضعا يعرف بالغيران وقلعة الحسب، واحتوى على ما فيهما، وزحف إلى سلير، فصالحه أهلها بمال وديباج. ثم توجه إلى نابل، فصالحوه أيضا بمال وثياب ثم صدر إلى صقلية. وفيها، مات محمد بن أحمد بن أبي زاهر من الفقهاء بالقيروان، وعبد الله المعروف بالعيني وكان من المعبدين. وفيها، ابتدأ غلاء السعر بالقيروان. زفيها كان ابتداء أمر أبي مخلد بن كيداد الزناتي، وهو رجلا أخذ نفسه بمذاهب النكار يحلل دماء المسلمين وفروجهم ويسب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكان أول أمره بتقيوس، يعلم الصبيان، ويعتقد الخروج على السلطان ويحتسب على الناس في كثير من أفعالهم، وعلى جباة الأموال. فغير في هذا العام على عامل تقيوس، وأمر بقتله، فقتله أهل نقيوس ففزع أبو يزيد عند ذلك، وخرج إلى الحج. فلما وصل إلى طرابلس، وصل كتاب عبيد الله في طلب قوم من البربر فهرب هو وصاحبه أبو عمار الأعمى، وكان على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مذهبه وضلاله. فكرا في تقيوس، فورد كتاب عبيد الله في طبنة فيها زال يقر ويستتر إلى أن ظهر أمره بعد ذلك. وفي سنة 317، كان بالقيروان وأعمالها وباء عظيم وغلاء سعر فبلغ قفيز قمح بالكيل القرطبي مثقال ذهب. وفيها، تغلب محمد بن خزر على الزاب كله وملكه جملة. وفيها، بنى بنو محمد المدينة المعروفة فجر النسر. وفيها سار موسى بن أبي العافية إلى مدينة نكور وصاحبها يومئذ المؤيد بن عبد البديع ابن إدريس بن صالح بن منصور. فحاصره فيها حتى تغلب عليها واستباحها وغنم ما فيها وقتل المؤيد وهدم أسوارها. ثم سار يريد بني محمد بن سليمان ابن عبد الله، وعميدهم يومئذ الحسن بن عيسى المعروف بابن أبي العيش صاحب جرواة، وهي أشرف مدائن ذلك الجانب. فنزل عليها وحاصر ابن أبي العيش فيها حتى أوفى على أخذها. فلما أحس ابن أبي العيش بالغلبة، وخرج في الليل، هاربا بأهله وولده ومن تبعه، ونجا إلى مربي جروة المعروف بأكاس. فدخل منه البحر وعاذ بجزائر ملوية. ثم سار إلى جزيرة أرشقول، وهي منيعة لا ترام، فتحصن فيها بأهله وولده ومواليه. وجال موسى بن أبي العافية بتلك الجهات وأخذ مدينة تربية ومدينة أرشقول. وهرب كل من في ذلك الجانب من آل محمد بن سليمان، وخلص الموضع لموسى بن أبي العافية وأخلى منه قواد بني خزر وعمالهم وصار في ملكه من أحواز تبهرت إلى السوس الأقصى وفبها، غزا صابر الفتى غزوته الثالثة والتقى في البحر بالسردغوس، وهم في سبعة مراكب، وصابر في أربعة مراكب فانهزم السردغوس. وفتح صابر مدينة نرمولة، وسبى فيها سبيا كثيرا، ثم انصرف إلى المهدية. وفيها مات بالقيروان من الفقهاء أحمد بن نصير بن زياد، سمع من محمد بن سحنون ومن ابن عبدوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومن يوسف بن يحيى المغامي وكان عالما بالمناظرة مليئا بالشاهد، صحيح المذهب، سليم القلب. قال محمد بن حار: حضرته يوما، وعنده جماعة من المحاظرين في المسألة، حنى دخل عليه محمد بن عبد الله بن مسرة القلاطبي في حين توجهه إلى الحج فسلم، وجلس جانبا وهو يجيل بصره في وجوه المتكلمين. قال: فلم أشك أنه من أهل العلم، ولم أكن عرفته باسمه. فلما أظهر الشيخ أحمد بن نصر القيام، قال له: (يا شاب جلست منذ يوم. فهل من حاجة تذكرها؟) فجاوبه محمد بن مسرة بكلام حسن بليغ وقال له: (أتيتك مقتبسا من نورك، ومستمدا من علمك) وجاوبه أحمد بن نصر أيضا بجواب حسن. ثم قام وقمنا بأثره. وفيها، مات محمد بن محمد بن خالد القيسي المعروف بالطرزي، وكان ولي المظالم بالقيروان، ولما أراد إبراهيم بن أحمد توليته المظالم، اعتذر إليه بأن فيه حياء ولين جانب وقلة فقه، فقال له إبراهيم: (أما الحياء واللين، فإذا أمرت ونهيت زالا عنك. وأما قلة الفقه فشاور الفقهاء في أحكامكم) وولاه فلم يكن بالقيروان حاكم أشد صرامة منه. وفي سنة 318 خرج حميد بن يصل من المهدية إلى تبهرت بغير أذن عبيد الله، وبنى قلعة هنالك، ورد حماد بن هاشم إلى بلده، وصاهره وأصلح بينه وبين سيار بن عبد الوهاب. فكتب عبيد الله إلى يصل بن حبوس أن يوجه حميد إلى المهدية، ولا يؤخره ساعة. فرجع حميد إليها، ولم يلق من عبد الله سوءاً. وفيها، نزلت الأمطار بالقيروان وصلحت الأحوال، ورخصت الأسعار بعد ضيق شديد كان فيه الناس، وغلاء، ووباء. وفيها مات بالمهدية هشام بن الربيع التميمي وكان من أهل الخير والفضل وناله من عبيد الله الشيعي عقاب، وضربه بسبب ابن القديم. وأوصى ألا يدفن في المهدية فسيق إلى القيروان ودفن بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ذكر مدينة جراوة كانت مدينة جراوة عليها سور مبنى بالطوب. وبخارجها عيون مالحة وداخلها آبار كثير طيبة عذبة، وحولها أرباض من جميع جهاتها، وفيها قصبة مانعة وفيها خمس حمامات، وجامع، له خمس بلاطات أسسها أبو العيش عيسى بن إدريس سنة 257، ووليها بعد ابنه الحسن بن أبي العيش في سنة 291، وخرج منها إلى حصن المنصور في سنة 319، ثم عاد إليها في سنة 323، ثم انتقل إلى تلمسان في سنة 325. وكان لها أربعة أبواب وحولها فحوص للزرع والضرع وحولها قرى مدغرة على البحر. وعلى الجبل بنو يزناتن، ومن جهة الشرق بنو يفرن من زناتة ومن جهة الغرب قبائل زواغة وغيرهم. ذكر مدينة تيهرت وأما مدينة تيهرت، فأسسها عبد الرحمن بن رستم بن بهرام، وكان مولى لعثمان بن عفان وكان خليفة لأبي الخطاب أيام تغلبه على إفريقية ولما دخل ابن الأشعث القيروان، فر عبد الرحمن إلى الغرب بما خلف من أهله وماله فاجتمعت إليه الأباضية، وعزموا على بنيان مدينة تجمعهم، فنزلوا بموضع تيهرت وهي غيضة بين ثلاثة أنهار فبنوا مسجدا من أربع بلاطات، واختطة الناس مساكنهم، وذلك في سنة 161. وكانت في الزمان الخالي مدينة قديمة فأحدثها الآن عبد الرحمن بن رستم وبقى بها إلى أن مات في سنة 168 وقد تقدم ذكر ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ذكر من ملك مدينة تيهرت من حين ابتدائها من بني رستم وغيرهم أولهم عبد الرحمن بن رستم: كانت مدته بها سبعة أعوام. ثم وليها ابنه عبد الوارث فكانت مدته بها عشرين سنة وتوفي في سنة 188. ثم وليها ابنه أبو سعيد أفلح بن عبد الوارث، ومات سنة 305، ثم وليها أيضا ابنه أبو بكر بن أفلح بن عبد الوارث بن عبد الرحمن بن رستم، فاختلف عليه الأمر وأخرجه أهلها من تبهرت، ثم أعادوه إلى أن مات فيها. ووليها بعده أخوه أبو اليقظان محمد ابن أفلح، فكانت مدته بها سبة وعشرين سنة، ووفاته في سنة 381، ووليها بعده أبو حاتم يوسف بن أبي اليقظان، فأقام فيها عاما واختلف عليه الناس واضطرب أمره، فخرج إلى حصن لواتة، وقامت بينه وبين أهل تبهرت حروب عظيمة. ووليها بتقديم أهلها يعقوب بن أفلح بن عبد الوارث بن عبد الرحمن بن رستم، فأقام واليا أربعة أعوام ثم خلعوه وقدموا أبا حاتم بن أبي اليقظان، فأقام ستة أعوام إلى أن قتله بنو أخيه سنة 294، ثم وليها يقظان ابن أبي اليقظان، فقتله أبو عبد الله الشيعي، في خبر طويل، مع جماعة من أهل بيته، وذلك في شوال سنة 296، وانقطع ملك بني ستم من تبهرت في هذا التاريخ. ووليها في أيام الشيعة أبو حميد دواس اللهبصي ولاه أبو عبد الله الداعي حين خروجه منها إلى سلجمانة، فأقام فيها ستة أشهر حتى أتته العساكر من أفريقية، فافتتحها في سنة 299، ووليها مصالة بن حبوس المكناسي، إلى أن قتله محمد بن خزر الزناتي في شعبان سنة 312 فكانت ولايته بها ثلاث عشرة سنة ووليها بعده أخوه يصل بن حبوس إلى أن توفي سنة 319، ثم وليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أبو مالك بن يغمراس بن أبي شحمة اللهبصي، فقام عليه أهل البلد، وأخرجوه سنة 313، ووليها أبو القاسم الأحدب ابن مصالة بن حبوس، فقدموه على أنفسهم، فأقام عليهم سنة واحدة، فلما انصرف ميسور من أرض المغرب إلى أفريقية، حاربهم حتى ظفر بالبلد، وقتل أبا القاسم بن مصالة المذكور، وولي على تبهرت داود بن إبراهيم العحيسي، فأقام واليا عليها إلى أن أخرجه حميد ابن يصل في جمادى الأخرة من سنة 323، في أيام أبي يزيد مخلد بن كيداد البفرني، وخرج حميد بن يصل من تبهرت في سنة 333 في خبر يطول ذكره وجاز إلى الأندلس، واحتل إسماعيل الشيعي مدينة تبهرت، وولي عليها ميسورا الفتى فاضطرب عليه أهل البلاد لأنه سار فيهم بسيرة غير مرضية، فاستدعوا محمد بن خزر الزناتي، وابنه الخير، ومن معهم من زناتة، فقدموا إلى تبهرت في جمع عظيم، وأظهروا أنهم ناصرون لميسور، فخرج إليهم فغدروه وأسروه. ودخل ينو خزر وزناتة مدينة تبهرت، ونزلوا دار الإمارة ثم اضطرب أمر أهل تبهرت وتغلب عليها يعلي بن محمد اليفرني الزناتي، إلى أن قدم جوهر قائد الشيعة، سنة 349، وكانت حوا تبهرت بساتين من أنواع الثمار، كثيرة الأشجار وهي شديدة البرد كثيرة الأمطار، قيا لبعض الظرفاء من أهلها (كم الشتاء عندكم من شهر في السنة!) قال: (ثلاثة عشر شهرا) وقال بعض الشعراء تبهرت من قصيدة أولها (طويل) فراغ الهوى شغل ومحيا ومحيا الهوى قتل ... ويوم الهوي حول وبعض الهوى كل وجود الهوى بخل ورسل الهوى عدى ... وقرب الهوى بعد وسبق الهوى مطل سقى الله تبهرت المنى وسويقة ... بسياحتها غيثا يطرب بها المحل كأن لم يكن والدار جامعة لنا ... ولم يجتمع وصل لنا ولا شمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فلما تمادى العيش وانشقت العصي ... تداعت أهاضيب النوى وهي تنهل سلام على من لم نطق يوما بيننا ... سلاما ولكن فارقت وبها ثكل وما هي آماق يفيض دموعها ... ولكنها الأرواح تجري وتنسل ومما قيل حين قضى الله بخرابها وانتقال أهلها عنها وأربابها (طويل) خليل عوجا بالرسوم وسلما ... على طلل أقوى وأصبح أغبرا ألما على رسم تبهرت دائر ... عفته الغوادي الرائحات فأقفرا كأن لم تكن تبهرت دارا لمعشر ... فدمرها المقدار فبمن تدمرا وتبهرت القديمة هذه هي التي خربها الخَيّرُ بن محمد بن خزر الزناتي، وفيها مات بالقيروان من قريش أبو الحسن المطلبي أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن علي بن زيد بن ركانة بن عبدود بن هاشم بن عبد المطلب يوم الأربعاء لأربع عشر ليلة خلت من جمادى الأول وكان قد صحب عبيد الله بسجلماسة قبل أن يملك القيروان، فنال بها جاها كبيرا في آخر عمره وفيها، مات محمد بن عثمان الخرساني الفقيه، صاحب الوثائق بالقيروان، وكان يذهب مذهب أهل الكوفة، ولم يكن ممن يقول بخلق القرآن وله سماع بمصر من يونس بن عبد الأعلى وفي سنة 329، اكتب موسى بن أبي العافية (صاحب الأندلس) (أمير المؤمنين) (عبد الرحمن) الناصر من العدوة (الغريبة) ورغب في موالاته والدخول في طاعته، وأن يستميل له أهواء أهل العدوة المجاورين له فتقبله (أمير المؤمنين) أحسن قبول وأمده بالخلع والأموال وقوى أوده على ما كان يحاوله من حرب ابن أبي العيش وغيره فظهر أمر موسى من ذلك الوقت في العدوة وتجمع إليه كثير من قبائل البربر وتغلب على مدينة جراوة وأخرج عنها الحسن ين أبي العيش بن إدريس العلوي ودارت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بينهما محاربات ومواقعات. (وبني الحسن بن أبي العيش حصنا منيعا بجبل بينه وبين جراوة أربعة) أميال وحوله قرى لمدغرة، وبني يفرن وغيرهم من القبائل وكان لأبي العيش أيضا وبنيه مدينة تلمسان وما والاها، يسكنها مثل زواغة ونفزة وغير ذلك، وفي ذلك يقول بكر بن حماد (كامل) سائل زواغة عن طعان سيوف ... ورماحه في العارض المتهلل وديار نفرة كيف داس حريمها ... والخيل قمرغ في الوشيج الذلل غشى مغيلة بالسيوف مذلة ... وسقى جراوة من نقيع الحنظل ومن جراوة إلى تيهرت ثلاثة مراحل وإلى حصن تامغلت مرحلتان يسكنه بنو دمر من زناتة. ذكر مدينة تلمسان ذكر أن تلمسان قاعدة المغرب الأوسط قاله البكري وصحح قوله كثير مكن الإخباريين، ومن كتاب رجار قال: وبين مدينة تلمسان وتبهرت، يسكن بنو مرين وجميع قبائل زناتة، منهم تجين ومغراوة وبنو راشد، وورنيد، وغيرهم، قال: وأكثرهم فرسان يركبون الخيل ولهم معرفة بارعة وحذق وكياسة، لاسيما بعلم الكتف. وهم منسوبون إلى جانا. قال: وزناتة في أصل مذهبهم عرب صراح وإنما تبربروا بالمجاورة والمحالفة للبربر. وذكر أنهم ينتسبون إلى بر بن قيس بن إلياس بن مضر. ذكر افتتاح مدينة سبتة بالعدوة وفي سنة 319، هذه المؤرخة، افتتح الناصر لدين الله الأموي مدينة سبتة بالعدوة (على بحر الزقاق من بر العدوة، التي هي نظام باب المغربين ومفتاح باب المشرقين، وهي على ما قبل مجمع البحرين قاعدة البر والبحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 واللؤلؤ الحالة من الدنيا بين السحر والنحر وفي فتحها يقول عبيد الله بن يحيى بن إدريس يخاطب الناصر (طويل) بسيفك دانت عنوة وأقرت ... بصائر كانت برهة قد تولت وما قربت أهواؤها إذ تقربت ... ولا حليت بالزي لما تحلت ولكن أزالت راسيات عقودها ... عزائم لو ترمي بها العصم زلت ودولة منصور اللواء مؤيد ... تدل بحد الله من شر دولة فهذا أوان النصر منها وهذه ... بشائره تروي الأنام ببستة فشكها أمير المؤمنين (الناصر) بالرجال، وأتقنها بالبيان وبرني سورها بالكدان وألزم فيها من رضيه من قواد وأجناد وصارت مفتاحا إلى العدوة قال عريب: وبابا إليها، وثقافا على المراسي في ذلك الجانب وقامت الخطبة فيها باسم أمير المؤمنين الناصر وذلك يوم الجمعة لثلاث خلون من ربيع الأول من العام المؤرخ. وفيها، ورد الخبر على عبيد الله بالمهدية بدخول موسى بن أبي العافية وأهل سبتة في طاعة أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد الناصر، وأن مركبا نزل زم الأندلس بمرسى جراوة لموسى بن أبي العافية، فهبط إليه الحسن بن أبي العيش واخذ ما كان فيه. فكاتبه قاضيه ووجوه أهل موضعه وكلموه في ذلك فلم يصرف إليه متاعه، فزحف موسى إلى صاء، فأخرج منها عامر بن أبي العيش وأمن أهلها، ثم زحف إلى زواغة، فخرج إليه ابن أبي العيش فلما رأى كثرة من معه انصرف عنه من غير قتال، وأحرق ابن أبي العافية بسيط جراوة وتجول في البد أياما، ودارت بين أبي العيش وبين ابن أبي العافية مراسلات. ورغب ابن أبي العيش في مصالحته وصرف ما كان أخذ له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 واصطلحا. ورجع موسى إلى بلده، ثم زحف ابن أبي العافية إلى أزقور، فاستمد أهل قلوع جارة عليه بابن أبي العيش، فأمدهم بخيل وأغاروا على بعض نواحي ابن أبي العافية، وأخذوا له جمالا كثيرة، وقاسموا الغنيمة ابن أبي العيش. فعادت الحرب بين ابن أبي العافية وبين ابن أبي العيش وكاتب أهل جراوة ابن أبي العافية وضمنوا له دخول المدينة وزحف إليها بمن معه، وأدخله أهلها طائفين. ثم قصد إلى المنصور فدعاهم إلى الأمان فأجابه بعضهم، تغلي على سائرهم وقتل بها جماعة، وقيل أنه أخذ زوجة ابن أبي العيش القرشية، وأولاده وخيله وسلاحه وأحرق المدينة بالنار، وانصرف إلى محلته وبعث زوجة ابن أبي العيش إلى أهلها مع ثقات من أهل حراوة فعظم على الشيعي ما ورد من هذا الأمر، وأقلقه وكتب إلى القبائل في المغرب يحضهم على طاعته ويمنيهم إمداده ونصره، ومدينة سبتة مدينة أزلية على ضفة البحر الرومي وهو بحر الزقاق الداخل في البحر المحيط، وهي في طرف من الأرض والبحر محيط بها من كل ناحية إلا موضعا ضيقا جدا، لو شاء أهلها ان يصلوه بالبحر الأخر لفعلوا فتصير من جزر البحر. ويجلب الماء إلى حماماتها من البحر. وأهلها هرب وبربرولم تزل دار علم. وشرقيها جبل منيف داخل في البحر والبحر محيط به ويلقط في بعض نواحي هذا الجبل ياقوت صغير الجرم، عريق في الجودة، وبحرها يستخرج منها المرجان وهو السبذ. واختلف في تسميتها بستة فقال قوم: سميت بذلك لانقطاعها في البحر تقول العرب: (ست النعل) إذا قطعته. وقال آخرون أن رجلا من ولد سام بن نوح - عم - اسمه سبت خرج من المشرق لأسباب عرضت له فتوغل في المغرب حتى أتى موضعها فاختط فبها موضعا يعمره. ويذكر أشياخنا الحديث المسند عن وهب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 مسرة الحجري وذلك أن أبا عبد الله محمد بن علي حدثه عام 400 عن وهب بن مسرة عن بن وضاح عن سحنون عن إبراهيم ابن القاسم عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أن بأقصى المغرب مدينة تسمى سبتة أسسها رجل صالح اسمه سبت من ولد سام بن نوح، واشتق لها اسما من اسمه ودعا لها بالبركة والنصر فما رماها أحد بسوء إلا رد الله بأسه عليه. قال بن حمادة: قال شيخنا العالم أبو الفضل عياض بن موسى وهذا الحديث تشهد بصحته التجربة، فأنها مازالت محمية عند من وليها من الملوك وقل وما أحدث أحد منهم فيها حدث سوء إلا هلك. قال تاعذري: كان ملك من ملوك القوط بالأندلس يسمى تودوش فجاز البحر إلى سبتة لمحاربة البربر فحاصرهم فيها ثم تألفوا عليه فأمكنته منهم غزة فقتلهم، ولم ينجح منهم ألا القليل. ورجع تودش إلى الأندلس. وبقى البربر فيها إلى أن دخل الروم ثانية، وكان فيها يليان. وكان عقبة بن نافع لما غزا الغرب ودوخه كله وصل إلى سبتة فخرج إليه يليان بهدايا وتحف وأستلطفه وكان ذا عقل وتجربة فأمنه عقبة وأقره على موضعه ثم دخل العرب بعد ذلك بالصلح ثم قام البربر إلى طنجة وزحفوا إليها فأخرجوا من كان فيها وخربوها، وبقيت مسكنا للوحوش مدة طويلة. ثم دخلها رجل من غمارة يسمى ماجكس فعمرها وأسلم ورأس فيها وانضافت له البربر إلى أن هلك ثم وليها بعده أبنه عصام بن ماجكس ثم أبنه مجبر بن عصام ثم وليها الرضى بن عصام وكان يحكم فيها برأي فقهاء الأندلس ثم دخلها قوم من قلشانة فاشتروا فيها أرضا من البربر وبنوا فيها دورا وما تثلم من سورها الذي هو اليوم الستارة وكانوا مع ذلك يدعون الطاعة لبني إدريس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 حتى أفتتحها عبد الرحمن الناصر ودخلها قائده فرج بن غفير يوم الجمعة ليلة خلت من شعبان من سنة 319. ذكرى من ولى سبتة لبني أمية: فوليها من قبل الناصر بن غفير سنة 319 المذكورة. ثم وليها أحمد بن عبد الصمد الغرناطى: ثم وليها محمد بن حزب الله سنة 323 ثم عزل. ووليها محمد بن مسلمة في سنة 236 ثم عزل. ووليها ابن مسلمة أيضا إلى سنة 330 ووليها ابن مقاتل إلى أن أسر في شوال 332 أسره عندهم بنو محمد الأدارسة إلى أن لحقهم قاضيها محمد ابن أبي العباس في رمضان سنة 333، فجنحوا بنو محمد إلى السلم على يد القاضي فأطلقوا ابن مقاتل، وبعثوا رهائنهم إلى أمير المؤمنين الناصر بقرطبة. ولم يزل ولاة الناصر يتداولونها إلى سنة 346. وفيها مات أحمد بن أحمد بن زياد الفارسي صاحب الوثائق بالقيروان، وكان له سماع ونظر، وتولى كتابة السجلات والأحكام لعيسى بن مسكين، وله كتب في الوثائق والشروط في مواقيت الصلاة. وفيها مات في مدينة نيهرت يصل بن حبوس صاحبها فقدم أهلها على أنفسهم علي بن مصالة وتكبوا إلى عبيد الله بالخير، فولى عليهم حميد بن يصل وأخرجه إليها في جيش كثيف وفصل إليها في ذي الحجة. وفيها ولد أبو تميم معد بن إسماعيل الشيعي يوم الاثنين لتسع خلون من شهر رمضان بقصر المهدية. وفي سنة 320 أوقع حميد بن يصل بداود بن مصالة، وسنان وأبي حمليل بن برنو وقتل جماعة من أصحابهم وحصرهم في حصن أبي حمليل ثلاثة أشهر. وقرى بذلك كتاب عبيد الله الشيعي على المنابر تأريخه يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأخيرة. وفيها سار موسى بن أبي العافية إلى محمد بن خزر (أمير زناتة) وطوى نحوه المراحل فألقاه على حين غفلة فقاتله وهزمه وقل أصحابه ثم أنصرف إلى جراوة. وكان سبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ذلك بن خزر كتب إلى موسى بن أبي العافية في أمر ابن أبي العيش بما أحفضه، وأظهر أنه مؤيد له عليه. فأنف لذلك موسى وخرج إليه وواقعه وفيها عزل عبيد الله بن سلمان صاحب الوثائق، وكان في عناية أبي جعفر البغدادي وزن بابنه فرع بذلك عليه خليل الشيعي وقال له: (يا مولاي إنما يعمل البغدادي 6في شتر هذه الدولة الزاهرة وإدخال العيب فيها! وقد ولى على قضاء إطرابلس والوثائق رجلا مستهترا بالمرد!) ورفع إليه قول ابن عامر الفزاري في مرد إفريقية أيام بني الأغلب وفيها ذكر أبو سلمان هذا بقبيح من القول. وأول الأرجوزة: وروضة تكسو يم الأرض وشيئا بديعا من نبات غض منها على الأرواح قاضٍ يقضي بياض بعض واحمرار بعض وفيها: بار ابن سلمان على الغزلان شبيه بدر فوق غصن بان ما إن له في حسنه من ثان كأنما صبغ من العقيان فلذلك عزله، وولى قضاء مدينة إطرابلس أحمد بن بحر وكان صاحب مظالم القيروان وصلاتها باختبار إسحاق بن أبي المنهل. وفيها أظهر موسى ابن أبي العافية الدعوة لأمير المؤمنين الناصر وقام بها وذلك في شعبان بعد أن تغلب على نكور ودخلها بالسيف وقتل صاحبها المؤيد بن عبد البديع بن صالح بن سعيد بن إدريس وبعد أن حصر بني محمد في الجبل المعروف بحجر النسر حتى صالحوه على شيء أخذه منهم وزال منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وفيها مات في تونس أبو حبيب نصر الرومي وله سماع من ابن عبد الله الحكم من أهل الحفظ للمسائل. وفي سنة 321 سجلماسة أبو المنصور بن معتز بن محمد وهو ابن ثلاثة عشر سنة فمكث في ولايته شهرين وقام عليه ابن عمه محمد ابن الفتح المسمى بالأمين فحاربه وتغلب وتغلب عليه وأخرجه من سجلماسة وتملكها وكان سنيا يظهر العدل إلا أنه تسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالشاكر لله وضرب بذلك الدنانير والدراهم وذلك 342 فمكث كذلك إلى أن قربت منه عساكر أبي تميم معد العبيدي. ذكر من ولي سجلماسة من حين فتحها الشيعي ولى الشيعي المزاني المتقدم ذكره في سنة 298 فقتله أهل سجلماسة بعد إقامته خمسين يوما ووليها أبو الفتح بن الأمين سنتين وأشهرا. ثم ووليها أحمد بن الأمين سنة 300 وبقي بها إلى أن حاصره مصالة بن حبوس وافتتحها عنوة وقتله في محرم سنة 309 وولي مصالة على سجلماسة المعتز ابن محمد من بني مدرار وبقي بها إلى سنة 321 المورخة وتوفي. فوليها أبو المنصور المذكور. وفي سنة 322 توفي عبيد الله المهدي ليلة الثلاثاء من ربيع الأول فكانت مدته أربعا وعشرين سنة وعشرة أشهر ونصفا. وكان وصوله إلى مصر في زي التجار سنة 289. وظهر بسجلماسة في ذي الحجة سنة 296 وسلم عليه بالأمانة. وأنفصل إلى رقادة في ربيع الآخر من سنة 297. وبنى المهدية وأستقر بها سنة 308. ولما أنتقل إلى المهدية دخل رقادة الوهن وأنتقل عنها ساكنوها، فلم تزل تخرب شيئا بعد شيء إلى أن ولى معد بن إسماعيل فخرب ما بقى منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ذكر رقادة: وكانت رقادة دار ملك بني الأغلب ويذكرون أن من دخلها لم يزل ضاحكا من غير سبب وأن أحد ملوك بني الأغلب شرد عنه النوم فلما وصل إليها نام فسميت رقادة، فاستوطنها إبراهيم بن أحمد وانتقل إليها من القصر القديم، فبنى بها قصورا عجيبة وجامعا وحمامات وغير ذلك. وكان تأسيسها سنة 263 وتأسيس القصر القديم سنة 184. وكان ابن الأغلب منبع بيع الشراب بالقيروان وأباحه برقادة فقال بعضهم في ذلك منسرح: يا سيد الناس وأبن سيدهم ... ومن إليه الرقاب منقاد ما حرم الخمر في مدينتنا ... وهو حلال بأرض رقادة ذكر المهدية بالقيروان: وأما المهدية فهي منسوبة إلى المهدي عبيد الله الشيعي. فأنه لما تغلب على الملك تلقب بالمهدي وسمى مدينته التي بناها بقلبه وبينها وبين القيروان سنون ميلا وقويت في أيام وأيام أبنه أبي القاسم وحفيده إسماعيل وصدرا من دولة معد بن إسماعيل حتى أنتقل منها معد إلى القاهرة، لما ملك مصر وبنى القاهرة المعزية نسبة إلى لقبه المعز فضعف إذ ذاك المهدية إلى أن أستوطنها المعز بن باديس آخر أيامه لما خرجت القيروان بهزيمة المعز المذكور، إلى أن توفي بها، ووليها بعده ابن تميم بن المعز، وصارت دار ملكه، وولده يحيى بن تميم بعده ووله علي بن يحيى بعده إلى أن أخرجهم منها عبد المؤمن بن علي بعد المحاصرة. وبقيت للإسلام إلى الآن. وبها دار صنعه الإنشاء المجيبة: يخرج الجفن مغمورا من خلف السور فلا يعلم به حتى يفاجأ العدو القاصد فيحيط به فلا يقربها العدو لآجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وأما القيروان، فكانت أعظم مدن المغرب طرأ وأكثرها بشرا، وأيسرها أموالا وأوسعها أحوالا. وكان الغالب على أهلها التمسك بالخير والتخلي عن الشبهات واجتناب المحارم إلى أن تولى الدمار عليها بدخول العرب عليها على ما يأتي ذكره في موضعه، فلم يبقى بها إلا أطلال دراسة، وآثار طامسة. ويذكر أنها ستعود إلى ما كانت عليه. وهي الآن في وقتنا الحاضر وهو آخر المائة السابعة قد ابتدأت بالعمارة. وملك عبيد الله الشيعي إفريقية، وجمع المغرب، وإطرابلس وبرقة وجزيرة صقلية وكانت عماله على ذلك كله وسير ولده ولي عهده إلى مصر ففتحها وكانت الكتب تنفذ في أيامه باسم ولده. وكان له ستة أولاد: أكبرهم ولي عهده أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الشيعي المتلقب بالمهدي وعمره أعني عبيد الله الشيعي يوم مات ثلاثة وستون سنة. ذكر ولاية أبي القاسم بن عبيد الله بإفريقية بويع له يوم مات أبيه منتصف ربيع الأول من سنة 322 المؤرخة وتلقب بالقائم بأمر الله. وتوفي يوم الأحد الثالث عسر من شوال سنة334. فكانت دولته اثنتي عشرة سنة وسبعة أشهر وعمره خمس وخمسون سنة. أولاده الذكور سبعة حاجبه: جعفر بن علي. ومن قضاته ابن أبي النهل. ولم يركب أبو القاسم طول إمارته بمظلة فقام بسيرة أبيه وأظهر من الحزن عليه ما لا يعهد لمثله وواصل الحزن لفقده وأدامه من بعده فما ركب دابة من باب قصره منذ مات أبوه إلى أن قبض سوى مرتين. وافتتحت في أيامه مدائن كثيرة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 مدائن الروم بصقلية وثار عليه عدة ثوار فأمكنه الله منهم وممن ثار عليه ابن طالوت القرشي فسار إلى ناحية أطرابلس ليأخذها هو في عدد كثير فقاتلوه وقتلوا جماعة من أصحابه وزعم أنه ابن المهدي فقام معه البربر واتبعوه. فلما تبين لهم أمره قتلوه وأتوا برأسه إلى القائم بأمر الله. وكان أول ما بدأ به أبو القاسم الشيعي أن أمر عمالة في سائر البلدان بعمل السلاح وجمع الآلات الحربية وأخرج الفتى ميسورا بعدد عظيم إلى الغرب فانتهى إلى فاس وهز ابن أبي العافية، وأخذ أبنه أسيرا. وأخرج يعقوب بن إسحاق في الأسطول إلى بلد الروم فافتتح جنوة وأقر أبا جعفر البغدادي على البريد والكتابة، وفوض إليه كثيرا من أمور المملكة. وفي سنة 323 بعث القائم بأمر الله عسكرا إلى برقة قود عليه زيدان، وبعث معه عامرا المجنون، وأبا زرارة وجماعة من عساكر برقة الذين بها من كتامة إلى مصر فدخلوا إلى الإسكندرية فأخرج إليه محمد بن الإخديش جيشا فيه خمسة عشر ألفا فأسر منهم خلقا كثير. وفي هذه السنة مات الفضل بن علي بن ظفر وكان أديب دهره ظريفا عصره، علما وفقها وأدبا ووفاء. وفي هذه السنة وصل ميسور الصقلبي إلى مدينة فاس، فخرج ألبه صاحبها أحند بن أبي بكر بن أبي سهل الجذامي فغدره وقبض عليه وبعث به إلى المهدية فقدم أهل فاس على أنفسهم حسن بن القاسم اللواتي وحارب أهل فاس ميسورا سبعة أشهر فلم يقدر عليهم ثم حاصر ابن أبي العافية واستعان ببني إدريس عليه واعتنى بهم ووفى لهم حقهم فانجلى ابن أبي العافية أمامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 إلى الصحراء وصار كل ما كان لبني العافية لبني إدريس. وكانت الرياسة فيهم لبني محمد بن القاسم، وهم حسن، وقنون، وإبراهيم المعروف بالرهوني. وقنون اسمه القاسم، وكان يلزم مدينة صخرة النسر. ذكر أخبار الأدارسة وسبب دخولهم إلى المغرب وبنائهم مدينة فاس ومن وليها منهم ومن غيرهم إلى هذه السنة ذكر العذري وغيره أن إدريس وسليمان ابني عبد الله الحسن بن الحسن ابن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنهم - فروا من الواقعة التي كانت في أيام جعفر المنصور، وهي وقعة فخ، وكانوا ست أخوة: إدريس، وسليمان، ومحمد، وإبراهيم، وعيسى ويحيى. أما محمد فخرج بالحجاز وقتل. وأما يحيى فقام في الديلم، في خلافة الرشيد، وهبط على الأمان، ثم سم ومات. وأما إدريس، ففر إلى المغرب؛ ودخل إليه في أيامه من الطالبين أخوه سليمان، فاحتل بتسلمان، وداود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طالب، ثم رجع داود إلى المشرق، وبقيت ذريته بالمغرب. واحتا إدريس بن عبد الله بالمغرب سنة 170، واستوطن وليلى، وكانت أزلية. وكان وصوله مع مولاه راشد؛ ثم نزل على إسحاق ابن عبد الحميد سنة 172؛ فقدمه قبائل البربر وأطاعوه وبلغ خبره هارون الرشيد، فدس إليه من سمه. وكان المدسوس إليه رجل يقال له الشماخ فسمه وهرب إلى المشرق. ومات إدريس في سنة 175، فقام بأمر البربر مولاه راشد. وترك إدريس جارية بربرية اسمها كنزة؛ فولدت له علاما سمي باسم أبيه فولى إدريس بن إدريس سنة 187 وهو ابن أحد عشرة سنة؛ وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أكثر من ذلك، وبايعه جميع القبائل. وكانت عدوة القرويين غياضا، في أطرافها بيوت من زواغة، فأرسلوا إليه، ودبر في البناء عندهم، فكان ابتداء بناء مدينة فاس سنة 193 وذلك عدوة القرويين، غزا إدريس بن إدريس نفرة، ووصل إلى تلمسان، ثم رجع، ووصل إلى وادي نفيس، فاستفتح بلاد المصامدة وتوفي مسموما سنة 213. وأختلف في كيفية موته لا. قال ابن حمادة والبكري وغيرهما: ترك من الولد أثنى عشر، وهم: محمد، وأحمد، وعبد الله، وعيسى، وإدريس، وجعفر، ويحيى، وحمزة، وعبد الله والقاسم، وداود وعنر. فولي منهم محمد بن إدريس، ففرق البلاد على أخوته بأمر جدته كنزة، فأعطى قاسم طنجة وما يليها، وأعطى عمر صنهاجة الهبط وغمارة، وأعطى داود هوارة تامليت، وولي عيسى ويحيى وعبد الله بلاد أخرى. وبقي الصغار من أخوته فثار عليه عيسى، ونكث طاعته، فكتب الأمير محمد بن إدريس إلى أخيه القاسم، يأمره بمحاربته، فأمتنع، وكتب أيضا إلى أخيه عمر، فأجابه وسارع إلى نصريه، وكان تقدم بين عمر وعيسى تنازع. وتوفي عنر ببلد صنهاجة، ونقل إلى فاس، وهو جد الحموديين. ثم توفي الأمير محمد بن إدريس - رحمه الله - فولي يحيى بن محمد بن إدريس، فولي يحيى أعمامه وأخواله أعمالا فولي حسينا القبلة من مدينة فاس إلى أغمادت، وولي داود المشرق من مدينة فاس: مكناسة، وهوارة، وصدينة، وولي قاسم غربي فاس: لهاتة وكتامة. وتشاغل يحيى عما كان يحق عليه من سياسة أمره. فملك أخوته أنفسهم، استمالوا القبائل، وقالوا لهم: (إنما نحن أبناء أب واحد، وقد ترون ما صار إليه أخونا يحيى من إضاعة أمره) فقدمهم البربر على أنفسهم تقديما كليا. وكان يحيى منهمكا في الشراب، معجبا بالنساء، وذكر أنه دخل يوما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الحمام على امرأة، فتغير عليه أهل فاس، فكان ذلك سبب هلاكه، فهرب إلى عدوة الأندلس، فمات بها، وكانت زوجه بنت علي بن عمر جد الحموديين. ثم ولى علي بن عمر بن إدريس، وذلك أنه، لما هلك يحيى، أتى صهره على هذا، فدخل عدوة القرويين وملكها، وانتقل الأمر عن بني محمد بن إدريس إلى بني عمر بن إدريس. ثم قاد عليه عبد الرزاق الخارجي الصفري من مديونة، فدارت بين علي وعبد الرزاق حروب كثيرة، إلى أن هزمه الخارجي، واستولى على فاس. ومر على أهل أروبة وملك عبد الرزاق عدوة الأندلسيين، وأخرج منها عبد الرزاق في خبر طويل. وطالت أيام يحيى هذا بفاس وما والاها من البلاد والأقطار والقلاع، إلى أن قتله ربيع بن سليمان سنة 292. ثم ولى يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس بن إدريس وذلك أنه لما مات يحيى بن القاسم تقدم إلى فاس يحيى بن إدريس وملكها. ورجع الأمر إلى بني عمر بن إدريس خمس عشر سنة، إلى أن قدم مصالة بن حبوس في سنة 307، وذلك أن مصالة قد قدم الغرب في حركته الأولى سنة 305، فابتدأ بالإحسان والإكرام لموسى بن أبي العافية، وقدمه على ما استولى عليه من بلاد الغرب. وكان يحيى بن إدريس صاحب فاس يغير عليه ويقطع عنه أمله. فلما رجع مصالة في سنة 307، أقام بالغرب خمسة أعوام، فكان ابن أبي العافية يسعى في ضرار يحيى وحنقه عند مصالة لما تقدم بين موسى ومصالة من المودة ولما كان بين موسى ويحيى بن إدريس من العداوة فعزم مصالة على القبض على يحيى، فلم يزل يتحيل عليه، حتى أقبل إلى معسكره فغدره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقبض عليه، وانتزع ما كان بيده وأمره باستجلاب ماله فأحضره وأخرجه من فاس وولي فاسا عامل مصالة. وانفصل مصالة من الغرب، وبقي موسى ابن أبي العافية في الغرب أميرا. ثم قام حسن بن محمد سنة 310، وهو حسن بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس، الملقب بالحجام، فأوقع بموسى بن أبي العافية. وكان بينه وبين رؤساء القبائل وقعة شنيعة، لم يكن بالغرب بعد دخول إدريس الكبير مثلها، قتل فيها من البربر نحو ألفي قتيل، وقتل لموسى في جملتهم ولد يسمى منهل. وملك حين هذا فاسا وما يليها نحو سنتين. ثم قام عليه أهل فاس، وغدروه وقدموا حامد بن حمدان الهمداني، وكان يعرف باللوزي، وهي قرية بإفريقية نسب إليها تسمى لوزة. فأخذ حامد حسن بن محمد، وسجنه وأرسل إلى موسى بن أبي العافية فأتاه بجيوشه ودخل فاسا وتغلب عليها وأراد قتل حسن لأجل أبنه منهل الذي كان السبب في قتله، فدافعه حامد عنه، وكره المجاهرة بقتله ثم سم بعد ذلك، وقيل: أخرجه حامد على السور فسقط عنه وانكسرت رجله ووصل إلى عدوة الأندلسيين فمات بها رحمه الله؟!. واستولى موسى بن أبي العافية على ملك فاس وبلاد الغرب بعد موت حسن الحجام. وسمي بذلك لأنه حارب بني عمه فضرب رجلا بحربة صادف بها موضع الحجم، ثم صادف ضربة أخرى لشخص أخر في موضع المحاجم ايضا، وكذلك ثالثة. فقال ابن عمه أحمد: (صار ابن عمي حجاما) فسمي بذلك حجاما. ومن قوله طويل: وسميت حجاما ولست بحجام ... ولكن لضربي في مكان المحاجم ولما استولى ابن أبي العافية على فاس قتل عبد الله بن ثعلبة بن محارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الأزدي وقتل أخاه محمد وهرب والدهما ثعلبة بن محارب إلى قرطبة. وأراد موسى ابن أبي العافية قتل حامد الذي كان السبب في دخول فاس فهرب منه محصل في المهدية. وأجل موسى بن إدريس أجمعين عن مواضعهم وصاروا في مدينة حجر النسر مقهورين، وهو حصن مانع بناه إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس. وعزم موسى على محاصرتهم في هذا الحصن واستئصالهم، فأخذ عليهم في ذلك أكابر أهل المغرب وقالوا له: (قد أجليتم، وأفقرتهم! أتريد أن تقتل بني إدريس أجمعين، وأنت رجل من البربر؟ فأنكسر عن ذلك ولاذ بعسكره وتلف لمراقبتهم قائده أبو قمح فكانت حملته قريبا منهم فضيق عليهم، وأستخلف ابن أبي العافية على أبنه مدين علي فاس فبقى بها حتى قدم حميد بن مصال. ولما وصل محمد إلى بلاد الغرب وولى على فاس حامد بن حمدان. وكان ولد موسى لما سمع بقدوم محمد حامد هرب من فاس. وتظاهرت بنو إدريس على قائد موسى بن أبي العافية فهزموه وغنموا أكثر من عسكره. وذلك سنة 317. ثم قام بفاس أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي فقتل حامد بن حمدان وبعث برأسه إلى موسى بن أبي العافية، وبرأس ولده فبعث بهما موسى إلى قرطبة مع سعيد الزراد. وكان حميد بن يصال ولما رجع من بلاد الغرب إلى إفريقية ترك موسى بن أبي العافية بغير عهد من أمير إفريقية فكان ذلك سببا لسجنه بإفريقية إلى أن هرب إلى الأندلس وكان موسى يسهل إلى لصاحب قرطبة من أمراء بني أمية. وفي سنة 324 خرب علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسي مدينة المسيلة. وكان بينها وبين طبنة مرحلتين. وكان بقرب المسيلة مدينة للأول تسمى الرومانية، يطل عليها جبل أوراس وهو مسيرة سبعة أيام وفيه قلاع كثيرة يسكنها هوارة وهم على رأي الخوارج وفي هذا الجبل كان مستقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الكاهنة وفيه ظهر أبو يزيد مخلد بن كياد وقام على أبي القاسم الشيعي. وفي سنة 325 قدم أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي على صقلية خليل بن إسحاق، فعمل بها ما لم يعمل بها أحد من قبله ولا بعده من المسلمين أهلكهم قتلا وجوعا حتى فروا إلى بلاد الروم وتنصر كثير منهم وبقى بصقلية أربعة أعوام. ولما قدم منها سنة 329 قال يوما، مفتخرا بظلمه في مجلس حضره جماعة من محو الناس تكلموا فيه معه في أمور شتى ثم جرى ذكر خروجه إلى صقلية: (أني قتلت ألف ألف: يقوله المكثر والمقلل يقول مائة ألف في تلك السفرة!) ثم قال: (لا والله ألا أكثر!) فقال له أبو عبيد الله المؤدب: (يا أبا العباس! لك في قتل نفس واحدة ما يكفيك!) وكان خليل هذا يكنى أبا العباس، وكان عبيد الله الشيعي يصرفه في الأعمال، وجبايات الأموال ومحاسبة الدواوين والعمال. ثم وقعت فيه أقواله، فكرهه عبيد الله وأبغضه، ولولا أبنه أبو القاسم لأهلكه. ومن قول خليل في عبيد الله الشيعي وتوغله فيه طويل: أن الإمام أقام سنة جده ... للمسلمين كما حذوت نعالها أحيى شرائعه وقوم كتابها ... وفروضها وحرامها وحلالها وكان أبو القاسم بن عبيد الله أمر ببناء مدينة المسيلة سنة 313، وجعل المتولي لبنائها ابن الأندلسي وأستعمله بعد ذلك عليها إلى أن أهلك في فتنة أبي يزيد بن كيداد سنة 326 وبقي ابن جعفر في المسيلة وصار أمير على الزاف كله إلى أن خرج عنها في سنة 360 في فتنة زيري بن مناد والشيعية تسمى المسيلة المحمدية. قال المروذي سريع: ثم إلى مدينة مرضية ... أست على التقوى محمدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وأما مدينة مشير فبناها زيري بن مناد الصنهاجي والدليل على ذلك ما أنشده عبد الملك بن عيشون رجز: يا أيها السائل عن غربنا ... وعن محل الكفر أشير عن دار فسق ظالم أهلها ... قد شيدت للكفر والزور أسسها الملعون زيريها ... فلعنة الله على زيري وخربها يوسف بن حماد الصهناجي واستباح أموالها بعد الأربعين والأربعمائة. وفي سنة 327 قام بالمغرب الأقصى ويقال له السوس الأذني وهو مرضع تادلا وتامسنا أبو الأنصار بن أبي عفر البرغواطي بعد موت أبيه وكان يفي بالعهد والوعد. وسأذكر بعض أخبارهم إن شاء الله تعالى. أخبار أبي يزيد مخلد بن كيداد اليفاني الزناتي هو مخلد بن كيداد بن سعد الله بن مغيث بن كرمان بن مخلد بن عثمان بن ورميت بن تبقراسن بن سميدان بن يفرن هو أبو الكاهنة وتنسب إلى جانا بن يحيى زناته كلها. قال ابن حماده، كان أبو القاسم الشيعي لما مات أبوه عبيد الله أظهر مذهبه وأمر بسب الغر والعباء وغير ذلك من تكذيب كتاب الله تعالى فمن تكلم عذب، وقتل. وأشتد الأمر على المسلمين. ثم أن أبا يزيد هبط من جبل أوراس، يدعوا إلى الحق يزعمه ولم يعلم الناس مذهبه، فخرجوا فيه الخير والقيام بالسنة، فخرج على الشيعة ودخل إفريقية وخرب مدنها ودوخها وقتل من أهلها ما لا ينحصر. وفي سنة 332 اشتد امر أبي يزيد بإفريقيو حتى فر أمامه أبو القاسم الشيعي إلى المهدية من رقادة. وكان أبو يزيد أحد أئمة الأباضية النكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بالمغرب. قال الرفيق: وقرأ على عمار الأعمى. وكان يركب الحمار وتسمى شيخ المؤمنين قال ابن سعدون فبعث الله على أبي القاسم الشيعي مخلد ابن كيداد الخارجي فقهره وقتل جنوده وقام المسلمون معه. وخرج الفقهاء والعباد مع أبي يزيد لحربه وسماهم ابن سعدون في كتابه رجلا، رجلا. فركبوا معه ونهضوا إلى القيروان فد خلها في صفر العام وأظهر لأهلها خيرا وترحم على أبي بكر وعمر ودعا الناس إلى جهاد الشيعية وأمرهم بقراءة مذهب مالك. فخرج الفقهاء والصلحاء في الأسواق بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه وأزواجه حتى ركزوا بنودهم عبد الجامع. فلما كان يوم الجمعة اجتمعوا بالمسجد الجامع وركبوا مع أبي يزيد السلاح ومعهم البنود والطبول منها بندان أصفران مكتوب في أحدهما البسملة و (محمد رسول الله) وفي الأخر (نصر من الله وفتح قريب على يد الشيخ أبي يزيد! اللهم! أنصر وليك على من سب أولياءك) وبند أخر مكتوب عليه (قاتلوا أمية الكفر) الآية وبند أخر مكتوب فيه: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم) وبند أخر مكتوب فيه بعد البسملة أيضا (محمد رسول الله أبو بكر الصديق، عمر الفاروق) وبند أخر وهو السابع فيه (لا إله إلا الله! محمد رسول الله! ألا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.) فلما اجتمع الناس وحضر الإمام وطلع على المنبر خطب خطبة أبلغ فيها وحرض الناس على جهاد الشيعية وأعلمهم بما لهم فيه لعن عبيد الله وابنه ثم نزل فخرج وخرج الناس معه لقتال الشيعة الفجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فلم يزل قاهرا لهم غالبا عليهم قاتلا لجنودهم حتى لم يبقى لهم من بلاد إفريقية إلا اليسير. ولما رأى أبو يزيد أنه استولى على الأمر أو كاد وأن الشيعي قد كاد يبيد أو باد قال لجنوده (إذا التقيتم مع القوم فانكشفوا عن أهل القيروان حتى يتمكن أعدائهم من قتلهم فيكون هم الذين قتلوه لا نحن! فيستريح منهم!) أراد أن يتبرأ من معرة قتلهم عند الناس، وأراد الراحة منهم لأنه فما ظن إذا قتل شيوخ القيروان وأئمة الدين، تمكن من أتباعهم فيدعوهم إلى ما شاء فيتبعونه. فقتل من صلحاء القيروان وفقهائهم من أراد الله بسعادته وشهادته وسقط في أيدي الناس وقالوا: (قتل أولياء الله شهداء) ففارقوه، واشتد بغضهم له أعني لأبي يزيد. وما أبو القاسم الشيعي محصورا. وفي سنة 333، قتل أبو يزيد ميسرة الفتى قاد أبو القاسم الشيعي وكان بين أبي القاسم وأبي يزيد حروب كثيرة وفيها كانت الواقعة المشهورة بينهما في وادي الملح قتل فيها من أصحاب أبو القاسم عددا لا يحصى. وفي سنة 334 توفي أبو القاسم بن عبيد الله الشيعي القائم بأمر الله وذلك يوم الأحد لثلاث عشرة خلت من شوال من السنة المذكورة فكانت مدته اثنتا عشرة سنة. ولاية إسماعيل بن أبي القاسم عبيد الله الشيعي كنيته: أبو الطاهر. لقبه: المنصور. وكان والده ولاه عهده في رمضان ودعا على المنبر بإفريقية. وكان موالده بالمهدية سنة 302 وولى وسنة اثنان وثلاثون سنة. وكان فصيحا بليغا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وفي سنة 335 وصل أبو يزيد إلى المهدية ثم نهض إلى سوسة فناوشه أهلها، فقيل فيه: (وافرا) : ألم بسوسة وبغى عليها ... ولكن الإله لها نصير مدينة سوسة للغرب ... ثغرة يدين لها المدائن والقصور لقد لعن الذي بغوا عليها ... كما لعنت قريظة والنضير أعز الدين خالق كل شيء ... بسوسة بعدها التوت الأمور فرفع أبو يزيد عنها، ورجع إلى المهدية، فلما وصل دفع حتى ضرب برمحه في بابها، فدخل راجل القصر على إسماعيل، فوجده يلعب بسلباحة في الصهريج. فقال له: (تلعب، وأبو يزيد يركز رمحه بالباب فقال له (أو قد فعل؟) قال: (نعم) قال: (والله لا عاد إليها أبدا! وقد جاء حتفه! كذا رأينا في كتبنا) ثم أمر في الحين بالركوب والخروج إليه. وفي سنة 336 من الهجرة، أمر المنصور أبو طاهر ببناء صبرة واختطها، وسماها المنصورية. قال البكري: ولم تزل المهدية دار ملك بني عبيد إلى أن سار منها أبو طاهر إلى القيروان بعد قتله لأبي يزيد، وبنى مدينة صبرة واستوطنها، وخلت أكثر أرباض المهدية وتهدمت. ونقل أبو طاهر سوقة القيروان إلى صبرة. وكان لها أربعة أبواب. وبينها وبين القيروان نحو نصف ميل. وكان من المهدية إلى مدينة سلقطة ثمانية أميال، ومنها زحف أبو يزيد إلى المهدية أيام حصاره. وكانت محلة أبي يزيد بترنوط. وفي كتب الحدثان: (إذا ربط الخارجي خليه بترنوط، لم يبق لأهل السواد محلول ولا مربوط) و (ويل لأهل السواد من محلة أبي كيداد) وامتحن أهل باجة أيام أبي يزيد بالقتل والسبي. وقيل في أبي يزيد رجز: وبعدها باجة أيضا أفسدا ... وأهلها أخلى ومنها شردا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ولما عزم المنصور عل مقاتلته ومحاربته، أعطى جنوده، وحشد حشوده، وخرج إليه في العساكر. فمرت الهزيمة على أبي يزيد. وأمر إسماعيل الناس باتباعه إلى أن دخل بلاد كتامة. فتعلق بالجبل المعروف بحصن أبي يزيد، وأثخن بالجراح، وقبض عليه حيا، فجعل في قفص من حديد، وجيء به إلى المنصور إلى المهدية، فقتله، وصلبه على باب الذي ضرب فيه برمحه. قال القضاعي: مات أبو يزيد في محرم من سنة 336 المذكورة. قال: وأمر بسلحه وحشي جلده قطنا، وصلبه. وقال أبو حمادة: ولما ظفر بأبي يزيد، نهض إلى القيروان، فدخلها في هذه السنة، فقتل من أهلها خلقا، وعذب آخرين، ولم يزالوا معه في الامتحان إلى أن هلك، قال القضاعي: وكان انتقال المنصور إلى المنصورية في سنة 337. وفي سنة 339، تحرك أبو الطاهر المنصور بن أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي إلى بلاد المشرق، ورد الحجر الأسود إلى مكانه من الركن من بيت الله الحرام، وذلك بعد خمسة أعوام من دولة المطيع. وكان الذي اقتلعه سليمان ابن الحسن القرمطي - لعنه الله - وفي سنة 317 في أيام المقتدر العباسي - رحمه الله - والذي تولى قلعه بيده بأمر القرمطي جعفر بن أبي علا - لعنه الله - ولما مات القرمطي، وجه إخوته الحجر، فرد إلى موضعه في هذه السنة، ووضعه بيده الحسين بن المروذي الكناني وكان غينه الحجر من يوم قلعه إلى يوم رده اثنين وعشرين سنة أو نحوها. ورأى الحجر الأسود، في أيام ابن الزبير، ناصع البياض إلا وجه الظاهر. وكان اسوداده من لطخ المشركين له بدم القرابين، ولمسهم له بأيديهم، مع طول الدهر. قال الذهبي: حضرت يوم قلعه. يوم رده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وفي سنة 340، ولي أبو الطاهر إسماعيل العبيدي ولده معدا المكنى بأبي تميم عهده. وخرج أبو الطاهر منتزها إلى جلولا، ورجع منها معتلا، وصلى عيد الفطر مريضا. وفي سنة 341، توفي أبو الطاهر إسماعيل، الملقب بالمنصور، ابن أبي القاسم، والملقب بالقائم، ابن عبيد الله المهدي، وذلك منسلخ شوال من العام، وله تسع وثلاثون سنة. فكانت ولايته سبع سنين وخمسة عشر يوما. حاجبه جعفر ابن علي. ثم ولي المملكة معد بن إسماعيل المعز لدين الله العبيدي وهو معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله. كنيته: أبو تميم. لقبه: المعز لدين الله. مولده: بالمهدية في رمضان من سنة 319. وولي، وله اثنان وعشرون سنة. وهو أول من ملك مصر بن عبيد الله، وذلك أنه لما توفي كافور الإخشيدي أمير مصر، بعث المعز لدين الله القائد أبا الحسن جوهرا إلى مصر. وكان جوهر غلام والده إسماعيل، وأصله رومي، جلبه خادم اسمه صابر، ثم انتقل إلى خفيف الخادم، فحمله إلى إسماعيل المنصور، فظهر عنده، فأرسله المعز بالعساكر إلى مصر، فافتتحها يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان. وهرب أعيان الإخشيدية من مصر إلى الشام فبل وصول جوهر. وأقيمت الدعوة للمعز، يوم الجمعة الموفى لعشرين لشعبان من سنة 358، في الجامع العتيق، وكان الخطيب أبو محمد الشمشاطي. ودعا له بمكة في موسم هذه السنة، ودعا أبو مسلم العلوي بالمدينة للمعز. وسار جعفر بن فلاح إلى الشام، وقبض على الحسين بن عبد الله، وأنفذه إلى جوهر، فأنفذ جوهر الحسين المذكور مع جماعة من الإخشيدية مع هدية إلى المعز، فوصلت إلى أفريقية مع ولده جعفر في رجب من سنة 359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وفي سنة 342، فلج خطيب القيروان على المنبر ومات وتمم الخطبة أبو سفيان الفقيه. وفي سنة 344 ولد للمعز أبي تميم ولد سماه نزارا. وفي سنة 346 ولي مدينة سبتة وال من قبل الناصر عبد الرجمن، أمير الأندلس، وأمره بتحصينها وبناء سورها، فبناه بالكدان. وفي سنة 347، دخل جوهر قائد أبي تميم إلى المغرب، واستولى على مدينة فاس. ثم توجه إلى تيطاون، ووصل إلى مضيق سبتة فلم يقدر عليها ورجع عنها وقصد بعساكره إلى سلجمانة، فر أمامه صاحبها محمد بن الأمير الفتح وتحصن في حصن على اثني عشر ميلا من سجلماسة، بأهله وماله وبعض أصحابه. وكان يلقب الشاكر لله، وقد تقدم بعض خبره. واستولى جوهر على سلجمانة، فملكها. وخرج محمد بن الفتح من الحصن في نفر يسير ليتعرف الأخبار، مستترا. فغدره قوم من مدغرة عرفوه، وأتوا به إلى جوهر، فقتله في رجب. وبقى جوهر في الغرب نحو سنة. وتوجه إلى أفريقية. وفي هذه السنة وصل إلى قرطبة الحسن بن قنون من بني إدريس، فارا بنفسه أمام جوهر قائد أبي تميم المذكور. وكان بنو محمد بن القاسم من بني إدريس بن إدريس أجمعوا على هدم تبطلون، فهدموها، ثم ندموا على ذلك، وشرعوا في بنائها، فضج أهل سبتة لذلك لأن بنائها ضرر بهم فبعث إليهم عبد الرحمن الناصر جيشا برسم محاربة بني محمد، قوّد على الجيش أحمد بن يعلي. وكتب الناصر إلى حميد بن يصال صاحب تيكياس وتلك الجهات كلها، أن يعين القائد المذكور على بني محمد فتخلى بنو محمد عن بناء تيطلون لما اجتمع العسكران عليهم، وبعثوا أولادهم مراهن إلى قرطبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وفي سنة 348، وصل كتاب صاحب سبتة إلى أمير الأندلس عبد الرحمن الناصر، يعرفه بما فتح عليه في عسكر جوهر قائد الشيعي. وفي سنة 349، وجه أبو تميم المعز لدين الله القاضي إلى أئمة المساجد والمؤذنين يأمرهم إلا يؤذنوا إلا ويقولوا فيه: (حي على خير العمل) وأن يقرؤوا (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول كل سورة، ويسلموا تسليمتين، ويكبروا على الجنائز خمسا ولا يؤخروا العصر، ولا يكبروا بالعشاء الأخيرة ولا تصيح أمرأة وراء جنازة، ولا يقرأ العميان على القبور إلا عند الدفن. وفي سنة 350، توفي حسين ابن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن إدريس والحسني بقرطبة، وكان رهينا بها. وخلف ابنين يسميان محمدا وحسينا، فلم يزلا مستقرين بقرطبة إلى خلافة الحكم، فبعثهما إلى إخوانهما فوصلا في رجب سنة 359 واستقرا ببلاد الغرب. وفي سنة 351، أخذ الروم مدينة المصيصة ومدينة طرسوس، واستولوا عليهما. وفي سنة 352، وفد على الحكم المستنصر بالله أبو صالح زمور البرغواطي رسولا من أمير برغواطة أبي منصور بن أبي الأنصار، وذلك في شهر شوال من هذه السنة. وكان المترجم عنه باللسان العربي عيسى بن داود المسطاسي فسأله الحكم عن نسب برغواطة ومذهبهم، فأخبره. خبر برغواطة ومن أخبار برغواطة ما خبر زمور أن طريفا كان أبا ملوكهم. وهو من ولد شمعون بن يعقوب بن إسحاق - عليهم السلام - قال: وكان طريف من أصحاب ميسرة ملك المغرب الذي تقدم ذكره، فلما قتل ميسرة، وافترق أصحابه، احتل طريف بلاد تامسنا، فقدمه البربر على أنفسهم، فولى أمرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وكان على دين الإسلام وإليه تنسب جزيرة طريف، فبقي أميرا عليهم، إلى أن هلك. وترك أربعة أولاد. فولى الأمر من بعده صالح بن طريف، وكلن مولده سنة 110 من لبهجرة، فتنبأ فيهم، وشرع لهم ديانة، وسمى نفسه صالح المؤمنين، وعهد إلى ابنه إلياس بديانته، وأمره ألا يظهر ذلك غلا إذا قوى أمره، وحينئذ يدعوا إلى مذهبه ويقتل من خالفه فيه من قومه. وأمره بموالاة أمير الأندلس. وخرج صالح إلى المشرق، وزعم أنه يعود إليهم في دولة السابع من ملوكهم، وزعم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان لقتال الدجال، وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وتكلم لهم في ذلك بكلام كثير نسبه لموسى - عم - ولسطيح الكاهن وغيره. ثم ولي بعده إلياس بن صالح بن طريف فأظهر ديانة الإسلام والعفاف وبقي أميرا خمسين سنة إلى أن هلك. وترك جمعة من الأولاد. فولى ابنه يونس بن إلياس، وذلك بعد ما وصل من المشرق، وحج ولم يحج أحد من أهل بيته. فتظهر ديانة جده، ودعا إليها وقتل من لم يدخل فبها حتى أخلى ثمانمائة موضع من مواضع البربر، يل أنه قتل منهم سبعة آلاف ونحو سبعمائة. وهلك بعد أن ملك نحو أربعين سنة، وخرج الأمير عن بينه وقام أبو عفير يحمد بمن معاذ بن اليسع بن صالح بن طريف، فاستولى على ملك تلك البلاد، ودان بديانة آبائه. واشتدت شوكته، وعظم أمره. وكانت له وقائع في البربر مشهورة، منها وقعة تامعزا، أقام القتل فيها ثمانية أيام، ومنها وقعة بهت، عجز الإحصاء عن عد من قتل فيها. وكان لأبي عفير من الزوجات أربع وأربعون، وكان له من الأولاد بعددهن. ومات بعد أن ملك تسعاً وعشرين سنة. ثم ولى عبد بن أبي عفير، وهو أبو الأنصار، وذلك عند تمام المائة الثالثة، وكان سخيا ظريفا، يفي بالوعد والعهد، يحفظ الجار ويكافئ على الهدية بأضعافها. وصفته: أفطس، شديد الأدمة في الوجه، ناصع بياض الجسم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 طويل التحية وكان يلبس السراويل والملحفة، ولا يلبس االقميص، ولا يعتم إلا في الحرب، ولا يعتم أحد من قومه إلا الغرباء عندهم. وكان في كل عام تحشد ويظهر أنه يغزوا لمن يليه من القبائل، فيهادنوه، فيترك حركته. فملك في دعة نحو اثنين وأربعين سنة. ثم ولى أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار ن الذي بعث زمورا هذا إلى المستنصر بالله الأموي سنة 352، وهو عبس بن أبي الأنصار عبد اله بن أبي عفير محمد بن معاذ1 بن اليسع بن صالح بن طريف. وكان سنه إذ ولي اثنين وعشرين سنة، فسار بسيرة أبيه ودان بديانته. واشتدت شوكته وعظم سلطانه. وكان أبوه قد وصاه عند موته بموالاة أمير الأندلس، وقال: (أنت سابع الأمراء من أهل بيتك، وأرجو أن يأتيك جدك صالح كما وعد) انتهى ما اختصرته من كلام رموز. وقال أبو العباس المرجحي أن يونس القائم بدين برغواطة أصله من شذونة، من جهة وادي برباط، وكان قد رحل إلى المشرق في عام 201 مع عباس بن ناصحخ وزيد بن سنا الزناتي صاحب الواصلية، وبرغوث بن سعيد التراري، وجد بني عبد الرزاق، ويعرفون بني وكيل الصفرية، ومناد صاحب القلعة المنادية، قريب من سجلماسة وآخر ذهب عني اسمه. فأربعة منهم فقهوا في الدين. ادعى يونس صاحب برغواطة النبوة. قال: وكان يونس شرب دواء للحفظ، فحفظ كل ما سمعه، وطاب علم النجوم والكهانة، ونظر في الجدال، وانصرف، فنزل بين هؤلاء القوم، فرأى جهلهم. وكان يخبرهم بأشياء قبل كونها، مما يدل عليه التنجيم، فيكون كما قال، أو قريبا منه، فعظم عندهم. فلما رأى ذلك منهم وعلم ضعف عقولهم وكثرة جهلهم أظهر ديانته، ودعا إلى نبوته. وسمى من اتبعه برباطي، ثم أحالوه بألسنتهم، ردوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 (برغواطي) . وكان يونس قد قتل خلقا كثيرا من البربر حتىلا أطاعوه وعلى دينه تابعوه. وقال سعيد بن هشام المصمودي في وقعة بهت قصيدة طويلة منها وافر: قفي قبل التفرق فاخبرينا ... وقولي واخبري خبرا مبينا هموم برابر خسروا وضلوا ... وخابوا لا سقوا ماء معينا يقولوا النبي أبو عفير ... فأخزى الله أم الكاذبينا ألم تسمع ولم تر يوم بهت ... على آثاري خيلهم رنينا رنين الباكيات بهم ثكالي ... وعاوية ومسقطه جنينا هنالك يونس وبنو أبيه ... يوالون البوار معظمينا فليس اليوم ردتكم ولكن ... ليالي كتم مستيسرينا يعني بقوله مستيرين من المياسرة أصحاب ميسرة. فأما الضلال الذي شرع لهم فأنهم يقرون بنبوة صالح بن طريف وأن الكلام الذي ألف لهم هو وحي من الله تعالى لا يشكون فيه تعالى الله عن قولهم وفرض لهم صوم رجب وأكمل رمضان وخمس صلوات في اليوم وكذلك في الليلة والضحية اليوم الحادي عشر من المحرم وفي الوضوء غسل السرة والخاصرتين ثم الاستنجاء والمضمضة وغسل الوجه ومسح القفا وغسل الذراعين والمنكبين ومسح الرأس ثلاث مرات ومسح الأذنين كذلك ثم غسل الرجلين من الركبتين وبعض صلاتهم دون سجود وبعضها على كيفية صلاة المسلمين. وهم يسجدون ثلاث سجدات متصلات ووجوههم وأيديهم من الأرض مقدار نصف شبر ويقرءون نصف قراءتهم في وقوفهم ونصفها في ركوعهم ويقولون في سلامهم بكلامهم: (الله فوقنا لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 في السماء) ثم يقولون مقر باكش خمسا وعشرين مرة وتفسيره الكبير الله ويقلون أيمن باكش تفسيره بسم الله وغير هذا. ويتزوج الرجل منهم ما استطاع من النساء ويطلق ويرجع ما أحب ويقتل السارق بالإقرار والبينة ويرجم الزاني وينفى الكاذب ويسمونه المغير. والدية عندهم مائة رأس من البقر ورأس كل حيوان عليهم حرام ولا يأكل الحوت عندهم ألا أن يذكى والديك والبيض عندهم حرام والدجاج مكروهة إلا يضطر إليها. وليس عندهم أذان ولا إقامة وهم يكتفون بمعرفة الأوقات بصراخ الديكة ولذلك حرموها. ويتبركون ببصاقة أي بصاق صالح. وكانوا أعلم الناس بالنجوم. وكانوا أجمل الناس رجالا ونساء وقرآنهم الذي وضع لهم صالح ثمانون سورة أكثرها منسوبة إلى أسماء النبيين أولها سورة أيوب وأخرها سورة يونس وغيرها من أسماء الأنبياء - عم - وفيها سورة فرعون الديك وسورة الجراد وسورة الجمل وسورة هاروت وماروت وسورة الحشر وسورة غرائب الدنيا وفيها علم عظيم عندهم ولم ينزل كثير من القبائل على مذهب إلى عام 352. رجعنا إلى نسق التاريخ: كان الحكم أمير الأندلس ولى الخلافة بها سنة 350. فطاع له المغرب كله وتمم بناء سور سبتة في عام 351. وفي سنة 353 كتب الحكم المستنصر بالله سجلا إلى أهل سبتة رفع عنهم فيه جميع الوظائف المخزنية والمغارم السلطانية. قال ابن حمادة رأيت هذا السجل عند القاضي عياض رحمه الله مؤخرا بشهر صفر من العام المذكور ذكر فيه: (وما وقع عليها من المؤن السلطانية في التقسيط فهو مضروب على شرف أشبيلية.) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وفي سنة 354 توفي أبو الطيب المتنبي وكان موالده بالكوفة سنة 303، وعمر إحدى وخمسون سنة وكان أشهر من أن يذكر. وفي سنة 357 توفي الأستاذ كافور بمصر. وفي سنة 358 بعث المعز أبو تميم معد بن المنصور العبيدي أبا الحسن جوهرا إلى مصر لما توفى كافور الخدشي أمير مصر فلما وصلها جور فتحها في شعبان. وفي سنة 359 أنفذ جوهر إلى المعز لدين الله حدية جميلة صحبه ولده جعفر بن رجب. وفي سنة 360 وصل الحسن بن أحمد القرمطي إلى دمشق وقتل جعفر ابن فلاح. وتغلبت القرامطة على دمشق وصاروا إلى الرملة. وفي سنة 361، خرج أبو تميم من المنصورية راحلا إلى المشرق في أواخر شوال لثمان بقين منه وأستخلف على إفريقية أبا الفتوح الصنهاجي. ابتداء الدولة الصنهاجية بأفريقية ولاية أبي الفتوح يوسف بن زيري ابن مناد الصنهاجي بإفريقية لما خرج أبو تميم من إفريقية إلى المشرق أستخلف يوسف المذكور وأمر الكاتب أن يكتبوا إلى العمال وولاة الأشغال بالسمع والطاعة لأبي الفتوح. ورحل أبو تميم إلى مصر فاحتلها وأمن أهلها وأتخذها دار ملكه وبقى أبو الفتوح أميرا على أفريقية والمغرب كله قال القضاعي لما وصل أبو تميم إلى الإسكندرية توجه إليه من مصر القاضي والشهود وأعيان من أهل البلد منهئين وداعين ومسلمين. ثم أستقر بقصر المعز في السابع لرمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وفي سنة 363 وصل القرمطي إلى الطواحين في جمادى الأول وأنهزم في شعبان في هذه السنة. وفي سنة 365 توفي أبو تميم المز لدين الله العبيدي في يوم الجمعة الحادي عشر لربيع الأخر، فكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وأياما منها مقامه بمصر سنتان وسبعة أشهر. ولاية العزيز بالله نزار فولي الإمار بمصر العزيز بالله نزار، المكنى بأبي المنصور ابن معد المكنى بأبي تميم. ولد بالمهدية في محرم سنة 344 وولى العهد بمصر في العاشر لربيع الأول سنة 365 وسترت وفاة أبيه وسلم عليه بأمير المؤمنين وقد ذكرنا بعض أخباره في أمراء مصر (أخبار المشرق.) وفي جمادى الأخيرة من سنة 365 بعث أبو الفتوح أمير أفريقية إلى العزيز بالله هدية فشيعها وعاد أبو الفتوح إلى رقادة فخرج إليه أهل القيروان فتلقاهم بأحسن قبول وأجملهم أجمل نزول وبعد ذلك عزم أبو الفتوح على الانتقال إلى فحص أبي صالح فخرج لتوديعه القضاة والشيوخ لثلاث بقين من رجب من السنة المؤخرة. وفي ذي الحجة أمر أبو الفتوح العمل على أفريقية واليه عبد الله بن محمد الكاتب أن يقيم أسطولا بالمهدية معدة من الرجال والسلاح. فخرج عبد الله إلى المهدية وأخذ في حشد البحريين في كل بلدة وأمر أن يأخذ كل من لقي منهم بالقيروان وغيرها وملأ بهم السجون. وأدرك خاصة البلد وعامتها من الخوف ما لزموا له البيوت وأنتها حالهم إلى أنه إذا مات أحد عندهم لا يخرجه إلا النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وفي سنة 366 خرج الأسطول من المهدية في أول محرم، فتعذرت الريح عليها فأقاموا حتى فرغت أزوائهم وعدموا الماء، فهرب جميع من فيها من النواتية والبحرية، وصاروا إلى البر، فنهبوا ما في المراكب من عدة وسلاح وهربوا إلى كل ناحية. فجعل عبد الله الطلب عليهم، فمن ظفر بهم، قتل. وفي هذه السنة، توفي زيادة الله بن القديم في سجن عبد الله بن محمد الكاتب، وقيل أنه قتل بأنواع من العذاب. وفي هذه السنة، نادى عامل أفريقية والقيروان، وهو عبد الله الكاتب، فاجتمع الناس إليه، فأخذ من أعيانهم نحو الستمائة رجل من أغنيائهم وأغرمهم على الأموال بالتعيين: يأخذ من الرجل الواحد عشرة آلاف دينار، ومن آخر دينار واحدا. فاجتمعت له بالقيروان أموال كثيرة. وعم هذا الغرم سائر أعمال أفريقية ما عدا الفقهاء والصلحاء والأدباء وأولياء السلطان، وكان الذي جبى من القيروان نيفا على أربعمائة ألف دينار عينا. وبقى الأمر كذلك في الطلب، إلى أن وصل الأمر من مصر إلى أبي الفتوح برفع الغرم عن الناس، فأطلقهم عبد الله الكاتب في أواخر شوال. وفي سنة 367، بعث عبد الله الكاتب عامل أفريقية هذا المال إلى ملك مصر العزيز بالله بأمر أبي الفتوح صاحب أفريقية من قبل العزيز بالله، وكتب على كل صرة أسم صاحبها. فكان خروج هذا المال من المنصورية لخمس بقين من جمادى الأخير. ولما وصل المال إلى مصر، رد العزيز بالله بعض الصرر لأربابها. وفي هذه السنة، أنعم العزيز بالله على أبي الفتوح بطرابلس ونواحيها. فقدم عليها أبو الفتوح يحيى بن خليفة الملياني، فأقام بها شهورا، ثم عزله. وفيها، زحف خزرون بن فلفل بن خزر الزنتاني إلى سجلماسة، في عدد عظيم، فخرج إليه المعتز، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل المعتز، لخمس بقين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 رمضان. وملك خزرون سجلماسة، وأخذ فيها أموالا جليلة. وبعث خزرون برأس المعتز إلى الأندلس واستحكم بها ملك زناته وأتباعه. وفي هذه السنة، وصل أبو الفتوح صاحب أفريقية إلى سبتة، فحاصرها. وبعث إليه ابن أبي عامر برأس جعفر بن علي، أراد أن يرضيه بذلك. وكان ابن أبي عامر قد قتل جعفر بن علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسي. ويأتي خبر قتله في أخبار ابن أبي عامر من الأندلس. وفي سنة 368، خرج العزيز من مصر إلى الشام في عدد عظيم، ونزل بالرملة. وكان بين يديه ألف بند وخمسمائة طبل. وكان جوهر قائده خرج في العام الفارط إلى الشام، فهزمه أفتكين التركي، ورجع إلى مصر مفلولا. فخرج العزيز بالله في هذه السنة بنفسه. فلما نزل الرملة، خرج إلى التركي. فكانت بينهم حروب عظيمة، فانهزم التركي وأخذ أسيرا، فسيق إلى العزيز بالله بحبل في عنقه. ولما وصل إلى مصر، عفا عنه، ومات بعد ذلك. وهذه السنة، دخل أبو الفتوح صاحب أفريقية من فبل عبد العزيز بالله بلاد الغرب، واستولى عليها، وهدم مدينة البصرة، ومحا رسمها بعد طول مدتها وكثة عمارتها. وكان رحيل أبي الفتوح من أفريقية إلى الغرب يوم الأربعاء لخمس بقين من شعبان من سنة 368، فوصل بجيوشه الضخمة إلى فاس، فاستولى عليها، وملك سجلماسة وبلاد الهبط كلها، وطرد من جميعها عمال بني أمية، ثم رحل إلى ستة في طلب من لجأ إليها من زناتة. فلما أشرف عليها، نأمل الوصول إليها، فرأى من تحصينها ومنعتها ما لا يستطاع إدراكه إلا بالمراكب البحرية، فرجع عنها، ولم يعوزه من بلاد المغرب غيرها. فرجع يريد البصرة، وكان فيها عمارة عظيمة بالأندلس والبربر. فلما دخلها أمر بهدمها، ونهب ما كان فيها من الأموال والأمتعة وجميع الأسباب. فاستحالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الجيوش والأمم عليها، فصارت كأن لن تغن بالأمس. فلم تكن بصرة بالمغرب إلى الآن، ودثر رسمها. وكانت قديمة أزيلت. وقد تقدم ذكرها. ثم صار منها إلى أصيلا. ذكر مدينة أصيلا وأما أصيلا، فهي محدثة وكان سبب بنائها أن المجوس خرجوا بساحلها، وزعموا أن لهم بها أموال وكنوزا، تركها لهم الأوائل الذين كانوا يسكنون السواحل وأخرجهم منها عامة القبائل. فلما نزلوا في البر لأخذ أموالهم، اجتمع البربر لقتالهم فقالوا: (لم نأت لحرب؛ وإنما لكنوز في هذا الموقع. فكونوا ناحية حتى نستخرجها، ونشارككم فيها) فاعتزل البربر عنهم لما سمعوا ذلك منهم. فحفر المجوس مواضعهم، واستخرجوا دخنا كثيرا عفنا. فلما رآه البربر، ظنوه ذهبا. فبدروا إليهم. وهرب الروم إلى مراكبهم. فأصاب البربر الدخن، فندموا ورغبوا إلى المجوس في الرجوع واستخراج المال، فأبوا وقالوا: (قد نقضتم العهد) وساروا إلى الأندلس، فحينئذ خرجوا بأشبيلية على ما يأتي ذكره في أخبار الأندلس. فاتخذ الناس موضع أصيلا رباطا، وانتابوا إليه من جميع الأمصار. فكانت تقوم في سوق جامعة ثلاث مرات في السنة (في رمضان وفي العواشر، وفي عاشوراء) . ومما قيدته واختصرته من (كتاب المسالك والممالك) لمحمد بن يوسف القروي قال: ومن المدن القديمة على ساحل بحر الغرب أصيلا، وهي في سهلة من الأرض، كانت مدينة للأول. ثم تغلب عليها البحر ثم بنيت بعد ذلك، وكان سبب بنائها، ان المجوس خرجوا من مرساها مرتين، ما الأولى، فأنهم صدقوا إليها، زاعمين أن لهم بها مالا وكنوزا، فاجتمع البربر لقتالهم حسبما ذكرت ذلك، وأما خروجهم الثاني، فأن الريح قذفت بهم إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وعطبت لهم أجفان كثير عليها، حتى كان يعرف ذلك الموضع بباب المجوس. وكان موضعها ملكا لقبائل لواته. فابتناها قوم من كتام. فأول ما ابتدروا به مسجدا. ثم بنى لواتة مسجدا ثانيا، وشاع أمرها، فبنى الناس شيئا بعد شيء، فقصدها التجار من الأمصار بضروب المتاجرة في أوقات معلومات لأسواق الغبار. فأول من قدم عليها من الملوك القاسم بن إدريس، فأنه ملكها، وقامت دعوته بها إلى أن توفي - رحمه الله - ثم وليها أبنه إبراهيم بن القاسم، فجرت بينه وبين عمر بن حفصون الثائر بببشتر من الأندلس مراسلات ومكاتبات في شأن النفاق على الخليفة بقرطبة الأموي، إلى أن هلك. ثم وليها ابنه الحسين ابن إبراهيم بن القاسم، فأضطرب أمره، وضعفت طاعته، وكانت مدته خمسا وعشرين سنة في قبائل لواتة، وكان أخوه أحمد المتولي لأمر كتامة، وكان يعرف بأبي الأذنين. وكان صاحب البصرة حينئذ أخوهما عيسى بن إبراهيم بن القاسم، إلى أن قتله أبو العيش جنون من بني إدريس - رحمه الله - فتزوج أخوه أحمد الملقب بأبي الأذنين زوجته، وملك مكانه، وقيل أن زوجته سمته فقتلته. فصار أمر كتامة وأمر البصرة إلى يحيى بن إبراهيم بن القاسم المعروف بابن برهوية، فأختلفت عليه كتامة، وكان ذلك سبب دخول بني محمد بلد كتامة وهوارة وتلك الناحية، واستجاشوا بحسن بن محمد المعروف بالحجام، فقام بأمره، وهلك القاسم بن حسن بن القاسم بن إدريس صاحب أصيلا. ودخل بنو محمد من بني إدريس مدينة أصيلا، فاستأثر بها حسن الحجام دون بني عمه، فولى عليها رجلا من خاصته يقال له حجام بن يوسف، فأحسن السيرة فيهم، إلى أن هلك، فطلب ولايتها رجل من أهلها يقال له محمد بن عبد الوارث، فعبدوا طوره فيها، ويقال ن أصاب بأصيلا كنزا بداره، ونهى ذلك إلى حسن المعروف بالحجام، فطمع في ذلك المال، وعزله عن أصيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ثم وليها إبراهيم الغل المكناسي، وكان ساكنا بها، بعدما أعطى مال لحسن الحجام. قلما وصل إلى أصلا، سار محمد بن عبد الوارث إلى الحسن بمال كثير فعزل إبراهيم وأعاد ابن الوارث. فسار إبراهيم بهدية إلى الحسن، فعزل مجمدا وولاه عليها. ثم عزا إبراهيم وولى محمد بن عبد الوارث. وكانت عزلتهما وولايتهما نحو سنتين، إلى أن استقر فيهما محمدا هذا، وسني فار الصهريج، يعنون الكنز الذي أصاب فيه. وتبين لبن عبد الوارث رغبة حسن في ماله، فأعطاه. واستقامت له معه جميع أحواله مدة، ثم عزله، وولى إبراهيم ابن الغل المذكور، فبقى بها إلى ان حصر ابن العافية بني محمد في حجر النسر، فأتاه أهل أصلا، وطلبوا منه واليا من قبله، فولاها سعيد بن الشيخ الإشبيلي. وهرب إبراهيم بن الغل إلى مدين بن موسى بن أبي العافية، فوفد عليه، وهاداه، وانقطع إليه، فولاه أصلا فأحسن السيرة ورفق بالرعية وانصرف إلى تسول، بعدما استخلف على حرب بني محمد رجلا من أصحابه يعرف بأبي قمح، فحاصرهم حصارا شديدا. فلما ضاق عليهم الأمر، هجموا عليه ليلا، فهرب أبو القمح، ومالك بنو محمد محلته. واجتمعت قبائل كتامة بقلعة هناك، فزحف إليهم بنو محمد الأدارسة، فحاربهم حتى دخلوا القلعة، وقتلوا من كان فيها. فكان أول فتح بني محمد بن إدريس الحسني. وبلغ ذلك إلى أهل أصلا، فكتبوا إلى ابن العافية، وذلك في سنة 322، في حين خروج ميسور إلى أرض المغرب. فجاوبهم موسى بن أبي العافية، وأمرهم أن يتحصنوا في بلدهم، وكتب إلى قبائل كتامة ولواتة وهوارة، وصنهاجة، يأمرهم بمعونتهم على البنيان، فانقسموا على سور المدينة، وبنوه في ستة أشهر. فهرب وجوه القبائل إلى أصلا، واجتمع بها ملأ عظيم منهم، فزحف إليهم بنو محمد الأدارسة بعساكر، فكانت بينهم حرب عظيمة، فاستمدوا ابن أبي العافية، فاعتذر إليهم وقال لهم: اكتبوا إلى أمير المؤمنين! فأنا وانتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 رعيته وتحت طاعته! فكتبوا إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر. وكانت مدينة سبتة تحت طاعته. فبعث إليهم الرماة الأنجاد، واتصل ذلك ببني محمد، فحشدوا الأحشاد، وزحفوا إلى أصلا، فحاربهم أربعين يوما. فخاف وجوه أهلها، فجازوا إلى الأندلس. ودخل بنو محمد أصلا، وذلك سنة 326، وملكوها فأمنوا من بقى بها من أهلها. وعاد من جاز إلى الأندلس إليها. وحواها من القبائل لواتة في القبلة، ومن هوارة قوم يعرفون ببني زياد بينهم ديكة رمل عالية. قال إبراهيم بن محمد الأصلي من قصيدة له (وافر) . سقى غربي أرض بنو زياد ... سحائب ما يجف لها غروب ولا زال النسيم يعلم قوما ... إزائهم من الشرق الكثيب وحولها من القبائل من جهة الغرب هوارة الساحل. ذكر من ولى مدينة البصرة أسست البصرة في الوقت الذي أسست فيه أصلا. وعلى ثمانية أميال منها جبل يقال له صرصر كثير المياه والثمار، يسكنه مصمودة. وأول من ملكها إبراهيم بن القاسم بن إدريس نحو أربعين سنة، ثم وليها ابنه عيسى ابن إبراهيم، ثم أخوه أحمد بن إبراهيم، ثم برهون بن عيسى بن إبراهيم، ثم أحمد بن القاسم بن إدريس، ثم برهون بن عيسى ثانية، ثم سعيد غلام المظفر من قبل مصالة بن حبوس، ثم حسن بن محمد ين الحجام، ثم محمد بن يحيى بن القاسم ولد الجوطي، ثم عيسى بن أحمد المعروف بأبي العيش، ثم أحمد بن القاسم ثانية، ثم وال من قبل ابن أبي العافية، ثم أبو العيش بن أحمد ثالثة، ثم أحمد بن أبي العيش إلى سنة 347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وكانت مدينة يقال لها كرت في جبل يسمى به إلى وقتنا هذا، خربها بنو محمد، وهي كانت قاعدة أحمد بن القاسم، الذي يقول فيه بكر بن حماد (كامل) إن السماحة والمروءة والندى ... جمعوا لأحمد بن القاسم وإذا تفاخرت القبائل وانتمت ... فأفخر بفضل محمد وبفاطم وبجعفر الطيار في درج العلا ... وعلى العضب الحسام الصارم لأني لمشتاق إليك وإنما ... يسموا العقاب إذا سمى بقوادم فأبعث إليّ بمركب أسمو به ... على أكون عليك أول قادم وأعلك أنك لن تنال محبة ... إلا بعض ملابس ودراهم فبعث إليه بغلة سنية وصلة جزلة. وكان له فيه أمداح كثيرة. وكان على وادي ورغة حصن كبير يسكنه البربر فسكن عندهم شخص من الحضر فقال في نفسه (طويل) . الأهل أتى أهل المدينة أنني ... بورغة بين الأعجمين غريب إذا قلت شيء قيل: ماذا تريد ... لهم بين أحراز الوجوه قطوب وكان هناك حصن أيضا يعرف بسوق عكاشة، قريب من ورغة، لحمد بن حسن من بني إدريس - رحمهم الله - وجنيارة حصن كبير في جبل يعرف بالجبل الأشهب، وهي لبني حصين. وفي ذلك الجبل قرى كثيرة. وهو بمقربة من قاس. ومن أصلا إلى مدينة فاس خمسة أيام على طريق البصرة. ويلي أصلا من جهة الشرق مدينة طنجة. وكان صاحب طنجة القاسم بن إدريس. ومن طنجة إلى فاس عدوتان أسست عدوة الأندلسيين سنة 192، من الهجرة، أسسها أهل ربض قرطبة إذ فروا من الحكم الربضي، وأسست عدوة القروين بعدها بسنة. قال: الشاعر (بسيط) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 يا عدوة القرويين التي كرمت ... لا زال جانبك المحبور ممطورا لا امسك الله عنها صوب نعمته ... أرض تجنبت الآثام والزورا ولما خرب أبو الفتح يوسف بن زيري الصنهاجي أمير أفريقية مدينة البصرة، رحل بعساكره إلى بلد برغواطة. وكان ملكهم صالح بن عيسى بن أبي الأنصار وكان فصيحا شاعرا، فأطاعوه حتى جعلوه نبيا، وشرع لهم شريعة، فاتبعوه. فضلّ، وأضلهم. فغزاهم أبو الفتوح، فكانت بينهم حروب لم يجر قبلها مثلها كان الظفر فيها لأبو الفتوح. وقتل الله الكافر ابن عيسى وانهزمت عساكر برغواطة، فقتلوا قتلا ذريعا، وسبى من نسائهم وذرياتهم ما لا يحصى عددهم. وأرسل أبو الفتوح سبيهم إلى أفريقية، فلقيهم عامله عبد الله الكاتب، مع أهل القيروان والمصورية. وملك أبو الفتوح بلاد الغرب. فكانت السجلات ترد عليه من مصر، فتصله على البريد إلى فاس أو غيرها، ثم يرجع بها إلى عامل أفريقية، فتقرأ بعد مدة من تاريخها. وأقام أبو الفتوح في بلاد الغرب، وهو قد ملكها، وأهل سبتة منه خائفون، وزناتة مشردون، وذلك من سنة 368 المؤرخة إلى سنة 373. وفي سنة 3659، توفي أحمد بن أبي ؤ خالد، الطيب الكبير المعروف بابن الجزار. وفيها كانت الحمرة التي ظهرت في السماء ليلة الأربعاء لخمس خلون من ربيع الأول، فخرج الناس إلى المساجد للضجيج والتضرع إلى الله تعالى وفي غد تلك الليلة هرب كبّاب ومغنين ابن زيري بن مناد من قصر أخيهما السلطان أبي الفتوح الذي كان فيه محبوسين وقد لبسا ثياب النساء، وخرجا في نسوة دخلن إليهما لزيارتهما، فوجدا عبيدهما قد أعدوا لهما خيلا وسلاحا، فركبا ومضيا نحو المشرق حتى وصلا مصر، فأنزلهما العزيز بالله، وخلع عليهما ووصلهما، وبقيا هنالك بقية هذه السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وفي سنة 370، صرف العزيز بالله كبابا ومغنيا أين زيري إلى أبي الفتوح يوسف بن زيري أمير أفريقية وأمر أن يعفوا عنه ويتعرض لهما. ففعل ذلك. وفيها تمكنت حال يعقوب بن يوسف بن كلس مع العزيز بالله، فأدل كتامة وقهرهم، وقدم الترك والإخشيدية، وعزل الوزراء جوهرا وغبرة. . وفي سنة 371 دخل سبى البرغواطيين إلى المنصورية يوم السبت لثمان خلون من ربيع الأول. فرأى أهل أفريقية من السبي كما لم يره أحد منهم لكثرته. وطيف بهم في المنصورية والقيروان. وفي هذه السنة وصل باديس بن زيري من مصر برسالة إلى أبو الفتوح يأمره بتخير ألف فارس من أخواته الأبطال صنهاجة منهم حبوس وماكسن وزاوي وحمامة وبنو حمامة بن مناد وزاوي بن مناد، ونظرائهم فكتب إليه من بلاد الغرب يعرف بتغلب بني أمية أمراء الأندلس على البلاد الغرب وأن الدعاء لهم فيه على المنابر وأنه قد خرج لمحاربتهم بهؤلاء الرجال الذين سماهم أمير المؤمنين فأن عزم على بعثهم إليه ترك الغرب وسار بنفسه في جملتهم. فلم يعد إليه جوابا فيهم. وفي جمادى الأول منم هذه السنة كان بالمهدية زلازل دامت الشهر كله وعشرة أيام بعده تزلزل في كل يوم مرات حتى هرب أكثر أهلها وأسلموا ديارهم وما فيها. وفي سنة372 قتل أمير صقلية أبو القاسم علي بن حسن في مقابلته مع الإفرنج وكانت ولايته بها إحدى عشر سنة ثم ولى أبنه جابر سنة واحدة. وفي سنة 373 أشترى عبد الله بن محمد الكاتب عامل إفريقية العبيد السودان وجعل على كل عامل من ثلاثين عبدا إلى ما دون ذلك وكذلك على أصحاب الخراج ووجوه رجاله. فاجتمع له منهم ألوف وأسكنهم بالمنصورية. وفيها عمل عبد الله بيت الحديد وملأه أموالا ثم عمل بيت خشب وملاه أموالا أيضا واستخفاف على المنصورين جعفر بن حبيب وخرج إلى لمهدية على عادته في كل سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ذكر وفاة أبي الفتوح يوسف بن زيري ابن مناد الصنهاجي وفي هذه السنة توفي أبو الفتوح قفوله من قتال برغواطة وقد انفصل سجلماسة فمات بموضع قتال له وأركنفو يوم الأحد لتسع بقين من ذي الحجة. وذلك أن ابن خزرون الزناتي ضرب على سجلماسة فدخلها وأخذ ما كان فيها من الأموال وكان بها عامل أبي الفتوح فأتاه الخبر بذلك، فرحل إليها فاعتل في طريقه بقولنج فمات بالموضع المذكور. فأوصى لأبي زعبل ابن هشام وكان من خاصته فأرسل إلى المنصور يعرف بوفاة والده أبي الفتوح. ولاية أبي الفتوح المنصور بن أبي الفتوح إفريقية ولي الإمارة في أوائل سنة 374 أشير وتوفى يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول من سنة 387 فكانت مدته اثنتي عشر سنة ودفن بالمنصورية وكان كريما سحا جوادا صارما عازما. قال الرفيق: وقد ذكرت سيرته وحروبه وعطاياه في كتاب مفرد لأخبار جده وأبيه وأخباره وكان لقبه عدة العزيز بالله بن يوسف العزيز بالله. وفي هذه السنة وهي سنة 374 بعث المنصور أخاه يطوفت من مدينة أشير، لما بلغت موت أبيه وأمر أن يطوي المراحل إلى القيروان والمنصورية برسم القبض على عبد الله بن محمد الكاتب وكان بالمهدية، ونائباه على المنصورية جعفر بن حبيب وعلى القيروان برهون العامل فصبحهم يطوفت سحر يوم الثلاثاء منتصف المحرم فنظر يطوف إلى الخزائن مغلقة والى البيت المال مقفلا فأخذ المفاتيح وفتح بيت المال وبيت السلاح وفرق على أصحابه وركب من كان مترجلا من الصنهاجيين بالمنصورية. ثم خرج والتقى مع عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الله الكاتب في بعض الطريق فوثب عليه وأرجله عن فرسه وانتهت أسبابه وأعتقل بالمنصورية أياما. ثم أمر المنصور بإطلاقه ورفع يده عن البلد ثم عاد الأمر إلى عبد الله فأمره بالقضاء ووجه الناس من شيوخ القيروان وغيرهم وتوجه معهم لرسم التهنئة والتعزية للمنصور فوصلوا إليه وسلموا عليه بمدينة أشير فقال لهم المنصور: (لقد شق على تعبكم في حركتكم غير أن سروري في رؤيتكم.) ثم شكر عبد الله الكاتب وذم فعل أخيه به ثم أمر عبد الله الكاتب أن يدفع للوافدين عليه عشرة آلاف دينار ضيافة. فدعوا له وانصرفوا. ثم استدعاهم بعد ذلك وقال لهم (أن أبي وجدي اخذ الناس بالسيف قهرا وآنا لا آخذهم ألا بالإحسان. وما أنا في هذا الملك ممن يولى بكتاب ويعزل بكتاب لأني ورثته عن آبائي وأجدادي وورثوه عن آبائهم وأجدادهم حمير!) أو كلاما هذا معناه ثم أمرهم بالانصراف مع عبد الله الكاتب فكانت مدة مسيرتهم ورجوعهم خمسة وثلاثين يوما. وفي رجب قدم المنصور إلى رقادة فتلقاه عبد الله الكاتب في خلق عظيم من أهل القيروان فأظهر للناس الخير ووعدهم بكل جميل. وأتاه العمال بالهدية والأموال وأعطاه عبد الله هدايا جليلة. ثم أخذ المنصور في جهاز هدية بعثها إلى مصر مع زروال بن نصر. فقيل أن قيمة ما كان فيها من الأمتعة والدواب والطرف ألف ألف دينار عينا. وأقام المنصور برقادة فأمر بعمل سرج مكلل بالدر والياقوت فخرج به إلى العيد في أحسن زي وخرج إليه من القيروان خلق عظيم فصلى بالمصلى وخطب القاضي ابن الكومي وانصرف المنصور إلى قصره وولد سماه باديس بن المنصور ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الأول من هذه السنة. وفيها أعطى المنصور لأخيه يطوفت العساكر ووجهه إلى مدينتي فاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وسجلماسة يطلب ردهما ورد تلك البلاد الغريبة إذ كانت خرجت عن طاعته صنهاجة عند وفاة أبي الفتوح فوصل إلى مدينة فاس. وكان بها زيري بن عطية الزناتي الملقب بالفرطاس فلما أحس بوفادة بن أبي الفتوح عاجل بالخروج إليه والهجوم عليه فقاتله قتالا شديدا حتى انهزم يطوفت وظفرت زناته بصنهاحة فتبعوهم وتتلوا منهم قوما كثير واسروا كثيرا آخرين وهرب الباقون إلى تيهرت وهزم في هذه الوقعة قائدان له اسمهما ابن شعبان وابن عامل فسمر ابن شعبان على باب فاس وقتل ابن عامل شر قتيلة. وبقى زيري بن عطية مالكا لفاس وما حولها. ولما بلغ المنصور هزيمة أخيه، من المنصورية يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة برسم الغرب. خرج ومعه عبد الله الكاتب، وأستخلف عبد الله على القيروان ابن يوسف ثم رجع عبد الله بعد ذلك بعمالة أفريقية كلها. وبعث المنصور إلى أخيه يطوفت بجيش أخر فتلقاه بتيهرت ولم يتعرض المنصور بعد ذلك إلى بلاد زناتة. وفي سنة 375 أمر أبو الفتح المنصور أن يعمل بالقيروان أبواب حديد وأمره ببناء قصره الكبير وكان فيها مولد لأبي علي المنصور (قيل: المنصور) ابن نزار العزيز بالله بمدينة القاهرة في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الأول وفي سنة 376 ظهر أبو الفهم الخراساني الداعي واجتمع إليه خلق كثير من كتامة. وكان يوسف بن عبد الله الكاتب قد أعطاه مالا وخيلا فتوجه إلى لبلد كتامة فدعاهم فأجابوه وتقررت أموره عندهم حتى صار يركب الخيل ويجمع العساكر ويعمل البنود ويضرب السكة فعظم أمره وشاع خبره وفيها جد يوسف بن عبد الله الكاتب في بناء المنصور قصر المنصورية للمنصور أبي الفتح فبلغ إنفاقه فيه قبل تمامه مائة ألف دينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وفي سنة 377 وصل المنصور أبو الفتح صاحب أفريقية إلى المنصورية، فنزل في قصره الذي بني له وأتى معه عبد الله الكاتب وجميع عساكره ووجوه بني عمه ورجاله. وفي هذه السنة، كان مقتل عبد الله الكاتب وأبنه يوسف وذلك أن عبد الله بن محمد الكاتب بلغ مع المنصور بن أبي الفتوح ما لم يبلغه أحد من قرابته وأهل بيته ودولته، وانحصرت أموره كلها كانت تخت قبضته فجمع الأموال ورتب الأحوال والأعمال وأعطى السياسة والرياسة حقها فحسنه كبراء أهل الدولة والتقى عنه حسن ابن خالته إلى المنصور أمورا من القدح في دولته وأنه كان السبب في خروج الداعي الثائر أبي الفهم بكتامة وأنه كان يصغر خبره حتى تفاقم أمره وغير ذلك من الأسباب المهلكات. وكان عبد الله الكاتب لثقته بنفسه لا يداري أحد من أولاده زيري ولا أكابر الدولة. فلما أحسوا من المنصور بعض التغير عليه أكثروا من (اعتزل عن عمل أفريقية وأقتصر عن الكتابة وكل من تولى متصرف بين يدك وتحت أمرك!) فكان جوابه أن قال (القتلة ولا العزلة) فلما كان يوم الأحد لإحدى ليلة خلت من رجب غدا إلى ديوان كان قد بناه فجلس فيه لانتظار ركوب المنصور وبيده جزء من القران يقرأ فيه حتى قيل له (قد ركب) فأطلقه وركب فرسه برسم لقائه، وهو يقول (طويل) . ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع فلما وصل إليه المنصور، نزل عبد الله إليه سلم عليه ثم وقف، فدار بينهما كلام كثير لم يقف أحد على صحته، ثم طعنه المنصور برمحه، فجعل أكماله على وجهه وقال: على ملة الله وملة رسوله! لم يسمع له غير ذلك. وضربه عبد الله أخو المنصور برمح بين كتفيه فسقط إلى الأرض ميتا. ثم أوتي بابنه يوسف، فرضبه المنصور وماكسن بين زيري، فسقط ميتا. وكان عبد الله لما تنكر له المنصور لا يزال يتمثل بهذا البيت (طويل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أرى ألف بان لا يقوم لهادم ... فكيف ببان حوله ألف هادم وكان يتمثل أيضا بقوله (كامل) . لي مدة لابد أن أبلغها ... حتى إذا قضيتها مت لو صارعتني الأسد ضارية ... لصرعتها ما لم بج الوقت ولما مات عبد الله وابنه، دار العسكر على الناس، فانتهبوهم وسلبوهم، وقطعوا الطرق، فأخذوا كل من وجدوا من المسافرين وغيرهم، ومالوا إلى وادي القصارين وإلى باب تونس أحد أبواب القيروان، فنهبوا ما كان عند القصارين، فذهب في ذلك اليوم إلى أموال المسلمين، وقتل خلق ممن دافع عن نفسه ومال. ودفن عبد الله في الإسطبل دون غسل ولا كفن. وولي أعمال أفريقية من قبل أبي الفتح بن أبي محمد وكان عاملا على قفصه فأعطاه البنود والطبول وخلع عليه، وولاه أفريقية مكان عبد الله يوم الخميس لخمس بقين من شعبان من هذه السنة المؤرخة. وفي سنة 378، تحرك أبو الفتح المنصور بعسكره إلى بلاد كتامة. فمر على ميلة، وأمر بخرابها، وهدم سورها، وأمر أهلها بالمسير منها إلى باغاية، فاجتمعوا وساروا إليها. فلقيهم ماكسن بن زيري بعسكره، فأخذ ما كان معهم من مال وغبره. وكان المنصور في هذه الحركة لا يمر بمنزل ولا قصر ولا دار إلا أمر بهدمه. ولما وصل المنصور إلى كتامة، حاربوه فظفر بهم وقتلهم واستأصلهم. وهرب الثائر أبو الفهم إلى جبل وعر، فأرسل إليه المنصور من أخذه. فلما صار بين يديه، أمر به، فلطم لطما شديدا، ونتفت لحيته: حتى أشرف على الموت. مقتل الثائر أبي الفهم وذلك أنه، لما صار بين يديه، وعمل به ما تقدم ذكره، أمر بخروجه وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بقيت فيه حشاشة من الروح، فأخذه بعض رجاله، فنحروه وشق بطنه وأخرجت كبده، فشويت وأكلت. وأخذه عبيد المنصور، فشرحوا لحمه وأكلوه، حتى إذا لم يبق إلا عظامه متجردة وذلك يوم الثلاثاء لثلاث خلون من صفر. وقتل بسببه والي ميلة وجماعة من كتامة. ونزل بكتامة الذل والهوان. وبقيت ميلة خرابا. ثم عمرت بعد ذلك. ورحل أبو الفتح المنصور قافلا إلى المنصورية والقيروان، وفي هذه السنة. دخل الوادي إلى المنصورية وهدم دورها. وفي سنة 379، وصل إلى المنصور سعيد بن خزرون الزناتي من الغرب، فأعطاه وأرضاه وقال له يوما: يا سعيد هل تعرف من هو أكرم مني؟.؟ قال نعم قال: ومن هو؟ قال: أنا! قال له المنصور: ولم ذلك؟ قال: لأنك جدت عليّ بالمال وجدت أنا عليك بنفسي! فولى سعيدا هذا مدينة طبنة. وقدم عليه بعد ذلك جماعة من الزناتيين، وأكرمهم وأعطاهم، وزوج المنصور ابنته من ورو بن سعيد. وفي هذه السنة، خالف أبو البهار بن زيري، فزحف إليه المنصور إلى تيهرت، ففر أبو الهار إلى الغرب. ودخل عسكر المنصور تبهرت فنهبوا وقتلوا، ثم أمنهم بعد ذلك. ورجع المنصور عن تبع عمه أبو البهار، وآوى على تبهرت أخاه يطوفت ومضى المنصور إلى مدينة أشير وكتب أبو البهار إلى ابن أبي عامر، يسأله الدخول في طاعته، وأن يكتب له إلى زيري بن عطية الزناتي صاحب فاس أن يكون مواليا ومصافيا لابن أبي عامر، فكتب ابن أبي غامر إلى أبي البهار: أن كنت على نية فيما وصفته عن نفسك، فارسل إلى ابنك، يكون رهينة عندي وأفعل عندك ما أحببته! فوجه إليه ابنه في مركب مع ميمون المعروف بابن الدابة كأبيه، فعطب المركب وماتا جميعا في البحر. فوجه إليه ولده الآخر، فوصل إليه فوجه ابن أبي عامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 لأبي البهار أموالا وكسي وكتب إلى زيري بن عطية في زحفه أن يعاضده وينصره، ويكون معه. فلما بلغ ذلك أبا البهار وصل إلى فاس، واتفق مع زيري بن عطية صاحبها. وأما العامل على أفريقية، يوسف بن أبي محمد المتقدم الذكر فكان مشتغلا بالأكل والشرب فإذا دخل الورد اصطبح عليه، فلا يظهر حتى يفنى الورد وينقطع. وكان يجلس فيه، وينام عليه، فسمي شيخه الورد. وأسلم الأمور لابن البوني، فكان أهل الحاضرة معه في أمن وعافية، وأهل البادية في عذاب وغرامة. وكان جبارا عنيدا، وسمحا جوادا وكان يخرج في كل سنة فيدور على كور أفريقية، ويجبي الأموال، ويأخذ الهدايا من كل بلد ويرجع. قال الرقيق: كنا إذا درنا مع يوسف بن أبي محمد على البدان، واستطاب موضعا وأعجبه حسنه أقام فيه مصطبحا الشهر والشهرين، وأبو الحسن البوني يجبي الأموال ويقبض الهدايا ويقوم بأمور أخلة يوسف وعسكره. وكان يعطي لخاصة يوسف في كل يوم خمسة آلاف درهم، وينفق على يوسف لمطيته وفاكهته نحو هذا المال المذكور. وفيها توفي عامل صقلية عبد الله بن محمد بن أبي الحسن، وولى ابنه يوسف، فكان الناس في أيامه على أفضل ما يشتهون واستقامت له الأمور، وأداخ بلاد الروم، وظهر من كرمه وجوده وعدله ملهو معدوم في كثير من البلدان. وفي سنة 380، توفي المرصدي صاحب خراج القيروان. وأمر أبو الفتح المنصور بولاية محمد بن عبد الطاهر بن خلف الخراج مع سلامة بن عيسى؟ فجلسا معا في ديوان خراج المنصورية. وفي سنة 381 توفي القائد جوهر بمصر وهو الذي فتحها. فلم يبق شاعر بمصر إلا رثاه، وذكر ما فتحه شرقا وغربا. وفيها وصل المنصور إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 المنصورية ودخل قصره الجديد فخرج إليه أهل القيروان، يتلقون فأدناهم وأثنى عليهم ووعدهم خيرا. ثم رفع له في عبد من عبيده أنه قذف بعض الصحابة، فأمر يقتله وصلب جثته، ونودي على رأسه في مدينة القيروان. وفي سنة 382، طهر أبو مناد باديس بن أبي الفتح المصور بقصر والده وأهدى إليه جماعة من الناس على قدر أحوالهم، وفيها ترك المنصور البقايا للرعايا. وفيها قبض على البوني وابنه، وطلب منهم إلا كثيرا فأنكراه وكان المنصور قدر أنه يأخذ منهما أموالا يفتخر بها على أضياف كانوا عنده في يوم طلبها، وقال لهم: لو أن عبدا من عبيدي طلب منه بيوت مال لوجد ذلك عنده! فصادف أنكار البوني ذلك المحل، فأمر بذبح البوني. وعزل يوسف بن أبي محمد عن عمالة أفريقية وولى مكانه محمد بن أبي العرب الكاتب. وفيها وصل سجل من العزيز بالله بولاية العهد لأبي مناد باديس بن المنصور، فسر المنصور بذلك، وجاءته الهدايا من البلدان ومن كمل جهة ومكان، وفيها كان وصول سعيد بن خزرون من مدينة طبنة إلى المنصورية، فلقيه المنصور، وعانقه ثم دخل معه إلى قصره، وأنزله وأجرى عليه الأرزاق الواسعة، فاعتل سعيد بن خزرون أياما، ومات في أول رجب، فكفنه المنصور بسبعين ثوبا، وفي هذه السنة وصلت هدية من بلد السودان فيها زرافة، فخرج المنصور حتى دخلت بين يديه. وفيها وصل إلى المنصور فلفل بن سعيد بن خزرون بعد موت أبيه، فأعطاه ثلاثين حملا من المال، وثمانين تختا من أنواع الكسي وخيلا بسروج محلاة، وعشرة من البنود الجدد المذهبة، ورده إلى مدينة طبنة أميرا عليها. وفي سنة 383 خرج باديس بن المصور إلى مدينة أشير. وفيها وصل إلى المنصور كتاب أخيه يطوفت، يخبره بوصول عمه أبي بهار إليه فكتب إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 المنصور أن يبعثه فكان أبي البهار إلى المنصورية ليلة الاثنين منتصف شعبان، فأعطاه المنصور كسا وجواري وفرشا وسر به أعظم سرور وأنزله أحسن نزول. وفي سنة 384، كان دخول أبي مناد باديس بن المنصور إلى المنصورية من جهة الغرب، وهي أول حركة، فتلقاه أبو العساكر وأهل القيروان وغيرهم، وفيها، كان وصول الهدية من مصر مع جعفر بن حبيب ومعه فيل عظيم. وفي سنة 385، مات الأمير عبد الله بن يوسف بن زيري بم مناد. وفيها، كان خروج القائد يوسف بن أبي محمد عاملا على متيجة. وفي جمادى الأخيرة، وصل قاسم بن حجاج إلى المنصورية من مصر برؤوس الروم الذين قتلهم مارق الكتامي بحلب. وفي سنة 386، توفي أبو الفتح المنصور عدة العزيز بالله بن زيري بن مناد الصنهاجي في يوم الخميس لثلاث خلون من ربيع الأول، ودفن بقصره الجديد الخارج عن المنصورية. وكانت أيامه أحسن أيام. إمارة أبي مناد باديس بن أبي الفتح ابن أبي الفتوح يوسف بن زيري بن مناد ولما صارت الأمور إليه، أتاه الناس من كل ناحية بأفريقية للعزاء والتهنئة. وكانوا بنو زيري وبنو حمامة قد هموا بأمور، وخالفوا على ما كان معهم على ما عقدوه، فما تركهم عبيد باديس وعبيد أبيه إلى شيء مما أرادواه. ووصل أبو بيباش يطوفت بن أبي الفتوح إلى لمنصورية للعزاء والتهنئة ثم رجع إلى طبنة وجهة الغرب في أواخر شعبان. وفي هذه السنة توفي أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 المنصور نزار العزيز بالله العبيدي صاحب مصر في حوض الحمام وكانت به علة الحصى، وشرب دواء في الحوض، وأدركه أجله فيه، فمات. وولي مكانه أبو علي ولي عهده الملقب بالحاكم بأمر الله. وكان أبو مناد قد هيأ هدية ليبعثها للعزيز، فبرزت الهدية من المنصورية إلى رقادة مع جعفر بن حبيب لست خلون من رمضان. وكان العزيز بالله قد بعث سجلا إلى أبي مناد يأمره فيه برفع القاضي محمد بن عبد الله بن هاشم إلى مصر، فوصل السجل والقاضي مريض، فأمره أبو مناد بالخروج مع الهدية، فاعتذر بعده، فبعث إلى داره محمد بن أبي العرب وجماعة من رجال الدولة، وذلك لثلاث خلون من ذي القعدة، ووقف العسكر بباب أبي الربيع وظنوا أن أهل القيروان يمنعه منهم ويحولون بينه وبينهم فهجموا عليه، وحملوه ببساطه الذي كان مريض عليه في ثيابه التي يلبسها في داره، لأنهم فاجئوه وخرجوا به محمولا، وقد اجتمع عند داره خلق عظيم ولم ينق أحد منهم، ومشوا به إلى رقادة وخلفه غلام نصراني يمسكه، وأولاده وقرابته يمشون خلفه. واغتم بمسيره سائر الناس وظهر عليهم الحزن والأسف لفقده، وكثر الدعاء له والثناء عيه. ثم جاءت الأخبار بوفاة العزيز بالله، فأمر أبو مناد برجوعه إلى داره مكرما معظما وفي هذه السنة، مات أبو محمد بن أبي زيد - رحمه الله! - وفي سنة 387، توترت الأخبار بموت العزيز بالله. وفيها رجع القاضي إلى داره، وهو مريض، فازداد مقداره عند الناس وفي صفر، عقد أبو مناد ولاية أشير لحماد ابن أبي الفتوح يوسف بن زيري بن مناد، فخرج عاملا عليها وأعطاه خيلا كثيرة وكسا جليلة، ثم اتسعت عمالته وكثرت عساكره وعظم شأنه، وفي ربيع الأخر وصل القاضي الباهري من مصر إلى المنصورية، فبرز أبو مناد بعساكره عليه، وخرج بجميع رجاله إليه، رأى ما لم ير مثله. ووصل المذكور بسجلين، فقرئا بجامع القيروان والمنصورية: أحدهما بولاية أبي مناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وتلقيبه نصير الدولة، والثاني بوفاة العزيز بالله وخلافة الحاكم بأمر الله والجواب عن وفاة المنصور عدة العزيز بالله. وكان معه سجل ثالث بأخذ العهد على باديس وجماعة بني مناد للحاكم. فجلس أبو مناد ودعا وجوه الصنهاجيين وأخذ عليهم البيعة. ثم رجع القاضي الشريف الباهري إلى مصر، بعد أن وصله أبو مناد بمال جليل. وفي هذه السنة خرج نصير الدولة إلى المصلى بزيّ جليل وهيئة حسنة وبين يديه الفيل وزرافتان، وجمل أبيض ساطع البياض، لم ير الناس مثله قط. وفي سنة 388، وصلت إلى نصير الدولة هدية من مصر تشتمل على الجوهر والأعلاق النفيسة، فتلقاها، ودخلت بين يديه إلى المنصورية وفيها، كانت وقعة بمصر بين الترك والكتاميين، وكان الظفر للترك عليهم. . وفي سنة 389، زحف زيري بن عطية صاحب فاس وما والاها من بلاد الغرب إلى مدينة تيهرت، فنزل عليها وحاصرها. وكانت يطوفت بن يوسف بن زيري صاحبها، فكتب إلى ابن أخيه أمير أفريقية، يستمده، فبعث إليه محمد ابن أبي العرب. ذكر هزيمة عسكر أفريقية واستيلاء زيري بن عطية عليه وظهور زناتة على صنهاجة لما وصل كتاب يطوفت إلى باديس نصير الدولة، أمر نصير الدولة محمد ابن أبي العرب الكاتب بالخروج بالعساكر إلى زناتة، فكان تبريزه في منتصف صفر من هذه السنة، ونهض بالعساكر حتى بلغ أشير، وبها حماد بن يوسف بن زيري عاملا عليها، ومعه عسكر عظيم، فأقام بها يسيرا، ثم رحل ورحل حماد معه بعسكره، حتى وصلا إلى تيهرت، فاجتمعا بيطوفت، ومعه أيضا عسكر عظيم وكان اجتماعهم بتيهرت غرة جمادى الأولى. وكان بتيهرت زيري بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عطية نازلا بموضع يقال له امسار، على مرحلتين من يتهرت، فزحفوا إليه. فكانت بينهم حرب شديدة وكان معظم عسكر حماد الوتلكاتيين، وكان قد أساء عشرتهم. فلما حمى الوطيس واشتد البأس، ولوا منهزمين، فاتبعهم جميع العساكر الأفريقية. فرام ابن أبي العرب رد الناس فلم يقدر فولت الهزيمة على الجميع، حتى وصلوا إلى أشير وقد أسلموا محلاتهم ومضاربهم، وكل ما فيها من الأموال والسلاح وغير ذلك، فاحتوى زيري بن عطية وإخوانه على جميع ما ذكرنا. وقتل منهم خلق كثير، وأخذ أسرى كثيرة، فوعدهم بجميل، ثم أطلقهم عند وصوله إلى تيهرت، فمضوا حتى وصلوا إلى أشير. وبقى ابن أبي العرب وحماد ويطوفت بأشير وبقى زيري ابن عطية الزناتي على تيهرت. وكانت هذه الوقعة والهزيمة يوم السبت لأربع خلون من جمادى الأولى منن هذه السنة. ووصل الخبر إلى المنصورية لعشر بقين منها، فخرج نصير الدولة صاحب أفريقية من المنصورية للقاء زيري بن عطية يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الآخرة، ورحل حتى وصل إلى طينة، فبعث في طلب فلفل بن سعيد بن خزرون الزناتي، وكان على طبنة، فخاف منه، وبعث يعتذر له، ويسأله أن يكتب له سجلا بولاية طبنة، فكتبه له، وبعث به إليه، ورحل عنه نصير الدولة باديس وتمادى في رحيله. فلما بلغ فلفلا أنه قد أبعد عنه ضرب على جهة من جهاته، فأكل ما حولها ونهب وافسد ومضى إلى باعاية، فحاصرها، وأفسد تلك الجهات كلها، واكل ما والاها، ونصير الدولة في هذا كله متماد على سيره حتى وصل أشير. ولما وصل إلى المسيلة، رحل زيري بن عطية عن تيهرت. فصمم إليه نصير الدولة. ثم وصله الخبر أنه توجه إلى ناحية فاس فعند ذلك رجع نصير الدولة إلى تيهرت وأشير، واستخلف يطوفت على تيهرت ابنه أيوب في أربعة آلاف فارس. وبلغ نصير الدولة ما فعل فلفل ابن سعيد، فأرسل من أشير عساكر تقدمت إليه، ثم رحل بعدهم ومعه أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 البهار بن زيري حتى وصل إلى المسيلة فعيد بها عيد الفطر. ووصل إلى أبي البهار فيه الخبر بأن أخوته ماكسن وزاوي ومغنين نافقوا بأشير، وأنه قد قبضوا على يطوفت، فرحل أبو البهار هاربا في بنيه ورجاله وعياله. ورحل نصير الدولة ثالث شوال إلى أفريقية. فلما بلغ إلى يلزمة، بلغه أن فلفل بن سعيد تمادى إلى القيروان، فرحل إلى باغاية، فعرفوه ما قاسوه من قتال فلفل وأنه حاصرهم خمسة وأربعين يوما، فرحل من باغاية في طلب فلفل، فاتقى معه لعشر خلون من ذي القعدة، فكانت بينهم حروب لم يسمع بمثلها. وكلن قد اجتمع لفلفل من البربر مل لا يحصى عددا وكثرة، فانهزم فلفل إلى جبل الحناش، حسبما ذكروه، واتبعته صنهاجة والعبيد. فلما رأوه تمادى منهزما، رجعوا عنه ونهبوا محلته. وقتل في ذلك اليوم نحو سبعة آلاف من زناتة. وأرسل نصير الدولة كتاب الفتح إلى مدينة القيروان. وفي سنة 390، خرج نصير الدولة في طلب فلفل بن سعيد. فلما علم فلفل أنه لا طاقة له بلقائه، هرب إلى الرمال، وافترق جمعه فرجع نصير الدولة إلى أفريقية، ومعه أبو البهار بن زيري وقد أعتذر له مما فعل إخوانه، فقيل عذره. ثم رجع فلفل إلى طرابلس، وتمادى نصير الدولة إلى أن وصى إلى قصر الأفريقي، فبلغه حينئذ أن بني زيري رجعوا إلى الغرب خوفا منه وأنه لم يبقى مع فلفل سوى ماكس وابنه محسن، فرجع نصير الدولة إلى المنصورية حضرته. وفي أول رجب من هذه السنة، خرج نصير الدولة إلى رقادة، متوجها لقتال زيري بن عطية الزناتي أمير الغرب، لما بلغه أنه أتى إلى أشير. ثم جاء الخبر برحيل زيري بن عطية إلى الغرب، فرجع نصير الدولة إلى المنصورية. وفي سنة 391، خرج نصير الدولة في طلب فلفل ثانية، ووصل كتاب يوسف بن عامر عامل قابس، يذكر فيه أن فلفلا رحل إلى طرابلس من على قابس، لست بقين من رجب، ولما وصل فلفل إلى طرابلس خرج إليه فتوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ابن علي وجماعة أهلها، فقتلوه وأدخلوه البلد، فاستوطنها من ذلك الوقت. وفي هذه السنة، وصل رسول حماد بن يوسف العزيز بالله يذكر أنه زحف إلى عمه ماكسن بن زيري ومن معه، فقتل ماكسن وولداه محسن وباديس بعد حروب شديدة ن وذلك بعد ثلاث خلون لرمضان المعظم. وفيها توفي زيري بن عطية الزناتي، صاحب فاس والغرب كله وذلك في الثاني عشر من رمضان المذكور من السنة المؤرخة، بعد قتل ماكسن بتسعة أيام. بعض أخبار زناتة ودولتهم بالغرب إلى حين ظهور المرابطين وذلك أن زناتة كانت تقوم بدعوة الأمويين، لما تقدم لهم من هجرة جدهم خزر بن صولات وإسلامه على يد عثمان بن عفان، وكان صنهاجة تقوم بدعوة العبيديين. ووقع بينهم حروب كثيرة وقام ببلاد الغرب زيري بن عطية الخزري المغراوي، وملك فاسا وغيرها، وصار أمير زناتة كلها في ذلك الوقت. وكان يدعوا لبني أمية في دولة هشام المؤيد، إذ كان المقيم لها ابن أبي عامر حاجبه، وهو يحارب أعدائه وأضداده صنهاجة أمراء أفريقية. قال بن حمادة: وكان قد وصل إلى قرطبة، واجتمع مع ابن أبي عامر سنة 379، وكان بأرض الغرب في خدمته من تلك السنة وموالاته مع سعة ملكه وبعد صيته إلى أن فسد ما بينهما سنة 387، ووقع بينه وبين المظفر حروب يطول ذكرها. قال ابن حيان: ثم أن زيري بن عطية الراوي نكث على علي ابن أبي عامر بعد الحب الشديد والوفاء الأكيد، وطعن علي بن أبي عامر سلبه الملك هشام وامتعض لهشام المؤيد، وغلية ابن أبي عامر عليه، فانفذ له ابن أبي عامر واضحا فتاه بجيش كثيف، فقاومه بالمغرب. ودارت بينهم حروب عظيمة، ثم أردفه ابن أبي عامر بولده عبد الملك، وهبط هو إلى الجزيرة الخضراء يمدهم بالقواد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والأجناد. وبرز عبد الملك من طنجة إلى زيري، ودارت بينهم حروب لم يسمع بمثلها في الحروب الغابرة. أجلت عن هزيمة زيري واستئصال رجاله وحاله. ونجا هو مثخنا بالجراح. وانبسط ملك عبد الملك بن أبي عامر على الغرب وما والاه إلى سلجماسة، وعلى تلمسان وتيهرت. وقفل إلى الأندلس سنة 389، واستخلف على بلاد الغرب واضحا الغازي، فأقام بفاس مدة وانصرف إلى الأندلس، وخلف على فاس عبد الله بن أبي عامر، ابن أخي المنصور، ثم تلاه إسماعيل بن البوري، ثم تلاه أبو الأحوص معن بن عبد العزيز، وبقي فيها إلى أن توفى محمد بن أبي عامر، فصرفها ابنه عبد الملك المظفر إلى المعز بن زيري بن عطية، وقد استحكمت ثقته به وحسن رأيه فيه فولاه على فاس سنة 397، على أن يعطيه المعز عدة من الخيل والسلاح يحملها كل سنة إلى قرطبة، وقبض على ابنه المسمى معتصر رهينة. فاستقامت طاعة المعز، وأقام ابنه بقرطبة إلى أن نشأت الفتنة وانقرضت الدولة العامرية، فانصرف معتصر إلى أبيه ومضى مع أبوه على رأيه في موالاة من ظهر بالأندلس من المروانية، إلى أن هلك بعد صدر من الفتنة، وأورث ولده حمامة ملك فاس وما والها. وقد ذكر الوراق ذلك، وشرحه شرحا كافيا وقال: توفي زيري بن عطية في سنة 391، أقام بنو عمه ابنه المعز مكانه. وذكر استجداء المعز للمظفر ابن أبي عامر، وأرسله إليه، وتقليد المظفر له ولاية المغرب على ما تضمنه من خيل وسلاح وغير ذلك، ورهنه المعز ولديه حمامة ومعنصر، وذكر موت المظفر، وتقديم أخيه عبد الرحمن لحجابة هشام المؤيد وبلغ المعز بن زيري ذلك، فاحتفل في هدية عظيمة يهديها له، وذلك سبعمائة من الخيل وأحمال كثيرة من درق اللمط وجملة كبيرة من المال والسلاح، وسائر ما بالمغرب من الطرف، ووصل قرطبة مع هذه الهدية فتيان من بني عمه وجملة من شيوخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 القبائل ووجوه فاس، فسر عبد الرحمن بذلك وشكر المعز وسرح ابنيه إليه بعد أن كساهما وأرضاهما وكتب للمعز عهدة بتحديد ولاية الغرب كله إلا مدينة سجلماسة فأنه كان قد عقد ولايتها لواضح الفتى قبل ذلك وولاها واضح وانودين بن خزرون اليفرني وأبن عمه زيري فلفل على ما ضمناه إليه وعده من الخيل والدرق معلومة وجملة من المال في كل سنة. ورهنه كل واحد منها أبه. فامتثل النعز بين زيري وما أمره بن عبد الرحمن بن أبي عامر. وبقي المعز أمير الغرب إلى أن انقرضت الدولة العامرية ثم انقرضت الدولة المروانية وانشقت عصى الأمة ومرج أمر الناس بالأندلس وصار المسلمون شيعا متفرقون يقتل بعضهم بعضا وينهب. وفعل أهل المغرب مثل ذلك فكثر فيه الشتات وشن الغارات بعضهم على بعض. وأقام المعز بن زيري يدارى أمره إلى أن حانت وفاته سنة 416. وولى مكانه أبنه أبو العطاف حمامة بن المعز بن زيري بن عطية وكان له حظ من المعرفة والأدب وحسن السياسة، فكانت مدينة فاس في أيامه هادئة راخية، وكان الشعراء يقصدونه من الأندلس. وجرت له حروب كثيرة إلى أن حانت وفاته في سنة 433. وولى ابنه دوناس بن حمامة فقام عليه بنو عمه، ولم يزل أمره يضعف، ودولتهم تدبر إلى أن قام بمدينة فاس أميران بالعدوتين وكانت الحرب تدور بينهما. وجرت بين ذلك أمور وخطوب، ولا يحسن ذكرها لشناعتها، إذ للدول، إذا أدبرت كل ما يجري فيها يقبح ذكره، إلى أن شاع خبر خروج لمتونة من الصحراء، واستيلاءهم على بلاد المصامد وخلعهم لملوكهم وناموس عدلهم، ودخل عبد الله بن ياسين مدينة أغمات وما يليها، فخافت زناة وأجفلت عن جهة الشرق حيث مستقرها، ولما قتل عبد الله بن ياسين، رجعت زناة إلى المغرب، وقتلوا كل من اتهموه بالميل إلى أصحاب اللثام، فحاربهم الصحراويون. ووجه أبو بكر بن عمر يوسف بن تاشفين، فحارب رؤساء القبائل، واستفتح بلاد كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وفي خلال ذلك كان الجوع الشديد الذي يعرف بسنة أو قبة بدرهم من الدراهم الخندوسية، وذلك في سنة 444. ورجع الفتوح بن معنصر الزناتي من المشرق وكسر عسكر مدينة فاس في سنة 454. وفيها كسرة مكناسة ولواة: كسرها قائد أبي بكر بن همر اللمتوني. وفي سنة 454، وطئ بليجين بن محمد بن حماد الصنهاجي جميع الغرب ودوخه بجيوش عظيمة. وفي سنة 459، دخل إبراهيم بن مليح الجزنائي مدينة فاس، وأخرج منها معنصر بن حماد إلى بيت الشرق. ثم رجع إلى فاس، وقتل كل من اتهمه بالميل في الملثمين. ثم رجع يوسف إلى المغرب وهرب معنصر. وقتل يوسف سدراة ودخل مدينة فاس، واستولى عليها وعلى أكثر الغرب. هكذا ذكر أبو مروان عبد الملك بن موسى الوراق في كتابه (المقباس في أخبار فاس) . وأما يوسف الجزنائي، صاحب مكناسة فتولى سنة 412. وأما توالي، فتوفي بالقلعة، وولي ابنه مهدي في هذه السنة. وأما ابن أبي العافية إبراهيم، فتوفي في سنة 450، وولي ابنه عبد الله وكان بنو أبي العافية أصحاب تسول وملوية ونكور، وهي لمزمة، وتوفي عبد الله 460، وولي ابنه محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن موسى بن أبي العافية وأما تلمسان والزاب، فكان فيها يعلى الزناتي، وما في هذا التاريخ أو قريبا منه وقام فيها بنوه. وما وراء الزاب من بلاد الغرب، لم يملكه العباسيون قط، أما تلمسان وأنظارها، فوليها محمد بن سلمان ابن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - ومن ولده أبو العيش عيسى بن إدريس بن محمد المذكور. وأما فاس وأنظارها فكان فيها شيعة ثم آل أمرها إلى إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم - وأما تلمسان، فكان فيها أولاد صالح بن طريف على ضلالتهم. وأما سجلماسة، فنزلها عيسى بن سمغون، رئيس الصفرية. فهذه هي البلاد المتفق عليها، وأما المختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فيها، بأفريقية: قيل أنه كان فيها عبد الرحمن بن حبيب ثائرا، وبالأندلس يوسف الفهري أميرا. رجع الخبر إلى نسق التاريخ. وفي سنة 392، توفي أبو طالب شيخ المعتزلة ولسانهم، وله تسع وستون سنة. وفي هذه السنة كان خروج يحبى بن علي بن الأندلسي من مصر بالعسكر، فمان وصوبه إلى طرابلس يوم الجمعة لتسع خلون من ربيع الأول وكان متولي التدبير في الوقت زيدان الصقلي، فاختلفت عليه أمور العسكر مع سوء عقله وضعف تدبيره ووصل إلى فلفل، فاستخلف به، واحتقره. وفيها ن في رمضان المعظم، توفي المنصور بن أبي العامر على ما يأتي في موضعه. وفي سنة 393، وصل يحيى بن علي بن الأندلسي، ومعه فلفل بن سعيد وفتوح بن علي إلى مدينة قابس، فحصروا عطية بن جعفر وخرج في تلك الأيام إلى قابس عشرون رجلا من الناشبة، فعرف بهم فلفل فبعث في طلبهم فلما أتى بهم ن ضرب أعناقهم، وكان وصولهم إليها يوم الاثنين لأربع عشرة خلون من شعبان من هذه السنة.. ثم انصرفوا راجعين إلى طرابلس ولما رأى يحيى بن علي اختلال الحال عليه، ولم يجد ما يعطي لرجاله عاد ببقيتهم إلى مصر، بعد ما أخذ فلفل وأصحابه ما أحبوه من خيولهم بين شراء وغصب فلما وصل إلى صاحب مصر الحاكم بأمر الله، أراد الإيقاع به، وبعد ذلك عفا عنه وقبل عذره. وفي سنة 394، قتل الحاكم بأمر الله منجمه البكري بمصر، وكان ضعيف العقل أحمق وكان له بصر بالقضايا. وفيها قتل الحاكم جماعة كبيرة من وجوه رجاله وأحرقهم بالنار. وفيها، قتل المعروف بابن خريطة. وفيها، قتل ابن الغازي المنجم. وفي سنة 395، كانت بأفريقية شدة عظيمة أنكشف فيها الستور، وهلك فيها الفقير، وذهب مال الغنى، وغلت الأسعار، وعدم القوات. وجلى أهلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 البادية عن أوطانهم وخلت أكثر المنازل فلم يبقى لها وارث وع هذه الشدة وباء طاعون هلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج فلا ترى متصرفا إلا في علاج أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت أو تشيع جنازة أو انصرف من دفن. وكان الضعفاء يجمعون إلى باب سالم فتحفر لهم أخاديد ويدفن المائة والأكثر في الأخدود الواحد فمات من طبقات الناس وأهل العلم والتجار والنساء والصبيان ما لا يحصى عددهم إلا خالقهم تعالى وخلت المساجد بمدينة القيروان وتعطلت الأفران والحمامات. وكان الناس يوقدون أبواب بيوتهم وخشب سقوفهم. وجاء خلق من أهل الحاضرة والبادية إلى جزيرة صقلية. وكانت الرمانة بدرهمين للمريض في ذلك الوقت والفروج بثلاثين درهما وقيل أن أهل البادية أكل بعضهم بعضا. كذا ذكر أبو إسحاق الرقيق. وفي سنة 396، كثر الخصب بأفريقية ورخصت الأسعار وأرتفع الوباء عن الناس وفيها ثار ببرقة الوليد بن هشام وأدعى أنه من بني أمية من ولد المغيرة وكان ظهوره في العام الفارط عن هذه كان معلما ببرقة فرأى في أهل برقة فرصة فانتسب لهم وعرفهم أم عنده روايات وعلما وأنه هو الذي يملك مصر ويقتل الجبابرة وأعانه على ذلك قوم من لواتة وزناتة فنصبوه إماماً واجتمعوا عليه. ثم أقبل البربر من كل ناحية إليه فزحف إلى برقة وحاصرها حتى فتحها وذلك في رجب من العام الفارط ثم قوى أمره في هذه السنة، فأخرج الحاكم إليه جيشا فكان بينهم قتال شديد إلى أن هزم عسكر مصر وقتل قائده. وفيها توفي عامل أفريقية محمد بن أبي العرب. وفيها قتل الحاكم قاضيه وأحرقه بالنار على أكله أموال الأيتام. وفي سنة 397 استحلف أمر الثائر ببرقة الوليد بن هشام وكثرت جموعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وأتباعه فأخذ الحاكم بالحيلة فدعا وجوه رجاله وقواده وأمرهم أم يكاتموه ويعرفوه أنه على مذهبه وهو أن قرب منهم صاروا في جملته. فلما تواتر ذلك عليه وثق به وزحف بكل من معه من قبائل البربر إلى مصر فخرجت إليه عساكر مصر فهزموه ولحق بأراضي السودان. ثم أخذ أسيرا ودخل إلى مصر على جمل فطيف به بثياب مشهورة ثم قتل شر قتلة في النصف من شوال. وفيها ولي العمالة بأفريقية إلى القاسم بن محمد بن أبي العرب بعد موت أبيه فأفر رجاله على مراتبهم واستعان بهم. وفي سنة 398 توفى صاحب المظالم بأفريقية محمد بن عبد الله وكانت وطأته اشتدت على أهل الريب والفساد بالضرب والقتل وقطع الأيد والأرجل لا تأخذ فيها لومة لائم. وفي سنة 399، هرب أولاد محمد بن أبي العرب من المنصورية يريدون فلفل بن سعد بن خزرون الزناتي بإطرابلس، فأرسل نصير الدولة إلى صاحب قابس يأمره أن يقطع بهم فلحق بهم المذكور، وأخذ منهم عليا ويوسف فقطع رؤوسهما وتوجه بها المنصورية منسلخة المحرم ووصل القاسم بعد ذلك فعفا عنه. وفي سنة 400، توفي فلفل بأطرابلس بلة أصابته. وولي أخاه ورو وأطاعته زناتة وفيها رحل أبو مناد صاحب الدولة بعساكر إلى إطرابلس ليوم الاثنين خلون من شعبان فتلقاه أهلها مسرورين داعين مستبشرين فضربت له فساطيط الديباج والقباب الجليلة ونزل فأخذ الناس ريح عظيمة خرق جميع المضارب ومزقها وذهب بها. ودخل نصير الدولة إلى قصر فلفل. وجاءت رسل ورو بن سعيد أخي فلفل راعية في الأمان والعفو فعفى عنهم وشهد بذلك على نفسه، ثم صدر إلى المنصورية ظافرا. ووصل النعيم بن كنون وطائفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 معه إلى المنصورية، فأعطاهم نصير الدولة، وأفضل عليهم أتم الأفضال وأمر للنعيم والبنود والطبول والبراذين والسروج وصرف إلى البلاد التي أعطاه وقاعدتها قصطيلية فأقام بها ملك بالطبول والبنود والجيش. وفي سنة 401، كان موت عزم بن زيري بن مناد بالقيروان. وفيها، توفي القائد جعفر بن حبيب. وفيها أمر الحاكم بأمر الله بن الحسين بن جوهر قائد القواد وصره القاضي على مصر عبد العزيز بن محمد بن النعمان فقتلا جميعا في وقت واحد. وفي شوال من هذه السنة خالف ابن الجراح على الحاكم بأمر الله، وبعث رسالة إلى أمير مكة يستدعيه للخلاف عليه معه فخالفه وتسمى بأمير المؤمنين. وتابعه على ذلك أهل مكة وبنو عمه وغيرهم وتمادى أمرهم على ذلك بقية هذه السنة. وفيها، وجعل أهل مصر ومن كان معهم من المغاربة وغيرهم برسم التوجه إلى مكة - زادها الله تكريما وتشريفا! - وذلك عند وصولهم للقزم بلغهم ما فيعل ابن الجراح وأبو الفتوح أبو الحسن بن جعفر بن محمد فمل يحج منهم أحد، ولم يحج أحد هذه السنة من الشام ولا العراق ولا خراسان ولا سائر الآفاق ألا أهل اليمن ونفر يسير ممن كان بمكة مجاورا. وفي سنة 302 تقدم المنصورية خزرون بن سعيد بن خزرون الزناتي أخو فلفل المتقدم ذكره. وكان سبب وصوله اختلاف بينه وبين أخيه ورو فقصد إلى نصير الدولة فقبله أحسن قبول وكان معه نحو سبعين فارسا من زناتة فأنزلهم وأحسن إليهم ثم بعد ذلك بأيام أعطاه مديمة، فخرج إليها بالبنود والطبول. وفي سنة 403 وصل إلى المهدية مركب فيه هدية جليلة من الحاكم إلى نصير الدولة باديس صاحب أفريقية، وإلى ولده منصور عزيز الدولة فتلقاها المنصور مع أهل القيروان على قصر الماء بالبنود والطبول، ووصلت سجلات منه إلى نصير الدولة بإضافته وأعمال برقة إليه. وفيها توفى أبو الحسن القابسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الفقيه العالم. وفيها، عزل أمير نصير الدولبو يوسف ابن حبوس السنهاجي عن أمر الجيوش وغيرها. وفيها توفى مفرج بن الجراح ببلاد الشام وبقي أولاده مكانه. وفيها، عاد صاحب مكة إلى طاعة الحاكم وهو جعفر بن الحسن المتقدم الذكر الذي قام بها ودعا لنفسه وتسمى بأمير المؤمنين الراشد بالله ثم تاب مما فعل في هذه السنة وصعد المنبر وتبرأ مما كان ادعاه وكتب بذلك إلى الحاكم بأمر الله فقبل منه وأنفذ إليه أموالا عظيمة وأمر الناس أن يسافروا إلى مكة بالطعام وسائر المرافق. وفي هذه السنة ظهر بأفريقية ثائر أسمه عبد الله بن الوليد بن المغيرة وكان خاملا مشتغلا بالتعليم ثم دعا إلى نفسه فأخذ وسيق إلى القيروان مع صاحب له وحملا على جملين وطيف بهما ثم ضربت أعناقهم ورفعا فصلبا. ووجت عنه خريطة فيها كتاب بخط يده لبعض الأشياخ القبائل يقول فيها: (من عبد الله أبي محمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى فلان) ثم يذكر أن تام أمره وظهوره يكون بكتامة ويأمره لأن يتلاقاه في أول صفر من سنة 404 فإنها آخر دولة صنهاجية وبها تنقطع دولتهم. فتمكن منه صنهاجة كما ذكرنا. وفي سنة 404 وصل سجل من الحاكم إلى نصير الدولة يذكر فيه أنه جعل ولاية العهد في حياته لأبن عمه أبي القاسم عبد الرحمن بن ألياس فقرأ بجامع القيروان والمنصورية وأثبت اسمه مع اسم الحاكم في البنود والسكة. فعظم ذلك عند نصير الدولة وقال: (لولا أن الإمام لا يتعرض على تدبير، لكتبته ألا يصرف هذا الأمر من ولده إلى ابن عمه!) وفي سنة 405 أخرج نصير الدولة هدية جليلة إلى الحاكم وشيعها بالبنود والطبول عن المنصورية فوصلت إلى المهدية وركب بها البحر يعلى بن فرج. وكان فيها مائة فرس ولها سروج محلاة شدت في ثمانية عشر حملا أقفاصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وكان فيها ثمانية وعشرون حملا من الخزف السمور والمتاع السوسي المذهب النفيس وعشرون وصيفة بارعة الجمال وعشرة من الصقالبة وغير ذلك. ووجهت السيدة أم ملال أخت نصير الدولة إلى أخت السيدة أخت الحاكم هدية أيضا. ولما وصلت تلك الهدايا إلى جهة برقة أخذ العرب وهرب يعلى ابن فرج وأسلمها بجميع ما فيها. وفيها نادى مناد القيروان بانتقال من كان يسكن فيها من الصنهاجيين إلى المنصورية. ثم نادى مناد آخر بعد ذلك بإغلاق الحوانيت بالقيروان وفنادقها فأغلقت ولم يبق بها إلا بعض حوانيت الأحباس ويبلغ كراء حانوت بالمنصورية مائتي درهم لبيع الكتان وما سمع ذلك بكراء حانوت بالقيروان فكان ذلك أول أسباب خرابها. وكان الحاكم لقب المنصور بن نصير الدولة بعزيز الدولة وقرى سجله بذلك فأراد نصير الدولة أن يرشح ويضيف فيه أعمالا يستخدم فيها أتباعه وصنائعه. وكان نصير الدولة اتصل به عن إبراهيم بن سيف العزيز بالله هانت إنكاره عليه فأراد اختبارها فكتب كتاب إلى حماد يأمره فيه بتسليم عمل أبي زعبل قصر الإفريقي ومدينة القسطنطينة إلى مستخلف عزيز الدولة وقد كان قد خلع على هاشم بن جعفر وأعطاه البنود والطبول وأمره بالخروج إلى هذا لعمل فخرج بخزائن وعدد جليلة وبعث نصير الدولة إلى إبراهيم بن سيف العزيز بالله يشاوره على من يمضي بكتابه إلى حماد فتسرع إبراهيم إلى المسير بالكتاب نفسه وقال يجد مولانا عبدا من عبيده أنهض بخدمته مني!) وتضمن ذلك وأخذ على نفسه المواثيق أنه لا يقيم في مضيه ألا أقل من عشرين يوما فأسار على نصير الدولة من يقرب منه بأن يعتقل إبراهيم، ولا يدعه لما يرد من السفر حتى يرى ما يكون من طاعة أخيه حماد ومسارعته إلى ما يأمره به نصير الدولة من ذلك وقال لإبراهيم: (امض إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أخيك حماد. فأن صدقت فيما قلت، ووفيت بما وعت، وإلا فأفعل ما أردتما) وخرج إبراهيم بن يوسف العزيز بالله بماله ورجاله وجميع ذخائره، ولم يعقه في ذلك من نصير الدولة وإلا فقد بأثقال وجملة رجاله دليلا على ما خالف ما أظهر، وكان خروجه من شوال، وصبحه هاشم بن جعفر، ثم أحس هاشم أنه سيغدره إذا قرب من أخيه، فاعتذر له أن حاجة بقيت له بباجة، وعدل إلى طريقها، ووعده أن يلحقه سريعا. فنجاه الله من غدره. ومضى إبراهيم حتى وصل تامديت، وكتب إلى أخيه، فنهض إليه حماد في عساكر عظيمة، واجتمعت كلماتها، وخلعا أيديهما من الطاعة. وانتهى ذلك إلى نصي الدولة، فرحل في أواخر من ذي الحجة، ونزل برقادة، ووضع العطاء لعساكره، وأخرج عياله وأثقاله وأخته السيدة أم ملال، وأولاده، وعبيد إلى المهدية، ورحل في السابع منه. وأمر بالقبض على يوسف بن أبي حبوس وأخته، فقبض عليه. وكان نصير الدولة لم يمض له يوم من الأيام إلا جدد عليه كرامة وإحسانا، ولا كان يهدى إليه فرس أو ثوب من ثياب الخلافة إلا أثره بذلك على نفسه، ومع ما حمل له من الضياع والرباع بكل كورة من كور أفريقية. وما زال يرفع من قدره، ويزيد في التنويه بذكره، حتى نال من أعلى المراتب، ما لم ينله بعيد ولا قريب، وسما من رفيع الدرجات ما لم يسم له حميم ولا نسيب. وكان - والله أعلم - تسول له نفس الفتك بالأمير نصير الدولة. وأنه هم بذلك مدة من الزمان، فلم يعنه الله عليه، بل خيب سعيه، ورد في نحره بغيه. فتقرر ذلك عند نصير الدولة، فقبض عليه. وكان في قبضه عليه ما أوهن الله به كيد الأعداء، وخيب آمالهم، وأضل أعمالهم. ورحل نصير الدولة ثاني عيد الأضحى بعسكره لحماد المذكور. وفي سنة 406، في صدر محرم، وصل عزم وفلفل حنون بن سنون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وماكسن بن بلقين، وعدنان بن معصم في عدة من الفرسان من عسكر حماد. فخلع عليهم، وأحسن إليهم. ومازال نصير الدولة يرحل مرحلة بعد مرحلة إلى أن وصل إلى تامديت. ثم ورد عليه الأخبار بوفاة ولده المنصور عزيز الدولة، وذلك أنه كان في حين حركته إلى المهدية عرضت له حمى، وظهر به جدري، فأقام سبعة عشر يوما. وتوفى. فكتم من نصير الدولة أمره خوفا أن يبدو من جزع. يكون فيه وهنا على الدولة فيما هو بسبيله من مقابلة عدوه. فبلغ خبره إبراهيم وحمادا، فبعثا إليه، وقالا له: (إن ولدك، الذي طلبت له ما طلبت، قد توفي) فما ضعضعه ذلك، ولا أوهنه، وكتب إلى السيدة يسألها عن ذلك. فورد كتابها بوفاته والتعزية عنه، ونصف سلامة المعتز حسن حاله، فكان من صبر نصير الدولة وحسن عزائه ما كثر التعجب به. وجلس مجلسا عاما للعزاء، فكان لا يرى من أحد جزعا وبكاء إلا سلاه وهون عليه، فزاد ذلك سرورا لأوليائه وكمدا لحسدته وأعدائه. ثم رحل من تامديت لست خلون من صفر، وتمادى رحيله إلى أن وصل المحمدية، وهي مدينة المسيلة، فتلقاه أهلها داعين شاكرين على ما منحهم من العدل والأمان، وكثف عنهم من الجور والعدوان. فأقام بها ستة أيام. ثم رحل، فعبر وادي شلف، ثم تمادى مشيه حتى قرب من عساكر حماد وحشوده من زناتة وغيرها في العدوة الأخرى في الوادي. فبات على تحفظ واحتراس. ولما كان في غد نزوله، برز في عساكره، ومشى عليها، ورتبها، وأقام كل قائد من قواده في مركزه. وقد تقارب الفريقان، وتراءى الجمعان، فهزم حماد، وانتهب عسكره. فقيل أن الذي انتهب من الدرق عشرة آلاف درقة. وكان اشتغال العساكر النصيرية برفع الغنائم والأموال والأثقال سببا لنجاة حماد المذكور، لتركهم أتباعه. وأخذ الناس من الأموال والغنائم ما لا يحصى عددا وكثرة، ووجد رقعتان فيهما: (أن الذي عند القائد فلان صندوق فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 خمسون ألف دينار وسبعمائة، ومن الورق ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ومن الأمتعة خمسون صندوقا) غير ما كان في بيت حماد وخزائنه. قال أبو إسحاق: وجد رجل بين يديه بغل يسوقه، ففتشه بعض الوصفان بين أيدينا، فوجد في حشو برذعته وصوفها ثماني آلاف دينار، ومثل هذا ما لا يحصى كثرة وعرضت لي أبيات بعد أن صعدنا من الوادي، وقد لقينا به مشقة شديدة، غير أن حلاوة الظفر والفوز بالسلامة أنسى ذلك، وهي (بسيط) : لم أبس يوما بشلف راع منظره ... وقد تضايق فيه ملتقى الحدق والخيل تعبر بالهامات خائضة ... من سافح الدم مجرى قاني الفلق والبيض في ظلمات النقع بارقة ... مثل النجوم تهاوت في دجي الغسق وقد بدأ معلما باديس مشتهرا ... كالشمس في الجو لا يخفى عن الحدق وإن راحته لو فاض نائلها ... وبأسها في الورى أشفوا على الغرق تجلوا عمامته الحمراء غرته ... كأنه قمر في حمر الشفق لو صور الموت شخصا ثم قيل له ... (أبو مناد تبدى) مات من فرق وأصبح نصير الدولة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى، فبعث في طلب حماد بن يوسف العزيز بالله، وقد تحصن في القلعة من أخيه، فأقاما بها ثلاثة أيام حتى استراحا وأراحا دوابهما ومن كان معهما. فعرفه إبراهيم بحاجته إلى الازدياد من الطعام والملح، فخرج حماد في جميع من كان معه ومع أخيه، فسار بهم حتى دخل مدينة دكمة، وقد كان نقد على أهلها، وكان نصير الدولة في أثره، فتصايح أهل الموضع بساقته، فاعترضهم بالسيف، وقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل. فخرج إليهم أحمد بن أبي توبة فقيه هذه المدينة وصالحها، فخوفه بالله، ووعظه، وقال له (يا حماد إذا لاقيت الجموع هربت منها أوأن قاربتك الجيوش فررت عنها! لا وإنما قدرتك وسلطانك على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أسير يكون في يديك، ولا ناصر له عليك) فلما سمع كلامه، أمر بضرب عنقه. ووفق إليه شيخ صالح منها، فقال له: (يا حماد أتق الله! فأني حججت حجتين!) فقال له (أنا أزيدك عليهما الشهادة!) وأمر به، فضربت عنقه. ووقف إليه جماعة من التجار المسافرين، فقالوا له: (نحن قوم غرباء، ولا ندري ما جنى أهل هذه المدينة عليك) فقال لهم: (اجتمعوا وأنا أعرفكم) ودخل معهم غيرهم ممن طمع في الخلاص معهم. فلما وصلوا إليه، أمر بهم فضربت رقابهم أجمعين. وأخذ الجميع ما كان بتلك المدينة من طعام وملح، وعاد به إلى قلعته. وأما نصير الدولة، فيوم هزيمة حماد، أخرج بكار بن جولالة الوتلكاتي، وكان قد أخذه أسيرا، وكان بكار كثير ما ينطلق به لسانه. وكان يوسف بن أبي حبوس معتقلا أيضا عند نصير الدولة، فأخرج بكار بمحضر يوسف، وحلقت لحيته، ويوسف ينظر إليه، ثم أمر: فحلقت لحية يوسف، فصارا مثلة في العالم. وقال الرقيق: لما عاينا يوسف، وقد حلقت لحيته، تحدثنا سرا بيننا، وقلنا: (وقد كنا نرجو ليوسف الحياة، لأن الملوك تعفو بعد العقوبة! وأما المثلة، فما نرى أن بعدها إبقاء) فلحنا نصير الدولة وقال: (ما خضتما فيه؟) فصدقناه سرا، فقال: (ما ابتعتما) وبعد ثلاث، أمر بإحضاره، فعدد عليه تساوي أفعاله وقبائح أعماله، ثم أمر به، فجذع أنفه، وقطعت أذنه، ورفع من بين يديه. ثم أعيد إليه، فقطعت يداه جميعا. ثم أمر به إلى موضع اعتقاله، فبات مشحطا في دمائه. فحكى بعض الحرس انه سمعه يرغب أخاه أن يذبحه ويرحه خيفة أن يخرج من الغد ويزاد في عذابه أمام أعدائه، فقال له أخوه: (أصبر على قضا الله وقدره) فقال لبعض الحرس (خذ بيدي وأخرج لقضاء الحاجة) فأخذ بيده ووقف، فضربه ضربة عظيمة بجبهته في عمود، فذرت منها عيناه، وجرى دماغه، وخر إلى الأرض ميتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ورحل نصير الدولة من وادي شلف. قال الرقيق: ومن عجيب ما سمعناه عن مناخ وادي شلف أن شيخا كبيرا من البربر حدثنا أنه يعرف بزادي المحن، وأخذ يذكر لنا من هزم فيه ومن قتل فيه من ملوك زناتة. وكنا على ظهر الطريق، فبم نكتب ذلك، إلى أن قال: آخر من مات فيه زيري بن عطية، وآخر من هزم فيه حماد، وبه قتل يوسف بن أبي حبوس، وحمل منه معادلا لأخيه باديتان، ثم أمر به فدفن هناك. وفي هذه السنة، مات ورد بن سعيد في شوال، فاختلفت كلمة الزناتيين ومالت فرقة مع خليفة بن ورو وفرقة مع خزرون، ابن عمه، وأرفع الله فيهم الشتات ذكر وفاة نصير الدولة باديس بن المنصور أنه لما كان يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذي القعدة، أمر بالتمييز فبرز كل قائد في عسكره. وجلس نصير الدولة في القبة وأمر أيوب بن يطوفت بالطواف على العسكر وحسابه، وانتظره حتى فرغ من حابها وعدها، فجاءه فعرفه بما سره وأبهجه، وانصرف إلى قصره. ثم ركب عشية هذا اليوم، وهو قد تناهى إقبالا، واستولى حسنا وجمالا. فلعبوا بين يديه. فكلما هز رمحا كسره وأخذ غيره. ثم عاد إلى قصره أفسح ما كان أملا، واشتد سرورا وجذلا، فطعم وشرب مع خاصته وقرابته، فعاينوا من طربه ما لم يعهدوه منه. فلما مضي نحو النصف من ليلة الأربعاء انقضاء ذي القعدة، قضى نحبه رحمه الله! وبعث في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد، وباديس بن حمامة، وأيوب بن يطوفت. فأعلموا بوفاته خاصة من بين جميع صنهاجة وغيرهم، فانصرفوا على أن يكتموا أمره حتى يجتمع رأيهم، وأصبح وجوه العساكر للسلام على عادتهم وليس عندهم خبر وقد عزموا أن يعرفوا أنه أخذ دواء، وتقدموا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 سائر قواد العساكر أن يحضروا بعدتهم، فقد بلغهم أن حمادا يضرب في المحلة فما شعروا أن خرج الخبر من مدينة المحمدية بوفاة السلطان، وأنهم أغلقوا أبوابهم، وصعدوا على أسوارهم. فظهر ما لم يستطيعوا إخفاءه، فكأنما نودي في الناس بإشاعته، فاضطربت العساكر، وماج بعض في بعض، وخشوا من اختلاف الكلمة، فاجتمع رأيهم على تقديم كرامة، فأخذ عليهم العهود، وأمر بالكتب إلى بعض البلاد. فلما رأى ذلك عبيد نصير الدولة، ومن انضاف إليهم من سائر الحشم، أنكروا ذلك، وقالوا: إنما قدمناه ليحوط الرجال ويحفظ الأموال، حتى يدفع ذلك إلى مستحقه المعز ابن مولانا نصير الدولة! ومشى بعضهم إلى بعض ليلا، وتحالفوا على بيعة المعز فلما تم لهم ما عقدوه أعلنوا به يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة. وتحالفت العساكر على ذلك طائفة بعد طائفة، واتفقت آراؤهم على خروج كرامة إلى أشير ليحشد قبائل صنهاجة وتلكانة، ويعود بهم إلى المحمدية. ثم رحلت العساكر بتابوت نصير الدولة. ولاية المعز بن باديس أفريقية كانت ولايته بالمهدية في يوم السبت المذكور من سنة 406، وسنة ثماني سنين وأربعة أشهر، وولايته بالمهدية بها لتسع بقين من ذي الحجة. ذلك لما وصل الخبر بوفاة أبيه، والسيدة أم ملال بالمهدية، خرج إليها المنصور بن رشيق، وقاضي القيروان والمنصورية، وشيوخها، ومن كان بها من الصنهاجيين. فعزوها في أخيها. وخرج المعز بالبنود والطبول، فنزل إليه الناس يهنئونه جميعا، وبايعوه وهنئوه وعزوه وابتهلوا بالدعاء له. وعاد إلى قصره. ودخل الناس يهنئون السيدة بولايته، فصرف أهل القيروان والمنصورية. وبقي المعز بالمهدية يركب في كل يوم، ويعود إلى قبة السلام، ويتطعم الناس بين يديه، وينصرف إلى قصره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وفي يوم السبت بموافقة عيد الأضحى رحلت العساكر من المحمدية بعد أن أضرموا النار في الأبنية والبيوت والزروب، وتقدموا أمام البيود والطبول. فأشرف حماد على العساكر، وهي تمر كالسيل بين يدي التابوت، فقال لأخيه وخاصته: مثل هؤلاء يخدم الملوك! وصلت أنا إلى أفريقية في ثلاثين ألف فارس، ما منهم إلا من أحسنت إليه، وأنعمت عليه. فعدت إلى القلعة وما بقي معي منهم إلا أقل من ستمائة، وأنا بين أظهرهم أرجى! وهذا ميت أطاعه هؤلاء كما كان حيا! وكان وصول العساكر إلى المهدية لثمان بقين من ذي الحجة، وبرزت العساكر على باب المهدية. وركب المعز، فوقف ونزل الناس إليه فوجاً فوجا حتى كمل سلامهم. وفي سنة 407، رحل المعز بن باديس من المهدية فكان دخوله المنصورية يوم الجمعة للنصف من محرم فدخل أجمل دخول، وبين يديه البنود والطبول. واحتل بقصره أفضل حلول، وقد سر به الخاص والعام. وكان بمدينة القيروان قوم بحومة تعرف بدرب المعلى، يتسترون بمذهب الشيعة، من شرار الأمة، فانصرف العامة إليهم من نورهم، فقتلوا منهم خلقا رجالا ونساء، وانبسطت أيدي العامة على الشيعة، ونهبت دورهم وأموالهم وتفاقم الأمر، وانتهى إلى البلدان، فقتل منهم خلق كثير. وقتل من لم يعرف مذهبه بالشهية لهم. ولجأ من بقى بالمهدية منه إلى المسجد الجامع، فقتلوا به عن آخرهم رجالا ونساء. واجتمعت العامة على أبي البهار بن خلوف لشدته عليهم وقهره لسفهائهم، فلجأ إلى المنصورية، فانتهبوا داره. وبلغ ذلك عساكر ابن أخيه، فركب لينصر عمه أبا البهار، فقتلته العامة ومثلوا به، وقتلوا كل من كان معه، وزحفوا إلى المنصورية فهدموها. واجتمع بدار محمد بن عبد الرحمن نحو ألف وخمسمائة رجل من الشيعة، فإذا خرج أحد منهم لشراء قوته قتل حتى قتل أكثرهم. ثم أخرجوا إلى قصر السلطان بعيالهم وأطفالهم. فسر المسلمون بما رأوه فيهم، وذلك لما ظهرت الكتب التي وجدت في ديار المسالمة، كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فيها من الكفر والتعطيل للشريعة وإباحة المحارم شيء كثير، فتحصنوا في هذا لقصر أواخر جمادى الأولى وجمادى الثانية. وفي أواخر هذه السنة وصل المعز ابن باديس سجل من الحاكم، خاطبه فيه بشرف الدولة، وركب المعز بالينود والطبول وفي سنة 408، كانت حروب عظيمة بين عساكر شرف الدولة والمعز بن باديس وبين عساكر حماد، وذلك شيء يطول ذكره. وفي سنة 409، خرجت طائفة من الشيعة نحو مائتي فارس بعيالهم وأطفالهم يريدون المهدية للركوب منها إلى صقلية، وبعث معهم خيل تشيعهم فلما وصلوا إلى قرية كامل، وباتوا بها، تنافر أهل المنازل عليهم، فقتلوهم وفحوا بعض شواب النساء ومن كان منه جمال، ثم قتلوهن. وفيها كان بأفريقية غلاء كثير وحروب كثيرة. وفي سنة 410، وصل زاويبن زيري الصنهاجي من الأندلس إلى أفريقية في أهله وولده وحشمه بعد أن اغترب بها اثنين وعشرين سنة، وقاسى حروبها وفتنها واحتوى على نعم ملوكها وذخائرهم. فخرج إليه في يوم وصوله شرف الدولة المعز بن باديس بزي عظيم، فترجل له الشيخ زاوي، ونزل شرف الدولة وسلم عليه، وسار معه حتى أنزله بالمنصورية. وفي سنة 411، ورد على المعز بن باديس أبو القاسم بن اليزيد، رسولا من الحاكم إليه، بسيف مكلل بنفيس الجوهر، وخلعه من لباسه لم ير الناس مثلها، فلقيه المعز في أجمل زي وأكمل هيئة. فقرئ عليه سجل فيه من التشريف ما لم يصل لأحد قبله، فسر بذلك. وفيها ورد أيضا محمد ابن عبد العزيز بن أبي كدية بسجل آخر من الحاكم، جوابا للمعز عما كان فيه من أخبار الأندلس، وانقراض الدولة الأموية منها، وقيام القاسم بن محمد فيها فشكره على ذلك، وبعث إليه خمسة عشر علما منسوجة بالذهب. وركب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المعز بن باديس الأعلام المذكورة بين يديه يوم الأحد لليلتين بقيتا من ربيع الآخر وجاءت سحابة شديدة الرعد، فأمطرت حجرا لم ير أهل أفريقية مثله كبرا وكثرة، ووقعت معه صاعقتان. وفيها وصل الخبر بوفاة الحاكم أمير مصر وولي الظاهر بعده. وفي سنة 412، توفي باديس بن سيف العزيز بالله، وصلى عليه شرف الدولة، وكان له مشهد عظيم. وفيها توفيت السيدة زوجة نصير الدولة، وكفنت فيما لم يذكر أن ملكا من الملوك كفن في مثله، فحكى من حضره من التجار أن قيمته مائة ألف دينار، وجعلت في تابوت من عود هندي قد رصع بالجوهر. وكانت لها جنازة لم ير مثلها، ودفنت بالمهدية. وكانت مسامير التابوت بألفي دينار. وفي سنة 413، تعرض المعز شرف الدواة. فكان له عرس ما تهيأ قط لأحد من ملوك الإسلام. وقد شرح الرقيق في كتابه. وتركناه اختصارا. وفي سنة 414، وردت الأخبار وتتابعت بأفريقية بأن خليفة بن ورو ومن معه رموا في البحر مراكب كثيرة، وأنهم رحلوا من طرابلس في طلب الفتوح بن القائد، وقد كان كاتب شرف الدولة المعز بن باديس في الانحياش إليه والدخول في طاعته، فأعطاه مدينة نفطة من عمل قصطيلية. فخرج شرف الدولة، فاجتاز بسوسة، ثم إلى المهدية، وذلك يوم الخميس لأربع خلون من المحرم. وأمر بالنداء في حشد البحرين وكتب أن يلحق به كل من يتخلف عنه من عساكره ليكون رحيله من المهدية إلى سفاقس، ثم إلى قابس، قاصدا إلى طرابلس. وأمر بالاحتفاز في إصلاح القطائع وعمارة دار الصناعة، وأخذ في إنشاء العدد الحربية، فأنشئ منها في المدة القريبة ما لم يتم مثله في الزمن البعيد. ثم رأى الوصول إلى المنصورية ليأخذ الناس عددهم وما يحتاجون إليه فكان وصوله يوم الاثنين لست بقين من المحرم من العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ووردت من الأخبار من المشرق، بأن أمير المؤمنين الظاهر لإعزاز دين الله أمر بإحضار سيف الدولة ذي المجدين حسين بن على بن دواس الكتامي. فلما دخل القصر، ولم يكن يدخل قبل ذلك حذرا على نفسه، أخرج من ساعته مقتولا، فأقام ثلاثة أيام، ومناد ينادي عليه: هذا جزاء من غدر مواليه! ثم دفع إلى عبيده، فدفنوه. ثم جاء الخبر في الوقت بوفاة السيدة الشريفة بنت العزيز بالله. وصلى عليها الظاهر لإعزار دين الله بمصر. وكانت قد ضبطت الملكة وقومت الأمور بحسن رأي وتدبير. وكان الوزير عمار فوض إليه الأمر في النظر في الدواوين والأموال والكتابة وغير ذلك من خدمة الخلافة، فأمرت بقتله فقتل. وباشرت تدبير المملكة، فلا ينفذ أمر جل أو قل إلا بتوقيع يخرج عنها بخط أبي البيان الصقلي عبدها. وفي هذه السنة، وصل محمد بن عبد العزيز من قبل الظاهر أمير مصر بتشريف عظيم لشرف الدولة. فقرئت به سجلات ما وصل قبلها مثلها أجل حالا ولا مقالا. وزاده لقبا إلى لقيه، فسماه شرف الدولة وعضدها، وبشره بمولودين ولدا له: أبو الطاهر، وعبد الله أبو محمد، وبعث إليه مع ذلك ثلاثة أفراس من خيل ركوبه بسروج جليلة وخلعة نفيسة من نفيس ثيابه، ومنجوقين منسوجين بالذهب على قصب فضة، ما دخل أفريقية مثلها قط، وعشرين بندا مذهبة ومفضضة. فلقيها شرف الدولة وعضدها أجمل لفاء وأعطاها حقها من الإكرام والاعتناء وقرئت السجلات بين يديه ثم قرئت بجامع القيروان، وأمر بنسخها، وأنفذت إلى الآفاق، فكان لها من السرور ما لم يوصف. وبعد ذلك، في هذه السنة، وصله سجل آخر بزيادة لقب آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 تشريفا لشرف الدولة، وأمر أن يكاتب: من الأمير شرف الدولة وعضدها! ويخاطب بمثل ذلك فلقيه أحسن لقاء، وخلع عليه وحله. وجرت المكاتبة من ذلك الوقت بهذا التشريف الجليل. وفي هذه السنة، اعتلت السيدة أم ملال بنت عدة العزيز بالله أياما وأمير شرف الدولة يصل إليها في كل يوم عائدا ومتفقدا، فجلس عندها ويأذن لرجاله وعبيده يدخلون إليها، ثم ينصرفون. فلما كان ليلة الخميس منسلخ رجب، قبضها الله. وصلى على جنازتها بالبنود والطبول والعماريات والسيدتان الجليلتان الوالدة والأخت بحال من التشريف لهذه الجنازة، لم ير لملك ولا لسوقة مثلها. وفوض الأمير شرف الدولة جباية الأموال، وولاية العمال، والنظر في العساكر وسائر الأشغال لأبي البهار بن خلوف يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الأولى، فحسنت الأمور وضبطت الأطراف والثغور. واستقام التدبير ورأى الأمير شرف الدولة من حزمه وعزمه وشهامته، ما لا لم يقم به غيره ولا وجد عند سواه بوجه. وفي سنة 415، في صفر منه، ولد للأمير شرف الدولة ولد سماه كبابا وفي شهر رجب، تزوجت السيدة أم العلو، بنت نصير الدولة، أخت شرف الدولة. فلما كان يوم الأربعاء غرة شعبان المكرم، زين الإيوان المعظم للسيدة الجليلة أم العلو ن ودخل الناس خاصة وعامة، فنظروا من صنوف الجوهر والأسلاك والأمتعة النفيسة وأواني الذهب والفضة ما لم يعمل مثله، ولا سمع لأحد من الملوك قبله. قال أبو أساق الرقيق، فبهر عيون الخلق حال ما عاينوه، وأبهتهم عظيم ما شاهدوه، وحمل جميع ذلك إلى الموضع الذي ضربت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فيه الأبنية والأخبية، وحمل المهر في عشرة أحمال على البغل على كل حمل جارية حسناء، وجملته مائة ألف دينار عينا. وذكر بعض حذاق التجار أنه قوم ما هو لها، فكان زائد على ألف ألف دينار وهذا ما لم ير قط لامرأة قبلها بأفريقية. وزفت العروس في يوم الخميس، ومضى بين يديها عبيد أخيها شرف الدولة وأبيها نصير الدولة وجدها عدة العزيز بالله، ووجوه رجال الدولة، فكان يوما سارت الركبتان بمحاسن آثاره، وامتلأت البلدان بعجائب أخباره. وفي هذه السنة، وقف شرف الدولة لهدية صندل والي يسكرة، فعرضت عليه، وهي ثلاثمائة حصان، ومائة فرس أثنى وبغلات منها عشرون بسروج محلاة، مائة حمل من المال. فخلع عليه وجدد له الولاية على بسكرة. وفي سنة 416، توفي أيوب بن يطوفت. وحضر جنازته شرف الدولة وعضدها، وهو المعز بن باديس، بالينود والطبول. وفي سنة 417، ولد للأمير شرف الدولة وعضدها مولود سماه نزارا وكتب إلى سائر عماله بذلك. ذكر قيام المعز شرف الدولة بالإمارة وقطعه الدعوة العبيدية الشيعية من أفريقية كان المعز بن باديس صغيرا إذ ولي، وهو ابن ثمانية أعوام، وقيل ابن سبعة أعوام، ربي في حجر وزيره أبي الحسن بن أبي الرجال، وكان ورعا زاهدا. وكانت أفريقية كلها والقيروان على مذهب الشيعة وعلى خلاف السنة والجماعة، من وقت نملك عبيد الله المهدي بن أبي الرجال المعز ابن باديس، وأدبه، ودله على مذهب مالك وعلى السنة والجماعة، والشيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لا يعلمون ذلك، ولا أهل القيروان. فخرج المعز في بعض الأعياد إلى المصلى في زينته وحشوده، وهو غلام فكبا به فرسه، فقال عند ذلك: أبو بكر وعمر! فسمعته الشيعة التي كانت في عسكره، فبادروا إليه ليقتلوه، فجاء عبيده ورجاله ومن كان يكتم السنة من أهل القيروان، ووضع السف في الشيعة، فقتل منهم ما ينيف على ثلاثة آلاف، فسمي ذلك الموضع بركة الدم إلى الآن. قال أبو الصلت: وصاح بهم في ذلك الوقت صائح الموت، فقتلوا في سائر بلاد أفريقية. فوافق ذلك ما قاله الشعراء فيهم على وجه التطهير لهم، كقول القاسم بن مروان (وافر) . وسوف يقتلون في كل أرض ... كما قتلوا بأرض القيروان وكقول الآخر (رمل) . يا معز الدين عش في رفعة ... وسرور واغتباط وجذل أنت أرضيت النبي المصطفى ... وعتيقا في الملاعين السفل وجعلت القتل فيهم سنة ... بأقاصي الأرض في كل الدول وكقول آخر (طويل) . وكانت لهم بالشرق نار فأطفئت ... فما ملكوا بالكفر شرقا ولا غربا وحكي في قتل الروافض حكايات كثيرة مما رآه المعز في منامه، وتأويل ذلك وغيره ألغيناه هنا عن ذكره. ولم يزل المعز يعمل فكره في قطع الدعوة لهم إلى أن كانت سنة 440. وفي سنة 420، وجفت جموع زناتة تريد حضرة القيروان، طمعا منها في الملك. فلما بلغ ذلك المعز، خرج إليهم بجنوده، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت زناتة، وقتل منهم خلق كثير، وفر باقيهم إلى الغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وفي سنة 421، وقعت في القيروان بين الأجناد والعامة فتنة، فقتل من العامة نحو المائتين. وفي سنة 422، كثر الخصب والرخاء وأمان في أفريقية. وفي سنة 423، وصلت من ملك السودان إلى المعز هدية جليلة، فيها رقيق كثير وزرافات، وأنواع من الحيوان غريبة. وفي سنة 425 كانت بأفريقية مجاعة شديدة. وفيها خرج أبو عمران الفاسي إلى الحجاز. وفيها مات الظاهر بمصر، وولي ابنه المستنصر. وفي سنة 426، وصلت إلى المعز بن باديس من ملك الروم هدية لم ير مثلها في كثرة ما اشتملت عليه من أمتعة الديباج الفاخر وغير ذلك. وفي سنة 427، زحفت زناتة في جيوش عظيمة وجموع كثيفة تريد المنصورية. فلقيتها جيوش المعز، فظهرت زناتة عليها، فانهزمت، ووصلت إلى ما بين المنصورية والقيروان. ثم تلاقوا في الغد من ذلك اليوم، فثبتت صنهاجة وثبتت زناتة. وفي سنة 428، كسر المعز زناتة، وهزكهم وقتل منهم خلق ركثيرا. وفي سنة 429، خرج عسكر المعز من القيروان إلى الزاب، فقتل من البربر خلقا كثيرا. وفي سنة 430، كثر الخصب ببلاد أفريقية وفيها مات أبو عمران الفاسي بعد عوده من المشرق. وفي سنة 431، دخلت جيوش مالطة جزيرة جربة، ففتحها وقتلت كثيرا من أهلها. وفي سنة 432 خرج العز إلى قلعة حماد زحاصرها مدة سنتين، وأخذ بمخنق حماد فيها. وفي سنة 433 أظهر المعز الدولة العباسية. وورد عليه عهد القائم بأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الله، نكب محمد بن محمود بن السكاك، وكان المتولي لأشغال أم المعز، واستولى على دولته. وفي هذه السنة، وصل الأمير نزار بن المعز إلى الحضرة، قافلا من سفره الذي هزم فيه زناتة، فأنشده بن شرف قصيدته التي أولها (كامل) . طاعت من الغرب شمس الدين ... بالسعد والإقبال والتمكين وفي سنة 436، مات الجرجرائي بمصر وكان الحاكم بأمر الله العبيدي قطع يديه جميعا، لجنية جناها، فلم يجزع لما أصابه. فقيل أنه عصب يديه إثر قطعهما، وانصرف من وقته إلى ديوانه، وجلس لخدمته على عادته. فلما تعجب منه قال: إن أمير المؤمنين لم يعزلني، وإنما عاقبني بجنايتي،! فلما بلغ ذلك الحاكم، أقره على عمله. وفي سنة 437، وردت رسل المعز إلى القيروان، بخبر أنه أوقع بلواتة وقتل منهم عددا، وغنم أموالا فضربت الطبول على ذلك. وفي ذلك يقول ابن شرف من قصيدة أولها (منسرح) : باليمن والسعد عد وبالظفر ... موفق الورد غانم الصدر وفيها بني سور المنصورية وفيها، ريح عاصف بأفريقية قصفت ما مرت به من الشجر لقوتها وشدتها. وفي سنة 438 كانت وفاة نزار بن المعز بن باديس في رجب، وكان عمره إحدى وعشرين سنة وأشهرا. وفيها ولي المعز ولده الآخر أبا القاسم وكناه العزيز بالله وهو إذ ذاك ابن ثمانية أشهر، وتوفي بعد ذلك، وهو ابن سنة واحدة وثلاثة أشهر. وفي سنة 439، نكب حبوس بن حميد الصنهاجي والي نفطة، وطولب بمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 كثير ونيل بالمكروه والهوان. وفيها، نكب أحمد بن حجاج قاضي قفصة، فبادر بعشرة آلاف دينار، وكان متصاوتا. وفي سنة 440، قطعت الخطبة لصاحب بمصر، وأحرقت بنوده. قال ابن شرف: وأمر المعز بن باديس بأن يدعى على منابر أفريقية للعباس بن عبد المطلب ويقطع دعوة الشيعة العبيديين، فدعا الخطيب للخلفاء الأربعة وللعباس، ولبقية العشرة - رضي الله عنهم -! ذكر السبب في قطع الدعوة العبيدية مالخطبة بالقيروان وغيرها لما رحل بنز عبيد إلى مصر لم تزل ملوك صنهاجة يخطبون لهم بأفريقية ويذكرون أسمائهم على المنابر. وتمادى الأمر على ذلك حتى قطع أهل القيروان صلاة الجمعة فرارا من دعوتهم، وتبديعا لإقامتها بأسمائهم، فكان بعضهم، إذا بلغ المسجد قال سرا: اللهم أشهد! اللهم أشهد! ثم ينصرف فيصلي ظهرا أربعة، إلى أن تتناهى الحال حتى لم يحضر الجمعة من لأهل القيروان أحد فتعطلت الجمعة دهراً. وأقام ذلك مدة إلى أن رأى المعز بن باديس قطع دعوتهم، فكان بالقيروان لذلك سرور عظيم. ذكر وقوع التصريح بلعنتهم في الخطب بجميع أفريقية وخلعهم قال بن شرف، وأمر المعز بلعنهم في الخطب وخلعهم. ولمنا كان عيد الأضحى أمر الخطيب أن يسب بني عبيد، فقال: اللهم! والعن الفسقة الكبار المارقين الفجار أعداء الدين وأنصار الشيطان، المخافين لأمرك والناقضين لعهدك، المتبعين غير سبيلك، المبدلين لكتابك! اللهم! والعنهم لعنا وبيلا، واخزهم خزيا عريضا طويلا! اللهم وإن سيدنا أبا تميم المعز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ابن باديس بن المنصور القائم لدينك، والناصر لسنة نبيك، والرافع للواء أوليائك، يقول مصدقا لكتابك، وتابعا لأمرك، مدافعا لمن غير الدين وسلك غير سبيل الراشدين المؤمنين: يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون:! هكذا ذكر بإسقاط (قل) وآخرها. قال: وأمر أمير أبو تميم المعز بن باديس للخطيب أن يسبهم على منبر القيروان بأشنع من هذا السب. فلما كان في الجمعة الأخرى أبلغ في ذلك بما فيه شفاء لنفوس المؤمنين. وفي سنة 441، تحرك الأمير أبو تميم إلى بلاد المغرب الأقصى، وترك ولده أبا الطاهر نميم بن المعز على حضرة القيروان بالمنصورية، وفيها بنيت المصلى بالمنصورية. وفيها، ضرب الدينار المسمى بالتجاري. وفيها، ركب المعز بن باديس المذكور في أحفل جمع وأحسن زي، وخرج إلى ظاهر مدينة القيروان، وأخرجت السباع بين يديه فأفلت منها سبع فانهزم الناي أمامه ووقع بعضهم فوق بعض، فمات نحو المائتين، ووثب السبع على رجل من كتاب باب الغنم يدعى بالكرامي، فقتله. ذكر تبديل السكة عن أسماء بني عبيد قال ابن شرف: وفي هذه السنة، أمر المعز ين باديس بتبديل السكة في شهر شعبان، فنقش على الأزواج في الوجه الواحد: ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وفي الوجه الثاني: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وضرب منها دنانير كثيرة. وأمر أيضا بسك ما كان عنده من الدنانير التي عليها أسماء بني عبيد، فسبكت وكانت أموالا عظيمة. ثم بث في الناس قطع سكتهم. وزوال أسمائهم مكن جميع الدنانير والدراهم بسائر عمله. وقد كان قطع أسمائهم من الرايات والبنود. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 مبتدأ ضرب السكك بأسماء بني عبيد الله ورسيمها في الرايات والطرز سنة 296، إلى أن قطعها المعز المذكور سنة 441 المذكورة، وذلك مائة سنة وخمسة وأربعين سنة. وفي شوال من هذه السنة نادى مناد بأمر السلطان أبي تميم: إنه من تصرف بمال عليه أسماء بني عبيد نالته العقوبة الشديدة، فضاقت الحال بالفقراء والضعفاء وغلت الأسعار بالقيروان وكان الدبنا القديم بأربعة دنانير ودرهمين، وكان صرف الدينار الجديد خمسة وثلاثين درهما. وفي هذه السنة، نكب القائد عباد بن مروان الملقب بسيف الملك، وكان من الخاصة، ودفع إلى أعدائه، وأمر باستخراج أمواله، والقبض على جميع من استعمله في أعماله، وبعد ذلك، ألقي في سرداب مظلم حتى مات فيه، وفيها، وردت الأخبار بالقيروان بموت القائد حماد بقلعته، فقال ابن شرف من قصيدة (خفيف) . لا جنود إلا جنود السعيد ... مغنيات عن عدة وعديد وفي سنة 442، اصطلح أهل القيروان وأهل سوسة، وقد كانت جرت بينهم وحشة، فصنع القيروانيون للسوسيين دعوات غسلت فيها الأيدي بماء الورد ومسحت بمناديل الشرب. وفي هذه السنة، ولي الأمير أبو تميم ولده أبا الظاهر بن المعز عهده. ذكر ولاية العهد لتميم بن المعز بن باديس قال ابن شرف: وخطب الخطيب يوم الجمعة على جامع القيروان، فدعا للسلطان المعز بن باديس ولولده أبي الطاهر ولى عهده ثم قال: اللهم! أصلح عبدك ووليك أبا الطاهر تميم بن المعز الطاهر من كفر معد بن الظاهر! يعني صاحب مصر وفيها، كان خروج الفقيه الزاهد الواعظ أبي عبد الله بن عبد الصمد من القيروان في شهر رجب، ووكلوا به رجالا وتوجهوا معه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 مدينة قابس. وكانت الرفقة خارجة من القيروان إلى مصر، فأمر أن ينتظرها بمدينة قابس إلى أن يصحبها. وكوتب عامل قابس بأن لا يترك من يدخل إليه ولا من سلم عليه ولا يخرج من موضع نزوله إلا في يوم سفره، فيخرج وهو غير آمن على نفسيه، ثم قتل في طريقه ذلك، وكان رجلا عظيما يعظ الناس، فيجمعون إليه، ويسمعون كلامه، وكان له لسان وحدة فحذره المعز واجتمع عليه بعض فقراء القيروان واستشيعوا ألفاظا ذكرها، فرفعوا رقاعهم إلى المعز بذلك، فكان سبب نفيه وحتفه. وكان أبوه يعض بجامع مصر في ذلك الوقت، إلى نعى له ابنه هذا، فحج في تلك السنة، فقيل أنه كان يطوف بالكعبة ويصيح ويقول: (يا رب! العز عليك به! يا رب عليك بابن باديس!) فكانت الهزيمة على المعز في اليوم الثاني من دعائه، وكان ذلك سبب لخراب ملكه ودمار القيروان حضرته. فلم يشك أحد في إجابة دعوته. وفي سنة 443، كان لباس السواد بالقيروان، والدعاء لبني العباس. قال ابن شرف: وفي جمادى الثانية، أمر المعز بن باديس بإحضار جماعة من الصباغين، وأخرج لهم ثيابا بيضاء من فندق الكتان، وأمرهم أن يصبغوها سودا، فصبغوها بأحلك السواد، وجمع الخياطين، فقطعوها أثوابا، ثم جمع الفقهاء والقضاة إلى قصره، وخطيب القيروان وجميع المؤذنين، وكساهم ذلك السواد ونزلوا بأجمعهم. وركب السلطان بعدهم حتى وصل إلى جامع القيروان، ثم صعد الخطيب المنبر وخطب خطبة أتى فيها على جميع الأمر بأجزل لفظ وأحسن معنى، ثم دعا لأبي جعفر عبد الله القائم بأمر الله العباسي، ودعا للسلطان المعز بن باديس ولولده أبا الطاهر تميم ولي عهده من بعده، ثم أخزى بني عبيد الشيعة ولعنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ذكر ما قيل من أخبار بني زيري قال أبو عبد الله محمد بن سعدون بن علي في تأليفه في (تعزية أهل القيروان بما جرى على البلدان من هيجان الفتن وتقلب الأزمان) قال: فيه باب أذكر فيه من وضع هذه الدعوة التي شرع فيها عبيد الله وذريته والسبب الذي دعاهم لذلك، وباب أذكر فيه تسييرهم الركبان، بدعوتهم ودعاتهم إلى البلدان، وباب أذكر فيه عبيد الله ونسبه وانتمائه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كاذبا، وسبب ملكه المغرب كله قتال: وأول من نصب هذه الدعوة، جد عبيد الله وهو عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي - لعنه الله - وكان أبوه ميمون تنتسب إليه فرقة من أصحاب أبي الخطاب، تعرف بالميمونية. وذكر من جملة كلامه قال: وكان عبد الله ادعى لنفسه النبوة، فقصد لسفك دمه، فاختفى، ثم هرب من وطنه، وفر على وجهه متنقلا في البلاد، مستترا، يستر اسمه ومذهبه لئلا يقتل إن عرف، إلى أن وافته منيته بأقبح علة في الشام وأراح الله منه. وأخذ جماعة كمن أصحابه، فقتلوا عن آخرهم ثم ذكر داعيتهم، وما كان منهم مع غواتهم، قال: فمنهم رجلان، أحدهما يعرف بالنجار الكوفي فخرجا من الشام، وتغلبا على اليمن فأنزل الله عليه الأكلة، فتقطع قطعا حتى مات وخلف ابنا له، فكان يكتب إلى أصحابه: (من ابن رب العالمين) - تعالى الله عن قوله - فسار إليه ابن نصير فأظفره الله به، فقتله ودخل مدينته فانتهبها وسباها. وأما الكوفي فرماه الله تعالى بداء في جوفه فكانت تخرج من دبره حتى مات وأما بالسام، فذكر جماعة أبادهم الله تعالى، وكذلك بالبحرين أيضا. ثم قال: وإنما دعاهم لهذا الكفر عبد الله ابن ميمون القداح لأنه صحب قرمطا ودعاه إلى مذهبه، فطاوعه على ذلك وقد اشتهر استخفافهم بالدين، وكثرت به الأخبار وأحاديث وكان ممن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أظهر مذهبهم، وأعلن به: أبو عبيد الجنابي، وقت تغلبه على البحرين، فإنه وضع عنهم جميع الفرائض، وأعلن بالزناء واللواط والكذب وشرب الخمر وترك الصلاة وكذلك صنع الأصبهاني وحرم على الغلمان الامتناع ممن أراد أن بفعل بهم وجعل حد من امتنع منهم الذبح - لعنه الله - وكانت له ليلة تسمى الأمامية يجمع فيها نساءه ونسائهم فمن ولد من تلك الليلة يسمى ولد الأخوان. قال: وقد ادعى الحاكم من بني عبيد الله الربوبية، وجعل رجلا سماه بالهادي يدعوا الناس إلى ذلك، وادعى معد منهم النبوة وجعل من نادى فوق صومعة جامع القيروان: (أشهد أن معد رسول الله!) فارتج البلد لذلك وداخل أهله الرعب، فأرسل من سكن الناس، وكل من كانوا يرسلونه إلى بلد فإنما يأمرونه بإظهار الإسلام والخير حتى ينمكن مما يريد. وأما نسب عبيد الله الذي تسمى بالمهدي، فإن اسمه سعيد وإنما تسمى بعبيد الله ليخفي أمره، لأنه كان عبيه الطلب من الحسين بن أحمد بن محمد وكان لمحمد هذا ولد يلقب بأبي السلعلع بن عبد الله بن ميمون القداح فبعث بداعيين أخوين إلى المغرب، فنزلا في قبيلة تعرف بكتامة، فدعوا أهلها، فاستجابوا لهما: أحدهما حسين يكنى بأبي عبد الله الشيعي وسموه المعلم، والآخر سموه المحتسب وهو أبو العباس المخطوم المتقدم ذكرهما. فأظهرا من أنفسهما الزهد والورع حتى افتتحا بالكذب والخربة في بلاد أفريقية. وسار أبو عبد الله إلى سلجماسة، فأخرج عبيدا الله من حبسها فلما اجتمع به سلم الأمر إليه وانسلخ الأمر منه، فلم يلبث يسيرا وقتله بنو أخيه. ولما وصل عبيد الله - لعنه الله - إلى رقادة أرسل إلى القيروان من أتاه بأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المعروف بابن البرذون وبابن هذيل وكانا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 العلماء الخاشعين لله، فلنا وصلا إليه وجداه على سرير ملكه جالسا، وعن يمينه أبو عبد اله الشيعي الذي ولاه الملك وسلم له فيه، وعن يساره أبو العباس أخوه، فقال لهما أبو عبد الله وأخزه: أشهد أن هذا رسول اله! فقالا جميعا بلفظ واحد: (والله الذي لا إله إلا هو لو جاءنا هذا والشمس على يمينه والقمر على يساتره، وينطقان فيقولان إنه رسول الله، ما قلنا أنه هو) . فأمر عبيد الله - لعنه الله - عند ذلك بذبحهما وربطهما في أذناب الخيل، وأن يشق بهما سماط القيروان ففعل ذلك بهما - رحمة الله عليهما - وقال أبو عبد الله الشيعي يوما لأبي عثمان سعيد بن الحداد العالم: (القرآن يخبر أن محمدا ليس بخاتم النبيين في قوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) فخاتم النبيين غير رسول الله. فقال أبو عثمان: (هذه الواو ليست من واوات الابتداء وإنما هي من واوات العطف مثل قوله تعالى: " هو الأول والآخر والظاهر والباطن " وقال له مرة أخرى: (أن الله أخبر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يرتدون لقوله: " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " فقال أبو عثمان: (هذا إنما على الاستفهام، كقوله سبحانه: " أفإن مت فهم الخالدون "!) ولما تمكن عبيد الله الشيعي من الملك، قتل أبا عبد الله الداعي وأخاه وانتقم الله منهما على يدى من سعيا له وقتلا الخلق بسببه، حتى أخرجاه من حبس سلجماسة، وسلما له في الملك، ولم يقيما معه إلا سنة أو نحوها، ثم سلطه الله على كبار كتامة الذين سعوا في إقامة ملكه، فقتل جميعهم، ثم تمادت دولة أبنائه نحو ثلاثمائة سنة، ملكوا من مضيق سبتة إلى مكة - شرفها الله - لأن عماله كانوا يصلون إلى مضيق سبتة فيعاينوها، ومن هناك يرجعون. وهذا دليل على أن هوان الدنيا على الله وصغر قدرها عنده إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 مكن فيها لهؤلاء الكفرة الفجار يسومون أولياء الله سوء العذاب والعماد والقيامة، والحاكم الله،! وخرج في دولة عبيد الله شيخ للسفر، ومعه خيل فباتوا في مسجد بخيولهم فقيل لهم: (كيف تدخلون خيولكم المسجد؟) فقال لهم الشيخ وأصحابه: (إن أرواثها وأبوالها طاهرة لأنها خيل المهدي) فقال لهم القيم في المسجد: (إن الذي يخرج من المهدي نجس فكيف الذي يخرج من خيله؟) فقالوا له: (طعنت على المهدي) وأخذوه وذهبوا به إلى إليه، فأخرجه عشية جمعة فقتله. فلما قرب للموت، دعا عليه فأجاب دعاءه فامتحنه بعلة قبيحة يقال لها حب القرع وهي دود على صورة حب القرع في آخر مخرجه، تأكل أحشائه وما والاها فكان يؤتى بإذناب الكباش العظيمة فيدخلها في نفسه لتشتغل عنه الدود بها، فيجد لذلك بعض راحة لشغلها بالأذناب ثم يخرج الأذناب، وقد هتكتها الدود، يدخل أخرى في دبره، ثم لم تزل الدود تأكل حتى انقطعت مذاكره وهلك، ولما هلك أوتي بابن أخت الغساني المقرئ ليقرأ عند رأسه وكان من أطيب الناس قراءة وحل عبيد الله أبناءه يبكون عليه. فقال البغدادي للغساني: (أقرأ) قال: فطلبت ما أقرأ من القرآن فلم أتذكر منه إلا قوله تعالى::يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " إلى آخر الآية قال: فطلبت غير هذه الآية أقرأه فلم أقدر فكنت أرددها حتى خشيت على نفسي أن يفيقوا من بكائهم فيتأملون قراءتي فيقتلوني، فتسللت وخرجت. وذكر أن الحجر الأسود أرسله العين الجنابي إلى عبيد اله بالمهدية فلم يلبث إلا أياما وهلك كما ذكرنا. فلما دفن طرحنه الأرض، ثم دفن فطرحته الأرض ثلاثا. فقيل لابنه أبا القاسم (إن هذا لأجل الحجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فأردده حيث كان!) فأمر بإخراجه ورده إلى موضعه، فعند ذلك استقر عبيد الله في قبره. ثم ولي ولده أبو القاسم من بعده. فلم يزل في شغل وحزن وبعث الله عليه أبا يزيد مخلد بن كيداد فقهره وخرج عليه وقتل جنوده وقام المسلمون معه عليه كما تقدم ذكره. ولما كان يوم الجمعة طلع الإمام على المنبر، وهو أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن أبي الوليد فخطب خطبة بليغة، وحرض الناس على جهاد الشيعة ثم قال: (اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بعبيد ادعى الربوبية من دون الله جاحدا لنعمتك كافرا بربوييتك! فانصرنا اللهم عليه وأرحنا منه ومن دولته، واصله جهنم وساءت مصيرا، بعد أن تجعله في دنياه عبرة للسائلين وأحاديث للغابرين، واهلك الهم سيعته وشتت كلمته) ومات أبو القاسم بن عبيد الله محصورا وفي نفسه مقهورا. ثم ولي بعده ابنه إسماعيل، فأظهر للعامة الجميل. فلما استفحل أمره وقوت شوكته، أراد أن ينتقم من المسلمين فيما تقدم لهم من حربه وحرب أبي القاسم والده، فحال الله - عز وجل - بينه ونبين ما أراد، وأجاب المؤمنين فيه فأهلكه الله بالعطش حتى مات. ثم ولي ابنه معد فادعى النبوة، وصوت المؤذن بذلك فوق صومعة القيروان بأمره، فضج المسلمون لذلك. فلما بلغه ذلك، داخل الرعب وأرسل إلى الناس يهدنهم، إلى أن خرج إلى مصر، فدخلها بالمنكر والبغي، فابتلاه الله بعلة الاستسقاء، فكان الذي يقعد عند رأسه لا يرى رجليه، وسالت عيناه وسقطت أسنانه، واراه الله العبرة في نفسه. ثم مات. وولي بعده نزار المكنى بأبي المنصور، فحدث في أيامه في سب الصحابة، ما حدث ثم تشوفت نفسه مع أحواله الدنية إلى أن يستحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 العلماء من أهل القيروان. ثم حدث عليه بالشام ما أشغله، فخرج إليها فلما وصل السبر مات في مرحاض الحمام. ثم ولي بعده الحاكم، فأظهر أكثر مذهبهم، فكان مما أحدث أنه بنى دارا وجعل لها أبوابا وأطباقا، وجعل فيها قيودا وأغلالا وسماها جهنم، فمن جنى جناية عنده قال (ادخلوه جهنم) وأمر أن يكتب في الشوارع والجوامع بسب الصحابة، أجمعين. ثم أرسل داعيا إلى مكة، فلما طلع المنبر وذكر ما ذكر، اقتحم عليه بنو هذيل فقطع قطعة قطعة وكسر المنبر وفتت حتى لم يجمع منه شيئا. ثم أرسل رجلا خراسانيا من بني عمه، فضرب الحجر الأسود بدبوس، فقتل في حينه وأخذه الناس قطعة قطعة وأحرق بالنار وأرسل - لعنه الله - إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ينبش القبر المعظم فسمع الناس صائحا يقول: القبر ينبش! ففتشه الناس فوجدوه وأصحابه فقتلوهم ثم أنه ادعى الربوبية من دون الله، وجعل داعيا يدعوا الناس إلى عبادته، وسماه المهدي. فكتب داعيه الكتاب، وكان اسمه حمزة، وذلك في سنة 410 وقرئ بحضرة الحاكم - لعنه الله - على أهل مملكته، ذكر فيه - تعالى الله عن إبطال المبطلين علوا كبيرا! - الحمد لمولاي الحاكم وحده باسمك اللهم الحاكم بالحق! ثم تمادى فقال: توكلت على إلهي أمير المؤمنين، جل ذكره وبه نستعين في جميع الأمور! ثم طوّل بالكتاب بالتخليط مرة يجعله أمير المؤمنين ومرة يجعله إله، وقال فيه: (وأمرني بإسقاط ما يلزمكم اعتقاده من الأديان الماضية والشرائع الدارسة) وذكر أشياء يطول ذكرها. وكانت له راية حمراء تحت قصره فاجتمع إليه خلق نحو خمسة عشر ألف رجل فيما قيل، ثم إن رجلا من الترك كاتبه حمزة فأظهر الحاكم أنه أمر يقتله. وكان الحاكم كثير التصرف بالليل إلى جبل المقطم على حمار، فخرج ليلا فقتل هو وحماره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ثم ولي بعده علي الملقب بالظاهر، فكان مشتغلا بالشرب منهمكا فيه يلابس ثياب النساء، حتى يظنه الناس إذا مشى معهن امرأة ثم أصابه الاستسقاء حتى صار كالعدل فمات. ثم ولي بعد معد الملقب بالمستنصر، فمرة يظهر السب ومرة يكف ويسكن الناس، فإذا مشى في جنوده كان بين يديه الشبابة ومن ينشد الشعر. وذكر أنه أرسل من كتب السب في أستار الكعبة في ليلة ظلماء، فأصبح الناس فوجدوه، فضج المسلمون لذلك، وأكثروا البكاء لسب الصحابة، قال ابن سعدون: وعلى هذا بنو أصل مذهبهم، أنهم يظهرون الدين والخير حتى يتمكنوا قال المؤلف: انتهى ما لخصته من كتاب ابن سعدون. وذكر ابن القطان عنهم أنهم قوم الرافضة، يدعون النسب إلى علي - رضي الله عنه - وأكثر اعتقاداتهم كفرا، ولما مات المستنصر بن الظاهر ولى بعده ولده الملقب بالمستعلي، وكان أشبه من غيره سياسة لا دينا. فلما توفي هو ووزيره الأفضل، استبد ولده وتسمى بالآمر بحكم الله، وكان جبارا عنيدا ظالما جائرا وكثر في زمانه دعوى الباطل، ونصر الظالم على المظلوم، وأعانته على ظلمه. واستخلص لنفسه فتيين من الفتيان الوضاء الوجوه، اتخذهما للفاحشة، كان رزق كل واحد منهما ألف دينار في كل يوم، وكان يعمل النزاهة، ويبيح للناس فيها المحضورات، فلا يشاء مؤمن أن يعاين منكرا مباحا إلا عاينه. ثم ولي بعد عبد المجيد، الملقب بالحافظ لدين الله، ابن المستنصر، بويع في اليوم الذي قتل فيه الآمر، وخطب له على المنابر، وزر له أبو علي أحمد ابن الأفضل أمير الجيوش. أبو علي على الأمر وجملة الحال من سنة 526 إلى سنة 532: كانت لهم فيها محاولات شنيعة وأمور فظيعة منها قتل الأمير، وانتنزاء قاتله حرز الملوك، وقتله، واستيلاء ابن الأفضل وقتله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وظهور عبد المجيد، وما كان من الأسقف من النفر، والأمر بعبادة عبد المجيد وقتله ثم استيلاء حسين بن عبد المجيد، والقيام عليه إلى أن قتل نفسه بسم، ورجوع عبد المجيد إلى الولاية. رجع الخبر، وفي سنة 443 وردت الأخبار أن محمد بن جعفر الكومي ولي القضاء بمصر ولقب قاضي القضاة وداعي الدعاة. قال ابن شرف: فنعوذ بالله من سوء العاقبة! لأن قاضي القوم منهم وعلى مذهبهم يعني الشيعة وفيها وصلت إلى القيروان مكاتبة من الأمير جبارة بن مختار العربي من برقة بالسمع والطاعة للمغز بن باديس، وأخبره أنه وأهل برقة قد أحرقوا المنابر التي كان يدعى عليها للعبيدية، وأحرقوا راياتهم وتبرؤوا منهم ولعنوهم على منابرهم ودعوا للقائم بأمر الله العباسي. وفي هذه السنة كان أول الفتنة بأفريقية. ذكر طرف الفتنة العظيمة ودمار القيروان قال ابن شرف: لما آل الأمر إلى التصريح بلعنة بني عبيد على المنابر وأمر المعز بن باديس بقتل أشياعهم، أباح بنو عبيد للعرب مجاز النيل وكان قبل ذلك ممنوعا، لا يجوزه أحد من العرب. ثم أمر لكل جائز منم بدينار، فجاز منهم خلق عظيم، من غير أن يأمرهم بشيء لعلمهم أنهم لا يحتاجون لوصية. فجازوا أفواجا، ولقاموا بناحية برقة. ومضت الأيام على ذلك مدة. ثم قدموا منهم مونس بن يحيى الرياحي على المعز. وكان المعز كارها لإخوانه صنهاجة، محبا للاستبدال بهم حاقدا عليهم ولم يكن يظهر ذلك لهم. فلطف عنده محل مونس هذا، وكان سيدا في قومه، شجاعا، عاقلا، فشاوره المعز في اتخاذ بني عمه رياح جندا فأشار عليه بأن لا يفعل ذلك وعرفه بقلة اجتماع القوم على الكلمة وعدم انقيادهم إلى الطاعة، فألح عليه في ذلك، إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أن قال له المعز: إنما تريد انفرادك، حسدا منك لقومك! فعزم مونس على الخروج إليهم، بعدما قدم العذر وأشهد بعض رجال السلطان. ثم رحل متوجها نحوهم، فنادى في القوم وحشدهم ووعدهم وغبطهم ووصف لهم كرامة السلطان والإحسان لهم، ثم قدم في ركب منهم، لم يعهدوا نعمة. ولا طالعوا حاضرة، فلما انتهوا إلى قرية، تنادوا (هذه القيروان) ونهبوها من حينها. فلما ورد الخبر على القيروان، عظم الأمر على المعز بن باديس وقال: إنما فعل مونس هذا ليصحح قوله، فأمر بثقاف أولاده وعياله، وختم على داره حتى يعلم ما يكون من أمره. فلما بلغ مونسا ما فعل بأهله وولده اشتدت نكايته، وعظم بلاءه وقال: قدمت النصيحة، فحاق الأمر بي، ونسبت الخطيئة إليّ! فكان أشد إضرارا من القوم. وكان قد علم عورات القيروان. ثم أخرج السلطان إليهم بعض الفقهاء، ومهم مكاتبات وشروط ووصايا، وأعلموهم أن السلطان قد دفع عيالاتهم لهم، ولخذوا عليهم العهود والمواثيق بالرجوع إلى الطاعة، وأرسلوا شيوخا منهم بذلك، ثم بعد ذلك نكثوا على السلطان، واستولوا على الفساد في كل جهة ومكان. ذكر هزيمة العرب للمعز بن باديس لما كان ثاني عيد الأضحى من هذه السنة كانت الداهية العظمى والمصيبة الكبرى وذلك أن السلطان عبد بوم الاثنين ومشى صباح هذا اليوم إلى ناحية قرية تعرف بني هلال، فلما كان نصف النهار، أتته الأخبار أن القوم قد قربوا منه بأجمعهم. فأمر بالنزول في أوعار وأودية، فلم يستتم النزول حتى حمل العرب عليهم حماة رجل واحد. فانهزم العسكر، وصبر العز صبرا عظيما، إلى أن وصلت رماح العرب إليه، ومات بين يديه خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 عظيم فدوه بأنفسهم، وأما بنو مناد وجميع صنهاجة وغيرهم من القبائل، فإنهم فروا، وانتهبت العرب معسكر العز السلطان فحازوه، وفيه من الذهب والفضة والأمتعة والأسباب والأثاث والخف والكراع ما ل يعلم عدده إلا اله. وكان فيه من الأخبية وغيرها ما يتجاوز عشرة آلاف ومن الجمال نحو خمسة عشر ألفا، ومن البغال ما لا يحصيه قول. فما خلص لأحد من الجند عقال فما فوقه، وسلك أكثر الناس الجبل المعروف بحيدران فافترقوا فيه. ثم رجع بعضهم على بعض وليس عند أهل القيروان خبر بذلك إلا أنهم كانوا تحت نوقع وتشوف. فلما كان ثالث العيد، قدم فارسان مع ابن البواب، وهم قد غلبت عليهم الكآبة وكسوف البال، وحالهم تغنى عن السؤال وكثر أيضا سؤال الناس عن السلكان، فذكروا أنه في حيز السلامة، فلم تك إلا ساعة حتى دخل قصره هو وولده. ثم تساقط الناس بعده آحادا وجموعا وتخلف عن الوصول خلق عظيم فمنهم من علم خبره ومنم من لم يعلم. ثم ذكر أن العرب أخذوا خلقا كثيرا من الصنهاجيين وغيرهم. قال ابن شرف: وكان العسكر المهزوم ثمانين ألف فارس، ومن الرجالة ما يليق بذلك وكان خيل العرب ثلاثة آلاف فارس، ومن الرجالة ما يليق بذلك. وفي ذلك يقول علي بن رزق من قصيدة له في ذلك أولها (طويل) : لقد زارنا من أميم وهنا خيال ... وأيدي المطايا بالذميل عجال وفيها: ثلاثون ألفا منكم هزمتهم ... ثلاث آلاف أن ذا لنكال ووصل العرب إلى نواحي القيروان، وجل كل من شبق إلى قرية يسمى نفسه لهم ويؤمنهم ويعطيهم قلنسوة أو رقعة يكتبها لهم علامة ليعلم غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أنه سبقه وبات الناس ليلتين بالقيروان تحت ما لا يعلمه إلا الله تعالى من الخوف لا يدرون ما ينزل بساحتهم. وأقام الناس يومين لا يدخل إليهم داخل ولا خارج، وخيل العرب تسرح حول القيروان في كل جهة ومكان، والناس يرونهم عيانا وبيانا، وخرج السلطان سابع عيد الأضحى بجنوده وخرج عامة القيروان معه، فلم يتعد بهم المصلى ورجع العرب في أمانهم الذي أعطوا أهل البوادي، وانتهبوا جميعا، وانتقل أهلها إلى القيروان. وأمر السلطان كافة الناس بانتهاب الزروعات المحيطة بالقيروان وصبرة، وهي المنصورية، فسر المسلمون بذلك، وحسبوها من أرزاقهم. وكان مصيرها إلى ما قدر الله من فساد واكل البهائم لها. وفي السابع عشر لذي حجة ظهرت خيل العرب على ثلاثة أميال من القيروان. فنزل السلطان يمشي فيها ويوصي أهلها بالاحتفاظ والبناء وأخذ الناس في بناء دورهم. وأمر السلطان المعز أن ينتقل عامة أهل صبرة وسوقها إلى القيروان ويخلوا الحوانيت كلها بصبرة وأمر الجميع من بالقيروان من الصنهاجين وغيرهم من العسكر أن ينتقلوا الى صبرة وينزلوا في حوانيتها وأسواقها فأرتج البلد لذلك وعظم الخطب واشتد الكرب. ومد العبيد ورجال صنهاجة أيديهم إلى خشب الحوانيت وسقائفها واقتلعوها. وخربت العمارة العظيمة في ساعة واحدة. وبات الناس على خوف عظيم ثم أصبحوا فعاينوا خيول العرب فأمر السلطان ألا يخرج العسكر على سور صبرة. أين ابن شرف: أخبرني من أثق به، قال: خرجت من القيروان وسرت ليلا، فكنت أكمن النهار، فلم أمر بقرية إلا وقد سحقت وأكلت، أهلها عراة أمام حيطانها من رجل وامرأة وطفل، يبكي جميعهم جوعا وبردا وانقطعت المير عن القيروان، وتعطلت الأسواق، وأمسك العرب جميع من أسوره، فلم يطلقوا أحدا إلا بالفداء مثل أسرى الروم، وأما الضعفاء والمساكين فامسكوهم لخدمتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 نبذ من وقعة باب تونس أحد أبواب القيروان وذلك أن العرب دفعت إلى هذا الباب، فخرج إليهم العامة منهم بسلاح، ومنهم من بيده عصا لا يدفع بها أضعف الكلاب، فحملت عليهم فرسان العرب وتمكنت منهم سيوفهم ورماحهم، فتساقطوا على وجوههم وجنوبهم، وسطحوهم من حد أفران الآجر إلى هذا الباب ولم يبق منهم إلا من حصنه أجله، ولم يتركوا على حي ولا ميت خرقه تواريه. وخرج أهل القتلى عند انصراف العرب، فرفعوا قتلاهم، فقامت النوائح والنوادب بكل جهة ومكان من أزقة القيروان، تنصدع لمناظرهم وسماعها الجبال. وبقى خلق من الغرباء في المقتلة، وجرح من الناس خلق كثير، ورأى الناس ما أذهلهم من قبيح تلك الجراحات، فتفتتت الأكباد، وذابت القلوب والأجساد، لبنيات قد سودن وجوههن وحلقن ورؤوسهن على أبنائهن وإخوانهن. فكان هذا يوم مصائب وأنكاد ونوائب. ولم ير الناس مثله في سائر الأمصار، فيما مضى من الأعصار. وبات الناس في هم وغم. تم كلام ابن شرف مختصرا. هزيمة صنهاجة أيضا بجبل حيدران وهزيمة المعز بن باديس من وجه آخر قال أبو الصلت: ثم برز المعز إلى لقاء العرب الواصلة من المشرق، وجرد عساكره، وقدم عليه أبو سلبون، وزكنون بن واعلان، وزيري الصنهاجي، وعاد هو إلى القيروان. فلما كان عيد النحر، انهزمت صنهاجة، وقتل منها كثير، فخرج هو بنفسه إليهم، وانتشبت الحرب بينه وبين العرب، فهزمته العرب، وثبت المعز طائفة من عبيده، ثم عاد إلى المنصورية. فأحصى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قتل من صنهاجة في هذه الوقعة: فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة. ثم أقبلت العرب حتى نزلت على القيروان، ووقعت الحرب هنالك، فقتل بين رقادة والمنصورية خلق كثير. وفي سنة 444، ذهب المعز بن باديس إلى رفع الحرب بينه وبين العرب، وأباح لهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء. وبقى هو مستوطنا المنصورية من بقي من عسكره. فلما دخلوها، استطالت العامة عليهم، وأوسعتهم إهانة وشتما، فقتل العرب منهم خلقا كثيرا. وكان عدد العرب الواصلين من المشرق سبعة آلاف فارسا وخمسمائة. وقدر المعز أن العرب عائدون من حيث أتوا فخرج له الأمر بخلاف ظنه. وفي هذه السنة، بنى المعز سور القيروان، وسور زويلة، وجعل السور مما يلي صبره كالفيل: حائطان متصلان إلى صبره، وبينهما نحو نصف ميل. وأما القيروان، فهي في بسيط من الأرض، ممدودة في الجوف منها نحو تونس، وفي الشرق نحو سوسة والمهدية وفي القبلة نحو سفاقس، ويقرب منها البحر الشرقي: فبينها وبين البحر مسيرة يوم، وسائر جوانبها أرض طيبة. ولا سبيل الموارد أن تدخل القيروان إلا بعد جوازه على صبرة. وأما صبرة فبناها إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله الشيعي المتلقب بالمنصور وسماها المنصورية واستوطنها سنة 337 ثم كانت منزل الولاة بالقيروان إلى حين خرابها. وفي سنة 445، ولى المعز بن باديس ابنه تميم مدينة المهدية. وفيها، نافق على المعز بن باديس أهل سوسة. وهي مدينة منيعة حاصرها أبو يزيد شهورا ثم انهزم عنها وكان عليها في ثمانين ألفا. وفي ذلك يقول سهل ابن إبراهيم كامل: إن الخوارج صدها عن سوسة ... أبدا طعان السمر والإقدام وفي سنة 446 حاصرت العرب مدينة القيروان وضيقة عليها تضيقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 شديدا يطول ذكره. وفيها أخذ مؤنس بن يحيى سلطان العرب مدينة باجة وأطاعه أهلها. وفي سنة 447 تولى بلقين الصنهاجي قلعة حماد. وفيها نافق ابن أب زمان على المعز بن باديس. وفيها، كانت بأفريقية مجاعة عظيمة وجهد مفرط. وفي سنة 448، وقع بين عبيد المعز الساكنين بالمهدية وبين عبيد تميم أبنه منازعة أدت إلى الاقتتال والمحاربة فقامة عامة زولية وسائر من كان من البحريين وغيرهم معاضدة لعبيد تميم فهزموهم وأخرجوهم من المهدية وقتلوا منهم عددا كثيرا. وسار الذين بقوا منهم يردون اللحاق بالقيروان، فدس تميم خبرهم إلى العرب، فقتل منهم في الطريق خلق كثير، وسبب هذه المقاتلة قتل تميم عبيد أبيه بالمهدية، ويقال أن الذي قتله منهم سبعمائة. وذكر أن المحرك لقتلهم واستئصالهم قصيد محمد بن حبيب التي أولها (بسيط) : السيف يسبق قبل الحادث العذلا ... لا تغمد السيف حتى تقتل السفلى نقل عداتك من دنيا لآخرة ... فكلهم ظن هذا الملك منتقلا وفي سنة 449، خرج المعز بن باديس من المنصورية منتقلا إلى المهدية، الميلتين بقيتا من شعبان. وفي أول يوم من رمضان، انتهبت العرب مدينة القيروان وخربتها. وكانت من أعظم مدن الدنيا. وذكر أبو عبيد أنه انتهى ما ذبح منها من البقر خاصة في اليوم الواحد سبعمائة رأس وخمسين رأسا. وقال: في سنة 52 بنيت القيروان وأخليت. وفي سنة 450 خرج بلقين ومعه الأذبج ودعي لحرب زناتة، فكسرها وقتل منها عددا كثيرا. وفي سنة 451 قتل منصور البرغواطي صاحب سفاقس قتله غدرا حمو ابن ومليل البرغواطي، وولى مكانه وذلك يوم السبت الثاني لشوال. وفي سنة 452 وقعت بين العرب والقيروان وبين هوارة حرب كان الغلب فيها للعرب. وقتلت هوارة بباب الصوم أحد أبوابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وفي سنة 453، قتل أهل تقيوس مائتين وخمسين من العرب. وكان سبب ذلك أن العرب دخلت إلى تقيوس متشوفة، فسمع رجل منهم رجلا من أهل المدينة يذكر المعز بخير، ويثني عليه، فقتله العربي، وكان مقدما في المدينة، فقام عليه أهل البلد، فغزوهم وقتلوا من العرب العدد المذكور. وفي سنة 454 ن غدر الناصر بن علناس لبلقين بن محمد الصنهاجي صاحب القلعة، وكان ذلك أول يوم من رجب وولى مكانه. وفيها، توفي المعز ابن باديس. بعض أخبار المعز بن باديس كنيته: أبو تميم. ولقبه: أولا شرف الدولة بن أبي مناد باديس نصير الدولة بن أبي الفتح المنصور عبد العزيز بالله بن أبي الفتوح بلقين سيف العزيز بالله بن زيري بن مناد بن منقوش الصنهاجي. وفي هذه الأسماء والكنى يقول ابن شرف (خفيف) : شرف الدولة المعز بن باديس ... النصير المظفر المقدام من له في العلا ثلاثة آباء ... نصير وعدة وحسام وابن زيري أبو الفتوح الذي أعدى ... أعاديه في الورى الإحجام وأبو الفتح بعده السيد المنصور ... من صوب راحتيه سجام مولده سنة 399. وللي الملك سنة 407، وسنة سبعة أعوام وشهران. وتوفي سنة 455، وعمره ثماني وخمسون سنة. فكانت مملكته سبعا وأربعين سنة. وفي سنه وتاريخ ولايته يقول ابن شرف (رجز) : لما انقضت من المئين أربع ... وبعدها ست سنين تتبع وأول العام الشريف السابع ... دار إليها أيمن طوالع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 باسم المعز الملك الميمون ... مذل كفر ومعز الدين فقلد الأمر الشديد المنعة ... منتهضا بحمله ابن سبعه صفته: أسمر جميل الوجه جهير الصوت حسن الخلق بعيد الغور في الأمور قتل الشيعة وقط دعوتهم من أفريقية، ولغن أمراءهم بني عبيد على سائر منابر أفريقية ووفى كل واحد من الصحابة حقه، وأقام السنة، وكانت متروكة منذ مائة وأربعين سنة. حكاية في ابتداء دولة صنهاجة لما تغلب أل عبيد الله على مصر وأراد معد بن إسماعيل الرحيل أليها من إفريقية دعا زيري بن مناد وكان له عشرة أولاد، فقال له: (ادع إلي بنيك. فقد عملت رأي فيهم وفيك) وكان أصغرهم سنا بلقين. فدعا أولاده ما دعاه، والقدر لا يريد سواه. وكانت عند معد بن إسماعيل أثارة من علم الحدثان، قد عرف بها بصائر أحوالها وأهل الغناء من أعيان رجاله. وكانت عنده لخليفته على أفريقية والمغرب، إذا صار إليه ملك مصر، علامة. فنظر في وجوه بني زيري، فلم يرها، فقال لزيري: (هل غادر من بنيك أحدا؟) فقال له: (غلاما صغيرا) فقال المعز: (لا أراك حتى أراه! فلست أريد سواه!) فلما رآه عرفه، وفوض إليه من حينه، واستخلفه، فاستولى من وقته على الأمور وزاحمت مهابته الأهواء في الصدور، وبعدت أسفاره واشتهرت أخباره، وبلغ بغزاوته سبتة في خبر طويل. ثم أجاب صوت مناديه وخلعها على أعطاف بنيه حتى أنتها أمره إلى المعز بن باديس شرف العشيرة، وآخر ملوكها المشهورة. ومن العجب أنهما راقا في الاسم والكنية، أعني المعز ابنا تميم معد بن إسماعيل العبيدي صاحب الحدثان، والمعز أبا تميم هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فأول ما افتتح به شأنه، وثبت به ما زعم سلطانه قتل الرافضة ومراسلة أمير المؤمنين العباسي يومئذ ببغداد، فكتب إليه بعهده وجاءته الخلعة واللقب من عنده رأيا اغتر ببادئه، وذهل عن عواقبه وبواديه. واتصل ذلك بالعبيدي بمصر، وأمره يومئذ يدور على الجرجرائي، فاسطنعها عليه، وفوق سهام مكروهه إليه. وكان بطون من عامر بن صعصعة: زغبة، وعدي، والأثبج ورياح وغيرهم، تنزل الصعيد لا يسمح بالرحيل ولا بإيجازه النيل، فأجازهم الجرجرائي، وأذن لهن في المعز أمينة طالما تخلت إليهم أطماعهم وعكفت عليها أبصارهم، فغشاه منها سير العرم، ورماه بذلول ابنة الرقم فشغل المعز بعضهم أولا بخدمته، وحملهم أعباء نعمتهم، وهم في خلال ذلك يتمرسون بجهاته وبون إلى حماته، ويطلعون على عوراته، حتى بان لهم شأنه، وهان عليه سلطانه، فجاهروه بالعداوة حتى جرت بينهم تلك الحروب، التي تقدم ذكرها مختصرا فأورثته البوار، وضربت عليه الحصار. وفي أثناء ذلك، أعطاهم الدنيا، وناشدهم التقية، واشترط المهدية، وزف إلى أحد زعمائهم من بناتهم، فأصبحوا له أصهارا، وقاموا دونه أنصارا. فما استحكم باسمه، وأهمته بنفسه، واستجاش من قبله، وأحتمل أهله وثقله وخلا الملك لمن حماه وحمله، وجاء أصهاره يمنعونه ممن عسى أن يكيده، حتى بلغ المهدية، فأقام بها أسقط من الشمس بالميزان، وأهون من الفقير القيان، ولم يكن أحد في زمانه أشد بأسا في الملاحم، ولا أطول يدا بالمكارم ولا أعني بالسان العرب ولا أحنى على أخل الأدب ومن مشهور كرمه أنه أعطى المنتصر بن خزرون في دفعة مائة ألف دينار إلي ما وصله من مركب أثيل، وزي حفيل وكان متوقد الذهن حاضر الخاطر حاذقا بطرائف الألحان عالما بالمنثور والمنظوم من الكلام. ومدح كثير من الشعراء، فأجزل لهم العطاء: منهم على بن يوسف التونسي، ويعلا ابن إبراهيم الأركشي، وأبو علي بن رشيق، والقرشي وابن شرف، وغيرهم يطول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الكتاب بذكرهم، لا سيما لا ذكرت من نظمهم ونثرهم. وذكر أبو الحسم الخذلاني المعروف بالحداد: اشتملت على الكثير من أيامه ووقائعه وصفت حاله في خروجه من القيروان، وتسليمه للعرب معظم ملكه، في قصيدة أولها (طويل) : سرت تتهادى بعد ما رحل الركب ... وقد قلدت جيدا الدجا الأنجم الشهب ومنها وإن خانني صبري علي به ... فقد خان مولانا العشائر والصحب ولو شاء تأليف الجنود وجمعها ... لجاءته من أقطارها العجم والعرب ولكنة أغذى الجفون لعلمه ... بما سطرت فيه الملاحم والكتب. ولم يمكث بالمهدية إلا نحو سنتين، وانقضت أيامه، ووافاه أجله، وتوفى يوم السبت لخمس بقين من شعبان سنة 454 هكذا ذكر أبو الصلت، وقد تقدم قول ابن شرف أنه توفى في سنة 455. أولاده: تميم، ونزار، وعبد الله، وعلو، وحماد، وبلقين، وحمامة، والمنصور. دولة الأمير تميم بن المعز ونبذ من أخبارها مولده بالمنصورية في رجب سنة 422. وأبرزه والده للناس ابن سنتين وركب، والعسكر وراءه، وطاف مدينتي القيروان والمنصورية، وولي المهدية سنة 445، وعمره ثلاث وعشرون سنة. وأقام بها إلى أن خرج والده من المنصورية متجها نحوها، فلما دنا منها، خرج إليه فيمن معه، وترجل عند رؤيته له، وقبل الأرض بين يديه، ومشى راجلا أمامه، وأظهر من طاعته له ما أبان كذب ما نسب إليه، وزور من النفاق عليه، فدعا له والده، وأمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 بالركوب، فركب وسار معه إلى المهدية فنزل المعز القصر وأقام ابنه تميم متكفلا بأمر الدولة. وفي سنة 455 فتح مدينة سوسة. وكان أهلها قد نافقوا على أبيه، فعفا عنهم، وفي سنة 456، زحف إلى المهدية حمو بن ومليل البرغواطي الثائر بمدينة سفاقس، بمن استعان بالعرب، فورد خبره على تميم فسار إليه ومعه طائفة كثيرة من زغبة ورياح. وكان مع حمو طائفة من عدي والأثبج، فاقتتل الفريقان. ثم ولت طائفة حمو أدبارها، فأخذتها السيوف، وتولتها الحتوف وفي سنة 457، كسر عسكر الناصر بن حماد وكان قد خرج في عدد كثير من صنهاجة وزناتة وعدي والأثيج، فلقيتهم رياح وزغبة وسليم، فانهزم الناصر وقتل من أصحابه خلق كثير ونهبت أمواله ومضاربه، وقتل أخوه القاسم بن علناس. وكان من أعظم الأسباب في ذلك ما أبرمه تميم في أمره. وفي 458، جرد تميم عسكرا كبيرا إلى مدينة تونس، فأقام محاصرا لها، آخذا بمخنقها أربعة عشر شهرا، حتى رقع الاتفاق بينه وبين ابن خراسان صاحبها، على ما اقتضاه إقلاع العسكر عنها. وفي سنة 459 قام بالمغرب، الأقصى محمد بن إدريس بن يحيى بن علي ابن حمود الحسني، المستدعى من ميلية، فعبر إليها، وقال به جماعة بني ورتدي في ميلية ونواحيها. وكان قد خطب له بالخلافة بمالقة، وتسمى بالمستعلي، فأقام بها إلى، تغلب عليه باديس بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة سنة 447، فانقرضت دولة بني حمود يومئذ بالأندلس، واختفى بالمرية إلى أن استدعي. وفي سنة 460 حاصر الناصر بن علناس بن حماد مدينة الأربس، وكان معه الأثيج من العرب، وبقي عليها حتى افتتحها وأمن أهلها، وقتل عاملها ابن مكراز. وفيها، وصل الناصر المذكور إلى القيروان مع العرب ودخلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وفيها، استبد أمير لمتونة على زناتة المستوطنين هنالك. وفي سنة 461، عاد الناصر بن علناس بن حماد من القيروان إلى قلعته، خوفا من جموع العرب، وفيها، شرع أبو بكر بن عمر اللمتوني في بناء مراكش على ما يأتي في موضعه. وفي سنة 465، وصلت إلى سفاقس مراكب شرقية، فأخرج إليها السلطان تميم بن المعز أسطوله من المهدية، فأفسدها. وفي سنة 466، وقيل 467 طردت زغبة من أفريقية: طردتهم رياح منها، وباعت القيروان بن الناصر بن علناس بن حماد الصنهاجي صاحب القلعة. وفي سنة 468، وصلت إلى أفريقية عرب برقة ونزلت حول القيروان وما والاها. وفي سنة 469، كانت بأفريقية مجاعة عظيمة ووباء عظيم، مات فيه من الناس خلق كثير. وفي سنة 470 اصطلح تميم بن المعز والناصر ابن عمه وزجه بنته بلارة وجزها إليه من المهدية في عساكر عظيمة ومال وأسباب وذخائر. وفي سنة 474، حاصر تميم مدينة سفاقس. وعاث عسكره في أجنتها المعروفة بالغابة وأفسدها، وولى تميم ابنه مقلدا مدينة طرابلس سنة 470. وفي سنة 476، حوصرت المهدية، نزل عليها مالك بن علوي في جموع عظيمة من العرب، فخرج إليه السلطان تميم فهزمه، وأقلع عنها منهزما، ودخل اقيروان. وفي سنة 479، حاصر تميم مدينة قابي وسفاقس معا في زمن واحد، مما لم يسمع مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وفي سنة 480، كسفت الشمس كسوفا كليا. وجرى فيها ما جرى من نزول الروم على المهدية في ثلاثمائة مركبا حربية، على ظهورها ثلاثون ألف مقاتل. ذكر دخول النصارى مدينة المهدية وسبب ذلك، مع قدر الله تعالى غيبة عسكر سلطانها عنها ومفاجأة الروم قبل استقدامه إليها وأخذ الأهبة للقائهم، وخلوا كافة الناس من الأسلحة والعدد وقصر الأسوار وتهدمها. وتكذيب تميم بخبرهم وسوء تدبير عبد الله بن منكور متولي أمور الدولة في قصده مخالفة قائد الأسطول في الخروج إليهم للقائهم في الماء ومنعهم من النزول في البر. فكا كل ذلك سبب تغلبهم على المدينتين المهدية وزويلة، ونهبهم أياهما، وقتلهم الناس فيهما، وإحراقهم بالنار ما هو مشهور بالمهدية إلى الآن. وقد استوعب ذلك ابو الحسن الحداد في قصيدته التي أولها (منسرح) . أنى يلم الخيال أو يقف ... وبين أجفان ثوى الدنف غزا حمانا العدو في عدد ... هما الدما كثرة أو اللّعف عشرون ألفا ائتلفوا ... من كل أوب وليت ما اتلفوا جاءوا على غرة إلى نفر ... قد جهلوا في الحروب ما عرفوا وهي طويلة. وفي سنة 481، مات الناصر بن علناي بن حناد الصنهاجي، وولي ابنه المنصور. وفي سنة 482، عزا مالك بن علوي مدينة سوسة، ودخلها في طائفة من أصحابه، ولم يتمكن له شيء من مراده فيها فخرج منها منهزما، وقتل جماعة من رجاله وأسر بعضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وفي سنة 483، غلت الأسعار في أفريقية، وكانت بها مجاعة شديدة. وفي سنة 484، صلحت أحوال أفريقية في الخصب والرخاء. وفي سنة 486، حاصر عسكر تميم مدينة قابس وأقام عليها حتى فتح ربضها. 488، كان ما كان من غدر شاه مالك الغزي ليحيى بن السلطان تميم بن المعز، وسبب ذلك أن تميما خاف الغزيّ وأوحش منه نفسه ونفس أصحابه لكلام قاله، فأضمر ذلك شاه مالك في نفسه، وكان داهية مكرا، وخرج يحيى بن تميم أثناء ذلك متصيدا، وفي صحبته نفر من أهل مؤانسته ومنادمته. وكان شاه مالك مع كثير من أصحابه، فظفر به وقبض عليه وعلى جماعة من أصحابه. ولما بلغ تميما ذلك، أنفذ الخيل في الغزيّ فوجدوه قد فات وسار إلى سفاقس ودخلها. فركب صاحبها حمو بن ومليل وتلقى يحيى بم تميم مع الغزيّ الذي قبض عليه، فأقام عنده أياما، وكتب إلى السلطان تميم يلتمس منه عيال الغزّ وأولادهم، فأمر تميم بإنفاذهم إليهم، ودعا يحيى وأصحابه إلى المهدية. وفي سنة 489 فتح تميم مدينة قابس، وأخرج منها عمر بن المعز أخاه وقد كان ولاه أهلها، وفي سنة 491، كانت بأفريقية مجاعة شديدة. وفي هذه السنة، فتح تميم مدينة قرنقة ومدينة تونس. وخرج عدى من أفريقية أمام رياح. وفي سنة 493، فتح تميم مدينة سفاقس وخرج منها حمو بن ومليل هاربا إلى قابس فقبله صاحب مجن بن كامل الدهماني وآواه حتى مات وفي سنة 498 مات المنصور بن ناصر بن علسان، صاحب القلعة والباجية وما والاهما وولى ابنه باديس وأقام قليلا ومات. ثم ولى أخيه العزيز بالله بن المنصور. وفيها وصل المرمانيون إلى المهدية بأجفان كثيرة حربية، تسمى الشزاني ومعهم ثمانية وعشرون مركبا. وكان قصدهم أن يجدوا فرصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 كما وجدها الروم المتقدم ذكرها. فقصدوا إلى باب دار الصناعة ليمنعوا أسطول المهدية إليهم فخاب ظنهم وخرجت أسطول المهدية إليهم فهزموا وقتلوا كثيرا منهم. وفي سنة 499 وجه السلطان تميم أبا الحسن النهري إلى جزيرة جربة في عدد جم وأسطول كثير فوجد أهلها قد أخوا الأهبة له، واستعدوا واستمدوا فلم يتم له شيء من أمرها. وفي سنة 500 غدرت مدينة باجة وقتل خلق كثير. وفيها رحل المهدي بن تومرت القائم بدعوة من البربر المسمين بالموحدين بجبل هرغة بأقصى المغرب إلى المشرق في طلب العلم فجاز إلى الأندلس وصل قرطبة وسار منها إلى المرية ومها دخل في مركب إلى الشرق وفاب في مركب خمسة عشر عاما. وفي سنة 501 ظهر في أفق المغرب كوكب عظيم من ذوات الذوائب وأقام ليلي كثيرة. وفيها مات السلطان تميم بن المعز فكانت مدته سبع وأربعين سنة. بعض أخبار تميم بن المعز كان رحمه الله شهما شجاعا حازما عازما، يستصغر صعاب الأمور ويستسهل عظام الخطوب ويغلب عليه شدة البطش والمبادرة. وهو أحد فحول شعراء الملوك وذو السبق والتقدم في معانيه وبدائعه حوى فيه الجودة والكثرة. وله ديوان كبير من شعره؛ فمن قوله (وافر) : فإما الملك في شرف وعز ... على التاج في أعلى السرير وأما الموت ببين ظبا العوالي ... فلست بخالد أبدا الدهور وله في غلام اسمه مدام من قصيدة طويلة (متقارب) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 مدام يطوف بكاس المدام ... فلم أدر أيهما أشرب فهذا الصديق وهذى الرحيق ... وهذا الهلال وذي الكوكب وهذا يجود بألحاظه لي ... وهذى بألبابنا تلعب وما البدر والنجم من ذا وذاك ... ولكنه مثل يضرب وكان تميم بن المعز جميلا وسيم مدير القامة دري اللون أشم ابلج. وكان يكثر من استغفار بدنه ويرى ذلك أنه تمم صحته. وكان يستعمل كل حار من الأغذية والأدوية ويكثر الاصطلاء بالنار ويدخل الحمام الحر ويكثر الجماع ويشرب الأدوية القوية كالمحمودة وغيرها، ويجاوز في ذلك المقدار حتى جف لحمه وفسدت حركاته الطبيعية. وأقعد ثم مات في منتصف رجب من سنة 501 فكان عمره تسعا وسبعين سنة وولايته من وفاة جاوز عددهم المائة. وقيل أنه كان له من الولد وولد الولد نحو ثلاثمائة. دولة يحيى بن تميم بن المعز ونبذ من أخباره وسيرته مولده بالمهدية سنة 457. وولى سنة 501 وعمره إذ ذاك ثلاثة وأربعون سنة. وكان حاذقا بتدبير دولته ساهرا في سياسة رعيته كثير المطالعة لكتب السيرة والأخبار أديبا شاعرا ذا حظ في اللغة العربية صالح. وكان حسن الوجه أشهل العينين أهجر الصوت. وتوفى ثاني عيد النحر من سنة 509 فجأة مقتولا في قصره بالمهدية فكانت مدة ملكه ثماني سنين وستة أشهر، وخلف من الأولاد ثلاثين ولدا ذكور. ومما حدث في أيامه من الوقائع ما أذكرها ملخصا، مؤرخة بأوقاته. وفي سنة 503 فتح يحيى بن تميم قلعة أقبلية. قال ابن القطانم كان لتميم بن المعز من الولد ثلاثمائة فنفى يحيى أكبرهم إلى المشرق والمغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والأندلس. وكانت أيام يحيى هادنه ووادعه. وكان يطلب عمل الكيمياء وجعل لها دارا تردها الطلبة وأجرى عليها الإنفاق ومكنهم من الآلات. وفي سنة 503 جرد يحيى بن تميم كمن أسطوله خمسة عشر غرابا للغزو في بلاد الروم فأصيب منها ستة وعادة البقية إلى المهدية. وفي سنة 504 كان بالمغرب زلازل عظيمة دامت شهر شوال كله. وأمير أفريقية يحيى بن تميم بن المعز. وفقي سنة 505 وصل سوار صاحب مصر بهدية إلى أمير أفريقية يحيى بن تميم فتلقاه بغاية الإكرام والاهتمام وأقام عنده حتى صرفه وأصحبه من الذخائر والألطاف ما لا يحيط به الوصف. وفي سنة 507 وصلت أسطول المهدية بسبي كثير من بلاد الروم في ربيع الآخر فسر بذلك يحيى بن تميم والمسلمين. وفي سنة 508 ولى يحيى ابنه عليا مدينة سفاقس وولى أخاه عيسى مدينة سوسة. وفيها حجم الروم على مدينة ميورقة وهي بيد مبشر الفتى مولى ابن مجاهد ودخلها عنوة وقتلوا رجالها وسبوا ذراريها ونساءها وذلك بعد حصار شديد ثم استرجعها علي بن يوسف من أيدي الروم. وفي سنة 509 وصل إلى المهدية رجلان أو ثلاثة ذكروا أنهم طلبة المصامدة عارفين بصناعة الكيمياء فأبيح لهما بالدخول إلى دار العمل. فما أحكما ما أرادا استأذنا على السلطان يحيى بن تميم. فقال لهما: (أوقفاني على الطرح وحقيقة السر!) فقال: (على أن لا يحظر إلا أنت ووزيرك!) فحظر هو ووزيره وعبده أبو خموس فصنعا البوط وألقيا الرصاص وأحميا عليه وجعلا كنهما يخرجان الإكسير. فأخرجا خناجيرهما وقتلا الوزير وأبا خنوس وأكثر في السلطان الجراحات. فبقى يعاني جراحه حتى مات وقالا له حين جرحاه: (أيها الكلب تعجب نحنو أخواك فلان وفلان نفيتنا وبقيت في الملك!) وثارت الصيحة إذ ذاك فدخل العبيد وقتلا الرجلان للحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومات يحيى يوم العيد الأضحى من سنة 509، وكان الأمير يحيى، مدة مرضه إثر هذه النوبة والغدر، ونفي ابنه الفتوح إلى قصر زيادة، وأظهر اتهامه في القضية. فأقام هناك إلى حين وفاة أبيه وولاية على أخيه. ثم نفاه علي أيضا إلى المشرق، فتوفى هنالك. وفي هذه السنة، عقد الأمير يحيى نكاح العزيز بالله بن المنصور، صاحب القلعة وبجاية، على بنته بدر الدجا، وجهزها إليه. دولة علي بن يحيى بن تميم بن المعز بالمهدية وبعض بلاد أفريقية لما توفي الأمير يحيى، أجتمع أهل الدولة على نفاذ كتاب إلى علي على لسان أبيه، وكان علي يلي سفاقس، فكتبه الكاتب، وكتب علامة يحيى كانت: (الحمد لله وحده!) فوصل الخبر إلى علي ليلا، فخرج لوقته، فوصل إلى المهدية ثالث عيد النحر، ودخل الناس إليه معزين ومهنئين، وعمره ثلاثون سنة، فاستأبت له الأمر، واستوسق له الملك. وكان كريما جوادا، يركن إلى الراحة واللذات، واتكل على قوم فوض إليهم تدبير دولته، فعاجلته منيته في ربيع الآخر من سنة 515، فكانت دولته خمس سنين وأربعة أشهر وأثنى عشر يوما. وخلف من الولد الذكور أربعة: الحسن، والعزيز، وباديس، واله (؟) . وفي سنة 510، أمر بعمارة الأسطول إلى جرية، فحاصرها إلى أن أقر أهلا بالطاعة له، ونزلوا على حكمه. وفي سنة 511، أرجف العوام بأنه سيكون في رمضان حادث كبير، وأن السلطان يموت فيه. وفشا القول بذلك، وانتشر. فأكذب الله أحاديثهم. وقال الشعراء في ذلك كثيرا. فمنه طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وأشاعوا أباطيل وبثوا زاخارفا ... دعتهم لها آمالهم والمطامع فلو يستطيع الناس من فرط حبهم ... لضمتك أحشاء لهم وأضالع ومنها: أصبح قول المبطلين مكذبا ... ومد لك الرحمن في أمد العمر فأين الذي حد المنجم كونه ... إذا مر للصوام عشر من الشهر وفيها، وصل رسول صاحب مصر بهدية إلى المهدية. وفيها، حاصر علي ابن يحيى مدينة قابس، ودون بعض قبائل العرب، فلما بلغ ذلك رافعا صاحبها، خرج متطارحا على وجوه الجيش، راغبا في الصلح، فلم يجيبه علي إلى ذلك، وفي أثناء ذلك، نزل على المهدية بيوته، ومن ساعده من عشيرته، فخرج من كان بالمهدية، فهجموا على بيوته، فتصايحن نساء العرب، فغارت العرب لذلك، وقعت الحرب بين الفريقين، والأمير على باب زويلة. أن عليا دون على رافع ثلاثة أخماس العرب من جيشه، فصمد رافع نحوهم، والتقى الجمعان. ثم ولى رافع قاصدا إلى القيروان. واجتمعت شيوخ دهمان، واقتسموا البلاد بينهم، فأعطوا رافعا مدينة القيروان. ووصلت العرب المدونة إلى الأمير علي بن يحيى، فوهبها أموالا جمة وأمره بالمسير إلى القيروان. فوقع بينهم وبين رافع قتال شديد، وكان الظهور فيه لحزب علي بن يحيى، في خبر طويل. وفي سنة 512، وصل إلى الأمير علي بن يحيى، من قبل صاحب صقلية رجار، رسول له يلتمس تجديد العقود، وتأكيد العهود ويطلب أموالا كانت له موقفة بالمهدية وذلك بعنف وغلظة. فرد على رسوله جواب وجبهه بالقول. فتزايدت الوحشة بينه وبين رجال، فأوسع شرا، وحال بعد ذلك مكرا قال ابن القطان: وكان في هذه السنة غلاء عظيم، ووباء، وبلغ ربع الدقيق بتلسمان عشرين درهما. وفي سنة 513 أغزى إبراهيم بن يوسف أخو علي بن يوسف بن تاشفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ملك الغرب، قورية بالأندلس ففتحها الله عليه. وأمير أفريقية علي ابن يحيى ابن تميم. وفي سنة 514 كانت وقعة بالأندلس انهزم فيها المسلمون وهي وقعة قتندة، قال ابن القطان: مات فيها نحو عشرين ألفا وفيها، كان حلول ابن تومرت المتلقب بالمهدي بأغمات، محرضا على الخروج على السلطان وتفريق الكلمة المنتظمة. وفي سنة 515، خرج علي بن يوسف من مراكش إلى الأندلس، فوصلها في ربيع الأول وأخر ابن رشد عن القضاء، وولى أبا القاسم بن حمدين، ثم رجع إلى مراكش. وفيها، توفي أمير أفريقية علي بن يحيى بن تميم. دولة الأمير الحسن بن علي ابن يحيى بن المعز بأفريقية كان أبوه فوض إليه الأمر في حياته وعمره أثنتا عشرة سنة وتسعة أشهر، ومولده بمدينة سوسة في رجب سنة 502. فلما مات أبوه، دخل الناس أليه مهنئين ومعزين بالملك والوفاة، وانشده الشعراء وتكفل بأمر دولته صندل الخادم، لا لمعرفة ولا سياسة. وفي سنة 516، غزى أبو عبد الله بن ميمون قائدا علي بن يوسف ن ملك البرين، جزيرة صقلية، فافتتح بها مدينة نقوطرة من عمل رجار صاحب صقلية، وسبى نساءها وأطفالها، وقتل شيوخا، وسلب جميع ما وجد فيها. فلم يشك صاحب صقلية أن المحرك والمسبب له هو أمير أفريقية الحسن بن علي، لما تقدم بينه وبين أبيه من الوحشة العظيمة فاستنفر أهل بلاد الروم قاطبة فالتأم له ما لم يعهد مثله كثرة فعلم بذلك الحسن بن علي، فأمر بتشييد الأسوار واتخاذ الأسلحة وحشد القبائل واستقدام العرب. فجاءت الحشود من كل وجه ومكان والناس متأهبون لما يطرقهم منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وفي سنة 517، في أواخر جمادى الأولى، وصلت أسطول الإفرنج إلى جزيرة الأحاسي، وخرج منهم إلى البر خلق كثير وابسطوا حتى بعدوا عن البحر أميالا. وفي اليوم الثاني، خاء إلى المهدية ثلاثة وعشرين شينيا، فعينوا العساكر والحشود ثم انصرفوا إلى الجزيرة، فوجدوا العرب قد انكشفوا من كان بها من الروم عن مواضعهم، ومزقوا مضاربهم فقويت نفوس المسلمين بذلك. وكان رجار قد أمر أسطوله أن يدخل تلك الجزيرة، ويأخذ قصر الديماس، وأن يسير الخيل والرجال من هنالك على تعبئة في البر إلى المهدية، لليلتين خلتا من جمادى الأولى، في أخر ليلة منه كبر المسلمون ودخلوا الجزيرة فانهزم الروم إلى أجفانهم، بعد ما قتلوا بأيديهم كثيرا من خيولهم. وأخذ المسلمون فيما يحتاجونه إليه نحو أربع مائة فرس، وآلات كثيرة وأسلحة. وأحاطت العساكر بقصر الديماس، تقاتله، وأهل الأسطول في البحر يعاينون ذلك، إلى أن طلب الروم الأمان من السلطان الحسن بن على بن يحيى بن تميم، فلم تساعد العرب على ذلك. وخرجوا من منتصف جمادى الآخرة ن فأخذتهم السيوف، وقتلوا عن أخرهم. وكان عدد الأجفان نحو ثلاثمائة، وعدد لخيل فيها نحو ألف فارس. أخبر أبو الصلت قال: أخبرني عبد الرحمن عبد العزيز قال: رأيت على باب رجار بصقلية رجرا من الإفرنجة طويل الحية يتناول طرف لحيته بيده، ويقسم بالإنجيل أنه لا يأخذ منها شعرة حتى يأخذ ثأره من أهل المهدية فسألت عنه، فقيل لي أنه لما انهزم، جذب بها حتى أدمته. إلى أن انتهى كلام ابن الصلت في أخبار المهدية وأميرها الحسن بن علي بن يحيى ابن تميم إلى سنة 517 وبقى الحسن بن علي ملكا للمهدية وبلاد تلك الجهات إلى سنة 543. ثم خرج باستيلاء صاحب صقلية عليها. وفي سنة 518، استفحل أمر المهدية والموحدين بالمغرب وأمير أفريقية الحسن بن علي بن يحيى. ومات في هذه السنة العزيز بالله صاحب بجاية، وولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ابن يحيى. وكان لبني الناصر بن علناس بن حماد ببجاية والقلعة وتلك البلاد وزراء يعرفون ببني حمدون، وتوارثوا وزرارتهم، منهم ميمون بن حمدون عند يحيى هذا، فنشأ ليحيى ولد ولاه الأمر بعده وفوض الأمور إليه في حياته، فجعل الولد يستنقص الوزير ميمونا، ويقبح أفعاله، ويسميه الشيخ الكذاب. فخاف منه ميمونا على نفسه، وخاطب أبا محمد عبد المؤمن وفي سنة 519، كان أمير أفريقية الحسن بن علي على حاله. وخرج الطاغية ابن ردمير إلى بلاد المسلمين، فدوخها بلدا بلدا، وضيق عليها. وفي سنة 520 اجتمعت عساكر المسلمين بالأندلس، فتلاقوا مع عدو الله ابن ردمير، وكان قد أذاق المسلمين شرا منذ سنين، فدارت بين الفريقين حرب عظيمة كان الظفر فيها للمسلمين. ثم أخبر الناس أن تميما رجع فارا بنفسه، فانهزم المسلمون، وركبهم النصارى بالقتل واحتووا على المحل بما فيها وسار تميم إلى غرناطة، وانبسطت خيل النصارى على المسلمين يقتلونهم كيف شاءوا وتفرق الناس أيدي سبا ولجئوا إلى المعاقل، وكانت قريبا منهم، فوافاهم الله شرهم. وفي سنة 521، وقيل في سنة 520 نهض أبو الوليد بن رشد إلى مراكش للاجتماع بعلي بن يوسف في المصالح، وعز تميم عن غرناطة. وفي سنة 523، أشر ابن رشد ببناء سور مراكش فبناه علي بن يوسف وأنفق فيه سبعين ألف دينار وفيها، بعث العزيز بالله بن المنصور صاحب بجاية عسكرا إلى المهدية قود عليه ابن المهلب فنزل عليها ثم انصرف ناكصا على عقبه وفيها، وصل مطرف بن علي بن خزرون الزناتي إلى تونس وأخرج منها احمد بن عبد العزيز بن عبد الحق بن خرسان، وقفل إلى الحجاز وبها مات على ما يأتي. وولي تونس في هذه السنة كرامة بن المنصور الصنهاجي من قبل صاحب بجاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وفي سنة 523 كان الأمير بأفريقية حسن بن علي على ما كان عليه في السنة قبلها، وصاحب بجاية يحيى بن العزيز بالله، ووزيره ميمون بن حمدون. وفي سنة 524 قتل أمير مصر الملقب بالأمر، وكان جبارا عنيدا، قتله الغلام الذي أسمه حرز الملوك، وكان الأمر ولي عهده عبد المجيد. وفي سنة 527، قال الوراق في (مقابسه) : بعث الله قوما تحالفوا على قتل الجبار العنيد بمصر الملقب بالأمر. قيل أنه قصدوا إليه من بلاد الشام احتسابا وكانوا عشرة أناس، فأقاموا بمصر، وعلموا بيوم ركوبه، وكان إذا ركب سدة الحوانيت والديار في ممره ولا يمر في طريقه أحد سواه ويجعل نصف عسكره أمامه، ونصفه ورائه، وفي وسط تلك المسافتين التي أمامه وخلفه فارسان، بينهما وبينه ما بينهما وبين العسكر وحمله أربعة من عبيده فقصد هؤلاء القوم إلى طريقة وفيه فرن، فقصدوا إلى الفران، ومعهم دقيق وقالوا له: (نريد منك أن تخبز لنا هذا الدقيق، فأنا قوم غرباء مسافرون) فاعتذر لهم بالسلطان فرغبوه، وشارط عليهم العجلة، ثم أشغلوه بالحديث إلى أن مر عليه مقدم العسكر الأول فأعنف عليهم في الخروج فلما رأوا ذلك ادخلوه داخل الفرن وسدوا فمه بغطائه وغلقوا باب الفرن عليهم إلى أن سمعوا حوافر فرسه. فأول من خرج من الفرن كلها منهم، فجعل يسجد إلى الأرض، وينادي: (أنا بالله وبعدل مولانا) وسجد مرة بعد أخرى إلى أن ألقى بيده في شكائم الفرس، وأخرج سكينا وضرب بها بطن الفرس فسقط إلى الأرض وخرج أصحابه من الفرن مبادرين، فضربوه بسكاكينهم إلى أن فرغوا من قتله. وقتلوا في الحين أجمعين وأراح الله من الفاجر الطاغي وهو الذي أكثر في زمانه دعوى الباطل ونصرة الظالم وعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 جهنم يعذب فيها الناس، وأباح المحظورات جهارا في النزهات، وغير ذلك من قبائحهم - لعنهم الله - أعني الشيعة العبيدية. وفي سنة 528 كان ولاة أفريقية على ما كانوا عليه في السنة قبلها. وفي سنة 529، صرخ الموحدون بموت المهدي، وسموا عهد المؤمن بأمير المؤمنين، وفيها، ولي القضاة قاضي عبد الحق بن عبد الله بن معيشة، فأراق الخمر وكسر الدنان، وشدد على أهلها، وزاد في الجامع الكبير فكان البناء فيه في أخر هذه السنة. وفي سنة 530 نزل على حمود على المهدية، بعسكر من قبل صاحب بجاية العزيز بن المنصور ومال برسم العرب فنزل بظاهر زويلة وناشب القتال برا وبحرا، فأخرج إليهم صاحب المهدية أسطوله فأخذوا من أسطول بجاية غرابي أمر بسجن قائدهما، فأما الواحد فمات بسهم أصابه ثم وصلت العرب لنصرة المهدية فرحل عسكر بجاية عن المهدية بعد أقامته سبعين يوما. وأمر الحسن بن علي قائده بقتل القائدين فقتل أحدهما بين يديه ووجد الآخر قد مات من سهم كان أصابه. وفيها جهز رجار صاحب صقلية أسطولا، فقصدوا جزيرة جربة، واستولوا عليها وسبوا أهلها. وفي سنة 533، كان موت عبد المجيد صاحب مصر وكان للشيعة في تولية خليفة عليهم خبر طريف يذكره في موضعه ز وفي سنة 536 توفى أبو عبد الله المازري وأبو الصلت. وفيها أخذ صاحب المهدية المركب الذي أنشأه صاحب بجاية، وبعثة بهدية إلى صاحب مصر، وسبب ذلك أنه كان في الإسكندرية مركب للحسن صاحب المهدية عطله عن السفر صاحب الديوان لأنه سعى في الشتاة بين الحسن وبين صاحب مصر، وقصد المواصدة بين صاحب مصر وصاحب بجاية، فأقلعت المراكب وبقى هو محبوسا. واقلع في جملتها المركب البجائي ببضائع عظيمة لها شأن وأثمان للتجار وهدية إلى صاحب بجاية. فعمل عليه الحسن، وأخذه، وأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 بتفريغه. وبقي المركب فارغا حتى جاءت صدمة أكتوبر، فأنكسر وفي هذه السنة، خرج جرجي من صقلية في خمسة وعشرين غرابا، وضرب على مرسى المهدية ن فأخذ جميع ما كان فيه من المراكب وفيه مركب جديدا أنشأه الحسن من خشب المركب الذي انكسر لصاحب مصر. وفي سنة 537، خرج أسطول صاحب صقلية، فضرب على مدينة أطرابلس، فخيبه الله. وفي سنة 538، دخل مدينة سفاقس ودخلت في عمل رجار صاحب صقلية. وفي سنة 543، كان تغلب الروم على مدينة المهدية، وخرج منها صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن بسلجين ابن زبرى بن مناد بن منقوش صنهاجي بحملته وحاشيته. وتبعه أهل البلد فارين بإهليهم. وكان قائد رجار صاحب صقلية جرحى بن ميخايل الأنطاكي وكان أبوه علجا من علوج أبيه تميم. فكان هذا اللبعين عارفا بعورات المسلمين بالمهدية وغيرها فلم يزل رجار وقائده جرجا بحيلان على المهدية بحيلهما إلى أن استولوا عليها في هذه السنة. وتعرف هذه الكائنة الشنعاء بكائنة يوم الاثنين فبقيت بأيد الروم حتى أفتتحها الموحدون، على ما أذكر في دولتهم، ولما استولى صاحب صقلية على هذه المدينة كانت بأفريقية مجاعة عظيمة، فخاف أهل تونس من أهل هذه السواحل من النصارى. وكان صاحب صقلية افتتح سفاقس ودخل بونة، وسبى أهلها، فأخذ أهل تونس في الاستعداد والأهبة والوقوف بجماعاتهم وقتا بعد وقت عند باب البحر، بمحضر واليهم معد بن المنصور وهو من الديوان الذي على الباب فخرجوا يوما من أيام عرضهم، فوجوا قاربا يسوق زرعا، فأبكرت العامة خروج الزرع من بلدهم في تلك الشدة إلى موضع تحت مملكة الروم، واجتمعوا على منعهم، وضجت العامة وارتفع صياحهم، فتعرض لهم رجال معد بن المنصور، فوضعوا السلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فيهم وفي عبيد معد واليهم وقتلوهم قتلة الشيعة وأطلقوا النار تحت برج الديوان، فنزل معد عنه، واستسلم للعامة، فوقفوا عنه، فكانوا يأخذون رجاله وعبيده من تحت ركابه، ويقتلوهم. وبقى معد ذلك بتونس على حال قهر من العامة، وكتب إلى بجاية، فجاءه غراب منها، فطلع فيه مع بنيه، وسار إلى بجاية، ورجع النظر في تونس لقائد من قواد صنهاجة مدة يسيرة، ثم انصرف، وبقى البلد في حكم العامة، فكانت الفتنة المشهورة فيهم، والقتال بين أهل باب السويقة وأهل باب الجزيرة، ومدبرهم في تلك المدة قاضيهم أبو محمد عبد المنعم بن الأمام أبي الحسن - رحمه الله - ولما اشتد خوف أهل تونس من صاحب صقلية ومما سمعوه من غضب بجاية واستعداده لهم، أخذوا في تمليك محمد بن زياد العربي بإرادة قاضيهم. فلما عزموا على ذلك، ووصل ابن زياد إلى تونس، وخرج القاضي والأشياخ إلى لقائه، صاح رجل من العامة: (لا طاعة لعربي ولا غزيّ) وقامت الفتنة. فرجع ابن زياد إلى القلعة، وأراد القاضي الرجوع إلى المدينة، فمنعه العامة وأخرجته، فسار مع ابن زياد إلى القلعة، ولأقام بها مدة طويلة، إلى أن مات - رحمه الله - فيقال أنه كان راقدا في الصيف في طلق علو، فوقع منها ومات، ويقال أنه رمي منها، ثم إن العامة وجهوا إلى أبي بكر إسماعيل بن عبد الحق بن خراسان، فوصل إلى تونس بالليل، فرفع قفي قفة من السور وولي تونس، فأقام عليها نحو سبعة أشهر، ثم غدر به عبد اله ابن أخيه عبد العزيز، على ما يأتي، وإذ قد وقع ذكر بني خراسان، ولايتهم تونس على النسق ومن وليها من غيرهم إلى دخول الموحدين إليها، بحول الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ذكر من ولي تونس من الأمراء من بعد زوال ملك المعز بن باديس منها لما انتقل المعز من القيروان والمنصورية إلى مدينة المهدية، وأسلمها إلى العرب، واختل ملكه بفتنة العرب الواصلين من المشرق، كما تقدم، واستحوذوا على كثير من حواضر تونس وما يليها من البلدان ما كان، مثل باجة والأربس وما يليها، وكان بنو حماد قد طمعوا في ملك أفريقية، وصارت عمالة القيروان في أيديهم مدة بمداخلتهم العرب وإحسانهم إليهم وانقطع ملك المعز عن توني وغيرها، وضعفت دولتهم بالمهدية عن حمايتها، فمشى أشياخ من أهلها لى الناصر بن علناس، وهو إذ ذاك في القلعة دار ملكهم، وناظمة سلكهم، فاستدعوا منه النظر إلى مدينتهم وتقديم وال من قبله عليهم، فأمرهم أن يختاروا شيخا منهم، يقوم بأمرهم خلال ما ينظر إليهم، فيقال أنهم راموا تقديم كبير منهم، فاستعفى وتوقف. فوليها من قبل الناصر عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان، فأقام بها إلى أن مات سنة 488، ثم وليها بعده ولده عبد العزيز بن عبد الحق، فأقام بها إلى أن، مات في سنة 500، ثم وليها ولده أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق، فبقى واليا عليها اثنين وعشرين سنة، حتى أخرجه عنها مطوف بن علي بن حمدون إلى بجاية، وكان قد بنى قصرا بتونس، سمى قصر بني خراسان، وطالت مدته كما ذكرنا، فاشتدت وطأته، وخرج عن سيرة الأشياخ إلى آثار جبابرة الملوك، وقتل عمه إسماعيل بن عبد الحق، وكان أحق منه بالأمرة. وفر ولده أبو بكر بن إسماعيل إلى بنزرت، فلأقام بها خوفا منه، وأخرج جماعة من لأهل تونس وأشياخها، ونفاهم إلى المهدية وغيرها، واستبد برأيه في أمور تونس، إلى أن وصلت أخباره إلى المنصور صاحب بجاية، فجهز إليه عسكرا قدم عليه مطوف بن علي بن حمدون، فوصل إلى تونس عام 522، فخرج أحمد إليه، واستسلم في يديه، فنقله إلى بجاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 من تونس كرامة بن المنصور من بني حماد، إلى لأن مات في سنة كذا وخمسمائة، ثم وليها بعده أخوه أبو الفتوح بن المنصور، إلى أن مات، ثم وليها بعده محمد بن أبي الفتوح، فلم تستحسن سيرته، فأخرج عنها ووليها معد بن المنصور وكان آخرهم فأقام عليها إلى سنة 543 حين استيلاء الروم على المهدية، فخاف أهل تونس منهم، وثاروا على أميرهم معد كما تقدم، وثارت العامة بها، وكانت الفتنة المشهورة فيها. ثم انهم وجهوا إلى بنزرت، وقدموا أبا بكر بن إسماعيل بن عيد الحق، غدره عبد الله ابن أخيه عبد العزيز بعد إقامته في ولايته سبعة أشهر، وأخرجه في قارب في البحر، فرماه البحر ميتا عند قلعة ابن غبوش. فيقال: غرق، ويقال: غُرِقَ. فوليها عبد الله المذكور نحو عشر سنين، وهو الذي قتل القاضي أبا الفضل جعفر بن حلوان وقتل معه ولده وولد أخته ابن الباد، لما خشي أن يجمعوا عليه العرب. وفي أيامه وجه عبد المؤمن عبد الله بن سليمان في قطع من أسطول سبتة وأمره بالكشف عن تونس وقوتها والمجاورين لها من الأعراب، وبعد ذلك بعام وصل السيد أبو محمد عبد الله بن عبد المؤمن إلى تونس، ونازلها وحاصر عبد الله بن خراسان فيها مدة، ثم أقلع عنها إلى بجاية، وذلك في سنة 553، وفي سنة 551، في شوال كان القيام على النصارى بالمهدية وحاصرهم فيها. وفي سنة 552 استولت الروم على زويلة. وفي سنة 554، دخل عبد المؤمن أفريقية المرة الثانية، ونازل تونس ثم أقلع عنها وحاصر النصارى بالمهدية، وفي سنة 555، دخل أبو محمد عبد المؤمن مدينة صلحا، واستولى الموحدين عليها في العاشر من شهر محرم. وفي سنة 558، كانت كائنة يوم السبت بنزول الروم على المهدية، وأخذوا مدينة سوسة ثم خرجوا عنها. وفي سنة 573، كانت يوم الجمعة بنزول النصارى على المهدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ثم غادرها عبد الكريم في ربيع الآخر منها، ودخلها يحيى بن غانية الميورقي في شعبان من سنة 578، فلم يزل بها هو وأصحابه لمتونة، ومسوقة، يغيرون منها على أفريقية، حتى تملكوا بعض بلادها، إلى أن دخلها الناصر مع الموحدين، في جمادى الأولى من علم 602. ذكر الأمراء والولاة بأفريقية لخلفاء بني أمية عقبة بن نافع، ثم أبو المهاجر، ثم عقبة ثانية، ثم زهير بن قيس، ثم حسان بن النعمان الغساني ثم موسى بن نصير ثم محمد بن يزيد ثم إسماعيل ابن عبد الله ثم يزيد بن أبي مسلم الثقفي ثم محمد بن أوس الأنصاري ثم بشر بن صفوان ثم عبيدة بن عبد الرحمن السلمي ثم عبد الله الحبحاب ثم كلثوم بن عياض ثم حنظل بن صفوان ثم عبد الرحمن بن حبيب القرشي ثم الياس بن حبيب ثم حبيب بن عبد الرحمن. فهؤلاء الثمانية عشر هم الولاة عليها من بين أمية. ووليها للصفوية عاصم الورفجومي، وعبد الملك بن أبي جعد. وكانت مدتهم سنة واحدة وشهرين ووليها للأباضية أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح، مولى المعافر، وكانت مدته سنتين اثنتين ووليها أبو العباس محمد بن الأشعث الخزاعي. ثم عيسى بن يوسف القيسي. ثم الأعلب بن سالم التميمي ثم الحسن بن حرب الكندي ثم الأغلب. ثم سالم ثاني ثم عمر بن حفص المهلبي. ثم يزيد بن حاتم السلمي ثم داود بن يزيد ثم روح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 بن حاتم. ثم الفضل بن روح بن حاتم، ثم هرثمة بن أعين، ثم محمد بن مقاتل العكي، ثم تمام بن تميم التميمي، ثم محمد بن مقاتل ثانية. ووليها من بني الأغلب إبراهيم بن الأغلب وعبد الله بن إبراهيم بن الأغلب. والأغلب بن إبراهيم بن الأغلب. ومحمد بن الأغلب بن إبراهيم وأحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم. وزيادة اله بن محمد بن الأغلب ين إبراهيم. ومحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم. وإبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم. وعبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب. وزيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب. وهو آخر بني الأغلب بإفريقية وكان انقراض دولتهم سنة 296. ومن الشيعة العبيدية أبو عبد الله الداعي. ثم عبيد اله المهدي. وإليه نسب العبيدية بمصر، ثم ابنه القاسم بن عبد الله، ثم ابنه إسماعيل بن أبي القاسم وهو الذي ملك مصر ورحل إليها في أخر أيامه. ومن صنهاجة القائمين بدعوة العبيدية ومن ولايتهم بلجين بن زيري. المنصور بن بلجين. باديس المنصور. المعز بن باديس تميم بن باديس. علي بن يحيى. الحسن بن علي. وعليه دخل الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ذكر صِفة الأندلس وأوَّليَّتها أما صفة الأندلس، فإنها جزيرة مُركنة، ذات ثلاث أركان، قريبة من شكل المثلَّث: الركن الواحد منها عند صنم قَادِس، والركن الثاني في بلاد حليقيَّة، وهو مقابل لجزيرة بركانية حيث الصِّنم المشبه بصنم قادس، والركن الثالث بناحية الشرق، بين مدينة أربونة ومدينة برذيل حيث هو قرب البحر المحيط الغربي من البحر المتوسط الشامي، وكاد البحران هناك أن يجتمعا في ذلك الموضع، فتصير الأندلس في جزيرة أولا يسير ما بقي منها، وهو مسيرة يوم كامل، وفيه مدخل يقال له الأبواب، وفيه تتصَّل الأندلس بالأرض الكبيرة. فالأندلس كلُّها محدقة بالبحر: البحر المحيط الغربي والبحر المتوسط القبلي، ويصعد منه قليل إلى ناحية الشرق؛ فحدُّ الأندلس في الشرق والغرب وبعض الجوف البحر المحيط، وحدُّها في بعض القبلة والشرق البحر المتوسِّط، إلا أنَّه يتوسط الأرض كلَّها. وقيل إنه قي آخر الأقاليم السبعة. وقيل إن أوَّل من نزل الأندلس بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلش (بشين معجمة) ؛ فسميت بهم الأندلس (بالسين غير معجمة) . وقيل إنهم كانوا مجوساً؛ فأراد الله قلعهم منها؛ فحبس المطر عنهم حتى غاضت مياههم وعيونهم وأنهارهم، وخرجوا منها، وافترقوا في البلاد؛ وأقامت خالية مائة سنة، من حدّ إفرنجة إلى البحر؛ ثمّ دخلها بعد ذلك قومٌ من الأفارقة، أجلاهم صاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 إفريقية من الجوع؛ فلما نزلوا الأندلس، وجدوا أنهارها قد جرت؛ فملكوها نحو مائة وخمسين سنة. وعدد ملوكهم أحد عشر ملكا، ودار ملكهم مدينة طالفة. ثم غلبت عليهم الإسبانية، حتى أخرجوهم عن الملك، وصار الملك إليهم؛ وبهم سميت إشبيلية؛ فبنوها وسكنوها؛ وخربت طالقة. وهجم عجم رومة، فكانوا ملوكا، حتى دخل البشترلقات على الرومانيين، وقد بعث الله المسيح - عليه السلام! - فبعث الحواريين إلى البلدان كلها، وظهر دين النصرانية وغلب. قمَّ كان دخول البشترلقات من رومة. وكانوا يملكون إفرنجة، ويبعثون عمالهم إليها. ودار ملكهم ماردة؛ فكانت عدَّة ملوكهم سبعة وعشرين ملكا. ثم ظهر بإشبيلية إشبان؛ وكان رجلا ضعيفا حرَّاثا؛ فوقف به الخضر - عليه السلام! - وهو يحرث؛ فقال له: (إذا غلبت علي إيلياء، فأرفق بأولاد الأنبياء!) فقال له: (كيف يكون هذا، وأنا ضعيف، من غير بيت ملك؟) . فقال له: (يُقدر ذلك من قدَّر في عصاك ما قدَّر!) . فلما نظر إلى عصاه، إذا بها قد أورقت؛ ففزع. وغاب عنه الخضر. ووقع ذلك نبنفس إشبان؛ فلم يزل يصطنع الرجال حتى علاَ اسمه، وشاع ذكره، وتغلب على الأندلس؛ فخرج في السفن إلى أيلياء؛ فغنمها وهدمها، وقتل فيها مائة ألف من اليهود، وباع منهم مائة ألف؛ وانتقل رخامها إلى الأندلس. وكان ملكه نحو عشرين سنة؛ وبعد سنتين من ملكه، غزا إيلياء. ويقال إنَّ إشبان اسمه إصبهان، لأنه ولد بإصبهان؛ فسمى بها، والله أعلم. فعدة ملوكهم خمسة وخمسون ملكاً. ثم دخل القوط الأندلس، وقطع الله ملك رومة منها. وعدة ملوك القوطيين ستَّة عشر ملكا، آخرهم لذريق، الذي دخل عليه المسلمون. وجعلوا دار ملكهم طليطلة. ووجدت في بعض كتب العجم أنَّ آخر ملوك الأندلس كان يسمى وخشندش، ولم يكن في النصرانية أحكم منه ولا أحسن إصابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 لسنَّتهم؛ وعلى سنته أمضت النصرانية أحكامها، وهي الأربعة الأناجبل. التي يحلفون بها وينتهون إلى ما فيها. وقالوا إنَّ لذريق. الذي دخلت عليه العرب والبربر، وثب علي وخشندش هذا وقتله، وغلب على ملك الأندلس، ودانت له طليطلة وغيرها. وفي كتب العجم: إنَّ رذريق هذا لم يكن من بيت المملكة. وإنما كان زنيما؛ وكان من عمَّال الملك بقرطبة؛ وقتل وخشندش بعدما خالف عليه. فغير الحكم، وأفسد سنن الملك، وفتح البيت الذي كان فيه التابوت. وكان إذا مات الملك منهم، يكتب اسمه، وكم ولِيَ، ويوضع في ذلك البيت مع تاجه، ولا سبيل بعد عندهم لفتحه. فلما فتحه رذريق، أنكرت النصرانية ذلك عليه. وجعلوا له مثله ذهباً وفضة، ولا يفتحه؛ فلم يقبل ذلك منهم، وعزم على فتحه؛ ففتحه، ووجد في البيت تيجان الملوك وتابوتا فيه صور العرب متنكبة قسيها، وفي رؤوسها عمائمها، وعليها مكتوب: (إذا فتح هذا البيت، وأخرجت هذه الصور، دخل الأندلس قوم في صورهم، فغلبوا عليها!) فلما دخلت العرب والبربر مع طارق، والتقوا برذريق، أسلمته النصرانية، وانهزمت عنه حتى قتل. وكان دخول طارق بعد سنة من ولاية رذريق؛ فقتله طارق بقرطاجنة من كور الجزيرة؛ وافتتح البلاد حتى انتهى طارق إلى طليطلة؛ فوجد بها مائدة سليمان - على نبينا وعليه الصلاة والسلام! - ووجد فيها صور العرب والبربر على خيولهم، وهي الصور التي وضعت على القطر بقرطبة وقيل أيضاً إنها طلسمات، كانت العرب قد نصبتها على مساجد الأندلس؛ فنقلها عبد الرحمن بن معاوية إلى القطر بقرطبة. وهذا القدر كاف هنا من صفة الأندلس وذكر ملوكها الأولين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 ذكر دخول المسلمين إلى الأندلس وانتزاعها من أيدي الكفار أما دخول المسلمين لها، فذكر فيه أربعة أقوال: أحدها أنَّ الأندلس، أول من دخلها عبد الله بن نافع بن عبد القيس، وعبد الله بن الحصين الفهريان. من جهة البحر، في زمن عثمان - رضي الله عنه - قال الطبري: أتوها من برها وبحرها؛ ففتحها الله تعالى على المسلين هي وإفرنجة، وازداد في سلطان المسلمين مثل إفريقية؛ ولم يزل أمر الأندلس لإفريقية، حتى كان زمن هشام بن عبد الملك؛ فمنع البربر أرضهم، وبقى من في الأندلس على حالهم. هذا نصه. وإنَّ ذلك كان سنة 27 من الهجرة الكريمة. وثانيها أنَّ موسى بن نصير افتتحها عام 91. وهو قول الطَّبري أيضاً. فيظهر منه أنه جاز بنفسه، وتولى هذه الغزوة والفتح. وثالثها أنَّ طريقاً دخلها وفتحها في عام 91. ورابعها أن طارقا أوَّل من دخلها، سنة 91، ودخل موسى بعده سنة 92. فهذا الخلاف واضح في هؤلاء الأربعة مواضع: قيل إن أول من دخلها الفهريان؛ ثمّ ابن نصير؛ ثم طريف؛ ثم طرايق؛ فظهر من هذا إن الفهريين أثرا فيها في زمن عثمان - رضي الله عنه - وغنما من جهة البحر، وطريفا دخلها سنة 91 مغيراً ومخربا، ونسب فعله إلى موسى بن نصير، نسبة فعل المأمور إلى الآمر؛ فصدق عليه إضافته لموسى، فيكون قول الطبري صادقا؛ وصدَّق عليه أيضا قول الرازي بأخرى وأولى، وطارق دخلها دخول المستفتح لها، المكافح، سنة 92، وموسى دخلها بعد ذلك متمما للفتح. وقال عَرِيب: إن العلج يُليان، صاحب الجزيرة الخضراء، داخل موسى ابن نصير، صاحب إفريقية، عام 91، على يد طارق بن زياد عامل موسى على طنجة وما والاها؛ فراسل يليان موسى، يُزين عنده دخول الأندلس، ويُقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 له أمرها، وقيل: بل، سار إليه بنفسه في البحر، حتى اجتمع به في ذلك؛ فاستشار موسى الوليد بن عبد الملك، إمَّا مراسلة (وهو الأكثر الأظهر) وإما بأن نهض بنفسه إليه؛ فأشار الوليد بأن يختبرها بالسرايا، ولا يغرر بالمسلمين؛ فبعث موسى بن نصير عند ذلك رجلا من البربر، يسمّى طريفا ويكنى أبا زرعة، في مائة فارس وأربعمائة راجل؛ فجاز في أربعة مراكب، حتى نزل في ساحل البحر بالأندلس، فيما يحاذي طنجة، وهو المعروف اليوم بجزيرة طريف، سميت باسمه لنزوله هنالك؛ فأغار منها على ما يليها إلى جهة الجزيرة الخضراء، وأصاب سبيا ومالا كثيرا، ورجع سالما. وكانت إجازته في شهر رمضان من سنة 91. وقد اتفق الجميع فيما يظهر على أنَّ مُتولي كبر فتح الأندلس وجله ومعظمه طارق بن زياد. وقد اختلف في نسبه؛ فالأكثرون على أنه بربري من نفزة، وأنه مولى لموسى بن نصير، من سبى البربر. وقال آخرون إنه فارسي. قال صالح بن أبي صالح: هو طارق بن زياد بن عبد الله بن رفهو بن ورفجوم بن ينزغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزاو، وكأنهم أيضا انفقوا على أنَّ طارقا كان عاملا لموسى، قبل محاولة الأندلس، على المغرب الأقصى، وترك عنده رهائن برابر المغرب في سنة 86 من الهجرة. وقيل أيضا إن طارقا جاز إلى الأندلس برهائن البربر سنة 92. قال ابن القطان: فالأكثرون يقولون: كان مستقره بطنجة، ومنهم من يقول سجلماسة، وإن سلا وما وراءها من فاس وطنجة وسبتة كانت للنصارى؛ وكانت طنجة ليليان منهم؛ فكان طارق إذا نائبا عن موسى بن نصير. واختلفوا أيضاً هنا هل إنما سار إلى الأندلس عن أمر موسى، أو سار إليها لأمر دهمه، لم يمكنه إلا إنفاذه. والقول الأول هو المشهور المتفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 قال الرازي عن الواقدي: إنَّ الوليد بن عبد الملك استعمل موسى بن نصير على إفريقية، واستعمل موسى بن نصير طارق بن زياد على طنجة. وكان يليان مجاورا له بالجزيرة الخضراء التي تلي طنجة؛ فداخله طارق حتى صار معه إلى الرضى، ووعده يليان بإدخاله الأندلس هو وجنوده. وكان اجتمع لطارق اثنا عشر ألفا من البربر؛ فأجمع طارق على غزو الأندلس، بعد أن أخذ إذن ابن نصير مولاه في ذلك؛ فكان يليان يحتمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس: ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنون أن المراكب تختلف بالتجار. فحمل الناس فوجا بعد فوج إلى الأندلس. فلما لم يبق إلاَّ فوج واحد، ركب طارق ومن معه، حتى أجاز البحر إلى أصحابه وتخلف يليان بالجزيرة الخضراء، ليكون أطيب لنفسه ونفوس أصحابه. فنزل طارق جبلا من جبال الأندلس، يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة 92، كما تقدَّم ذكر ذلك. فسمّي ذلك الجبل باسمه إلى اليوم. وذكر عيسى بن محمد من ولد أبي المهاجر، في كتابه السبب في دخول طارق الأندلس، وهو أنَّ طارقا كان واليا لموسى على طنجة؛ وكان يوما جالسا، إذ نظر إلى مراكب قد طلعت في البحر؛ فلما أرست، خرجوا إليها، فنزعوا ارجلها، وأنزلوا أهلها؛ فقالوا: (إليكم جئنا عامدين!) وعظيمهم معهم يقال له يليان. فقال طارق: (ما جاء بك؟) فقال له (إنَّ أبي مات. فوثب على مملكتنا بطريق يقال له لذريق؛ فأهانني، وأذلَّني؛ وبلغني أمركم؛ فجئت إليكم أدعوكم إلى الأندلس، وأكون دليلا لكم!) فأجابه طارق إلى ذلك، واستقر اثني عشر ألفا من البربر. فحملهم يليان في المراكب فوجا بعد فوج، كما تقدم ذكره. وذكر غير هؤلاء أنَّ السبب في ذلك أنَّ طنجة وسبتة والخضراء وتلك النواحي كانت في مملكة صاحب الأندلس، على نحو ما كانت السواحل كلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 بالعدوة وما قرب منها الروم، يسكنونها، إذ كان البربر يرغبون عن سكنى المدن والقرى، وإنما بغيتهم سكنى الجبال والصحارى، إذ كانوا أصحاب إبل وسائم. وكان النصارى في صُلحهم. وكانت السنة في الأندلس في ملوك النصارى أن يستخدموا بني بطارقتهم وكبار رجالهم: فالرجال منهم يخدمون خارجا، والنساء جوار يخدمن داخلا. وها كذا سنتهم إلى اليوم في الرجال خاصة، يخدمون صبيانا يتأدبون بأدبهم. ويتعلمون سنتهم؛ فإذا أدركوا وكبروا، ألحقوا برجالهم وأهليهم. وكان ملك الأندلس من القوطيين يسمى رذريق، قد مدَّ يده إلى ابنة يليان، وكانت عنده؛ فاغتصبها نفسها؛ فأرسلت إلى أبيها، ودست إليه. فلما بلغه ذلك، أحفظه، وكتمه، وارتصد به الأيام، ونصب له الغوائل، حتى كان من دخول العرب المغرب ما كان. وأرسل رذريق إلى يليان في بزاة وطيور وغيرها، فأرسل إليه: (لأوردن عليم طيرا لم تسمع قطُّ بمثلها) ، وهو ينوي الغدر به؛ فحينئذ دعا طارقا إلى ما كان من جواز البحر. واختلفت الروايات في قتال طارق أهل الأندلس. فقيل إن رذريق زحف إلى طارق بجميع أهل القوة من أهل مملكته بنفسه، وهو على سرير ملكه على بغلين يحملانه، وعليه تاجه وجميع الحلية التي كانت تلبسها الملوك، حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه طارق. فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجالة، ليس فيهم راكب إلا القليل؛ فاقتتلوا قتالا شديدا حتى ظنوا أنه الفناء. ثم صرف الله وجوه أعدائه؛ فانهزموا؛ وأدرك رذريق؛ فقتل في وادي الطين. ومضى حتى دخل قرطبة. وفتح الله الأندلس على المسلمين. هكذا ذكر عيسى في كتابه. وذكر الواقدي أنهم اقتتلوا من حين طلعت الشمس إلى أن غربت؛ فلم تكن قطُّ بالمغرب مقتلة أعظم منها، بقيت عظامهم في المعركة دهراً طويلا لم تذهب. وذكر الواقدي أيضاً، عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 رجلا من أهل الأندلس يحدث سعيد بن المسيب ويذكر له قصتهم. فقال: (لم يرفع المسلمون السيف عنهم ثلاثة أيام، حتى أوطئوهم غلبة.) ثم ارتحل المسلمون إلى قرطبة، وهي مدينة الأندلس التي كان بها رذريق؛ وبينها وبين الساحل مسيرة خمسة أيام. وكان سلطان رذريق إلى ازيونة ثغر الأندلس، وهي إذ ذاك أقصى مملكة الأندلس. مما يلي إفرنجة؛ ومن أرثونة إلى قرطبة ألف ميل. وكان الذي أصابه طارق ومن معه من السَّبي، في أوَّل فتح لهم، عشرة آلاف رأس؛ وكان سهمانهم من الذهب والفضة لكل واحد من الرجال مائتا دينار وخمسون ديناراً. وذكر الرازي أنه، لما بلغ رذريق خبر طارق ومن معه، ومكانهم الذي هم فيه، بعض إليهم الجيوش جيشاً بعد جيش؛ وكان قد قوَّد على أحدهم ابن أخت له يسمى بنج، وكان أكبر رجاله؛ فكانوا عند كل لقاء يهزمون ويقتلون؛ وقتل بنج، وهزم عسكره؛ فقوى المسلمون، وركب الرجاَّلة الخيل، وانتشروا بناحيتهم التي جازوا بها؛ ثم زحف رذريق إليهم بجميع عساكره ورجاله وأهل مملكته، وهو على سرير ملكه كما تقدَّم. فلما انتهى إلى الموضع الذي فيه طارق، خرج إليه؛ فاقتتلوا على وادي لكُّه من كورة شذونة يومهم ذلك، وهو يوم الأحد لليلتين بقيتا من رمضان، من حين بزغت الشمس إلى أن توارت بالحجاب؛ ثمَّ أصبحوا يوم الاثنين على الحرب، حتَّى إلى المساء. وتمادت أيامهم كذلك إلى يوم الأحد الثاني؛ فتمت ثمانية أيَّام. وقتل الله رذريق ومن معه، وفتح للمسلمين الأندلس، ولم يعرف لرذريق موضع، ولا وجدت له جثة، وإنما وجد له خف مفضض؛ فقالوا إنه غريق، وقالوا إنه قتل؛ والله أعلم. ثم تحرك طارق إلى مضيق الجزيرة؛ ثم نهض إلى مدينة إسنجة؛ فوجد فيها فلَّ العسكر؛ فقاتلوه فتالا شديداً، حتى كثر القتل والجراح في المسلمين؛ ثمَّ نصرهم الله، وقطع دعوة العجمة، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين، إذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 تُقحم عليهم البلاد؛ فهرب أكثرهم إلى مدينة طليطلة، وتركوا مدائن الأندلس وراءهم قليلة الأهل. وقدم يليان على طارق من الخضراء مشتقره؛ فقال له: (قد فتحت الأندلس؛ فخذ من أصحابي أدلاء، ففرق معهم جيوشك وسر أنت إلى مدينة طليطلة!) ففرَّق جيوشه من إسنجة. ذكر ما افتتح طارق بن زياد من بلاد الأندلس سنة 92 من الهجرة أوَّل فتوحاته جبل الفتح المسمى بجبل طارق، وذلك لما جار المسلمون ونزلوا في المرسى، وهم عرب وبربر، حاولوا الطلوع في الجبل، وهو حجارة حرش؛ فوطئوا الدواب بالبراذع وطلعوا عليها؛ فلما حصلوا في الجبل، بنوا سورا على أنفسهم يسمى سور العرب. وقيل إنهم فتحوا من حينهم حصن قرطاجنة، وكان في سفح هذا الجبل من نظر الجزيرة الخضراء. فلما بلغ ذلك ملوك الأندلس، نفروا إلى رذريق، وكان جباراً طاغية؛ فاستقر النصرانية. فقيل إنه بعث إلى المسلمين الجيش بعثا بعد بعث؛ فكانوا عند كل لقاء يهزمون ويقتلون. فقوى المسلمون، وركب رجالهم، وانتشروا في البلاد. وبعد هذا زاحفهم رذريق بنفسه. وقال آخرون بل زاحفهم لأول مرة بنفسه. ثم اختلفوا أيضا كم أيام المزاحفة التي أعقبها الفتج وانهزم آخرها رذريق؛ فقيل: يوم كامل، وقيل: يومان، وقيل: ثلاثة، وقيل: ثمانية؛ واختلفوا هل ظفر برأس رذريق أم لا؛ فقيل: ظفر به، وقيل: مات غريقا. فتح قُرطُبة بعث طارق مغيثاً، مولى عبد الملك بن مروان، من لإسنجة إلى قرطبة في سبعمائة فارس، وهي من مدنهم العظام؛ ولم يكن معه راجل إذ كان الرجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 قد ركبوا. فلما بلغ مغيث شقندة وقرية طرسيل، وهي على ثلاثة أميال من قرطبة، بعث الأدلاء كي يلقون من عنده خبر؛ فألقوا راعي غنم، فأتوا به إلى مغيث، وهو في الغيضة؛ فسأله عن قرطبة؛ فقال له: (انتقل. عنها عظماء أهلها، ولم يبق فيها إلاَّ بطريقها في أربعمائة فارس من حماتهم مع ضعفاء أهلها.) ثم سأله عن حصانة سورها؛ فأخبره أنه حصين، إلا أن فيه ثغرة فوق باب الصورة، وهو باب القنطرة، ووصف لهم الثغرة. فلما جنَّ الليل، تحرك مغيث بمن معه، وعبروا النهر، وقابلوا السور، وراموا التعلق به؛ فتعذر عليهم؛ فرجعوا إلى الراعي، وأتوا به معهم؛ فدلهم على الثغرة؛ فراموا التعلق بها؛ فصعب عليهم، حتى صعد رجل من المسلمين في دروتها، ونزع مغيث عمامته، فناوله طرفها، وارتقوا بها حتى كثروا بالسور؛ ثم جاء مغيث إلى باب القنطرة، وهي يومئذ مهدومة، وأمر أصحابه بالحوم على أحراس السور، فكسروا الأقفال، ودخل مغيث بمن معه. فلما بلغ الملك الذي بها دخولهم. خرج في كماة أصحابه، وهم نحو الأربعمائة؛ فدخلوا كنيسة بغربي المدينة؛ فتحصنوا فيها؛ فحاصرهم مغيث، وكتب إلى طارق بالفتح. وتمادى على حصار العلوج في الكنيسة المذكورة ثلاثة أشهر. فبينا هو ذات يوم جالس إذ قيل له: (خرج العلج - يعني الملك - هاربا وحده، وهو ينوي التحصين في جبل قرطبة، ليلحق به أصحابه!) فأتبعه مغيث وحده دون أحد من أصحابه؛ فلما برز له وأبصره هاربا، وتحته فرس أصفر، وهو يتبعه، خرج من طريقه؛ فأتى خندقا؛ فوثب به الفرس، وسقط في الخندق، واندقت عنقه؛ فأقبل مغيث، والعلج جالس على ترسه مستأسرا؛ فأسره. ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره، لأن منهم من عقد لنفسه أمانا، ومنهم من هرب إلى أقاصي البلاد مثل حليفية وغيرها. ورجع مغيث إلى بقية العلوج؛ فاستنزلهم أسراً، وضربت أعناقهم صبراً؛ وسميت كنيسة الأسرى. وأبقى العلج صاحب قرطبة، ليقدم به على أمير المؤمنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فتح مالقة بعث إليها طارق من إسنجة جيشاً، وقوَّد عليه قائدا، وجعل معه ودليلا من رجال يليان؛ فاستفتحها وجميع أعمال ربه. ولجأ علوجها إلى جبال ربُّه الشامخة المنيعة. فتح غرناطة قاعدة البيزة بعث إليها طارق الجيش من إسنجة؛ فحاصرها حتى افتتحها فتح مرسية ثم تقدم هذا الجيش بعد فتح إغرناطة إلى تدمير، وهي مرسية، وإنما سميت تُدمير باسم العلج صاحبها؛ وكان اسمها أوربولة، وهي كانت مدينتها القديمة. فقاتل العلج تدمير المسلمين قتالا شديداً؛ وكان في قوّضة. ثم انهزم في فحص لا يسترهم شيء؛ فوضع المسلمين فيهم السلاح حتى أفنوهم؛ ولجأ من بقى منهم إلى مدينة أربولة. وكان تدمير بصيرا بأبواب الحرب؛ فلما رأى قلة من معه من أصحابه، أمر النساء؛ فنشرن شعورهن، وأعطاهن القصب، ووقفن على سور المدينة، ووقف معهن بقية الرجال. ثمَّ قصد بنفسه إلى جيش المسلمين كهيئة الرسول، واستأمن؛ فأمن وانعقد له الصلح ولأهل بلده؛ فافتتحت مدينة تدمير صلحا. فلما انعقد الصلح وتمَّ، أبرز لهم نفسه وقال: (أنا تدمير صاحب المدينة.) ثمّ أدخلهم البلد؛ فلم يروا فيه أحداً عنده مدفع؛ فندم المسلمون وأمضوا على ما أعطوه من الأمان؛ وكتبوا بالفتح إلى الأمير طارق؛ وأقام بتدمير رجال من أهل العسكر، وصاروا مع أهلها؛ وتقدّم معظم الجيش إلى طليطلة؛ فلحق بطارق، وهو عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فتح طُليطُلة وألقى طارق طليطلة خالية، ليس فيها إلاَّ اليهود في قوم قلة، وفرّ علجها مع أصحابه، ولحق بمدينة خلف الجبل. وتبعهم طارق، بعد أن ضمّ اليهود، وخلى معهم بعض رجالة وأصحابه بطليطلة؛ فسلك إلى وادي الحجارة؛ ثمّ استقبل الجبل؛ فقطعه من فج يسمى به إلى اليوم؛ فبلغ مدينة خلف الجبل، تسمى مدينة المائدة. ثمّ فتح مدينة المائدة؛ فوجد فيها مائدة سليمان بن داود - عليهما السلام! وكانت من زبرجدة خضراء، حافاتها وأرجلها منها؛ وأصاب بها مالا وحليا كثيراً؛ ثم انصرف إلى طليطلة. هكذا آثر الناس هذا كله، على أنَّ طارقا صنعه. وقال آخرون: بل، أقام طارق حيث كانت الوقعة، وجاز إليه موسى. وقيل: بل، وجده بقرطبة. وفي سنة 92 من الهجرة، دخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان، بعد دخول طارق بسنة، ومضى غازيا فيها، مفتتحا لحصونها هذه السنة وسنة أربع وبعض سنة خمس؛ فافتتح جميع حصونها، وهزم جميع من لقيه من أمرائها؛ فلم يلق كيداً من أحد، ولا انهزمت له راية، حتى انتهى إلى مدينة من مدن إفرنجة، يقال لها لوطون، وقد ملك ما سواها ودونها إلى أقصى برسلونة. فلما انتهى إلى مدينة لوطون، ضاق المسلمون، وخافوا أن يحاط بهم؛ فكلموه في ذلك؛ فقفل بهم راجعا. قال مُؤلِف (كتاب بهجة النفس) : ورأيت في بعض كتب العجم أن المسلمين انتهوا إلى مدينة لوطون قاعدة الإفرنج، ولم يبق لأهل الإسلام شيء لم يتغلبوا عليه مما وراء ذلك، إلاَّ جبال قرقوشة وجبال بنبلونة وصخرة حليقية؛ فأما الصخرة، فلم يبق فيها مع ملك حليقية سوى ثلاثمائة رجل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 تلفوا بالموت والجوع والحصار؛ فلما لم يبق منهم إلا ثلاثمائة رجل، ورأى ذلك المرتبون معهم على حصارهم، استقلوهم؛ فتركوهم؛ فلم يزالوا يزدادون حتى كانوا سبب إخراج المسلمين من حليقية، وهي قشتيلة. وأما قرقوشة، فذكر عبد الملك ابن حبيب أنها افتتحت في زمن هشام بن عبد الملك صلحا. وكان الافتتاح كما ذكرته في بقية سنة 92 وبعض سنة 93 من الهجرة. وكان السبب في جواز موسى بن نصير إلى الأندلس أنه أغرى بطارق عبده. وذكر له ما أفاء الله عليه؛ فكتب له موسى بأقبح السبّ، وأمره ألاَّ يتجاوز قرطبة، حتى يقدم عليه. قال ابن القطان: قيل: إنما حمله على الجواز للأندلس تعدّى طارق ما أمره به ألاَّ يتعدَى قرطبة، على قول، أو موضع هزيمة لذريق، على قول. وقيل أيضاً: إنما حمله على ذلك الحسد لطارق على ما أصاب من الفتوح والغنائم. وقيل أيضاً: إنما جاز باستدعاء طارق اياه؛ فكان جوازه في رمضان، كما تقدّم. قال الرازي: وحدّث الواقدي عن موسى بن عليّ بن رباح، عن أبيه، قال: خرج موسى بن نصير في عشرة آلاف من إفريقية، مغضبا على طارق، وتقدّم يريد الأندلس؛ فدخلها ونزل الجزيرة. فقيل له: (أسلك طريق طارق!) فقال: (لا، والله، أسلك طريقه!) فقال له الأدلاء من الأعلاج: (نحن ندلك على طريق هي أشرف من طريقه، وعلى مدائن هي أعظم خطرا من مدائنه، لم تفتح، يفتحها الله على يديك إن شاء الله!) فامتلأ موسى سرورا؛ فساروا به إلى مدينة شذونة؛ فافتتحها عنوة؛ وهي أوّل فتوحاته. فتح قَرْمُونَة ونهض موسى مع أدلائه من شذونة إلى قرمونة؛ ولم يكن بالأندلس أحصن منها ولا أبعد من أن تنال بحصار أو قتال. فسأل موسى عن أمرها؛ فقيل له: (لا تؤخذ إلا باللطف والحيل!) فقدَّم إليها علوجا كانوا من أصحاب يليان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وغيرهم؛ فأتوهم في هيئة المنهزمين، ومعهم السلاح؛ فأدخلوهم المدينة؛ فلما علم موسى بدخولهم، بعث الخيل إليهم ليلا؛ ففتحوا لهم باب المدينة، وهو الباب المعروف بباب قرطبة؛ فوثبوا على الأحراس؛ فقتلوهم. ودخل المسلمون المدينة عنوة. فتح إشبيلية لما فتح موسى قرمونة، تقدم إلى إشبيلية، وهي من أعظم قواعد الأندلس شأنا، وأتقنها بنيانا، وأكثرها آثارا. وكانت دار ملك روم رومة قبل غلبة القوطيين على الأندلس؛ فلما غلب القوطيون عليها، استوطنوا طليطلة، وأقروا بها ملكهم؛ وبقى بمدينة إشبيلية علماء أهل رومة وكُتابهم ورؤساؤهم. فاحتلَّ بها موسى بن نصير، وحاصرها أشهرا؛ ففتحها الله عليه، وهرب منها علوجها إلى مدينة باجة. فتح ماردة وتقدم موسى إلى مدينة ماردة؛ وكانت دار ملك في سالف الأيام. وكانت فيها آثار عجيبة، وقنطرة، وقصور، وكنائس، تفوق وصف الناظرين؛ وهي إحدى القواعد الأربع بالأندلس التي ابتناها أكتبيان قيصر. وهي قرطبة، وإشبيلية، وماردة، وطليطلة. فخرج أهلها إلى حربه نحو الميل منها؛ فحاربهم حتى صرفهم إلى المدينة. فلما انجلت الحرب، وكفَّ عن القتال، طاف موسى بالمدينة؛ فرأى نقبا كان لمقاطع الصخر؛ فكمن فيه الرجال ليلا. فلما أصبح، زحف إليهم؛ فخرجوا كخروجهم في اليوم قبله؛ فخرج عليهم الكمين وزحف إليهم المسلمون؛ فركبوهم؛ فقتلوا أبرح قتل، ولجأ من بقى منهم إلى المدينة؛ فحاصرهم أشهراً، حتى عمل دبابة؛ فدب المسلمون تحتها إلى برج من أبراجها؛ فنقبوا صخرة؛ فلما نزعوها، أفضوا إلى صخرة صماء نبت المعاول عنها ويئسوا منها؛ فبينا هم يضربون عليها، إذ استثار العلوج عليهم؛ فاستشهد المسلمون تحت الدبابة. فسمى ذلك البرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 برج الشهداء، وبه يعرف إلى اليوم؛ فحميت عند ذلك نفوس العلوج، وثابت إليهم أنفسهم. ثم خرجت إليهم رسل، وتعرضت للصلح؛ فساروا إلى موسى؛ فرأوا رجلا أبيض الرأس واللحية؛ فكلموه بما لم يوافقهم عليه ولم يرضه؛ فرجعوا عنه، ولم يعقدوا شيئاً؛ ثم عاودوه يوما آخر؛ فألفوه قد حمر رأسه ولحيته بالحناء؛ فعجبوا منه، وراعهم ما رأوه؛ ولم يتم لهم أمر؛ ثم عاودوا إليه في اليوم الثالث، وذلك يوم عيد الفطر؛ فألقوه قد سود رأسه ولحيته؛ فرجعوا إلى المدينة، وقالوا لمن فيها: (ويحكم! إنها تقاتلون أنبياء يتشببون بعد المشيب! قد عاد ملكهم حدثا بعد أن كان شيخا!) فقالوا!: (اذهبوا إليه وأعطوه ما سألكم!) فوصلوا إليه، وصالحوه، وانعقد أمرهم على أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الغائبين بجليقية وأموال الكنائس، ذلك كله للمسلمين. ثم فتحوا له الباب من يومهم ذلك، وهو مستهل شوال من سنة 94 من الهجرة. فتح إشبيلية ثانية وذلك، لمّا اشتغل موسى بن نصير بحصار ماردة، ثار عجم إشبيلية، وارتدوا، وقاموا على من كان فيها من المسلمين. وتجالب فلهم إليهم من مدينتي ليلة وباجة؛ فقتلوا من المسلمين نحو ثمانين رجلا. وبلغ الخبر بذلك إلى موسى بن نصير؛ فلما استتم فتح ماردة، بعض ابنه عبد العزيز بجيش إلى إشبيلية؛ فافتتحها، وقتل أهلها. فتح لبلة لما استتم فتح إشبيلية، تقدم عبد العزيز بن موسى بجيشه إلى لبلة؛ فافتتحها، وانصرف إلى إشبيلية؛ فدخلها أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ذكر اجتماع الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير مع مولاه طارق بن زياد على طليطلة اتفق الأكثرون على أن التقاءهما كان على طليطلة. وذكر الطبري أنه كان على قرطبة. وذكر الرازي أن طارقا خرج من طليطلة لما بلغه مسيره إليه، فلقبه بمقربة من طلبيرة. وكان موسى، لما فرغ من أمر ماردة، نهض يريد طليطلة؛ فخرج إليه طارق معظما له، ومبادرا لطاعته؛ فوبخه موسى، وغضب عليه. وقيل إنه وضع السوط على رأسه؛ وقيل إنه ضربه أسواطا كثيرة وحلق رأسه. ثم سار به إلى طليطلة، وقال له: (ايتني بما أصبت وبالمائدة!) فأتاه بها، وقد اقتلع رجلا من أرجلها؛ فقال له: (أين الرجل؟) فقال له: (هكذا وجدتها!) فأمر موسى؛ فعمل لها رجل من ذهب، وأدخلها في سفط. واختلفت الروايات لم فعل موسى مع طارق ما فعل من السخط عليه؛ فقيل: إنما فعل ذلك بغيا ونفاسة عليه؛ واستدلوا على ذلك بادعائه خصال طارق وأخذ المائدة عند الخليفة. ومنهم من عذره وقال: إنما فعل ذلك به لتقدمه دون رأيه، وهو مولاه، وعلى توغله بالمسلمين، وتغريره بهم. واتصل بهذا في كتاب الرازي أن الوليد بعث إلى موسى رسولا؛ فأخذ بعنان دابته، وأخرجه من الأ، دلس، ومعه طارق ومغيث. وخلف ابنه على الأندلس، وأبقى معه وزيرا حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع. ولما التقى موسى بطارق، وجرى له معه ما جرى، تقدم من طليطلة إلى سرقسطة؛ فافتتحها، وافتتح ما حولها من الحصون والمعاقل. وذكروا أن موسى خرج من طليطلة غازيا، بفتح المدائن، حتى دانت له الأندلس. وجاءه أهل حليقية يطلبون الصلح؛ فصالحهم. وفتح بلاد البشكنش، وأوغل في بلادهم حتى أتى قوما كالبهائم. وغزا بلاد الإفرنج. ثم مال حتى انتهى إلى سرقسطة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 فأصاب فيها ما لا يعرف قدره. وبين سرقسطة وقرطبة مسيرة نحو شهر. وافتتح هنالك حصونا كثيرة. وكانت أساقفة الروم تجد صفة موسى في كتبهم؛ فإذا رأوه، قالوا: (هو، والله!) فأعطوه المعقل. ولم يهزم له جمع قط. وقال يوسف بن هشام: انتهى موسى إلى صنم؛ فوجد في صدره مكتوبا: (يا بني إسماعيل! فإلى هنا منتهاكم! وإن سألتم إلى ماذا ترجعون، أخبرناكم: ترجعون إلى اختلاف ذات بينكم، حتى يضرب بعضكم رقاب بعض، وقد فعلتم.) قال الليث: ولقد جاء رجل إلى موسى بن نصير؛ فقال له: (ابعث معي أدلك على كنز!) فبعث معه رجالا؛ فوقف بهم على موضع؛ فقال: (اكشفوا عن هذا!) فكشفوا؛ فإذا حوض مترع من الياقوت والجوهر والزبرجد ما لم تر عين مثله قط؛ فلما رأوا ذلك، بهتوا وأرسلوا إلى موسى ليحضر. ذكر ما أفاء الله على فاتحي الأندلس من ذلك مائدة سليمان - عليه السلام! - قيل إنها كانت من ذهب وفضة خليطين، مطوَّقة بثلاثة أطواق: طوق لؤلؤ، وطوق ياقوت، وطوق زبرجد، وإنها حملت على بغل عظيم لا بغل أقوى منه؛ فما بلغ بها مرحلة حتى تفتحت قوائمه؛ ومنها ياقوته ذي القرنين وجدها بماردة؛ ومنها البيتان اللتان فتح في طليطلة، وجد في إحداهما أربعة وعشرون تاجا عدد ملوكهم، لا يدري ما قيمة تاج منها، وعلى كل تاج اسم صاحبه ومبلغ سنه؛ وفيه وجدت المائدة؛ وكان السبب في حصولها بطليطلة أن ملك الروم، لما زحف إلى بيت المقدس ليقاتل بني إسرائيل، أخذ بلادهم وسبى ما فيها، ووجد فيها مكارم الأنبياء - عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 السلام! - منها عصا آدم، والتابوت الذي فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وعصا موسى ونعلاه، ومائدة سليمان، وهي من ذهب، قد كلل أعلاها وأسفلها بالدر والياقوت. فحمل جميع ذلك إلى رومة. فلما مرّ ملك الروم بمصر، رغب إليه أهلها أن يجعلها عندهم يتبركون بها، وقالوا له: (رومة تبعد عنا!) وكانوا قد أمدوه، وقاتلوا معه بني إسرائيل؛ فطلبوا منه شيئاً من تلك المكارم؛ فدفع لهم المائدة؛ فحملتها الأساقفة إلى الإسكندرية. فلما غزا عمرو بن العاصي بمصر، هربوا بها إلى مدينة إطرابلس. فلما نزل عمرو بن العاصي برقة، هربوا بها إلى مدينة قرطاجنة. فلما دخل المسلمون طنجة، هربوا بها إلى مدينة طليطلة، ولم يكن لهم أمتع منها؛ ولا وجدوا حيث يهربون بها بعدها. قال أبو شبة الصدفي: لقد نظرت إلى رجلين يحملان طنفسة منسوجة بالذهب والفضة واللؤلؤ؛ فلما ثقلت عليهما، أنزلاها؛ ثم حملا عليها الفأس؛ فقطعاها بنصفين؛ فأخذا نصفا، وتركا نصفا. فلقد رأيت الناس يمرون على نصفها؛ فلا يلتفتون إليه اشتغالا بما في أيديهم مما هو أرفع منها. وحدّث عبد الحميد عن أبيه، قال: قدمت الأندلس امرأة عطارة؛ فخرجت منها خمسمائة رأس من السبي؛ فأما ما خرجت به من الذهب والفضة والجوهر والآنية، فذلك ما لا يحاط بعلمه. قال: وقدم علينا شيخ من المدينة، جيد التجربة واللسان؛ فجعل يحدثنا عن الأندلس؛ فقلت له: (كيف علمت هذا؟) قال: (لأني، والله! كنت ممن اشترى بها بحبات فلفل أقل من القبضة ما يساوي عددا) . وأقام موسى بالأندلس سنتين وشهرا؛ ثم رجع إلى إفريقية، وتحته بغل أشهب يسمى الكوكب. ولما انصرف عن قرطبة متوجها نحو إفريقية، حول وجهه إلى قرطبة؛ فقال: (واها لك! يا قرطبة! ما أطيب تربتك، وأشرف بقعتك، وأعجب أمرك! ولعنك الله بعد الثلاثمائة سنة!) ثم مضى حتى وصل الخضراء، وأمر بالعجل؛ فحملت الذهب والفضة والجوهر والمتاع وأصناف متاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الأندلس. وكان دخول موسى الأندلس سنة 92، وهو ابن ستين سنة، وأقام واليا بإفريقية ست عشرة سنة، وقفل منها سنة 95. أخبار الأمير أبي عبد الرحمن موسى بن نصير رحمه الله تعالى لما دخل موسى إفريقية، وجدها قد قحطت قحطا شديداً؛ فأمر الناس بالصيام والخروج إلى المصلَّى، الرجال على حدة، والنساء على حدة، والصبيان على حدة، وكذلك جميع البهائم مع أصنافها. فاجتمعوا في موضع واحد، ودعا الله تعالى، ودعا الناس معه، وبكى، وبكوا، وبكى الصبيان والنساء، وصاحت البقر والعجل والغنم والخرفان وأهل الذمة. فأقاموا كذلك حتى انتصف النهار. ثم خطب الناس؛ فلم يلبث أن سقوا سقا شافيا. وخرج موسى من إفريقية، واستخلف عليها عبد الله ابنه. وحمل موسى معه من إفريقية من وجوه البربر مائة رجل وعشرين ملكا من ملوك الروم؛ فخرجوا معه بأصناف ما كان في كل بلد من طرائفها وذهبها وفضتها وجوهرها وياقوتها، ما لا يحصى ولا سمع بمثله، حتى انتهى إلى مصر؛ فلم يبق بها شريف، ولا فقيه، ولا عظيم، إلا ودفع إلى سليمان بن عبد الملك عشرة آلاف دينار. ثم خرج من مصر؛ فتوجه إلى فلسطين؛ فتلقاه آل روح بن زنباع الجذامي؛ فنزل بهم؛ فنحروا خمسين جملا. ثم خرج من عندهم، وترك بعض أصحابه وصغار ولده عندهم، وأفرغ على آل روح بن زنباع كثيرا من الكسي والوصائف والوصفات، وغير ذلك من الأموال. وكان موسى، قبل خروجه من المغرب، قدم عليه ولده مروان من السوس الأقصى، وهو يجر الدنيا جرا. ولما وصل رسوله إلى أبيه، يعلمه به وبما يأتي به من السبي، خرج إليه في وجوه الناس يتلقاه؛ فلما التقيا، قال مروان بن موسى: (مروا لكل من يلقاني مع أبي بوصيفة وصيفة!) فلما أمر بذلك، سمع موسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 صياح الناس وضجيجهم، ورأى حركاتهم؛ فقال: (ما هذا؟) فقالوا: (ابنك مروان أمر للناس بوصيفة وصيفة!) فقال لهم: (مروا لهم انتم بوصيف وصيف!) فانصرفوا الناس كلهم، ومع كل واحد منهم وصيف ووصيفة. وكان الوليد بن عبد الملك مرض مرضه الذي مات منه. وكتب إلى موسى يأمره بشد السير إليه ليدركه قبل الموت. وكتب إليه سليمان أن يبطؤ في سيره. فعمل موسى بكتاب الوليد، ولم يعمل بكتاب سليمان، وجدّ في شيره. فغضب عليه سليمان، وقال: (والله! لئن ظفرت به، لأصلبنه!) وكان سبب أمر الوليد لموسى بالعجلة ليحرم سليمان ما جاء به؛ وكان أمر سليمان له بترك الاستعجال ليحرم الوليد وولده ما جاء به. فقدم موسى قبل موت الوليد وأتاه بالطرائف من الدُّر والياقوت والزبرجد، والوصفاء والوصائف، ومائدة سليمان، والتيجان المكللة لدُّر والياقوت. فاستغرب الوليد ذلك، وأمر بمائدة سليمان؛ فكسرت، وعمد إلى أرفع ما كان فيها من الجوهر وكلّ ما كان في التيجان وغيرها؛ فجعله في بيت المال. ثم لم يلبث أن مات وأفضت الخلافة إلى سليمان أخيه؛ فبعث في موسى؛ فعنَّفه بلسانه، وقال: (والله لأفلنَّ غربك! ولأفرقن جمعك! ولأصغرن من قدرك!) فقال موسى: (أما قولك تفل من غربي وتخفض من قدري، فإن ذلك بيد الله، وإلى الله لا إليك! وبه أستعين عليك!) فأمر به سليمان؛ فوقف في يوم صائف شديد الحر؛ وكان موسى رجلا ضخما، بادنا، ذا نسمة؛ فوقف حتى سقط مغشيا عليه؛ فنظر شليمان إلى عمر ابن عبد العزيز - رضي الله عنه -؛ فقال له: (يا أبا حفص! ما أراني إلا وقد بررت في يميني وخرجت عنه!) فقال عمر: (أجل! يا أمير المؤمنين!) فقال سليمان: (من يضمه إليه؟) فقام يزيد بن المهلب؛ فقال (أنا يا أمير المؤمنين أضمه إليَّ!) قال: (فضمه إليك ولا تضيق عليه!) فانصرف يزيد، وقدَّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 إليه دابَّة؛ فركبها موسى، وأقام عنده أياما حتى حسن ما بينه وبين سليمان وافتدى منه موسى بمال كثير، قيل: ألف ألف دينار، وقيل غير ذاك. ثم إن يزيد بن المهلب سهر ليلة عند موسى؛ فقال له: (يا أبا عبد الرحمن! في كم كنت تعتدُّ من مواليك وأهل بيتك؟) فقال له موسى: (في كثير!) فقال يزيد: (يكونون ألفا؟) فقال له موسى: (ألف وألف وألف إلى منقطع النفس!) فقال له يزيد: (كنت على ما وصفت، وألقيت بيدك إلى التهلكة! أفلا أقمت في قرار عزّك وموضع سلطانك، وامتنعت بما قدمت به؟ فإن أعطيت الرضى، وإلاَّ كنت على عزك وسلطانك!) فقال له: (والله! لو أردت ذلك، لما نالوا من أطرافي طرفا! ولكنّي آثرت الله ورسوله! ولم أر الخروج عن الطاعة والجماعة!) وذكر أنَّ سليمان قال لموسى: (ما الذي كنت تفزع إليه عند حروبك ومباشرة عدوك؟) قال: (كنت أفزع إلى التضرُّع والدعاء والصبر عند اللقاء!) قال: (فأيُّ الخيل رأيتها في تلك البلاد أسبق؟) قال: (الشقر!) قال: (فأيُّ الأمم كانوا أشد قتالا؟) قال: (هم أكثر من أن أصفهم!) قال: أخبرني عن الروم!) قال: (أسد في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء في مواكبهم، إن رأوا فرصة انتهزوها، وإن رأوا غلبة، فأوعال تذهب في الجبال، لا يرون الهزيمة عاراً.) قال: (فأخبرني عن البربرا) قال: (هم أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبرا وفروسية، غير أنهم أغدر الناس، لا وفاء لهم ولا عهدا!) قال: (فأخبرني عن الأندلس!) قال: (ملوك مترفون، وفرسان لا يخيبون.) قال: فأخبرني عن الإفرنج!) قال: (هناك العدد والعدة، والجلد والشدة، والبأس والنجدة!) قال: (فأخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم: أكانت لك أو عليك؟) فقال: (أما هذا، فوالله! ما هزمت لي راية قط، ولا بدد جمعي، ولا نكب المسلمون معي، منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين!) فضحك سليمان، وعجب من قوله. ثم دعا سليمان بطست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 من ذهب؛ فجعل يردد بصره فيه؛ فقال له موسى: (إنك لتعجب من غير عجب! واله! ما أحسب أن فيه عشرة آلاف دينارّ والله! لقد بعثت إلى أخيك الوليد بشنور من زبرجد أخضر، كان يصب فيه اللبن، فيخضر وترى فيه الشعرة البيضاء؛ ولقد قوم بمائة ألف مثقال، وإنه لمن أدنى ما بعثت به إليه! ولقد أصبت كذا وأصبت كذا!) وجعل يعدد ما أصاب من الدُّر والياقوت والزبرجد، حتى بهت سليمان من قوله. وخرج سليمان يوما يتصيد، ومعه موسى بن نصير؛ فمرَّ في منية له بذود غنم يكون فيها نحو ألف شاة؛ فالتقت إلى موسى، وقال له: (هل كان لك مثل هذا؟؟ فضحك موسى وقال: (والله! لقد رأيت لأدنى موالي أضعاف هذا! فقال سليمان: (لأدنى مواليك؟) فقال: (نعم والله! نعم والله!) ورددَّها مرارار؛ ثم قال: (وما هذا فيما أفاء الله على! لقد كانت الألف شاة تباع بعشرة دراهم، كلُّ مائة بدرهم! ولقد كان الناس يمرون بالبقر والغنم؛ فلا يلتفتون إليها! ولقد رأيت الذود من الإبل بدينار! ولقد رأيت العلج الفاره وامرأته وأولاده يباعون بخمسين درهما!) قال: فعجب سليمان. ثمّ حجَّ سليمان، وخرج موسى معه؛ وكان موسى من أعلم الناس بالنجوم. فلما احتل بالمدينة، قال لبعض إخوانه: (ليموتنَّ بعد غد رجل قد ملأ ذكره المشرق والمغرب!) فظنَّ الرجل أنه الخليفة؛ فمات موسى في اليوم الثاني. وصلَّى عليه مسلمة بن عبد الملك. وكان مولد موسى سنة 19، في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قيل إنه من لخم؛ وقيل: من بكر بن وائل. وقال ابن بشكوال في (كتاب الصلة) له: إنه موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد. وقال غيره: كان نصير ولاه معاوية بن أبي سفيان على خيله؛ فلم يقاتل معه علياّ؛ فقال له: (ما منعك من الخروج معي على عليّ؟ وبدى عليك، ولم تكافئني عليها؟) فقال: (لم يمكني أن أشكرك بكفر من هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أولى بشكري!) فقال: (ومن هو؟) فقال: (الله - عز وجل!) قال: فأطرق معاوية مليا؛ ثم قال: (أستغفر الله!) وعفا عنه. وقال الليث بن سعد: لما قدم موسى بن نصير إفريقية حين الفتح، أخرج ابنا له يسمى عبد الله إلى بعض نواحيها؛ فأتاه بمائة ألف رأس من السبي، أكثرهن وجوه كالبدور؛ ثم وجه ابنا له يسمى مروان إلى ناحية أخرى؛ فأتاه كذلك؛ ثم خرج هو بنفسه؛ فأتى بنحو ذلك. قال الليث: فبلغ الخمس ستين ألفا. قال: فلم يسمع بمثل سبايا موسى في الإسلام. وفي سنة 95، كان خروج موسى من الأندلس إلى الشأم، واستخلف ابنه عبد العزيز عليها. ولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز، وترك معه حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع وزيرا له، ومعينا. وأقام معهما بالأندلس من أراد سكناها. فلما وصل موسى إلى إشبيلية، أقرَّ فيها ولده؛ فارتضاها قاعدة ملكه؛ وتزوج بعد خروج أبيه أمَّ عاصم امرأة رذريق (واسمها أيله) وسكن معها بإشبيلية. فلما دخل بها، قالت له: (إن الملوك، إذا لم يتوجوا، فلا ملك لهم! فلو عملت لك مما بقى عندي من الجوهر والذهب تاجا؟ فقال لها: (ليس ذلك في ديننا.) فقالت له: (ومن أين يعرف أهل دينك ما أنت فيه في خلوتك؟) فلم تزل به حتى فعل. فبينما هو ذات يوم جالس معها، والتاج على رأسه، إذ دخلت عليه امرأة كان قد تزوجها زياد بن نابغة التميمي، من بنات ملوكهم؛ فعاينته، والتاج على رأسه. فقالت لزياد (ألا أعمل لك تاجا؟) فقال لها: (ليس في ديننا استحلال لباسه!) فقالت له: (ودين المسيح! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 إنه على رأس ملككم وإمامكم!) فأعلم بذلك زياد حبيب بن أبي عبدة ثم تحدثا بذلك حتى علمه خيار الجند؛ فلم يكن له هم إلا كشف ذلك، حتى رأوه عيانا. فقالوا (قد تنصر!) ثم هجموا عليه، فقتلوه. وأكثر الناس على أنَّ هذه الحكاية لا تصح، وإنما قتلوه بأمر سليمان لهم بذلك إذ نكب والده. وقال الواقدي: إن التي نكح بعد خروج أبيه هي ابنة رذريق؛ فجاءته من الدنيا بما لا يوصف. فلما دخلت عليه، قالت له: (ما لي لا أرى أهل مملكتك يعظمونك، ولا يسجدون لك، كما كان أهل مملكة أبي يفعلون له؟) فأمر بباب، فنقب في ناحية قصره، وجعله قصيرا؛ فكان يأذن للناس منه؛ فيدخل الداخل منكسا رأسه قبالته لقصر الباب؛ وقد جعل لها مجلسا، تنظر منه إلى الناس إذا دخلوا عليه من حيث لا يرونها. فلما رأتهم على ذلك، ظنت أنهم يسجدون له. فقالت لعبد العزيز: (الآن قوي ملكك) وبلغ الناس ما أراد بذلك الباب؛ فثار به حبيب بن أبي عبدة الفهري، وزياد بن عذرة البلوي، وزياد بن نابغة التميمي، ومن معهم من الناس، فقتلوه. وقيل أيضا: إنما قتلوه لأنه خلع طاعة سليمان بن عبد الملك، إذ بلغه قتل أخيه وما صنع بأبيه. قال الرازي: لما قفل موسى بن نصير، استخلف ابنه عبد العزيز على الأندلس؛ فضبط سلطانها، وسد ثغورها، وافتتح مدائن كثيرة. وكان من خير الولاة، إلا أن مدته لم تطل، لوثوب الجند عليه وقتلهم له، لأشياء نقموها عليه. وكان قتله صدر رجب من سنة 97، بمدينة إشبيلية، بمسجد رفينة. ولما دخل المحراب، قرأ فاتحة الكتاب؛ ثم قرأ سورة الواقعة؛ فعلاه من خلفه زياد ابن عذرة البلويُّ بالسيف، وهو يقول: (قد حقت عليك يا ابن الفاعلة؟) فكانت ولايته سنة واحدة وعشرة أشهر. وذكر أيضا أن سليمان بعث إلى الجند يأمرهم بقتله، عند سخطه على أبيه، وأنهم، لما قتلوه، حزوا رأسه. وقدم به على سليمان حبيب بن أبي عبدة الفهري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فقيل إنه عرض الرأس على والده، وهو في محبسه؛ فتجلد لحرّ المصيبة، وقال: (هنيئا له الشهادة؟ فتلثم، والله؟ صواما قواما؟) قال الرازي: فكانوا يعدون فعل سليمان هذا بموسى وابنه من كبار زلاته التي لم تزل تنقم عليه. ومكث أهل الأندلس شهورا لا يجمعهم وال، حتى اجتمعوا على أيوب بن حبيب اللخمي، ابن أخت موسى بن نصير. ذكر ولاية أيوب بن حبيب الأندلس ثم اجتمع أهل الأندلس على تقديم أيوب هذا، يومهم لصلاتهم؛ وكان رجلا صالحا. وأقاموا مدة دون أمير، ونقلوا دار السلطان إلى قرطبة. فتقدم أيوب ابن حبيب، واحتل بقصر قرطبة؛ وكان مغيث قد اختطه لنفسه. فذكر أن موسى ابن نصير، حين أقلعه رسول الوليد، رجع في قفوله على طريق طارق ليختبر الأندلس؛ فنزل قرطبة وقال لمغيث: (إن هذا القصر لا يصلح لك. وإنما يصلح للعامل الذي يكون بقرطبة.) فتنحى عنه يومئذ. ونزله بعد ذلك أيوب ابن حبيب. فكانت ولايته ستة أشهر. ولاية الحرّ بن عبد الرحمن الثَّقفيّ لما ولي سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد، مولى ابنة الحكم بن العاصي، إفريقية، كانت الأندلس وطنجة إلى صاحب إفريقية. فوجه محمد بن يزيد الحرّ ابن عبد الرحمن هذا عاملا على الأندلس، في أربعمائة رجل من وجوه إفريقية. فبقى الحرُّ واليا. عليها ثلاث سنين؛ فنقل الحرُّ هذا الإمارة من إشبيلية إلى قرطبة. وكان قدوم الحرّ الأندلس سنة 99 من الهجرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 ولاية السَّمح بن مالك الخولانيّ ثم ولى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - السمح بن مالك على الأندلس، وأمره أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا يعدل بهم عن منهج الرفيق، وأن بخمس ما غلب عليه من أرضها وعقارها، ويكتب إليه بصفة الأندلس وأنهارها. وكان رأيه نقل المسلمين منها وإخراجهم عنها، لانقطاعهم عن المسلمين واتصالهم بأعداء الله الكفار؛ فقيل له: (إنّ الناس قد كثروا بها، وانتشروا في أقطارها؛ فأضرب عن ذلك) فقدم السمح الأندلس، وامتثل ما أمره به عمر - رضي الله عنه - من القيام بالحق، وإتباع العدل والصدق؛ فأنفرد السمح بولايتها؛ وعزلها عمر عن ولاية إفريقية، اعتناء بأهلها، وتهمما بشأنها. وكان المسلمون، إذ فتحوا قرطبة، وجدوا بها آثار قنطرة فوق نهرها، على حنايا وثاق الأركان من تأسيس الأمم الدائرة، قد هدمها مدود النهر على مرّ الأزمان. فتقدم إلى فضيلة النظر فيها عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عندما اتصل به خبرها؛ فأمر السمح بابتنائها؛ فصنعت على أثمَّ وأعظم مما بنى عليه جسر من حجارة سور المدينة. وفي سنة 101، ورد كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على السمح بن مالك بالأندلس، يأمره ببناء القنطرة بصخر السور، وبناء السور باللبن، ويأمره بإخراج خمس. قرطبة. فخرج من الخمس البطحاء المعروفة بالربض. فأمر الخليفة عمر أن يتخذ بها مقبرة للمسلمين؛ فتمَّ ذلك. وقتل السمح - رحمه الله - بطرسونة، وذلك أنه غزا الروم في سنة 102؛ فاستشهد - رحمه الله - يوم عرفة؛ فكانت ولايته سنتين وأربعة أشهر. وقيل: ثمانية أشهر؛ وقيل: ثلاث سنين. ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الأندلس ثم ثدَّم أهل الأندلس على أنفسهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي هذا؛ فدخلها في شهر ذي الحجة سنة 102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 ولاية عنبسة بن سُحيم الكلبي ثم ولّي يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية على الأندلس عنبسة بن سحيم هذا؛ فدخلها في شهر صفر. فلما قُتل يزيد بن أبي مسلم، كان على إفريقية محمد بن يزيد، مولى الأنصار، على ما ذكره الطَّبري، بتقديم أهل إفريقية، وإقرار يزيد بن عبد الملك إياه. وفي سنة 103، كان العامل على إفريقية من قبل يزيد بن عبد الملك بشر بن صفوان، أخو حنظلة؛ فأقر عنبسة على الأندلس؛ فكانت ولاية عنبسة كلها أربع سنين وثمانية أشهر؛ وقيل غير ذلك. وفي سنة 105، خرج عنبسة غازيا للروم بالأندلس، وأهلها يومئذ خيار، فضلاء، أهل نية في الجهاد وحسبة في الثواب؛ فالح على الروم في القتال والحصار، حتى صالحوه. وتوفي عنبسة في شعبان سنة 107؛ فكانت ولايته كما ذكرنا. ولاية يحيى بن سلمة الكلبي وذلك أنه، لما توفي عنبسة، قدم أهل الأندلس على أنفسهم رجلا من العرب، يقال له عذرة، إلى أن ورد بعد شهرين يحيى بن سلمة الكلبي واليا من عند أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، في آخر سنة 109؛ فكانت ولايته سنتين وستة أشهر. ومات بشر بن صفوان بإفريقية؛ فولى هشام بن عبد الملك مكانه عبيدة ابن أبي الأعور السلميَّ. ولاية حذيفة بن الأحوص ثم ولي الأندلس حذيفة بن الأحوص الأشجعي؛ وقيل: القيسي؛ ولاه عليها عبيدة بن عبد الرحمن السلمي عامل إفريقية من قبل هشام بن عبد الملك، في سنة 110؛ فكانت ولايته ستة أشهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 ولاية عثمان بن أبي نسعة ثم ولى عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأعور السلمي على الأندلس عثمان ابن أبي نسعة الخثعميّ؛ فقدمها في شعبان سنة 110، وكانت ولايته خمسة أشهر؛ وقيل: ستة أشهر؛ ثم عزل وانصرف إلى القيروان؛ فمات بها. ولاية الهيثم بن عبيد الكناني ثم ولي الأندلس الهيثم بن عبيد الكناني، في صدر سنة 111؛ وكانت ولايته عشرة أشهر؛ وقيل غير ذلك؛ وهو الذي غزا منوسة. وأقام واليا عشرة أشهر، كما ذكرنا؛ وقيل: سنة وشهرين؛ ثم توفي. ولاية محمد بن عبد الله الأشجعي ثم قدم أهل الأندلس على أنفسهم محمد بن عبد الله الأشجعي؛ فكانت ولايته شهرين؛ وقيل غير ذلك. ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي ثانية ثم ولي الأندلس عبد الرحمن هذا ثانية؛ فكان دخوله إليها في صفر سنة 112؛ فأقام واليا سنتين وسبعة أشهر؛ وقيل: وثمانية أشهر. واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة 114. ولاية عبد الملك بن قطن ثم ولى عبد الملك بن قطن بن نفيل بن عبد الله الفهري؛ فدخلها في شهر رمضان المذكور الذي توفي فيه عبد الرحمن الغافقي. فألفاه قد استشهد. وقيل: دخلها في شوال من سنة 114. وكانت ولايته سنتين؛ وقيل غير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ولاية عقبة بن الحجاج السَّلولي ثم ولي عقبة بن الحجاج السلولي في شوال سنة 116. وقالوا: في ولايته كان عبيد الله بن الحبحاب عامل مصر وإفريقية؛ فقدم عليه عقبة بن الحجاج، وكان مولاه؛ فأكرمه، وبرَّه، ورفع شأنه وقدره، وأنزله في مكانه، وخبره في ولاية ما شاء من سلطانه. وكان الحجاج أبو عقبة قد أعنق الحبحاب أبا عبيد الله؛ فولى هشام بن عبد الملك عبيد الله بن الحبحاب مصر وإفريقية والأندلس؛ فكان له من العريش إلى طنجة إلى السوس الأقصى إلى الأندلس وما بين ذلك؛ وكان أحد بنيه بمصر، والثاني بالسوس وطنجة، والثالث بالأندلس؛ وكان عبيد الله بإفريقية. فلما شرف عبيد الله، وعلت منزلته، وانتشر ذكره، وفد عليه مولاه عقبة؛ فأجلسه معه على فراشه، وأدناه من نفسه، وقربه، حتى عظمت منزلته في الناس؛ فكان يقصده الطالبون وذوو الحاجات، يتوسلون به إلى عبيد الله. فغص به بنو عبيد الله، وقالوا لوالدهم: (اصرفه عنا لئلا يكسر شرفنا!) فما زاده ذلك عنده إلا تعظيما وتكريما، وخبره في ولاية ما شاء من سلطانه؛ فاختار الأندلس؛ فولاه عليها. وكان يجاهد المشركين في كل عام، ويفتتح المدائن. وهو الذي فتح مدينة أربونة، وافتتح جليقية وبنبلونة، وأسكنها المسلمين. وعمت فتوحاته جليقية كلها غير الصخرة؛ فإنه لجأ إليها ملك جليقية، وكان بها في ثلاثمائة راجل. فما زال المسلمون يضيقون عليهم، حتى صاروا ثلاثين رجلا، وحتى فنيت أزودتهم، ولم يتقوتوا إلا بعسل يجدونه في خروق الصخرة. وأعبى المسلمين أمرهم؛ فتركوهم. وأقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها، إلى أن غزا أرض إفرنجة؛ فلقيته جيوش الأعداء؛ فقتل هو ومن معه ببلاط الشهداء. وذكر عنه أنه كان صاحب بأس ونجدة، ونكاية للعدو وشدة. وكان إذا أسر الأسير، لم يقتله حتى يعرض عليه دين الإسلام، ويفتح له عبادة الأصنام. فيذكر أنه أسلم على يديه بهذا الفعل ألف رجل. وكانت ولايته خمسة أعوام وشهرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وقيل إن أهل الأندلس شاروا على عقبة بن الحجاج وخدموه. قال ابن القطان: وقيل إن عقبة بن الحجاج، لما حانت وفاته، استخلف عبد الملك بن قطن. قال: وأقام عقبة على الأندلس واليا إلى سنة 121. ولاية عبد الملك بن قطن الفهري ثانية وفي سنة 122، ولي عبد الملك بن قطن ثانية، حتى كان من أمر البربر وبلج بن بشر، ابن أخي كلثوم بن عياض عامل إفريقية، ما أذكره. قال ابن القطان: وذلك أن هشام بن عبد الملك كان قد ندب كلثوما لقتال البربر، وولاه إفريقية، وبعث معه ثلاثين ألف فارس: عشرة آلاف من صلب بني أمية؛ وعشرين ألفا من العرب؛ وعهد إليه في سد إفريقية وضبطها، إذ كانوا يجدون في الروايات أن ملكهم يزول، وأن ملك بني العباس لا يجاوز الزاب. فتوحمته بنو أمية زاب مصر، وإنما كان زاب إفريقية. فأمره بالجد في أمر إفريقية، ليلجؤوا إليها إذا ذهب ملكهم؛ وعهد، إن حدث بكلثوم حدث، أن يكون ابن أخيه يلج مكانه؛ فدارت بينه وبين البربر حروب عظيمة، هزموا في بعضها كلثوما وقتلوه. وصار أمر العرب بإفريقية إلى بلج بالعهد المذكور. ولجأ فلهم إلى سبتة، حتى ضاق عليهم الأمر ضيقا عظيما؛ فكاتب بلج وأصحابه عبد الملك بن قطن صاحب الأندلس، وسأله إدخاله وإدخال من معه من الجند. وذكروا له ما صروا إليه من الجهد، وأنهم قد أكلوا دوابهم. فأبى عبد الملك من إدخالهم، ولم يأمنهم، ومطلهم بالميرة والسعن. واتفق أن تطاولت البربر أيضا بالأندلس، وفاضحوا العرب، وظهروا على الساكنين منهم بجليقية وغيرها؛ فقتلوهم، وطردوهم. فلما ورد فل العرب على عبد الملك بن قطن، ورأى عادية البربر، اضطر لأجل ذلك إلى إدخال بلج وأصحابه؛ فكاتبهم، وشرط عليهم مقام سنة بالأندلس، ثم يخرجون عنها؛ فرضوا بذلك. فأخذ منهم رهائن أنزلهم بجزيرة أم حكيم، وهي على الخضراء. ثم أدخل بلجا وأصحابه عراة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 لا يواريهم إلا دوابهم، وقد بلغ بهم الجهد غايته. وكانوا نحو عشرة آلاف من عرب الشام. فلما دخلوا، كساهم عرب الأندلس على قدر أقدارهم؛ قرب رجل يكسو مائة رجل، وآخر عشرة، وآخر واحدا، إلى ما بين ذلك. فلما حلوا بالخضراء، اجتمع بهم عبد الملك بن قطن؛ وكان بشذونة جمع من البربر، عليهم رجل زناتي؛ فبدأ عبد الملك يمقاتلتهم في وادي الفتح من شذونة، فلم يكن العرب فيهم إلا نهضة، حتى أبادوهم، وأصابوا أمتعتهم ودوابهم. فاكتسى أصحاب بلج، وانتعشوا، وأصابوا الغنائم. ثم نهضوا مع عبد الملك إلى قرطبة؛ ثم ساروا بأجمعهم إلى جهة طليطلة، وقد اجتمع هنالك معظم البربر؛ فكانت هزيمتهم العظمى هنالك بوادي سليط من حوز طليطلة، بعد أن زحف عبد الملك وبلج إليهم بعرب الأندلس، حاشا عرب سرقسطة وثغورها. وزحف البربر بأجمعهم، فهزمهم العرب، وقتلوا منهم في الهزيمة آلافا. ذكر ولاية بلج بن يسر القشيري الأندلس قال من له عناية بالأخبار: دخل بلج الأندلس سنة 123 في ذي القعدة منها، وملكها بعد ذلك؛ وذلك أنه، لما أباد ابن قطن البربر بالأندلس، بمن كان معه من العرب، وبأصحاب بلج، قال لبلج وأصحابه: (اخرجوا من الأندلس على ما شورطتم عليه!) فقال بلج: (احملنا إلى ساحل البيرة أو ساحل تدمير!) فقال لهم عبد الملك: (ليست لنا مراكب إلا بالجزيرة!) فقالوا له: (إنما تريد أن تردنا إلى البربر ليقتلونا في بلادهم!) فلما ألجَّ عليهم في الخروج، نهضوا إليه؛ فأخرجوه من قصر قرطبة إلى داره بالمدينة. ودخل بلج القصر عشية يوم الأربعاء في صدر ذي قعدة من السنة. وكان بلج، وقت جوازه عن سبتة، قد أعطى رهائن لابن قطن، جعلهم ابن قطن بجزيرة أم حكيم؛ فضاعوا مدة الفتنة بين بلج وابن قطن، والجزيرة المذكورة دون ماء؛ فمات رجل من غسان عطشا، وكان من الرهائن، من أشراف دمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 مقتل عبد الملك بن قطن الفهري لما ملك بلج الأندلس، واستولى عليها، طلب منه الجند أن يعطيهم ابن قطن في الغسانيّ المذكور؛ فتوفق بلج؛ فألحّ الجند، وثارت اليمن كلها على كلمة واحدة. وكان ابن قطن شيخا هرما، قد بلغ التسعين؛ وكان قد حضر يوم الحرَّة، ومنها فرَّ إلى إفريقية؛ وكان يومئذ بداره بقرطبة؛ فأخرجه الجند منها، كأنه فرخ نعامة من الكبر، وهم ينادونه: (أفلت من سيوفنا يوم الحرة؛ فطلبنا بثأرنا في أكل الدواب والجلود! ثم أردت إخراجنا إلى القتل!) ثم قتلوه، وصلبوه، وصلبوا خنزيرا عن يمينه، وكلبا عن شماله. ثم إن أمية وقطنا ابني عبد الملك بن قطن حشدا في جهة سرقسطة. وكانا قد هربا من قرطبة وقت إخراج أبيهما منها، وجاءا إلى بلج طالبين يثأرهما، وهما في نيف على مائة ألف من العرب القدماء والحدث؛ فخرج إليهما بلج، وهو في أقل من خمس عددهما؛ فاقتتلوا قتالا شديدا. ثم انهزم ابنا عبد الملك ومن معهما هزيمة عظيمة؛ وانصرف أصحاب بلج ظافرين، وقد امتلأت أيديهم وأنفسهم غنما ونصرا وسرورا، إلا أن يلجأ أميرهم وفيه من جراحة أصابته في المعركة، ومات بعد أيام. وكانت مدة إمارته اثني عشر شهرا. واختلف في ذلك. فقال أبو عمر السالمي: إن تلك المعركة انجلت عن أحد عشر ألف قتيل، وإن عبد الرحمن بن علقمة فوق سهما إلى بلج؛ فأصاب مقتله. قال هذا في (كتاب درر القلائد وغرر الفوائد) . وقال في (كتاب بهجة النفس) : إن عبد الرحمن ابن علقمة المذكور قتله بالسيف، وإن ولايته ستة أشهر. والأول أصح. ولاية ثعلبة بن سلامة العامليّ الأندلس وفي سنة 123، في شوال، ولي الأندلس ثعلبة بن سلامة، ولاه أهل الشام؛ وذلك أن هشام بن عبد الملك كان قد عهد أن يتولى أمر الجيش، إذ جهزه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 من الشام، كلثوم بن عياض؛ فإن أصيب، فأين أخيه بلج؛ فإن أصيب، فثعلبة. فأقعد أصحابه ثعلبة بن سلامة بما عهد به هشام إليهم، وبايعوه. وثار من بقى من البربر بماردة في أيامه؛ فغزاهم، وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم نحو الألف؛ وانصرف إلى قرطبة. فسار بأحسن سيرة. وكانت ولايته عشرة أشهر. هذا مساق ابن القطان. ومن (درر القلائد) : كان يبيع ذراري أهل البلد، ويحملهم أسرى، ويرهقهم من أمرهم عسرا. فكان ثعلبة معهم على هذه الحال، إلى أن ورد أبو الخطار. ذكر ولاية أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي الأندلس وفي سنة 125، ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم، وحل بقرطبة؛ فألقى ثعلبة بن سلامة بالمصارة، ومعه الأسرى والسبي من عرب قرطبة، قد اشتبك في الحبال الولد بالوالد؛ فأمر أبو الخطار باطلاقهم، وحلهم من وثاقهم؛ وجمع الناس بعد افتراقهم، وصرفهم إلى معهود إيقافهم؛ فدانت له جماعتهم، وفرق أهل الشام على الكور، ونظر لسواهم أيضا بأحسن النظر؛ فأنزل أهل دمشق بالبيرة، أهل الأردن برية، وأهل فلسطين بشذونة، وأهل حمص بإشبيلية، وأهل قنسرين بجبان، وأهل مصر بباجة، وبعضهم بتدمير. وكان إنزالهم على أموال العجم من أرض ونعم. ودخل في ذلك الوقت الصُّميل بن حاتم - وسيأتي ذكره - وتعصب المضربون معه، وأتوا إلى قرطبة، حيث أبو الخطار؛ فخرج إليهم دون عدة؛ فهزمه القوم، وقبضوا عليه، وأثقلوا بالحديد رجليه. ثم إنه أفلت من كبله، ومد ما انقبض من حبله. ومن (كتاب بهجة النفس) ، قال: (لما هزم ثعلبة البربر، سبي ذراريهم، ولم يكن قبل بلج ولا غيره يتعرض للذرية بسباء. فأقبل إلى قرطبة بعدد من السبي كثير، حتى نزل طرف المصارة من قرطبة، ومعه الأسرى والسبي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 عرب البلد والبربر، وهو يبيع السبي في النداء، ويعبث ويبطر؛ فكان يبيع الشيوخ والأشراف ممن ينقص، لا ممن يزيد، وكان فيهم عليُّ بن الحصين، والحارث بن أسد من أهل المدينة، فابتدأ المنادي عليهما بعشرة دنانير؛ فلم يزل ينادي: (من ينقص؟) حتى باع أحدهما بعتود، والآخر بكلب. فبينا هو على هذه الحال من العبث والبغي، وقد أوقف رجالهم، وأبرزهم للقتل، وذلك يوم جمعة، إذ قدم أبو الخطار؛ فألقاهم بهذه الحال. فأمر بإطلاقهم؛ فسمى ذلك العسكر عسكر العافية. وكان أهل الأندلس طلبوا من صاحب إفريقية حنظلة ابن صفوان عاملا يجمع كلمتهم، إذ كانت الكلمة مفترقة، والقتل ذريعا، ولا يأمنون تغلب العدو عليهم؛ فأرسل إليهم أبا الخطار هذا. واجتمع على أبي الخطار أهل الشام وعرب البلد، ودانت له الأندلس. ثم أنه أمن ابني عبد الملك بن قطن، وأنزل أهل الشام في الكور، وتعصب لليمانية، واعتزل قيسا؛ فكان ذلك سبب توثب الصميل بن حاتم عليه مع مضر، بعد أن ولي سنتين؛ وقيل: وتسعة أشهر؛ وقيل: ثلاث سنين. ذكر الصميل بن حاتم وسبب الفتنة قال في (كتاب بهجة النفس) : كان الصميل بن حاتم هذا جده شمر قاتل الحسين - رضي الله عنه - وهو من أهل الكوفة؛ فلما قتله، تمكن منه المختار بن أبي عبيد؛ فقتله، وهدم داره؛ فارتحل مع ولده من الكوفة، وصاروا بالجزيرة؛ ثم صاروا في جند قنسرين. فرأس الصميل بالأندلس، وفاق بالنجدة والسخاء. فاغتم أبو الخطار به؛ فدخل عليه يوما، وعنده الجند؛ فأحب كسره؛ فأمر عليه؛ فشتم، ولكز؛ فخرج عنه مغضبا، وأتى داره؛ ثم بعث إلى خيار قومه؛ فشكا إليهم ما لقى؛ فقالوا: (نحن تبع لك!) فقال: (والله ما أحب أن أعرضكم للقضاعية ولا لليمانية! ولاكني سأتلطف، وأدعو إلب مرج راهط، وأدعو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 لخما وجذاما، وتقدم رجلا يكون له الاسم ولنا الحظ.) فكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي من أهل فلسطين؛ ثم وفدوا عليه؛ فأجابهم، وأجابتهم لخم وجذام. فبلغ ذلك أبا الخطار؛ فغزاهم؛ فلقيه ثوابة، وأسره. وسار ثوابة حتى دخل قصر قرطبة، وأبو الخطار معه في قيوده. ثم إنه أفلت، كما ذكرنا. ثم ولي ثوابة سنتين. ولما ولي ثوابة سنة 128، استجاش أبو الخطار اليمانية، ودعاهم للنصرة على المضرية؛ فاجتمع له إذ ذاك حفل وعسكر ضخم، وأقبل إلى قرطبة؛ فخرج ثوابة بن سلامة إلى لقائه. فافترق الناس عن أبي الخطار، ونفروا عن تلقائه. وتوفي إثر ذلك ثوابة في السنة المذكورة؛ وكانت ولايته كما ذكرنا. فلما توفي ثوابة، عادت الحرب إلى ما كانت عليه؛ فأرادت اليمن أن تعيد أبا الخطار؛ فأبت ذلك مضر مع الصميل؛ وتشاكس الفريقان. وأقامت الأندلس أربعة أشهر من غير وال، إلا أنهم قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للنظر في الأحكام. وصار أمر الشام وملوكه متغير الحال؛ فقال يزيد الوليد، وصارت إليه أحوال بني مروان. ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري الأندلس لما تفاقم الأمر، وكثر الاختلاف بين أهل الأندلس، تراضوا واتفقوا على تولية يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وعلى أن يدعوا ليحيى بن حريث كورة رية؛ فتركت له طعمة. وقد كانت قضاعة اجتمعت قبل ذلك، وقدموا على أنفسهم عبد الرحمن بن نعيم الكلبي؛ فجمع مائتي راجل وأربعين فارسا؛ فبيت القصر بقرطبة، وقاتل الأحراس، وهجم على السجن؛ فأخرج أبا الخطار، وهرب به إلى لبلة؛ فأقام في كلب وقبائل من حمص؛ فاكتنفوه ومنعوه، ولم يحدث شيئا حتى اجتمع الناس على يوسف. فلما استقام له الأمر، غدر يحيى بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 حريث، وعزله عن كورة رية؛ فغضب ابن حريث، وكاتب أبا الخطار حينا. فقال أبو الخطار: (أنا الأمير المخلوع! فأنا أقوم بالأمر!) وقال ابن حريث: (بل أنا أقوم به، لأن قومي أكثر من قومك!) فلما رأت جذام ما يدعو إليه ابن حريث، قدموه وأجابوه؛ فأصفقت يمن الأندلس وحميرها وكندتها على تقديمه والطوع له، وانحازت مضر وربيعة إلى يوسف بقرطبة حضرة الملك. وأقبلا حتى نزلا شقندة. وكان الصميل مع يوسف الفهري، وهو الذي سأله الناس أن ينظر لهم في وال يلي عليهم، لشغل أمير المؤمنين مروان بن محمد بالمشرق عنهم وبعده عنهم. فاختار لهم يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع الفهري؛ وكان يومئذ بالبيرة؛ فرضيه الناس كما ذكرنا. ووقع اختلاف بعد ذلك في أمره بين مصر واليمن؛ فانضوت اليمن إلى أبي الخطار، من جميع البلاد والأقطار، وزحف بهم إلى يوسف الفهري بقرطبة؛ فكره يوسف الفتنة، وخاف البغضاء والشحناء. فنزل الصميل بن حاتم بالمحلات، وشك السلاح والآلات؛ وأقبل أبو الخطار بمن معه، ونزل موضعه؛ فالتقت بشقندة الفئتان، وتصادمت الفرقتان؛ فلا تسمع إلا صهيلا وصليلا، ولا ترى إلا قتيلا، حتى تكسرت الخطية وتفللت المشرقية، والتفت الساق بالساق، وانضمت الأعناق إلى الأعناق؛ فلم يعهد حرب مثلها في المسلمين، بعد حرب الجمل وصفين، إلى أن انهزمت اليمانية مع أبي الخطار بعد حين. وهرب أبو الخطار، وركب ظهر الفرار؛ واستتر في رحى للصميل هنالك؛ فظفر به وقتل إذ ذلك. فرأس الصميل بن حائم في الناس، وشهر بالنجدة والبأس؛ وصرف يوسف الفهري إليه الأمور، وأوقف عليه الرياسة والتدبير. فكان ليوسف الاسم، وللصميل الرسم. مقتل أبي الخطَّار ولما أخذ أبو الخطار، وأرادوا قتله، قال: (ليس على فوت! ولاكن دونكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 ابن السوداء!) يريد ابن حريث. فدل عليه، وقتلا جميعا. وكان ابن حريث يقول: (لو أن دماء أهل الشام سقيت، لشربتها في قدح!) فلما استخرج من تحت الرحى ليقتل، قال له أبو الخطار: (يا ابن السوداء! هل بقى في قدحك شيء لم تشربه؟) ثم قتلا. وأتى بالأسرى؛ فقعد لهم الصميل، وضرب أعناقهم جميعا. ثم أتبع الله الأندلس بعد ذلك بالوباء والموت في السنة الثانية، حتى كاد الخلق أن ينقرض منها. وولي يوسف عن (رضى من) عامة الجند من مضر ويمن والشام؛ فصفت له الأندلس بعد يوم شقندة، وخلصت له القلوب والأنفس. وعاد الصميل بن حاتم قائده الأعلى، وقدحه المعلى، يقرب منه ما شاء، ويدفع عنه ما ساءه، إلى أن تمكن بالدولة، وتملك رقاب تلك الجملة. فشرق به يوسف وقلق، وخشي من جانبه وأرق؛ فرأى أن يبعده من مكانه، ويوليه بعض سلطانه؛ فولاه سرقسطة وبلادها سنة 133؛ فكان فيها إلى أن قام عليه فيها الحباب بن رواحة من بني زهرة بن كلاب؛ فحاصره مدة من سبعة أشهر. وقعد يوسف عن إغاثته، واعتذر بشدة الأندلس في ذلك الوقت ومجاعته، رغبة في تلافه وهلاكه، وحرصا على الراحة منه لاستحواذه واستملاكه، إلى أن اجتمع قومه بالبيرة وجيان، وساروا إلى نصرته، وتفريج كربته. وقيل إن الذي قام على يوسف بسرقسطة تميم بن معبد الزهري وعامر العبدري. فغزاها يوسف في سنة 138؛ فكان عليها، إلى أن دخل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس. وفي سنة 130، كانت وقعة شقندة، واجتمع على يوسف. وكان يوم ولايته ابن خمس وسبعين سنة؛ وملك تسع سنين. وكان قبل ولايته معتزلا في بادية، من أهل الديانة والإظهار للخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وفي سنة 131، أمحلت الأندلس، وعم المحل، وتمادى إلى سنة 138 وذلك سنة محل وسنة غيث. وأتصل المحل الشديد سنة أو اثنتين؛ ثم سقى الناس سنة 133، وعادت إلى بعض الصلاح. وفي سنة 133، ثار أهل جليقية، وترددت الغارات عليها. ثم استحكم الجوع والقحط في سنة أربع وثلاثين وسنة خمس وبعض سنة 136؛ فخرج أكثر الناس إلى طنجة وزويلة وريف البحر في العدوة؛ وكانت إجازتهم من وادي شذونة، وهو المعروف بوادي برباط؛ وبه سميت السنة. تسمية من ثار على يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس منهم: عبد الرحمن بن علقمة اللخمي، ثار عليه بأربونة؛ فحاربة، ولم يمكث في حربه إلا يسيرا حتى أمكنه الله منه وثار عليه عروة بباجة؛ فوجه إليه يوسف من هزمه وقتل أصحابه. وثار عليه تميم بن معبد سنة 136. وفي سنة 137، اجتمع تميم بن معبد وعامر بن عمرو بن وهب بسرقسطة؛ فتولى محاربتهما الصميل بن حاتم. وفي سنة 138، خرج يوسف بنفسه إلى تميم بن معبد وعامر ابن عمرو بسرقسطة؛ فحاصرهما؛ ثم ظفر بهما وقتلهما. وفي هذه السنة، انقضت أيام يوسف بن عبد الرحمن الفهري. جامع أخبار بني أمية بالمشرق وذلك أن جميع خلفائهم من لدن معاوية إلى آخرهم أربعة عشر رجلا. وكانت مدة دولتهم، منذ خلص الأمر إلى معاوية إلى أن قتل مروان بن محمد، إحدى وتسعين سنة، وتسعة أشهر، وخمسة أيام، منها أيام ابن الزبير تسع سنين واثنان وعشرون يوما. ثم تفرقت بنو أمية في البلاد هربا بأنفسهم. وهرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى الأندلس؛ فبايعه أهلها، وتجددت لهم بها دولة استمرت إلى بعد الأربع والعشرين والأربعمائة. والناس يعتقدون أن دولتهم كانت انقطعت من حين قتل مروان إلى أن جددها عبد الرحمن الداخل سنة 136 أو نحوها؛ وقيل إنها كانت متصلة، لم تنقطع من زمن عثمان - رضي الله عنه - إلى زمن المعتد بالله بقرطبة آخر خلفائهم سنة 424. وهذا القول ينبني على ما قاله بعضهم إن عهد عبد الرحمن بن حبيب صاحب إفريقية من قبل بني أمية وصل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري المتغلب على الأندلس، الذي دخل عبد الرحمن بن معاوية وهو أميرها. فتأمل هذا؛ فإنه، إن صح، نكتة غريبة وفائدة عجيبة. قال أبو محمد بن حزم: وانقطعت دولة بني مروان بالمشرق بمروان بن محمد الجعدي. وكانت، على علاتها، دولة عربية، لم يتخذ ملوكها قاعدة لأنفسهم، إنما كان سكنى كل أمير منهم في داره وضيعته اللتان كانتا له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجان الأموال، ولا بناء القصور، ولا طلبوا مخاطبة الناس لهم بالتمويل والعبودية والملك، ولا تقبيل أرض، ولا يد، ولا رجل، إنما كان غرضهم الطاعة الصحيحة والتولية والعزل في أقاصي بلاد الدنيا؛ فكانوا يعزلون العمال، ويولون الأخر في السند والهند، وفي خراسان، وفي أرمينية، وفي العراق، وفي اليمن، وفي المغرب الأدنى والأقصى وبلاد السوس وبلاد الأندلس؛ وبعثوا إليها الجيوش، وولوا عليها من ارتضوا من العمال، وملكوا أكثر الدنيا. فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض، إلى أن تغلب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع بها ملكهم. فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأتدلس، وملكها هو وبنوه، وقامت بها دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة. فلم يك في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصرا على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير؛ وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 قال أبو محمد: وانتقل الأمر بالمشرق إلى بني العباس؛ فكانت دولتهم أعجمية: سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر ملكا عضوضا كسرويا، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة - رضهم - بخلاف ما كانوا عليه بنو أمية من استعمال ذلك في جانب عليّ - رضي الله عنه -، وكفاهم ذلك قبحا وباطلا، حاشا عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ويزيد بن الوليد؛ فإنهما لم يستجيزوا ذلك. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين؛ فتغلبت في البلاد طوائف من الخوارج وشيعة ومعتزلة، ومن ولد إدريس وسليمان ابني عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب - رضهم -؛ ومنهم من بني أمية تغلبوا على الأندلس، وكثير من غيرهم. وفي خلال هذه الأمور من اختلاف الكلمة، تغلب الكفار على نحو نصف الأندلس، وعلي نحو نصف السند؛ فأما ما لم يملكه العباسيون، فهو ما وراء الزاب من بلاد المغرب وتلمسان وأنظارها، كان فيها شيعة، ثم آل ملكها إلى إدريس؛ وأما تامسنا، ففيها أولاد صالح بن طريف على ضلالتهم؛ وأما سجلماسة، فنزلها رئيس الصفرية. هذه هي البلاد المتفق عليها، وأما المختلف فيها، فإفريقية؛ قيل إنه كان فيها عبد الرحمن بن حبيب ثائراً، وفي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهريُّ. ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام إلى الأندلس وهروبه من الشام قال الرازي: وفي سنة 136، ابتدأ عبد الرحمن بن معاوية بمداخلة مواليه من الأمويين بالأندلس. وفي هذه السنة، تفرق ولد معاوية، وولد هشام، وكل من فيه بقية من ولد مروان وأمية. فخرج عبد الرحمن بن معاوية مختفيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 من موضع إلى موضع، وهمه الأندلس، لما كان في نفسه من أمرها ومن الأثر المروي عنه فيها. فوصل إلى مصر؛ ثم سار منها إلى برقة؛ فبقى فيها مستترا مدة. ثم رحل عنها؛ فأوغل في المغرب. قال بدر مولاه: (فأدركته في الطريق، وجهتني إليه أم الأصبغ أخته شقيقته بدنانير وشئ من الجوهر يستعين بها على النفقة والوصول؛ فوصل إلى إفريقية، وصاحبها عبد الرحمن بن حبيب، ومعه يهودي قد خدم مسلمة بن عبد الملك؛ وسمعه يحدث بخبر القرشي الذي يكون من بني أمية يتغلب على الأندلس، اسمه عبد الرحمن، ذو ضفيرتين؛ فنظر إلى عبد الرحمن؛ فوجده بضفرتين؛ فقال لليهودي: (ويحك!) هذا هو المذكور، وأنا قاتله!) فقال له اليهودي: (إن يك ذلك، لم تقتله!) ثم صار ابن حبيب يقتل الواصلين إليه من بني أمية، ويأخذ أموالهم. فهرب عبد الرحمن عن القيروان، ونجا يريد الأندلس، ويشغل نفسه بها لما كان عنده من الروايات في علم الحدثان من قبل مسلمة بن عبد الملك أخي جده وغيره. فسار حتى أتى تادلا من قبائل المغرب؛ فناله عندهم تضييق وأخبار يطول ذكرها. ثم هرب من عندهم حتى أتى نفزة، وهم أخواله؛ فإن أمه كانت من سبيهم. قال بدر: (فجزت إلى الأندلس، واجتمعت بعبيد اله بن عثمان بساحل البيرة، في آخر سنة 136؛ ثم انصرفت في سنة سبع بعدها، وأقمت عنده مدة؛ ثم كررت منصرفا إلى الأندلس في موالي عبد الرحمن. حدَّث عبد الرحمن، قال: (دخلت الأندلس، وأنا أضبط جلية مسلمة ابن عبد الملك؛ فإنه أتى جدي هشاما يوما؛ فوجدني عنده صبيا؛ فأمر جدي بتنحيتي عنه؛ فقال له مسلمة: (دعه يا أمير المؤمنين! فإنه صاحب بني أمية ومحيي دولتهم بعد زوالها!) فلم أزل أعرف لي مزية من جدي بعد.) قال الرازي: وفي سنة 137، ثار الحبحاب بن رواحة بجهة سرقسطة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وتظافر معه على ذلك عامر بن عمرو العبدري من بني عبد الدار بن قصي؛ وكان قد هرب من قرطبة خوفا من يسوف؛ وكان عامر هذا أحد رجال مضر، (وقد فشا) بالأندلس نجدة وشرفا وعلما وأدبا؛ وكان يلي المغازي بالصوائف من قبل يوسف الفهري؛ وكان سلطان الفهري يومئذ قد ضعف لأجل المحل المتوالي بالأندلس. وكان الصميل قد لزم الثغر في تلك الأعوام، لأنه كان أشبه من غيره في الخصب؛ فلما خاف عامر هذا على نفسه من الفهري والصميل، خرج فارا بنفسه، وقصد الحبحاب بن رواحة، واستجاشا. فأجابهما رجال من اليمانية وناس من البربر؛ فحصرا الصميل بسرقسطة حصارا شديدا، حتى يئس من الحياة، وهم بالإلقاء بيده؛ وكتب إلى يوسف يسأله الإمداد؛ فلم يجد في الناس منهضا. فلما أبطأ عليه مدد يوسف، واشتد الحصار، كتب إلى قومه من جند قنسرين ودمشق، يعظم عليهم الخطب، ويناشدهم الرحم؛ فقام له بذلك عبيد بن عليّ الكلائي؛ وأكثر كلاب وهوازن وغطفان والأزد تقدم رجلا وتؤخر أخرى، ولم يكن لهم رأس يجمعهم. فلما نهض عبيد بن عليّ ومضى داعيا في الجندين إلى نصر الصميل، تحركت جماعة كلاب ومحارب، إلا كعب بن عامر وعقيل وقشير والحريش؛ فإنهم كانوا منافسين لبني كلاب، لأن الرياسة يومئذ بالأندلس كانت فيهم؛ وكان بلج قشيريا؛ فضمهم الصميل. ولم يجتمع من هذه القبائل إلا نحو أربعمائة فارس؛ فاستقلوا أنفسهم؛ ثم صمموا، وخف معهم يومئذ قوم من بني أمية في نحو ثلاثين فارسا؛ وخرج معهم أبو عثمان عبيد الله بن عثمان مولاهم، وخرج أيضا معهم عبد الله بن خالد بن أبان بن أسلم، مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ وكان عبد الله وعبيد الله يتواليان حمل لواء بني أمية بالأندلس بعد، ويتعاقبان في ذلك. وكان لهما ولبني أمية في هذا المجتمع يومئذ بلاء معروف مشهور، وإنما أراد أن يقدما بذلك يدا عند الصميل، لما كانا بنيا عليه من اطلاعه على أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 عبد الرحمن بن معاوية؛ وكانا واثقين بالصميل، وأنه، إن لم يجبهما، كتم عليهما؛ وكذلك فعل؛ فإنه كتم عليهما كتمانا عجيبا. فكان هذا هو الذي دعاهم إلى إمداد الصميل واستنفاذه لاعتداد اليد عليه؛ ورأسوا على أنفسهم ابن شهاب استئلافا له؛ ومشى الجميع. فلما بلغوا وادي طليطلة، بلغهم أن الحصار اشتد وأضر بالصميل، وأنه على الهلكة؛ فقدموا رسولا من قبلهم، وقالوا له: (ادخل في جملة المحاربين للسور. فإذا قربت منه، ارم بهذه الأحجار!) وفي كل واحد منها بيتان، وهما (وافر) : ألاَ أبشِرْ بالسَّلامةِ يا جِدَارُ ... أتَاكَ الغَوْثُ وانْقَطَعَ الحِصارُ أتَتْكَ بَنَاتُ أعْوَجَ مُلْجَمَات ... عليها الأكْرَمُونَ وَهُمْ نِزارُ ففعل الرسول ذلك. فلما وقعت الحجارة، أتى بها الصميل أو ببعضها؛ فقرئت عليه؛ وكان أميا. فلما سمع ما فيها، قال: (ابشروا يا قوم! فقد جاءكم الغوث، ورب الكعبة!) ومضى القوم يستحيشون كل من استجاب لهم، ومعهم الأمويون، وفي جملتهم بدر رسول ابن معاوية. وكان عبد الرحمن قد بعث إليهم خاتمة ليكتبوا به عنه إلى كل من رجوا نصره؛ فكتبوا عنه للصميل، يذكرون له أيادي بني أمية عنده، وبعده، ويمنيه. فلما سمع العبدري والعذري بالمدد الواصل إليه، ارتفعوا عنه، وانكشف وجه الصميل؛ فخرج، وتلقى القوم، ووصلهم على أقدارهم، وكساهم، وقفل معهم بماله وحشمه. فلما زال الصميل عن سرقسطة، دخلها الحبحاب وملكها. ثم أطلع الأمويون الصميل على قصة ابن معاوية، وعرضوا عليه بدرا رسوله؛ فأحسن إليه وقال لهم: (أروى في أمره.) وأقبل قافلا حتى دخل قرطبة. وانصرف الأمويون إلى منازلهم، وبدر معهم. وقد كان الصميل اتفق مع الأمويون على نصرة ابن معاوية، وأن يزوجه من ابنته. ثم رجع في قوله، وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 (تأملت الأمر؛ فوجدته صعب المرام؛ فبارك الله لكما في رأيكما ومولاكما! فإن أحب غير السلطان، فله عندي أن يواسيه يوسف، ويزوجه ويحبوه! انطلقا راشدين!) فانقطع رجاؤهم يومئذ من ربيعة ومضر، ورجعوا إلى اليمن. قال بدر: فلم نمر بيمني إلا دعوناه؛ فوجدنا قوما قد وغرت صدورهم، يتمنون سبيلا لطلب ثأرهم؛ ثم رجعنا إلى جندنا؛ فابتعنا مركبا، ووجهنا فيه أحد عشر رجلا مع بدر. قال: ومضى يوسف حتى أتى طليطلة، وأمضى بعثين إلى جليقية والبشكنش، وأراد القفول إلى قرطبة؛ فلم يبعد حتى أدركه الرسول بهزيمة الجيش وقتل عامته. فبينما هو ينظر في ذلك، إذ أتاه رجل من عند ولده من قرطبة، يعلمه أن فتى من قريش، من ولد هشام بن عبد الملك، نزل بساحل المنكب؛ فاجتمع إليه موالي القوم والأموية؛ فانتشر الخبر في العسكر، وشمت به الناس لما فعل بالقرشيين؛ فانقض الناس من العسكر، وتنادوا بمشاعرهم، وتقدموا إلى كورهم. فأصبح يوسف، وليس في عسكره غير قيس والصميل؛ فقال الصميل: (ما الرأي؟) قال: (بادره الساعة، قيل أن يستعجل أمره!) فساروا إلى قرطبة؛ فكلما رجوا أن يجتمع لهم بمن يخرجون لاستئصال شوكة ابن معاوية، لم يتجه لهم عمل. وفي سنة 138، دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس في غرة ربيع الأول؛ وهو أبو الملوك. وكان خروجه من المركب بموضع يعرف بالمنكب؛ ثم نزل بقرية طرش من كورة إلبيرة. فأقبل إليه جماعة من الأمويين، وقد أعد للأمير ما يصلحه من المركب والمنزل والملبس. فغلظ أمر ابن معاوية، وأقبل الناس من كل مكان إليه. فكتب يوسف الفهري إلى جماعة الأمويين، يحذرهم ويخوفهم؛ فقالوا له: (إنما أقبل ابن معاوية إلينا وإلى جماعة مواليه، يريد المال، ليس فيما يظن الأمير - أصلحه الله! - ولا فيما رفع إليه.) واعتذروا له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 بما أمكنهم. وأقبل وجوه الناس إلى ابن معاوية، وقالوا له: (خفنا مكر الصميل، ولم نأمن غائلته؛ فعرفنا الفهري بكذا وكذا.) وكان ابن معاوية ببيت في الجبال. ومضى يوسف بن بخت إلى جند الأردن؛ فأخذ بيعة جميعهم؛ ومضى عبد الله بن خالد إلى جند حمص؛ ومضى تمام بن علقمة إلى أهل فلسطين؛ وأقبل الناس من كل مكان. فلما ضاقت الأحوال بالفهري، ولم يأته من الأجناد إلا اليسير، أدار له الصميل الرأي، وأمره بالمكر بابن معاوية والمخادعة له، ورجا ذلك منه لحداثة سنه، وقال له: (هو قريب عهد بزوال النعمة؛ فهو يغتنم ما تدعوه إليه؛ ثم أتت بعد ذلك متحكم فيه وفي الذين سعوا له بما تحب!) فأجمع رأيه على تأنيسه بأن يزوجه ابنته ويسكنه في أي الجندين شاء، من دمشق أو الأردن، أو يسكن بينهما، ويصير إليه أمر الكورتين. وبعث إليه بكسوتين ومطيتين وخمسمائة دينار، ووجه إليه كاتبه خالد بن يزيد، وقال له: (اعرف أمره وأي جند عنده، وتأمل أخباره وأخبار من معه!) فخرج في الليل مع أصحابه، وأصبحوا على ابن معاوية بالمال والكسوة والمطيتين. ووجه أيضا إلى بدر فرسا ومائة دينار وكسوة. فقبل ابن معاوية الهدية، وكره التزويج؛ فتكلم خالد بكلام غليظ لابن معاوية إذ أبى التزويج؛ فأمر به؛ فضم إلى وثاق، ورد غيره إلى يوسف؛ ولم يرد عليه جوابا. وكان يوسف قد كتب إلى ابن معاوية كتابا. وهذه بعض فصول منه: (أما بعد، فقد انتهى إلينا نزولك بساحل المنكب، وتأبش من تأبش إليك ونزع نحوك من السراق وأهل الختر والغدر ونقض الأيمان المؤكدة، التي كذبوا الله فيها وكذبونا! وبه - جل وعلا! - نستعين عليهم! ولقد كانوا معنا في ذرى كنف ورفاهية غبش، حتى عصموا ذلك، واستبدلوا بالأمن خوفا، وجنحوا إلى النقض! والله من ورائهم محيط! فإن كنت تريد المال وسعة الجناب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 فأنا أولى لك ممن لجأت إليه! أكنفك، وأصل رحمك، وأنزلك معي إن أردت وبحيث تريد! ثم لك عهد الله وذمته في ألا أغدر بك، ولا أمكن منك ابن عمي صاحب إفريقية ولا غيره!) في كلام كثير. قال ابن عيسى: فحدثني تمام بن علقمة أن عبد الرحمن، لما أتاه كتاب الفهري بما فيه وبتزويجه ابنته، أشار عليه كل من أتاه من العرب والأمويين ألا يقبل ذلك منه، إلا أن يعتزل له عن الملك ويبايعه، وإلا حاكمه إلى الله؛ وقالوا له: (إنما يمكر بك، ولا يفي لك بشئ، لأن وزيره ومالك أمره الصميل، وهو غير مأمون!) قال: فلما انكشف أمرنا عنده بما أظهرنا من الإباية ويحبس كاتبه خالد ابن يزيد، رأينا أن تشهر أمرنا. فخرجنا إلى جدار بن عمرو وإلى جند الأردن، واجتمعنا إليه، فأتيناه في ثلاثمائة فارس من جماعة الأمويين، وممن أقبل إليه من وجوه العرب. ثم كاتبنا أهل قنسرين وفلسطين. فلما أقبلت إلينا رسلهم بما أردنا، نهضنا إليهم؛ وكنا قد وطنا على الموت، وعزمنا على أن نقتل دونه، وعقدنا له لواء. وأقمنا معه ستة أشهر، نبرم له أموره، ونكاتب له الناس. وكنا خرجنا إليه في زي حسن عند خروجنا إليه بساحل البحر؛ ثم انتقل من البيرة إلى كورة رية، إلى شذونة، إلى مورور، إلى كورة إشبيلية، والناس يتلقونه بالبشر والترحيب، ويعطونه من الانقياد والطاعة أوفى نصيب. قال تمام: فدخلنا رية في ستمائة فارس، وخرجنا منها في ألفي فارس؛ وخرجنا من إشبيلية إلى قرطبة في ثلاثة آلاف فارس. فلما اجتمعت لنا الجموع، وبلغنا ما يريد الفهري من الخروج إلينا، كتب الأمير عبد الرحمن الكتائب، وعبا الأجناد، وخرج إليه؛ ودعا برجل من الأنصار؛ فعقد لواءه؛ وارتحل في جنوده، حتى احتل بقرية على نهر قرطبة يوم الاثنين لست خلون من ذي الحجة. وخرج الفهري إلى المصارة. وأقاما ثلاثة أيام متناطرين، والنهر حاجز بينهما بحمله؛ ثم أصبح النهر يوم الخميس، وقد حسر ماؤه. فعبأ الأمير عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الرحمن كتائبه، وتهيأ للحرب؛ فقدم على قبائل العرب أحدا من قواده، وعلى البربر كذلك، وهو إبراهيم بن شجرة. وترجل حماة بني أمية؛ فحفوا بالأمير، والأمير على فرسه متنكبا قوسه؛ فجاوز النهر، واقترب من المصارة؛ فتجاوز العسكران، وتقارب المضطربان. وأقاما بقية يومهما في سكون وهدؤّ، والرسل تختلف من قبل يوسف، يرجو عقد الصلح. فلما أصبح يوم الجمعة، التقى الجمعان، واستحرت الحرب والقتال. فمشى العلاء بن جابر العقيلي إلى الصميل؛ فقال له: (يا أبا جوشن اتق الله! فوالله! ما أشبه هذا اليوم إلا بيوم المرج! وإن عاره لباق علينا إلى اليوم؛ فإن الأمور يهتدي لها بالأقران والأمثال: أموي وفهري وقيس واليمن! وهذا يوم عيد، ويوم جمعة؛ ويم المرج أيضا يوم جمعة! والأمر، والله! علينا، لا شك في ذلك! فاتق الله، واغتنم لنا الأمر لنكون فيه أعزاء لا أتباعا!) وكان العلاء هذا من وجوه قيس. ثم انهزم الفهري وأصحابه، واستقبل القصر؛ فاعترض له عبد الأعلى بن عوسجة، وحال بينه وبين دخوله، ورده عنه؛ فولى منهزما إلى سفح جبل قرطبة. واستولى الأمير عبد الرحمن يومه ذلك على الملك، وتمت له بيعة العامة بقرطبة. وتمادى يوسف الفهري في الفرار إلى البيرة. خلافة عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك نسبه: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية. كنيته: أبو المطرف. أمه: بربرية من سبى المغرب، تسمى راحا أو رداحا. وفي عبد شمس بن عبد مناف يلتقي نسبه بنسب رسول الله - صلعم -. مولده: بموضع يعرف بدير حسينة من دمشق سنة 113؛ مات أبوه وتركه صغير السن. وتوفي يوم الثلاثاء لست بقين من ربيع الآخر؛ وقيل: لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 172؛ ودفن بقصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 قرطبة؛ وقد بلغ تسعا وخمسين سنة؛ وقيل: ستين سنة. فكانت مدة خلافته ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر ونصفا؛ ودخل الأندلس وهو ابن خمس وعشرين سنة أو نحوها. بويع له بقرطبة يوم الأضحى من سنة 138. وزراؤه أربعة: عبد الله بن عثمان، وعيد الله بن خالد، ويوسف بن بخت، وحسان بن مالك. حجابه خمسة: تمام بن علقمة، ويوسف بن بخت، وعبد الكريم بن مهران، وعبد الحميد بن مغيث، ومنصور فتاه. قضاته خمسة: يحيى بن يزيد النجيبي، ومعاوية بن صالح، وعبد الرحمن بن طريف، وعمر بن شراحيل، والمصعب بن عمران. وكان له قاض خامس في صوائفه يسمى جدار ابن مسلمة بن عمرو المذحجي. نقش خاتمه: عبد الرحمن بقضاء الله راضي. صفته: طويل القد، أصهب، أعور، خفيف العارضين، بوجهه خال، له ضفيرتان. وكان يسمى، صقر بني أمية. ولده الذكور أحد عشر، والإناث تسع. وفي سنة 139، خرج الأمير عبد الرحمن طالبا للفهري والصميل. فلما اتصل بالفهري قصده إليه، لاذ عنه، وزال عن إغرناطة، فاقتفى الأمير عبد الرحمن أثره، حتى إذا أوفى عليه، عاد إلى إغرناطة متحصنا بها؛ ونزل الأمير عبد الرحمن عليه وحاصره. فلما تمادى به الحصار، سأل الفهري الأمان، وأن يعطي ابنته رهنا؛ فأعطاه الأمير الأمان، وقبل منه ذلك، وكذلك الصميل. وانصرفا في جملته إلى قرطبة، على أن يسكن الفهري منزله بالمدينة، والصميل داره بالريض. واستوسق الأمر للأمير عبد الرحمن، وأمر بلعن المسودة وقطع الدعاء لأبي جعفر المنصور. ودخل يوسف الفهري في عسكر الأمير كأحد رجاله؛ فأنزله على ماله، وأطلق له عياله. وفي هذه السنة ولد هشام بن عبد الرحمن الملقب بالرضي؛ وذلك لأربع خلون من شوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وفي سنة 140، تودع الأمير عبد الرحمن بقرطبة؛ فلم تكن له فيها حركة. ودخل رجال من المشرق ومن بني أمية في هذه السنة؛ فأنزلهم الأمير، وأكرمهم، وأحسن جوائزهم. وفي سنة 141، هرب الفهري من قرطبة، ناكثا، ناقضا للأيمان بعد توكيدها؛ فاجتمع إليه الناس، وبلغ جمعه عشرين ألفا من البربر وغيرهم. فلما رأى كثرة ما اجتمع له، تحرك من ماردة، يريد الأمير عبد الرحمن. فلما بلغ الأمير خبره، برز من القصر، وتقدم إلى المدور. وكان عبد الملك بن عمر المرواني عاملا بإشبيلية، وابنه بكورة مورور؛ فحشدا من كان قبلهما من أهل الكورتين، وتوافى الحشدان؛ فبرز به. واتصل بالفهري خروج الأمير إلى المدور وتوافى الحشود على عبد الملك؛ فتوقع الفهري التشبك بين العسكرين؛ فصرف راياته إلى عبد الملك؛ فالتقيا، ووقعت بينهما حرب شديدة؛ فانهزم يوسف، وتفرق أصحابه عنه، وأتبعوا بالقتل. واتصل الفتح بعبد الرحمن، وهو بالمدور منتظرا لتوافي الحشود؛ فأغناه عاجل الفتح؛ وفر الفهري بنفسه مختفيا. وفي سنة 142، كان هلاك يوسف الفهري ومقتله بناحية طليطلة؛ وكان قد نهض إليها، وتردد بناحيتها شهورا؛ فاغتاله بعض أصحابه، وقتله، واحتز رأسه، وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن؛ فشكر الله على موته، وأمر بنصب رأسه على جسر قرطبة، وأمر بقتل ابنه المرتهن، ونصب رأسه مع رأس أبيه. وتوفي الصميل في الحبس؛ وقيل إنه خنق؛ وقيل إن الذي قتل الفهري عبد الله ابن عمرو الأنصاري، لقيه على أميال من طليطلة، بقرية من قراها. فلما عرفه، قال لمن معه: (هذا الفهري! وفي قتله الراحة له ومنه!) فتقدم إليه؛ فقتله، واحتز رأسه، وتقدم به إلى الأمير. فلما قرب من قرطبة، وأعلم الأمير بخبره، أمر أن يتوقف به دون القنطرة، وأمر بقتل ابنه المرتهن، وأخرج رأسه إلى رأس أبيه؛ ووضعا في قناتين، وتقدم بهما إلى باب القصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 واختلف في أمر يؤسف الفهري؛ فقال بعضهم إنه لم ينكث بغيا، وإنما خوفا؛ فخرج هاربا؛ فأخرج الأمير الخيل في طلبه؛ فأدركته بفحص البلوط؛ ثم أفلت؛ وحشد ولده البربر بالشرق كله، وأقبل في جمع عظيم يريد قرطبة؛ فخرج إليه الأمير؛ فالتقوا بمخاضة الفتح؛ فكان القتال بينهم حتى كاد الأمير عبد الرحمن أن ينهزم؛ وقيل إنه أنهزم نحو الميل؛ فثبت ابنه سليمان في آخر الناس؛ ثم تراجع الأمير حتى انهزم يوسف، ومضى في طلبه إلى قلعة رباح. وقال بعضهم: إن يوسف، لما هرب إلى طليطلة، قبض الأمير عبد الرحمن على أبي الأسود ابنه؛ فسجنه. وقام على يوسف موال له؛ فقتلوه، وأتوا به إلى الأمير عبد الرحمن؛ فقال لهم: (عرفتم من هو؟) قالوا: (نعم! هو يوسف الفهري!) قال: (أنتم لم تحفظوا مولاكم؛ فكيف تحفظونني وتنتظمون في طاعتي؟) فأمر بصرب أعناقهم؛ وأمر بأبي الأسود إلى السجن؛ وكان السجن يومئذ يخرج الناس منه إلى النهر لما يكون من الحاجة مع الموكلين بهم؛ فادعى ولد الفهري العمى، وفشا له ذلك؛ فكان يقول: (من يقود الأعمى؟ يرحمه الله!) وكان يختلف إليه مولى اسمه مفرج يقضي حوائجه ويلقاه على النهر تحت القنطرة. فلما اطمئن إليه، ولم يستنكر خروجه، وشاع عليه العمى، قال لمفرج مولاه: (ابتع لي فرسا أنج عليه!) ففعل وأعده له؛ فهرب عليه، ولحق بطليطلة. فغزاه الأمير عبد الرحمن ولقيه مرارا، فكان آخر هزيمته إياه بقسطلونه؛ ومضى إلى ركانة، ولم يزل بها حتى مات. فقام القاسم بن يوسف، أخو أبي الأسود؛ فأعقب على زوجته، وتولى ما كان أبو الأسود يتولاه؛ فخرج إليه الأمير؛ فأجابه على أن يرد إليه أمواله، ويستوثق منه بالعهود؛ ففعل الأمير ذلك، وانصرف معه إلى قرطبة. وثار على الأمير عبد الرحمن عبد الغافر اليماني بإشبيلية، وتغلب على ما جاور قرطبة؛ فخرج إليه الأمير؛ فخالفه عبد الغافر ونهض يريد قرطبة، رجاء أن يجدها خالية، والإمام عبد الرحمن في الثغر يسدُّ خلله، ويحسم علله؛ فقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 مسرعا حين وافاه الخبر، ولم يلو على ما تعذر، ومحلة عبد الغافر على وادي قيس قد ملأت السهل والوعر. فداخل الإمام عبد الرحمن البربر؛ وكانوا العدد الوافر الأكبر؛ فنزع الأكثر منهم إليه، وصاروا في حزبه ولدبه. ووقعت الهزيمة على عبد الغافر، وأخذ من معه في الفرار والنفار؛ فلم يرفع الإمام عنهم سيفا، وقتل منهم ثلاثين ألفا. وكانت هزيمة هي مدّ الدهر مذكورة، والحفرة التي جمعت رؤوسهم بذلك المكان مشهورة. ومن (كتاب بهجة النفس) قال: لما كان في النيل، تسرع عبد القادر إلى ناحية لقنت؛ وأسرع الأمير القتل في جملته. ولم يذكر عددا. وثار على الأمير عبد الرحمن حبوة من ملامس، وتغلب على إشبيلية وإسنجة وأكثر الغرب، وحشد جموعا؛ فخرج إليه الأمير، وقاتله أياما، حتى همّ الأمير بالهزيمة. ثم إن حبوة انهزم ومضى إلى ناحية فريش، وكتب راغبا في العفو. وفي سنة 146، ثار العلاءبن مغيث الجذامي بباجة، ودعا إلى طاعة أبي جعفر المنصور ونشر الأعلام السود؛ فاتبعه الأجناد، وتطلعه العباد، إلى أن كادت دولة الأمير أن تنصرم، وخلافته أن تنخرم. فخرج إليه من قرطبة، وصار بقرمونة؛ فتحصن بها مع مواليه وثقات رجاله؛ فنازله العلاء بن مغيث منازلة شديدة، وحاصره بها أياما عديدة؛ فلما طال الحصار هنالك، وتخلخل عسكر العلاء لذلك، وعلم عبد الرحمن ما هم عليه من الانزعاج، وأنهم قد هموا بالإلجام والإسراج، أمر بنار، فأوقدت، ثم أمر بأغمدة سيوف أصحابه، فأحرقت؛ وقال لهم: (اخرجوا معي لهذه الجموع، خروج من لا يحدث نفسه بالرجوع!) وكانوا نحو سبعمائة مفحصين إلى أعاديهم. فدارت الحرب بينهم طويلا، إلى أن صنع الله جميلا؛ وزلزل قوم العلاء وأصحابه، فولوا منهزمين، وصار أمرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 آية للعالمين؛ وقتل العلاء فيمن قتل من أولئك الأقوام، وطيف برأسه في ذلك المقام. وقيل إن أبا جعفر المنصور كان أرسل إلى العلاء بن مغيث بولاية الأندلس. فنشر الأعلام السود، وقام بالدعوة العباسية بالأندلس؛ فانحشر إليه الناس. ولما ظفر به الإمام على ما تقدم، أخذ رأسه، وفرغ وحشي ملحا وصبرا، وجعل معه لواء أبي جعفر المنصور، وأدخل في سفط؛ وبعثه مع رجال، وأمرهم أن يضعوا السفط بمكة؛ فوافقوا المنصور بها حاجا في تلك السنة؛ فجعل السفط عند باب سرادقه. فلما نظر إلى ما فيه، قال: (إنا لله! عرضنا بهذا المسكين للقتل! الحمد لله الذي جعل البحر بيننا وبين هذا الشيطان!) يعني عبد الرحمن. هذا مساق السالمي في (درر القلائد) . ومن (بهجة النفس) قال: وكانت ثورة العلاء بموضع يقال له لقنت من عمل باجة. فأظهر سجل المنصور ولواءه، وجمع إلى نفسه من أجابه، ونهض إلى باجة؛ فأخذها، وتغلب منها على جميع الغرب، وخرج يريد الأمير عبد الرحمن؛ فسار حتى انتهى إلى المدور. وكان الأمير يومئذ قد خرج غازيا إلى شرق الأندلس؛ فرجع إذ بلغه أمر العلاء؛ فلما دنا من قرطبة، أمر من كان معه من أهل إشبيلية أن يفروا في المدور، إذ كان قد اتهمهم لميل أهل إشبيلية إلى العلاء؛ ثم نهض، وكتب سرا إلى بدر مولاه يأمره بقتلهم، كان الظفر له أو عليه. ومضى العلاء؛ فالتقى معه. فكانت بينهما حروب وزحوف. ثم قتل العلاء بمقربة من قرمونة، وقضت جموعه. وقتل من أصحابه نحو ستة آلاف. وأمر الأمير بحز رأس العلاء ورؤوس أشراف أصحابه؛ وقرطت فيها صكوك بأسمائهم، وجعلت في أوعية؛ وندب الأمير بها قوما توجهوا بها إلى القيروان؛ فطرحوها في الليل في الأسواق. فتسمع الناس أمرها، وأتصل الأمر بأبي جعفر؛ فانكسرت حدته. وقيل إن الذي هزم العلاء بدر مولى عبد الرحمن بن معاوية، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وفي سنة 147، وجه الأمير عبد الرحمن بدرا مولاه وتمام بن علقمة في جيش كثيف إلى طليطلة، وبها هشام بن عروة ثائر؛ فحاصراه حتى سئم أهل طليطلة الحصار؛ فكاتبوا بدرا وتماما، وسألوهما الأمان على أن يسلموا لهما ابن عروة وهشام بن حمزة بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وحيوة ابن الوليد؛ وكانوا يدا واحدة. فأسلموهم إليهما، وخرج بهم تمام إلى قرطبة؛ فلقيه عاصم بن مسلم؛ فقبض منه الأسرى، وعهد إليه عن الأمير أن يكر إلى طليطلة واليا عليها، ويقبل بدر إلى قرطبة. وأقبل عاصم بالأسرى؛ فلما احتل بقرية حلزة، خرج إليه ابن الطفيل، ومعه حجام وحباب صوف وسلال؛ فحلق رؤوسهم ولحاهم، وألبسهم جباب الصوف، وأدخلهم في السلال، وحملهم على الحمر؛ فأتى على تلك الحال إلى خشب قد أعدت لهم، فصلبوا فيها. وكتب إلى البلدان بفتح طليطلة. وفي سنة 149، ثار سعيد البحصي المعروف بالمطري بكورة ليلة؛ واجتمعت اليمانية إليه، ولاذوا بحقوبه. ثم سار إلى إشبيلية، وتغلب عليها قسرا، ولم يجد أهلها في مدافعته نصرا. فكثر عدده، وتأزر عضده؛ وعاد عسكره مهولا، قد أخذ وعورا وسهولا. فسار إليه الأمير عبد الرحمن في جيوش عظيمة المدد، مجهولة العدد، حتى نزل عليه بقلعة زعواق؛ وكان المطري قد تحصن بها، ولاذ بجانبها؛ فحصره فيها حصرا، وأرهقه من أمره عسرا، حتى خرج متعرضا للحرب في جماعة من فرسانه الأكابر، ومن اختصه من أولئك البرابر؛ فلم تنشب الحرب بينهم إلا قليلا، وقتل المطري ومن معه تقتيلا. وجئ برأسه إلى الأمير عبد الرحمن؛ فأمر للحين برفعه في طرف سنان. وفيها، قتل الأمير عبد الرحمن أبا الصباح بن يحيى البحصبي. وكان قد ولاه إشبيلية، ثم عزله عنها؛ فجمع إليه أهل الخلاف وصار عليه؛ فوجه إليه الأمير مولاه تماما ملاطفا له؛ فقدم معه قرطبة في أربعمائة رجل على غير عهد؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 فأوصله تمام إليه؛ فعاتبه؛ فأغلظ له أبو الصباح في الجواب؛ فأمر بقتله؛ ثم أمر بإخراج رأسه والهتف عليه. وفي سنة 150، هاجت فتنة البربر بشنت برية. وفيها، غزا بدر إلى الثغر، وتقدم إلى ألبة؛ فحاربها؛ فأذعنت له، وأدت إليه الجزية. وأمر بامتحان الرجال بتلك الناحية، واختبار بصائرهم؛ فاستقدم منهم من اطلع له على سوء سريرة وشبهة في الثغر. وفي سنة 152، ثار رجل من البربر، ادعى أنه من ولد الحسن بن علي - رضي الله عنه -؛ وكان أصله من مكناسة العدوة؛ وكانت أمه تسمى فاطمة؛ فادعى أنه فاطمي؛ وتجمع له الغوغاء. فخرج إليه الأمير من قرطبة، وخلف بها ابنه هشاما؛ فتقحم الجبال أمامه بمن كان معه، وانصرف الأمير إلى قرطبة. فأقبل الفاطمي، وقتل عامل شنت برية؛ وغلظ أمره. فكان الأمير يرسل إلى قتاله بعض الفيالق؛ فيتعلق بالجبال الشواهق. وفي سنة 152، خرج الأمير عبد الرحمن لغزو الداعي الفاطمي؛ فهرب وركب الوعر؛ فانصرف الأمير. فرجع الفاطمي؛ فغراه بدر بالصائفة؛ فوجده بجهة شبطران؛ فأتبعه رجاء أن يدركه. فدخل المفاوز، وانقطع أثره. ومضى هذا الفاطمي إلى مدلين؛ وكان عامله أبو زعبل الصدفوري. فتمادت فتنته من سنة 150 إلى سنة 160، إلى أن اغتاله بعض أصحابه؛ فقتله، وعفره هناك وجدله. وفي سنة 154، تهدن الإمام عبد الرحمن بقرطبة، ولم تكن له بها حركة. وفي سنة 155، خرج الإمام عبد الرحمن من قرطبة؛ فحل بشنت برية. وقدم عليه هلال من أبناء المديوني؛ فكتب له عهدا على قومه، وأقره على موضعه؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وكان رأس البربر في شرق الأندلس. وقلده أمر الفاطمي المتقدم الذكر؛ فكان في ذلك الراحة منه، وتفرقت بفعله ذلك كلمة البربر، وانحلت عقدة الفاطمي، وانصرف من شنت برية إلى الجوف. وفي سنة 156، ثار على الأمير عبد الرحمن عبد الغافر اليحصبي، وخلع طاعته. وكان الأمير بناحية الشرق؛ فكتب إليه بدر من قرطبة؛ فطوى المراحل إليه؛ ثم تقدم إلى إشبيلية؛ فوضع السيف فيه وفي أصحابه؛ فقتلوا قتلا ذريعا. وأفلت عبد الغافر؛ فركب البحر، ونجا إلى المشرق. وفي سنة 157، خرج الأمير عبد الرحمن إلى ناحية الغرب، واحتل بإشبيلية، وقتل بها خلقا كثيرا ممن كان بسيل عبد القادر، وقطع آثارهم، ووطد الطاعة. ثم انصرف معجلا، لأنه إنما قصد امتحان أهل إشبيلية وتمحيصهم. وقيل: كان ذلك سنة 158. وفي سنة 159، غزا الإمام عبد الرحمن قورية، وقصد في طريقه ذلك البربر الذين غدروا بأبي زعبل ومكنوه من الفاطمي، فقتله؛ فدوخ بلد البربر، وقتل منهم خلقا كثيرا وأذلهم. وأخذ أبا مزكانة المصمودي، وهو عباس ابن قلعوش. وفي سنة 160، أخرجت الصائفة إلى الفاطمي؛ وكان في أحواز شنت برية؛ فعورض بالخيل، وقطعت عاديته. وفي سنة 161، وقيل سنة 162، دخل إلى الأندلس عبد الرحمن بن حبيب الفهري المعروف بالصقلبي؛ فنزل كورة تدمير؛ فاستقر بها، ولم تبد منه في تلك السنة عادية؛ وإنما لقب بالصقلبي لأنه كان طويلا، أشقر، أزرق، أمعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وفيها، حمل نهر قرطبة حملا عظيما، حتى سد حنايا القنطرة وهدم بعضها وزلزلها؛ وبقى كذلك يومين. وفي سنة 163، ثار عبد الرحمن بن حبيب الفهري، المتقدم الذكر في السنة قبل هذه، في ناحية تدمير؛ فغزاه الأمير عبد الرحمن؛ فهرب ابن حبيب وتعلق بالوعر؛ فجال العسكر في كورة تدمير، وتقدم إلى كورة بلنسية، بعد أن أحرق المراكب بساحل البحر. ثم إن مشكارا البربري فتك بابن حبيب الصقلبي وقتله. وفيها، ثار ابن شجرة بمورور؛ فخرج إليه بدر يوم الأضحى؛ فألقاه على غرة فقتله، وكتب إلى الإمام بالفتح. وقيل: بل كان ذلك في سنة 162. وفي سنة 164، غزا الإمام عبد الرحمن الرماحس بن عبد العزيز؛ وكان على شرط مروان بن محمد؛ فلحق بالأندلس؛ فولاه الإمام الجزيرة؛ فخلع طاعته؛ فخرج إليه واحتل بالجزيرة؛ فوجد الرماحس في الحمام؛ فلم يشعر إلا وخيل الإمام تجوس الديار؛ فأعجل الرماحس عن لبس ثيابه، وخرج في ملحفة مصبغة؛ فدخل في قارب، ونجا إلى العدوة. ووجد الأمير عبد الرحمن في سجنه جماعة من الأمويين؛ فأطلقهم. وفي سنة 165، ثار على الأمير عبد الرحمن الحسين بن يحيى بن سعد بن عيادة الأنصاري بسرقسطة؛ فسار إليه بالجماهير؛ والعسكر الشهير؛ فحاصره بسرقسطة حصارا، وقدم لقتاله أحزابا وأنصارا، إلى أن خرج طائعا إليه، متراميا عليه؛ فقبل إنابته، ولم يحرم إجابته. فلما عفا عنه، وأغضى عما كان منه، أبقاه بسرقسطة واليا. وقفل الأمير إلى قرطبة سامي اللواء، قاهر الأعداء. ثم إن الحسين خفر الذمة، وكفر النعمة، وأعلن بالنفاق إعلانا، وأرسل في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 الشقاق عنانا؛ فسار إليه الإمام أيضا، ونازله نزالا، وأذاق سرقسطة نكالا، إلى أن فتحها بنقب سورها فتحا شنيعا، وقتل الحسين وأصحابه قتلا ذريعا. وولى عليهم عليّ بن حمزة، وقفل إلى قرطبة طاهر العزة. ومن (كتاب بهجة النفس) قال: وفي سنة 167، غزا الإمام سرقسطة إلى حسين بن يحيى؛ فحاصره حتى أخذ المدينة عنوة، وقتل حسينا بالدمغة وجماعة معه؛ وأخرج أهل المدينة عنها إلى قرية على ثلاثة أميال ليمين لزمته فيهم؛ ثم صرفهم إليها بعد أيام، وقفل إلى قرطبة. وفي سنة 168، أراد المغيرة بن الوليد بن معاوية القيام على الإمام؛ وكان وطنه يومئذ بالرصافة؛ فانكشف له يومئذ أمره من قبل بعض من تعاقد معه؛ فأحضرهم بين يديه، وأقروا؛ فأمر بقتلهم، واستبقى الناضح لهم. وتحول الإمام عبد الرحمن يومئذ من الرصافة إلى قصر قرطبة. وفي سنة 169، ثار على الأمير عبد الرحمن محمد بن يوسف الفهري، الذي كان في تعامه وهرب؛ وكان قد تحرك من طليطلة وجهة الشرق بالحشود. وبلغ الإمام خبره؛ فأمر بحشد الكور، والتقى معه في مخاضة الفتح؛ فكان بينهم زحف وقتال أياما؛ ثم انهزم محمد المذكور؛ فقتل رجاله، وأفنى عدده. وكانت هذه الوقعة يوم الأربعاء مستهل ربيع الأول من السنة. قال الرازي قتل فيها أربعة آلاف رجل، سوى من تردى في الوادي، وهلك في المهاوي. وهرب محمد بن يوسف هذا إلى قورية. وفي سنة 170، خرج الأمير عبد الرحمن إلى محمد بن يوسف الفهري، حتى بلغ قورية. ففر أمامه، وأدركت الخيل عياله وأصحابا له؛ فقتل من أدرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وأحرقت دوره. وانقطع محمد بن يوسف وحده، وانحاش إلى غياض. وأوقع الأمير ببربر نفزة؛ فأذلهم، وأذهب عاديتهم. ثم مات محمد بن يوسف بقرية ركانة من عمل طليطلة. وفي سنة 171، قام قاسم بن عبد الرحمن الفهري، عم محمد بن يوسف أخو يوسف الفهري، وخلع الطاعة؛ فلما تحرك أمره، وجه إليه الأمير عبد الرحمن الجيوش؛ فأذعن له بالطاعة. وفي سنة 170 المتقدمة، أمر الأمير عبد الرحمن بتأسيس المسجد الجامع بحضرة قرطبة؛ وكانت بموضعه كنيسة؛ فأنفق فيه مائة ألف بالوازنة. وفي سنة 172، مات الإمام عبد الرحمن بن معاوية - رحمه الله! - وذلك يوم الثلاثاء لست بقين من ربيع الآخر من السنة المذكورة. ذكر بعض أخباره على الجملة كان الإمام عبد الرحمن فصيحا، بليغا، حسن التوقيع، جيد الفصول، مطبوع الشعر. مما أملاه على كاتبه إلى سليمان بن الأعرابي: (أما بعد، فدعني من معاريض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق! لتمدن يدا إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لألقين بنابها على رضف المعصية نكالا بما قدمت يداك! وما الله بظلام للعبيد!) . وكتب عنه أمية بن زيد كتابا إلى بعض عماله، يستقصره فيما فرط من عمله؛ فأكثر وأطال الكتاب. فلما لحظه عبد الرحمن بن معاوية، أمر بقطعه، وكتب بخط يده: (أما بعد، فإن يكن التقصير لك مقدما، فعد الاكتفاء أن يكون لك مؤخرا. وقد علمت بما تقدمت؛ فاعتمد على أيهما أحببت!) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وثار عليه ثائر؛ فغزاه وظفر به. فبينا هو في الطريق، إذ نظر إلى الثائر، وهو على بغل في كبوله، وتحت الأمير عبد الرحمن فرس له؛ فلما لحقه، قنع رأسه بالقناة، وقال: (يا بغل! ماذا تحمل من الشقاق والنفاق!) فقال الثائر: (يا فرس! ماذا تحمل من العفو والإشفاق!) فقال: (والله! لا ذقت موتا على يدي!) فأطلقه. ومن شعره البديع الرائق، ما كتب به إلى بعض من طرأ عليه من قريش؛ وكان قد استقل جرايته، واستطال بقرابته، وسأله الزيادة له والتوسعة؛ فكتب إليه بهذه الأبيات (بسيط) : سِيَّانِ مَنْ قَام ذَا امْتعاضِ ... بِمُنْتَضَى الشَّفْرَتَيْنِ نَصْلاَ فَجَابَ قَفْراً وشَقَّ بَحْراً ... مُسَامِياً لُجَّةً وَمَحْلاً فَبَزَّ مُلْكاً وشَادَ عِزًّا ... ونَاثِراً للخِطَاب فَصْلاً وَجَنَّدَ الجُنْدَ حِينَ أوْدَى ... ومَصْرَ المِصْرَ حينَ أجْلاَ ثُمَّ دَعَا أَهْلَهُ جميعاً ... حَيْثُ أنْتَؤوا أنْ هَلُمَّ أهْلاَ فَجَاء هذا طَريدَ جُوعٍ ... شَرِيدَ سَيْفٍ أبيدَ قَتْلاً فَنَالَ أمْناً وَنَالَ شَبْعاً ... ونَالَ مالاً وحَازَ أهْلاَ وذكر أن أيا جعفر المنصور قال يوما لبعض جلسائه: (أخبروني: من صقر قريش من الملوك؟) قالوا: (ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء!) قال: (ما قلتم شيئا!) قالوا: (فمعاوية؟) قال: (لا!) قالوا: (فعبد الملك بن مروان؟) قال: (ما قلتم شيئا!) قالوا: (يا أمير المؤمنين! فمن هو؟) قال: (صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا، منفردا بنفسه؛ فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا عظيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة سكيمته. إنّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه؛ وعبد الملك ببيعه أبرم عقدها؛ وأمير المؤمنين يطلب عنزته، واجتماع شيعته. وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين!) فقال الجميع: (صدقت، والله، يا أمير المؤمنين!) وكان الإمام عبد الرحمن من أهل العلم، وعلى سيرة جميلة من العدل. ومن قوله رحمه الله!) يتذكر وكنه (خفيف) : أيُّها الراكبُ المُيَمّمِ أَرْضِي ... اقْرأ بَعْضَ السلامِ عَنّي لبَعْضِي إنّ جِسْمِي كَمَا تَرَاهُ بأرْضِ ... وَفُؤادِي ومَالِكيِهِ بأرْضِ قُدْرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فافْتَرَقْنا ... وطَوَى البَيْنُ عن جُفوني غَمْضِ قدْ قَضَى اللهُ بالبِعادِ عَلَينا ... فَعَسَى باقْتِرابِنا يَوْفَ يَقْضِي وله من الشعر كثير مشهور. وذكر الرازي أن الإمام عبد الرحمن، أول نزوله بمنية الرصافة واتخاذه لها، نظر فيها إلى نخلة؛ فهاجت شجنه، وتذكر وطنه؛ فقال على البديهة (طويل) : تَبَدَّت لَنَا وَسْطَ الرُّصافَةِ نَخْلةٌ ... تَنَاءت بأرضِ الغَرْبِ عن بَلَدِ النَّخْل فقُلتُ شَيِهي في التَغَرُّبِ والنَّوَى ... وطُولِ التَّنَاءي عن بُنّيَّ وعن أهلي نشَأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غَريَبةٌ ... فمِثْلُكِ في الإقصاء والمُنتاي مثلي سَقَاكِ غَوَادِي المُزْنِ مِن صوبها الذي ... يسحُّ ويستمرِي السِماكين بالوّبْلِ وكان - رحمه الله! - قد عقد العهد لابنيه هشام وسليمان. فولى بعده هشام، على ما أذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 خلافة هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل كنيته: أبو الوليد. مولده: سنة 139. أمه تسمى جمال. نقش خاتمه: (بالله يثق عبده هشام وبه يعتصم) . صاحب شرطته: عبد الغافر بن أبي عبدة. وزراؤه: ثمانية. كتابه: اثنان: فطيس بن عيسى، وخطاب بن زيد. قاضيه: المصعب بن عمران. صفته: أبيض مُشرب بحمرة، بعينيه حول. حاجبه: عبد الرحمن بن مغيث. بنوه: الذكور ستة، والإناث خمس. بويع يوم الأحد مستهل جمادى الأولى من السنة. وكان عند موت أبيه بمدينة ماردة؛ فوافاه الخبر؛ فطرق، ووصل قرطبة بعد ستة أيام. فبايعه الخاصة والعامة. وكان أخوه بطليطلة؛ وكان أكبر سنا منه فلما اتصل به خبر أبيه، حشد الحشود، وجند الجنود، يريد قرطبة، مخالفا لأخيه. فلما حصل بجيان، خرج إليه هشام في أجناده، والتقى معه بجهة بلج؛ فوقعت بينهم حرب شديدة؛ فانهزم سليمان، وأسلم عسكره، وفرَّ على وجهه. وقفل هشام إلى قرطبة ظافرا في أجناده. وتوفي هشام ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر سنة 180؛ فكان عمره أربعين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام؛ فكانت مدة دولته وخلافته سبع سنين وتسعة أشهر وثمانية أيام. وقيل إن عبد الرحمن بن معاوية - رحمه الله! - لما حضرته الوفاة، وابنه هشام بماردة، وابنه الآخر سليمان بطليطلة، وكل ابنه عبد الله المعروف بالبلنسي، وقال له: (من سبق إليك من أخوتك، فأرم إليه بالخاتم والأمر! فإن سبق إليك هشام، فله فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة عليه؛ وإن سبق إليك سليمان، فله فضل سنه ونجدته وحب الشاميين إليه!) فقدم هشام من ماردة قبل سليمان؛ فنزل بالرصافة، وخاف من عبد الله أخيه، إذ صار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 متمكنا من قرطبة والقصر والأموال، أن يدافعه. فخرج إليه أخوه عبد الله، وسلَّم عليه بالخلافة، ودفع إليه الخاتم، كما أوصاه أبوه، وأدخله القصر. قال الرازي: ولما صار الأمر إلى هشام، واتصل ذلك بسليمان أخيه، أخذ بيعة أهل طليطلة وما جاورها لنفسه، وغلب عليها. وشغله أمر أخيه هشام. فثار سعيد بن الحسين الأنصاري بساغنت من إقليم طرطوشة، وأقبل إلى سرقسطة؛ فأخرج منها وإليها، وضرب بين الناس، ودعا إلى نفسه وإلى الفتنة؛ فأرسلها مضرية ويمانية. وحشد موسى بن فرتون إلى سرقسطة؛ فأخذها؛ وكان على دعوة المضرية؛ فالتقى مع اليمنيين. وكانت بينهم حرب؛ فقتل منهم جماعة، ودخل سرقسطة. ثم قدم مطروح بن سليمان بن الأعرابي على دعوة أبيه من برسلونة؛ فتغلب على وشقة وسرقسطة والثغر كله. وفي سنة 173، طمحت نفس عبد الله البلنسي أخي هشام إلى الإمارة؛ وقد كانت في يده أولا، ولم يرض منه إلا بمشاركته، وذلك بعد سبعة أشهر من وفاة والدهما. وكان هشام يبرُّه، ويترضاه، ويفضله على الكثير من اخوته؛ فلم يقنعه ذلك، وخرج يريد أخاه سليمان بطليطلة. فلما بلغ الأمر إلى هشام، أشفق من ذلك، وأخرج إليه من يرضيه ويرده؛ فلم يدركه. ومضى حتى قدم طليطلة. وفي هذه السنة، خرج هشام إلى أخيه سليمان بطليطلة. فلما نزل عليه، خرج سليمان مستخفيا، وخلف أخاه عبد الله وابنه داخل المدينة، ونهض يريد انتهاز الفرصة؛ فطوى المراحل، حتى احتل بشقندة. فخرج أهل قرطبة مدافعين له. وبلغ هشاما خبره؛ فلم يكترث لذلك. ووجه ابنه عبد الملك يقفو أثره؛ فلما قرب منه، ولى سليمان منهزما، وقطع إلى غير وجهة حتى خرج متعسفا إلى ناحية ماردة؛ وكان عاملها حدير المعروف بالمذبوح؛ فخرج إليه؛ فهزمه. وتمادى الأمير هشام في حصار طليطلة شهرين وأياما؛ ثم قفل عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وفي سنة 174، انصرف عبد الله البلنسي إلى أخيه هشام بلا عهد ولا أمان؛ فأنزله الإمام هشام عند ابنه الحكم. وفيها، أغزى هشام ابنه معاوية إلى تدمير، وقائداه شهيد بن عيسى وتمام ابن علقمة؛ فدوخوا تدمير (وهي مرسية) ، وبلغوا البحر. وكان سليمان (يعني أخا هشام) قد حصل في بعض ثغور تدمير؛ فطلب سليمان الأمان؛ فاشترط عليه الأمير هشام الخروج عن الأندلس، ويعطيه ستين ألف دينار؛ فركب سليمان البحر بأهله وولده، واحتل ببلاد البربر. فكفاه الله أمر إخوته. وفي سنة 175، أغزى هشام بن عبد الرحمن عبيد الله إلى سرقسطة، وبها يومئذ مطروح المذكور؛ فحاصرها عبيد الله؛ ثم احتل بمدينة طرسونة، وألح عليها بالمحاصرة، حتى ضاق ذرع أهل سرقسطة، وضجوا من تمادي الحصار؛ فخرج مطروح في بعض الأيام متصيدا، ومعه عمروس بن يوسف وابن صلتان؛ فلما أرسل بازيه على طائر ونزل على الصيد، تعاوراه بسيوفهما حتى قتلاه، واحتزا رأسه، وتقدما به إلى ابن عثمان، وهو بطرسونة؛ فتحرك إلى سرقسطة؛ فلم يمتنع عليه أحد من أهلها؛ ودخل المدينة؛ فنزلها، وبعث برأس مطروح إلى الأمير هشام. وفي سنة 176، أغزى الإمام هشام أبا عثمان عبيد الله بن عثمان إلى ألبة والقلاع؛ فلقي بها أعداء الله بجموعهم متوافين؛ فهزمهم الله على يديه، وقتلوا في السهل والوعر؛ وانتهى ما حيز من رؤوسهم إلى تسعة آلاف رأس ونيف. وفي هذه السنة، غزا يوسف بن بخت إلى جليقية؛ فالتقى ببرمود الكبير، وواضعه الحرب؛ فانهزم عدو الله، وانتهب المسلمون عسكره، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، وحز من رؤوسهم عشرة آلاف، سوى من لم يتمكن منه ممن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 قتل في الوعر. وأتى هذا الفتح قرطبة بعد فتح أبي عثمان. ذكر ذلك الرازي وغيره. وفي سنة 177، أغزى الإمام هشام عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث بالصائفة إلى أرض الروم، وهي غزوة شهيرة الخبر، جليلة الخطر، انتهى فيها إلى إفرنجة؛ فحاصرها، وثلم بالمجانيق أسوارها، وأشرف على بلاد المجوس؛ وجال في بلاد العدو، وبقى شهورا يحرق القرى ويخرب الحصون. وأوقع بمدينة أربونة؛ وكان فتحا عظيما، بلغ فيه خمس السبي إلى خمسة وأربعين ألفا من الذهب العين. وفي سنة 178، هاجت الفتنة بتاكرنا، وخالف بربرها، وغاروا على الناس، وقتلوا وسبوا. فبعث الإمام هشام إليهم الأجناد بعد الإعذار إليهم. فقتل أكثرهم، وفرّ سائرهم إلى طلبيرة وترجيلة. وأقامت تاكرنا، وهي إقليم رندة، وبلادها خالية قفرا سبع سنين. وفي سنة 179، أغزى الإمام هشام بن عبد الرحمن عبد الكريم بن مغيث بالصائفة، حتى انتهى إلى مدينة أسترقة داخل جليقية. فبلغه أن إذفونش قد حشد بلاده، واستمد البشكنش وأهل تلك النواحي التي عليه من المجوس وغيرهم، وأنه عسكرهم ما بين حيز جليقية والصخرة، وأنه أذن لسكان السهل بالتفرق في شواهق جبال السواحل. فقدم عبد الكريم فرج بن كنانة في أربعة آلاف فارس؛ ثم رحل في إثره؛ فألقى أعداء الله؛ فواضعهم الحرب حتى هزمهم الله؛ فقتل حماتهم، وأسر جماعة منهم؛ ثم أمر بعد انحلال الحرب بقتلهم، وبث الخيل في القرى؛ فانتسفت جميع ما ألفته من زروعهم، وخربت ما مرت عليه من عمارتهم. وتقدم بعد ذلك إلى واد يقال له كوثية؛ فلقى به غندماره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وهو في ثلاثة آلاف فارس فقاتله حتى انهزم عسكره، وأخذ غندماره أسيرا، وقتل من أصحابه عدد كثير. وأصاب العسكر جميع ما في تلك الناحية. وتقدم مستنجزا لإذفونش؛ فلما بلغه قصده إليه، تنحى عن الجبل الذي كان فيه منحازا عنه إلى حصن له، كان قد بناه وأتقنه على وادي نلون؛ فتقرب منه عبد الكريم مقتفيا لأثره، ولا يمر بمنزل فيما بينه وبينه إلا حرقه، ولا بمال إلا أصابه، حتى أطل على الحصن. فانتقل منه إلى حصن ملكه. واحتل عبد الكريم بالحصن الذي انتقل منه؛ فألقى فيه الأطعمة وضروب الذخر، وبعث في اليوم الثاني من حلوله به فرج بن كنانة، في عشرة آلاف فارس، يقفو أثره؛ فلما قرب منه، انهزم عنه وأسلم جميع عدته وذخره؛ فغنم المسلمون جميع ذلك. وفي سنة 180، توفي الإمام هشام بن عبد الرحمن - رحمة الله عليه! - ودفن بقصر قرطبة؛ وصلى عليه ابنه الحكم؛ وذلك ليلة الخميس، كما تقدم ذكره. وبايع الناس ابنه الحكم؛ وكان ابنه عبد الملك أسن منه. ذكر بعض أخباره على الجملة كان - رحمه الله! بسط البنان، فصيح اللسان، وسبع الجناب، حاكما بالسنة والكتاب؛ قبض الزكوات من طرقها، ووضعها في حقها؛ لم يأخذه في الله لوم ولا تعلق به ظلم. ارتفع أخوه عن مبايعته، وامتنع عن طاعته، واستبد بطليطلة استبدادا، واستنفر للخلاف والنفاق أجنادا؛ فما زال يشتغل بالفتنة بالا، ويذيق الناس وبالا؛ قد عظمت عليه به المحنة، وعدمت منه الهدنة، حتى مات الأمير هشام، وحكمت بخلافة ابنه الحكم الأحكام؛ فحاربه في تلك القطار، إلى أن اختطفته الأسنة والشفار؛ فأمن بعد ذلك الجانب، ولم يكن في ذلك التأريخ هنالك ما جنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وكان هشام يبعث إلى الكور قوما عدولا يسألون الناس عن سير العمال، ثم ينصرفون إليه بما عندهم؛ فيقع نظره بهدم ما تكشفه المحنة له منهم. واعترض له يوما متظلم من أحد عماله؛ فبدر إلى الشاكي من رجال العامل من ترخاه شنقة منه على العامل. فبعث إلى الشاكي وقال له: (احلف على كل ما ظلمك فيه؛ فان كان ضربك، فاضربه؛ أو هتك لك سترا، فاهتك ستره؛ أو أخذ لك مالا، فخذ من ماله مثله، إلا أن يكون أصاب منك حدا من حدود الله!) فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه. فكان زجره هكذا العماله، أبلغ فيهم من النكال والأدب. وكان كريما، عادلا، فاضلا، متواضعا، عاقلا، لم تعرف منه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه. (ومن كرمه أنه كان يصر أموالا في صرور، ويخرج بها بين المغرب والعشاء يتفقد المسجد؛ فإذا وجد واحدا يصلي في مسجد أو لا يصلي، وضع بين يديه صرة، حتى كثرت عمارة المساجد وكان - رحمه الله! - قد نظر في بنيان قنطرة قرطبة، وأنفق في إصلاحها أموالا عظيمة. وتولى بناءها بنفسه، وتعطى الأجرة بين يديه. قال ابن وضاح: لما ينى هشام القنطرة، تكلم بعض الناس فيه، وقالوا: (إنما بناها لتصيده ونزهته!) فحلف حين بلغه ذلك ألا يجوز عليها إلا لغزو أو مصلحة. قال القاضي أبو معاوية: أدركت صدرا من الناس يحكون أن أيام هشام هذا كانت من الدعة والعافية والهدوء بحيث لم يعلم لها مثل. وكان يحضر الجنائز، ويزاحم فيها، كأنه أحد من الناس، تواضعا. وكان لبعض رجال هشام خصومة في دار عند القاضي مصعب بن عمران؛ فسجل عليه القاضي فيها وأخرجه منها؛ فنهض الرجل إلى هشام، وقال له: (إن القاضي سجل عليَّ في داري التي كنت أسكنها، وأخرجني عنها!) فقال له هشام: (وماذا تريد مني؟ والله لو سجل عليّ القاضي في مقعدي هذا، لخرجت عنه!) انقيادا منه للحق - رحمة الله عليه!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قصة الكناني مع هشام بن عبد الرحمن كان قبل خلافته يقعد في علبة مطلة على النهر، ينظر منها إلى الربض، وتقع عينه على من يخطر. فنظر يوما في الهاجرة إلى رجل من بني كنانة؛ وكان من صنائعه، مقبلا من باديته بجيان؛ وكان أخوه سليمان واليا عليها؛ فدعا فتى له وقال له: (أرى الكناني صنيعنا مقبلا في هذه الظهيرة، وما أحسب ذلك إلا لخطب أقلقه من أبي أيوب أخي. فإذا وصلك، فأدخله على كما هو.) ففعل الفتى ما أمره. وكانت مع هشام جارية له. فلما دنا الكناني، رفع سترا كان أمامه؛ فدخلت الجارية خلفه؛ ثم قال له، بعد أن سلم عليه: (يا كناني، لا أحسبك إلا قد دهمك أمر!) فقال له الكناني: (قتل رجل من بني كنانة رجلا خطاء؛ فحملت الدية على العاقلة؛ فأخذت بنو كنانة عامة، وحيف عليّ من بينهم خاصة، لما عرف أبو أيوب مكاني منك. فعذت بك من ظلامتي!) فقال له: (يا كناني! ليفرج روعك وليسكن جأشك لا جرم قد تحمل هشام عنك وعن قومك جميع الدية!) ثم مد يده إلى خلف الستر؛ فأخرج عقدا كان على الجارية، ثمنه ثلاثة آلاف دينار؛ فقال له: (خذ هذا العقد؛ فأد من ثمنه عنك وعن قومك، وتوسع في الباقي!) فقال الكناني: (يا سيدي! إنه لم آتك مستجديا ولا ضاق لي مال عن أداء ما حملته؛ ولكني أتيتك مستجيرا بك لما أصبت بالعدوان والظلم؛ فأحببت أن تظهر على من عز نصرك!) قال له: (فما وجه نصرك؟) قال له: (أن يكتب الأمير - أصلحه الله! - إلى أبي أيوب في الإمساك عن أخذي بما لم يجب عليّ، وأن يحملني محمل عامة أهلي!) فقال له هشام: (خذ العقد لأهلك ولنفسك، إلى أن ييسر الله فيما ذهبت إليه من أمرك!) ثم أمر هشام بإسراج دابته من فوره، وركب إلى أبيه الأمير عبد الرحمن. فلما مثل بين يديه، قال له: (رجل من بني كنانة، هو لي صنيعة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 عدا عليه أبو أيوب بجيان في دبة حملت على العاقلة!) قال الأمير: (فما تحب في أمره؟) قال: (الكتب إليه بالكف عنه، وأن لا يؤخذ بغير ما لزمه!) فقال الأمير: (أو خير من ذلك! يؤدي الدية عنه وعن قومه من بيت المال، إذ هو منك بهذه المنزلة، وإذ أنت له بهذه العناية!) فأكثر هشام الشكر لوالده؛ ثم أمر الإمام بأداء الدية من بيت المال، وبالكتب إلى أبي أيوب بترك التعرض للكناني. ولما حان توديع الكناني لهشام، قال له: (يا سيدي، إني قد بلغت فوق الأمنية، وجاوزت أقصى غاية العز والنصرة! وهذا العقد النفيس قد أغنى الله عنه!) فقال له هشام (يا كناني، إنه لا سبيل إلى رد شئ قد خرج عنا. فخذه مباركا لك فيه!) وهشام هذا هو الذي أكمل سقائف المسجد الجامع بقرطبة، ورفع منارته القديمة، وبنى الميضأة العجيبة، وعقد من الجسر ما كان تثلم بالسيل - رحمه الله! خلافة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن كنيته! أبو العاصي. أمه: زخرف. مولده: سنة 154. بويع بعد موت أبيه بليلة، يوم الخميس لثمان خلون من صفر سنة 180، وهو ابن ست وعشرين سنة؛ فكانت خلافته ستا وعشرين سنة، وأحد عشر شهرا. كتابه: ثلاثة: فظبس، وخطاب بن زيد، وحجاج العقيلي؛ حاجبه: عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث؛ وزراؤه وقواده: خمسة: إسحاق بن المنذر، والعباس بن عبد الله، وعبد الكريم بن عبد الواحد المذكور، وفطبس بن سليمان، وسعيد بن حسان. قضاته: مصعب بن عمران، ومحمد بن بشير، والفرج بن كنانة، وبشر بن قطن، وعبيد الله بن موسى، ومحمد بن تليد، وحامد بن محمد بن يحيى. نقش خاتمه: (بالله يثق الحكم وبه يعتصم! صفته: آدم، شديد الأدمة، طويل، أشم، نحيف، لم يخضب. بنوه الذكور: تسعة عشر، والبنات: إحدى وعشرون. توفي لأربع بقين لذي الحجة سنة 206؛ فكان عمره اثنان وخمسون سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 ولما بلغ موت هشام الرضى إلى سليمان وعبد الله ابني عبد الرحمن بن معاوية، وهما بالعدوة، تقدم عبد الله؛ فجاز البحر إلى ريف الأندلس. ولما بويع الحكم بالخلافة، واستوسق له الأمر، وجه عبد الكريم بن عبد الواحد غازيا إلى دار الحرب، في جيش عظيم؛ فاحتل عبد الكريم بالثغر؛ وتوافت عليه الجيوش. ثم تقدم، فاحتل على شاطئ البحر، وقسم الجيش على ثلاثة أقسام، وقدم على كل قسم رئيسا، وأمر كل واحد منهم بأن يغير على الناحية التي قصدها ووجه إليها؛ فمضوا، وأغاروا، واستباحوا، وانصرفوا غانمين ظافرين. ثم عادوا ثانية إلى الإغارة، وجاوزوا خلجا كانت تمد وتحصر؛ وكان أهل تلك النواحي قد تحرزوا بها، ونقلوا إليها العيال والماشية والأموال؛ فأغاروا عليها، واحتووا على جميع ما وجدوا فيها، وانصرفوا سالمين غانمين. وفي سنة 181، ثار على الأمير الحكم بهلول بن مرزوق المعروف بأبي الحجاج في ناحية الثغر، ودخل سرقسطة، وملكها. وحل به عبد الله بن الأمير عبد الرحمن بن معاوية؛ وكانت وجهته إلى إفرنجة. وفيها، ثار عبيدة بن حميد بطليطلة؛ فنصب الحكم عمروس بن يوسف لحربه من طلبيرة؛ فكان يتردد لحربهم؛ ثم إن عمروس كاتب رجالا من أهل طليطلة، واستلطفهم حتى مالوا إليه؛ فدعاهم إلى القيام على عبيدة، والفتك به؛ ووعدهم على ذلك بمثوبة جليلة من الأمير؛ فبدروا إليه، وقتلوه، وتوجهوا برأسه إلى عمروس؛ فأنزلهم عند نفسه بطلبيرة. فلما علم بهم بعض بربر طلبيرة، وكانت بينهم دماء، دخلوا عليهم تلك الليلة الدار؛ فقتلوهم. فبعث عمروس برأس عبيدة وبرؤوس المذكورين، وهم بنو مخشي إلى الحكم بقرطبة، وكتب إليه يخبرهم. ثم إن عمروس أعمل جهده في استجلاب أهل طليطلة بمكاتبتهم، حتى أدخلوه المدينة. فلما تمكن منها، بنى القصر على باب جسرها؛ فأحكمه، وأتقن أمره؛ ثم سعى في قتل رجال طليطلة، وقطع شرهم، وحسم دائهم، توطيدا للمملكة. فأعد للكيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 صنيعا، أظهر أنه يذبح فيه البقر، وأمر أن يكون دخول الناس على باب، وخروجهم على باب. فكان كل من دخل وتجاوز الباب قتل، حتى أفنى من أشرافهم سبعمائة. وفي سنة 182، كان السيل العظيم بقرطبة، ذهب بربض القنطرة؛ ولم يبق فيه دارا إلا هدمها، حاشى غرفة عون العطار. وبلغ السيل شقندة. وفيها، دخل سليمان بن عبد الرحمن بن معاوية الأندلس من العدوة، وتقدم متعرضا لحرب الحكم، في شوال منها؛ فانهزم سليمان، بعدما دارت بينهما حرب شديدة. وفيها، عاد سليمان ثانيا للقتال؛ والتقى مع الحكم أيضا ببنجبطة؛ فانهزم سليمان. وفي سنة 183، خرج سليمان، ومعه برابر اجتمعوا إليه، إلى ناحية إستجة؛ فغزاه الحكم، والتقيا بمقربة من إستجة؛ فدارت بينهم حروب شديدة أياما. ثم انهزم سليمان بمن كان معه. ثم التقيا أيضا في هذا العام؛ فانهزم سليمان. وفي سنة 184، حشد أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن من الشرق، فاحتل بجيان، ثم بإلبيرة. فاتبعه جماعة من الكورتين، والتقى معه الحكم؛ فدام القتال بينهم أياما، حتى هم الحكم بالهزيمة. ثم انهزم سليمان، وأفلت. وقتل في المعترك بشر كثير. وبعث الحكم أصبغ بن عبد الله في طلبه؛ فلحقه بجهة ماردة، وأخذه أسيرا، وأتى به إلى الحكم؛ فأمر بقتله، وبعث برأسه إلى قرطبة. وفي سنة 186، أخرج الحكم إلى عمه عبد الله البلنسي أمانا؛ وهو أول خروج كان إليه، وأول مكاتبة كانت بين الحكم وبينه بعد حلوله ببلنسية. وفي سنة 187، انعقد أمان عبد الله البلنسي وصلحه بإجزاء الأرزاق عليه، وذلك ألف دينار لكل شهر، وبإجراء المعارف، وذلك ألف دينار لكل عام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وخرج إليه بهذا الأمان يحيى بن يحيى وابن أبي عامر؛ فعقد الصلح على ذلك وعلى أن يسكن عبد الله بلنسية. وقدم يحيى وابن أبي عامر بولد عبد الله على الحكم؛ فزوجه أخته شقيقته. مقتل أهل الربض أولا قبل هيجه ثانية وفي سنة 189، صلب الإمام الحكم اثنين وسبعين رجلا بقرطبة، منهم أبو كعب بن عبد البر، ويحيى بن مضر، ومسرور الخادم. وكان السبب في ذلك أنهم أرادوا الغدر به، وهموا بالخلاف عليه؛ وطلبوا رئيسا يقومون به. فوقع الخبر علي محمد بن القاسم عم هشام بن حمزة، وأطلعوا على أمرهم، ودعوه للقيام معهم؛ فخذلهم، وأفشى سرهم، وتقرب إلى الحكم بدمائهم. فتثبت الحكم، وسأله تصحيح ما رفع إليه؛ فقال له: (هات أمناءك!) فأخفاهم عنده، ووجه عنهم لميعاده؛ ثم قال لهم: (هذا الذي تدعونني إليه لا أثق بمن سميتم، دون أن أسمع منهم كما سمعت منكم؛ فتطيب نفسي، وأدخل في الأمر على قوة وبصيرة!) فأتوه، وسمه مقالتهم، والأمناء بحيث يرون ويسمعون. فلما صح عند الحكم أمرهم بشهادة الأمناء عليهم، أخذهم وصلبهم جميعا بمردة واحدة. ثم أتقن سور قرطبة وحفر خندقها، وتوجه غازيا إلى بلاد المشركين. ومن قوله (طويل) : رأيتُ صُدُوعَ الأرضِ بالسيفِ رافِعاً ... وقِدماً لأمتُ الشعثَ مُذْ كُنتُ يافعاَ فَسَائلْ ثغوري هل بها الآن ثُغْرةٌ ... أبادرها مستنْضِيَ السيف دارعاَ وشَافِه على الأرض الفضاء جماجِماً ... كأقحاف شريان الهبيدِ لَوامِعاَ تُنَبِئك أني لم أكُن عن قراعِهم ... بِوانِ وأنِي كنتُ بالسيف قارِعَا فإني إذا حادوا جِزاعا عن الرَّدَى ... فلم أكُ ذا حيدٍ عن الموت جازِعَا حَمَيتُ ذماري وانتهكتُ ذِمارَهم ... ومَنْ لا يحامي ظلَّ خَزيان ضَارِعَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 ولما تساقينا سِجالُ حُروبِنَا ... سقَيْتُهُمُ سَمَّا من الموت نافِعَا وهل زِدتُ أن وقَّيتُهُمْ صاعَ قرضِهم ... فوافوا مَنَاياَ قُدّرَت ومَصَارِعَا فَهَاكَ بِلادي إنّني قد تركتُها ... مِهَاداً ولم أتْرُكْ عليها مُنَازِعَا وفي سنة 190، خرج الأمير الحكم غازيا إلى ماردة. فلما وصلها، احتلها وحاصرها (وكان بها أضبغ بن عبد الله بن وانسوس ثائرا) وإذا بالخبر وصله أن سواد أهل قرطبة أعلنوا بالنفاق، وتداعوا إلى صاحب السوق بالسلاح؛ وكتب المخلفون إلى الحكم بما حدث بعده وبما ظهر من ضمائر السفلة؛ فصدر قافلا، وطوى المراحل، وقطع الطريق في ثلاثة أيام، ودخل القصر. فهدأ الناس، وسكنت الأحوال، وصار الناس في هدوء وسكون من سنة 190 إلى سنة 202، والتزموا الدعة اثني عشر سنة. وترددت الغزوات سبعة أعوام إلى ماردة، وبها أصبغ بن عبد الله ثائرا متمنعا. وكان سبب ثورته أن عدوا لأصبغ طالبه عند الحكم وأغراه عليه. ثم مشى إلى أصبغ بمثل ذلك، وروعه منه؛ فتوقع العقوبة والسطوة به. فكان ذلك سبب دخوله ماردة وقيامه بها. وتكررت الغارات عليه سبعة أعوام؛ فافتتحت في العام السابع بمحاولة انجلت عن طلب الأمان لأصبغ فأمن، وخرج من ماردة، وصار في مصف الحكم؛ فسكن قرطبة؛ ثم فسح له في الاختلاف إلى ضياعه بماردة حتى التاث أمرها، واضطربت حالها. وفي سنة 192، خرج رذريق صاحب إفرنجة إلى جهة طرطوشة؛ فأغزى الحكم ابنه عبد الرحمن في جيش كثيف، وكتب إلى عمروس وعبدون عاملي الثغر بالغزو معه بجميع أهل الثغر. فتقدم عبد الرحمن بالجنود، وتوافت عليه الحشود، وحفت به المطوعة. فألفوا الطاغية خارجا إلى بلاد المسلمين. ودارت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 بينهم حروب شديدة، ثبت الله فيها أقدام المسلمين. فانهزم المشركون؛ وكانت فيهم مقتلة عظيمة؛ ففنى أكثرهم. وفي سنة 194، غزا الحكم إلى أرض الشرك. وكان السبب في هذه الغزاة أن عباس بن ناصح الشاعر كان بمدينة الفرج (وهي وادي الحجارة) . وكان العدو، بسبب اشتغال الحكم بماردة وتوجيه الصوائف إليها مدة من سبعة أعوام، قد عظمت شوكته، وقى أمره. فشن الغارات في أطراف الثغور، يسبي ويقتل. وسمع عباس بن ناصح امرأة في ناحية وادي الحجارة، وهي تقول: (واغوثاه يا حكم! قد ضيعتنا وأسلمتنا واشتغلت عنا، حتى استأسد العدو علينا!) فلما وفد عباس على الحكم، رفع إليه شعرا يستصرخه فيه، ويذكر قول المرأة واستصراخها به؛ وأنهى إليه عباس ما هو عليه الثغر من الوهن والتياث الحال. فرثى الحكم للمسلمين، وحمى لنصر الدين، وأمر بالاستعداد للجهاد، وخرج غازيا إلى أرض الشرك؛ فأوغل في بلادهم، وافتتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل كثيرا، وأسر كذلك، وقفل على الناحية التي كانت فيها المرأة، وأمر لأهل تلك الناحية بمال من الغنائم، يصلحون به أحوالهم ويفدون سباياهم؛ وخص المرأة وآثرها، وأعطاهم عددا من الأسرى عونا. وأمر بضرب رقاب باقيهم، وقال لأهل تلك الناحية وللمرأة: (هل أغاثكم الحكم؟) قالوا: (شفا والله الصدور، ونكى في العدو، وما غفل عنا إذ بلغه أمرنا! فأغاثه الله وأعز نصره!) وفي سنة 196، غزا الحكم إلى بلاد المشركين، وأوغل فيها، وأوقع بهم، وقفل. وفيها، مات تمام بن علقمة الثقفي. وفي سنة 199، كانت المجاعة التي عمت الأندلس؛ ومات أكثر الخلق جهدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وفي هذه السنة، أغرى الحكم عمه عبد الله البلنسي الغزوة الشنيعة المشهورة، وكانت ببرشلونة: ألفي المشركين قد حلوا بها يوم احتلاله، وكان يوم الخميس؛ فأراد من معه مناشبة الحرب، وتشوقوا للقتال؛ فمنعهم حتى إذا كان في اليوم الثاني، وهو يوم الجمعة وقت الزوال، أمر بتعبئة الكتائب، ونصب الردود؛ وقام، فصلى ركعتين؛ ثم نادى في الناس، وركب هو ومن معه، وناهض أهل الشرك. وما أحسبه فعل ذلك إلا ففها وعلما وتأسيا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر بالقتال في تلك الساعة: فإن فيها تهب الأرواح، وتفتح أبواب الجنة، وتستجاب الدعوات، فمنحهم الله أكناف المشركين، وانهزموا. وقتل عامتهم، وفرق جمعهم. فلما أقلع عن القتال وانجلت الحرب، نصب قناة طويلة، فأثبتت في الأرض؛ وأمر بالرؤوس؛ فجمعت وطرحت حواليها حتى غابت القناة فيها (ولم تظهر) . ذكر دخول الحكم طليطلة حين خالفت عليه وذلك أنه أظهر الغزو إلى بلاد المشركين، وقصد تدمير، وهو يريد في نفسه طليطلة. فنزل تدمير، واضطرب فيها، ونازل بعض حصونها. وكتب إلى عمال الثغر بنزوله فيها وحربه لها؛ فأمن أهل طليطلة، وانتشروا في بسائطهم، ونظروا في زروعهم، وله عليهم عيون. فلما صحَّ عبده انبساطهم، جعل يتغرب من أحواز تدمير، وأخبار طليطلة ترد عليه. فلما أمكنته الفرصة فيها، جدَّ السير إليها، وطوى المراحل؛ فوصل إليها ليلا، وسبق بقطيع من الحشم. فدخل طليطلة ليلا، ولم يعلم بدخوله، وأهلها في غفلة، وأبوابها مفتحة. وتتابع العسكر عليه بمقدار قوة كل أحد. فملكها، وحال بين أهلها وبينها، وقطع الخروج عمن كان بها إلى من كان بخارجها. فاستوسق له ملكها دون مئونة ولا قتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 فاستنزل أهلها من الجبال إلى السهل، وحرق ديارها، وسكنهم في الصحراء. ثم ردهم إليها. وفي سنة 200، أغزى الحكم وزيره عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد المشركين؛ فدخلها، وتوسطها، وأهلك معائشها ومرافقها، وحطم زروعها، وهدم منازلها وحصونها، حتى استوفي جميع قرى وادي أرون. فحشدت إليه الطاغية - دمرها الله! - وانجلبت النصرانية من كل مكان، وأقبلت الجموع، ونزلت بعدوة نهر أرون؛ وصار النهر حاجزا بينهم وبين المسلمين. فلما أصبح، نهض عبد الكريم بمن معه إلى مخائض الوادي؛ ونهض أعداء الله إليهم؛ فقاتلوهم على كل مخاضه منها؛ فجالدهم المسلمون عليها مجالدة الصابرين المحتسبين. واقتحم أعداء الله النهر إليهم؛ فاقتتلوا على مخاضته. ثم حمل المسلمون عليهم حملة صادقة؛ فأضغطوهم في المضايق، وأدخلوهم على غير طريق؛ فأخذتهم السيوف والطعن بالرماح والغرق في المياه؛ فقتل من المشركين عدد عظيم لا يحصى كثرة، ومات أكثرهم بالتردي ودرس بعضهم بعضا، وصاروا بعد المطاعنة والمجالدة بالرماح والسيوف إلى القذف بالحجارة؛ وأكثروا الحراس بالمخائض، ووعروها بالخشب، وحفروا الحفائر، وخندقوا الخنادق. ونزلت الأمطار؛ وكان قد فرغ ما كان لأعداء الله من المرافق؛ وضاقت الحال أيضا بالمسلمين؛ فقفل عبد الكريم ظافرا لسبع خلون من ذي القعدة. ولم يكن في سنة 201 صائفة ولا حركة مشهورة. ذكر هيج أهل الربض ثانية في سنة 202 كان من أهل ربض قرطبة في هذه السنة ما نستعيذ بالله من الخذلان في مثله، وذهاب التوفيق. وقد اختلفت الروايات في سبب قيام الناس وهيجهم؛ فمنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 من يقول إن ذلك الهيج كان أصله الأشر والبطر، إذ لم يكن ثم ضرورة من إجحاف في مال، ولا انتهاك لحرمة، ولا تعسف في ملكة، والحال تدل على صحة ذلك: فإنه لم يكن على الناس وظائف، ولا مغارم، ولا سخر، ولا شئ يكون سببا لخروجهم على السلطان، بل كان ذلك أشرا وبطرا، وملالا للعاقبة، وطبعا جافيا، وعقلا غبيا، وسعيا في هلاك أنفسهم - أعاذنا الله من الضلال والخذلان، وأسباب البوار والخسران! ولما اهتاجوا وقاموا على السلطان، ناصبهم الحكم القتال، وواضعهم الحرب. وانحاش إليه حاشيته وجنده، وتألب من كل وجه رجاله. وقامت الحرب بين الجند وعامة قرطبة على ساق. ثم تكاثرت العامة، وهاجت الدهماء السوداء؛ فلم يزيدوا على أن ظهروا في ذلك الحين ظهروا لم يبلغهم إلى أمل فلما اشتغلوا بالقتال، احتيل عليهم بمثل حيلة يوم الحرة، وهم لا يشعرون لاشتغالهم بالقتال؛ فخرج عبيد الله بن عبد الله البلنسي المعروف بصاحب الصوائف، وإسحاق بن المنذر القرشي إلى باب الجسر، مع من أمكنهما من الفرسان والرجالة، والتقوا مع العامة، وجالدوهم حتى أزاحوهم وأدخلوهم الجسر؛ وفتح باب المدينة عند الجسر، ودخل الذين سمينا على باب الحديد؛ ثم اقتحموا على الزقاق الكبير، وخرجوا على الرملة إلى مخاضة هناك، وجازوا النهر، واجتمعوا مع من توافى عليهم من حشود الكور، إذ كانوا قد أنذروا قبل ذلك بما كان بدا منهم، وظهر من علاماتهم. فلما اجتمعوا، أقبل بعضهم من وراء الربض، وشرع بعض في طرح النار في الدور، ودسوا من أخبر العامة بما نزل بهم في دورهم وذراريهم وعيالهم؛ فلم يبق أحد منهم دون أهله ومنزله، وانصرفوا راجعين نحوها. فأخذتهم السيوف من أمامهم وورائهم؛ فقتلوا قتلا ذريعا، وتتبعوا في الأزقة والطرق، يقتلون؛ ونجا منهم من تأخر أجله، ففرَّ، فلم يلو على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 أهل ولا ولد. وأخذ منهم ثلاثمائة رجل؛ فصلبوا على الوادي، صفا واحدا من المرج إلى المصارة. وكان الحكم قد عزم على تتبعهم بالأندلس، وقتلهم حيث وجدوا؛ فكسر عليه بعض أصحابه، وذكره صنع الله له فيهم؛ فارعوى وكف. فخرجوا أفواجا بأهاليهم وأولادهم. ولم يعرض لأحد منهم في شئ من بلاد الأندلس، وهي طاعته وملكه، ولا نالهم ضر بعد وقت المعركة وغليان الحال، كرما وعفوا من الأمير الحكم - رحمه الله! - وعف الحكم عن الأموال والحرم. وتفرق أهل الربض في جميع أقطار الأندلس؛ ومنهم من جاز البحر إلى العدوة بالأهل والواد؛ فاحتلوا بعدوة فاس، فهم عدوة الأندلس منها؛ فصيروها مدينة. ومنهم أهل جزيرة إقربطش؛ فذكر أنه لم يخرج منهم طائفة بناحية من نواح الدنيا إلا وتغلبوا عليها، واستوطنوها على قهر من أهلها. وأكثر من هرب من أهل العلم والخير ممن اتهم أو خاف على نفسه إلى ناحية طليطلة، ثم أمنهم الحكم، وكتب لهم أمانا على الأنفس والأموال، وأباح لهم التفسح في البلدان حيثما أحبوا من أقطار مملكته، حاشى قرطبة أو ما قرب منها. وفي سنة 206، اشتد مرض الحكم بن هشام؛ فأخذ البيعة لابنه عبد الرحمن، ثم للمغيرة من بعده. وانعقدت البيعة يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة. فبويع له ذلك اليوم في القصر؛ واختلف الناس بعد ذلك اليوم إلى دار عبد الرحمن بن الحكم يبايعونه؛ وبايعوا المغيرة في دار أخيه عبد الرحمن أيضا؛ ثم ركب المغيرة إلى الجامع، ونزل فيه يوما بعد يوم لمبايعة الناس له؛ وكانوا يبايعونه عند المنبر؛ ثم بايعوه في داره. ولما انقضت البيعة لعبد الرحمن والمغيرة بعده، أمر الحكم بن هشام بهدم الفندق الذي كان بالربض؛ وكان متقبله من أهل الإضرار والفسق؛ فهدم. وتوفي الأمير الحكم يوم الخميس لأربع بقين من ذي الحجة من السنة؛ وصلى عليه ابنه عبد الرحمن؛ ودفن بالقصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 بعض أخباره وسيره كان الحكم - رحمه الله! - شديد الحزم، ماضي العزم، ذا صولة تتقى. وكان حسن التدبير في سلطانه، وتوليه أهل الفضل والعدل في رعيته؛ وكان مبسوط اليد. وكان له قاض كفاه بورعة وعلمه وزهده؛ فمرض مرضا شديدا؛ فاغتم الحكم لمرضه؛ فذكر بعض خاصته أنه أرق ليلة أرقا شديدا، وجعل يتململ على فراشه؛ فقيل له: (أصلح الله الأمير! ما الذي عرض؟) فقال: (ويحكم! إني سمعت في هذه الليلة نادبة، وقاضينا مريض، وما أراه إلا وقد قضى نحبه. فأين لي بمثله، ومن يقوم بالرعية مقامه؟) فمات القاضي في تلك الليلة، وهو المصعب بن عمران قاضي أبيه. فولى بعده محمد بن بشير. فكان أقصد الناس إلى حق، وأبعدهم من جور، وأنقذهم بحكم. ورفع إليه رجل من أهل كورة جيان أن عاملا للحكم اغتصبه جارية، وصيرها إلى الحكم؛ فوقعت من قلب الحكم كل موقع؛ فأثبت الرجل أمره عند القاضي، وأتاه بينة تشهد على معرفة ما تظلم منه ويملكه للجارية وبمعرفتهم بها. فأوجبت السنة أن تحضر الجارية؛ فاستأذن القاضي على الحكم؛ فأذن له؛ فلما دخل عليه، قال له: (أيها الأمير! أنه لا يتم عدل في العامة دون إقامته في الخاصة!) وحكى له أمر الجارية، وخيره بين إبرازها للبينة ليشهد على عينها، أو عزله. فقال له الحكم: (أولا. أدعوك إلى خير من ذلك! تبتاع الجارية من صاحبها بأبلغ ما يطلب فيها.) فقال القاضي: (إن الشهود قد شهدوا من كورة جبان، وأتى الرجل يطلب الحق في مظامه؛ فلما صار ببابك، تصرفه دون إنفاذ الحق له؛ ولعل قائلا يقول: باع ما لا يملك بيع مقور!) فلما رأى عزمه على ذلك، أمر بإخراج الجارية من قصره؛ فشهد الشهود عنده على عينها، وقضى بها لصاحبها. وكان هذا القاضي محمد بن بشير، إذا خرج للمسجد، وجلس للأحكام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 جلس في رداء معصفر، وشعر مفرق؛ فإذا طلب ما عنده، وجد أفضل الناس وأورعهم. وكان الحكم يقول: (ما تحلى الخلفاء بمثل العدل!) وكانت فيه بطالة، إلا أنه كان شجاع النفس، باسط الكف، عظيم العفو. وكان يسلط قضاته وحكامه على نفسه، فضلا عن ولده وخاصته. وكانت للحكم ألف فرس مرتبطة بباب قصره على جانب النهر، عليها عشرة من العرفاء، تحت يد كل عريف مائة فرس؛ فإذا بلغه عن ثائر ثار في أطرافه، عاجله قبل استحكام أمره؛ فلا يشعر حتى يحاط به. وجاءه الخبر يوما أن جاب بن لبيد محاصر لجيان، وهو يلعب بالصولجان في القصر؛ فدعا بعريف من أولئك العرفاء، وأسر إليه أن يخرج بمن تحت يده إلى جابر بن لبيد؛ ثم فعل كذلك مع أصحابه من العرفاء. فلم يشعر ابن لبيد حتى تساقطوا عليه مسربلين في الحديد؛ فلما رأى العدو ذلك، سقط في يده، وظن أن الدنيا قد حشرت إليه؛ فولى بمن معه منهزما. وكان الحكم فصيحا بليغا شاعرا مجيدا. فمن شعره - رحمه الله! - يتغزل، وذلك أنه كان له خمس جوار قد استخلصهن لنفسه وملكهن أمره؛ فذهب يوما إلى الدخول عليهن؛ فأبين عليه، وأعرضن عنه. وكان لا يصبر عنهن. فقال (البسيط) : قُضْب من البازِ مَلسَت فَوقَ كُثْبانِ ... أعْرَضْنَ عَنّي وقد أزْمَعْنَ هِجْرانِي ناشَدتُّهَنَّ بحقِي فاعْتزَمْن علي ... الهِجْرانِ حتَّى خَلا مِنْهنَّ هيْمانِي مَلكنني مُلكَ مَنْ ذَلتْ عَزِيمَتُهُ ... للحبِّ ذُلَّ أسِير موثَّقٍ عانِي مَنْ لي بُمغْتَصباتِ الرُّوح من بَدنِي ... عصبنب في الهوى عِزّي وسلطانِي ثم إنهنَّ عدن عليه بالوصل؛ فقال (خفيف) : نِلْتُ كُلَّ الوصال بعد البِعَادِ ... فكأنِي مَلكْتُ كُلَّ العِبادِ وتَنَاهَى السُّروُر إذْ نِلتُ مَا لَمْ ... يُغنِ فيه تَكاشُفُ الأجْنَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 ومن مليح قوله فيهن - رحمه الله! - (خفيف) : ظَلَّ مِنْ فَرْطِ حُبِّهِ مَمْلوكا ... ولقد كان قَبْلَ ذَاكَ مَليِكا إن بكَى أو شَكَا الهَوى زِيدَ ظُلماً ... وبعاداً يُدنِى حماماً وشَيكا تَرَكَته جاذر القصر صَبَّا ... مُستهاما على الصَّعِيدِ تَريكَا يجْعَل الخَدَّ ماثلاً فوق تُربٍ ... وَهْوَ لا يرتَضِي الحَرِيرَ أريكا هكذا يَحْسُنُ التذَلُلُ للحُرِّ ... إذا كان في الهَوَى ممْلُوكا وله - رحمه الله! - أشعار كثيرة في الربضيين القائمين عليه، لا يجاريه فيها حد. وقد تقدم منها ما يستدل به على فضله. ولما دنت وفاته، عتب نفسه فيما تقدم منه عتابا، وتاب إلى الله مثابا، ورجع إلى الطريقة المثلى، وقال: إن الآخرة هي الأبقى والأولى؛ فتزين بالتقوى، واعتصم بالعروة الوثقى؛ وأقر بذنوبه واعترف، وأنس إلى قوله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف. وكان من عباد الله المتقين، إلى أن أتاه من ربه اليقين. فتوفي - رحمه الله! - سنة 206. خلافة عبد الرحمن بن الحكم بن هشام كنيته: أبو المطرف. أمه: تسمى حلاوة. مولده: سنة 76. حاجبه: عبد الكريم بن عبد الواحد. وزراؤه: تسعة؛ رزق كل واحد ثلاثمائة دينار. كتابه: ثلاثة: عبد الكريم المذكور، وسفيان بن عبد ربه، وعيسى بن شهيد. قضاته: أحد عشر؛ منهم: يحيى بن مغمر، وقبله مسرور بن محمد بن بشير، ثم سعيد ابن محمد بن بشير، ثم يحيى المتقدم الذكر، وغير هؤلاء؛ وإنما كثر القضاة في أيامه لأن المشاور في عزلهم وولايتهم يحيى بن يحيى الليثي؛ فكان لا يولى رجلا إلا برأيه؛ فكان يحيى بن يحيى، إذا أنكر من القاضي شيئا، قال له: (استعف وإلا رفعت بعزلك!) فكان يستعفي أو يشير يحيى بعزله، فيعزل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 نقش خاتمه: (عبد الرحمن بقضاء الله راض.) وكان له قبل ذلك خاتم باسمه؛ فتلف؛ وأمر بطلبه، فلم يوجد؛ فأعاد نقش خاتم جده عبد الرحمن، بعد أن خرج نصر الفتى من عند الأمير هذا بالخاتم للنقش، وبعث في عبد الله بن الشمر الشاعر، وقال له: (إن الأمير أمر بنقش هذا الخاتم؛ فقل ما ينقش فيه!) فقال (رمل) : خاتَمٌ للمُلْكِ أضْحَى ... حُكمُه في الناسِ مَاضِ عابِدُ الرَّحمنِ فِيهِ ... بقَضَاء اللهِ رَاضِي فاستحسن ذلك الأمير عبد الرحمن، وأمر بنقشهما في الخاتم. صفته: طويل، أسمر، أقنى، أعين، أكحل، عظيم اللحية يخضب بالحناء والكتم. بويع بعد موت أبيه بيوم واحد، وذلك يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 206، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وتسعة أشهر. وتوفي ليلة الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة 238. عمره: اثنان وستون سنة. خلافته: إحدى وثلاثون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام. بنوه الذكور: خمسة وأربعون، وبناته: اثنتان وأربعون. وفي سنة 207، ثارت بتدمير فتنة بين مضر ويمن، ودامت سبع سنين؛ فأغزى إليهم الأمير عبد الرحمن في هذا العام يحيى بن عبد الله بن خلف؛ ثم كان يبعث إليهم المرة بعد المرة بالقواد؛ فيفترقون؛ فإذا قفلوا، عادوا إلى الفتنة. وكانت بينهم وبين يحيى بن عبد الله وقبعة تعرف بوقعة المصارة بلورفة، انتهى مبلغ القتلى فيهم إلى ثلاثة آلاف. وفيها كان بالأندلس جوع شديد، مات به كثير من الخلق. وفي سنة 208، كانت الغزاة المعروفة بغزاة ألبة والقلاع، غزاها عبد الكريم ابن عبد الواحد بالصائفة، واحتل بالثغر؛ وتوافت عليه عساكر الإسلام، واختلفوا في الدخول على أي باب يكون إلى دار الشرك؛ ثم اجتمعوا على أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 من باب ألبة، إذ كان ذلك الباب أنكى للعدو وأحسم لدائه؛ فاقتحموا من فج يقال له جرنيق؛ وكان وراءه بسيط للعدو، فيه خزائنه وذخره. فوقع أهل العسكر على تلك البسائط، فاستصفوها، وعلى ذخر تلك الخزائن، فانتهبوها؛ واستوعبوا خراب كل ما مروا عليه من العمران والقسرى، وأقفروها. وانصرف المسلمون غانمين ظافرين. والحمد لله! وفي سنة 209، توفي عبد الكريم بن عبد الواحد؛ وكان قد أخذ في الحركة إلى أرض العدو؛ فاعتل. وعوض منه الأمير عبد الرحمن بن الحكم أمية ابن معاوية بن هشام. فغزا بالصائفة إلى أوريط؛ فاحتل بها، وهي يومئذ للإسلام؛ فأخذ أهل الذنوب والريب، وعفا عن الباقين؛ ثم تقدم إلى شنت برية وتدمير. وكان أبو الشماخ رئيس اليمانية يقوم بدعوة الأمين على المضرية. وكانت بينهم وقعة بمرسية كوقعة يوم المصارة بلورقة، فنى فيها من المسلمين أعم. وكان انبعاث هذه الفتنة وسببها بين المضرية واليمانية على ورقة دالية أخذها مضري من جنان يماني؛ فقتله اليماني؛ فكان ذلك سبب الحروب التي دارت بين الفريقين؛ واتصلت أعواما؛ وكانت الدوائر تدور أكثرها على اليمانية والقتلى منهم، وذلك أحد عجائب الدهر. وفي سنة 210، أمر الأمير عبد الرحمن ببنيان الجامع بمدينة جيان. وفيها، كتب إلى عامل تدمير أن ينزل بمرسية ويتخذها موطنا؛ فكانت حينئذ موضع نزولهم وموضع قرارهم؛ وأمر بهدم مدينة آله من تدمير، ومنها ثارت الفتنة أولا. وفيها، افتتح فرج بن مسرة في أرض العدو حصن القلعة؛ وكان مسرة عامل جيان. وفي سنة 211، ثار طوريل بتاكرنا؛ فأخرج إليه الأمير عبد الرحمن معاوية ابن غانم في حشد؛ فظفر به، وقطع عاديته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وفي سنة 213، غزا عبيد الله بن عبد الله البلنسي بالصائفة إلى دار الحرب؛ فجال في أرض العدو حتى بلغ برشلونة، وتردد في تدريخها وانتسافها ستين يوما. وفي سنة 213، انقطعت الفتنة بتدمير، واستنزل أبو الشماخ وغيره من القلاع، وانقطعت عاديتهم؛ وصار أبو الشماخ من ولاة الأمير عبد الرحمن ومن ثقاته. وفي سنة 214، ثار الضراب بطليطلة؛ واسمه هاشم؛ وسمى الضراب لأنه لما أحرق الحكم طليطلة، وأنزل أهلها منها إلى السهل، أخذ رهائنهم. فدخل حينئذ هاشم الضراب قرطبة، وصار يضرب بالمعول في الحدادين أجيرا؛ فعرف بالضراب. ثم خرج من قرطبة إلى طليطلة؛ فاستدعى أهل الشر والفساد، وأليهم؛ فتألب إليه منهم نفر؛ فخرجوا يغيرون على العرب والبربر. وتسامع أهل الشر به؛ فقطعوا إليه، حتى اجتمع له منهم جمع عظيم وخلق كثير؛ فعلا ذكره، وانتشر صيته. وأوقع بالبربر بشنت برية، ودارت له عليهم دوائر. فأخرج الأمير عبد الرحمن إليه محمد بن رستم، وأمره بحربه؛ فحاربه في هذه السنة. وفي سنة 216، توافت الجنود لمحمد بن رستم عامل الثغر؛ فناهض هاشما الضراب. وكان قد تغلب على جانب الثغر. وكان عبد الرحمن قد استقصر محمد ابن رستم في حقه، وكتب إليه يعنفه؛ فتقدم ابن رستم، والتقى مع هاشم الضراب؛ فوقعت بينهم حرب شديدة أياما؛ ثم انهزم هاشم، وقتل هو ومن كان معه؛ وكانوا آلافا. وفي سنة 217، حوصرت ماردة وضيق عليها، حتى فرَّ عنها خلق كثير، وقتل منهم كثير. وفي سنة 218، كان الكسوف العظيم، الذي توارت معه الشمس، وبدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 الظلام؛ وكان ذلك قبل زوال الشمس، في أواخر رمضان. وفيها، استوزر الأمير عبد الرحمن ابن شهيد واستحجبه. وفيها، قامت الزيادة في المسجد الجامع بقرطبة من الأرجل التي بين السواري إلى القبلة. وفي سنة 219، غزا بالصائفة أمية بن الحكم إلى طليطلة وحاصرها؛ ثم قفل العسكر بعد أن أتلف زروعهم وقطع ثمارهم. وأبقى بقلعة رباح ميسرة الفتى لمحاصرة طليطلة؛ فخرج جمع عظيم من طليطلة يريدون قلعة رباح؛ فبلغه خبرهم؛ فجمع الجموع، وكمن الكمائن. فلما قربوا منها، وفرقوا خيلهم في الغارة، خرجت عليهم الكمائن؛ فقتلوا، وحزت رؤوسهم؛ فجمعت بين يدي ميسرة؛ واجتمع منها جملة عظيمة. فلما رأى ذلك، ارتاع وداخله الندم؛ فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى مات ندما وأسفا. وفي سنة 220، غزا الأمير عبد الرحمن؛ فجعل صدر وجهته على طليطلة، وولى أبا الشماخ قلعة رباح، وأبقى عنده خيلا كثيفة ورجلا كثيرة لمناهضة طليطلة، وتقدم هو إلى كور الغرب. وكان سليمان بن مرتين قد تحيل علية يحيى الماردي؛ فأخرجه من ماردة؛ فكان في قنن الجبال حينا؛ فحل عليه الأمير في هذه الغزاة، وحاصره حتى ضاق سليمان بن مرتين في الحصن؛ فخرج ليلا؛ فبينا هو يمشي، إذ وافق صخرة ملساء على وجه الأرض؛ فزلق به الفرس؛ فسقط، ومات. ووجده رجل؛ فاحتز رأسه، وادعى قتله؛ ثم عرف أمره. وفي سنة 221، افتتحت طليطلة. وكان السبب في ذلك أن ابن مهاجر خرج عنها، ونزع إلى قلعة رباح، واستدعى القؤاد؛ فخرجوا إليه. فنهض بهم إلى أبواب المدينة، وقطع عنهم مرافقهم. فكان ذلك أقوى الأسباب في افتتاحها. وكان عبد الواحد الإسكندراني بعثه الأمير الأيهم؛ فوجدهم قد بلغ بهم الجهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ثم أطل عليهم الأمير؛ فافتتحها قهرا، ودخلها على حكمه، وأمر بتجديد القصر الذي كان بناه عمروس في أيام الحكم على باب الجسر. وقيل إن الذي افتتح طليطلة الوليد بن الحكم، وجهه إليها أخوه عبد الرحمن. وفي سنة 222، افتتحها عنوة، ودخلها في شهر رجب من هذه السنة على حكمه. وفي سنة 223، أعزى الأمير عبد الرحمن بن الحكم أخاه الوليد بن الحكم إلى جليقية؛ فدخل من باب الغرب مع قطيع من العسكر؛ فدوخها. وكانت له فتوحات كثيرة. وفي سنة 224، أغزى الإمام عبد الرحمن ابنه الحكم إلى دار الحرب، وأمره بالتجوال في جهات الثغور، ليتعرف أخبارها ومصالحها. وأمر بإصلاح قنطرة سرقسطة. ودخل الحكم بالصائفة إلى دار الحرب؛ فدوخها، وقتل من المشركين ما لا يحصى. واجتمع من رؤوسهم أكداس كالجبال، حتى كان الفارس يقف من ناحية؛ فلا يرى صاحبه من ناحية أخرى من عظمها. وفيها، كانت رجوم بالنجوم، في جمادى الآخرة؛ وتناثرت الكواكب من قبلة إلى جوف، ومن شرق إلى غرب، بجزيرة الأندلس. وفي سنة 225 غزا الإمام عبد الرحمن بنفسه أرض جليقية. ففتح حصونها، وجال في أرضها. وطالت غزاته، وتعب كثيرا؛ فأرق في بعض الليالي؛ فلما كان في بعض الليل، حضر عبد الله بن الشمر الشاعر؛ فوصف له أرقه، وأنه تذكر بعض من حن إليه؛ فقال عبد الرحمن بن الشمر (متقارب) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 عَدَانِيَ عَنْكَ مَزَار العِدَى ... وقَودِي إليهم لُهَاماً مَهيبَا وكَمْ قَدْ تعسفتُ من سَيْسَبٍ ... وجاوَزتُ بعد دُروبِ دُرُوبا وادَّرعُ النَّقْعَ حتى لَبِستُ ... من بَعْدِ نَضْرةِ وَجهي شُحُوبا ألاقِي بوجهب سموم الهجِيرِ ... وقد كادَ مِنْه الحَصَى أن يَذُوبا أنا ابن الهِشامَين مِن غالبٍ ... أشُبُّ حُرُوبا وأطِفْي حُرُوبا وَبي أدَّرَكَ الله دينَ الهُدَى ... فأحْيُيْتُهُ واصطلَمْتُ الصَّلِبا سموتُ إلى الشِرْكِ في جَحفَل ... مَلأتُ الحُزُونَ بِهِ والسُّهُوبَا وفي سنة 226، غزا بالصائفة إلى جليقية من بلاد العدو مطرف بن عبد الرحمن؛ فتوسط بسيطهم، وذهب بنعمتهم؛ وكان القائد عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني. وفي سنة 227، خرج، عبيد الله بن عبد الله صاحب الصوائف؛ فلما حصل بين أربونة وسرطانية، تجالب الأعداء من كل ناحية، وأحاطوا بالعسكر ليلا؛ فقاتلهم المسلمون الليل كله؛ فلما انبلج الضوء، أيد الله المسلمين، وهزم الأعداء. وفي سنة 228، خرج الأمير عبد الرحمن بنفسه إلى أرض العدو، وخلف في القصر ولده المنذر، وجعل على ميمنته ولده محمدا وعلى الميسرة ولده المطرف. فلقي جيشا كبيرا من المشركين؛ فناشبهم الحرب؛ فأنزل الله نصره على المسلمين، وهزموا المشركين، وأثخنوا فيهم القتل. وأفاء الله على المسلمين من ذراري أهل بنبلونة وخيلهم وأسلحتهم ما عظم به من الله سبحانه المن. وقفل غزيرا في منتصف شوال. وكان خروجه من قرطبة لتسع بقين من شعبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وفي سنة 229، خرج الأمير عبد الرحمن لمحاصرة موسى بن موسى بتطيلة؛ فدوخ بلاده، ثم صالحه. ثم تقدم إلى بنبلونة؛ فكانت له بها وقعة عظيمة على المشركين، فني فيها أعداء الله؛ وكان معهم موسى بن موسى؛ فناله ورجاله ما نالهم. وفيها، ورد كتاب وهب الله بن حزم عامل الأشبونة، يذكر أنه حل بالساحل قبله أربعة وخمسون مركبا من مراكب المجوس، معها أربعة وخمسون قاربا؛ فكتب إليه الأمير عبد الرحمن وإلى عمال السواحل بالتحنظ. دخول المجوس إشبيلية في سنة 230 فخرج المجوس في نحو ثمانين مركبا، كأنما ملأت البحر طيرا جونا؛ كما ملأت القلوب شجوا وشجونا. فحلوا بأشبونة؛ ثم أقبلوا إلى قادس، إلى شذونة؛ ثم قدموا على إشبيلية؛ فاحتلوا بها احتلالا، ونازلوها نزالا، إلى أن دخلوها قسرا، واستأصلوا أهلها قتلا وأسرا. فبقوا بها سبعة أيام، يسقون أهلها كأس الحمام. واتصل الخبر بالأمير عبد الرحمن؛ فقدم على الخيل عيسى بن شهيد الحاجب، واتصل المسلمون به اتصال العين بالحاجب. وتوجه بالخيل عبد الله ابن كليب وابن رستم وغيرهما من القواد واحتل بالشرف. وكتب إلى عمال الكور في استنفار الناس؛ فحلوا بقرطبة، ونفر بهم نصر الفتى. وتوافت للمجوس مراكب على مراكب، وجعلوا يقتلون الرجال، ويسبون النساء، ويأخذون الصبيان، وذلك بطول ثلاثة عشر يوما. ذكر ذلك في (بهجة النفس) . وفي كتاب (درر القلائد) : سبعة أيام، كما تقدم. وكانت بينهم وبين المسلمين ملاحم. ثم نهضوا إلى قبطيل؛ فأقاموا بها ثلاثة أيام، ودخلوا قورة، على اثني عشر ميلا من إشبيلية؛ فقتلوا من المسلمين عددا كثيرا؛ ثم دخلوا إلى طلياطة، على ميلين من إشبيلية؛ فنزلوها ليلا، وظهروا بالغداة بموضع يعرف بالنخارين؛ ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 مضوا بمراكبهم، واعتركوا مع المسلمين. فانهزم المسلمون، وقتل منهم ما لا يحصى. ثم عادوا إلى مراكبهم. ثم نهضوا إلى شذونة، ومنها إلى قادس، وذلك بعد أن وجه الأمير عبد الرحمن قواده؛ فدافعهم ودافعوه؛ ونصبت المجانيق عليهم، وتوافت الأمداد من قرطبة إليهم. فانهزم المجوس وقتل منهم نحو من خمسمائة علج؛ وأصيبت لهم أربعة مراكب بما فيها؛ فأمر ابن رستم بإحراقها وبيع ما فيها من الفيء. ثم كانت الوقعة عليهم بقربة طلياطة يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر من السنة، قتل فيها منهم خلق كثير، وأحرق من مراكبهم ثلاثون مركبا. وعلق من المجوس بإشبيلية عدد كثير، ورفع منهم في جذوع النخل التي كانت بها. وركب سائرهم مراكبهم، وساروا إلى لبلة؛ ثم توجهوا منها إلى الأشنونة؛ فانقطع خبرهم. (وكان احتلالهم بإشبيلية يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم من سنة 230) . وكان لبن دخولهم إلى إشبيلية وخروج من بقى منهم وانقطاعهم اثنان وأربعون يوما؛ فقتلهم الله وأبادهم، وبدَّد عددهم وأعدادهم؛ وقتل أميرهم نقمة من الله وعذابا، وجزاء بما كسبوا وعقابا. ولما قتل الله أميرهم، وأفنى عديدهم، وفتح فيهم، خرجت الكتب إلى الآفاق بخبرهم. وكتب الأمير عبد الرحمن إلى من بطنجة من صنهاجة، يعلمهم بما كان من صنع الله في المجوس، وبما أنزل فيهم من النقمة والهلكة؛ وبعض إليهم برأس أميرهم وبمائتي رأس من أنجادهم. وفي سنة 231، غزا بالصائفة جليقية محمد ابن الأمير عبد الرحمن؛ فحصرها، وحصر مدينة ليون، ورماها بالمجانيق. فلما أيقنوا بالهلاك، خرجوا ليلا، ولجئوا إلى الجبال والغياض؛ فأحرق ما فيها، وأراد هدم سورها؛ فوجد سعته ثمان عشرة ذراعا؛ فتركه؛ وأمعن في بلاد الشرك قتلا وسبيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وفي سنة 232، قحطت الأندلس قحطا شديدا؛ وكانت فيها مجاعة عظيمة، حتى هلكت المواشي، واحترقت الكروم، وكثر الجراد. وفي سنة 234، أمر الأمير بتوجيه العساكر إلى أهل جزيرة ميورقة، لنكايتهم، وإذلالهم، ومجاهرتهم بنقضهم العهد، وإضرارهم بمن مر عليهم من مراكب المسلمين. فغرتهم ثلاثمائة مركب؛ فصنع الله للمسلمين جميلا، وأظفرهم بهم، وفتحوا أكثر جزائرهم. وفي سنة 34 المذكورة، توفي يحيى بن يحيى؛ فاستراح القضاة من همه. وفي سنة 235، ورد كتاب أهل ميورقة ومنورقة إلى الأمير عبد الرحمن، يذكرون ما نالهم من نكاية المسلمين لهم؛ فكتب إليهم كتابا أذكر هنا فصولا منه، وهو: (أما بعد، فقد بلغنا كتابهم، تذكرون فيه أمركم، وإغارة المسلمين الذين وجهناهم إليكم لجهادكم، وإصابتهم ما أصابوه منكم من ذراريكم وأموالكم، والمبلغ الذي بلغوه منكم، وما أشفيتم عليه من الهلاك. وسألتم التدارك لأمركم، وقبول الجزية منكم، وتجديد عهدكم على الملازمة للطاعة، والنصيحة للمسلمين، والكف عن مكروههم، والوفاء بما وتحملونه عن أنفسكم. ورجونا أن يكون فيما عوقبتم به صلاحكم، وقمعكم عن العود إلى مثل الذي كنتم عليه. وقد أعطيناكم عهد الله وذمته!) وفيها، كان سيل عظيم بجزيرة الأندلس، حمل وادي شيل، وخرب فوسين من حنايا قنطرة إستجة، وخرب الأسداد والأرحاء. وذهب السيل بست عشرة قرية من قرى إشبيلية على النهر الأعظم. وحمل وادي تاجه؛ فأذهب ثمان عشرة قرية؛ وصار عرضة ثلاثين ميلا. وفي سنة 236، ثار رجل من البربر، يقال له حبيب البرنسي، بجبال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الجزيرة؛ وتأبش إليه جماعة من أهل الشر والفساد؛ فأخرج إليه عبد الرحمن الأجناد. فلما وصلوا إليه، ألقوا البربر قد قصدوا حبييا ومن تأبش إليه؛ فتغلبوا على المعقل الذي كان انضوى إليه، وأخرجوه عنه، وقتلوا عدة كثيرة من أصحابه. وافترق بقيتهم عنه، ودخل حبيب في غمار الناس. فكتب الأمير عبد الرحمن إلى عمال الكور بالبحث عنه. وفي سنة 237، قام رجل من المعلمين بشرق الأندلس؛ فادّعى النبوءة، وتأول القرآن على غير تأويله؛ فاتبعه جماعة من الغوغاء، وقام معه خلق كثير. وكان من بعض شرائعه النهي عن قص الشعر وتقليم الأظفار، ويقول: [لا تغيير لخلق الله!] فبعث إليه يحيى بن خالد؛ فأتى به. فلما دخل عليه، كان أول ما خاطبه به إن دعاه إلى اتباعه والأخذ بما شرع؛ فشاور فيه أهل العلم؛ فأشاروا بأن يستناب فإن تاب، وإلا قتل. فقال: (كيف أتوب من الحق الصحيح!) فأمر بصلبه. فلما رفع في الخشبة، قال: (أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله!) فصلبه، وكتب إلى الأمير يخبره. وفي سنة 238، توفي الأمير عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله! - ليلة الخميس لثلاث خلون من ربيع الآخر من السنة. وما زال يقتني المآثر، وبيني المكارم والمفاخر، حتى قبضته شعوب، وأرداه مردى القبائل والشعوب. ذكر بعض أخباره على الجملة وسيره لما ولي الأمير عبد الرحمن، بعث في اخوته وأهله ووزرائه؛ فبايعوه، وبايعته العامة. ثم صلى على أبيه الحكم. فلما قضى صلاته وواراه، جلس بالأرض متطأطئا، ليس تحته وطاء، وجلس من كان معه. ثم افتتح القول؛ فقال: (الحمد لله، الذي جعل الموت حتما من قضائه، وعزما من أمره، وأجرى الأمور على مشيته؛ فاستأثر بالملكوت والبقاء، وأذل خلقه بالفناء؛ تبارك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 اسمه وتعالى جده) ! وصلى الله على محمد نبيه ورسوله، وسلم تسليما! وكان مصابنا بالإمام - رحمه الله! - مما جلت به المصيبة، وعظمت به الرزية؛ فعند الله تحتسبه، وإياه نسأل إلهام الصبر، وإليه ترغب في كمال الأجر والذخر! وعهد إلينا فيكم بما فيه صلاح أحوالكم ولسنا ممن يخالف عهده، بل لكم لدينا المزيد إن شاء الله!) ثم قام عنهم، وخرجت لهم الأموال والكسي على قدر أقدارهم. وكان شاعرا، أديبا، ذا همة عالية. وكانت له غزوات كثيرة، وفتوحات في دار العدو شهيرة، يخرج إليها في العدد الجم، والعسكر الضخم، يخرب ديارهم، ويعفى آثارهم، ويقفل ظاهر الاعتلاء، قاهر الأعداء. لم يلق المسلمون معه بؤسا، ولم يروا في مدته يوما عبوسا. وهو أول من جرى على سنن الخلفاء في الزينة والشكل، وترتيب الخدمة. وكسى الخلافة أبهة الجلالة (فشيد القصور، وجلب إليها المياه، وبنى الرصيف، وعمل عليه السقائف؛ وبنى المساجد الجوامع بالأندلس؛ وعمل السقاية على الرصيف، وأحدث الطرز، واستنبط عملها؛ واتخذ السكة بقرطبة. وفخم ملكه. وفي أيامه دخل الأندلس نفيس الوطاء وغرائب الأشياء؛ وسبق ذلك إليه من بغداد وغيرها. وعندما قتل محمد الأمين، ابن هارون الرشيد، وانتهب ملكه، سبق إلى الأندلس كل نفيس غريب من جوهر ومتاع. وقصد بالعقد المعروف بعقد الشفاء؛ وكان لزبيدة أم جعفر. ومن مآثره أنه كان ورد عليه يوما أموال من بلاده، لعطبات أجناده؛ فأدخلت إليه، وجعلت الخرائط بين يديه. وكان بعث فتيانه؛ فخلا مجلسه إذ ذاك، ولم يبق أحد هناك، حاشى فتى كان بين يديه واقفا، وعلى خدمته الخاصة عاكفا؛ فغشيت الأمير عبد الرحمن نعسة، ظنها الفتى تهزة وخلسة؛ فقبض على خريطة من ذلك المال، وأسدل عليها كمة أسبغ إسدال، والأمير يلاحظه بطرف خفيّ، ويصمت عنه صمت برّ حفيّ؛ ففاز الفتى بماله، وناط به أسباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 آماله. فلما رجع الفتيان، أمرهم الأمير عبد الرحمن برفع تلك الخرائط المبسوطة؛ فوجدوا نقصان تلك الخريطة؛ فتدافعوا فيها إذ ذاك، كل يقول لصاحبه: (أنت أخذتها من هناك!) فقال لهم الأمير: (أسكنوا عن هذا! فقد أخذها من لا يردها، وعاينه من لا يقولها!) فكان هذا مما عدَّ من كرمه وفضله. وكانت له جارية تسمى طروب، كان بها دنفا؛ فصدت عنه يوما، وأبدت هجرانه. فأرسل فيها؛ فامتنعت عليه، وأغلقت على نفسها بيتا. فأمر ببنيان الباب بالخرائط المملؤة من الدراهم، استرضاء لها، واستعطافا لوصلها. فلما فتحت الباب، تساقطت الخرائط من كل جانب؛ فأخذتها؛ فألفت فيها نحوا من عشرين ألفا؛ وأمر لها يعقد قيمته عشرة آلاف دينار؛ فجعل بعض من حضر من وزرائه يعظم الأمر عليه؛ فقال له الأمير عبد الرحمن: (إن لابسه أنفس منه خطرا وأرفع قدرا! ولئن راق من هذه الحصباء منظرها، ورصف في النفس جوهرها، فلقد برأ الله من خلقه جوهرا يغشى الأبصار، ويذهب بالألباب. وهل على وجه الأرض من زبرجدها وشريف جوهرها أقر لعين، وأجمع لزين، من وجه أكمل الله فيه الحسن ونضرته، وألقى عليه الجمال بهجته؟) ثم قال لعبد الله بن الشمر الشاعر وكان حاضرا: (هل يحضرك شئ في المعنى؟) فأنشد (طويل) : أتُقرَنُ حَصباءُ البواقِيت والشذرِ ... بِمَنْ يتَعَالى عن سَنَا الشَمسِ والبَدْرِ بِمَن قَد بَرَت قِدما يَدُ الله خلقَهُ ... وَلَم يَكُ شيئاً قَبَلهُ أبَداً يَبْرِى فأكْرِمْ به مِنْ صَنْعةٍ اللهِ جَوهراً ... تَضَاءلَ عنه جَوَهَرُ البَرِّ والبحرِ فأعجبت الأمير الأبيات وطرب لها طربا شديدا. وأنشد الأمير مرتجلا (طويل) : فَريضُكَ يَا ابن الشَّمر عني على الشِعرِ ... وجَلَّ عن الأوهامِ والذِّهْنِ والفِكرِ إذا شافَهتْهُ الأذنُ أدَّى بسحرها ... إلى القلب إبداعاً فجَلَّ عن السِحرِ وَهَل بَرأ الرّحْمنُ من كلِّ ما برأ ... أقرَّ لعِينٍ من منَهمةٍ بِكرِ تَرَى الوردَ فوقَ اليَاسَمينِ بخدِّها ... كَمَا فوق الرَّوْضُ المُنَعَّمُ بالزَّهرِ فَلَو أنَّني ملكتُ قَلبي وناظِري ... نَظَمُتُهما مِنها على الجِيدِ والنَّحرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 ثم أمر لابن الشمر ببدرة فيها خمسمائة دينار؛ فخرج مع الوصيف يحملها له تحت إبطه. فلما تواريا عن الأمير، قال له الوصيف: (أين لذات العمر، يا ابن الشمر؟) فقال: (تحت إبطك يا سيدي!) ودخل عليه الغزال الشاعر يوما؛ فقال الأمير (كامل) : جاء الغزال بحسنة وجماله فقال له الوزير: أجز. ما بدأ به الأمير! فقال الغزال (كامل) : قالَ الأميرُ مُدَاعِباً بِمَقَالهِ ... جاء الغَزَالُ بحُسنِهِ وَجَمَاله أين الجَمَالُ من أمري أربي على ... مُتَعَدِّدِ السَّبعِينَ من أحوالهِ وهَلْ الجَمالُ لهُ؟ الجمالُ مِنْ امرِئ ... ألقاهُ رَيبُ الدَّهرِ في أغلالِهِ وأعَادهُ من بَعْدِ جِدَّتِهِ بِلَى ... وأحالَ رَوْنَقَ وَجهِهِ عَن حالِهِ وهي طويلة. ومن قول الإمام عبد الرحمن - رحمه الله! - يصف حال المعزول، فأبدع (طويل) : أرى المَرءَ بَعدَ العزلِ يَرجِعُ عَقلُهُ ... وقد كان في سُلطَانِهِ لَبسَ بَعقِلُ فتلفيهِ جَهْمَ الوَجهِ ما كانَ وَالياً ... وَيَسهُلُ عَنه ذَاكَ ساعَةَ يُعزَلُ وكتب إليه بعض عمناله يسأله عملا رفيعا ليس من شاكلته؛ فوقع له في أسفل كتابه: (من لم يصب وجه مطلبه، كان الحرمان أولى به!) ومثل هذا كثير مما يدل على فضله. خلافة محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام كنيته: أبو عبد الله. أمه: بهير. مولده: في شهر ذي القعدة سنة 207. وزراؤه وقواده: اثنا عشر. حجابه: اثنان، ابن شهيد وابن أبي عبدة. كتابه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ثلاثة، عبد الملك بن أمية، وحامد بن محمد الزجالي، وموسى بن ابان. قضاته: أحمد بن زياد، ثم عمرو بن عبد الله المعروف بالقبعة، ثم سليمان بن أسود الغافقي. نفش خلقه: بالله يثق محمد وبه يعتصم. صفته: أبيض، مشرب بحمرة: ربعة، أوقص، وافر اللحية يخضب بالحناء والكتم. بنوه: ثلاثة وثلاثون. بناته: إحدى وعشرون. بويع يوم الخميس لأربع خلون لربيع الآخر سنة 238، وهو ابن ثلاثين سنة وخمسة أشهر. وتوفي يوم الخميس لليلة بقيت من شهر صفر سنة 273. عمره: خمس وستون سنة وأربعة أشهر. وكانت خلافته أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما. وفي سنة ولايته، ثار عليه أهل طليطلة، وحبسوا العامل عندهم، حتى أطلقت رهائنهم من قرطبة، وحينئذ أطلقوه. وفي سنة 239، خرج الحكم ابن الأمير عبد الرحمن إلى طليطلة بالصائفة. وكانت قلعة رباح قد أقفرت، خوفا من أهل طليطلة. فاحتلها الحكم، وأمر ببنيان سورها، واسترجاع من فرَّ من أهلها إليها. وفيها أخرج الأمير محمد إلى شندلة قاسم بن العباس وتمام بن أبي العطاف صاحب الخيل، ومعهما الحشم. فلما حلا بأندوجر، خرجت عليهم كمائن أهل طليطلة، ووقعت الحرب، وكثر القتل؛ فانهزم قاسم وتمام، وأصيب ما في العسكر. وفي ذلك يقول صفوان بن العباس أخو قاسم المذكور (رمل) : ضَرَطَ القاسمُ يَوماً ... ضَرطَةً في القَرْمِيطِ مَاتَ مِنْها كلُّ حُوتٍ ... كَانَ في البَحْرِ المُحِيطِ وكانت هذه الوقعة في شوال. وفي سنة 240، خرج الأمير محمد بنفسه إلى طليطلة في المحرم. فلما اتصل بأهلها ذلك، أرسلوا إلى أردن بن إذفونش صاحب جليقية، يعلمونه بحركته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 ويستمدون به. قبعث إليهم أخاه غثون في جمع عظيم من النصارى. فلما اتصل ذلك بالأمير محمد، وقد كان قارب طليطلة، أعمل الحيلة والكيد، واستشعر الحزم؛ فعبأ الجيوش، وكمن الكمائن بناحية وادي سليط؛ ثم نصب الردود، وطلع في أوائل العسكر في قلة من العدد. فلما رأى ذلك أهل طليطلة، أعلموا العلج بما عاينوه من قلة المسلمين؛ فتحرك العلج فرحا، وقد طمع في الظفر والغنيمة وانتهاز الفرصة. فلما التقى الجمعان، خرجت الكمائن عن يمين وشمال، وتواترت الخيل أرسالا على أرسال، حتى غشى الأعداء منهم ظلل كالجبال؛ فانهزم المشركون وأهل طليطلة، وأخذتهم السلاح، هذا بالسيوف، وطعنا بالرماح؛ فقتل الله عامتهم، وأباد جماعتهم. وحيز من رؤوسهم مما كان في المعركة وحواليها ثمانية آلاف رأس، وجمعت ورصعت؛ فصار منها جبل علاه المسلمون، يكبرون ويهللون ويحمدون ربهم ويشكرون. وبعث الأمير محمد بأكثرها إلى قرطبة، وإلى سواحل البحر، وإلى العدوة. وانتهى عدد من فقد منهم في هذه الوقعة إلى عشرين ألفا. وكانت في شهر محرم من السنة. وفي سنة 241، شحن الأمير محمد قلعة رباح وطلبيرة بالحشم، ورتب فيها الفرسان؛ وترك فيها عاملا حارث بن بزيع. وفيها، جدد الأمير محمد طرز الجامع بقرطبة وأتقن نقوشه. وفيها، حشد الأمير محمد ودخل إلى ألبة والقلاع، وبلغ إلى أقصاها وافتتح كثيرا من حصون المشركين. وفي سنة 242، كتب الأمير محمد إلى موسى بن موسى بحشد الثغور والدخول إلى برشلونة؛ فغزا إليها، واحتل بها، وافتتح في هذه الغزاة حصن طراجة، وهي من آخر أحواز برشلونة؛ ومن خمس ذلك الحصن زيدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الزوائد في المسجد الجامع بسرقسطة؛ وكان الذي أسسه ونصب محرابه حنش الصنعاني - رضي الله عنه - وهو من التابعين. وفيها وجه الأمير محمد ابنه المنذر بالجيوش إلى طليطلة؛ فحاصرها، وأقام عليها ينسف معائشها. وفي سنة 243، كانت وقعة عظيمة في أهل طليطلة، وذلك أنهم خرجوا إلى طلبيرة؛ فخرج إليهم قائدها مسعود بن عبد الله العريف، بعد أن كمن لهم الكمائن؛ فقتلهم قتلا ذريعا، وبعث إلى قرطبة بسبعمائة رأس من رؤوس أكابرهم. وفي سنة 244، خرج الأمير محمد بنفسه إلى طليطلة، وعددهم قد قل، وحدهم قد قل، بتواتر الوقائع عليهم، ونزول المصائب بهم؛ فلم تكن لهم حرب إلا بالقنطرة. ثم أمر الأمير بقطع القنطرة، وجمع العرفاء من البنائين والمهندسين، وأداروا الحيلة من حيث لا يشعر أهل طليطلة. ثم نزلوا عنها؛ فبينما هم مجتمعون بها، إذ اندقت بهم، وتهدمت نواحيها، وانكفأت بمن كان عليها من الحماة والكماة؛ فغرقوا في النهر عن آخرهم. فكان ذلك من أعظم صنع الله فيهم. وفي سنة 245، دعا أهل طليطلة إلى الأمان؛ فعقدة الأمير لهم؛ وهو الأمان الأول. وفيها، خرج المجوس أيضا إلى ساحل البحر بالغرب، في اثني وستين مركبا؛ فوجدوا البحر محروسا، ومراكب المسلمين معدة، تجري من حائط إفرنجة إلى حائط جليقية في الغرب الأقصى. فتقدم مركبان من مراكب المجوس؛ فتلاقت بهم المراكب المعدة؛ فوافوا هذين المركبين في بعض كسور باجة؛ فأخذوهما بما كان فيهما من الذهب والفضة والسبي والعدة. ومرت سائر مراكب المجوس في الريف حتى انتهت إلى مصب نهر إشبيلية في البحر؛ فأخرج الأمير الجيوش، ونفر الناس من كل أوب: وكان قائدهم عيسى بن الحسن الحاجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وتقدمت المراكب من مصب نهر إشبيلية حتى حلت بالجزيرة الخضراء؛ فتغلبوا عليها، وأحرقوا المسجد الجامع بها؛ ثم جازوا إلى العدوة؛ فاستباحوا أريافها؛ ثم عادوا إلى ريف الأندلس، وتوافوا بساحل تدمير؛ ثم انتهوا إلى حصن أوربولة؛ ثم تقدموا إلى إفرنجة؛ فشتوا بها، وأصابوا بها الذراري والأموال، وتغلبوا بها على مدينة سكنوها، فهي منسوبة إليهم إلى اليوم، حتى انصرفوا إلى ريف بحر الأندلس، وقد ذهب من مراكبهم أكثر من أربعين مركبا. ولقيهم مراكب الأمير محمد؛ فأصابوا منها مركبين بريف شذونة، فيها الأموال العظيمة. ومضت بقية مراكب المجوس. وفي سنة 246، أغزى الأمير محمد بن عبد الرحمن إلى أرض بنبلونة أحد قوَّاده؛ فخرج في هذه الغزوة خروجا لم يخرج قبله مثله جمعا وكثرة، وكمال عدة، وظهور هيبة. وكان غرسية إذ ذاك متظافرا مع أزدون صاحب جليقية؛ فأقام هذا القائد يدوخ أرض بنبلوبة، مترددا فيها اثنين وثلاثين يوما، يخرب المنازل، وينسف الثمار، ويفتح القرى والحصون. وافتتح في الجملة حصن قشتيل، وأخذ فيه قرتون بن غرسية المعروف بالأنفر، وقدم به إلى قرطبة؛ فأقام بها محبوسا نحوا من عشرين سنة؛ ثم رده الأمير إلى بلده، وعمر فرتون مائة وست وعشرون سنة. وفي سنة 247، قال الرازي: غزا محمد بن السديم أرض الحرب، وعامل الثغر إذ ذاك عبد الله بن يحيى. وكان كتب موسى بن موسى يذكر ما ناله ونال أهل بلده في إداختهم أرض الجليقيين، وما وصل إليهم من النصب، وسأل أن يكون دخول العسكر على غير ناحيته؛ فأسعف في ذلك، ودخلت العساكر على غير بلده. وفي سنة 248، تقدم موسى بن موسى لمقاتلة ابن سالم في وادي الحجارة؛ فنالته جراح منعته الركوب بعدها؛ وكانت سببا لهلاكه؛ فتوفي في هذه السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وفي سنة 249، خرج عبد الرحمن ابن الأمير محمد إلى حصون ألبة والقلاع؛ وكان القائد عبد الملك بن العباس؛ فافتتحها، وقتل الرجال، وهدم البنيان؛ وانتقل في بسائطها من موضع إلى موضع يحطم الزروع، ويقطع الثمار. وأخرج أردون بن إذفونش أخاه إلى مضيق الفج ليقطع بالمسلمين، ويتعرضهم فيه؛ فتقدم عبد الملك؛ فقاتلهم على المضيق، حتى هزمهم وقتلهم وبددهم؛ ثم وافنهم بقية العساكر، وأظلتهم الخيل من كل الجهات؛ فصبر أعداء الله صبرا عظيما؛ ثم انهزموا. ومنح الله المسلمين أكتافهم؛ فقتلوا قتلا ذريعا؛ وقتل لهم تسعة عشر قومسا من كبار قوادهم. وفي سنة 250، كملت مقصورة المسجد الجامع بقرطبة؛ وبنى فيها الأمير محمد بنيانا كثيرا في القصر الكبير والمنى الخارجة عنه. ولم تكن في هذه السنة صائفة، استغنى بالغزوة المتقدمة، وأريح العسكر فيها. وفي سنة 251، كانت غزوة ألبة والقلاع أيضا (هزيمة المركويز - أخزاه الله! -) خرج إلى هذه الغزاة عبد الرحمن بن محمد، وتقدم حتى حل على نهر دوبر. - وتوالت عليه العساكر من كل ناحية، فرتبها. ثم تقدم؛ فاحتل بفج برذنش؛ وكانت عليه أربعة حصون؛ فتغلب العسكر عليها، وغنم المسلمون جميع ما فيها وخربوها؛ ثم انتقل من موضع إلى موضع، لا يمر بمسكن إلا خربه، ولا موضع إلا حرقه، حتى اتصل ذلك في جميع بلادهم. ولم يبق لرذريق صاحب القلاع، ولا اردمير صاحب توفة، ولا لعندشلب صاحب برجية، ولا لغومس صاحب مسانقة، حصن من حصونهم إلا وعمه الخراب. ثم قصد الملاحة، وكانت من أجل أعمال رذريق؛ فحطم ما حواليها وعفا آثارها. ثم تقدم يوم الخروج على فج المركوبز؛ فصد العسكر عنه، وتقدم رذريق بحشوده وعسكره؛ فحل على الخندق المجاور للمركوبز. وكان رذريق قد عانى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 توعيره أعواما، وسخر فيه أهل مملكته، وقطعه من جانب الهضبة؛ فارتفع جرفه، وانقطع مسلكه؛ فنزل عبد الرحمن ابن الأمير محمد على وادي إبره بالعسكر، وعبا القائد عبد الملك للقتال؛ وعبا المشركون، وجعلوا الكمائن على ميمنة الدرب وميسرته. وناهض المسلمون جموع المشركين بصدورهم؛ فوقع بينهم جلاد شديد. وصدق المسلمون اللقاء؛ فانكشف الأعداء عن الخندق، وانحازوا إلى هضبة كانت تليه. ثم نزل عبد الرحمن ابن الأمير محمد، ونصب فسطاطه، وأمر الناس بالنزول وضرب أبنيتهم؛ فأقامت المحلة. ثم نهض المسلمون إليهم؛ فصدقوهم القتال، وضرب الله في وجوه المشركين، ومنح المسلمين أكتافهم؛ فقتلوا أبرح قتل؛ وأسر منهم جموع. واستمروا في الهزيمة إلى ناحية الأهزون، وافتحموا نهر إنره باضطرار في غير مخاضه؛ فمات منهم خلق كثير غرقا. وكان القتل والأسر فيهم من ضحى يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب إلى وقت الظهر. وسلم الله المسلمين ونصرهم على المشركين. وكان قد لجأ منهم إلى الوعر والغياض، عندما أخذتهم السيوف، جموع؛ فتتبعوا وقتلوا؛ ثم هتك الخندق وسوى حتى سهل، وسلكه المسلمون غير خائفين ولا مضغطين. وأعظم الله المنة للمسلمين بالصنع الجميل، والفتح الجليل. والحمد لله رب العالمين. وكان مبلغ ما حيز من رؤوس الأعداء في تلك الوقيعة عشرين ألف رأس وأربعمائة رأس واثنين وسبعين رأسا. وفي سنة 252، خرج عبد الرحمن ابن الأمير محمد غازيا إلى ألبة والقلاع؛ فحارب أهلها، وأفسد زروعها، وغادرها هشيما. وكان أهل هذا الجانب في ضعف ووهن شديد ألجأهم إلى المنع من التجمع والاحتشاد، لما نالهم في العام الفارط من النهب والقتل الذريع. وفي سنة 253، خرج الحكم ابن الأمير محمد غازيا إلى جرنيق؛ فجال في أرض الأعداء، وحل على حصن جرنيق، وحاصره حتى فتحه عنوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وفيها كانت بالأندلس مجاعة عظيمة متوالية وفي سنة 254، خرج الأمير محمد إلى ماردة، وأظهر أن استعداده لطليطلة. وكان بماردة قوم من المنتزين. فلما فصل من قرطبة، وتقدم بالمحلات إلى طريق طليطلة، نكب إلى ماردة؛ فاحتل بهم، وهم في أمن وعلى غفلة. فتحصنوا في المدينة أياما. ثم ناهض القنطرة؛ فوقع القتال، واشتد الحرب حتى غلبوا عليها؛ فأمر الأمير بتخريب رجل منها؛ فكان ذلك سببا إذعان أهل ماردة؛ فطاعوا على أن يخرج فرسانهم، وهم يومئذ عبد الرحمن بن مروان، وابن شاكر، ومكحول، وغير هؤلاء؛ وكانوا أهل بأس ونجدة وبسالة مشهورة. فخرج المذكورون ومن هو مثلهم إلى قرطبة بعيالهم وذراريهم. وولى عليها سعيد ابن عباس القرشي، وأمر بهدم سورها؛ ولم تبق إلا قصبتها لمن برد من العمال. وفي سنة 255، خرج الحكم ابن الأمير محمد، وقصد مدينة سرية. وكان قد تغلب بها سليمان بن عبدوس، وخالف فيها؛ فبادرته الصائفة، وحلت به العساكر، وأحدقت بالمدينة، ورميت بالمجانيق، حتى هتكت أسوارها. فقام أهلها على سليمان بن عبدوس؛ فطاع، ونزل؛ فقدم به قرطبة؛ فسكنها. وفي سنة 256، غدر عمروس عامل وشقة وملكها، وظهرت عاديته في الثغر؛ فأخرج الأمير إليه قطيعا من الحشم والعدة، وقصد بها لاردة ابن مجاهد المعروف بالتدميري؛ فلزمها. وحشد عبد الوهاب بن مغيث الحشود، وقدم عليهم عبد الأعلى العريف، وبعثه إلى وشقة. فلما بلغ عمروس خبره، خرج عن وشفة، وأسر بها لب بن زكرياء بن عمروس؛ وكان أحد قتلة عامل السلطان بها موسى بن غلند؛ فقتل لب وعلق من السور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وفي سنة 257، خرج إلى الثغر عبد الغافر بن عبد العزيز؛ وكان بتطيلة. فقبض على زكريا. بن عمروس وعلى أولاده وجماعة من أهل بيته، ونزل بهم على باب مدينة سرقسطة، وقتلهم بها. وقفل إلى قرطبة بالرؤوس. وفي سنة 258، كانت في الثغر ثورات وحركات، منها أن مطرفا وإسماعيل ابني لبّ، ويونس بن زنباط غدروا بعبد الوهاب بن مغيث، عامل تطيلة، وابنه محمد عامل سرقسطة. فتقبضوا عليهما، وملكوا في هذا العام الثغر. وكان توفي مطرف في صفر، ودخل إسماعيل سرقسطة في ربيع الأول. وفي سنة 259، خرج الأمير محمد بنفسه إلى الثغر، وحل في وجهته بطليطلة، وأخذ رهائنهم، وعقد أمانهم، وقاطعهم على قطيع من العشور يودونه في كل عام، وهو الأمان الثاني. واختلفت أهواؤهم في عمالهم؛ فطلب قوم منهم تولية مطرف بن عبد الرحمن، وطلب آخرون تولية طربيشة؛ فولى كل واحد منهما جانبا، وتقسما المدينة وأقاليمها على حدود مفهومة معلومة؛ ثم تنازعا، وأراد كل واحد منهما الانفراد بملك طليطلة. ثم غلب الداعون إلى تقديم طربيشة ابن ماسوية، وتأخير مطرف المذكور. وكان الأمير محمد تتلقاه في وجهته هذه، في الارتحال والاحتلال، طلائع الظفر، وبوادر النجح والنصر. وتجول في الثغر محاصرا لبني موسى، ومضيقا عليهم. ثم تقدم إلى بنبلونة؛ فوطئ أرضها، وأذل أهلها، وخربها؛ قم قفل؛ فحل بقرطبة، ومعه جماعة من الثوار الناكثين المفسدين. فلما أخذ راحته، أمر بقتل مطرف بن موسى وبنيه، وأمر بإطلاق كاتبهم، وكان لا ذنب له. فلما أخرج مطرف وبنوه للقتل، وأخرج كاتبهم للإطلاق، وكان يعرف بالأصبحي، قال: (لا خير في العيش بعد هؤلاء!) فقدم للقتل قبلهم، ورفعت رؤوسهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وفي سنة 260، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى سرقسطة وبنبلونة؛ وكان القائد هاشم بن عبد العزيز. فاحتل سرقسطة، وانتهب زروعها، وأذهب ثمارها وأشجارها، ونقل أطعمتها إلى وشفة، وتقدم إلى بنبلونة؛ فجال في أرضها، وأتلف معايش أهلها. وفيها، كانت المجاعة التي عمت الأندلس؛ ومات فيها أكثر الخلق. وفي سنة 261، هرب ابن مروان الجليقي من قرطبة مع رجال ماردة المنزلين منها، واستقروا بقلعة الحنش. فغزاه الأمير محمد، وحاصره حصارا قطعه وضيق عليه مدة من ثلاثة أشهر، ألجأه فيها إلى أكل الدواب؛ وقطع عنه الماء، ورماه بالمجانيق، حتى أذعن، وطلب الأمان، وشكى ثقل الظهر وضيق الحال؛ فأباح له الأمير محمد الرحيل إلى بطليوس والحلول بها؛ وهي يومئذ قرية؛ فخرج إليها، وقفل عنه. وفي سنة 262، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى ابن مروان؛ وكان القائد هاشم بن عبد العزيز؛ وهو الذي كان سبب هروب ابن مروان، لأنه قال له من بين الوزراء: (الكلب خير منك!) وأمر يصفع قفاه، واستبلغ في خزيه؛ فهرب مع أصحابه، وذلك في خبر طويل. وكان ابن مروان قد ابتنى بطليوس حصنا، وجعله موطنا، وأدخل فيه أهل ماردة وغيرهم من أهل المكانفة له على الشر. فلما انتهى إلى ابن مروان تحرك العسكر إليه، تنقل عن بطليوس، وحل بحصن كركي؛ واجتمع أهل ماردة إليه فيه؛ فنزل العسكر بمقربة من الحصن. وكان هاشم قد يعث إلى منت شلوط خيلا ورجلا لضبطه. وكان سعدون الرماري قد دخل إلى بلاد الشرك مستمدا؛ فجاء بمدد من المشركين، وأظهر أنه في قلة؛ فكتب بذلك عامل حصن منت شلوط إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 هاشم؛ فرأى هاشم أن ذلك فرصة في سعدون؛ فبادر بالخروج من العسكر على غير تعبئة ولا أهبة، في خيل قليلة. وأفحص هاشم، وجاوز الوعر، وأبعد عن العسكر؛ فأخذت المضايق عليه، وناشبوه القتال؛ فأخذته جراح، وقتل من أصحابه جماعة؛ وأسر هاشم المذكور. ولما اتصل خبر هاشم بالأمير محمد، وقع في جانبه، وقال: (هذا أمر جناه على نفسه بطيشه وعجلته!) ثم رد ولده عوضا منه. وحصل هاشم أسيرا بيد ابن مروان الذي صنعه في أسره في قرطبة؛ فبره ابن مروان، وأكرمه، وأحسن إليه، ولم يعاقبه بما فعل معه. وفي سنة 263، خرج المنذر بن الأمير محمد، وجعل طريقه على ماردة فلما انتهى ذلك إلى ابن مروان، زال عن بطليوس؛ واحتل بها قائد المنذر الوليد بن غانم؛ فخرب ديارها. وتقدم ابن مروان إلى بلاد العدو. وفي سنة 264، حارب المنذر سرقسطة، وأفسد ما ألقى من زروعها؛ ثم تقدم إلى تطيلة والمواضع التي صار فيها بنو موسى؛ فانتسقها، وأجال العسكر عليها. وفيها، دخل البراء بن مالك من باب فلنبرية إلى جليقية بحشود الغرب، وتردد هنالك حتى أذهب نعيمهم. وفيها، أطلق هاشم من الأسر. وفي سنة 265، ظهرت الفتنة وظهر الشر في جانب كورة ربة والجزيرة وتاكرنا؛ وظهر يحيى المعروف بالجزيري؛ فغزاه هاشم؛ فأذعن له، وقدم به إلى قرطبة. وفي سنة 266، خرج عبد الله بن الأمير محمد إلى كورة ربة ونواحي الجزيرة، وبنى حصونا في تلك النواحي؛ ثم قفل. وفيها، أمر الأمير محمد بإنشاء المراكب بقرطبة ليتوجه بها إلى البحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 المحيط عبد الحميد الرُّعبطي المعروف بابن مغيث؛ وكان قد رفع إليه رافع أن جليقية من ناحية البحر المحيط لا سور لها، وأن أهلها لا يمتنعون من جيش إن غشيهم من تلك الناحية. فلما كملت المراكب بالإنشاء، قدم عبد الحميد بن مغيث عليها. فلما دخل البحر، تقطعت المراكب كلها وتفرقت، ولم يجتمع بعضها إلى بعض. ونجا ابن مغيث. وفي سنة 267، التاثت الحصون المبتناة برية وتاكرنا وجهة الجزيرة. وفيها، ابتدأ شر اللعين عمر بن حفصون، الذي أعبى الخلفاء أمره، وطالت في الدنيا فتنته، وعظم شره؛ فقام في هذه السنة على الأمير محمد بناحية رية. فتقدم إليه عامر بن عامر؛ فانهزم عامر وأسلم قبته؛ فأخذها ابن حفصون، وهو أول رواق ضريه؛ فاستكن إليه أهل الشر. وعزل الأمير عامرا عن كورة رية، وولاها عبد العزيز بن عباس؛ فهادنه ابن حفصون، وسكنت الحال بينهما. ثم عزل عبد العزيز، وتحرك ابن حفصون، وعاد إلى ما كان عليه من الشر. وخرج هاشم بن عبد العزيز إلى كورة رية يطلب كل من كشف وجهه في الفتنة وأظهر الخلاف، وأخذ رهائن أهل تاكرنا على إعطاء الطاعة. ومن العجائب في هذا العام، ما ذكره الرازي وغيره. قالا: زلزلت الأرض بقرطبة زلزالا شديدا، وهاجت ريح عند صلاة المغرب؛ فأثارت سحابا فيه ظلمات ورعد وبرق؛ فصعق ستة نفر، وانقلبوا على ظهورهم، مات اثنان؛ وخر جميع الناس سجدا إلا الإمام، فإنه ثبت قائما؛ وكان الرجلان اللذان ماتا أقرب الناس إلى الإمام؛ فاحترق شعر أحدهما واسود وجهه وشقه الأيسر؛ والآخر ظهر بشقه الأيمن سواد؛ والأربعة الصرعى مكثوا حتى فرغ الإمام؛ فسئلوا عما أحسوا؛ فقالوا: (أحسسنا نارا كأنها الموج الثقيل.) ووجد أهل المسجد رائحة النار، ولم يوجد للصاعقة أثر في سقف ولا حائط. واهتزت لهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الزلزال القصور والجبال، وهرب الناس إلى الصحارى، ضارعين إلى الله تعالى. وعم هذا الزلزال من البحر الشامي إلى آخر الجوف وإلى آخر أرض الشرك، لم يختلف في ذلك مختلف. وفي سنة 268، خرج المنذر ابن الأمير محمد، والقائد هاشم بن عبد العزيز؛ فقصد الثغر الأقصى، وحطم سرقسطة، وافتح حصن روطة؛ ثم تقدم إلى ألبة والقلاع، وافتتح حصونا كثيرة، وأخلى حصونا كثيرة، خوفا من مهرة العسكر، وتوقعا من تغلبه. وفيها، فسد ما بين المنذر وبين الوزير هاشم بن عبد العزيز. وفي سنة 269، قال الرازي: وفي سنة 269، غزا محمد بن أمية بن شهيد إلى كورة رية وكورة إلبيرة. وكانوا بحال توحش ونفار؛ فسكن أحوال أهلها، وهدن الناس بها، ونظر في استنزال رجال بجبال رية وغيرها من بني رفاعة وغيرهم. وفي سنة 270، استتم محمد بن أمية بن شهيد استنزال بني رفاعة. وأتاه في هذه الغزاة كتاب الأمير محمد بتولية عبد العزيز بن العباس كورة إلبيرة؛ فولاه، وقفل. وفيها، غزا هاشم كورة رية، وإستنزل عمر بن حفصون من جبل بربشتر وقدم به قرطبة؛ فأنزله الإمام، وأوسع له في الإكرام. وفي سنة 271، هرب عمر بن حفصون من قرطبة، ولجأ إلى جبل بربشتر؛ فانتدب الأمير محمد إلى حربه؛ وحوصر في السنة الآتية. وفي سنة 272، خرج عبد الله ابن الأمير محمد، والقائد هاشم بن عبد العزيز. وقصد الغرب إلى ابن مروان، وهو بجبل اشبرغزة؛ فنازله وحاربه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 قال حيان بن خلف في عمر بن حفصون: هو كبير الثوار بالأندلس ونسبه: عمر بن حفص، المعروف بحفصون، بن عمر بن جعفر بن شتيم بن ذيبان ابن فرغلوش بن إذفونش، من مسالمة الذمة، من كورة تاكرنا من عمل رندة. وكان الذي أسلم منهم جعفر بن شتيم؛ ففشا نسله في الإسلام. وكان له من الولد الذكور عمر وعبد الرحمن؛ فولد عمر بن جعفر حفصا. وولد حفصون هذا عمر هذا الثائر الملعون؛ فعمر هذا هو الذي ثار على الأمير محمد أولا، ثم بلغ بعد ذلك في الشقاق والفتن مبلغا لم يبلغه ثائر بالأندلس. واستوطن لأول نفاقه حصن بربشتر قاعدة وحضرة، وهي أمنع قلاع الأندلس قاطبة، وذلك في هذه السنة، وهو تأريخ صعوده الآخر إليها الذي توطد له ملكه فيه، وخالف على السلطان حتى رضى عنه بالمناركة. واتصلت أيامه في ظهور وعزة حتى قدم فيها ثلاثة من خلفاء المروانيين أئمة الجماعة بالأندلس - رحمهم الله! - أولهم هذا الأمير محمد؛ وتخلف بعدهم إلى أن هلك على يد الرابع منهم، وهو عبد الرحمن الناصر، على ما يأتي مفسرا. وفي سنة 273، خرج المنذر بن الأمير محمد إلى كورة رية، والقائد محمد ابن جهور. فقصد مدينة الحامة، وفيها حارث بن حمدون من بني رفاعة؛ وكان مظاهرا لعمر بن حفصون، وكانا قد اجتمعا بالحامة. فنازلهم، وناهضهم، وأحدق بهم من كل ناحية؛ وأقام محاصرا لهم شهرين. فلما وصل إليهم الضيق، برزوا إلى باب المدينة خارجا، مستقبلين للحرب. وقام بها؛ فنالته جراح، وشلت يده؛ ثم انهزم هو وأصحابه، وصاروا بين قتيل وفليل. ودخل باقيهم في الحامة. فبينا المنذر في هذه الحال من السرور، إذ أتاه الخبر بموت أبيه الأمير محمد بن عبد الرحمن، ليلة الخميس لليلة بقيت من شهر صفر من السنة؛ ودفن في القصر. وأدركه المنذر قبل مواراته وصلى عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 بعض أخباره وسيره كان الأمير محمد - رحمه الله! - فصيحا، بليغا، عظيم الأناة، متنزها عن القبح، يؤثر الحق وأهله، لا يسمع من باغ، ولا يلتفت إلى قول زائغ. وكان عاقلا، على أخلاق جميلة ومكارم حميدة، ذا بديهة وروية، يرى كل من باشره وحدثه أن له الفضل المستبين في إدراكه، وفهمه، ودقة ذهنه، ولطيف فطنته، وجزالة رأيه. وكان أعلم الناس بالحساب وطرق الخدمة. وكان متى أعضل منها شئ، رجع إليه فيه؛ وإذا أخل أحد من خزانه وأهل خدمة الحساب بشيء من ذلك، لم يجز عليه بأدنى لحظة أو نظرة. ولقد استدرك على بعض خزانه في صك يشتمل على مائة ألف دينار خُمُسَ درهم؛ فرد الصك، وأمر بتصحيحه؛ فتجمع الخدمة والكتاب عليه؛ فلم يقعوا على ذلك النقصان لدقته وخفائه؛ فرجعوا إليه معترفين بالتقصير، وأعلموا الرسول؛ فرد الصك إليه وأعلمه باعترافهم؛ فعلم لهم على موضع الخطاء؛ فإذا هو خُمُسَ درهم. وقال هاشم بن عبد العزيز: كان الأمير محمد - رحمه الله! - أصح الناس عقلا، وأحسنهم تمييزا، وأبصرهم بوجه الرأي. وكان يستشيرنا؛ فنجتهد ونقول ونحصل؛ فإن أصبنا، أمضى ذلك؛ وإن كان في الرأي خلل، قام فيه بالحجة، وأبانه بما تعجز الأوهام عنه تنقيحا وتهذيبا. ومما يحفظ عنه أنه قال لهاشم في شئ أنكره عليه من عدم التثبت: (يا هاشم! من آثر السرعة أمضت به إلى الهفوة. ولو أنا أصغينا إلى محو زلاتك، وأصخنا إلى هفواتك، لكنا شركاءك في الزلة، وقسماءك في العجلة! فمهلا عليك، ورويدا بك! فإنك إن يعجل يعجل لك!) وكان، مع تشبثه وأناته، وافيا لمواليه في أنفسهم وأعقابهم، لا يكدح عنده كادح في شئ عن أحدهم، فيسمعه أو يسمِعه. ولقد ولي الكناية عبد الملك بن عبد الله بن أمية اصطناعا له، وعائدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 عليه؛ فرد عليه يوما جوابا يقول فيه: (قد فهمنا عنك، ولم نأت ما أتيناه عن جهل بك، لكن اصطناعا لك، وعائدة عليك. وقد أبحنا لك الاستعانة بأهل اليقظة من الكتاب. فتخير منهم من تثق به وتعتمد عليه. ونحن نعينك على أمرك بتفقد كتبك والإصلاح عليك، إلى أن تركب الطريقة وتبصر الخدمة إن شاء الله تعالى!) فحسده على الخطة لشرفها من رأى نفسه أولى بها لاستكمال أدواتها؛ فطولب عليها. وكان أشد الناس في ذلك هاشم بن عبد العزيز، يثير سقطانه، ويتتبع هفواته، ويشنع عليه؛ والأمير محمد بفطنته يتغافل له. فلما طال عليه الصبر، دعا هاشما، وقال له: (قد أكثر أهل خدمتنا وأكثرت في هذا الكاتب: تذكرون جهله وفدامته، وقد ضممنا إليه من الكتاب من يستعين به، ويستظهر على خدمته بمكانه؛ وإنما تقفو بخدمتنا، وننسلك بمراتبنا طريق من ابتدأها وأسسها ووضع أهلها فيها. وإذا كنا لا نخلف آباءكم بكم، ولا نخلفكم بأبنائكم، فعند من نصنع إحساننا ونرب أيادينا؟ أعند أبناء القرانين أو الجزارين أو أمثالهم من الممتهنين) ؟ وأنت كنت أحق بالحص على هذا، وتصويب الرأي فيه، لما ترجو من مثله في أولادك وعقبك!) فرجع هاشم إلى الشكر له وتقبيل يده ورجله. وكان - رحمه الله! - مأمولا محبوبا في جميع البلدان. وكان محمد بن أفلح صاحب ناهرات لا يقدم ولا يؤخر في أموره ومعضلاته إلا عن رأيه وأمره؛ وكذلك بنو مدرار بسجلماسة. وكان قرولش ملك إفرنجة يسترجح عقله؛ فيهاديه ويتحفه؛ وهو (أعني قرولش) الذي عمل صورة عبسي من ثلاثمائة رطل من ذهب خالص، وصفها بالياقوت والزبرجد، وجعل لها كرسيا من ذهب خالص مفصص بالياقوت والزبرجد أيضا؛ فلما اكمل ذلك، سجد له وأسجد له جميع أهل إفرنجة في ذلك التاريخ؛ ثم دفعه إلى صاحب كنيسة الذهب برومة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وكان الأمير محمد - رحمه الله! - مهتبلا بأمور رعيته، مراقبا لمصالحها. ووضع عن أهل قرطبة ضريبة الحشود والبعوث. وقال ابن حبان: كانت عدة الفرسان المستنفرين لغزو الصائفة المجردة إلى جليقية في مدة الأمير محمد مع الولد عبد الرحمن ابنه على هذه التسمية المفصلة: من ذلك كورة إلبيرة: ألفان وتسعمائة؛ جيان: ألفان ومائتان؛ قبرة: ألف وثمانمائة؛ باغه: تسعمائة؛ تاكرنا: مائتان وتسعة وتسعون؛ الجزيرة: مائتان وتسعون؛ إسنجة: ألف ومائتان؛ قرمونة: مائة وخمسة وثمانون؛ شذونة: ستة آلاف وسبعمائة وتسعون؛ رية: ألفان وستمائة؛ فحص البلوط: أربعمائة؛ مورور: ألف وأربعمائة؛ تدمير: مائة وستة وخمسون؛ ربينة: مائة وستة؛ قلعة رباح وأوربط: ثلاثمائة وسبعة وثمانون. قال: ونفر من أهل قرطبة لهذه الغزوة عدد لم يوقف على قدره. وكان هذا العدد الذي غزا به بعد أن رفع الضريبة التي كانت على أهل قرطبة وأقاليمها وغيرها من البلاد؛ وقطع عنهم الحشود التي كانوا يؤخذون بتجديدها في كل سنة للصوائف الغازية لدار الحرب، وأسقطها منهم ووكلهم إلى اختيار أنفسهم في الطواعية للجهاد من غير بعث. فحسن موقع ذلك منهم، وتضاعف حمدهم له وشكرهم واغتباطهم بدولته. وذكر جماعة من المؤرخين، عن بقى بن مخلد، أنه قال: ما كلمت أحدا من ملوك الدنيا أكمل عقلا ولا أبلغ فضلا من الأمير محمد. دخلت عليه يوما في مجلس خلافته؛ فافتتح الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم ذكر الخلفاء خليفة خليفة؛ فحلى كل واحد منهم بتحليته، ووصفه بصفته، وذكر مآثره ومناقبه بأفصح لسان وأبلغ بيان، حتى انتهى إلى نفسه؛ فسكت. وفي صدر دولته سعى ببقى بن مخلد إلى الأمير محمد؛ وذلك أنه لما قدم بقى بن مخلد من المشرق عن رحلته الطويلة بما جمع من العلوم الواسعة والروايات العالية والاختلافات النقهية، أغاظ ذلك فقهاء قرطبة أصحاب الرأي والتقليد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الزاهدين في الحديث، الفارين عن علوم التحقيق، المقصرين عن التوسع في المعرفة؛ فحسدوه، ووضعوا فيه القول القبيح عند الأمير، حتى ألزموه البدعة، وشنؤوه إلى العامة. وتخطى كثير منهم برميه إلى الإلحاد والزندقة، وتشاهدوا عليه تغليظ الشهادة، داعين إلى سفك دمه؛ وخاطبوا الأمير محمدا في شأنه، يعرفونه بأمره، ويكثرون عليه بكل ما يرجون به الوصول إلى سفك دمه، ويسألونه تعجيل الحكم فيه. فاشتد خوف بقي بن مخلد جدا، واستتر خوفا على دمه، وعمل على الفرار عن الأندلس إن أمكنه ذلك. فأرشده الله إلى التعلق بحبل هاشم بن عبد العزيز، وسؤاله الأخذ بيده؛ وكتب إلى الأمير محمد، ينشده الله في دمه، ويسأله التثبت في أمره، والجمع بينه وبين خصومه، وسماع حجته، فيأتي في ذلك بما يوفقه الله له. فألقى الله في نفس هاشم الإصغاء إلى شكواه، والاعتناء بأمره؛ فشمر له عن ساعده، وأوصل كتابه إلى الأمير محمد يشرح حاله؛ فعطف عليه، وإنهم الساعين به إليه؛ فأمر بتأمين بقي بن مخلد، وإحضاره مع الطالبين له؛ فتناظروا بين يديه؛ فأدلى بقي بحجته، وظهر على خصومه؛ واستبان الأمير محمد حسدهم إياه لتقصيرهم عن مداه. فدفعهم عنه، وتقدم إليه يطأطأه قدمه، ونشر علمه. وأمر بإيصاله إليه في زمرة من الفقهاء، والرفع من منزلته؛ فاعتلى ذروة العلم، ولم يزل عظيم القدر عند الناس وعند الأمير محمد إلى أن مات - رحمه الله! وفي صدر دولته، توفي عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وذلك في رمضان سنة 239. وهو عبد الملك بن سليمان بن مروان بن جيهلة بن عباس ابن مرداس السُّلميُّ، يُكنى أبا هارون؛ أوله من كورة إلبيرة، ونقله الأمير محمد إلى قرطبة، بل نقله أبوه عبد الرحمن بن الحكم. وكان محمد بن عمر بن لبابة يقول: عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى، وفقيهها عيسى بن دينار. قال ابن وضاح وغيره: لم يقدم الأندلس أحد أفقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 من سحنون، إلا أنه قدم علينا من هو أطول لسانا منه، يعني ابن حبيب. وكان ابن حبيب أديبا، نحويا، حافظا، شاعرا، متصرفا في فنون العلم من الأخبار والأنساب والأشعار. وله مؤلفات حسان في الفقه والأدب والتواريخ كثيرة. قال ابن العزبى: بضاعته في الحديث مزجاة. وكانت علته التي مات منها الحصى. وتوفي وسنه أربع وستون سنة. وكتب إلى الأمير عبد الرحمن بن الحكم في ليلة عاشوراء (بسيط) : لا تَنْسَ، لا يَنسَكَ الرَّحْمنُ، عَاشُورَا ... وَأذْكُرهُ لا زلْتَ في الأخبارِ مّذكُورَا مَنْ بَاتَ في لَيْلِ عَاشُوراء ذَا سَعةٍ ... يَسكُنْ بعِيِشَتِهِ في الحَولِ مَحسُورَا فأرغَبْ، فَديتُكَ، فِيمَا فيِهِ رَغبَنَا ... خَيرُ الوَرَى كُلّهِمْ حَيِّا وَمَقبُورَا وخرج الأمير محمد بن عبد الرحمن إلى الرصافة يوما متنزها، ومعه هاشم ابن عبد العزيز؛ فكان بها صدر نهاره على لذته؛ فلما أمسى، واختلط الظلام انصرف إلى القصر، وبه اختلاط. فأخبر من سمعه وهاشم يقول له: (يا ابن الخلائف! ما أطيب الدنيا لولا الموت!) فقال له الأمير: (يا ابن اللخناء! لحنت في كلامك! وهل ملكنا هذا الملك الذي نحن فيه إلا بالموت؟ فلولا الموت، ما ملكناه أبدا!) وكان الأمير محمد - رحمه الله! - غزاه لأهل الشرك والاختلاف. وربما أوغل في بلاد العدو الستة الأشهر والأكثر، بحرق وبنسف. وله وقعة وادي سليط، وهي من أمهات الوقائع؛ ولم يعرف بالأندلس قبلها مثلها. وفيها يقول عباس بن فرناس، وشعره يكفينا من صفتها؛ وهو (طويل) : ومُختَلِفِ الأصواتِ مؤتَلفِ الزَّحفِ ... لهومِ الفَلاَ عَبلِ القَنَابل مُلتَفِ إذَا أومَضت فِيهِ الصَّوَارِمُ خِلتَهَا ... بُرُوقاً تَرَاءى في الجَهَامِ وتَسْتَخْفِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 كأنَّ ذُرَى الأعلامِ في مَيَلاَنِهِ ... قَرَاقِيرُ في يَمِّ عَجَزْنَ عن القَذْفِ وإن طحَنَت أرحاؤها كان قُطبُها ... حِجَى مَلِكٍ نَدبٍ شَمَائُله عَفِّ سَمِيُّ ختام الأنبياء مُحمِّدٌ ... إذا وُصِفَ الأملاكُ جَلَّ عَن الوَصفِ فَمِن أجله يومَ الثلاثاء غُدْوةً ... وقد نفضَ الإصبَاحُ حَبلَ عُرى السِّجْفِ بَكَى جبلاً وادي سَلِيطِ فَأعوَلاَ ... على النَّفَرِ العُبدَانِ والعُصبةِ الغُلفِ دَعَاهُم صريخ الحينِ فاجتمَعَوا لًهُ ... كَمَا اجتمَعَ الجُعلانُ للبَعرِ في وَقفِ فَمَا كَانَ إلا أن رَمَاهم ببعضِها ... فَوَلوا على أعقَابِ مهزولة كُشفِ كانَّ مسَاعيرَ الموَالي علَيهِمُ ... شَوَاهِينُ جادت للغرانيِقِ بالنَّسفِ بنفِسي تنانيِنَ الوَغى حيِنَ صمَّمَت ... إلى الجَبَلِ المسحونِ صفَّا عَلَى صَفِّ يَقُول ابن بُولبش لمُوسَى وَفَدوَني: ... أرى المَوتَ قُدَّامِي وتَحتيِ ومن خَلفي قتلنا لَهُم ألفاً وألفاً وَمِثلَهَا ... وألفا وألفاً بَعدَ ألفٍ إلى ألفٍ سِوَى مَن طواهُ النَّهرُ في مُسلحِبهِ ... فأغِرقَ فيه أو تذأذأ مِن جُرفٍ قال أبو عمر السالمي: كانت أول غزواته إلى بلد العدو، وقد حشد لها وجند، وصوب كيف شاء وصعد، ألقى العدو وقد ضاق بخيله الفضاء الواسع، والمكان الداني والشاسع، وهو متأهب للقائه! متوجه إلى تلقائه. فخامر الأمير محمدا الجزع، وشابه الروع والفزع، وظن أن لا منجاة من الكفار، وأن المسلمين هناك طعن الشفار؛ فرأى من الحزم الأوكد، والنظر الأحمد الأرشد، الرجوع عن تلك الحركة، لقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة؛ فقام رجل؛ فقال: (أيها الأمير! قال الله تبارك وتعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم الآية. فقال له الأمير محمد: (والله! ما جبنت نفسي، إلا أنه لا زأى لمن لا يطاع، ولست أستطيع أن أجاهد وحدي!) فقال له العتبي: (والله! ما أراه قذف بها على لسانه إلا ملك! فأستخر الله في ليلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 هذا وفي يومك!) فأراه الله في مقابلة العدو الرشاد، وألهمه التوفيق والسداد. فندب الناس إلى لقاء أعداء الله ونصر دينه، وأن يكون كلُّ على حسن ظنه من الظفر ويقينه. فلما انعقدت راياتهم، وتأكدت على المقارعة نياتهم. قدَّم عليهم الأمير محمد ابنه المنذر، إذ كان مشهورا بالبأس، محبوبا في الناس. فسار المسلمون إلى أن التقى الجمعان، والتفَّ الفريقان فأعقب الله لأوليائه ظفرا ونصرا، وجعل بعد عسر يسرا. قال: ولم يؤذن مؤذن الظهر إلا ومن رؤوس الأعداء جملة آلاف مقطوعة لأعداء الله؛ وذلك من فضل الله. وفي هذا الفتح يقول العنبي، يمدح الأمير محمدا في قصيد طويل أذكر هنا بعضه، وهو (كامل) : سَايِلْ عَنِ الثَّغرِ الصَّوارِمَ تَصدُقِ ... واستَنطِقِ السُّمرَ العوَاليِ تنَطِقِ تَرَكَتْ وَقَائعَ في الثُّغورِ وَقَد غَدَتْ ... مَثَلاً بِكُلِّ مُغَرِبٍ ومُشَرِّقِ وأدّاخَ أرْضَ المُشْرِكِينَ بِوقعَةٍ ... تَرَكَتهُمْ مِثلَ الأشاء المُحرَقِ جَادَت عَليهِم حَربُهُ بِصَوَاعقٍ ... تَرَكَتهُم مِثلَ الرَّمَادِ الأزرَقِ خلافة المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم كُنيته: أبو الحكم. مولده: سنة 229. أمه: تسمى أثل، ولدته لسبعة أشهر. وزراؤه: أحد عشر. كتابه: اثنان: سعيد بن مبشر، وعبد الملك بن عبج الله بن أمية بن شهيد. حاجبه: عبد الرحمن بن أمية بن شهيد. قوَّاده: سبعة. قاضبه: أبو معاوية عامر بن معاوية اللخمي. نقش خاتمه: المنذر بقضاء الله راض. صفته: أسمر، جعد الشعر، بوجهه أثر جدري، يخضب بالحناء والكتم. أولاده الذكور: خمسة، والإناث: ثمان. بويع يوم الأحد لثمان خلون من ربيع الأول سنة 273، وهو ابن أربع وأربعين سنة، وسبعة عشر يوما؛ وتوفي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 غزاة له على بربشتر يوم السبت للنصف من صفر سنة 275. عمره: ستة وأربعون سنة. خلافته: سنتان إلا سبعة عشر يوما. ودفن بقصر قرطبة، وصلى عليه أخوه عبد الله، جد الناصر. واتصل به موت أبيه، وهو على حصن الحامة يقاتل المرتد اللعين عمر ابن حفصون؛ فقفل إلى قرطبة. وتمت له البيعة في اليوم الثاني من وصوله؛ ففرق العطاء في الجند، وتحبب إلى أهل قرطبة والرعايا بأن أسقط عنهم عشر العام وما يلزمهم من جميع المغرم. وكانت أكثر حصون رية قد حصلت في طوع ابن حفصون؛ فبعث إليها الإمام المنذر الأجناد؛ فانصرفت إلى الطاعة. ولما بلغ ابن حفصون موت الأمير محمد، وانصرف عنه المنذر على ما تقدم، نهض من فوره؛ فراسل الحصون التي بينه وبين الساحل كلها؛ فأجابته وطاعت له. ونهض إلى باغه وجبل شيبة؛ فأخذ من الأموال ما لا يوصف، كل ذلك منه بلا قوة، ولا كثرة من مال، ولا عدد؛ ولكنه كان عذابا من الله ونقمة انتقم بها من عبيده. وانفق له زمان هرج وقلوب قاسية فاسدة ونفوس خبيثة، متطلعة إلى الشرّ، مشرئبة إلى الفتنة. فلما ثار، وجد من الناس انقيادا وقبولا للمشاكلة والموافقة؛ فتألبت له الدنيا، ودخل إلى الناس من جهة الألفة، وقال: (طال ما عنَّف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وأخرجكم من عبوديتكم!) فكان ابن حفصون لا يورد هذا على أحد إلا أجابه وشكره. فكانت طاعة أهل الحصون بهذا الوجه. وكان أتباعه شطار الناس وشرارهم. فكان يمنيهم بفتح البلاد، وغنائم الأموال. وكان مع ذلك متحببا لأصحابه، متواضعا لألافه. وكان، مع شره وفسقه، شديد الغيرة، حافظا للحرمة؛ فكان ذلك مما يميل النفوس إليه. ولقد كانت المرأة في أيامه تجئ بالمال والمتاع من بلد إلى بلد منفردة، لا يعترضها أحد من خلق الله. وكانت عقوبته السيف، يصدق المرأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 والرجل والصبي أو من كان على من كان، لا يطلب على ذلك شاهدا أكثر من الشكوى. وكان يأخذ الحق من ابنه، ويبر الرجال، ويكرم الشجعان؛ وإذا قدر عليهم، عفا عنهم. وكان يسورهم بأسورة الذهب إذا اختصلوا. فكانت هذه الأشياء كلها عونا له. وانتهى ابن حفصون بعاديته إلى قبرة وما أمامها إلى قرية الجالية، وأغار على القبذيق من إلبيرة، وعلى أحواز جيان، وأسر عبد الله ابن سماعة عامل باغه. وكان اجتمع إلى حصن آشر من حوز رية وبمقربة من قبرة جمع الشر من أصحاب ابن حفصون. فراع أهل قبرة أمرهم وهابوهم. واتصل بالأمير المنذر خبرهم؛ فأرسل أصبغ بن فطيس في خيل كثيفة إلى حصن آشر؛ فحاصرهم حتى افتتحه، وقتل من كان فيه. وأخرج الأمير المنذر عبد الله بن محمد بن مضر وأبدون الفتى بخيل إلى ناحية لجانة من قبرة؛ وكان بها مسلحة لابن حفصون؛ فنازلوهم وقاتلوهم حتى أفنوهم. قال الرازيّ: وفي سنة ولاية الإمام المنذر، غزا محمد بن لبّ إلى ألبة والقلاع ومعه جموع المسلمين؛ ففتح الله للمسلمين، وقتلوا المشركين قتلا ذريعا. وفي هذه السنة، أعني سنة 273، في جمادى الأولى، أمر الأمير المنذر بسجن هاشم بن عبد العزيز وزير أبيه وخاصته، وأمر بقتله في جمادى الأولى؛ وسبب ذلك أن هاشما كان يجسد لمكانه من الأمير محمد وخاصته به؛ فكانوا يسعون به عند المنذر، ويكررون ذلك عليه، حتى تنافرت النفوس. فلما مات الأمير محمد، وولى المنذر، أراد أن يفي له ويتبع فيه فعل أبيه؛ فولاه الحجابة. ثم تمالئوا عليه، وأمثروا، وحرفوا عليه الكلام، وتأولوا عليه أقبح التأويل، حتى نفذ قضاء الله فيه. وكان مما تأولوا عليه أن هاشما أنشد عند مواراة الأمير محمد - رحمه الله! - (وافر) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 أعَزّى يَا مُحَمِّدُ عَنكَ نَفسِي ... أمين الله ذَا المِنَنِ الجِسَامِ فَهَلاً مَاتَ قَومٌ لَم يَمُوتُوا ... وَدُوفِعَ عَنكَ لِي كاسُ الحِمَام فتأوَّلوا أنه يريد بقوله (لم يموتوا) المنذر. وكتب هاشم من حبسه إلى جاريته عاج (طويل) : وَإنّي عَدَاني أن أزُورَكِ مَطبَقٌ ... وبَابٌ مَنِيعٌ بالحديدِ مُضّبَّبُ فإن تَعجبِي يا عَاجُ ممَّا أصابني ... فَفِي رَيبِ هذا الدَّهرِ مَا يُتعَجبُ تَرَكتُ رَشادَ الأمِر إذ كنتُ قادِراً ... عَليهِ فَلاقَيتُ الذِي كُنت أرهَبُ وكم قَائِلٍ قَالَ: أنجُ وَيحَكَ سَالماً ... فَفِي الأرضِ عَنهمُ مسترادٌ ومذهبُ فَقُلتُ لَهُ: إنَّ الفِرارَ مّذَلةٌ ... ونَفسِي علَى الأسواء أحلَى وأطيَبُ سأرضَى بِحُكمِ الله فِيمَا يَنُوبُنِي ... ومَا مِن قضَاء اللهِ للِمَرء مَهرَبُ فَمَن يَكُ أمسَى شَامِناً بي فإنَّهُ ... سَيَنهَلُ في كاسِي وَشِيكاً وَيشرَبُ ثم بعث فيه الأمير ليلا؛ فقتله، وسجن أولاده وحاشيته، وانتهب ماله، وهدم داره، وألقى أولاده في السجن، وألزمهم غرم مائتي ألف دينار؛ فلم يزالوا في السجن والغرم إلى موت المنذر وولاية أخيه عبد الله؛ ثم أطلقهم عبد الله، وصرف عليهم ضياعهم، وولى أحدهم الوزارة والقيادة. وفيها، كانت الوقعة على أهل طليطلة وكانوا قد جيشوا البربر المنفيين من ترجيله، فقتل منهم ألوف. وفي سنة 274، خرج الأمير المنذر بجيوشه إلى عمر بن حفصون؛ فافتتح حصونه برية، والحصون التي بجهة قبرة؛ ثم توجه إلى حضرته بربشتر؛ فحاصره فيها، وأفسد ما حواليه، وضيق عليه؛ ثم انتقل عنه إلى أرجذونة، وبها عيشون؛ فأقام عليها محاصرا لها ومضيقا على أهلها، إلى أن نبذوا عيشونا وأهله، وأسلموه بذنبه؛ فدخلها الأمير المنذر، وقبض على عيشون وأصحابه. وظفر أيضا ببني مطروح، وهم: حرب، وعون، وطالوت، وافتتح حصونهم بجبل باغه، وأتى بهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 إلى الأمير أسارى؛ فبعث ببني مطروح إلى قرطبة، وأمر بقتلهم وصلبهم؛ وكانوا اثنين وعشرين رجلا؛ فصلبوا بأجمعهم؛ وصلب مع عيشون في الخشبة خنزير وكلب. وكان السبب في ذلك أن عيشونا كان يقول: (إذا ظفر بي، فليصلبني وليصلب عن يميني خنزيرا وعن يساري كلبا!) وكان يثق بنفسه في القتال ثقة شديدة، ويأمن من أن يؤخذ لشدته وشجاعته. فلما يئس الأمير منه، دس إلى بعض أهل أرجذونة بأن يتحيل في أخذ عيشون؛ فأجابه، ووعده بأخذه. فلما كان في يعض الأيام، دخل بيت أحدهم بغير سلاح، وقد استعد له بكبل؛ فأوثق به وبعث به إلى الأمير المنذر. شأن عمر بن حفصون في أيام المنذر - رحمه الله! ولما كان في العام الثاني من ولايته وهي هذه السنة المؤرخة، خرج في عديده الأكثر، وقصد بربشير. فحل عليها أحفل احتلال، وقاتل ابن حفصون بها أشد قتال؛ وانتشرت خيله في تلك الأقطار، واستولت على السهول والأوعار. ثم عطف الأمير إلى مدينة أرجذونة ليتبرها تتبيرا، ويولي أهلها يوما عبوسا قمطريرا، لدخولهم في طاعة ابن حفصون، ونزوعهم إلى ما نزع إليه أهل تلك الحصون، فخرجت رسلهم إلى الأمير؛ فتلقته بالسمع والطاعة، والدخول في جمهور الجماعة؛ فتقبل نزوعهم، وأنس جميعهم. وتغلب على القصبة إثر ذلك؛ وأسر عامل ابن حفصون هنالك. واستمر اللعين ابن حفصون على ضلالته وغيه، ولم يئن عنانا عن عاديته وبغيه. فخرج إليه الأمير ثانية وحاصره حصارا، وقد عدم ابن حفصون أعوانا وأنصارا. فلما رأى الأمير أخذ بمخنقه، وسدَّ أفواه طرقه، أعمل سوانح الفكر، في الخديعة والمكر، ليعتصم بذلك من تلك الجبال المنصوبة، والأشراك المعترضة المضروبة؛ فأظهر الإنابة إلى الطاعة، وشهر النصيحة جهد الاستطاعة، على أن يكون عند الأمير من خاصة جنده، ويسكن قرطبة بأهله وولده، وأن يلحق أبناءه في الموالي، ويتابع الإحسان قبله ويوالي. فأجابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الأمير إلى مطلبه بأكبد الأيمان؛ وكتب له بذلك مبادرا عقد أمان، وقطع لأولاده أرفع الثياب؛ وأوفرت لهم الدواب، بالأموال والأسباب، إسباغا عليهم بالإفضال، وتوسيعا لهم في الأماني والآمال. وسألا اللعين مائة بغل يحمل عليها جملة متاعه وعياله، وجعل طلبها قوة لمكره واحتياله. فأمر الأمير بالبغال أن تحمل إليه، وتوضع بين يديه؛ وقد جعل عليها عشرة من العرفاء بمائة وخمسين فارسا إتماما للإكرام، وإنعاما على إنعام. فأرسل عمر بن حفصون جميعهم إلى بربشتر حيث أهله وولده، وطريفة من المال ومتلده. وانحل العسكر عن الحصن إذ ذاك، وقفل القاضي والفقهاء عن تمام الصلح من هناك، وظنهم قد غلب أن لا كذب ولا مين، وأن قد نيل من الراحة من شغبه أملا وقرة عين. فلما انفض جمع ذلك العسكر، وانتفض ذلك المعسكر، ودخل الليل، وامتد للفاتك الذَّبل، هرب عمر بن حفصون من ذلك الحصن، وسار إلى بربشتر في ظل الأمن. فلقي العرفاء؛ فناصبهم القتال، وأخذ تلك البغال، وعاد إلى سيرته الأولى، وقال لشيعته: [أنا ربكم الأعلى!] فأقسم الأمير المنذر أن يقصده ويحل عليه، ولا يقبل منه أو يلقى بيده إليه؛ فأعمل الغزو إلى بربشتر، وجمع لها الجمع الأكبر. فلما احتل عليها، أمر أن يحدق بها، ويحاط بجوانبها، وأن يعتزم لقتالها اعتزاما، ويلتزم محاصرتها التزاما. فظهر من حزم الأمير المنذر وعزمه ما يئس معه ابن حفصون، من البقاء في تلك الحصون. فبقى الأمير على حصن بربشتر، برومه روما، مدة من ثلاثة وأربعين يوما. وكان قد أصابته علة أكرثت نفسه، وكدرت أنسه؛ فبعث في أخيه عبد الله لينوب منابه، وينتدب في تلك الحال انتدابه. فلما وصل إليه، وحصل في المظلة لديه، خرجت في الحين روحه، وبكاه من كان يغدوه ويروحه. فوقع الخرم في العسكر إثر موته، وتفرق الناس عند فوته. ولم يقدر أخوه عبد الله على ضبطهم، وعقد ما انحل من ربطهم. واستطال عمر بن حفصون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 في المحلة، وانتهبها بالجملة. وحمل الأمير المنذر على جمل إلى قرطبة؛ فدفن مع أجداده هنالك، وصار عند الناس أهون مفقود وأيسر هالك، إذ كان قد اضطرهم في ذلك المقام، وندبهم إلى الثبات هنالك والمقام. وفي هذه السنة، كان القحط الشديد بالأندلس؛ فاستسقى الناس. فنزل ثلج كثير في أول يوم من ينير، ولم ينزل غيث. ثم استسقوا مرارا؛ فلم يمطروا؛ فخامر الناس القنط. فلما دخل من فبرير بعض أيام، سقى الناس، وارتفع الناس؛ فاستبشروا بفضل الله، وأعلنوا بشكره. فقال العكي في ذلك، يمدح الأمير المنذر (كامل) : نَزَلَ الحَيَا المُحيي وطابَتْ أنفُسُ ... إذ كان سُوء الظَّنِّ فيها يَهجِسُ أحْيَى الإلهُ عِبَادَهُ من بَعْدِ ما ... كانت من القنطِ النفوسُ تُوسَوِسُ مُتلافياً فيه بعائدِ رَحمةٍ ... لَولا عَوَائدُها طَوَتنَا الأبْؤُسُ مَلِك الملوك تقدَّسَت أسماؤهُ ال ... حُسنى وعَزَّ جَلالَه المُتَقَدِّسُ ومنها: بالمنُذرِ المَيمُونِ طَلبَ زَمانُنا ... ويِطيبِ دَولَتِهِ تِطيبُ الأنفُسُ إلى قوله: خُذْها أمِين الله وابن أمِينِهِ ... من شاكِرٍ في الشُّكرِ لَيْسَ يُدَلِسُ وفي سنة 275، توفي الأمير المنذر - رحمه الله! - وقد ذكر موته على حصن بربشتر محاصرا للخبيث ابن حفصون. وكانت وفاته منتصف شهر صفر من السنة المذكورة، وهو ابن ست وأربعون سنة. وملك سنتين إلا أياما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 بعض سيره وأخباره كان الأمير المنذر - رحمه الله! - يحبُّ إخوته، ويكرمهم، ويدنى مجالسهم، ويصلهم، ويحضرهم مجالس أنسه. وكان يجزل العطاء للشعراء؛ فينشدونه غازيا وراجعا. وكان من شعرائه أحمد بن عبد ربه، والعكي، وغيرهما. ولم يكن أحد من الخلفاء قبله مثله شجاعة وصرامة وعزما وحزما. ولقد بلغ في سنة بذلك ما لم يبلغه غيره في الدهر. ولقد كان أبطال الرجال وأنجادهم من أهل الفتنة يذعنون إليه دون محنة، ويرسلون إليه بالطاعة قبل أن يطلبها. وإن الخبر المستفيض عن الشيوخ أنه، لو عاش المنذر عاما واحدا زائدا، لم يبق برية منافق؛ وأخباره تدل على ذلك. وأول أخباره الدالة على ذلك أنه، لما أتاه موت أبيه، لم يمنعه ذلك من التعريج عن القصد واختصار الطريق، ولا شغله أمر مهم ولا أمر جليل عن آخر؛ فجعل طريقه على رية؛ فهذب أمورها، وولى عليها سليمان بن عبد الملك بن أخطل، وعبد الرحمن بن حريش، وأدخل معهما أهل المعاقل من العرب والحشم. ثم جمع في يوم ولحد مبايعته، وإعطاء الجند، والنظر فيما أسقط من الأزمة عن الرعية، وما فعله من الاستحماد إلى أهل قرطبة بإسقاط العشور عنهم، والنظر في الندب وإخراج القائد. وهكذا كان فعله في جميع أسبابه؛ ويحسب ذلك كان انقياد الأشياء له. خلافة عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم كنيته: أبو محمد. مولده: في النصف من ربيع الآخر سنة 229. أمه: تسمى بهار وقيل: عشار. حجابه: اثنان: عبد الرحمن بن شهيد وابن السليم. وزراؤه: ستة وعشرون. كتابه: ثلاثة: عبد الله بن محمد الزجالي، وعبد الله بن محمد بن أبي عبدة، موسى بن زياد. صفته: أبيض، مشرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 بحمرة، أصهب، أزرق، أقنى الأنف، ربعة، يخضب بالسواد. بنوه: أحد عشر، أحدهم محمد المفتول، والد عبد الرحمن الناصر. بناته: ثلاث عشرة. بويع في اليوم الذي مات فيه أخوه المنذر في المحلة على بربشتر، وذلك يوم السبت في النصف من شهر صفر سنة 275. ثم قفل إلى قرطبة بأخيه المنذر ميتا؛ فاستتم البيعة بقرطبة، ودفن أخاه بعدها. وتوفي عبد الله سنة 300، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة؛ فكانت خلافته خمسا وعشرين سنة، وخمسة عشر يوما. ومن قول ابن عبد ربه فيه (طويل) : خِلافَةُ عَبدِ الله حَجٌ عَلَى الوَرَى ... فلا رَفَثٌ في عَصِرهِ وفُسُوقُ تَجَلَّت دَياجِي الحيفِ عَن نُورِ عَدلِهِ ... كَمَا ذَرَّ في جَنحِ الظَّلامِ شُرُوقُ ونثَقَّفَ شَهمَ الدينِ بالعَدِل والتُّقَى ... فهَذَا لَهُ نَصلٌ وذَلِك فُوقُ وأعلنَ أسبَابَ الهُدَى بضَمِيرهِ ... فلَبسَ لَهُ إلاَّ بهِنَّ عُلُوقُ ومَا عَاقَهُ عَنها عَوائقُ مُلكِهِ ... وأمثالُها عَن مِثلهِنَّ تعُوقُ وأفضت الخلافة إليه، وقد تحيفها النكث، ومزقها الشقاق، وحل عراها النفاق؛ والفتنة مستولية، والدجنة متكاثفة، والقلوب مختلفة، وعصى الجماعة متصدعة، والباطل قد أعلن، والشر قد اشتهر؛ وقد تمالا على أهل الإيمان حزب الشيطان؛ وصار الناس من ذلك في ظلماء ليل داج، لا إشراق لصباحه، ولا أقول لنجومه. وتألب على أهل الإسلام أهل الشرك ومن ضاهاهم من أهل الفتنة، الذين جردوا سيوفهم على أهل الإسلام؛ فصار أهل الإسلام بين قتيل ومحروب ومحصور، يعيش مجهودا، ويموت هزلا؛ قد انقطع الحرث، وكاد ينقطع النسل. فناضل الأمير بجهده، وحمى بجده، وجاهد عدو اله وعدوه. وانقطع الجهاد إلى دار الحرب، وصارت بلاد الإسلام بالأندلس هي الثغر المخوف؛ فكان قتال المنافقين وأشباههم أوكد بالسنة، وألزم بالضرورة. فأول ما تناوله، ونظر فيه، أن وجه إبراهيم بن خمير لأخذ بيعة ابن حفصون وبيعة من قبله. فقصد إبراهيم إليه، وطلب طاعته؛ فظهر منه حسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مذهب؛ فأخذ بيعته، وصدر عنه؛ وقدم معه حفص ابنه وجماعة من أصحابه؛ فأخذت عليهم البيعة، وردهم الأمير محبوين بالكرامة والرعاية. فبقى ابن حفصون سامعا مطيعا منتهيا عما نهى عنه، واقفا عندما أمر به. ثم تعدى بعد ذلك حده، ومد يده إلى ما نهى عنه؛ فلم يدع مالا عند من أمكنه، واستحوذ على أهل الكور في أموالهم، وأمضى نفسه على عادته الذميمة من الفساد وقطع السبل، وذلك في سنة ولاية الأمير عبد الله. وفي سنة 276، خرج الأمير عبد الله بنفسه إلى بربشتر وحصون رية؛ فانتسف معايشها، وقفل عنها، وقد شد تلك الناحية؛ وأبقى بحاضرة رية محمد بن ذنين من أهل قرطبة؛ فخرج ابن حفصون في إثره، وتألف إليه المفسدون؛ فأتوا إلى إسنجة، فاحتلوها، ثم إلى حصن إستبة، فأخذوه؛ فأخرج إليهم الأمير جيشا؛ فنزل ابن حفصون، واعترف بذنبه؛ فعقد له الأمير أمانا. وفي هذه السنة، ولي محمد ابن الأمير عبد الله كورة إشبيلية؛ فخرج في أيامه بعض عرب إشبيلية إلى قرمونة؛ فضبطوها. وفيها، ثار أبو يحيى محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز النجيبي المعروف بالأنقر. وفيها، نقض ابن حفصون وقصد بيانة؛ فحارب أهلها، ثم أعطاهم العهد؛ فلما نزلوا إليه، غدرهم، وقتلهم، وأخذ أموالهم، وسبى ذراريهم. وفيها، انتفض أهل جيان، وأخرجوا عاملها عباس بن لقيط، وملكها ابن شاكر. وفي سنة 277، ولد عبد الرحمن الناصر. وفيها، غزا القائد ابن أبي عبدة إلى جيان، وفيها ابن شاكر مخالفا؛ فحاربه، وحاصره، وقتل جماعة من أصحابه، وأحرق كثيرا من دور جيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وفيها، خرج حفص بن المرة إلى سوار، وكمن له الكمائن، وأغار عليه؛ فلما خرج سوار في طلبه، خرجت عليه الكمائن؛ فقتل: وفيها، قتل ابن شاكر الثائر بجيان. وسبب قتله أن ابن حفصون أزاد أن يراجع طاعة الأمير، وأن يتقرب إليه بقتل ابن شاكر؛ فبعث إليه خيلا يريه أن يمده على عدوه؛ فأقبل المدد إليه؛ فلما خرج إليهم، فتكوا به وقتلوه، وبعثوا برأسه إلى ابن حفصون؛ فبعث به إلى الأمير عبد الله. وعند ذلك توجه ابن حفصون إلى جيان؛ فأغرم أهلها الأموال الجسيمة. وأقامت جيان وإلبيرة مدة دون عامل من الأمير. وفي سنة 278، خرج الأمير عبد الله إلى بلاي من عمل قبرة، وبها عدو الله ابن حفصون مع جماعة كبيرة من أصحابه أهل الفساد والارتداد. وكانوا قد أضروا بأقاليم قرطبة، وضيقوا عليهم حتى أغاروا على أغنام قرطبة. فخرج إليهم الأمير مستهل صفر، واحتل به؛ فناهضه وصادقه القتال؛ فانهزم هو ومن معه، ولجأ إلى حصنه مع ملأ من أصحابه، وعوجل عشيره عن الدخول معه، واتبعوا؛ فلم يخلص منهم أحد. فبات الأمير قرير عين، والمسلمون كذلك، وقد أخذوا عليه تلك الليلة الباب رجاء أن يأتي الصباح، فيؤخذ داخل الحصن. ثم خرج منه مع بعض أصحابه، ونجا ونجوا. ولما أصبح، أعلم السلطان بخبره؛ فأرسل الخيل في أثره؛ فلم يعلم له خبر. ودخل الأمير الحصن يوما آخر؛ فوجده مترعا بالذخر، ملآن من العدد؛ وكان عدد عسكر الأمير ثمانية عشر ألف فاري. وقيل إن ابن حفصون ألب أهل حصون الأندلس كلها، وأقبل إليه في ثلاثين ألفا. ووقعت الحرب بينهم؛ فانهزم عدو الله، وقتل أكثر من كان معه. ودخلت جملة منهم في محلة الأمير؛ فأمر بالتقاطهم؛ فأتى بألف رجل منهم؛ فقتلوا صبرا بين يديه. هكذا ذكر في (بهجة النفس) . ثم قصد الأمير إستجة؛ فنازلهم؛ وحاربهم، وقتل لهم عددا كثيرا. فلما أخذهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الجهد، رفعوا الأطفال على الأيدي في الأسوار، مستصرخين، ضارعين، راغبين في العفو؛ فعفا عنهم. وفي سنة 279، غدر أهل ارجذونة بأحمد بن هاشم. ونقض ابن حفصون ما كان انعقد من السلم والطوع. وفي سنة 280، توجه المطرف بن الأمير عبد الله بالجيش إلى ابن حفصون ببرنشتر؛ فحاصرها، وهتك جميع ما حواليها. وفيها، أمر الأمير عبد الله ببنيان حصن لوشة، وأبقى عليه إدريس بن عبيد الله. وفيها، دخل إذفونش بن أردون مدينة سمورة وبناها؛ وكانت من بنيان عجم طليطلة. وفي سنة 281، أغزى الأمير عبد الله عبد الملك بن أمية؛ فتقدم إلى حصون ابن مستنة، ونازل حصن آشر، وحاربه، وقتل من أهله عددا كثيرا، وهدم حصن السهلة. ثم قفل إلى قرطبة. وفي سنة 282، غزا بالصائفة المطرف ابن الأمير عبد الله. وقاد الصائفة عبد الملك بن أمية. فلما كان بمقربة من إشبيلية، قبض على القائد عبد الملك، وقتله، وقدم على قيادة العسكر أحمد بن هاشم. وأقام العسكر في الموضع أربعة أيام، وكتب أمانا لأهل إشبيلية، وأمانا لأهل شذونة؛ فدانت له، وقبض جبايتها، ودوخ تلك البلاد. ثم رحل إلى إشبيلية؛ فناشبهم الحرب؛ فانهزم أهل إشبيلية، ووقع فيهم القتل إلى سور المدينة. ثم أجاز الوادي؛ فتتبع القرى بالنسف والتغيير. وفي هذه السنة، ضمَّ المطرف ابن الأمير عبد الله إبراهيم بن حجاج وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 خلدون وابن عبد الملك الشذوني إلى السجن، وأوثقهم في الحديد. وقطع لسان سحنون الكاتب، وضرب ظهره. وفيها، أتت جباية إشبيلية. وعندما أتت، أطلق ابن حجاج وابن خلدون والشذوني من سجن قرطبة. ذكر ثورة بني حجاج بإشبيلية وذلك أن إبراهيم بن حجاج ترك ولده رهينة بقرطبة، ورجع إلى بلده إشبيلية؛ فتوزع كورتها على نصفين: خرج إبراهيم بالنصف، وابن خلدون بالنصف. وبقيا كذلك أعواما. وكان الأمير عبد الله قد أخذ في الضرب بينهما، وبكاتب كل واحد منهما بما يراه من صاحبه. فلما كان في بعض الأيام، كتب إبراهيم بن حجاج وكريب بن خلدون إلى الأمير عبد الله في مصالحهما؛ وكتب معهما خالد بن خلدون أخو كريب كتابا يغري فيه إبراهيم بن حجاج عند الأمير، ويقول إنه في قبضتهم. فكتب له جوابه على نص كتابه. وخرج الحامل بالكتب إليهم؛ فسقط له كتاب خالد الذي كان بعث للأمير؛ فأخذه بعض فتيان القصر؛ فقرأه وعلم ما فيه؛ فدفعه لرسول إبراهيم بن حجاج، وقال له: (اسبق به مولاك!) فلما وصل الرسول والكتاب إلى إبراهيم، علم حقيقة ما يحتوي عليه ابنا خلدون من سوء الباطن. وكان هذا في سنة 286. فعند ذلك، تلطف إبراهيم في طعام، ودعا ابني خلدون؛ فوصلا إليه. فلما استقر المجلس بهم، أخذ إبراهيم في عتاب كريب وأخيه خالد، وأخرج الكتاب الذي بعث به الأمير إليهما، وأوقفهما عليه، وأبلغ في عتابهما، وأكثر في ذلك عليهما. فأخرج خالد سكينا كانت في كمه؛ فضرب بها رأس إبراهيم بن حجاج؛ فمزق قلنسوته، وضربه في وجهه. فلما صدر منه ذلك، نهض إبراهيم، ودعا من حضر من رجاله؛ فعلوهما بالسيوف، حتى قتلوهما. وألقى رأسيهما إلى أصحابهما ورجالهما؛ فتفرقوا. وتتبعهم إبراهيم بالقتل والنهب، ودفن جسدي ابني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 خلدون؛ وانقاد له جميع أهل الكور الملاصقة لإشبيلية. وخاطب عند ذلك الأمير عبد الله، يتبرأ له من دمهما، ويقول إنهما كانا يحملانه على النكث، وإنه الآن على الطاعة؛ وطلب منه ولاية إشبيلية. فأجابه الأمير إلى ذلك. وانفرد إبراهيم بولاية إشبيلية؛ فاجتبى الأموال، واصطنع الرجال، وارتقى في الأحوال، وامتدت لفضائله الآمال. وكان له حميد آثار، وجميل أخبار، فاق بها أهل عصره، وحسن في الآفاق طيب ذكره. ولم يزل بعد ذلك إبراهيم بن حجاج يشتط على الأمير عبد الله، إلى أن سأله إطلاق ولده عبد الرحمن الرهين عنده. فلم يسعفه الأمير عبد الله في ذلك. فنبذ إبراهيم الطاعة عند ذلك، وظاهر ابن حفصون، وأمده بالمال والرجال، نكاية للأمير عبد الله. فقويت شوكة ابن حفصون، وازداد به طماعية؛ وفي خلال ذلك، لم يزل إبراهيم يدسس ويرسل من يشير على الأمير بإطلاق ولده، ويتضمن له عوده إلى الطاعة، حتى وافق السلطان على ذلك؛ فأطلق عبد الرحمن ابن إبراهيم، وأعظم الإحسان إليه، وجدد له التسجيل على بلده إشبيلية. فعاد إبراهيم إلى ما كان أولا عليه من الطاعة، واستقامت أحوال تلك النواحي على يديه. قال حيان بن خلف: لما ملك إبراهيم بن حجاج إشبيلية وقرمونة وما والاهما، ارتفع ذكره، وبعد صيته، واتخذ لنفسه جندا، ورتب لهم الأرزاق كنعل السلطان؛ فكمل في مصافه خمسمائة فارس. وكان لإبراهيم بن حجاج في بساط السلطان بقرطبة قوم يقفون في حقه، ويعلمونه بما عند السلطان من حاله، وينصحونه في أمره. فعند ذلك، أقلع عما كان عليه من موافقة ابن حفصون، واعترف بحق أمير الجماعة؛ فعامله الأمير بما شهر له من الفضل. وكانت منزلته عنده أعلى منزلة، إلى أن توفي - رحمه الله! وذكر حيان أيضا قال: كان لإبراهيم بن حجاج في بلده إشبيلية قاض يقوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 بالحكم، وصاحب مدينة يقيم الحدود، جرى في ذلك كله مجرى السلطان في حضرته. قال: وكان فظا على أهل الريب، قامعا لأهل الشرّ؛ وكان منجعا على البر والبحر، مقصودا بالغرائب والطرف. وكانت له بإشبيلية طرز يطرز فيها على اسمه كفعل السلطان إذ ذاك؛ وكانت قرمونة تحت مملكه؛ وهو الذي حصنها وحسن بنيان سورها؛ وفيها كان مربط خيله المتخذة لركوبه؛ وبينها وبين إشبيلية كان ترداده سائر أوقاته. وكان جوادا، ممدحا، يرتاح للثناء، ويعطي الشعراء، ويضاهي في فعله كبار الأمراء، ويتفقد أهل البيوتات والشرف بالعطاء. وكان أهل قرطبة متعرضين لسيبه، فيكرمهم ويصلهم. وقد انتجعه شاعرهم الأكبر أبو عمر أحمد بن عبد ربه من بين جميع ثوار ذلك الوقت بالأندلس؛ فعرف قدره، وأفضل عليه. ومن قوله فيه، يصف تنقله من إشبيلية إلى قرمونة (طويل) : ألا أن إبراهيم لُجِّةُ ساحِلِ ... مِن الجودِ أرسَت فوق لُجَّةِ ساحِلِ فإشْبِيَلةُ الزّضهراءُ تُزْهَى بمجدِهِ ... وقَرمُونةُ الغَرَّاءُ ذاتُ الفَضَائِل إذا مَا تجَلَّت تِلكَ من نِور وَجهَهِ ... غَدَت هذِهِ للناسِ في زِيّ عاطِلِ وإن حلَّ هذِي فَهوَ يُوحسُ هذِهِ ... فَنَهدِي بُرسلٍ نَحوَه ورَسائِلِ وهي طويلة. ومن قوله أيضا من قصيد طويل (وافر) : كتابُ السوقِ يَطوِيهِ الفُؤادُ ... ومن قبض الدّثموعِ لَه مِدادُ تخطُّ يَدُ البكاء به سطوراً ... على كبِدِي ويمليها السُّهادُ وكَيفَ وبي فؤادٌ مستطيرٌ ... لمِن لا يستطيرُ له فُؤادُ أمِن يُمنِ يكون الجودُ خلوا ... وإبراهيم حاتِمُها الجَوَادُ زيارته لِمَن يأتيهِ حَجٌ ... ومِدحتُه رِباطٌ أو جِهَادُ وما لي في التخلُّف عَنه عذرٌ ... ولي في الأرض راحلِةٌ وَزَادُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 ولأحمد بن عبد ربه في إبراهيم بن حجاج أشعار كثيرة، ولغيره من الشعراء. وذكر ابن أبي الفياض أن محمد بن يحيى القلقاط الشاعر القرطبي قصد الأمير إبراهيم بن حجاج بمدحه بقصيدة نونية، أولها (خفيف) : أزفت رحلتي فَاهْمَتْ جُفُونَا ثم أخذ في هجاء عشيرته أهل قرطبة، وكبرائها، وعظماء دولتها؛ فأفحش عليهم. فلما أنشد القصيدة إبراهيم بن حجاج، زها به، وحرمه وأساء ذكره؛ فانصرف خائبا من نواله، جانيا ثمره فعاله ومقاله. فلما وصل قرطبة، أخذ يهجو إبراهيم بن حجاج بقصيدة أولها (كامل) : لا تُنكِري للبين طولَ بُكاءي فلما بلغت إبراهيم، أغضبته؛ فأوصى من قال له عنه يمينا مغلظة: (إنه إن عاد لما وقع فيه، لآمرن بأخذ رأسه بقرطبة على فراشه!) فارتاع القلقاط المذكور لذلك، وكف. فكان هذا الفعل لإبراهيم في حق أهل قرطبة أجل مكرمة، وعد في جملة فضائله. ولأجل هذا ساقه القاضي ابن أبي الفياض - رحمه الله! - وقد قصده العذري من الحجاز؛ فراعى حقه، وأكرم مثواه، وأناله جزيل خيره. ورفع الناس ذكره. وقد ذكر أبو عامر السالمي في كتابه المسمى ب (درر القلائد وغرر الفوائد) أن الأمير الرئيس الهمام الجواد الحسيب أبا إسحاق إبراهيم بن حجاج سمع بجارية بغدادية اسمها قمر؛ فوجه بأموال عظيمة إلى المشرق في ابتياع هذه الجارية، إلى أن استقرت بدار مملكته إشبيلية؛ وكانت كالبدر المنير، ذات بيان وفصاحة ومعرفة بالألحان والغناء؛ فوجدها قمرا عند اسمها؛ وكان لها شعر يستحلى ويستحسن. فمن قولها ترد على من عاذلها (بسيط) : قالُوا أتتْ قَمَرٌ في زِيِّ أطمَارِ ... مِنْ بَعدِما هَتَكَتْ قَلباً بِأشفَارِ تُمسِي علىَ وَحَلٍ تغدو على سُبُلٍ ... تَشُقُّ أمصارَ أَرْضٍ بعدَ أَمصَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 لا حُرَّةٌ هَيَ مِن أحرار مَوضِعِها ... وَلاَ لَهَا غَيرُ تَرسيلٍ وأشعَارِ لَو يعقلون لَمَا عَابُوا غَريبتهم ... لله مِن أمَةٍ تُزرِي بأحرارِ ما لابنِ آدمَ فخرٌ غَيرَ هِمتِهِ ... بَعدَ الديَانةِ والإخلاصِ للبارِي دَعنِي من الجهلِ لا أرضىَ بِصَاحِبهِ ... لاَ يَخلُصُ الجَهلُ من سَبٍّ ومن عَارِ لَو لَم تَكُن جَنةٌ إلاَّ لجَاهلةٍ ... رَضيتُ من حُكمِ رَبِّ الناسِ بالنّارِ ولم تزل مدة إبراهيم تتمشى على أحسن حال وأجزله، وأهذب زيّ وأكمله، تقضت زينا لعصره، وفخرا له بها على أهل مصره، لم يلحقه في ذلك أحد في وقته، ولا قدر على نيل مرتبته، إلى أن وافته منيته فجأة، وذلك عام 288. وولى أبنه عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج بعد أبيه، وطالت مدته ثلاث عشرة سنة، وتوفي سنة 301. وكان أخوه محمد بن إبراهيم بن حجاج - رحمه الله - صاحب قرمونة في حياة أبيه وبعد موته إلى أن مات أخوه، ولم يستقر بإشبيلية، ولا حكمها. وقيل إنه دسَّ على أخيه عبد الرحمن جارية سمته؛ فمات من ذلك. قال ابن أبي الفياض: كان محمد بن إبراهيم بن حجاج صاحب قرمونة بعد موت أبيه؛ وكانت له بها دولة حسنة وأيام صالحة، شهر في الفضل ذكره، وانبسط على ألسنة الناس شكره، قصد من الأقطار، ومدح يجيد الأشعار؛ فأنال القاصدين، ومنح المادحين. ولما توفي أبوه، ولي إشبيلية أخوه عبد الرحمن، إذ كان كبيره. وكان محمد يزيد على عبد الرحمن بأشياء من المحامد، خص بها في وقته فحمد، وظهر أثر الإمارة في فعاله فشكر وحسد. وكانت دولته بقرمونة أضخم من دولة أخيه بإشبيلية وأطول، وذلك أربع عشرة سنة بعد موت أبيه. وتوفي عام 302. قال الرازي: افتتح الناصر لدين الله إشبيلية سنة 301. وكان سبب ذلك موت عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج المنقزي فيها بعد والده، واجتماع أهلها من بعده على تقديم أحمد بن مسلمة، ودفعهم لأخي عبد الرحمن محمد بن إبراهيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 صاحب قرمونة، ومخالفة محمد ومن معه بقرمونة، ولياذه بسلطان الجماعة. فبعث الناصر عسكرا إلى إشبيلية؛ فجرت بينهم حروب عظيمة. ثم بعث الأمير عبد الرحمن الناصر إلى محمد بن إبراهيم بن حجاج، وأمره بالتضيق على أهل إشبيلية، وعقد له على ذلك، وأشرك معه فيه قاسم بن الوليد صاحب شرطته في ذلك الوقت؛ وكان بينه وبين محمد صداقة. فخرجا معا من قرطبة إلى قرمونة، ومنها دنوا إلى إشبيلية. فتردد محمد وقاسم بالجموع على إشبيلية، وملكا أقاليم الشرف، وأقاليم طالقة، وإقليم البر وغيرها، وأخذا بمخنق ابن مسلمة صاحب إشبيلية؛ فاستجاش ابن مسلمة برأس النفاق اللعين ابن حفصون؛ فأتاه بنفسه، وخرج معه من مدينة إشبيلية، وجاز النهر؛ وكان الجيش يحصن قبرة، وفيه محمد بن إبراهيم بن حجاج، وقاسم بن وليد؛ فخرجا إليهما بمن معهما من حشم السلطان؛ فانهزم ابن حفصون، وفر على وجهه، حتى لحق بقلعته. فتأمل ابن مسلمة منتشبه مع ابن عمه محمد بن حجاج، ودخوله معه في وراثة أبيه، وأنه لا طاقة له به. فأخذ في إصلاح ما بينه وبين السلطان الناصر؛ فراسله بأن يعطيه إشبيلية. فوصله الحاجب بدر، وتملك السلطان إشبيلية دون إراقة دم ولا قتال. فلما استقر الحاجب بإشبيلية، أحضر أهلها، ووعدهم عن السلطان بكل جميل، وأن يجري عليهم عوائدهم مع بني حجاج وزيادة على ذلك؛ فرضى القوم، وتم الأمر للحاجب وابن مسلمة. وأخذ الحاجب في مخاطبة محمد بن حجاج، يعرفه بتملك السلطان إشبيلية، وأن السلطان أمره بالكف عن حصارها. فعند وقوف محمد على الكتاب، ساءه ذلك، وتغير له، وخرج من حصن قبرة الذي كان به مع قاسم بن وليد ناكثا للطاعة؛ وسرى ليلته مع جموعه قاصدا بلده قرمونة؛ فالقى في طريقه أغناما لأهل قرطبة؛ فأغار عليها، وحملها معه إلى قرمونة؛ فدخلها، وأظهر التمتع بها. فأخرج إليه الناصر لدين الله صاحب الحشم؛ فلما وصله وخاطبه بما أمره به السلطان، رد عليه الأغنام بجملتها. ولما رجع صاحب الحشم إلى قرطبة، خرج محمد بن حجاج من قرمونة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 بجيشه؛ فوصل إشبيلية عند الصباح؛ فهجم عليها. وكان بعض سورها مهدما؛ فطمع فيها؛ فخرج إليه العامل عليها من قبل السلطان؛ فهزمه عنها؛ فرجع إلى قرمونة. فلما علم الناصر بذلك، وجه عسكرا إلى عامل إشبيلية تقوية له؛ فحصن البلد على نفسه، وأمن من عادية محمد بن حجاج. ولما طال على الناصر تمادي محمد بن حجاج على العناد، بعث إليه صديقه ابن وليد، طالبا منه العودة إلى الطاعة؛ فلم يزل به حتى أظهر الإنابة له؛ فأنفذ محمد بن حجاج خاصته إلى الناصر؛ فوصل إليه؛ فألحقه الناصر بنفسه، وشافهه بما ألقاه إليه محمد، وأعلمه أنه ينعزل عن قرمونة ويسكن قرطبة، على أن يترك بها نائبه. فأجابه الناصر لذلك كله، ووعده بتتميم أغراضه. فلما وصل الرسول إلى محمد بما ألقاه إليه الأمير الناصر، خرج من قرمونة في شهر رمضان المعظم من عام 301، ووصل قرطبة مع وجوه قومه وعدَّة من رجال. فأمر لهم الناصر بالكسى ووصلهم على أقدارهم ومنازلهم عند محمد، وأجزل لهم الصلة، وأعطى محمدا العطاء الجزل، وقربه من نفسه، وولاه من حينه خطة الوزارة، منوها، مرفع الذكر. قم خرج الناصر لدين الله غازيا؛ فأغزاه معه وزيرا. وكان حبيب بن عمر الوالي على قرمونة من قبل السلطان قد امتنع بقرمونة. فحاصر الناصر قرمونة، ومحمد بن حجاج معه وزيرا؛ فسعى به عند السلطان من كان يحسده، وقال له: (إنما نافق ابن عمر مع محمد وبأمره!) فعزله عن الوزارة، وحبسه، وحبس معه ابن وليد صاحب الشرطة. ثم أطلقا بعد ذلك. فلم يلبث محمد بن حجاج بعد ذلك إلا يسيرا، وتوفي في شوال سنة 302. أخبار عمر بن حفصون في أيام الأمير عبد الله وعندما ولي عبد الله الخلافة، ووافته الكتب من البلاد؛ واجتمعت على طاعته جميع العباد، رأى عمر بن حفصون على فرط عناده، وتوه في الأرض وفساده، أن يدخل في جماعته، ويلتزم بفروض طاعته. فأرسل ابنه حفصا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 إلى قرطبة مع جماعة من أصحابه، على أن يعقدوا مع الأمير سلما منتظما، وصلحا مبرما، لا يحيله حال، ولا يلحقه محال، على أن يستقر عمر بن حفصون ببربشتر على الطوع، ويقيم بها على الطاعة والسمع. فقبل الأمير نزاعه، وسمح بإبقائه هنالك، وأصدر ابنه ورسله إصدارا جميلا؛ ومنحهم برا جزيلا، ووجه معهم عبد الوهاب بن عبد الرؤوف واليا على كورة رية، ومشاركا لابن حفصون في عقده وحله، ومساهما له في توليته وعزله. فمكثا شريكين في الأمر والنهي، إلى أن غلب ابن حفصون على عبد الوهاب، وأخرجه من الكورة منبت الأسباب. واشتدت معرَّته، وتأكدت عاديته ومضرته، حتى همت القرى بالخلاء، والناس بالجلاء. ولم يبق بالقنبانية قرية إلا غشيتها الخيل، وعمتها الذلة والوبل، وقد ملك اللعين إستجة وأرجذونة، وأجتدهمت ثقافا، وصير فيهما من الآلات أصنافا. فلما رأى الأمير عبد الله ما أحاط بقرطبة من ابن حفصون، ودار عليها من الحرب الزبون، أمر بإخراج السرادق إلى فحص الربض بشقندة. فلما اشتدت أطنابه، ومدت حبائله وأسبابه، بعث ابن حفصون خيلا ترمي على شقندة لعلها تأخذ السرادق السلطاني وتفوز به، وتهجم على البلد وتحيط بجانبه. فخرجت لهم الخيل إثر ذلك، وطردتهم طرادا من هنالك، ووصلت إلى ابن حفصون؛ فدفعته عن الجهة، ومنعته من تلك الوجهة، وأوى إلى حصن بلبى بقبرة؛ فجمع له الأمير أهل قرطبة، وسار إليه في نحو أربعة عشر ألفا. وحشد ابن حفصون نحو ثلاثين ألفا؛ فصدمه الأمير بمن معه؛ فنثر عقده وفرق جمعه؛ فعملت السيوف في رقابهم، وتبعت سيل أعقابهم، حتى رويت الأرض من دمائهم. ودخل الأمير عبد الله القلاع الثائرة عليه؛ وصارت يومئذ في يديه. وفي ذلك يقول ابن عبد ربه (كامل) : رَامَ ابن حفصُونَ النجاةَ فَلَمْ يَسِرْ ... والسَّيْفُ طالِبُهُ فَلَيْسَ بِنَاجِ في لَيلَةٍ أَسرَتْ بِهِ فَكَأنَّما ... خِيلَتْ نَقيضَةَ لَيلةِ المِعراجِ مَا زَالَ يُلقِحُ كُلَّ حَربٍ حَامِلٍ ... فالآنَ أنْتَجَها بشَرِّ نَتاجِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 رَكِبُوا الفِرَارَ بهُضبةٍ قَدْ جَرَّبوا ... غِبَّ السُّرَى وعَواقِب الإدلاجِ وإذا سَألتُهم مَوَالِي مَن هُمُ ... قَالُوا: موَالِي كُلِّ لَيلٍ دَاجٍ ولمّا رجع ابن حفصون إلى بربشتر، حشد أعوانه، وجدد للعرض ديوانه، وخرج بجمعه إلى إلبيرة، وأدار بها حربا مبيرة، إلى أن تغلب عليها بأيده، وقبض على عاملها بكيده. فأخرج الأمير عبد الله العسكر إليه، وقدَّم ابن أبي عبدة عليه. فلما تدانى الفريقان، وتراءى الجمعان، هجمت خيل ابن أبي عبدة على خيل ابن حفصون؛ فعكستهم عسكا، وطمست آثارهم طمسا؛ وأثقل ابن حفصون بالجراح، وآب من النصر صفر الراح، قد ركب الأوعار، واجتمل الخزي والعار؛ ويبلغ حصن بربشتر مفلولا، خاسرا ذليلا. ثم عاد إلى عاده، وسبيل بغيه وفساده. وفي كل ذلك كان الأمير عبد الله يهزم جيشه، ويروع ببأسه جأشه، حتى خمدت نيرانه، وملت أنصاره وأعوانه. فلما توفي الأمير عبد الله، وولى الناصر لدين الله، بادر إلى الطاعة، والدخول في الجماعة. ثم نكث وخان، حتى هلكته الأزمان. جملة الثُّوَّار ببلاد الأندلس في أيام الأمير عبد الله الخارجين عن الجماعة المضرمين لنار الفتنة أولهم ابن حفصون؛ وقد تقدّم ذكره. وتأتي بقية أخباره بحسب السنين. وثار سوَّار بن حمدون بحصن منت شاقر؛ فقام إلى جعد عامل إلبيرة بمن معه؛ فهزم جمعه، وأخذه أسيرا، وأراه يوما عسيرا. ثم أطلقه من عقاله، وعمه بإفضاله، وانصرف إلى إلبيرة بلده، ومقر أهله وولده. وسار سوار إلى غرناطة، وأغار على حصون ابن حفصون؛ فاجتمع أهل إلبيرة في نحو ثلاثة وعشرين ألفا؛ فلقيهم سوَّار في عدد قليل؛ فلاذوا بالفرار والنفور، وصاروا كالهباء المنثور؛ ونيطت بهم الحتوف كسفا، وقتل منهم على ما ذكر اثنا عشر ألفا، وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 في سنة 276. وكانت بين سوَّار هذا وابن حفصون ملاقاة انقلب فيها ابن حفصون مهزوما، وتولى ملوما مذموما، قد أثقل بالجراح، وقتل قوّاده في ذلك الكفاح. وكان جعد الثائر بالبيرة منفقا مع ابن حفصون على النفاق، منعقدا معه على الفساد في تلك الآفاق؛ فأعمل جعد الحبلة في الغدر بسوار جهده، وأظهر في ذلك نصبه وجهده؛ فأغار على جهته يوما، وقد أكمن هنالك قوما. وخرج هو بنفسه في نفر يسير؛ فاكتسح وأغار، وأنجد في الجهة وغار. وظن سوّار أن ليس وراءه أجناد تنجده، ولا أمداد تمده؛ فبز إليه بأهل المكان، وقد أيقن بالظفر والإمكان. فلما انبسط من هنالك كالفرخ الأشر، ثارت الكمائن عليه كالجراد المنتشر، وأحدقت الخيل بسوار؛ فقتل ثقتيلا، وعاد عسكره مهزوما مفلولا. وأرسل جعد صاحب إلبيرة إلى ابن حفصون برأس سوار، وأعلمه بالكبت الشامل لأعدائهم والبوار. وثار سعيد بن جودي في ذلك التأريخ بالعرب، وعارض ابن حفصون بالحرب والحَرَب، حتى أغصه بريقه، وضايقه في سبيله هناك وطريقه؛ فرجع ابن حفصون إلى الحيلة فيه والكيد، إذ عجز عنه بالقوة والأيد، حتى قبض عليه، وصار أسيرا لديه، وأقام عنده بببشتر شهورا مكبولا، إلى أن قبل فيه ابن حفصون مالا جزلا قبولا؛ فأطلقه من وثاقه؛ فجد في خلافه على الأمير عبد الله وشقاقه، إلى أن مكر به مكرا، وقتل في دار عشيقة له يهودية غدرا. وتولى أمر العرب بجانب إلبيرة محمد بن أضحى؛ فأمسى على طاعة الأمير عبد الله وأضحى؛ فناصب ابن حفصون الحرب، وعارضه بالطعن والضرب، إلأى أن ظفر به ابن حفصون في تلك المسالك، وصار عنده أسيرا هنالك؛ ففداه العرب منه بمال جسيم، ومشى من طاعة الأمير على منهاج قويم. وثار العرب بإشبيلية ثورة، وقبضوا على عاملها عنوة، وانتهبوا طارفه ومشلده، ولم يتركوا إلا أهله وولده، وقتلوا كثيرا من أعوانه، وعانوا ما شأوا في سلطانه؛ فاجتمعت العساكر من قرمونة وسائر الأقطار، وأحاطت بإشبيلية إحاطة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الفلك الدوار؛ فغلبوا على القائمين فيها. وقتلوا منهم فرقة؛ فكانت الوقعة المعروفة بالدعقة. وتغلب إبراهيم بن حجاج على إشبيلية تغلبا، ونصب لأحواز قرطبة منها حربا وحربا؛ وارتبط مع ابن حفصون على العبث التام، والاحتلال بقرطبة في ذلك العام. وتغلبا على الحصون والقلاع، وجدا في الكفاح والقراع، إلى أن انتقض ما بينهما من السلم المنتظم، والعهد المحكم المنبرم. وصالح ابن حجاج الأمير عبد الله؛ فأقره بإشبيلية، وصرف إليه زمامها، وأوقف عليه أعمالها وأحكامها. وثار دبسم بن إسحاق، وغلب على مدينتي لورقة ومرسية، وما يليهما من كورة تدمير. وكان مودودا من طبقات الناس، رفيقا برعيته، جوادا، منتجعا، له إفضال على الشعراء والأدباء. وثار عبيد الله بن أمية، وملك كورة جيان، ودخل حصن ابن عمر وغيره. ومنهم، عبد الرحمن بن مروان المعروف بالجليقي، اقتعد مدينتي بطليوس وماردة؛ ففارق الجماعة، وجاور أهل الشرك، ووالاهم على أهل القبلة. ومنهم، عبد الملك بن أبي الجواد، اقتعد مدينة باجة وملكها، وتحصن بحصن مارتلة، وله حظ من المنعة تشييدا وعدة. وكان معاقدا لابن مروان، صاحب بطليوس في هذا التأريخ، وابن بكر صاحب أكشونبة؛ فكانوا متأبين على من خالفهم. وثار ابن السديم، وهو منذر بن إبراهيم بن محمد بن السليم، بمدينة ابن السليم، المنسوبة إلى جده، من كورة شذونة؛ فاقتصد في سيرته، ولم يظهر نبذ الطاعة، إلى أن قتله مملوك له يسمى غلنده. وخلفه وليد بن وليد، وصار إلى الطاعة عند هبوب ريحها بالخليفة عبد الرحمن الناصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ومنهم، محمد بن عبد الكريم بن إلياس، امتنع بقلعة ورد من كورة شذونة، وسعى للفتنة سعيه، وتمادى، حتى استنزله الناصر فيمن استنزل من الثُّوَّار. ومات بقرطبة. وثار خير بن شاكر بحصن شوذر من كورة جيان، زظاهر زعيم الثوار عمر ابن حفصون؛ ففتك بخير المذكور، وأرسل برأسه إلى الأمير عبد الله. ومنهم، عمر بن مضم الهترولي المعروف بالملاحي؛ وكان جنديا متدونا عند العامل بحضرتها؛ فوثب عليه؛ فغدره، وضبط القصبة. ومنهم، سعيد بن هذيل. كانت ثورته بحصن المنتلون من كورة جيان؛ فبنى قصبته، وحصنها، وأعلن بالخلاف، حتى استنزله الناصر؛ فلحق بقرطبة إلى أن مات. وثار سعيد بن مستنة بكورة باغة، واقتعد حصونها؛ فاستفحل أمره وشره، وعمَّ أذاه واصطفى من حصونها التي ظهر عليها أربعة لا مثيل لها في الحصانة والمنعة. وثار بنو هابل الأربعة: أكبرهم منذر بن حريز بن هايل، وأخوه أبو كرامة هابل بن حريز، وأخوه عامر، وأخوه عمر؛ ثاروا ببعض حصون جيان في أيام الأمير عبد الله، وخلعوا طاعته، وأطلقوا الغارة، وأطلعوا أهل الفساد. ثم استنزلوا؛ فنزلوا على حكم الأمان؛ فحسنت طاعتهم وخدمتهم. وثار إسحاق بن إبراهيم بن عطاف العقيلي بحصن متتيشة؛ فبناه وحصنه وامتنع به، إلى أن استنزله الخليفة الناصر إلى قرطبة؛ وبها توفي. ومنهم، سعيد بن سليمان بن جودي؛ أمرته عرب إغرناطة وإلبيرة؛ فضبط أمرهم، حتى دبر عليه كبيران منهم بحيلة؛ فقتلاه بها. فلم ينتظم للعرب هناك أمر بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وثار محمد بن أضحى بن عبد اللطيف الهمداني، من أكابر أبناء العرب بكورة إلبيرة، إلى أن هلك الأمير عبد الله؛ فاستنزله الناصر لدين الله عن حصنه، فيمن استنزله من الثوار. وكان ابن أضحى هذا مع رجوليته أديبا بليغا، يقوم بين أيدي الأمراء في المحافل، فيحسن القول، ويطيب الثناء. وله أخبار معروفة. وثار بكر بن يحيى بن بكر، واقتعد مدينة شنت مرية من كورة أكشونبة، وبناها حصنا اتخذ عليها أبواب حديد. وكان له ترتيب وأهبة، ورجال شجعان، وعدة موفورة. وكان يتشبه - بزعمه - في سلطانه بإبراهيم بن حجاج. وكان له أصحاب للرأي وكتاب للعمل. وكان له عهد مؤكد إلى جميع من في طاعته بإضافة أبناء السبيل، وقراء النزيل. وحفظ المجتازين؛ فكان السالك بناحيته كالسالك بين أهله وأقاربه. وثار ابنا مهلب، من وجوه قبائل البربر بكورة إلبيرة؛ وهما خليل وسعيد؛ ثارا ثورة نظرائهما بجهتهما؛ فأقاما على سبيلهما إلى أن استنزل الناصر أولادهما بعد وفاتهما. وثار سليمان بن محمد بن عبد الملك الشذوني بشربش شذونة؛ وهو الذي بنى نبريشة وحصنها. وثار ابنا جرج بحصن بكور؛ ففسدت سيرتهما؛ فأخرجا عن الحصن. فمات عبد الوهاب، ولحق محمد بن عبد الرحمن بن جرج بابن الشالية؛ وكان مصافيا له؛ فتقبله، واستخدمه، وبنى له حصن مورينة من كورة جيان؛ فأقام فيه إلى أن استنزله الناصر ونقله إلى قرطبة. وثار أبو يحيى النجيبيُّ المعروف بالأنقر بمدينة سرقسطة وأعمالها، وقتل أحمد ابن البراء القرشي عامل الأمير على سرقسطة، واستولى عليها؛ وأظهر التمسك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 بطاعة الأمير عبد الله، وخاطبه، وهو ينسب ابن البراء إلى الخلاف. فأظهر الأمير تصديقه، وسجل له على سرقسطة. فثبت بها قدمه. وفي سنة 283، أخرج الأمير عبد الله على العسكر هشام بن عبد الرحمن ابن الحكم إلى كورة تدمير، في أواخر ربيع الأول. وكان القائد معه على الجيش أحمد بن أبي عبدة. ولما احتل بوادي بلون، تقدم قطيع من الخيل؛ فافتتح هنالك حصنا، وغنم ما كان فيه. وتوافت على العسكر حشود أهل الكور. ثم انتقل وطوى المراحل حتى حل بمرسية. ثم انتقل إلى لورقة. فخرج إليه ديسم بن إسحاق؛ فحاربه؛ فهزم ديسم؛ ورجع إلى لورقة وأقام محاصرا حتى فقل عنه العسكر. ثم خرج ديسم بمن معه؛ فضرب في الساقة؛ فرجع إليه؛ فهزم واتبع حتى اشتغاث بالوعر ونجا راجلا، وأخذ فرسه. وقفل العسكر سالما. وفقد في هذه الغزاة الماء، ومات فيها اثنان وثلاثون رجلا عطشا، وهلكت دواب كثيرة. وفي سنة 284، أخرج الأمير عبد الله ابنه أبان إلى لبلة. وكان ابن خصيب بحصن منت ميور، وكان قد ثار به؛ فحاصره، ونصب عليه المجانيق، ورماهم بها حتى ضجوا ودعوا إلى الطاعة؛ وانعقد أمانهم. وفي خلال ذلك، دخل ابن حفصون إسنجة الدخلة الثانية؛ فورد كتاب الأمير باستعجال القفول بسبب إسنجة؛ فقفل العسكر. وكانت مدة هذه الحركة شهرين ونصفا، وهي أول حركة أبان. وفي سنة 285، غزا أبان ابن الأمير عبد الله إلى ابن حفصون، والقائد ابن أبي عبدة. وفيها أيضا، غزا عباس بن عبد العزيز إلى حصن كركي وجبل البرانس؛ وقتل ابن بامين وابن موجول، وأخذ حصونهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وفيها، تقدم لب بن محمد بن طليطلة إلى حيز جيان، ونازل حصن قسكلونة؛ وكان فيها نصارى يحاربون عبيد الله بن أمية المعروف بابن الشالية؛ فأخذ الحصن، وقتل العجم. ووافاه فيه قتل أبيه محمد بن لبَّ في محاصرته لسرقسطة. وفيها، كانت المجاعة الشديدة التي سميت السنة 285 بها سنة لم أظن. وفي سنة 286، أظهر ابن حفصون النصرانية؛ وكان قبل ذلك يسرها؛ وانعقد مع أهل الشرك وباطنهم، ونفر عن أهل الإسلام، ونابذهم؛ فتبرأ منه خلق كثير. ونابذه عوسجة بن الخليع، وبنى حصن قنبط، وصار فيه مواليا للأمير عبد الله، محاربا لأبن حفصون. واتصلت عليه المغازي من ذلك الوقت، ورأى جميع المسلمين أن حربه جهاد؛ فتتابعت عليه الغزوات بالصوائف والشواني، ولا بني القواد عنه في الحل والترحال. وفي ذلك قال ابن فلزم للقائد ابن أبي عبدة (متقارب) : فَفِي كُلِّ صيفٍ وفي كُلِّ مَشتَى ... غَزَاتانِ مَنكَ عَلَى كُلِّ حالِ فَتِلكَ تُبِيدُ العَدّوَّ وَهذِي ... تُفيدُ الإمامَ بها بَيتَ مَالِ وفي سنة 287، كانت الصائفة مشجولة ما بين كورة موزور وكورة شذونة وكورة رية. وفيها، قتل القائد ابن أبي عبدة طالب بن مولود الموروري. وفيها، صلب إسحاق وصاحبه؛ وكانا من رجال ابن حفصون؛ وفيهما جرى المثل في الناس: (غررتني يا إسحاق!) وذلك أن أحدهما قال هذه الكلمة لصاحبه، وهو يرفع في الخشبة. وفي سنة 288، قبضت رهائن ابن حفصون. وتجولت الصائفة بشذونة وغيرها من الكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وفيها، عظم السيل بقرطبة، وانهدم رجل من قنطرتها. وفيها، خرج من قرطبة أحمد بن معاوية ابن الإمام هشام إلى فحص البلوط. ثم تقدم إلى ترجيله؛ فأقام فيها مدة يسيرة. وانحشدت إليه الحشود؛ فدخل إلى سمورة وبها قتل في شهر ربيع الأول. وفي سنة 291، كان غزو أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - إلى رية؛ وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة. وفصل يوم الخميس لخمس خلون من جمادي الآخرة؛ ونهض حتى احتل بوادي نسقانية، واضطرب في هذه المحلة. وخرج إليه عمر بن حفصون؛ ثم التقيا؛ فوقعت بينهما حرب شديدة؛ ثم انكشفت الهزيمة على أصحاب ابن حفصون؛ فقتل منهم عدد كثير؛ ثم أضرم قرى وادي نسقانية وما حواليها نارا. ثم انتقل وحل على وادي بينش المجاور لببشتر، ووقعت الحرب بين أهل العسكر وبين ابن حفصون؛ فانهزم ابن حفصون، وقتل له رجال، وعقرت له خيل. واتصل الحريق في جميع قرى تلك الناحية. ثم انتقل إلى محلة طلجيرة؛ فأقام بها أياما، يحارب فيها ابن حفصون كل يوم، وينال منه. وفي هذه الأيام، أحرقت منية لجعفر بن عمر بن حفصون. وفي هذه الغزاة، حوربت طرش والرجل، وقتل أخو زيني وجماعة من حماة ابن حفصون. ونصب المنجنيق على الرجل؛ فأثر فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وثلم في سوره. ثم تقدم القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة من حصن لوشة إلى حصن الخشن، في جرائد الخيل، وأبقى أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - معسكرا بمحلة لوشة؛ فحارب حصن الخشن، وقتل عددا من أهله، وأسر منهم جماعة، وانصرف بالرؤوس والأسرى إلى لوشة. ثم قفل بالعسكر، ودخل قرطبة يوم الجمعة لخمس بقين لرمضان؛ فكانت هذه الغزاة ثلاثة أشهر وعشرين يوما. وفيها، خرج لُبُّ بن محمد إلى بايش من أحواز آلبة، وذلك في رمضان؛ فافتتح حصن بايش وما يليه، والعلج إذفنش يومئذ على حصن غزنون محاصرا لأهله. فلما بلغه دخول لُبّ بن محمد بحصن بايش، ولَّى هاربا. وفيها، ثم في ذي الحجَّة، خرج لبُّ بن محمد إلى ناحية بليارش؛ فافتتح حصن لحروسه؟، وحصن إيلاس، وحصن قشتيل شنت، وحصن مولة، وقتل بهذه الحصون نحوا من سبعمائة علج، وسبى بها نحوا من ألف سبية. وفيها، توفي جعفر بن يحيى بن مزين الفقيه من أهل قرطبة؛ وكانت له رواية عن أبيه وغيره. وفيها، توفي أحمد بن هاشم القائد بمدينة غرناطة، ودفن هنالك، وهو ابن أربع وسبعين سنة. وفيها، توفي إسحاق بن عبد الله الطبيب. وفيها، مات عامر بن موصل الأصبحيّ بحصن ناجرة) . وفي سنة 292، كان خروج الصائفة إلى عمر بن حفصون. وتجوَّل العسكر على حصونه؛ فهتك بعضها. وقوطع البعض على وظيف يودونه. وفيها، كانت الوقعة العظيمة على عمر بن حفصون بوادي بلُّون من جيان. وكان قد توافى إليه أهل الخلاف والخلعان، وخرج مغيرا على المسلمين؛ فهزمه الله، وقتل كثيرا ممن كان معه. وأدبره في شرذمة قليلة، وأفنى أكثر رجاله في ذلك المعترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وفيها، خرج لبُّ بن محمد لمحاصرة مدينة سرقسطة، وأخذ في ردم الخندق المجاور لسورها وشرع في البنيان عليها. فلما كمل له ردم الخندق وبنيان ما فيه، رحل عنه وأدخل ندبة فيه من رجاله. وفيها، توفي عبد الله بن قاسم بن هلال؛ وكانت له رحلة؛ وأدخل الأندلس كتب داوود العباسي وغيره. وفيها، وتوفي الوزير سليمان بن محمد بن وانسوس، وعبد الرحمن بن أمية بن عيسى بن شهيد المعروف بدحيم، وتوفي أخواه عثمان ابن أمية وعيسى بن أمية. وفي سنة 293، كان خروج الصائفة إلى فهر بن أسد، وهو بحصن تشّ من كورة جيان؛ فافتتح الحصن، وأخذ فهرا أسيرا، وقدم به إلى قرطبة؛ فأمر الإمام عبد الله - رحمه الله - بصلبه عند القصابين في بيع الآخر. وفيها، عزل محمد بن أمية بن شهيد عن المدينة؛ ووليها محمد بن غانم؛ فكانت ولايته شهورا؛ ثم عزل، وولى مكانه موسة بن محمد بن حُدير. وفيها، حبس حزمير القومس، وعذب وأدهق حتى مات. وفي جمادى الآخرة، دخل القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة حصن قنيط من ناكرنا، وندب فيه جيشا، واستنزل من كان فيه من بنى الخليع، وأدخل فيه الحشم. وفيها، توفي يونس بن هاشم بن عبد العزيز. وفيها، توفي ديسم بن إسحاق صاحب تدمير. وفيها، قتل يحيى بن قسيّ، ومحمد بن إسماعيل، وأيوب ابن سليمان بطليطلة وفي سنة 294، كان غزو أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - الصائفة إلى الجزيرة. وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة، وحل بالجزيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 يوم الجمعة لتسع بقين من رجب. ثم تقدّم إلى حصن لوزة يوم السبت لانسلاخ رجب؛ فحارب الحصن وحاصره، وقتل جماعة ممن فبه؛ ثم تقدم إلى حاضرة رية، فيها مساور بن عبد الرحمن؛ فأحرقت أرباض الحاضرة وحوصر من كان فيها؛ فدعا مساور إلى السلم، وبذل الرهائن. فأجيب إلى ذلك، وقبضت رهائنه؛ ثم تقدم القائد إلى الساحل؛ فجال عليه أجمع، وخرج على حصون إلبيرة، وقفل منصرفا إلى قرطبة؛ فدخلها يوم السبت لليلتين خلتا من ذي القعدة. وفيها، خرج لُبُّ بن محمد إلى جانب بنبلونة؛ فبذل في تهوره، وشرع في البنيان بحصن هريز؛ فحشد إليه العلج شانجه جميع أهل بلده، وكايده بالمكامن؛ ثم وجه إليه خيلا يسيره؛ فلما سمع الصيحة، بدر إلى الركوب؛ فلقى بكمين، فهزمه؛ ثم بكمين، فهزمه؛ ثم أحدقت به الكمائن. فقتل وقتل من كان معه، ممن آثر الشهادة؛ وذلك في ذي الحجة لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه. فنزل تطيلة أخوه عبد الله بن محمد. وكان لبٌّ، يوم قتل، ابن ثمان وثلاثين سنة. وفيها، ظهر محمد بن عبد الملك الطويل في الثغر، ودخل حصن بربشتر وحصن القصر وحصن بربطانية. وفي سنة 295، كان غزاة أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - بالصائفة إلى جهة رية؛ وقاد الخيل أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي عبدة؛ فقصد ببشتر، وحارب ابن حفصون، ونكاه، وأنزل به، وحارب ما حواليه من الحصون. وفيها، غدر سعيد بن الوليد المعروف بأبن مستنة، وتخلى عن حصن بلدة إلى عمر بن حفصون، وظافره، وأبدى ما كان بصميره من العصيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وفيها، ولي المدينة محمد بن عبيد الله بن أبي عثمان، وذلك يوم خميس؛ فاستعفى عنها؛ فأعفي يوم الجمعة ثاني ولايته، وولى مكانه عليُّ بن محمد المعروف بالباسه؛ وكان عليها ثلاثة أيام. ثم عزل وأعيد إليها موسى بن حدير؛ فكان واليا عليها إلى آخر أيام الإمام عبد الله؛ وأقره أمير المؤمنين - رحمه الله - إلى سنة 303. وفيها، دخل محمد بن عبد الملك الطويل حصن منتشون ومدينة لاردة في المحرم. وفيها، دخل محمد بن عبد الرحمن النجيبيُّ مدينة شية. وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى بربطانية؛ فافتتح حصونا جمة، وسبى سبيا كثيرا. وفيها، توفي الفقيه يحيى بن عبد العزيز بن الجرَّار، والفقيه محمد بن غالب ابن الصفار، ومحمد بن يحيى بن أبي غسان صاحب السوق. وولى أحكام السوق يحيى بن سعيد بن حسَّان. وفيها، توفي موسى بن محمد بن موسى بن قطبس الخازن. وفي سنة 296، كان غزو أبان ابن الإمام عبد الله بالصائفة إلى حصون رية وغيرها. وقاد الخيل معه أحمد بن محمد بن أبي عبدة؛ فقصد ناحية بهشتر، ونازل ابن حفصون، وحاربه ونكاه، وتحرك عيسى بن أحمد القائد غازيا إلى حصون سعيد بن مستنة؛ فنازله أيضا، حتى قفل القائد أحمد ابن محمد من ببشتر. ثم نازل حصن لك من حصون ابن مستنة؛ فأقام عليه حتى افتتحه. وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى بليارش في شهر رمضان؛ فقتل هنالك مقتلة عظيمة. ووفد عليه رسل أهل حصن روطة، يرغبون الصلح ويسمحون بالرهائن والجزية؛ فلم يجبهم إلى ذلك؛ فخرجوا هاربين من الحصن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وأخلوه. وتقدم إليه؛ فهدمه. وفيها، تغلب على حصن منت بطروش، وهو المعروف بجبل الحجارة. وفيها، توفي محمد بن سليمان بن تليد المعافري قاضي مدينة وشقة. وفيها، توفي عبيد الله بن محمد بن أبي عبدة؛ وكان حج قبل وفاته بثلاثة أعوام، هو ويحيى بن سعيد بن حسان صاحب السوق. وفيها، توفيت السيدة ابنة مطرف ابن الأمير عبد الرحمن بن الحكم - رحمهما الله -. وفيها، توفي أحمد بن حفص بن رفاع الفقيه المقري. وفي سنة 297، كان غزو العاصي ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - الغزاة المعروفة بغزوة رية وفريرة. وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة. وفصل يوم الخميس لتسع بقين من شعبان؛ فتقدم إلى بلدة؛ فحاربها. ثم احتل على نهر طلجيرة؛ فدارت بينه وبين أصحاب ابن حفصون حرب، عقرت فيها خيل السلطان، وقتل عدد من أصحاب ابن حفصون. ثم تقدم إلى حصون إلبيرة؛ فنزل على حصن شبيلش؛ فكانت هنالك حرب شديدة، ونالت بعض حماة العسكر جراح. وتجول في كورة إلبيرة، وحل بمحلة بجانة؛ ثم قفل على كورة جيان؛ فنازل حصن المنتلون يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعدة؛ فأقام عليه محاصرا أياما؛ ثم ضحى فيه يوم الأحد، وقفل يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، ودخل قرطبة يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة. وفيها، افتتحت بياسة؛ واستنزل منها محمد بن يحيى بن سعيد بن بزيل. وفيها، كان سيل عظيم غرقت منه أركان بيت الله الحرام، وفاضت بئر زمزم؛ ولم يرَ مثل هذا السيل في قديم الأزمان. وفيها، اجتمع عمر بن حفصون، وسعيد بن مستنة، وسعيد بن هذيل، وضمهم عسكر واحد؛ فضربوا بناحية جيان وأغاروا؛ فأصابوا وغنموا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وانصرفوا إلى حصن جريشة؛ فاتبعهم القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة؛ فلحقهم، وهزمهم، وقتل جماعة منهم، فيهم تسريل العجمي من قواد ابن حفصون. وفيها، افتتح القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة حصن الزبيب، وابتنى حصن ترضيض تضييقا على ابن هذيل، وحصن قلعة الأشعث، ووضع فيه ندبا من الرجال. وشتى القائد هذه السنة بجبل ارنيش من كورة قبرة. وكانت له في هذه الشتوة حركات بالغت في نكاية أهل النفاق. وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى بار بليارش؛ فافتتح حصن أوربوالة، وأصاب من المشركين ثلاثمائة سبية، وقتل كثيرا منهم، وهدم الحصن وحرقه. وتقدم إلى حصني علتير والغبران؛ فهدمهما. وكان مبلغ الفيء في هذه الغزاة ثلاثة عشر ألفا. وفيها، قتل إبراهيم بن حجاج ابن عمه أحمد بن سيد بن عمر بن عُمير، وهو ابن خمس وأربعين سنة. وفيها، وذلك يوم الخميس لسبع بقين من ذي الحجة، اعتقل موسى ابن محمد بن حدير صاحب المدينة إبراهيم ومحمدا وسعيدا بني الأمير محمد - رحمه الله - وابن أخيهم محمد بن عبد الملك ابن الأمير محمد - رحمه الله - وحبسهم في دار مطرف ابن الأمير عبد الله. وكان سبب ذلك أنّ الإمام عبد الله - رحمه الله - عهد إليه ألا يترك أحدا يجوز القنطرة إذا كان له خروج للصيد. وكان يصيد الإمام في تلك الجهة بعدوة النهر. فخرج الإمام في هذا اليوم متصيدا. وخرج هؤلاء من المدينة متروحين؛ فردهم واعتقلهم. فلما انصرف الأمير - رحمه الله - من صيده، أنهى إليه أمرهم وما فعله فيهم؛ فاستحسن ذلك منه، وشكر له، وعهد إليه بإطلاقهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وفي سنة 298، خرج العاصي ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - بالصائفة. وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة؛ فتقدم إلى حصن ببشتر وغيره من حصون الساحل بكورة رية. ثم تقدّم بالعسكر إلى كور إلبيرة؛ فحطم زرعها، وهشم ثمارها. وفيها، أقام عيسى بن أحمد بن أبي عبدة في طقيع من الخيل بمدينة بيانة؛ فأغار عمر بن حفصون وسعيد بن مستنة في بسيط قبرة وقرى قرطبة. وأخذوا الغنائم؛ فخرج عيسى بن أحمد طالبا لهما؛ فالتقى بهما على نهر ألبة؛ فدارت بينهم حرب شديدة، وإنهزم عمر بن حفصون وابن مستنة؛ فقتل من أصحابهما خلق كثير، وافترقوا أيادي سبا. وبعث عيسى بن أحمد من رؤوسهم عددا كثيرا. وفيها، غزا الوزير عباس بن عبد العزيز إلى مدينة قلعة رباح؛ وكان أهلها قد خالفوا، وخلعوا الطاعة؛ فافتتحها. وكان فضل بن سلمة، ختن سعيد ابن مستنة، قد خالف بحصن أشر؛ فتقرب أهل حصن أشر بقتله إلى الإمام عبد الله - رحمه الله! - فقدم منهم قوم برأسه إلى باب السدة؛ فشكر لهم ذلك. وفيها، خرج عباس بن أحمد بن أبي عبدة قائدا على خيل كثيفة إلى المنشلون لحرب سعيد بن هذيل. وفيها، تداعى البربر الطنجيون الذين كانوا غزوا مع القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة إلى النزوع إلى مدينة بلدة إلى ابن حفصون؛ وتداعى الطنجيون الذين كانوا مع عباس بن أحمد على المنتلون إلى النزوع إلى ابن هذيل؛ فخرجوا عن العسكر، ولحقوا بأهل الكفر والخلعان. ثم دارت الدائرة على هؤلاء وهؤلاء في الموضعين جميعا لأمور أحدثوها، واستدرجهم الله - عز وجل - بها؛ فقتلوا ببهشتر والمنتلون. وعاد من بقى منهم إلى الطاعة. وكان صاحب الصائفة العاصي ابن الأمير عبد الله؛ وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 فصوله لهذه الغزاة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان، وهو يوم النصف من أبريل. وكانت في هذه الغزاة أمراض ووباء. وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى أرغون يريد بنبلونة وأن يجتمع هنالك مع عبد الله بن محمد بن لب. فانتهى إلى حصن البربر؛ فأحرق ما حواليه، وهدم كنائس تلك المواضع، وذلك في شهر رمضان. وعرج عن ملاقاة ابن لب وعن القصد إلى بنبلونة، وانصرف؛ فاحتل حصنا من حصونه يعرف بشار قشتيله؛ فأنذر بأن ابن شانجه يريد الهجم عليه؛ فخرج في بعض أصحابه متسللا. فلما أيقن أهل العسكر بهروب ابن الطويل، تخاذلوا؛ فكان سببا لانهزام أهل الحصن. فلما بلغ عبد الله بن لب الخبر، وأن ابن الطويل كعَّ عن ملاقاة شانجه، نزل بمن معه من المسلمين على حصن لوازة من حصون شانجه؛ فقتل جماعة منهم وكر راجعا؛ فالتقى ببعض الخيل التي كان فيها شانجه؛ فقتل فيهم وسبى. وفيها، استشهد ابن أبي الخصيب التطيلي، واسمه نعم الخلف؛ وكان نبيلا أديبا، وفقيها محدثا. وفيها، مات إبراهيم ابن الإمام محمد - رحمه الله - وفيها، توفي معاوية ابن محمد بن هشام القرشي؛ وعثمان ابن الأمير محمد - رحمه الله -؛ ومطرف ابن أحمد بن مطرف ابن الأمير عبد الرحمن - رحمه الله -؛ وأبان بن عبد الملك ابن الأمير عبد الرحمن - رحمه الله -. وفيها، توفي محمد بن أمية بن عيسى بن شهيد الوزير، صاحب المدينة. وفيها، توفي سعيد بن عبد الرحيم السذوني الكاتب؛ وأبو يحيى يزيد بن محمد النجيبي الخازن؛ وموسى بن العاصي بن ثعلبة؛ وأبو مروان عبيد الله بن يحيى بن أبي عيسى؛ وأصبغ بن عيسى بن فطيس؛ وإبراهيم بن حجاج صاحب إشبيلية، وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ وعمر بن قومس الكاتب؛ وريان الفتى صاحب الطراز؛ وأفلج الوصيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وفي سنة 299، كان غزاة القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة إلى حصن فننجالة من حصون ابن هذيل، بالقرب من جبل المنتلون، وذلك في صدر المحرم؛ فحاصره أشد الحصار، حتى افتتح الحصن. وفيها، غزا بالصائفة أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - وقاد الخيل عباس بن عبد العزيز الوزير. وفصل يوم الاثنين لتسع بقين من شعبان، وقصد حصن ببشتر، وحارب ابن حفصون، وأوقع به. ثم خرج بإثره أحمد ابن محمد بن أبي عبدة؛ فتولى القيادة مكانه، واستقدم عباس بن عبد العزيز إلى قرطبة؛ فقصد القائد حصون ابن حفصون، وحارب من كان فيها. وفي هذه السنة، كسفت الشمس جميعا قبل وقت الغروب، وذلك يوم الأربعاء لليلة بقيت من شوال؛ وظهرت النجوم. وبدر أكثر أهل المساجد؛ فأذنوا لصلاة المغرب، وصلوا. ثم انجلى ذلك، وعادت الشمس مضيئة. ثم توارت للمغيب. وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطّويل إلى وادي برشلونة؛ فأغار بوادي طراجة. فخرج عليه العلج شنير؛ فأخذ عليه المضايق. فلما كرّ عسكر المسلمين، ألفوا أعداء الله على تلك المضايق؛ ففتح الله للمسلمين عليهم، وقتلوا فيهم مقتلة عظيمة. وفيها، توفي عبد الله بن أبي زيد صاحب الخيل. وفيها، توفي أصبغ بن مالك الزاهد الفقيه. وفيها، هلك العلج إذفنش؛ وكانت مدّة أيامه أربعا وأربعين سنة؛ وولى ابنه غرسية مكانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 شأن ابني الأمير عبد الله محمد ومطرف كان الأمير عبد الله قد رشح ابنه محمدا لولاية عهده، وأثره بما عنده؛ فعظم الأمر على أخيه مطرف، وبعدما بينهما كل البعد، وقابل الواحد الثاني بالهجران والصد. فوجد مطرف يوما فارسا من فرسان محمد؛ فاغتاله وقتله؛ ثم فرق من أبيه عبد الله وحذر سطوته، ولم يأمن طولته؛ فسار إلى السجن وفتقه، وحلّ من شده أبوه وأوثقه، وخرج بمن فيه من أهل الذعارة والفساد، ولحق ببربشتر قاعدة أهل الضلال والعناد، وصار عند ابن حفصون، في حرز من الأمن مصون. ثم إن الأمير عبد الله أباه خاطبه بالأمان، وقال: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان!) فقبل من أبيه، وانصرف إلى أهله وذويه. ولم يزل بعد ذلك مطرف يغري بمحمد إغراء، ويطوي له عداوة وبغضاء، ويزعم أنه يخاطب ابن حفصون ويداخله، ويداهنه على القيام على أبيه ويواصله. فسجن الأمير عبد الله ابنه محمدا في دار البنيقة، وامتحن خلال ذلك عين الحقيقة. فلما واصل في البحث صباحه ومساءه، لم يقرع سمعه من جهته ما ساءه فأسرع إطلاقه، وحلَّ وثاقه؛ فدخل مطرف إليه، وأجهز في الحين عليه، وتركه متخبطا في دمه، ملقى على وجهه وفمه. فلما علم ذلك الأمير عبد الله، أعظم ذلك منه، وهم بقتله عنه؛ فلم يعدم من كسر عليه لذلك؛ فتركه. وقيل: قتله فيه: والله أعلم. وكان ذلك في سنة 277. شأن القاسم أخي الأمير عبد الله كان الأمير عبد الله قد اتهم أخاه بالقيام عليه في الملك، وإيراده موارد الهلك. فلما كثر بذلك الرفع إليه، وتتابع الكلام فيه عليه، رأى بمقتضى الرياسة، وحكم التدبير والسياسة، أن يجبسه في دار البنيقة من القصر، حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 يكشف من هذا الأمر. ثم نقله منها إلى حبس الدويرة؛ فمنع النوم هنالك؛ فأرسلت له أمه مرقدا لذلك، وأمرته أن يقسمه على ثلاثة أيام؛ فشرب الجميع في يوم واحد؛ فأصبح رهن الحمام. وفي سنة 300، كان وفاة الإمام عبد الله بن محمد - رحمه الله - ليلة الخميس مستهل ربيع الأول، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وكانت خلافته خمسا وعشرين سنة، وخمسة عشر يوما. ودفن في قصر قرطبة مع أجداده الخلفاء - رضي الله عنه وعنهم! - وصلى عليه أمير المؤمنين عبد الرحمن ابن محمد - رضه. صفة الإمام عبد الله بن محمد كان أبيض، أصهب، مشربا بحمرة، أزرق أقنى بخضب بالسواد، ربعة إلى الطول، عظيم الكراديس. تسمية أولاد الإمام عبد الله: ممن ولد له قبل الخلافة: محمد أبو أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد - رحمهما الله -، أمه: دُرّ؛ وأحمد، أمّه: تمام؛ ومطرف، وسليمان، أمهما: غزلان؛ وأبان، لأم ولد تسمى شأن؛ وعبد الرحمن؛ وعبد الملك؛ والسيدة؛ وعائشة؛ والسيدة أخرى، أمهن: غزلان؛ وهشيمة، أمها: قريش؛ وأسماء؛ أمها قتيان؛ وحكيمة، أمها: ملك؛ والبهاء، أمها: درّ؛ وفاطمة، وكانت أسن ولده. وممن ولد له بعد الخلافة: العاصي لمستظرف، وعبد الرحمن لخديع، ومحمد الأصغر، أمهما: ملحة، ورقية، وزينب لملحة، وفاطمة لماجن، وزينب لشارق، وفاطمة الصغرى لدرّ. ذكر حجابه ووزرائه وكتابه وأصحاب شرطه: ألفي الإمام عبد الله على الحجابة وقت وفاة الإمام المنذر - رحمهما الله - عبد الرحمن بن أمية بن شهيد؛ فأمضاه عليها؛ ثم عزله، وولي مكانه سعيد بن محمد بن السليم؛ ثم عزله، ولم يول بعده الحجابة أحدا. والوزراء: براء بن مالك القرشي؛ عباس ابن عبد العزيز القرشي؛ سعيد بن محمد بن السليم؛ عبد الملك بن عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ابن أمية. وقاد الخيل بالصوائف عبيد الله بن محمد بن أبي عبدة. وولي الكتابة أحمد بن محمد بن أبي عبدة. وقاد بالصوائف سلمة بن عليّ بن أبي عبدة؛ عبد الرحمن بن حمدون بن أبي عبدة؛ حفص بن محمد بن بسيل. ولي المدينة مع الوزارة محمد بن وليد بن غانم. ولي المدينة مع الوزارة أصبغ بن عيسى بن فطيس؛ عبد الله بن محمد الزجالي، وكان كاتبا ووزيرا؛ سليمان بن محمد بن وانسوس؛ أحمد بن هاشم. وقاد الخيل جعفر بن عبد الغافر. وقاد الخيل العاصي بن عبد الله بن ثعلبة؛ تمام بن عمرو بن علقمة وكان وزيرا لثلاثة من الخلفاء؛ عبد الله بن حارث بن بزيع؛ إبراهيم بن خمير؛ محمد ابن أمية بن شهيد. وولي المدينة نضر بن سلمة، وولي القضاء موسى بن زياد؛ وولي الكتابة والشرطة والقضاء. ومن أصحاب الشرط موسى بن زياد، ثم ولي مكانه، لما ولي القضاء، يحيى بن زياد عمه؛ ثم مات يحيى بن زياد، وبقيت الشرطة دون والٍ سنتين؛ ثم وليها قاسم بن وليد الكلبي؛ فبقى عليها حتى توفي الإمام - رحمه الله! ومن كتابه: عبد الله بن محمد الوزير؛ عبيد الله بن محمد بن أبي عبدة؛ موسى بن زياد. ومن قضاته: النضر بن سلمة القيسي؛ ثم موسى بن زياد؛ ثم محمد بن سلمة أخو النضر؛ ثم أعيد النضر بن سلمة ثانية؛ ثم عزل وولي محمد بن سلمة؛ ثم مات، وولي بعده أحمد بن محمد بن زياد اللخمي. بعض أخبار الأمير عبد الله بن محمد على الجملة كان الإمام عبد الله مقتصدا، يظهر ذلك في ملبسه وشكله وجميع أحواله. وكان حافظا للقرآن، كثير التلاوة له. وكانت له صدقات كثيرة ونوافل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 جزيلة. وكان متقدما في ورعه وفضله، محبا للخير وأهله، كثير الصلاة، دائم الخشوع والذكر الله عز وجل، كثير التواضع، منكرا للسرف ومبعدا لأهله، شديد الوطأة على ذوي الظلم والجور. وكان متفننا في ضروب العلوم، بصيرا بلغات العرب، فصيح اللسان، حسن البيان وكان لا يخلو في أكثر أيامه من مقاعدة وزرائه ووجوه رجاله؛ فإذا انقضى خوضهم في الرأي والتدبير لأسباب مملكته وما كان يحاوله من حسم علق الفتنة، خاض معهم في الأخبار والعلوم. ولم يكن ممن اشتغل بلذة، أو قارف شيئا من الأنبذة في أيام خلافته ولا قبلها. وهو ابتنى الساباط بين القصر والجامع بمدينة قرطبة، رغبة في شهود الجمعة، ومحافظة على الصلوات، وحبا للصالحات. وكان يقعد في الساباط قبل صلاة الجمعة وبعدها؛ فيرى الناس، ويشرف على أخبارهم وحركاتهم، ويسر بجماعاتهم، ويسمع قول المتظلم؛ ولا يخفى عليه شئ من أمور الناس. وكان يقعد أيضا على بعض أبواب قصره في أيام معلومة؛ فترفع إليه فيه الظلامات، وتصل إليه الكتب على باب حديد قد صنع مشرجبا لذلك؛ فلا يتعذر على ضعيف إيصال بطاقة بيده، ولا إنهاء مظلمة على لسانه. وكان أهل المكانات وذوو المنازل والأقدار يتحفظون من كل أمر يوجب الشكوى بهم، وينقبضون عن التحامل على من دونهم، ويهابون عقابه، ويحذرون إنكاره، ويتحرون موافقة مذاهبه. وكانت اللذات مهجورة في أيامه، واللهو غير مقترف من جميع خاصته وعامته، وإعمال الخير وإظهار البرّ والتقوى فاش في كل طبقة من رجاله ورعيته. وكان - رحمه الله - كثير الاستغفار لله عز وجل، ومتحفظا من اليمين باسمه؛ فإذا حلف له حالف بالله، صدقه؛ وإذا شفع به إليه شافع، شفعه؛ أو خائف، أمنه؛ أو مذنب، صفح عنه. ومآثره كثيره، وفضائله محفوظة مذكورة. وكان قد فتح بابا في القصر، سماه باب العدل. وكان يقعد فيه للناس يوما معلوما في الجمعة، ليباشر أحوال الناس بنفسه، ولا يجعل بينه وبين المظلوم سترا. وكان بصيرا باللغات، حافظا لأشعار العرب وأيامها وسير الخلفاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 راوية للشعر. وكانت اللذات في أيامه مهجورة؛ فأنه لم يشرب قط نبيذا ولا مسكرا. واعتذر إليه يوما بعض مواليه؛ فقال له: (إن مخايل الأمور لتدل على خلاف قولك وتنبئ عن باطل تنصلك. ولو أقررت بذنبك، واستغفرت لجرمك، لكان أجمل بك، وأسدل لستر العفو عليك! فقال: (قد اشتمل الذنب على، وحاق الخطاء بيَّ! وإنما أنا بشر، وما يقوم لي عذر!) فقال: (مهلا عليك، رويدا بك! تقدمت لك خدمة، وتأخرت لك توبة؛ وما للذنب بينهما مدخل. وقد وسعك الغفران!) وأملى كتابا إلى بعض عماله: (أما بعد، فلو كان نظرك فيما خصصناك به، واهتبالك به على حسب مواترتك بالكتب واشتغالك بذلك عن مهم أمرك، لكنت من أحسن رجالنا عناء، وأتمهم نظرا، وأفضلهم حزما. فأقلل من الكتب فيما لا وجه له ولا نفع فيه، واصرف همتك وفكرتك وعنايتك إلى ما يبدو فيه اكتفاؤك، ويظهر فيه غناؤك، إن شاء الله!) وكتب أحد الوزراء إليه كتابا في أمر. فوقع فيه (خفيف) : أنتَ يا نَضْر آبدَة ... لَسْتَ تُرجَى لِفائِده إنَّما أنْتَ عُدَّةْ ... لكَنيفِ ومائِدَهْ وكان - رحمه الله - تقيا نقيا. بنى الساباط من القصر إلى الجامع، محافظة منه على الصلوات. والتزم الصلاة مع الجماعة إلى جانب المنبر دائما حتى لقي ربَّه. وكان - رحمه الله - شاعرا مطبوعا؛ له أشعار حسان. فمن قوله يتغزل في صباه (متسرح) : ويَحي عَلَى شادِنٍ كَحبِلٍ ... في مِثْلِه يُخْلَعُ العِذَارُ كأنَّما وَجْنَتَاهُ وَرْدٌ ... خالَطَهُ النَّوْرُ والبَهَارُ قَضِيبُ بَانٍ إذا تَشَنَّى ... بُدِيرُ طَرفاً بهِ احْورَارُ فَصفْوُ وُدِّي عليه وَقفٌ ... ما اطَّرَدَ اللّيلُ والنّهارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ومن قوله أيضا في مثل ذلك - رحمه الله - (رجز) : يَا مُهجَةَ المُشتاقِ ما أَوجَعَكْ ... ويَا أسِيَر الحُبِّ ما أخضَعَك ويَا رَسُولَ العين مِنْ لَحظها ... بالرَّدِ والتبليغِ ما أسرَعَك تَذهَبُ بالسِّرِّ فَتاتِي بِهِ ... في مجلِسٍ تَخفى عَلَي مَن مَعَك كَم حاجةٍ أنجزتَ أسرارَها ... تَبَاركَ الرَّحمانُ مَا أطوَعَك ومن قوله في الزهد (كامل) : يَا مَن يُراوغه الأجَل ... حتى مَ بُلهِبكَ الأمَل حتَّى مَ لا تَخشَى الرَّدَى ... وَكَأنَّه بِكَ قد نَزَل أغفَلتَ عن طَلَبِ النَّجاةِ ... وَلا نَجَاةَ لِمَن غَفَل هَيهَاتَ يَشغلك المُنَى ... وَلَمَا يدومُ لَكَ الشَّغَل فكأنَّ يَومَك لم يَكُن ... وكأنَّ نَعيَك قَد نَزَل وله أيضا في الزُّهد (وافر) : أرَى الدُّنيا تَصِيرُ إلى فَنَاء ... وَمَا فيها لشيء من بَقَاء فبَادِر بالإنابة غير وَانٍ ... على شَئٍ يصِير إلى فَنَاء كَأنَّكَ قد حُمِلتَ على سَرِيرٍ ... وغُيبَ حُسنُ وَجهك في الثَّرَاء فَنَافِس في التُّقى واجنح إليه ... لَعَلك تُرضينَّ رَبَّ السَّماءِ ولم يزل - رحمة الله عليه - يرفع منار الدين، ويسلك سبيل المهتدين، لم تمنعه الفتن عن النظر لنفسه، والعمل ليوم فاقته وحلول رمسه. وكانوا يعدونه من أصلح خلفاء بن أمية بالأندلس، وأمثلهم طريقة، وأتمهم معرفة، وأمتنهم ديانة؛ إلا أنه كان منغص الحال بدوام الفتنة، وتضييق نطاق الخطة، ونقصان مقدار التزكية، حتى كان يتخلله الرياء تحت قناع تقواه، والبخل بطوقه طبيعة ليست له تحط من هواه؛ وغمض دينه لما كان من هوان الدماء عليه، بسبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الفتن الطارئة حتى من ولديه، آخذا لأكبرهما بالظنة. وقد صرح النقية أبو محمد بن حزم بذم هذا الأمير، وقال إنه كان قتالا تهون عليه الدماء مع كثرة إقباله على الخيرات، وإعراجه عن المنكرات؛ فإنه احتال على أخيه المنذر على إيثاره له، وواطأ عليه حجامه بأن سمَّ له المبضع الذي قصده به، وهو نازل بعسكره على ابن حفصون. ثم قتل ولديه معا بالسيف واحدا بعد واحد: قتل محمدا والد الناصر لدين الله ، وقتل أخاه المُطرف؛ ثم قتل أخوين له معا أيضا: قتل هشاما منهما بالسيف، والقاسم بالسم.) والله أعلم بحقيقة أمره.) خلافة أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد الناصر لدين الله نسبه: هو عبد الرحمن بن محمد، الذي قتله أخوه مطرف، ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي بن هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل. كنيته. أبو المطرف. لقبه: الناصر لدين الله. أمه: أم ولد تسمى مزنة. عمره: ثلاث وسبعون سنة وسبعة أشهر. ولي في اليوم الذي توفي فيه جده الأمير عبد الله وبويع فيه، وذلك يوم الخميس مستهل ربيع الأول سنة 300. وتوفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان المعظم سنة 350؛ فكانت خلافته خمسين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام. صفته: أبيض، ربعة، أشهل، حسن الجسم، جميل، بهي، يخضب بالسواد. قضاته: أحمد بن محمد بن زياد؛ ثم عزله وولي أسلم بن عبد العزيز بن هاشم؛ ثم أحمد بن محمد بن زياد ثانية؛ ثم أحمد بن بقي؛ ثم منذر بن سعيد البلوطي. نقش خاتمه: (عبد الرحمن بقضاء الله راض) . وكان أبوه وليَّ عهد أبيه عبد الله وأكبر بنيه؛ فقتله أخوه مُطرف، وقتله أبوه به. وقيل في ذلك كلام كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وكان مولد الناصر قبل قتل أبيه محمد بأحد وعشرين يوما، وذلك يوم الخميس لثمان بقين من رمضان سنة 277. وكان جده الأمير عبد الله يحظيه دون بنيه، ويومئ إليه، ويرشحه لأمره، وربما أقعده في بعض الأيام والأعياد مقعد نفسه لتسليم الجند عليه. فتعلقت آمال أهل الدولة به، ولم يشكوا في مصير الأمر إليه. فلما مات جده، أجلسوه مكانه في الخلافة دون ولده لصلبه، لما أراد الله من ضخامة الملك ونصر الإسلام وإبادة الشرك؛ اتفق له في ذلك ما لم يتفق لملك قبله ولا بعده. وكان يسكن القصر مع جده دونهم؛ فتهيأ إجلاسه دونهم مكانه بغير منازعة. وقيل إن جده رمى بخاتمه إليه إبانة منه لاستخلافه. فكان أول من بايعه أعمامه أولاد الإمام عبد الله، وهم: أبان، والعاصي، وعبد الرحمن، ومحمد، وأحمد. وتلاهم اخوة جده، وهم: العاضي، وسليمان، وسعيد، وأحمد. وكان أحمد متكلمهم. فلما بايعه، أقنى عليه بكل جميل. والناصر هذا هو أول من تسمى منهم بأمير المؤمنين، وتلقب بأحد الألقاب السلطانية، وهو الناصر ثم تسمى منهم من كان بعده من خلفائهم بإمرة المؤمنين وآثر اللقب السلطاني، وذلك حين هاجت الخلافة العباسية، وضعفت، وظهرت الدولة التركية والديلمية؛ فصارت إمرة المؤمنين لائقة بمنصبه، وكلمة باقية في عقبه. فاستهل الخطيب بجامع قرطبة أحمد بن بقيّ بن مخلد، بذكر هذا الاسم المخلد، يوم الجمعة مستهل ذي الحجة من سنة 316. وفي يوم ولايته يقول أحمد بن عبد ربه من قصيدة (بسيط) : بَدَا الهِلالُ جَديِدَا ... والمُلكُ غَضٌّ جَدِيدُ يا نِعمَةَ اللهِ زِيدِي ... فَمَا علَيكِ مَزِيدُ وولي، والأندلس جمرة تحتدم، ونار تضطرم شقاقا ونفاقا؛ فأخمد نيرانها، وسكن زلازلها، وغزا غزوات كثيرة. وكان يشبه بعبد الرحمن الداخل؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 ومن وقت دخوله الأندلس سنة 138 إلى ولاية عبد الرحمن الناصر، مات من بني أمية سبعة خلفاء وعبد الرحمن ثامنهم؛ ومات في المدَّة المذكورة من بني العباس اثنان وعشرون ملكا. وفي سنة 300، استخلف الإمام الناصر لبدين الله أمير المؤمنين عبد الرحمن ابن محمد - رحمه الله - يوم الخميس مستهل ربيع الأول سنة 300، وهو ابن ثلاث وعشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما. وكنيته: أبو المُطرف. وأمه: أم ولد تسمى مزنة. وجلس للبيعة في محراب المجلس الكامل بقصر قرطبة، وتولي أخذها له على الخاصة والعامة بدر بن أحمد مولاه، وموسى بن محمد بن حدير صاحب المدينة. وأحضر أعمامه، وأعمام أبيه، وطبقات قريش، وصنوف الموالي، وعامة الناس؛ فبايعوا مبايعة رضى واغتباط، بوجوه متهللة، وصدور منشرحة، وألبسة داعية شاكرة لله - عز وجل - على ما قلده من أمرهم، وأصاره إليه من رعايتهم، والذّبِّ عن حرماتهم؛ قد استبشر جميعهم بيمن نقيبته واعتلاء همته، ورجوا ما قد حققه الله لهم من بركة دولته، وصلاح الأحوال على يديه، وتجرده لاستئصال علق الفتنة، والتمهيد الطاعة. وكان الخلاف قد عم أقطار الأندلس، وطبق القاصي والداني منها، واستولي أهل النفاق على كورها ومعاقلها بفترة طاولتهم، وهمل تراخت أيامه بهم؛ فحسم الله - عز وجلَّ - منه على يديه ما سيأتي الخبر عنه، وتتصل الحاية له. وعهد - رحمه الله - بالكتاب ببيعته إلى الكور والأطراف. وولي في يوم مبايعته بدرا مولاه الحجابة مع الوزارة وخطة الخيل، إلى ما كان إليه من خطة البرد. وولي موسى بن محمد الوزارة، إلى ما كان إليه من خطة المدينة. وكان على الكتابة عبد الله بن محمد الزجالي؛ فأقره عليها، وأقر أحمد بن محمد ابن أبي عبدة على القيادة؛ وأقرَّ قاسم بن وليد الكلبي على الشرطة العليا؛ وكان مع ذلك خازنا؛ فصرف الخزانة عنه وولاها عبد الملك بن جهور. وولي الخزانة أيضا محمد بن عبيدة بن مبشر، ومحمد بن عبد الله بن أبي عبدة، وعزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 عنها عيسى بن شهيد، وولي مكانه سعيد بن سعيد بن حدير. وولي عمر بن محمد ابن غانم، وعبد الرحمن بن عبد الله الزجالي، ومحمد بن سليمان بن وانسوس خطة العرض. وولي محمد بن عبد الله الخروبي خزانة السلاح مع العقل، وحسين بن أحمد الكاتب خزانة السلاح أيضا، ويحيى بن إسحاق ومسلمة بن عبد القاهر المعرف بابن الشرح. ثم ولي - رضي الله عنه - عيسى بن أحمد بن أبي عبدة الشرطة العيا، وصرف عنها قاسم بن وليد الكلبي، وولي فطيس بن أصبغ خطة البيازرة، وصرفها عن الحاجب بدر بن أحمد، إلى أعمال وخطط ولاها من استحق عنده من مومليه ووجوه مواليه. وأخرج - رحمه الله - عباس بن عبد العزيز القرشي في قطيع من الجند إلى برابر كركي وجبل البرانس؛ وأخرج القائد أحمد بن أبي عبدة في من ضمَّ إليه من الجند إلى كورة قبرة لمعاجلة من كان في هاتين الجهتين من أهل الشرّ والفتنة. فالتقى عباس بن عبد العزيز بالفتح بن موسى بن ذي النون بقلعة رباح؛ فهزمه، وقتل كثيرا ممن كان انضوى إليه. وورد كتاب عبيد الله بن فهر عامل قلعة رباح يذكر ظفره بمحمد بن أرذبلش بناحية عمله؛ وكان من العصاة المفسدين؛ فقتله، وبعث برأسه؛ وكان أول رأس رفع لمارق في دولة أمير المؤمنين - رحمه الله -، وذلك يوم الأحد لعشر خلون من ربيع الآخر. وبدت تباشير الصنع، ودلائل الإقبال على أوائل نظره - رحمه الله ولثمان بقين من ربيع الآخر، ولي أمير المؤمنين - رضي الله عنه - أحمد بن محمد ابن حدير الوزارة والقيادة؛ وكان قبل ذلك يلي الشرطة الصغرى. وولي هذه الشرطة محمد بن محمد بن أبي زيد. وأجرى الرزق على عبد الرحمن وعبد الله ابني بدر الحاجب، وذلك لكل واحد منهما ثلاثون دينارا وازنة. وولي إسماعيل بن بدر كتابته خاصة، أرتبه لها. وولي - رحمه الله - جهور بن عبد الملك الوزارة وولاَّها أيضا عبد الله بن مضر. وولي عبد الرحمن بن بدر الخيل، وعبد الله بن محمد بن عبد الخالق بن سوادة قضاء كورة إلبيرة. وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أول قاض خرج إلى كورة في أيامه - رحمه الله - ولأربع بقين من ربيع الآخر، عزب أحمد بن محمد بن أبي عبدة عن الوزارة والقيادة، وابنه عيسى بن أحمد عن الشرطة العليا، وصرف إليها قاسم بن وليد الكلبي؛ وعزل محمد بن وليد ابن غانم عن الوزارة، وعمر بن محمد بن وليد عن العرض. وفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولي، افتتحت مدينة إسنجة، ودخلها الحاجب بدر بن أحمد والوزير أحمد بن محمد بن حدير؛ وكان أول موضع افتتح في أيام الناصر - رحمه الله -؛ وضبطت المدينة، وهدم سورها. وبقى أحمد بن محمد الوزير قائدا بها ومسكنا لأحوال أهلها. وولي عمالتها حمدون بن بسيل. وفي يوم السبت لسبع بقين من جمادى الأولي منها، ولي الوزارة محمد بن عبد الله بن أمية. ولست خلون من جمادى الآخرة، طلب رجل من المفسدين، يعرف بمحمد ابن يونس الجيانيّ: كان محبوسا في أيام الإمام عبد الله - رحمه الله -؛ فأطلقه أمير المؤمنين الناصر رضه - بعد أن عاهد الله ألا يواقع منكرا؛ فنكث، وخرج يبغي الفساد في أيامه - رحمه الله! ولتسع بقين من جمادى الأخرى، عزل أحمد بن محمد بن زياد عن قضاء الجماعة بقرطبة، وعن الصلاة، لأمور أنكرت عليه. وتولي القضاء أسلم بن عبد العزيز، والصلاة محمد بن عمر بن لبابة الفقيه. وفيها، كانت غزاة أمير المؤمنين - رحمه الله - إلى معاقل جيان، وهي أول غزواته: برز الناصر - رضي الله عنه - من قصر قرطبة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 300، وفصل غازيا إلى كورة حيان يوم السبت لسبع خلون من رمضان بعد بروزه بثلاثة وعشرين يوما. واستخلف في القصر موسى ابن محمد بن حدير الوزير صاحب المدينة، وعبد الرحمن بن بدر، ونهض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 - رضي الله عنه - في جيوش كثيفة وعدد كاملة. وكان قد نزع إليه قبل فصوله محمد ابن فروة صاحب أبذة في جملة فرسانه؛ فتقبلهم أحسن قبول، وأنزلهم أتم إنزال؛ وصاروا في جملة رجاله ومن يضمه عسكره. وسار - رحمه الله - لوجهه. فلما احتل بحصن مارتش من عمل جيان، ورده الخبر بمضايقة عمر بن حفصون لأهل حاضرة رية، وأنه أطمع نفسه عند تخاذلهم بانتهاز الفرصة فيهم. فوجه لتلافي ذلك سعيد بن عبد الوارث، في قطيع من الجند، وأمره أن يغذ السير، ويطوي المراحل، حتى يحتل مدينة مالقة، ويقطع بابن حفصون عما كان رامه منها وأطمع نفسه فيها؛ فتوصل القائد إلى الموضع، وضبطه، وحمى تلك الجهة عن ابن حفصون وحزبه. ونهض أمير المؤمنين - رحمه الله - إلى حصن المنتلون واحتله يوم الأحد للنصف من شهر رمضان؛ وحارب سعيد بن هذيل فيه حتى افتتحه يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت منه. وأنزل سعيد بن هذيل من الحصن، وأوسعه الأمان. وولي عمله محمد بن عبد الوهاب. ثم تقدم - رحمه الله - إلى حصون شمنتان؛ فاستأمنه عبيد الله بن أمية بن الشالية، وإسحاق بن إبراهيم صاحب منتيشة، وعكاشة بن محصن صاحب وادي بني عبد الله، وسلمة بن عرام صاحب بحيلة، ومنذر بن حريز صاحب بغتويرة، وأفلح بن عروس صاحب بكور، وفحلون ابن عبد الله صاحب سانة؛ ونزلوا عن معاقلهم إليه، وكلهم مذعن بطاعته ومحكم في نفسه؛ فأوسعهم أمير المؤمنين - رحمه الله - فضله، وألبسهم عفوه، وأخلى تلك المواضع منهم، وقدم أولادهم ونساءهم إلى قرطبة. واستعمل في الحصون ثقات رجاله. واستنزل عبد العزيز بن عبد الأعلى من حصن الشارة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 ودحّثون بن هشام. ثم انتقل - رحمه الله - منها إلى كورة إلبيرة. فلما احتلها، تداعى أهل حصون تاجلة وبسطة ومربيط والبراجلة والأسناد إلى النزول والطوع، وأخلوا حصونهم. فأحكم الناصر - رحمه الله - أمر ذلك الجانب كله، وضبط المعاقل برجاله، وأتقن الجميع بنظره. ثم انتقل - رحمه الله - إلى حصون وادي آش؛ فأخلى أكثرها رهبة له، ونزل على حصن فنيانة يوم الخميس لأربع خلون من شوال؛ وكان فيه من شيعة ابن حفصون من آوى أهله وأضلهم؛ فتمنعوا من النزول، ورجوا أن يعتصموا بوعر الحصن؛ فأحاطت العساكر بهم، وأضرمت أرباضهم نارا؛ فضرعوا في قبول الإنابة، على أن يسلموا من كان عندهم من شيعة ابن حفصون؛ فاجيبوا إلى ذلك، وتقبض على أصحاب ابن حفصون، وشدوا وثاقا. ثم انتقل أمير المؤمنين يتقرى تلك المعاقل بجهة بشيرة وأجبلها، حتى توغل بالعساكر في جبل الثلج، وهو ممتنع السلوك؛ فجازه الناس، ويسر الله ذلك عليهم، وسهله لهم. وافتتحت حصون تلك الجهة، ولم يبق بها معقل ممتنه. واتصل بأمير المؤمنين - رحمه الله - إنَّ ابن حفصون أقبل في جماعة أصحابه إلى حاضرة إلبيرة، طامعا في انتهاز الفرصة فيها. فأخرج عباس بن عبد العزيز قائدا نحوه. فلما قرب من مدينة غرناطة، أقبل ابن حفصون لما كان رجاه وطمع به؛ فخرج أهل إلبيرة واثقين بالمدد الذي وردهم، والقائد المصرح لهم؛ فهزموا ابن حفصون، وقتلوا جماعة من رجاله، وأسروا عمر بن أيوب حفيده. وجرح أحد أولاده جراحا أثخنته. وتقصى أمير المؤمنين - رحمه الله - ما كان بقي من معاقل تلك الجهة، حتى احتل بحصن شبيلش؛ وكان من أعظم حصون ابن حفصون منعة، وأصعبها مراما، وأوعرها مكانا؛ وإليه كان انضوى كلُّ مشرك تفلت من الحصون المتقدمة الذكر فاحتلت العساكر عليه يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال؛ فقطعت ثمارهم، واستهلكت زروعهم ومعايشهم؛ وحوصروا خمسة عشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 يوما، حتى نادوا بالطاعة، وضرعوا في قبول الإنابة؛ وأسلموا أصحاب ابن حفصون الذين كانوا عندهم؛ فتلقى ذلك أمير المؤمنين - رحمه الله - بالقبول، وأخرج إليه جميع من كان في الحصن من المشركين؛ فأمر بضرب رقابهم حتى أبيحوا عن آخرهم. ثم أمَّ - رحمه الله - مدينة شلوبينية، وفعل فيها مثل فعله فيما تقدم ذكره؛ وضبط برجاله كل حصن افتتحه. وانحسم الداء في كورة إلبيرة، وتألفت كلمتهم، واستقامت طاعتهم. وصدر - رحمه الله - قافلا على طريق حصن أشنبين وحصن بنة فراطة؛ وكانا قد أضرا بأهل غرناطة وحاضرة إلبيرة، وهما في غاية الحصانة والمنعة. فنزلت الجيوش عليهما، وأحدقت بهما؛ وحوربوا أشد محاربة وأنكاها عشرين يوما. ثم أخذت عليهم الحصون وشحنت بالرجال. وقفل أمير المؤمنين - رحمه الله - بعد إيعابه النظر في كلّ ما شخص له من استصلاح أمر كورة جيان وإلبيرة وما والاهما، ودخل القصر بقرطبة يوم الأضحى؛ وقد استتم في غزاته اثنين وتسعين يوما. وفي هذه السنة، توفي هشام بن محمد القرشي المعروف بابن الشبانسية. وفي سنة 301، توفي بإشبيلية عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج صاحبها، في المحرم؛ فاجتمع أهلها على تقديم أحمد بن مسلمة مكانه؛ وكان من الشجعان فأخرج أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - أحمد بن محمد بن حدير الوزير قائدا نحوها؛ فكان أول من حاربها وأوقع بأهلها. وكان محمد بن إبراهيم بن حجاج عند ذلك بمدينة قرمونة؛ فقصد باب السدة، وعرض نفسه على أمير المؤمنين لمحاربة أهل إشبيلية. فأخرجه لذلك مع قاسم بن وليد الكلبي؛ وحاصراها شهورا. ثم خرج إليها الحاجب بدر بن أحمد؛ فدخلها يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولي من هذه السنة، وهدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 أسوارها، واستصلح أمور أهلها، وأخرج مع نفسه سعيد بن المنذر عاملا عليها. وفيها، ولي محمد بن سليمان بن وانسوس الوزارة. ووليها أيضا عيسى بن أحمد بن أبي عبدة. وولي محمد بن عبد الله الخروبي، ومحمد بن أحمد بن حدير، وفند الكبير، ودرى مولي الناصر خطة العرض. وعزل عمر بن أحمد ابن فرج عن السوق، وصرف النظر فيها إلى محمد بن عبد الله الخروبي؛ وذلك في ربيع الآخر. وولي أحمد بن مسلمة الشرطة العليا. واستقدم محمد بن إبراهيم بن حجاج من مدينة قرمونة، وولي الوزارة، وقعد مع الوزراء يوما واحدا. واستقدم سعيد بن المنذر من إشبيلية، ووليها فطيس بن أصبغ في شعبان وأعيد إلى الشرطة العليا قاسم بن وليد الكلبي. وولي خزانة المال موسى بن سليمان الخولاني المعروف بأبي الكوثر، وعبد الملك بن سليمان أخوه خزانة السلاح. وفي هذه السنة، افتتح أهل الثغر حصن قلهرة؛ وكان بأيدي المشركين؛ وذلك يوم الأربعاء لثمان عشرة ليلة خلت من ذي القعدة. وفيها، كانت محاصرة لبّ بن محمد مدينة سرقسطة، وبنيان الردم عليها. وفيها، قتل محمد بن عبد الملك الطويل. وفيها، خرج الناصر غازيا إلى كورة رية والجزيرة وقرمونة، وهي الثانية من غزواته: برز - رحمه الله - من قصر قرطبة يوم الخميس لثمان خلون من شهر رمضان، وفصل غازيا لثمان خلون من شوال. وتخلف في القصر موسى بن محمد ابن حدير صاحب المدينة. وكانت الكتب تنفذ إلى هشام الولد - رضي الله عنه -، وهو ضغير. فكان أوَّل مقصده حصن طرش، بعد أن قدم حاجبه بدر بن أحمد في قطيع من الجند إلى حصن بلدة؛ فألقى أهله غرَّة، وقتل منهم، وسبى، وأسر جملة كثيرة. واحتل الناصر - رضي الله عنه - بجيوشه على حصن طرش يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال؛ فحصر من كان فيه، وأقام عليه خمسة أيام، يغاديهم الحرب ويماسيهم، ويقطع ثمارهم، ويحطم معايشهم، ويقتل من تظاهر منهم. ثم أبقى عليها من يحاصرها، وتنقل إلى حصون رية ومعاقل ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 حفصون، يتتبعها معقلا معقلا، وينزل نأسه ومعرة جيوشه بكل ما ينزل به منها. وأوقع بابن حفصون ومن انحشد إليه من النصرانية في حصن طرش وقبعة عظيمة ذهب فيها كثير منهم. وبعث برؤوسهم إلى قرطبة. وألقيت للمشرك عمر بن حفصون مراكب في البحر، كانت نميره من العذرة؛ فأحرق جميعها. وسارع كل من كان بتلك الناحية من أهل شانر، وفج وسيم، وقلبيرة، والقصر، وما انتظم بها من أحواز الجزيرة إلى الدخول في الطاعة والاعتصام بها من الهلكة؛. فقبلهم الناصر - رضي الله عنه - وأمنهم، وسكن أحوالهم. وتنقل منها إلى حاضرة الجزيرة؛ ثم إلى كورة شذونة؛ ثم إلى كورة مورور، حتى أوفى على مدينة قرمونة؛ فاحتلها يوم الثلاثاء مستهل ذي الحجة. وكان حبيب بن سوادة قد أظهر الخلاف فيها عند قدوم محمد بن إبراهيم بن حجاج قرطبة؛ فنازلته جيوش أمير المؤمنين - رحمه الله - وحوصر بها عشرين يوما، حتى عضته النكاية، وأخذت بمخنقة المحاصرة؛ ثم استأمن؛ فأمن، وسأل أن يمهل لانتقال أهله وثقله إلى قرطبة؛ فأجابه الناصر - رحمه الله - إلى ذلك، ولم يرهقه من أمره عسرا؛ وقفل إلى قرطبة؛ فدخلها يوم الأثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة وقد استتم في غزاته اثنين وثمانين يوما. وفي هذه الغزاة، بعث في قاسم بن وليد الكلبي صاحب الشرطة، وكان قد خلف قرطبة؛ فسجن وسجن معه محمد بن إبراهيم بن حجاج، ومحمد بن وهيب، وعبيد الله بن محمد الرهانيُّ، وسكن بن جديدة. وعزل ابن مسلمة عن الشرطة العليا، ووليها عباس بن أحمد بن أبي عبدة. وفيها، استقود الناصر عيسى بن أحمد بن أبي عبدة، وأعاده إلى كورة إشبيلية. وفي هذه السنة، توفي عبد الله بن محمد الزجالي الوزير الكاتب، في ربيع الأول؛ فولي رسم الكتابة عبد الله بن بدر؛ وكان سكن بن إبراهيم، وعمر بن ناجيت كاتبي بدر الحاجب يقيمان خدمة الكتابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وفيها، توفي العاصي ابن الإمام محمد - رحمه الله - في ربيع الأول، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وتوفي عباس بن عبد العزيز القرشي في جمادى الأولي. وتوفي الوزير أبو الحارث سلمة بن علي، ومحمد بن وليد بن غانم الوزير، وأيوب بن سليمان بن صالح الفقيه، وسعيد بن خمير الفقيه. وفيها، قتل ببرشلونة عبد الملك بن عبد الله بن شبريط. وأغار المشركون بوادي الحامة في الثغر. وكانت ملحمة أرنيط يوم الأحد لعشر بقين من شعبان؛ وهلك فيها غرسية بن إذفنش صاحب حجليقية؛ وصار الأمر إلى أخيه أردون ابن إذفنش. وفي سنة 302، كانت ولادة أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله - أطال الله بقاءه - ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد - رضي الله عنه - وذلك يوم الجمعة مستهل رجب وقت أذان الظهر. وفيها، أغزى أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - في الصائفة عمه أبان ابن الإمام عبد الله؛ ففصل في شوال إلى كورة رية، وتردد بالجيوش فيها، ونازل حصونها، وحطم زروعها، وقطع ثمارها. وفيها، أمحل الناس، وتوالى القحط وعمَّ. فبرز إلى مصلى الربض محمد بن عمر بن لبابة صاحب الصلاة، واستسقى بالناس خمس مرات في أيام مختلفة؛ فلم تكن سقيا؛ وغلت الأسعار، وقلت الميرة في الأسواق. ثم برز أحمد بن أحمد ابن زياد للاستسقاء بالناس يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، وهو أول شهر مايه؛ فنزل رذاذ تماسك به بعض الزرع، وذهب الأكثر. وكان القحط عاما شاملا بالأندلس وأطرافها وثغورها؛ وغلت الأسعار في جميع جهاتها. وفي هذه السنة، قدم الناصر - رحمه الله - محمد بن عبد الله الخروبي من ولاية السوق إلى ولاية المدينة، وعزل عنها موسى بن محمد بن حدير. وولي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 السوق أحمد بن حبيب بن بهلول، وذلك يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال؛ وفي هذا اليوم عزل عبد الله بن بدر عن الكتابه، ووليها عبد الملك بن جهور؛ وعزل محمد بن محمد بن أبي زيد عن الشرطة الصغرى ووليها يحيى بن إسحاق. وفيها، عزل عبد الرحمن بن بدر عن خطة الخيل، ووليها عبد الله بن مضر. وفيها، ولي المواريث قند ودرى موليا أمير المؤمنين الناصر. وفي يوم الأحد مستهل ذي الحجة، قتل عباس بن أحمد بن محمد بن أبي عبدة صاحب الشرطة العليا؛ وكان أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - قد أرتبه على محاصرة منت روبي؛ فواقعته ضربة في حرب باشرها وغرَّر بنفسه فيها. فولي الناصر أخاه عبد الله بن أحمد بن محمد الشرطة العليا، وولي محمد بن محمد ابن أبي عبدة خزانة المال. وفيها، توفي مروان بن المنذر ابن الإمام عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله - يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة؛ وكان قد توفي قبله عمر ابن الإمام عبد الرحمن لست بقين من جمادى الأولي. وفيها، توفي سعيد بن السليم؛ وكان حاجبا في أيام الإمام عبد الله - رحمه الله - وكانت وفاته لأربع خلون من ربيع الآخر. وتوفي النضر بن سلمة، وكان قاضيا في أيام الإمام عبد الله، وذلك يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة. وفيها، توفي عبيد الله بن محمد بن أبي عثمان لثلاث خلون من شهر رمضان. وتوفي حمدون بن بسيل في شعبان، وعبد الله بن محمد بن عبد الخالق الغساني قاضي إشبيلية لست بقين من جمادى الأولي. وتوفي الفقيه خالد بن وهب يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الآخر؛ وفيها، توفي محمد بن يحيى النحوي المعروف بالقلفاط في جمادى الآخرة؛ وكان من العلماء الحفاظ والشعراء الفصحاء؛ وكان هجاء للناس، سبابة للأشراف، كثير البذاء والسفه في شعره. وفي سنة 303، كانت المجاعة بالأندلس، التي شبهت بمجاعة سنة ستين؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وبلغت الحاجة بالناس مبلغا لا عهد لهم بمثله؛ وبيع قفيز قمح بكيل سوق قرطبة بثلاثة دنانير دخل أربعين. ووقع الوباء في الناس، وكثر الموتان في أهل الفاقة والحاجة، حتى كاد أن يعجز عن دفنهم. وكثرت صدقات أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - على المساكين في هذا العام، وصدقات أهل الحسبة من رجاله؛ فكان الحاجب بدر بن أحمد أكثرهم صدقة، وأعظمهم بماله مواساة. ولم يمكن في هذا العام، لضيق الأحوال فيه، أن يكون غزاة أو إخراج جيش، غير أنَّ الناصر - رضه - أخذ بالجدّ والحزم في ضبط أطرافه، والتحفظ بالمسلمين من عادة أهل الخلاف والخلعان، إذ كانوا مع استيلاء الجوع يغاورون من قرب منهم، ويغدرون على من مر بهم من رفاق المسلمين وطالبي المعاش ومستجلبي المير. وفي هذه السنة، ولي إسحاق بن محمد القرشي الوزارة؛ وكان ذا رأي وعناء. وفيها، ولي محمد بن محمد بن أبي زيد الشرطة العليا؛ وكان يلي الشرطة الصغرى من قبل. وفي هذه السنة، توفي أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. وهو ابن خمس وخمسين سنة؛ ودفن بمقابر قريش في الربض. ومات فيها لأمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - ولدٌ يسمى هشاما ويكنى بأبي الوليد؛ وكان بكر ولده. وتوفي فيها أحمد بن هشام ابن الإمام عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله - يوم الجمعة لعشر بقين من شوال؛ والقرشي العثماني الطارئ من المشرق في أيام الإمام عبد الله بن محمد - رحمه الله - وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رمضان. وتوفي القرشي العبدي لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شعبان. وتوفي يحيى بن إسحاق بن يحيى بن أبي عيسى الفقيه؛ وكانت له رحلة روى فيها الحديث؛ ولم يكن بالثقة، غير أنه كان نبيلا مفوَّها. وتوفي فيها الفقيه النميري، واسمه أحمد بن عبد الله بن فرج. وتوفي أحمد بن بيطير الفقيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 يوم الخميس لليلتين هلتا من ذي الحجة. وتوفي فيها مفوز بن غريب. وفيها، أسر مطرف بن محمد بن لب بن قسي؛ أسره العدو بالثغر. وفيها، توفي بالثغر عبد الله بن محمد بن لب بن قسي؛ وكان من أهل البأس والشجاعة والنكاية للعدو. وقتل ابنه محمد بن عبد الله عمه مطرفا. ووقعت بين بني لب فتون وحروب، واختلف أمرهم. ومات في هذا العام بقرطبة جملة من وجوهها وبياض أهلها، يطول الأخبار عنهم والاجتلاب لهم، إلى من مات في الكور والمواضع البعيدة ممن لم يأخذه إحصاء ولا عد. وكانت للعدو مع بني قسي جولات في الثغر هذا العام. وفي سنة 304، كان إغزاء أمير المؤمنين الناصر لدين الله - رضي الله عنه - أحمد بن محمد بن أبي عبدة القائد إلى أرض الحرب. وفصل يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم، وهو اليوم الثامن عشر من يوليه، وضم إليه من الموالي والأجناد عدد كثيرا. ودخل أرض المشركين؛ فبكى، وغنم، وسبى؛ وخرج من أرض العدو بالمسلمين سالمين غانمين. وفيها، ولي عبد الحميد بن بسيل الخزانة. وفيها، غزا إسحاق بن محمد القرشي إلى كورة تدمير؛ فافتتح حصن أوربوالة واستصلح أحوال أهل الكورة. وفيها، ولي فطيس بن أصبغ الخزانة ولايته الأولى. وفيها، غزا الحاجب بدر بن أحمد إلى مدينة لبلة؛ فحاصرها وافتتحها يوم الاثنين لعشر بقين من شهر رمضان. وفيها، عزل عبد الملك بن جهور عن الكناية، ووليها عبد الحميد بن بسيل؛ ولم يطل أمد ولايته؛ ثم أعيد إليها عبد الملك بن جهور. وفيها، ولي إسماعيل بن بدر العرض. وفيها، نُقل عليُّ بن حسين عن خزانة السلاح إلى خطة العرض، لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر. وفيها، ولي العرض محمد بن عبد الله بن مضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وفيها، توفي منذر ابن الإمام المنذر - رحمه الله - سلخ شعبان؛ وكان مولده بعد موت أبيه إلى ستة أشهر؛ وعبد الملك بن حوزة القرشي، يوم الثلاثاء لتسع خلون من ربيع الآخر؛ وأخوه الأحدب، وكان يتنجم، في عقب ربيع الآخر؛ والعارض صاحب المواريث قند مولى أمير المؤمنين الناصر، يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب؛ فولي مكانه المواريث إسماعيل بن بدر. وتوفي المؤدب محمد بن أرقم يوم الجمعة لست خلون من رجب؛ وفيه توفي الولد محمد ابن أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - والولد سليمان الأكبر. وفي عشر خلون من شوال من هذا العام، ولد الولد أبو مروان عبيد الله شقيق أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله - أيده الله! وفيها، توفي الفقيه الزاهد أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الزراد لأربع خلون من جمادى الأولي؛ مولده سنة 242؛ وكان قد روى علم ابن وضاح. وتوفي الفقيه المحدث طاهر بن عبد العزيز الرعيني. وتوفي أبو القاسم محمد بن عبد السلام بن قلمون ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر؛ وكان نبيلا، مرسلار، حسن الخط؛ وولي الخزانة؛ وكان له لسان وبيان. وفي سنة 305، غزا بالصائفة إلى دار الحرب أحمد بن محمد بن أبي عبدة الوزير القائد؛ وفصل يوم الاثنين لعشر خلون من صفر. وخرج معه طبقات الناس من المجاهدين وأهل الديوان؛ وحشد إليه رجال الثغر؛ فدخل أرض العدو في جمع كبير، ونازل حصن قاشتر مورش الأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وجد المسلمون في محاربة المشركين حتى كانوا قد أشرفوا على الظفر بمن كان في الحصن؛ فاحتشدت النصرانية من جميع جهاتها ممدين لكفرتهم، ومجلبين على المسلمين بخيلهم ورجلهم. فتداعى بعض أهل المداهنة في الدين من أهل الثغر إلى إظهار الهزيمة وجروها على المسلمين؛ فانهزم كثير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 منهم. وثبت القائد أحمد بن محمد بنفسه، وأظهر الصبر، ودافع مدافعة الموطن. وقيل إنه كان قد اعتقد مذهبا في طلب الشهادة؛ فاستشهد القائد المذكور الأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. واستشهد من المسلمين معه من آثر الشهادة ورغب عن خزي الفرار. ولم يول المشركين دبرا، ولا أراهم نكوصا ولا فرارا. وانعقد سائر أهل الجيش، وصاروا يدا واحدة؛ فسلموا وخرجوا إلى أرض المسلمين بدوابهم وأثقالهم وأبنيتهم. وفيها، غزا إسحاق بن محمد الوزير إلى مدينة قرمونة؛ فحاصر فيها حبيب بن عمر، وضايقه، وأخذ بمخنقه. ثم خرج إليها الحاجب بدر بن أحمد؛ فتمادى على حصارها حتى فتحها قسرا، ودخلها يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر. ذكر موت عمر بن حفصون وفي هذه السنة، هلك عمر بن حفصون، عميد الكافرين، ورأس المنافقين، وموقد شعل الفتنة، وملجأ أهل الخلاف والمعصية. فعد هلاكه من أسباب الإقبال، وتباشير الصنع، وانقطاع علق المكروه. ولما توفي افتتحت أبذة إلبيرة، وهي المعروفة بأبذة فروة؛ وكان فيها سليمان بن عمر بن حفصون؛ فاستنزل عنها، وقدم به قرطبة يحيى بن إسحاق في شوال؛ فأنزل وتوسع له. وفيها، ولي الوزارة عبد الملك بن جهور يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وفيها، توفيت البهاء بنت الإمام عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله - في رجب؛ فلم يتخلف أحد عن جنازتها. وتوفيت للناصر - رضي الله عنه - ابنة تسمى بعائشة. وفيها، توفي سعيد بن عبد الوارث الأيسر؛ وكان من أهل الشجاعة والعناء في الخدمة. وتوفي الفقيه محمد بن إبراهيم المحدث الحجازي. وتوفي عمر بن أحمد بن فرج؛ وكان كاتب الرأي؛ وولي السوق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وفي هذه السنة، حشد أرذون بن إذفنش، وشائجه بن غرسية صاحب النصرانية، بجليقية وبنبلونة، وخرجها في جموعهم واحتفال من كفرتهم إلى مدينة ناجرة بالثغر الأقصى؛ فنزلا عليها في عقب ذي الحجة، وأقاما عليها ثلاثة أيام. وعانت النصرانية في ذلك الثغر. وأفسدت الزروع؛ ثم تنقلت إلى تطيلة. وبلغ العدو إلى نهر مالس، وجزائر مسقبرة، ووادي طرسونة. وخلف شانجة نهر إبرة، وقاتل حصن بلتبرة، وقهره على أهل الربض، وأحرق المسجد الجامع؛ فكان ذلك مما أحفظ الناصر وحركة لمجاهدتهم والأنصار منهم، على ما سيأتي ذكره. غزوة مطونية وفي سنة 306، كان غزاة الحاجب بدر بن أحمد إلى دار الحرب، وهي عزاة مطزنية. وكان أمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - لما اتصل به تطاول المشركين على من كان بازائهم من أهل الثغور بامتناع الصوائف عن غزوهم، والإيغال في بلادهم بالحرب المتقدم الذكر، أحفظه ذلك، وأذكى عزمه، وأكد بصيرته في مجاهدة أعداء الله وأعداء دينه في هذا العام؛ فأمر بالاحتفال في الحشد وجمع الرجال والتكثير من الأجناد والفرسان الأبطال. وعهد إلى حاجبه بالغزو بنفسه في الصائفة. ونفذت كتبه إلى أهل الأطراف والثغور بالخروج إلى أعداء الله، والدخول في معسكره، والجدّ في نكاية أهل الكفر، والإيقاع بهم في أواسط بلادهم، ومجتمع نصرانيتهم. ففصل الحاجب بالجيوش، يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرَّم؛ وانثالت إليه العساكر من كل جهة في أٌرب ثغور المسلمين؛ ودخل بهم دار الحرب، وقد انحشد المشركون، وتجمعوا من أقاصي بلادهم، واعتصموا بأمنع أجبلهم؛ فنازلهم الحاجب بدر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 أحمد بأولياء الله وأنصار دينه؛ فكانت له على أعداء الله وقائع اشتفت فيها صدور المسلمين، وانتصروا على أعداء الله المشركين. وقتل في هذه الغزاة من حماتهم، وأبطالهم، وصلاة الحروب منهم، جملة عظيمة لا يأخذها عدٌّ، ولا يحيط بها وصف. وكان الفتح يوم الخميس لثلاث خلون من ربيع الأول ويوم السبت لخمس خلون من ربيع الأول، في معارك جليلة، لم يكن أعظم منها صنعا، ولا أكثر من أعداء الله قتيلا وأسيرا. وورد الكتاب بذلك على أمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ فأكثر من شكر الله عز وجل على ما منَّ به، وفتح فيه. وقُرى (كتاب الفتح) في الجوامع وكتب به إلى الأطراف. وفي يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، في العام المؤرخ، ولد أبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الرحمن، شقيق أمير المؤمنين المستنصر بالله - أيده الله -. غزاة الناصر لدين الله إلى بلدة وفي شهر ذي الحجة من هذه السنة، غزا الناصر بنفسه مدينة بلدة من كورة رية؛ فبرز لها يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة؛ وفصل يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة بعد بروزه بستة وعشرين يوما؛ وتخلف في القصر بقرطبة ابنه وولي عهده وقبلة الآمال من بعده، أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله - ومن الوزراء موسى بن محمد بن حدبر. فلما قرب الناصر من مدينة بلدة، قدم من ثقات رجاله، وإخفاء أجناده من يمنحن إمكان زرعها وموضع المضطرب عليها؛ فألقى الزرع متأخرا؛ وأتته الأنباء بإمكان زروع فحص رعين؛ فرأى التعريج إليه بعد أن أمر بابتناء صخرة فوزان، لتكون موفية على بسيط بلدة. ثم ارتحل إلى حصن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 دوش امانتش؛ فنازله وحاربه حتى افتتحه. ثم نهض إلى مدينة بلدة؛ فاحتلها يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذي الحجة، وأحاطت العساكر بها؛ فتداعى من كان من المسلمين فيها إلى النزول بأنفسهم وذراريهم؛ وذكروا أنهم كانوا مغلوبين على أمرهم؛ فأمنهم الناصر، وقاتل الكفرة المتغلقين في المدينة، حتى أظفره الله بهم؛ فقتلوا عن آخرهم وملكت المدينة، وتدب فيها الرجال. ثم انتقل إلى حصون رية، يتقرَّاها معقلا معقلا، ويفتتح ما مر به منها. ونزل على جبل ببشتر؛ فحاصر أهله، وقطع ثمراتهم، واستبلغ في نكايتهم؛ فسأله جعفر بن عمر بن حفصون قبض رهائنه، استيثاقا من طاعته، على أن يؤدى من الجباية ما فرض عليه؛ فأجابه الناصر إلى ذلك، وفيضت رهائن جعفر وشيعته، وصارت في قبضته وداخل معسكره. ثم قفل الناصر لدين الله عن جبل ببشتر، ودخل القصر لثلاث بقين من المحرم من سنة 307، وقد استتم في غزاته أربعين يوما. وفي هذه السنة، عهد الناصر بعمل الفوَّارة إزاء باب القصر المعروف بباب العدل، وإقامة محراب مصلى المصارة بقرطبة. وفيها، توفي عبد الله بن كليب بن عبد السلام، لخمس خلون من ربيع الآخر. وفيها، توفي للناصر ابن يسمى بمحمد، ويكنى بأبي القاسم. وفيها، توفيت رقية ابنة الإمام محمد. وتوفي فيها موسى بن أزهر الفقيه الإسنجي لثلاث خلون من ربيع الأول؛ وكان من أهل الفصاحة والبيان والخط الحسن. وتوفي فيها حزب الله بن رباعي بن عبد الله الخشني الزاهد، وكانت له رواية. وفي سنة 307، كان احتلال الناصر أمير المؤمنين بمدينة ببشتر، على ما تقدم ذكره في العام قبله، ودخوله قرطبة قافلا من غزاته في التاريخ المتقدم ذكره. وفي هذه السنة، افتتح حصن طرش؛ وكان فيه عبد الرحمن بن عمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 حفصون؛ فأسلم الحصن إلى رجال أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ودخل قرطبة؛ فأنزل ووسع عليه. وكان غير داخل في الحرب والفتنة مدخل أبيه؛ وإنما كان صاحب كتب، وكان حسن الخط ضعيف العقل. قال عريب: وقد صار بعد ذلك وراقا. وفيها، ولي أمير المؤمنين الناصر محمد بن عبد الله بن محمد الزجالي خزانة المال لتسع خلون من شهر رمضان. وفيها، توفي محمد بن أحمد بن زياد، يوم السبت لأربع عشرة خلت من رجب؛ وكان جارا لمحمد بن وضاح الفقيه؛ فأوصى أن يصلي عليه؛ فقام له بذلك ذكر. وفيها، مات محمد بن سليمان بن وانسوس الوزير، يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان. وفيها، مات حمدون بن بسيل وفيها، أمر الناصر بقتل موسى بن زياد، ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر؛ وكان قد ولي الوزارة في أيام الإمام عبد الله، وكثرت مطالبته للناس، ورفعه عليهم، وتحككه بهم؛ وكان يجاهر بكراهة أمير المؤمنين الناصر، ويرفع عليه إلى جده - رحمهما الله -، ويغري الإمام عبد الله برجاله؛ فحبسه أمير المؤمنين الناصر في يوم بيعته؛ ولم يزل محبوسا إلى أن أمر بقتله؛ وقتل معه حبيب بن عمر بن سوادة، وولداه، ومحمد بن وليد المعروف بالغليلي؛ وكانت لهم ذنوب وجرائم أحردته عليهم. غزاة مويش وفي سنة 308، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش؛ فبرر - رحمه الله - لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة 307؛ ثم فصل غازيا من قصر قرطبة يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 308، وهو اليوم الثالث من شهر حزيران، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ذلك بعد بروزه بثلاثين يوما. وتخلف في القصر ولي عهده الحكم أمير المؤمنين المستنصر بالله - أيده الله -. ومن الوزراء موسى بن محمد بن حدير. فلما كان في اليوم الرابع من فصوله، ونزل بمخاضة الفتح، ورد عليه بها كتاب فتح من قبل عامل مدينة الفرج، يذكر أن المشركين من أهل جليقية أتوهم في جمع كثير؛ فأغاروا على ما لاقوه في بسيطهم من الدواب والسوام، ثم عرجوا على حصن بقربهم، يعرف بالقليعة؛ فأحدقوا به طامعين في التغلب عليه؛ فانحشد إليهم جميع أهل المدينة بفارسهم وراجلهم، وواضعوهم القتال بأثبت بصائرهم؛ فمنحهم الله - عز وجل - أكتاف الكفرة، وأطال أيديهم عليهم؛ فقتلوا وأسروا كثيرا منهم، واتبعوهم من أول النهار إلى آخره، والسيف يعمل فيهم، وبعثوا بجملة من رؤوسهم؛ فاستبشر الناصر بما ورده وتفأل باسم المحلة التي كان فيها عند ورود الفتح عليه. ونهض آما لوجهته، والحشود والعساكر تتلاحق به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها. ونزل - رحمه الله - على مدينة طليطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحبها، مبادرا إليه، وغازيا معه؛ وكان يظهر طاعة تحتها معصية. ثم تنقل - رحمه الله - في مناقله، حتى نزل بمدينة الفرج؛ فنظر لأهلها، وعزل بني سالم عنهم، إذ شكوا بهم. واستوزر - رضي الله عنه - في هذه المحلة سعيد بن المنذر، وقدمه قائدا وضابطا لمدينة الفرج، وأغزاه مع نفسه، واستعمل على الموضع ابن غزلان القرشي صهره، واستقصى عليهم محمد بن مسور الفقيه. فصلحت أحوالهم، وعم الرضى جميعهم؛ وخرج للجهاد أكثرهم. ونهض أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - في جيوش تغص بها السبل، ويضيق بها القضاء الأوسع، حتى احتل بثغر مدينة سالم، وأظهر - رحمه الله - التوجه إلى الثغر الأقصى. وقدمت المقدمة نحوه. ثم عرج بالجيوش إلى طريق آلية والقلاع، وطوى من نهاره ثلاث مراحل، حتى احتل بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباح تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغدَّ السير حتى قرب من الحصن، وسرح الخيل المغيرة يمنة ويسرة، والمشركون في سكون وغفلة، إذ كان العلج الذي يلي أمورهم قد كاتب أمير المؤمنين - رحمه الله -، مكايدا له في إزاحته عن بلده بمواعيد وعدها من نفسه؛ فأظهر أمير المؤمنين - رحمه الله - قبول ذلك منهم، وأضمر الكيد بهم؛ فغشيتهم الخيل المغيرة على حين غفلة، وأصابوا نعمهم وسوامهم ودوابهم مسرحة مهملة؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكر سالمين غانمين. فلما كان في صباح يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيل في أكمل تعبئة، وأهذب ترتيب، وأوكد ضبط، وأبلغ حزم وعزم، إلى حصن وخشمة؛ ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحصن، وغنموا جميع ما فيه وأضرموه نارا. وبات أمير المؤمنين - رحمه الله - في محلته على وخشمة ليلة السبت؛ ثم رحل عنها في اليوم الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة، وقاعدتهم، والموضع الذي كانوا تعودوا فيه الاستطالة على من وردهم. فلما رأوا أن أنصار دين الله قد أطلوهم، وأولياءه قد يمدوا نحوهم، أخلوا الحصن وخرجوا هاربين عنه؛ فدخله المسلمون، وغنموا جميع ما فيه؛ وخربوا حصن القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء الله في تلك الجهة نعمة يأوون إليها. واضطرب العسكر بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمون ليلة الأحد بأسر ليلة كانوا بها، والحمد لله. ثم انتقل أمير المؤمنين - رضي الله عنه - في صبيحة اليوم الثاني من مكان المضطرب شرقي الحصن إلى غربيه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدر ميل؛ فكسر العسكر في ذلك المكان يوم الأحد متقصيا لآثار الكفرة، ومستبيحا لنعمهم. ثم ارتحل إلى مدينة لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهات مدنهم؛ فلم تمر الجيوش إليها إلا على قرى منتظمة وعمارة بسيطة؛ فغنمت جميع ما كان بها، وقتلت من أدركت فيها، حتى أوفت العساكر على المدينة؛ فألقيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 خالية، قد شرد عنها أهلها إلى الأجبل المجاورة لهم؛ فغنم المسلمون جميع ما أصابوا فيها، وعملت الأيدي في تخريب ديارها وكنائسها. وكسر الناصر - رحمه الله - عليها ثلاثة أيام، مطاولا لنكاية المشركين، وانتساف نعمهم. ثم ارتحل - رحمه الله - من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقين من صفر إلى ثغر تطيلة، لغياث صريخ المسلمين به، إذ كان العلج شانجه قد ضايقهم، وتردد بكفرته عليهم؛ فأخذ الناصر - رحمه الله - بالرفق في نهوضه، لئلا يعنف على المسلمين بحث السير مع اتصال سفرهم؛ فاستقبل بالجيوش قطع المفاز الأعظم، مسايرا لوادي دوير، وقطع في ذلك خمس محلات، حتى احتل حوز تطيلة؛ ثم قدم الخيل مع محمد ابن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتخذه شانجه على أهلها. فلما قصدته الخيل، أخلاه من كان فيه، وضبطه المسلمون. ثم نهض - رحمه الله - إلى حصن قلهرة. وكان شانجه قد اتخذه معقلا، وتبوَّأه مسكنا. فلما فجأته العساكر، أخلاه العلج، وزال عنه؛ فغنمه المسلمون بأسره؛ وكسر الناصر - رحمه الله - عليه يومين حتى خرب جميعه، وانتسف كل ما كان حواليه. ثم رحل بالجيوش يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره؛ فخرج شائجه من حصن أرنيط في جموعه وكفرته، متعرضا لمن كان في مقدمة العسكر؛ فتبادر إليه شجعان الرجال، تبادر رشق النبال؛ فانهزم الكفرة، وركبتهم الخيل، تقتل وتجرح، حتى تواروا في الجبال، ولاذوا بالشعاب وأيقنوا بالدمار والهلاك. وحيز كثير من رؤوس المشركين؛ فتلقوا بها أمير المؤمنين - رحمه الله -، ولا علم عنده المعركة التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكر بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرين على عدوهم، ومنبسطين في قراهم ومزارعهم. وورد الخبر على الناصر - رحمه الله - باجتماع العلجين أرذون وشانجه، واستمداد بعضهما ببعض، طامعين في اعتراض المقدمة، أو انتهاز فرصة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الساقة. فأمر الناصر - رحمه الله - بتعبئة العساكر، وضبط أطرافها؛ ثم نهض بها موغلا في بلاد الكفرة؛ فتطللوا على كدّي مشرفة وأجبل منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطراف الجيش، وجعلوا يتصابحون، ويولولون ليضعنوا من قلوب المسلمين؛ فعهد الناصر - رحمه الله - بالنزول والاضطراب وإقامة الأبنية. ثم تبادر الناس إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الأجبل؛ فواضعوهم القتال، واقتحم عليهم حشم أمير المؤمنين ورجاله وأبطال الثغر وحماته، ويضعون أسلحتهم فيهم، ويمطرون رماحهم عليهم، حتى انهزم المشركون، لا يلوون على مكان مضطربهم، ولا يهتدون لوجه متقلبهم، والمسلمون على آثارهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظلام بينهم. ولجأ عند الهزيمة أزيد من ألف علج إلى حصن مويش، ورجوا التمتع فيه. فأمر الناصر بتقديم المظل وأبنية العسكر إلى الحصن؛ فأحبط به من جميع جهاته، وحوربوا داخله حتى تغلب عليه، واستخرج جميع العلوج منه، وقدموا إلى الناصر - رحمه الله -؛ فضربت رقاب جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصن والمحلة التي كانت للكفرة بقربه من الأمتعة والأبنية والحلية المتقنة والآنية ما لا يحصى كثرة؛ وأصيب لهم نحو ألف وثلاثمائة فرس. وكسر أمير المؤمنين - رحمه الله - بهذه المحلة أربعة أيام، يغير جميع ما حواليها من نعم المشركين وثمراتهم ومزارعهم؛ ثم انتقل - رحمه الله - يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصن كان أتخذه شانجه على أهل بقيرة؛ فألقاه خاليا، قد فرَّ عنه أهله؛ فعهد بهدمه، ولم يبرح أمير المؤمنين - رحمه الله - من محلته هذه حتى انتقل إلى حصن بقيرة من أطعمة الكفرة ألف مُدي تقوية لأهله. ثم انتقل إلى حصون المسلمين يسكنها وينظر في مصالح أهلها؛ فكلما ألفى بقربها معقلا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطه، حتى لقد اتصل الحريق في بلاد المشركين عشرة أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمة والخيرات ما عجزوا عن حمله، ولم يجدوا لها ثمنا تباع بع؛ وكان القمح في العسكر تبذل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 ستة أقفزة بدرهم؛ فلا يوجد من يشتريه؛ فجمعت الأطعمة وأدخلت النار إليها حتى أخرجت عن آخرها. وقفل الناصر - رحمه الله - يوم الثلاثاء. لثلاث بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ فكسر - رحمه الله - بها يوما، ووصل رجال الثغر، وكساهم، وحملهم، وأذن لهم في الرجوع إلى مواضعهم. وبعث إلى قرطبة من رؤوس الكفرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادا عظيمة، حتى لقد عجزت الدواب عن استيفاء حملها. ودخل - رحمه الله - القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاته هذه تسعين يوما. وفي هذه السنة، بعد القفل، عزل الناصر - رحمه الله - محمد بن محمد بن أبي زيد عن الشرطة العليا، وولاها دريا مولاه. وفي هذه السنة، قتل جعفر بن عمر بن حفصون بجبل ببشتر، قتله أصحابه غيلة، ودخله أخوه سليمان وضبطه. وفيها، ولي العرض عبد الرحمن بن عبد الله الزجالي. وفيها، افتتحت المندات بحذر فرطمة من كورة رية، وبنى حصن فاشتره ذكوان، وألزمه الرجال والقوة. وفي هذه السنة، توفي أبو عمرو سعد بن معاذ بن عثمان بن حسان بن بخامر الشعباني الفقيه بقرطبة في جمادى الأولي؛ وكان معظما في أهل العلم؛ وفيها، توفي عبد الغافر بن هاشم بن عبد العزيز. وفي سنة 309، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - إلى كورة رية، وهي غزاة طرُّش. وبرز لها - رحمه الله - يوم الخميس لسبع خلون من ذي الحجة سنة 308، وهو اليوم العاشر من أيار. وفصل من قصر قرطبة غازيا يوم السبت لثمان خلون من المحرم سنة 309، وهو اليوم العاشر من حزيران بعد بروزه إلى أحد وثلاثين يوما. وتخلف في النصر ولي عهده أمير المؤمنين المستنصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 بالله - أطال الله بقاءه - فسار - رضي الله عنه - في احتفال من جيوشه، وطبقات من رجاله، حتى احتل على حصن طرُّش؛ وكانت النصرانية قد احتشدت إليه، وتحصنت فيه؛ فأحدقت العساكر به من جميع جهاته، وعهد بمحاربتهم والتضييق عليهم ونصب المجانيق على مرتقى تصل منه حجارته إلى الكفرة. وكانوا في أول المنازلة لهم يبرزون للحرب، ويظهرون المدافعة، حتى مزقتهم الحرب، وقللت عددهم، وقلت حدهم؛ فعاذوا بالاستغلاق في داخل حصنهم. ثم تمادى التضييق عليهم، والحصار لهم، حتى أخذهم الجهد، وأشفوا على الهلاك؛ فخاطبوا أمير المؤمنين ضارعين إليه في تأمينهم، على أن يسلموا الحصن، ويخرجوا عنه؛ فأجابهم إلى ذلك، وقيل إنابتهم؛ ودخل رجاله الحصن، وخرج عنه جميع من كان به من النصرانية داخله. وهدمت قصابه وألقيت أحجارها في النهر؛ وبني في موضع الكنيسة مسجد جامع. ونظر الناصر - رحمه الله - أيام محاصرته لحصن طرش في توجيه القوَّاد والأجناد إلى حصن ببشتر وحصن أقوط وجبل الحجارة، لمحاربة سليمان وحفص ابني عمر بن حفصون، والتضييق عليهم، والانتقاص لعددهم. ثم قفل الناصر - رحمه الله - من محلته على حصن طرش يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودخل قصر قرطبة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقد استتم في غزاته هذه تسعة وستين يوما. وفي هذا العام، استنزل بنو سعيد بن ناصح بن مستنة من حصون باغه المعروفة بعالية وربرش. واستنزل موسى بن يزيد، أخو حمصي، من الصخرة التي كان بها. واستنزال بنو مهلب من حصونهم المعروفة بقرذبرة وإشبرغيرة وغيرهما، وهدم جميعها. وفي هذه السنة، أمر الناصر - رحمه الله - بقتل العاصي ابن الإمام عبد الله، ومحمد بن عبد الجبار ابن الإمام محمد - رحمهما الله -، إذ شهد كلُّ واحد منهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 على صاحبه بمطالبة الخلافة ونقض البيعة، وكثرا في ذلك؛ وكان لهما غليان. فقتلا ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب. وفي ليلة الجمعة لست خلون من رجب، مات الحاجب بدر بن أحمد وولي الحجابة موسى بن أحمد بن حدير. وفيها، مات محمد بن عبد الله بن أمية الوزير؛ وعبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في شوال؛ وفيها، توفي الفقيه محمد بن أحمد المعروف بابن الزراد، ليلة الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة. وفي سنة 310، كان غزو أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - إلى كورة إلبيرة، وهي غزاة منت روبي، وبرز لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث خلون من ذي الحجة سنة 309، وهو الرابع من نيسان، وفصل غازيا من قصر قرطبة يوم السبت لعشر خلون من المحرم، وهو اليوم الحادي عشر من أيار، بعد بروزه بسبعة وثلاثين يوما. وتخلف في القصر ولي عهده الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله -، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير. وغزا معه في هذه السنة الحاجب موسى بن محمدا؛ فسار - رضي الله عنه - حتى احتل بحصن منت روبي يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم؛ وكان جبلا ممتنعا، بعيد المرام، كثير السكان من عجمة، قد لاذت به، وامتنعت فيه؛ وهو متوسط بين كورة إلبيرة وكورة جيان، وعلى طريق مدينة بجانة. فكان من سلك السبيل من وارد أو صادر لا يسلم من عادية ذلك الحصن. وكانوا يسفكون الدماء، ويسلبون الأموال، ويخيفون السبل. فأقام عليهم أمير المؤمنين - رحمه الله - خمسة وثلاثين يوما محاصرا، حتى أباد كثير منهم، وقطع ثمراتهم، وغير نعمهم. ثم أبقى على الحصن من رجاله وأجناده من استمر على محاصرتهم، حتى كان لا يدخل إليهم داخل، ولا يخرج عنهم خارج. وتقدم عنه إلى حصون كورة إلبيرة؛ فعم جميعها بالنكاية. ثم عرج منها إلى كورة رية، ونزل على جبل ببشتر يوم السبت لسبع خلون من ربيع الأول؛ فحاربهم أشد محاربة، ونكاهم أبلغ نكاية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وقطع ما كان بقي في أسناد الجبل من الثمار، ورتب لمحاصرتهم أكابر القواد. وقصد رحمه الله - كورة تاكُرُنَّا؛ فاستصلح أحوال أهلها، واستوثق من طاعتهم ونقل من رأى نقله إلى قرطبة من وجوههم. ثم وصل نظره فيها بالنظر في كورة مورور، وطالع في طريقه كورة إشبيلية وقرمونة، وقفل بعد إحكامه جميع الأمور في تلك الجهات؛ فاحتل قصره يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاته هذه خمسة وثمانين يوما. وفي هذه السنة، ولي الوزارة أبو سعيد عبد الملك بن محمد الشذونيُّ، يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر. وولي فيها الوزارة أيضا يحيى بن إسحاق؛ وكانت بيده الشرطة الصغرى؛ فوليها مكانه محمد بن محمد بن أبي زيد، وذلك يوم السبت لخمس بقين من شوال. وفيها، عزل أفلح بن عبد الرحمن عن الخيل، ووليها صاحب المدينة محمد ابن عبد الله الخروبي أياما يسيرة؛ ثم أعيد إليها أفلح. وفيها، ولي أحمد بن موسى بن حدير، ونمارة بن سليمان الخزانة، في شوال. وفيها، ولي أحمد بن عبد الله الخروبي العرض. وفيها، مات سالم بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن أبا الفقيه؛ وعبد الله بن أبي الوليد ابن أخت محمد بن الصفار الفقيه، وكانت له رواية عن سحنون؛ ومحمد بن عبد الحكم؛ وفيها، توفيت علية بنت الإمام عبد الرحمن ابن الحكم - رحمه الله -. وفي سنة 311، كان غزو أمير المؤمنين الناصر لدين الله - رضي الله عنه - إلى مدينة ببشتر وحصون رية؛ فبرز لغزاته هذه يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة سنة 310، وهو اليوم السابع عشرين من أذار؛ وفصل غازيا يوم الاثنين مستهل المحرم، وهو اليوم الثاني عشرين من نيسان، بعد بروزه بخمسة وعشرين يوما؛ فسار - رحمه الله - حتى احتل على حصن ببشتر؛ وبادر سليمان بن عمر بن حفصون بمكاتبته، راجيا لصرف عزمه عنه؛ فأعرض الناصر عن محاربته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وقبول ما تعرض له من مكايدته، وأخذ بالجد والعزم في محاصرته، وقطع باقي ثمراته وكرماته، واصطلام معائشه. وأقام عليه سبعة أيام، يصل الغدو بالرواح في التغيير والتدمير والنكاية والاستبلاغ؛ وفعل كذلك فيما بقى من حصونه، كحصن قرذارش، وحصن نجارش، وحصن ألجش، وشنت ببطر؛ فخرج إليه حفص بن عمر بن حفصون، وتبرأ من حصن قامرة؛ فأمنه أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله -، وأقره في بعض حصونه، لما رآه من السياسة ووجه المصلحة فيه وفي سليمان أخيه. ثم تقدم إلى مرسى شاط والمنكب، وحصن مشكريل، ونهض بعساكره في وعر لم يقتحمه جيش قبله؛ فاستنزل جميع أهل تلك الحصون، واستصلح تلط الجهات. ثم قصد جبل ببشتر، وقد كان أهله أرادوا الفتك بسليمان بن حفصون، وضبطوا القصبة دونه، وأطلقوا من كان في حبسه، وانتهبوا أكثر أمتعته؛ ثم إنه احتال مع بقية أصحابه، حتى دخلوا المدينة، وفتحوا له بابها؛ فدخل منه متلثما، وأطمع السواد في أموال القائمين عليه؛ فثاروا معه، وبادروا إلى قتل من ظفر به منهم؛ فأفنى أكثرهم؛ وسلط الله بعض الكفرة على بعض، ليمحو آثارهم. وبقى سليمان بجبل ببشتر مشغولا بنفسه، مرتابا ممن حوله؛ فاحتل به أمير المؤمنين مرَّة ثانية في غزاته هذه، وذلك يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول؛ فلم يكن لأحد من الكفرة إطلال عند اضطراب العسكر على ما كانوا تعودوا من قبل؛ وأرتب على الجبل أمير المؤمنين من وثق به من رجاله، وألزمهم مواضع في جميع جهاته. ثم قفل، ودخل القصر بقرطبة يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، وقد استتم في غزاته تسعة وستين يوما. وفي هذه السنة، كانت وقيعة بقيرة ومحاصرة أهل بنبلونة لعبد الله محمد ابن لب، حتى تغلب عليه وعلى من كان معه، وأسرهم العلج شانجه؛ ثم قتلهم. وكان مع ابن لب في حصن بقيرة مطرف بن موسى بن ذي النون، ومحمد بن محمد ابن عمه، ووجوه رجالهم؛ فذهبوا في هذه الوقيعة بأجمعهم. وشنع الحادث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 فيها على الناصر - رحمه الله - فأخرج عبد الحميد بن بسيل قائدا إلى الثغر الأقصى، بعد أن استوزره؛ وكان على خزانة المال؛ فنهض حتى احتل الثغر بجيوش كثيفة، أخرجت معه، وحشدت إليه من الثغر وغيره؛ فدخل مدينة تطيلة وملكها. وفيها، افتتحت قصبة مورور. وفيها، ولي محمد بن أحمد بن حدير خطة العرض، وعزل محمد بن محمد ابن أبي زيد عن الشرطة الصغرى، ووليها يحيى بن يونس القبرسي. وفيها، توفي عبد الرحمن ابن الإمام المنذر - رحمه الله -. وتوفي جهور بن عبد الملك، وهو قائد شذونة. وفيها، قتل عبد الله بن محمد بن مروان الجليقي، صاحب بطليوس، دخل عليه بعض أهل الموضع، فقتلوه. وفيها هلك أرذون بن إذفنش صاحب جليقية، وولي مكانه فلوبرة. غزاة الناصر إلى بنبلونة وفي سنة 312، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر لدين الله - رضي الله عنه - إلى دار الحرب، وهي الغزوة المعروفة ببنبلونة؛ فبرز - رحمه الله - لهذه الصائفة مبكرا قبل ميقات الصوائف، إذ أحفظه ما دار على بني لب وبنى ذي النون بحصن بقيرة؛ فبرز لغزاته هذه يوم الخميس لليلتين خلتا من ذي الحجة، وهو اليوم الثاني عشر من شباط سنة 311. وفصل من قرطبة يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة 12، وهو اليوم السابع عشرين من نيسان، وذلك بعد بروزه بثلاثة وأربعين يوما. فاحتل لأول خروجه بمحلة بالش، وكسر بها يومين، متلوما على المجاهدين معه من أجناده ورعيته، والمحشودين من أقطار كورة. وتخلف - رحمه الله - بالقصر بقرطبة وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله -، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير. وأم الناصر رضه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 في أول خروجه كورة تدمير وكورة بلنسية، واستصلح أحوال أهلهما، واستنزل عبد الرحمن بن وضاح، ويعقوب بن أبي خالد التوبري، وعامر بن أبي جوشن، وغيرهم، من مواضعهم التي كانوا متأمرين فيها، ومتعاصين عن النزول منها. وأرتب القواد والجيوش على محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ، إذ يمنع من النزول إليه والغزو معه؛ وكان يمدينة العسكر من أحواز بلنسية. ثم نهض أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - في عساكر كعدد الحصى، حتى دخل ثغر تطيلة. وخرج إليه النجيبيون وغيرهم، وتلقاه عمال الثغر في جنود عظيمة، وعدة كاملة؛ فدخل - رحمه الله - بلاد المشركين يوم السبت لأربع خلون من ربيع الآخر بأنقذ عزم، وأوكد حزم، وأقوى نية في الانتقام لله عز وجل ولدينه من الأرجاس، الكفرة الأنجاس. فحل من أول بلادهم حصن قلهرة؛ وكان العلج شانجه قد أخلاه؛ فأمر بهدمه وإحراق جميع ما فيه وحوله؛ ثم تنقل عنه إلى موضع يعرف ببيطرة التة؛ وكانت حوله حصون مانعة؛ فأخلاها الكفرة، وتخلقوا في بسيطها جميع أمتعتهم وأطعمتهم، إذ عوجلوا عن انتقالها. ولجأ علوج منهم بأهلهم وولدهم إلى ثلاثة غيران في شفير جرف على النهر؛ فلم يزل أهل العسكر يتعلقون إليهم فيها، ويتسورون عليهم من أعاليها، حتى فتح الله تلك الغيران عليهم؛ فقتلوا العلوج وسبوا الذرارى، وغنموا الأمتعة. وكان ذلك أول ما أفاء الله - عز وجل - على أهل العسكر، وغنمهم إياه. وهدمت حصون الكفرة التي كانت في تلك الجهة؛ ولم يبق منها صخرة قائمة. ثم تنقل - رحمه الله - من هذه المحلة، بعد أن كسر بها يوما، إلى حصن فالجش؛ فأضرمت أرباضه نارا، واستقصيت زروعه ونعمه انتساقا وتغييرا. ثم ارتحل رضه إلى حصن نفالية؛ وكان من حصونهم الشريفة؛ فألقيت الأطعمة به كثيرة، والنعم فيه فائضة؛ فانتهب المسلمون جميع ذلك، ودأبوا في تخريب الديار، وتغيير الآثار. ثم ارتحل منه إلى حصن قرقستال على وادي أرغون؛ ثم استعزم الناصر - رضي الله عنه - على الإيغال في بلدهم، والتوصل إلى موضع قرارهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 ومجتمع كفارهم، ونكايتهم في عقر دارهم، ومكان أمنهم؛ فأخذ في الحزم، وعهد بضبط مجنيات العسكر، وتقدم من فج المركوبر في أمكّ تعبئة وأهذب ترتيب، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر؛ فدخلت الجيوش مواضع لم تدخل قبل ذلك، وأحرقت الحصون، وهدمت الديار، حتى نزل بقرية بشكونشة، التي إليها ينسب العلج، ومنها أصله؛ فهدمت مبانيها، أحرق كلُّ شئ كان فيها. فجمع العلج شانجه كفرته، واستمد بنصرانيته من كل مكان، طمعا أن بغاث منه حتى توافى له جمع رجا أن يكافح المسلمين به؛ فتطلعت له خيل على تلك الأجبل المنيفة على العسكر، وذلك ليلة الأربعاء للنصف من شهر ربيع الآخر؛ فأمر الناصر - رحمه الله - بالتعبئة للرجال، وشك العسكر، وإتقان النظر؛ وصابح النهوض والتقدم لوجهته، واثقا بالله - عز وجل - ومتوكلا عليه؛ فسلكت الجيوش بين أجبل شامخة وشواهق منقطعة. ورجا أعداء الله مع ذلك بانتهاز الفرصة والاعتراض للمسلمين في مجنبة أو ساقة؛ فلما توسط الجيش بعض تلك المواضع المتضايقة على واد يعرف بوادي هيغة، هبطت للمشركين خيل من الأجبل؛ فحالت بينهم وبين أهل العسكر مناوشة يسيرة. فعهد أمير المؤمنين - رحمه الله - برفع المظل والتعبئة للحرب، ونهض المسلمون إلى أعدائهم نهوض الأسود؛ فعبروا النهر إليهم، وصمموا بالحملة عليهم، حتى اقتلعوهم عن موضعهم، وهزموهم، ووضعوا سيوفهم ورماحهم فيهم، حتى اضطروهم إلى مرتقى وعر وجبل منقطع؛ فتقحم المسلمون عليهم، وسهل الله وعره لهم؛ فقتلوا جملة منهم، وبسطت الأرض بأجسادهم. واستمرت الخيل المغيرة في بسيطهم؛ فأصابت الغنائم والسوام وضروب النعم، وانصرفوا سالمين، لم يصب منهم غير يعقوب بن أبي خالد التوبري، ونفر يسير من الحشم فازوا بالشهادة، وختم الله لهم بالسعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 واجتمع من رؤوس المشركين عدد عظيم منع من البعثة بها إلى قرطبة بمنع الطريق وبعد المسافة. ثم ارتحل أمير المؤمنين رضه إلى محلة لتبيرة؛ ثم إلى محلة لغين؛ والجيوش لا تمر بموضع إلا اصطلمته، وتعلقت زروعه، وهدمت قراه وحصونه، إلى أن بلغ رضه مدينة بنبلونة؛ فوجدها خالية مقفرة؛ فدخلها - رحمه الله - وجال بنفسه عليها، وأمر بهدم جميع بنيانها، وتخريب كنيسة الكفرة بها، التي كانت يبعثهم موضع نسكهم، حتى لقد جعلت قاعا صفصفا. ثم تنقل - رضي الله عنه - منها إلى صخرة قبس؛ وكانت بها كنيسة قد شيدها العلج، وأتقنها، وطاول الأيام بالتأنق فيها، والتحصين لها؛ فلما حلت بها الجيوش وأخذت في هدمها، تطلع الكلب من جبل كان أسد إليه، طامعا في حمايتها؛ فداخله أولياء الله بأسرع من لحظة الطرف. حتى اقتلعوه مهزوما موليا، وصرع من فرسانه ووجوه أصحابه من كان عنه محاميا ودونه مستهلكا؛ وأخربت الكنيسة وما أحاط بها، وعادت القرية نارا موقدة. ثم تنقل منها إلى محلة اسارية؛ وكان في ممره إليها فج يقال له هرقلة ضيق المسلك، وعر المجاز؛ فرام الكفرة انتهاز فرصة من المسلمين فيه؛ فأمر الناصر - رحمه الله - بالتعبئة والاحتراس، ونهض على أتم التحفظ والضبط، حتى جاورت العساكر ذلك المضيق، وخرجت عنه وتظاهر أعداء الله لأخل الساقة، متسنمين لأعلى جبل؛ فنهضت الخيل إليهم، وهزمتهم، وقتلت طائفة منهم. وانقشعوا مدبرين لا يلوون ولا يعرجون. وتقدم المسلمون بعزة القهر، وسرور النصر، حتى نزلوا محلة إسارية. ثم ارتحل الناصر - رحمه الله - منها إلى محلته بقرية منيير؛ ثم تنقل إلى محلته بدى شره المجاورة لشنت اشتبين؛ وكان موضع " استركاح " العلج شانجه، ومكان طمأنينته؛ فحلت الجيوش بهذه المحلة يوم الأربعاء لثمان بقين من ربيع الآخر، وتظاهر الكلب على الجبل، قد جمع جموعه، وحشد رجاله، واستجاش بمدود انته من آلبة والقلاع، طامعا في معارضة المسلمين، يقيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 بها عذره عند كفرته، وأهل ملته؛ فناشبهم المسلمون الحرب، والتحم بينهم القتال؛ فهزم الله جموع المشركين، وانقبضوا إلى أعلى جبلهم، وتفرقوا في شعراء متصلة بهم. وبات أهل العسكر في مجلتهم. وانبسطت العلاقة في القرى؛ فانتسفت ما فيها. ثم انتقل الناصر إلى محلته بموضع يعرف بربية سرته، وهو يريد فلهرة. وتظاهر العلج بجموعه مرة ثانية في الموضع الذي كان مشرفا فيه، ومعتصما به؛ فتبادر إليه الفرسان؛ فانهزم أقبح انهزام. وقتل له رجال وعقرت له خيل. وتنقل الناصر - رحمه الله - إلى حصن قلهرة؛ فألقاه خاليا، وأمر بهدمه ثم تنقل إلى حصن بلتميرة، وهو من حصون المسلمين المجاورة للمشركين؛ فعهد بادخار الأطعمة عندهم، وتفريق الأموال فيهم. واحتل بمدينة تطيلة. وكسر بها، وذلك يوم الأثنين لثلاث بقين من ربيع الآخر، ورحل عنها قافلا، وجعل مروره ببني ذي النون؛ وكان يحيى بن موسى قد استراب، وتوقف عن الجهاد، فدارت عليه معرة الجيش، حتى أذعن منقادا، وخرج خائفا وجلا، وتلقى أمير المؤمنين معترفا بذنبه؛ فأوسعه عفوه؛ وفعل مثل ذلك يحيى بن أبي الفتح ابن أخيه، ودخل أمير المؤمنين - رحمه الله - قرطبة يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولي، وقد استتم في غزاته هذه أربعة أشهر. وفي سنة 313، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - إلى كورة إلبيرة، ومنازلته حصن اشتين، وإستصلاحه الأحوال بكورة جيان وما والاها؛ فبرز - رحمه الله - لهذه الغزاة يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 313، وهو اليوم السابع من نيسان، وفصل غازيا يوم الخميس لثمان بقين من صفر، وهو اليوم السابع من أيار، وذلك بعد بروزه بإثنتين وأربعين يوما؛ وتخلف في القصر بقرطبة وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله. ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة محمد بن عبد الله الخرَّوبي؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 واستقدم سعيد بن المنذر الوزير من كورة تدمير، ليغزو معه. وأخرج محمد ابن إسحاق مديلا له؛ فاحتل في طريقه بحصن المنتلون من كورة جيان، وأنزل عنه عبد الله بن سعيد بن هذيل، وعزله عن سائر الحصون التي كانت بيده؛ واستعمل على الجميع عبد العزيز بن مسلمة وعبد الله بن عمرو بن مسلمة؛ وعهد بهدم أكثر حصون جيان وقصابها، إذ كانت مستركحا لأهل الشر والخرف، وضررا على أهل الطاعة والاستقامة؛ وكذلك ما فعل بحصون إلبيرة، حتى احتل بحصن اشنين يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ وكان أهله على مكايدة باطنة، وإظهار طاعة تحتها مداهنة؛ فعرض عليهم الناصر النزول عن حصنهم إلى البسيط حوله؛ فاضطربوا في أمرهم، ولاذوا عن رشدهم؛ فاحتلت العساكر بهم، وأخذ بالجد والعزم في محاصرتهم، وأحيط بهم من جميع جهاتهم، وبنيت عليهم ستة حصون يقابل بعضها بعضا، حتى عادوا في مثل حلقة الخاتم ضيقا وحصارا. وبقى الناصر على محاصرتهم خمسة وعشرين يوما، وهو يدأب مع ذلك في استصلاح أمور رعيته، وتأمين سبلهم، وقطع المخاوف عنهم، ويشخص بنفسه إلى مل جهة من جهاتهم. وفي هذه الغزاة، استجلب الناصر وليَّ عهده وعماد أنسه الحكم المستنصر بالله من قصر قرطبة إلى معسكره، وهو في ذلك الوقت ابن عشرة أعوام وثمانية أشهر ونصف، إذ استوحش له، وتاقت نفسه الكريمة إليه؛ فقدم عليه - أبقاه الله - بهذه المحلة مع ثقات رجاله وفتيانه؛ واستخلف له في القصر أخوه عبد العزيز لينفذ الكتب باسمه إلى وقت منصرفه. فأنس - رحمه الله - به، وسر بقربه. وقفل الناصر من هذه الغزاة يوم الجمعة لست خلون من ربيع الآخر، بعد أن أرتب الوزيرين سعيد بن المنذر وعبد الحميد بن بسيل على حصن اشتين، محاصرين لأهله في كثف من الحشم. ودخل القصر بقرطبة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وقد استتم في غزاته خمسين يوما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وفي هذه السنة، ولي خلف الفتى الكبير الطراز. وفي شوال منها، ولي يحيى بن يونس القبرسي السوق. إذ اعتل أحمد بن بهلول على أبطلته عن الحركة؛ ثم ولي يحيى بن يونس المواريث في ذي القعدة، وولي عبد الله بن محمد الخروبي خزانة السلاح. وفيها، صلب على الرصيف بباب قصر قرطبة الرامي المعروف بأبي نصر؛ وكان قد ذهب به الصوت في الرماية والإصابة أيام عمر بن حفصون؛ فصلب؛ ثم رمى بالنبل حتى أصيبت جوارحه ومقاتله؛ وبقي في الجذع أياما؛ ثم أحرق. وفيها، توفي ابن الناصر يسمى بمحمد. وفيها، مات بن حزم العوفي من أهل سرقسطة، في شهر رمضان؛ وكان كثير الرواية، بصيرا باللغة؛ وله رحلة سمع فيها من بعض الفقهاء بالمشرق. وفيها، هلك فلويرة صاحب جليقية، وولي إذفنش؛ ثم ترهب، وولي أخاه رذمير مكانه في سنة 19. وفي سنة 314، كان إغزاء الناصر - رحمه الله - قواده بالصوائف؛ ولم يكن له غزو بنفسه في هذا العام لمحل كان فيه، وقحط شديد؛ فأخرج عبد الحميد بن بسيل الوزير إلى الثغر الذي كان به بنو ذي النون؛ فأوقع بهم إذ كانوا قد مرقوا عن الطاعة، وأكثروا الفساد في الأرض، والاستطالة على من جاورهم من المسلمين؛ فقتل منهم من استحق القتل، وافتتحت مدينة سرتة؛ وكان أهلها على خلاف وخلعان للطاعة؛ فدرت جبايتها من ذلك الوقت، وصارت بسيل سائر الكور المستقيمة الأحوال. ثم صدر عبد الحميد بن بسيل من ذلك الثغر، وقد استقامت على يديه أحوال أهله؛ فأخرجه الناصر إلى مدينة ببشتر، محاصرا لسليمان بن حفصون في جملة القواد المحاصرين له؛ وأخرج - رحمه الله - أفلح صاحب الخيل مولاه إلى سليمان بن حفصون أيضا؛ فنازله وحاصره، وفتح حصن منت روبي؛ وكان من أمنع معاقله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 ذكر قتل سليمان بن حفصون وفي هذه السنة، قتل سليمان بن عمر بن حفصون؛ وكان قد ركب وخرج عن مدينة ببشتر معارضا لبعض الحشم المغاورين له من العسكر؛ فتبادرت إليه الخيل من الجهة التي كان فيها عبد الحميد الوزير؛ فصرع سليمان عن فرسه؛ فاحتز رأسه سعيد بن بعلي العريف المعروف بالشفة؛ وكانت قد واقعته قبل ذلك طعان على يدي محمد بن يونس العريف وبعض بني مظاهر العجم؛ وقطعت يداه ورجلاه، وذلك يوم الثلاثاء مستهل ذي الحجة من سنة 314. وبعث الوزير عبد الحميد برأسه وجثته ويديه مبعضة مفترقة؛ فرفعت على باب السدة بقرطبة في خشبة عالية؛ وكان الفتح فيه عظيما سارا لجميع المسلمين. وفيها، ورد الخبر بهلاك العلج شانجه صاحب بنبلونة. وكان القحط في هذا العام شديدا، والمحل عاما؛ فاستسقى بالناس الخطيب أحمد بن بقى صاحب الصلاة مرارا؛ ونفذت الكتب إلى الكور في الاستسقاء؛ فوافى نزول الغيث مع رفيع جثة سليمان بن حفصون صليبة على باب السدة. فقالت في ذلك الشعراء أشعارا كثيرة، منها (طويل) : سَحابٌ يَمُورُ الغَيْثُ وَدِيمةٌ ... دِماء العِدَى تَهمِي بها وتَفلإورُ غِياثانِ فينا واكِفانِ من الحَبَا ... ولكِن ذا رِجْسٌ وذاكَ طَهورُ وَذَاكَ نَجِيعٌ لَيسَ يقبلهُ الثَّرى ... وذا ناجِعٌ يَسرِي بِهِ وبَغورُ تَدَنستِ الدُّنيَا به فتطَهَّرَت ... بُطونٌ لها من رِجِسِهِ وظُهُورُ وفيها، ولي محمد بن عبد الله الزجالي الوزارة يوم السبت للنصف من جمادى الأولي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وفيها، عزل أسلم بن عبد العزيز عن قضاء الجماعة بقرطبة لعلة أقعدته وولي أحمد بن بقيّ القضاء مع الصلاة. وفيها، ولي أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف خزانة المال. وولي عبيد الله بن عبد الله الزجالي العرض. وولي خزانة السلاح حسين بن محمد بن عاصم، وأحمد بن يحيى بن حسان، وعبد الوهاب بن محمد بن عبد الرؤوف. وفيها، توفي أصبغ ابن الأمير المنذر، وفيها، توفي محمد بن عمر بن لبابة الفقيه، ليلة الاثنين لخمس بقين من شعبان؛ وكان مولده مستهل رجب سنة 226؛ وكان عالما بالفتيا، حسن الدين، مستقيم الحال من حداثته إلى وقت وفاته. وفيها، توفي محمد بن عبد الله الخروبي، صاحب المدينة، مستهل صفر؛ وولي المدينة مكانه عيسى بن أحمد بن أبي عبدة بعد وفاته إلى ثمانية أيام. وفي سنة 315، كان غزو أمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - إلى مدينة ببشتر لمحاربة حفص بن عمر بن حفصون؛ فبرز لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة 315، وهو اليوم التاسع عشر من نيسان، وفصل غازيا يوم الاثنين للنصف من شهر ربيع الآخر، وهو اليوم الحادي عشر من أيار، وذلك بعد بروزه باثنين وثلاثين يوما. وأغزى مع نفسه ولي عهده الحكم المستنصر بالله، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وتسعة أشهر ونصف، وتخلف في القصر عبد العزيز شقيق ولي العهد، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة أحمد بن عيسى مخلفا لأبيه عيسى بن أحمد الوزير. فنزل الناصر بجيوشه وخيله وعدده على مدينة ببشتر يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الآخر، وزاد عزما في البنيان عليها، والجد في محاصرتها، وأرتب بها من الفؤاد من يلازمها، وتنقل منها إلى مدينة الحنش؛ فاستنزل من كان فيها، وأخلاها من ساكنيها، وأمر بهدم أسوارها وتعفية آثارها؛ وباشر ذلك ولي عهده مع الحاجب موسى بن محمد مولاه. ثم أم الناصر حصن شنت بيطر وما قرب منه من الحصون؛ فنازلهم) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وقطع ثمارهم وكرومهم، واصطلم معايشهم؛ ثم تنقل بجيوشه إلى مدينة مالقة؛ فنظر بمثل ذلك في الحصون المجاورة لها، وولي مدينة مالقة عبد الملك بن العاصي، وألزم معه جملة من الحشم لمغاورة أهل تلك الحصون، وأمره بحمل السيف على كل داخل إليهم أو خارج عنهم. ثم صدر إلى مدينة ببشتر؛ فاضطرب عليها ثانية من ناحية لماية، ورأى أن البنيان بها من أنكى الأمور للكفرة وأشدها عليهم؛ فأمر ببنيان صخرة للأول تعرف بالمدينة، وقدم لذلك أحمد بن محمد بن إلياس، وصرف إليه كورة تاكرنا، وما اتصل بها من لماية. وألزم عبد الحميد بن بسيل الوزير مكانا يشرف منه على مجمع الطرق، ويحترس فيه بالمنتشرين من أهل العسكر في العلاقات وطلب المرافق، والمختلفين إليه من كل موضع. وأقام بمحلته هذه سبعة أيام، لم يدع فيها للكفرة مرتفقا ولا معاشا. ثم انتقل إلى محلة طلجيرة؛ فعهد بالبنيان فيها، وأقام بها حتى كمل بها شأن مدينة ألزمها سعيد بن المنذر الوزير. ورأى الناصر صرف ولي عهده إلى قصر قرطبة إيثارا لصيانته ومعاودته إلى تأدبه؛ فوجهه مع ثقات رجاله، وفيهم درى بن عبد الرحمن، صاحب الشرطة العليا، ومحمد بن أحمد بن حدير العارض؛ فبلغوه القصر وانصرفوا عن باب السدة إلى العسكر؛ ولم يتقدم أحد منهم إلى داره، ولا دخل منزله، ولا رأى أحدا من أهله. ثم قفل - رحمه الله - يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، ودخل قصر قرطبة يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، وقد استكمل في غزاته هذه خمسة وستين يوما. وفي هذه السنة، أغزى الناصر دُرِّيَّ بن عبد الرحمن، صاحب الشرطة. مولاه، إلى ابن الزيات؛ فلما قرب منه، خرج هاربا؛ وظفر دُرِّي في وجهته هذه بهابل، قائد كان لابن حفصون، وبأصحاب له؛ فأسرهم وأوثقهم بالحديد، وقدم بهم قرطبة؛ فصلبوا في المرج الذي بين يدي القصر، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من شهر رمضان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وفيها، ولي فطيس بن أصبغ الوزارة، وعيسى ابنه الخزانة، وعبد الله بن محمد بن عبد الله الخروبي العرض، وعبيد الله بن عبد الله الزجالي المواريث. ذكر افتتاح مدينة ببشتر ولما اشتدت المحاصرة على حفص بن عمر بن حفصون بمدينة ببشتر، وأحبط به بالبنيان عليه من كل جانب، ورأى من الجد والعزم في أمره ما علم ألا بقاء لبه معه في الجبل الذي تعلق فيه، كتب إلى أمير المؤمنين الناصر، يسأله تأمينه والصفح عنه، على أن يخرج عن الجبل مستسلما لأمره، راضيا بحكمه. فأخرج إليه الناصر الوزير أحمد بن محمد بن حدير، وتولى هو وسعيد ابن المنذر إنزاله من مدينة ببشتر. ودخلها رجال أمير المؤمنين الناصر وحشمه، يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة من السنة. واستنزل حفص والة وجميع النصارى الذين كانوا معه، وقدم بهم أحمد بن محمد الوزير إلى قرطبة مع أهلهم وولدهم. ودخلها حفص في مستهل ذي الحجة؛ وأوسعه أمير المؤمنين صفحة وعفوه، وصار في جملة حشمه وجنده. وبقي الوزير سعيد بن المنذر بمدينة ببشتر ضابطا لها، وبانيا لما عهد إليه من بنيانه وإحكامه منها. وفيها، مات أحمد ابن الأمير محمد - رحمه الله - بمدينة إستجة. وتوفي الوزير محمد بن عبد الله الزجالي في شعبان، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. وتوفي العارض محمد بن أحمد بن حدير في آخر هذا العام؛ وكان حدثا، قد توجه ذكره، وتمكن محله؛ فعظم أسف الحاجب عمه والوزير أبيه عليه؛ وولي الناصر خطته أخاه موسى بن أحمد بن حدير، وهو صغير، لم يبلغ الحل، تعزية لأبيه وعمه عن المفقود وإحياء لذكره. وفيها، مات أبو سليمان داود بن هذيل ابن منان من أهل طليطلة بقرطبة؛ وكان راوية للنسائي وغيره، وحمل عنه الحديث جماعة من أهل قرطبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وفي سنة 316، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر إلى مدينة ببشتر، بعد افتتاحها، لتدبير أمرها وإحكام ضبطها؛ ففصل من قرطبة دون بروز، يوم الثلاثاء للنصف من المحرم، وهو السابع من آذار؛ وأغرى مع نفسه وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله؛ وتخلف في القصر ابنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة أحمد بن عيسى مخلفا لأبيه عيسى بن أحمد؛ وكان الحاجب موسى بن محمد عليلا، فلم يغز في هذا العام. وكانت الطريق على مدينة إسنجة، ثم إلى أشونة. واحتل بحصن ببشتر يوم الأحد لعشر بقين من المحرم؛ فدخل المدينة، وجال في أقطارها، وعاين من شرفها وحصانتها، وعلو مرتقاها، وانقطاع جبلها مع جميع جهاته، ما أيقن معه ألا نظير لها في الأرض حصانة ومنعة واتساع قراراة. فأكثر من حمد الله - عز وجل - على ما افتتح له منها، ويسر له فيها؛ والتزم الصوم أيام مقامه بها. ثم دبر بنيان قصبتها على أحسن ما دبره وأحكمه في غيرها؛ وفرق رجاله على هدم كل حصن كان حواليها وعلى الديارات الخارجة عنها. وأمر بنبش جيفتي عمر بن حفصون وابنه؛ فكشفت قبورهما؛ فألقيا مدفونين على ظهورهما، كما يتدافن النصارى؛ وشهد ذلك عامة الفقهاء الغازين مع الناصر - رحمه الله -، وأيقن جميع من شهد ذلك بهلاكهما على دين النصرانية؛ فأستخرجا من لحودهما، وأتى بأعطمهما الرجسة إلى باب السدة بقرطبة؛ فرفعت في جدوع عالية إلى جنب الملحد سليمان بن عمر، وصاروا عظة للناظرين، وقرت بهم عيون المسلمين. وقلد الناصر أمر مدينة ببشتر والضبط لها وإكمال البنيان فيها سعيد بن المنذر. واستنزل أهل حصون شنت بيطر ويمارش وجطرون وغيرها من المعاقل، وهبطوا من أجبلهم، وتفرقوا في بسيطهم، واستقصيت الحصون خرابا ونسفا؛ ولم يبق للنصرانية بتلك الجهة حصن مذكور، ولا معقل معمور. وعادت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 كورة رية، على كثرة ما كان فيها من الحصون المانعة والمعاقل القائمة، ليس فيها جبل مضبوط، ولا بها عدو محذور. واحتمل على مثل ذلك في حصون تاكرنا وحصون مغيلة، إلا ما وجب التمسك به منها. ونظر في إزعاج من وجب إزعاجه إلى قرطبة، ممن كانت نفسه تائقة إلى الفتنة، ليكون الناس أمة واحدة، ورعية ساكنة وادعة. وقدم عبد الحميد بن بسيل الوزير إلى كورة شذونة، لهدم حصونها، وتبسيط أهلها، وجمعهم إلى مدينة قلسانة، التي هي قاعدة الكورة. وأمر باستنزال بني داود عن الحصون التي كانوا فيها، وولاها من عماله وثقات رجاله من يحسن السيرة في رعية تلك الجهة. وكانت سفرته أيمن سفره، وأجمعها لكل خير وصلاح. والحمد لله! ثم قفل بوم الأحد لخمس خلون من صفر؛ فدخل منية الناعورة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، وقد استتم في سفرته هذه ستة وعشرين يوما. وفيها، افتتح أحمد بن إسحاق القائد القرشي مدينة لفنت من تدمير، ومدينة قليوشة؛ واستنزل عنها وعن القصاب التي كانت حواليها بني الشيخ، وقدم بهم إلى قرطبة، يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شعبان. واستنزل في هذا العام بنو أبي جوشن من معاقل بلنسية، وكانوا في نحو ستين رجلا، وقد أهملوا أنفسهم في الفتنة، وتعرضوا لما نزل بهم من النقمة؛ فأمر الناصر بتمييز أهل الجرائر منهم، والتشريد بهم؛ فقدم من استحق القتل منهم إلى المرج بين يدي قصر قرطبة، وضربت رقابهم فيه يوم دخولهم. وفي هذه السنة؛ عزل فطيس بن أصبغ عن الوزارة، وولي أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف المدينة وعزل عنها عيسى بن أحمد بن أبي عبدة؛ وقيل ذلك ما كان عزل جميع خزان المال، وكانوا خمسة، وهم: سعيد بن سعيد بن حدير، وأحمد بن موسى بن حدير، وأحمد بن عبد الوهاب المنقول إلى المدينة، وخالد بن أمية بن شهيد، وعيسى بن فطيس؛ وولي الناصر مكانهم أربعة خزان، وهم: محمد بن جهور، وأحمد بن عيسى بن أبي عبدة، وعبد الرحمن بن عبد الله الزجالي، وأحمد بن محمد بن أبي قابوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وفيها، أمر الناصر بإقامة دار السكة داخل مدينة قرطبة، لضرب الدنانير والدراهم؛ وولي الخطة أحمد بن موسى بن حدير يوم الثلاثاء عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان؛ وأقام الضرب فيها من هذا التأريخ من خالص الذهب والفضة؛ وصحح في ذلك أحمد بن موسى وتحفظ. وكانت مثاقيله ودراهمه عيارا محضا. وفيها، خرج أحمد بن إلياس القائد غازيا إلى كور الغرب؛ فافتتح مدينة ماردة، ومدينة شنترين بلا حرب، ونزلوا إليه بالأمان، ووفاهم غاية الإحسان. وفي هذه السنة، رأى الناصر أن تكون الدعوة له في مخاطباته والمخاطبات له في جميع ما يجري ذكره فيه، بأمير المؤمنين، لما استحقه من هذا الاسم الذي هو له بالحقيقة، ولغيره بالانتحال والاستعارة؛ فهو أبر أمراء المؤمنين والهداة الفاضلين، والأبرار المنقين، من كل منتخب في المشرق والمغرب، وقائم بالحق، وسالك لسبيل الهدى والرشد؛ فعهد إلى أحمد بن بقيّ القاضي صاحب الصلاة بقرطبة بأن تكون الخطبة يوم الجمعة مستهل ذي الحجة بذلك. ونفذت الكتب إلى العمال فيه، بما اجتلبنا نسخته لما فيها من إيعاب القول، واستبقاء الحجة، وظهور الحقيقة. ونسخة الرسالة النافذة في ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنا أحق من استوفي حقه، وأجدر من استكمل حظه، ولبس من كرامة الله ما ألبسه، للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسر على أيدينا إدراكه، وسهل بدولتنا مرامه، وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وعلو أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا، واستبشارهم بدولتنا. والحمد لله ولي النعمة والإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضل علينا فيه! وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك، إذ كل مدعو بهذا الاسم غيرنا منتحل له، ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحقه. وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه. فأمر الخطيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 بموضعك أن يقول به، وأجر مخاطباتك لنا عليه، إن شاء الله. والله المستعان! وكتب يوم الخميس لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة 316. وفيها، عزل أفلح ودرى موليا الناصر عن الخيل والشرطة. وولي الخيل عبيد الله الزجالي، والشرطة أحمد بن أبي قابوس. ثم أعيد أفلج إلى الخيل، ودريٌّ إلى الشرطة بعد شهر. وفيها، تولي إبراهيم بن محمد بن اللبرقي خطة العقل. وفيها، عزل غالب بن محمد بن عبد الرؤوف عن خطة الضياع، ووليها محمد بن عبيد الله بن مضر، في انسلاخ جمادى الآخرة. ثم عزل عنها ابن مضر، ووليها خلف بن أيوب بن فرج الكاتب؛ وكان يكتب للحاجب موسى بن محمد، وذلك لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة. وفيها، توفي محمد ابن الإمام المنذر؛ وتوفي أحمد بن يحيى بن قاسم بن هلال الفقيه؛ وكان منقبضا، خيرا، صالحا، بصيرا بالوثائق وعللها؛ وتوفي سعيد ابن إبراهيم الفقيه، وكان يلبي الصلاة بكورة رية؛ وتوفي محمد بن هشام القرشي المعروف بابن الشبانسية بكورة شذونة، وهو وعاملها. وفي سنة 317، كان ظهور المحل، واحتباس الغيث، وغلاء الأسعار؛ فعهد الناصر بالاستسقاء بجامع قرطبة يوم الجمعة لليلة بقيت من المحرم، وذلك في شهر آذار. واتصل الاستسقاء في الجامع ومصلى الربض ومصلى المصارة. وفيها، كانت غزاة الناصر إلى مدينة بطليوس، لمحاربة أهلها وابن مروان المنتزي عليه فيها؛ فبرز - رحمة الله عليه - لغزاته هذه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول، وهو اليوم الثالث عشرين من نيسان؛ وفصل من قصر قرطبة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وهو اليوم الرابع عشرين من أيار، وذلك بعد بروزه بأحد وثلاثين يوما. وأغزى معه ولي عهده الحكم المستنصر بالله، وابنه منذرا، وتخلف في القصر ابنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 المدينة أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف. وكان احتلاله بالجيوش على مدينة بطليوس يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر. وواضعهم الحشم القتال في أفنيتهم وعلى أبواب دورهم، وتقحموا عليهم داخل أرباضهم، وقتلوا منهم في ثاني احتلالهم عليهم جملة بعثت رؤوسهم إلى قرطبة. وقطعت ثمارهم، وأحرق ما أخلوه من ديارهم خارج سورهم؛ وبقوا محصورين في المدينة. وأقام عليهم الناصر عشرين يوما؛ ثم أبقى عليهم أحمد بن إسحاق في قطيع من الجند، وانتقل إلى جهة ماردة؛ فأصلح الأحوال بها، وولاها محمد بن إسحاق، وندب معه عدة من الحشم) . ثم عاد - رحمه الله - إلى مدينة بطليوس؛ فاضطربت عساكره عليها من غير الجهة التي كانت اضطربت فيها أولا؛ وتولي من نكايتهم وأليم محاصرتهم، ما أذاقهم به وبال عصيانهم، وعاقبة غيهم، وضلالهم. ثم أرتب عليهم أحمد بن إسحاق قائدا في جيش كثيف، ورجال منتقين، وعدد كاملة، وأمره بالتشدد في حصرهم، والاستبلاغ في مضايقتهم. وانتقل ناهضا إلى مدينة باجة؛ فنزلها يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة، واضطربت عساكره عليها، وتقدَّم بالإعذار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن مالك الذي كان بها، ودعاه إلى الطاعة؛ فلاذ والتوى؛ فتصبت المجانيق عليه، وحورب أشد محاربة، وقتل من رجاله عدد كثير. وانحطت بعض أبراج المدينة بمن كان عليها؛ فضربت رقابهم بين يدي المظل؛ فاستأمن عبد الرحمن بن مالك، وأهله، وجميع أهل باجة أمير المؤمنين الناصر، وخضعوا لأمره، ونزلوا على حكمه؛ فأوسعهم أمانه، وأخرجوا عن المدينة، ونقلوا إلى قرطبة. ودخلها الناصر، وولاها عبد الله بن عمر بن مسلمة، وندب معه فيها قوة، وأكتف له الجمع والعدة، وأمره بابتناء قصبة فيها، ينفرد بها العامل ويسكنها. وكان مقام الناصر على باجة خمسة عشر يوما. ثم انتقل منها قاصدا إلى مدينة أكشونبة بقرب الساحل الغربي من البحر المحيط؛ فاحتل بها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة؛ وكان قد افتتح في طريقه حصن الوقاع، وأصاب فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 لخلف بن بكر صاحب أكشونية أموالا وعدة وسلاحا؛ فغنم ذلك الحشم وأهل العسكر، وصار لهم نقلا. ثم تلقى رسل خلف بن بكر أمير المؤمنين، مظهرا للإنابة، وملتزما للطاعة، ومتوسلا ببعد الدار والقاصية، وأخرج إلى الناصر النزائل، وأقام له الوظائف، والتزم إدرار الجباية الكاملة؛ وأظهر أهل ذلك الجانب فيه رغبة شديدة، ووصفوه بسيرة حميدة، فأقره الناصر عليهم، وفرض عليه من الجباية ما التزم إيراده له في كل عام، وعهد إليه بحسن السيرة، والرفق بالرعية، وألا يقبل نازعا، ولا يكتنف هاربا؛ فالتزم جميع ما أمر به، ووقف عندما حد له. وقفل الناصر عن مدينة أكشونبة يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، ودخل القصر بقرطبة يوم الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، وقد استتم في غزاته ثلاثة وتسعين يوما. مطالعة أمير المؤمنين الناصر لببشتر في الشتاء وفي هذه السنة، كانت للناصر خرجة من قصر الناعورة، طالعا لببشتر ومعاينا لما قام من البنيان بها، وما تم من ترتيبه فيها. وكان خروجه من منية الناعورة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، ونزوله بجبل ببشتر يوم الخميس لعشر بقين منه. فدخل المدينة، وجال فيها، وأحكم ما له قصد من أمرها؛ ثم صدر عنها في اليوم الثاني، ودخل القصر بالناعورة يوم الثلاثاء لأربع بقين من شوال؛ وكانت مدَّة توجهه وانصرافه ثلاثة عشر يوما. وترددت الفتوحات في هذا العام بوقائع كانت على أهل بطليوس؛ وبعث أحمد بن إسحاق من أهلها بسبعين أسيرا، وقتلوا صبرا بين يدي قصر قرطبة. وافتتحت فيه مدينة شاطبة من بلنسية، واستنزل عنها عامر بن أبي جوشن على يدي دريّ بن عبد الرحمن صاحب الشرطة؛ واشترط عامر بسكنى شنت برية، حتى يأخذ في انتقال ثقله وعياله إلى قرطبة. وفي هذه السنة، ولي الناصر عبد الملك بن عمر بن شهيد، وعيسى بن أحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ابن أبي عبدة الوزارة، وسعيد بن سعيد بن حدير الشرطة الوسطى؛ ولم تكن قبل هذه الخطة؛ وفيها، ولي خالد بن أمية بن شهيد الخزانة ولاية ثانية، وولي عبد الرؤوف بن أحمد بن عبد الوهاب خطة العرض. وفي سنة 318، كان افتتاح مدينة بطليوس وذلك أن أهلها وابن مروان صاحبها، لما أخذهم الحصار، وطاولتهم الحرب، وفنى رجالهم، واستبيحت نعمهم، وقطعت ثمراتهم، ورأوا عزما لا فترة فيه، وجدا لا بقاء لهم عليه، استأمنوا الناصر، وعاذوا بصفحه؛ فأوسعهم ما أوسع أمثالهم قبلهم. واستنزل ابن مروان الجليقي وأهله، وذوى الشوكة من صحبه، وأسكنهم قرطبة، وألحقهم في الملاحق السنية؛ وملك المدينة وولاها عماله، وصارت بسيل كوره. وفيها، أخرج الناصر لدين الله أهل الثقة من خدمته، والأمانة والتصحيح من فقهاء مصره إلى أهل طليطلة، معذرا إليهم، داعيا لهم إلى الطاعة والدخول فيما صارت إليه الجماعة، إذ كانوا لا يؤدون جباية، ولا يلتزمون طاعة، ولا يتناهون عن منكر ولا معصية؛ فازوا بمعاذير المخادعة، وجاوبوا الناصر بما لم يضغ إليه من غشهم وتمريضهم؛ فاستعزم على غزوهم، وشمر لمناهضتهم وإنزال بأسه بهم. وبرز للغزو في الصائفة إليهم في صدر ربيع الآخر سنة 318، وفي شهر نيسان من العام المؤرخ. وقدم الوزير سعيد بن المنذر إلى مدينة طليطلة في جيش كثير وعدد جم، وأمره بالاحتلال عليها والمحاصرة لها، حتى يلحق الناصر بجيوشه وصنوف حشمه بها. فخرج إليها الوزير يوم السبت لثمان بقين من ربيع الآخر، وأغذ السير نحوها، حتى نزل بساحتها. وأخذ في ما حد له من محاصرتها بأبلغ عزم وأتم حزم؛ ثم فصل أمير المؤمنين إلى مدينة طليطلة يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى، وهو التاسع عشرين من أيار؛ وأغزى مع نفسه ولي عهده الحكم المستنصر بالله ومنذرا ابنه؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وتخلف في القصر أبنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف. فلما احتل - رحمه الله - في طريقه بمحلة الغدر، وقرب من حصن مورة الذي كان اتخذه أهل طليطلة شجا على المسلمين ومسترحا للمفسدين، وقدموا عليه منهم مطرف بن عبد الرحمن بن حبيب، قدم إليه من أنذره وخوفه، وأمره بالخروج عن الحصن وإسلامه. فبدر إلى ذلك بدرا لم يجد منه بدا، ولا في الامتناع طمعا؛ ونزل عن الحصن. وأمر الناصر بضبطه؛ ثم نهض بجيوشه المؤيدة، وعزيمته الماضية، حتى احتل محلة جرنكش بقرب طليطلة، وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولي. فأشرف من محلته هذه على سهلة طليطلة ونهرها، وأجنتها وكرومها؛ ودبر رأيه في أمكن المواضع من محاصرتها، وأقرب الجهات الآخذة بمخنق أهلها؛ فرأى النزول بمحلة المقبرة على باب المدينة أبلغ في النكاية، وأشد في المضايقة؛ فارتحل إليها في اليوم الثاني، وأخذ في نكاية العصاة، بما لم يجر لهم على ظن) . وأقام بهذه المحلة سبعة وثلاثين يوما، يوالي فيها بنكايتهم، وقطع ثمراتهم، وتخريب قراهم، وانتساف نعمهم، وتحطيم زروعهم. ثم أمر بالبنيان في جبل جرنكش لمدينة سماها بالفتح، وأرتب لبنيانها سعيد بن المنذر الوزير، وأمر بنقل الأسواق إليها، والتمدين لها، لتكثر مرافق أهل العسكر بها؛ وأرتب محمد بن سعيد بن المنذر على باب القنطرة في جمل من الحشم، وعهد إليهما بالاستبلاغ في محاربة القوم. وقدم على الناصر بمحلته على طليطلة صاحب حصن قنيلش وصاحب حصن الفهمين، معتصمين بطاعته؛ فأمر بنقلهما إلى قرطبة، والتوسع عليهما، ومكافأة نزوعهما وقصدهما. ثم قفل الناصر عن مدينة طليطلة يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة، ودخل القصر بقرطبة يوم الأثنين لأربع خلون من رجب، وقد استتم في غزاته أحدا وستين يوما. وفي هذه السنة، ولي المواريث طرفة بن عبد الرحمن صاحب المطبخ؛ وولي خزانة السلاح أحمد بن أبان بن هاشم، وحفص بن سعيد بن جابر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وفيها، مات الناصر ابن يسمى بمحمد. وفيها، مات أمية بن محمد بن أمية ابن عيسى بن شهيد. وفيها، توفي هاشم بن محمد النجيبي. وفيها، توفي محمد بن إبراهيم بن الجباب الفقيه، صاحب الوثائق، يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر رمضان؛ وتوفي صهيب بن منيع قاضي إشبيلية؛ وتوفي أبو غالب مروان بن عبيد الله بن بسيل. وفي سنة 319، أبرز السرادق والأبنية إلى المضطرب المعروةف بفحص السرادق بجوني النهر الأعظم؛ ثم برز الناصر إلى هذه المحلة لغزاة نواها إلى مدينة طليطلة؛ ولم يتم عزمه عليها إذ استغنى بالقواد المرتبين على المدينة، المحاصرين لأهلها؛ وأكتف للقواد بها الخيل والعدة، وأمدهم بالسلاح، وأكد بصائرهم في الجد والعزم والاستبلاغ في نكاية المفسدين المغترين من أهلها. وفي سنة 319، كاتب موسى بن أبي العافية، صاحب الغرب، أمير المؤمنين الناصر، ورغب في موالاته، والدخول في طاعته، وأن يستميل له أهواء أهل الغرب المجاورين له؛ فتقبله أحسن قبول، وأمده بالخلع والأموال، وقوى أيده على ما كان يحاوله من حرب ابن أبي العيش وغيره. فظهر أمر موسى من ذلك الوقت في الغرب، وتجمع له كثير من قبائل البربر، وتغلب على مدينة جراوة، وأخرج عنها الحسن بن أبي العيش بن إدريس العلوي؛ وجرت بينهما حروب عظيمة. وفيها، افتتح الناصر مدينة سبتة؛ فشكها بالرجال، وأتقنها بالبنيان. وبنى سورها بالكذان، وألزم فيها من رضيه من قواده وأجناده؛ وصارت مفتاحا للغرب والعدوة من الأندلس، وباب إليها كما هي الجزيرة وطريف مفتاح الأندلس من العدوة. وقامت الخطبة فيها باسم أمير المؤمنين الناصر، لثلاث خلون لربيع الأول من العام المؤرخ. وفيها، اتصل بالقواد المحاصرين لطليطلة أنَّ العدو بذلك الجانب عملوا على الخروج لافتراض غرَّة في بعض ثغور المسلمين؛ فنفر إليهم الوزير أحمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 محمد بن حدير من قرطبة في جملة من الحشم ومن خف من المسلمين؛ فلما بلغ أعداء الله خروجه، توقفوا عن حركتهم، وقرُّوا في بلادهم؛ وكفى الله المؤمنين معرتهم. فبلغ القائد أحمد بن محمد بن حدير طليطلة، ونازلها مع القواد المرتبين فيها. وفيها، خرج بالأسطول أحمد بن محمد بن إلياس، ويونس بن سعيد قائدين في البحر، يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولي، في عدة، ومراكب جملة، ورجال كثير، وصنوف من البحريين والمقاتلين؛ فجازا مرسى الجزيرة، واحتلا العدوة، وحاصروا ابن أبي العيش، إذ كان على مخالفة لمن دخل في طاعة أمير المؤمنين من أهلها، ومحاربة لموسى بن أبي العافية وليه ومقيم دعوته والداخل في طاعته؛ ثم حال الشتاء بينهما وبين التمادي على الحصار والمطاولة؛ فقفلا بالأسطول ومن فيه. وفيها، عزل أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف عن المدينة، وقدم إلى الوزارة؛ وولي المدينة يحيى بن يونس القبرسي وذلك في غرة جمادى الأولي. ثم عزل يحيى بن يونس عنها، وكانت فيه حدة ومحارجة لأهل الجرم، ووليها عبد الحميد بن بسيل الوزير في شوال. وفيها، ولي خطة العرض عبد الوهاب بن محمد بن عبد الرؤوف، وولي الضياع محمد بن عبد الله بن مضر، وعبد الله بن معاوية بن بزيل مشتركين. وفيها، ولي الناصر، من تحت يدي ولي العهد المستنصر بالله، أحمد بن هاشم بن أحمد بن هاشم مولاه عمالة عبلة وفنيانة من إلبيرة. وفيها، مات أبو الجعد أسلم بن عبد العزيز بن هاشم بن خالد بن عبد الله بن خالد بن عبد الله بن حسين بن جعد بن أسلم بن أبان بن عمرو مولي عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ وكان قاضي الجماعة بقرطبة، وله رحلة وسماع؛ وكانت فيه صلابة وإنفاذ للحق على وجوهه؛ وعزل عن القضاء قبل وفاته إذ أخذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 الكبر، وضعف عن القعود للأحكام؛ وكانت وفاته يوم الأربعاء لست خلون من شعبان، وهو ابن سبع وثمانين سنة. ومات في هذا العام فضل بن سلمة الفقيه البجاني، وكان له سماع وتأليف حسن؛ وتوفي محمد بن فطيس الفقيه المحدث بإلبيرة؛ وتوفي أحمد بن حامد الزجالي في جمادى الأولى. وفيها، ماتت السيدة ابنة الإمام عبد الله لثمان بقين من ذي الحجة؛ وكانت قد نافرت أمير المؤمنين الناصر أيام حداثته وقبل إفضاء الخلافة إليه، وهو حينئذ ولد في القصر بين يدي الإمام عبد الله جده؛ وطالبته وآذنه عند أبيها عبد الله الإمام؛ فلما ولي الناصر، لم تشك في معاقبته لها، ومجازاته لسوء معاملتها؛ فكان الأمر على خلاف ظنها؛ وقرب الناصر مكانها، ورفع منزلتها، واختصها في جملة من اختص من أهله وبنات أعمامه، حتى صارت أقربهن محلا منه. وفيها، توفي عبيد الله بن فهر، وكان متصرفا في العمالات والقيادة، وذلك يوم السبت لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة. وفي سنة 320، كان غزو الناصر إلى مدينة طليطلة، غزاته الثانية التي فتحت فيها عليه، فبرز لهذه الغزاة في صدر جمادى الآخرة سنة 320، في شهر حزيران من العام المؤرخ، وفصل يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، وهو اليوم الحادي عشر من تموز، مع وليّ عهده الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين. وتخلف في القصر ابنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه؛ ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعبد الحميد بن بسيل، وكان صاحب المدينة. وكان أهل طليطلة، لما أخذهم الحصار، واشتد عليهم التضييق، ولازمهم القواد، قد استجاشوا بالمشركين، واستنجدوهم، ورجوا نصرهم لهم؛ فلم يغنوا عنهم فتيلا، ولا كشفوا عنهم عذابا، ولا جلبوا إليهم إلا خزيا وهوانا. وخرج الفؤاد المحاصرون لهم إلى الكفرة؛ فهزموهم، وفرقوا جموعهم، وانصرفوا مولين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 على أعقابهم، خاذلين لمن انتصر بهم، ورجا الغياث من قبلهم. فلما يئس أهل طليطلة أن ينصرهم أحد من بأس الله الذي عاجلهم، وانتقامه الذي طاولهم، عاذوا بصفح أمير المؤمنين، وسألوه تأمينهم، وضرعوا إليه في اغتفار ذنوبهم؛ فخرج لاستنزال أهل طليطلة، وتوطيد طاعته فيها، وإحكام نظره بها، في التاريخ الذي قدمنا ذكره؛ فنزل عليها بمحلة جرنكش، يوم الأربعاء لخمس بقين من رجب؛ وقد كان بدر إليه ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث مقدمها، وتلقاه قبل نزوله بها، معترفا بجهله، ومستقبلا من زلته؛ فعفا عنه الناصر، وعاد عليه بفضله. ثم أمن أهل طليطلة، وخرجوا إلى العسكر، ونالوا المرافق فيه، وابتاعوا المعايش التي طال ما أجهدهم عدمها، ومنعهم الحصار منها؛ فعرفوا غبطة ما صاروا إليه من الأمن بعد الخوف، والسعة إثر الضيق، والانبساط بعد طول الانقباض. ثم ركب الناصر إلى مدينة طليطلة في اليوم الثاني من نزوله بمحلته عليها، ودخلها، وجال في أقطارها؛ فرأى من حصانتها، وشرف قاعدتها، وانتظام الأجبل داخل مدينتها، وامتناعها من كل الجهات بواديها ووعرها، وطيب هوائها وجوهرها، وكثرة البشر بها، ما أكثر له من شكر الله عز وجل على ما منحه فيها، وسهل له منها؛ وعلم أنه، لولا ما أخذ به من الجد والعزم في أمرها، لما ملكت مع حصانتها ومنعتها مع اتساعها وانفساح أقطارها، ولما اعتاده أهلها من مداخلة المشركين وموالاتهم، والاستمادا على الخلفاء بهم؛ فكم أعيت الملوك، وامتنعت من العساكر، وانصرفت عنها الصوائف بغير نجح؛ ولكن فضل الله عز وجل الذي أعطاه أمير المؤمنين، وصنعه له، وتأييده إياه أجرى افتتاحها على يديه. ثم دب فيها بناء محكما متقنا، ليكون مستقرا للقواد الملازمين فيها، وزماما على ساكنيها؛ وأرتب على البنيان بها دريّ بن عبد الرحمن قائده، وملأها رجالا وعدة وسلاحا. وركب إليها الناصر، وأمر بهدم ما وجب هدمه في المدينة، وتردد عليها ثمانية أيام حتى أكمل فيها ما دبره، وهذب ما أراده. وفتحت أسوس البنيان الذي أمر به؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 واطمأنت بأهل المدينة الدار، وفتحوا الحوانيت، وانتشروا في الأسواق؛ وانبسطوا في أفنيتهم وأبواب مساجدهم، آمنين، والحمد لله. ثم قفل الناصر عن محلته بطليطلة، يوم السبت لست خلون من شعبان، ودخل القصر بقرطبة يوم السبت لعشر بقين منه، وقد استتم في غزاته ستة وثلاثين يوما. وفيها، صنع الناصر لضروب رجاله ومواليه وصنوف أجناده وحشمه ممن شاهد فتح طليطلة معه، ووافق ذلك تطهيره لبعض بنيه الأصاغر. وفيها، عزل عن خزانة المال محمد بن عبد الله بن حدير، وعبد الرحمن ابن عبد الله الزجالي، ونقل أحمد بن عيسى بن أبي عبدة عن الخزانة إلى قيادة بجانة. وأقر من الخزان خالد بن أمية بن شهيد، ومحمد بن جهور بن عبد الملك؛ وولي مكان المعزولين عنها سكن بن إبراهيم، وأحمد بن محمد ابن مستنبر. وفيها، ولي الخال سعيد بن القاسم خطة العرض. وفيها، ولي المدينة فطيس بن أصبغ لإحدى عشرة ليلة هلت من شوال. وفيها، ولي العرض محمد بن قاسم نبن طملس. وفيها، ولي السكة يحيى بن القرسي، وذلك يوم السبت لأربع خلون من شوال؛ وعزل هذا النهار عنها أحمد بن محمد بن موسى بن حدير. وفيها، توفي أحمد بن أبي نوفل القرشي، وهو أحمد بن محارب بن قطن ابن عبد الواحد بن قطن بن عصمة بن أنيس بن عبد الله بن جحوان بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وكان منقبضا متزهدا، وبلغ من السن خمسا وسبعين سنة. وفيها، مات الحاجب موسى بن محمد بن حدير، للنصف من شهر صفر ليلة الأحد، بعد صلاة المغرب، وبلغ من السن خمسا وستين سنة. وفيها، توفي عبيد الله بن عبد الله الزجالي، وكان على المواريث والبنيان، في رمضان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وهو ابن إحدى وأربعين سنة. وفيها، مات أحمد بن محمد الزجالي، وكان قد تصرف في الخدمة، وله أدوات وحركة؛ وتوفي فيها عمران بن أبي عمر المتطيب، وكان قد كف بصره، وهو من المتظرفين المتطيبين، وصحب الملوك، وخف على أمير المؤمنين الناصر؛ وكان يوصله ويحضره مجالس راحته، وهو أعمى) . وفي سنة 321، وصل الخبر إلى قرطبة بولاية أبي المنصور بن المعتز مدينة سجلماسة، وهو غلام ابن ثلاث عشرة سنة؛ فمكث في ولايته شهرين، وقام عليه ابن عمه محمد بن الفتح، وأخرجه منها، وتملكها، وتسمى بأمير المؤمنين، وتلقب بالشاكر لله، وذلك بعد مدَّة نحو من عشرين سنة، وضرب الدنانير الشاكرية. وفي سنة 322، وصل الخبر إلى قرطبة بوفاة أمير إفريقية عبيد الله الشيعي الملقب بالمهدي، وتقدم ولده أبي القاسم المتلقب القائم بأمر الله. وفي سنة 323، وصل إلى مدسنة فاس ميسور الصقلي قائد أبي القاسم الشيعي أمير إفريقية؛ فحاربه أهل فاس سبعة أشهر، ولم يقدر عليهم؛ ثم حاصر ابن أبي العافية، واستعان عليه ببني إدريس؛ فانجلى ابن أبي العافية إلى الصحراء، وصار جميع ما كان لابن أبي العافية لبني إدريس؛ وقد تقدم خب بني إدريس. وفي سنة 324، ظهر أبو يزيد مخلد بن كيداد بإفريقية على أبي القاسم الشيعي، وذلك في جبل أوراس، وفيه قلاع كثيرة يسكنها هوارة وغيرهم، وهم على رأي الخوارج. وفي سنة 325، أمر الناصر ببناء مدينة الزهراء؛ وكان يصرف فيها من الصخر المنجور ستة آلاف صخرة في اليوم، سوى التبليط في الأساس، على ما أذكره بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وفي سنة 327، قام بالغرب الأقصى أبو الأنصار بن أبي عقير البرغواطي بعد موت أبيه؛ وكان يفي بالعهد والوعد، وهو الذي بعثه عقير البرغواطي رسولا إلى الحكم المستنصر بالله، ابن أمير المؤمنين الناصر. وفي سنة 329، استتم القائد أحمد بن محمد بن إلياس مدينة سكتان، وشحنها بالرجال، وأتخذ فيها الأطعمة والأسلحة؛ فأخرج الناصر إليها أحمد بن بعلي قائدا في ضروب من الحشم، ضمهم إليه؛ فنفذ إليها في صفر من هذه السنة؛ فلما كان في غرة جمادى الأولي منها، وافى فتح من قبل أحمد بن بعلي القائد بسكتان الحديثة؛ بدخول كان له منها إلى جهة من عمل الطاغية ردمير؛ فقتل وسبى وأسر، وأرسل مع كتابه إلى قرطبة مائتي علج أسراء؛ وكان هذا أول فتح لابن بعلي أذل به الطاغية ردمير. وفي سنة 330، في المحرم من هذه السنة، طلع كوكب الزباني في الأفق الغربي بقرطبة إزاء العقرب، منحرفا عنها، يكاد يتصل بالفلكة العليا في رأي العين؛ وكان أول ليلة لاح فيها للأنصار ليلة السبت لثلاث بقين من المحرم منها، وهي ليلة ست عشرة خلت من أكتوبر؛ وتمادى طلوعه مستعليا مكبرا في السماء حتى توارى. وفي سنة 331، في يوم الخميس لخمس خلون من صفر منها، دخل الوزير القائد أحمد بن إلياس إلى قرطبة قافلا عن غزاته إلى الثغر التي خرج إليها في عقب شوال من سنة 330 قبلها، إلى ثلاثة أشهر ويومين من خروجه عنها؛ ودخل في سفرته هذه كورة تدمير؛ فأزال الالتباث الواقع من أهلها إزالة، وقدم برهائن بعضهم؛ وكان أثره جميلا. وفيها، كان المدُّ العظيم بنهر قرطبة، الثالم لقنطرتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وفي سنة 332، أغزى الناصر لدين الله القائد أحمد بن محمد بن إلياس إلى جليقية؛ فدخل دار الحرب؛ فغنم، وأحرق جملة من حصونهم هنالك، وقفل راجعا. وفيها، كانت زلزلة عظيمة بقرطبة، ليلة الأثنين لتسع خلون من ذي القعدة؛ قلم ير قط مثلها ولا سمع من قوتها؛ ووقعت بعد العشاء الآخرة؛ فدامت ساعة؛ ففزع أهل قرطبة لها فزعا شديدا، ولجئوا إلى المساجد فيها، وضجوا بالدعاء إلى الله تعالى في كشفها، حتى أغاثهم وصرفها عنهم. وفي صبح ليلة الزلزلة، هبت ريح عاصف ردفتها أخرى؛ فاقتلعا كثيرا من شجر الزيتون والتين وغيرهما من الأشجار والنخيل، وأطارا كثيرا من قرمد السقف. ونزل إثر ذلك مطر وابل طبق الأرض، وبرد غليظ؛ فقتل كثيرا من الوحش والطير والمواشي، وأتلف ما أصاب من الزرع، وأساء التأثير. وفي سنة 333، في المحرم، هبت بقرطبة ريح عاصف من ناحية القبلة ونزل برد غليظ. وفيها، ظهر بأشبونة رجل يزعم أنه من ولد عبد المطلب وأن أمه مريم ابنة فاطمة؛ وادعى مع النسب أنه نبي وأن جبريل ينزل عليه، وسن لاتباعه سننا، وشرع لهم شرائع، منها حلق الرأس وغير ذلك مما لا يعقل؛ ثم وقع عليه البحث، فخفي أثره. وفيها، أخرج الناصر قاسم بن محمد قائدا إلى عدوة الغرب بحرب بني محمد الأدارسة الحسنيين للذي بدا من خلافهم عليه في هذه السنة، ونقضهم الطاعة، بعد ما قدم الكتب إلى محمد بن الخير عظيم زناته وغيره من ولاته بالغرب، يأمرهم بالاستعداد لذلك والمعونة عليه. وأجاز قاسم البحر إلى سبتة في النصف من ربيع الأول؛ فلما تبين ذلك لكبير بني محمد، وهو أبو العبش بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أسرع إلى تحقيق الطاعة للناصر؛ فعقد له الأمان على نفسه، وانفذ إليه أبنه محمد بن أبي العبش إلى قرطبة، مؤكدا لطاعته؛ فاحتفل السلطان لدخوله احتفالا عظيما، وركب الوافد محمد مع مستقبله من قبل الناصر القائد أحمد بن يعلى في أهبة راقت العيون وملأت الصدور. ووصل إلى قصر الزهراء، وقعد له الناصر أفخم قعود؛ فأوصله إلى نفسه، وأبلغ في تكريمه؛ ثم خرج عنه في مثل الهيئة التي دخل عليها. ودخلت بدخول محمد بن أبي العبش في هذا النهار على الناصر رسل لبني عمه الأدارسة أمراء الغرب. وانعقد في هذا النهار كتاب أمان محمد بن إدريس. ودعا الناصر أيضا محمد بن أبي العبش؛ فبالغ في تكريمه، وأقام بقرطبة بقية هذه السنة في تكرمة. وانصرف الوفد المذكور بعد التزامهم للطاعة للناصر، وذلك فيخبر طويل. وفي عقب شوال، قدم رسول الخير بن محمد بن خزر الزناني أمير الغرب ومعه رسول حميد بن يصل الزناني، يعرفان الناصر بما كان من دخولهما مدينة تاهرت، وأنهما أقاما فيها الدعوة له. وفي منسلخ شوال، قدم على الناصر رسولان من أبي يزيد مخلد بن كيداد المعروف بصاحب الحمار، القائم بإفريقية على أبي القاسم الشيعي، برسالة منه يخبر بتغلبه على القيروان ورقادة وعملهما، وإيقاعه بأصحاب الشيعي فيها، وما يعتقده من ولاية الناصر، وياوي إليه من اعتقاد إمامته. واتصلت كتب أبي يزيد ورسله على قرطبة من ذلك الوقت إلى حين وفاته. وفي سنة 334، جلس الناصر لدين الله لوداع رسل أهل القيروان الواردين عليه من قبلهم وقبل أبي يزيد مخلد بن كيداد اليفرني الناجم بأرض إفريقية في ذلك الوقت، محتسبا في جهاد ملوك الشيعة المنتزين على إفريقية من آل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 عبيد الله الداعي، وكان له في القيام عليهم وقائع شنيعة؛ فوصلوا إلى الناصر في هذا اليوم، وهم ثلاثة نفر، أوجههم تميم بن أبي العرب التميمي؛ فكلمهم بما تقتضيه رسالتهم، ودفع إليهم أجوبة من أرسلهم، وأذن لهم في الانصراف إلى بلدهم، ووصلهم وكساهم؛ فانطلقوا لسبيلهم. وفيها، وصل إلى قرطبة رسل ملك الروم الأكبر قسطنطين بن ليون صاحب القسطنطينة العظمى، يكتب من ملكهم إلى الناصر؛ فقعد الناصر على سرير الملك بقصر قرطبة لدخولهم عليه، ولمن تكامل بالباب من وفود البلاد، بعد أن أمر باستقبالهم بالعدد والأجناد. واستوى الناصر على سريره؛ وقعد على يمينه ابنه الحكم؛ وقعد سائر أولاده عن يمينه ويساره؛ وقعد الوزراء والحجاب على منازلهم صفوفا. فدخل الرسل، وقد قدموا الهدايا بين أيديهم، وقد دهشوا لهول ما عاينوه من جلالة الملك ووفور الجمع؛ فصقعوا بين يدي الخليفة؛ فأشار إليهم أن لاَّ؛ فدفعوا إليه كتاب مرسلهم قسطنطين. وكان الكتاب مصبوغا بلون سماءي، مكتوبا بالذهب. وفيها، كان السيل العظيم بقرطبة؛ وبلغ الماء في البرج المعروف ببرج الأسد؛ فهدم من آخر القنطرة، وثلم الرضيف وغيره. وفيها، قدم على الناصر محمد بن محمد بن كليب من القيروان؛ فحكى أن أبا القاسم بن عبيد الله الشيعي هلك بالمهدية، وهو محصور من أبي زيد؛ وأن شيعته قدمت ولده إسماعيل مكانه، وأنه فارس شجاع، أبي النفس؛ أقدم على أبي يزيد وجموعه، ولاقاه بمدينة سوسة؛ فانهزم أبو يزيد أمامه إلى القيروان. وفي عقب صفر منها، ولي خزانة السلاح عبد الأعلى بن هاشم المتوفي في المحرم منها. وفي سنة 335، كان ابتداء بناء مدينة سالم بالثغر الأوسط. وفي كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 ابن مسعود: في سنة 335، ابتنى الناصر مدينة سالم القديمة التعطيل بالثغر الأوسط الشرقي، المواجهة لبلد قشتيلة - دمرها الله تعالى -، وهي يومئذ خالية مقفرة. وأرسل لذلك غالبا مولاه في جيش جرده معه من الحضرة، وأنفذ العهد إلى قواد الثغر بالاجتماع إليه لبنيانها؛ فسارعوا إلى أمره، وبنيت أحسن بناء؛ ونقل إليها البناؤون من بلاد الثغر للاختطاط لديارها والرباط بها؛ فتم ذلك في صفر من هذه السنة. واطمأنت الدار بمن نزلها من المسلمين؛ واكتمل بناؤها وعمرانها على مرور الأيام؛ فنفع الله المسلمين بها، وصيرها شجا في حلوق الكافرين. قال: ووافى في إثر كتاب القائد ابن حدير وابن هاشم كتاب من قبل عامر بن مطرف بن ذي النون إلى الناصر بما فتح الله له في المشركين، وقتله العدد الكثير منهم، وبعثه برؤوسهم؛ فتمت الفتوح، وعمت الفروح، وعز الإسلام، واستبشر الأنام، وطابت الأيام، بحمد وليّ الإنعام، الذي منه يرجى التمام، عز وجهه! وفيها، كان القحط الكائن بقرطبة. وفيها، وصل إلى قرطبة أيوب بن أبي مخلد بن كيداد اليفرني الأباضيُّ رسولا من والده أبي يزيد؛ فقعد له الناصر قعودا؛ فأوصله إلى نفسه، وكرم لقاءه، وأمر بإنزاله في قصر الرصافة؛ وقد أعد له فيه من الفرش والوطاء والغطاء والآنية والآلة ما يعد لأمثاله؛ فأقام هنالك تحت نزل واسع وكرامة موصولة. وفي سنة 336، في يوم الجمعة التاسع من المحرم منها، ورد كتاب قند مولى الناصر، القائد يومئذ بطليطلة، بفتح فتحه الله على يده في أعداء الله أهل جليقية؛ فقرئ في المسجد الجامع بقرطبة والزهراء؛ وبعث من ذلك برؤوس وخيل أصيبت لأعداء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وفيها، عزل الناصر عبد الله بن محمد عن السكة، وسخط عليه لتقصير ما كان فيه وأمر بسجنه. وقدم عبد الرحمن بن يحيى بن إدريس الأصم، ونقل السكة من مدينة قرطبة إلى الزهراء. وفيها، خرج الكاتب جعفر بن عثمان المصحفي إلى ميورقة وذواتها لإصلاح ما فسد من حالها. وفيها، وصل حميد بن يصل المكناسي إلى قرطبة قاصدا إلى الناصر من بلده من الغرب؛ فاستقبل بالجيش والزينة؛ وكرم الناصر مورده، وأجمل موعده. وفي سنة 337، في النصف من المحرم، قعد الناصر بقصر الزهراء قعودا بهبا؛ فدخل إليه حميد بن يصل؛ ثم وصل بعده منصور وأبو العبش، ابنا ابن أبي العافية، ودخل معهما حمزة بن إبراهيم، صاحب جزائر بني مزغنا؛ فوصلهم وكساهم، وأذن لهم في الانصراف إلى بلادهم. وفيها، صلب بقرطبة عليُّ بن عشرة، من أهل أشبونة، بعد أن قطعت يداه ورجلاه؛ وكان من المفسدين في الأرض بقطع السبل. وفيها، كانت وقيعة أرتقيرة على العدو - دمره الله -. وفي سنة 338، كان قدوم رسل ملك الروم الأكبر صاحب القسطنطينة على الناصر، راغبا منه إيقاع الموالفة واتصال المكاتبة؛ فتأهب الناصر لورودهم عليه، وأمر بتلقيهم في الجيش والعدة؛ وجلس لهم الناصر الجلوس المشهور الذي ما تهيأ مثله لملك قبله في جلالة الشأن، وعزة السلطان؛ ووصف ذلك يطول. ودفعوا كتاب ملكهم في رق مصبوغ سماءي مكتوب الذهب؛ وكان على الكتاب طابع ذهب، وزنه أربعة مثاقيل، على الوجه الواحد منه صورة المسيح - عليه السلام -، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده. وفيها، أمر الناصر أحمد بن يعلى وحميد بن يصل المكناسي بالخروج إلى بني محمد الأدارسة الحسنيين أمراء الغرب، ففصلا بمن ضم إليهما من الجيش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 إلى الخضراء؛ وكان خروجهما من قرطبة للنصف من رجب. وفي عقبه، قدم على الناصر رسول من بعض الحسنيين، يذكر طاعتهم إليه، وانقيادهم لأمره في هدم مدينة تطلون التي أنكر عليهم بناءها؛ فعقد لهم في أول شعبان، وأمر بمحاربتهم؛ ثم وصل محمد بن أبي العبش الحسني إلى الناصر من أبيه أبي العبش؛ فأقبل عليه الناصر، وابلغ في تكرمته؛ ثم ورد الخبر بوفاة أبي العبش، فأوصل الناصر أبنه محمدا إلى نفسه، وعزاه عن والده، وعقد له على عمله، ووصله، وخلع عليه وعلى الوافدين معه، وصرفهم. فخرج محمد مبادرا إلى عمله بالغرب. وكان، عند وفاة أبيه أبي العبش، قصد ابن عمه قنون إلى بلده؛ فاحتوى على ماله وأهله. ولما بلغ البربر إقبال محمد بن أبي العبش إلى بلده من قبل الناصر، رجعوا إلى عيسى بن قنون، وقد خرج عن تبكيساس؛ فقطعوا به، وكسروه، وسلبوه ما كان أخذه لابن عمه، وقتلوا أكثر أصحابه؛ فلم يخلص إلا في سبعة فوارس. وفيها، وصل إلى قرطبة أحمد بن الاطرابلسي رسول البوري بن موسى بن أبي العافية بكتاب يذكر أنه صح عنده أن الخبر بن محمد بن خزر الزناتي وصل إلى تاهرت، فحاربها؛ فاستنصر أهلها بميسور قائد الشيعي؛ فالتقوا؛ فدارت الدائرة على ابن خزر أول نهارهم، ثم كانت الكرة لوناتة؛ ودخل الخير أميرهم مدينة تاهرت وملكها في غرة ذي القعدة، وأخذ قائد الشيعى أسيرا في عدة من أصحابه؛ ووقع في يده عبد الله بن بكار اليفرني الذي توجه إلى الشيعي برأس أيوب بن أبي يزيد؛ فأرسل به إلى يعلى بن محمد بن صالح اليفرني ليقتله بوالده بعدما كان أخذ كل ما عنده؛ فلم يرض يعلى بذلك، ولا رآه كفوا لعبده، فكيف لوالده؛ ودفعه المذكور إلى رجل من البربر كان قد قتل ابنه، فقتله به. ودخل يعلى بن محمد وهران، فملكها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وفيها، جرت قصة الولد عبد الله بن الناصر التي أراد الله بها ابتلاء أبيه فيه؛ فعجل الوثوب به وبأصحابه آخر هذه السنة، عجل عليهم فيها بأفظع العقاب؛ فقتلهم؛ وتأتي بابنه عبد الله مديدة إلى أن طوقه الحسام في آخر سنة 338؛ وكان الحكم أخوه ذكر عنه أنه يريد القيام على أبيه؛ فقبل قوله فيه. وكان عبد الله من أهل العلم والذكاء والنبل. وفي سنة 339، أخرج الناصر قائده أحمد بن يعلى نحو جليقية، وجاء في انتهاز فرصة من العدو؛ فأعانه الله عليها، واقتحم على غفلة؛ فافتتح ثلاثة حصون، وسبى نحوا من ألف سبية، وانصرف آخر رجب من السنة. وفيها، ورد الخبر بهلك ردمير بن أردون صاحب جليقية؛ فملكت الجلالقة ابنه أردون، ونازعه أخوه غرسية؛ فجرى بينهم اختلاف أظفر الله بن المسلمين. وفيها، وصل إلى قرطبة ابنا البوري بن موسى بن أبي العاقبة أمير الغرب. وورد رسول الأمير الخير أمير زناتة وكبير أمراء الغرب إلى الناصر، يذكر ما أتاح الله له من دخول مدينة تاهرت، وظفره بميسور وعبد الله بن بكار اليفرني قواد الشيعي؛ فقرى كتابه بجامعي قرطبة والزهراء. ثم ورد كتاب عبد الرحمن ابن عبد الله الزجالي من جهة شذونة، يذكر أن بني محمد الأدارسة بالغرب زحفوا إلى حميد بن بصل قائد الناصر، ونزلوا عليه، والتقوا به؛ فكانت الدائرة على بني محمد، وانصرفوا مغلوبين. وفي سنة 340، كانت للمسلمين غزوات على الروم، نصرهم الله فيها. منها فتح على يد قائد بطليوس بجيليقة، هزمهم أقبح هزيمة، قتل جملة من حماتهم ومقاتلتهم، وسبى من نسائهم وذراريهم نيفا على ثلاثمائة رأس؛ ووصل ذلك السبي إلى قرطبة لثلاث خلون من المحرم؛ وفتح آخر على يدي أحمد بن يعلى قائد الناصر؛ وفتح آخر على يدي رشيق قائد الناصر على طلبيرة؛ وفتح آخر على يدي يحيى بن هاشم النجيبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وغي غرة جمادى الآخرة، وهو الثامن من أكتوبر، هبت بقرطبة ريح عاصف، وتتابع البرق، واشتد الهول، ونزلت صاعقة في دار أحمد بن هاشم ابن عبد العزيز، فقتلت امرأة، وأبطلت أخرى. وفي سنة 341، كان للمسلمين غزوة في الروم، نصرهم الله فيه، وفتوحات ومنوحات. وفي آخر جمادى الأولي، وردت الأخبار بأنَّ زبرى بن مناد الصنهاجي عامل الشيعي على تاهرت أسر سعيد بن خزر زعيم زناتة وكبيرها. وفي هذا الوقت، ورد كتاب ابن يعلى قائد الأسطول بقبضة لرهن محمد ابن إدريس الحسني كبير أمراء الأدارسة. وفي آخر جمادى الآخرة، وصل إلى قرطبة فتوح بن الخير بن محمد بن خزر كبير أمراء زناتة بأرض الغرب، وافدا إلى الحضرة، ومعه وجوه أهل تاهرت ووهران؛ وأدخلت بين يديه الرؤوس التي احتزها للقواد المشارقة ووجوههم من رجال إسماعيل الشيعيّ العبيدي، يقدمها رأس ميسور الخصي ورأس محمد بن ميمون وغيرهما من رؤوس أعلام الشيعة، وعشرة من بنودهم، أدخلت منكسة، معها عدة من طبولهم؛ فرفعت هذه الرؤوس والبنود والطبول على باب قصر قرطبة، وأقيمت له ولمن جاء معه الكرامات الواسعة. وفي سنة 342، قدمت رسل هوتو ملك الصقالبة على الناصر. وفيها، خرج القائد أحمد بن يعلى غازيا إلى جليقية؛ فمنحه الله في الكفار القتل للرجال، والسبي للذرية والعيال، وإحراق القرى، وانتساف النعم؛ فقرى كتابه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ربيع الأول بقرطبة؛ وقرى معه كتاب القائد غالب، يذكر عظيم ما فتح الله عليه ومنحه من نكاية المشركين؛ ثم دخلت الرؤوس إلى قرطبة، ومعها النواقيس والصلبان، فقرَّت عيون أهل الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وفي سنة 343، ولي الناصر مدينة طليطلة القائد أحمد بن يعني، وصرف عنها محمد بن عبد الله بن حدير. وفيها، فصل القائد حميد بن يصل، المستأمن إلى الناصر، بالجيش الذي ضمه إليه إلى بلاد الغرب، وخرج معه القرشي السليماني المستأمن إلى الناصر أيضا، الذي كان أميرا على مدينتي تنس وأرشقول وما بينهما من أرض إفريقية؛ فأخرجه عنها قواد الشيعي. واسمه عليُّ بن يحيى، ينتسب إلى عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -؛ فكان خروجهما من بين يدي الناصر بعد أن خلع عليهما خلع الوداع، بعد خلع تقدمت له عليهما بيوم قبل وصولهما من دراريع الديباج والخز وعمائم الشرب المذهبة وغير ذلك. ودفع لحميد سبعة عشر ألفا للنفقة على الجند، ومن أحمال الكسوة سبعة أحمال. وفيها، وصل إلى قرطبة وقد أزداجة من البربر الذين انحاشوا إلى الطاعة؛ فكساهم الناصر ووصلهم. وورد كتاب فتح من حميد بن يصل قائد الناصر بالعدوة بما فتح الله عليه من مدينة آسلان وانتشار الدعوة الأموية بنواحيها. وفيها، قدم الحجاج؛ فذكروا أنه وقع بقشطاط مصر حريق عظيم احترق فيه ستة ألفا بين دار ومسكن. وفي سنة 344، وردت قواد الثغور لسبع خلون من ربيع الآخر على الناصر، وفيهم غالب، ومطرف، ومحمد بن يعلى، وعبيد الله بن أحمد بن يعلى، وهذيل ابن هاشم النجيبي، ومروان بن رزين، وعامر بن مطرف بن ذي النون، يذكرون أنهم دخلوا إلى أرض العدو، وقصدوا حصنا من بلد قشتيلة؛ فتغلبوا على أرباضه، وقتلوا جماعة من أهله، وقفلوا عنه؛ فوافتهم جموع النصرانية؛ فأيد الله المسلمين، وانهزم المشركون أمامهم مقدار عشرة أميال، يقتلونهم كيف شاءوا؛ فأحصى أنه قتل منهم مقدار عشرة آلاف. وكانت هذه الوقيعة بينهم لليلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 بقيت من ربيع الآخر منها؛ فقرى كتابهم بهذا الفتح الجليل بقرطبة؛ ثم وردت إلى قرطبة الرؤوس المحتزة في هذه الهزيمة نحو خمسة آلاف رأس؛ فأمر الناصر برفعها على الخشب حوالي سور قرطبة. ولسبه خلون من جمادى الأولي، كانت بقرطبة زلزلة عظيمة ظاهرة الهزة؛ وعادت زلزلة أخرى مثلها يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منها، وذلك عند الظهر. وفيها، ثقف الناصر أمور الخدمة السلطانية، ووزعها بين وزرائه؛ فقلد الوزير جهور بن أبي عبدة النظر في كتب جميع أهل الخدمة؛ وقلد الوزير عيسى ابن فطيس النظر في كتب أهل الثغور والسواهل والأطراف وغير ذلك؛ وقلد الوزير الكاتب عبد الرحمن الزجالي النظر في تنفيذ كل ما يخرجه من العهود والتوقيعات، وينفذ به الأمر أو الرأي وغير ذلك؛ وقلد الوزير محمد بن حدير النظر في مطالب الناس وحوائجهم، وتنجيز التوقيعات لهم. فالتزم القوم ما ألزموا؛ فاعتدل بهم ميزان الخدمة، وسهلت مطالب الرعية. وفيها، ورد كتاب يعلى بن حميد قائد العدوة من قبل الناصر بما فتح الله عليه في قائد الشيعي معد بن إسماعيل صاحب إفريقية من هزيمته له وقتله من قتل من رجاله وغير ذلك. ووصل إلى قرطبة ابن عم حميد بن يصل، ومعه ستة وثلاثون من وجوه كتامة وغيرهم من القبائل المستأمنين إليه من عسكر الشيعي؛ فأمر الناصر بانزالهم، وجلس لهم على سريره بقصر الزهراء يوم الثلاثاء ربع خلون منه؛ فوصلوا إليه؛ فرأوا مقاما جليلا، وكلموه، فرد عليهم جميلا، وأحسن موعدهم، وأمر بالخلع عليهم، ووصلوا بصلات جزلات، وأمروا بالرجوع إلى القائد حميد بن يصل. وفيها، أمر الناصر بإطلاق اللعن على ملوك الشيعة بجميع منابر الأندلس، وإنفاذ كتبه بذلك إلى العمال بسائر الأقطار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وفي سنة 345، وطئ غالب، قائد أسطول الناصر، أرض سواحل إفريقية من عمل الشيعي. وفيها، قدم محمد بن حسين رسولا كان من الناصر إلى الطاغية أردون ابن ردمير ملك جليقية، ومعه حسداي بن شبروط اليهودي، بكتابه إلى الناصر، راغبا منه في الصلح؛ فأسعفه الناصر في ذلك على اختيار ولده الحكم، واشترط على الطاغية شروط؛ وانصرفت رسله بذلك. وفيها، قتل محمد بن أبي العيش الإدريسي أمير الغرب. وفيها، خرج قاسم بن عبد الرحمن إلى حميد بن يصل قائد الناصر بالغرب من قرطبة بأحد عشر حملا من المال وأحمال العدة، تقوية على الذب عن الدولة المروانية بالغرب، وذلك لخمس خلون من صفر منها. ولما كان يوم النصف منه، ورد كتاب حميد بدخوله مدينة تلمسان. وفي سنة 346، قدم إلى الناصر أمراء بني رزين ومن التف إليهم؛ فوصل إلى الناصر كبيرهم مروان بن هذيل بن رزين الثائر بالسهلة المنسوبة إليهم؛ فأدنوا وأكرموا. وفيها، برز القائد غالب الناصري إلى فحص السرادق غازيا إلى دار الحرب؛ ففتح عليه في بلاد المشركين؛ وفتح الحصون وقتل المقاتلة واكتسح بسيط عدو الله غرسية بن شانجه ملكهم، وخرب قراه، ورجع بالمسلمين ظاهرين. وكذلك برز القائد أحمد بن يعلى للغزو إلى بلد العدو تاليا للقائد غالب؛ فورد كتابه يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر بفتح عظيم تهيأ له في غزوة إلى جليقية، وأنه ثخن في قتلهم، وحز من رؤوسهم أربعمائة، واستاق من الماشية والكراع ما فات الإحصاء. وفي سنة 347، أول المحرم، أمر الناصر صاحب الشرطة القائد أحمد بن يعلى بالخروج غازيا في الأسطول إلى بلد الشيعي معد بن إسماعيل صاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 إفريقية؛ فبرز ابن يعلى إلى محلة الربض لغزاته هذه يوم الخميس لثمان خلون منه؛ وكان بروزه فخما، خرج إليه من النظارة من أهل قرطبة رجالهم ونسائهم وأبنائهم وولدانهم خلق لا يحصيهم إلا خالقهم؛ فانتشروا بأكناف الربض على عادتهم؛ فأخذ السفلة منهم والغوغاء يتقاذفون بالحجارة حاكين لصفي القتال؛ فدخل في عرضهم قوم من الطنجيين من جند السلطان حشوا الضراب بينهم، حتى حمى وطيسه، وقد تكنف صفيهم من النظارة الرجال والنساء خلق عظيم. فلم يك إلا ساعة، ودارت بينهم جولة ظهر فيها أحد صفيهم؛ فمالوا على مغلوبهم، وانبسطوا عليهم؛ فامتد الطنجيون بغالب شرهم وجهلهم إلى نهب مغلوبهم من الرجال، وتخطوهم إلى من حولهم من النظارة، وانبسطوا على النساء؛ فسلبوهن ثيابهن، وفضحوا كثيرا منهن؛ فجعل المجردات من النساء يتوارين في الزرع المكتل، حياء من الناس، وترقبا لوقت تفرقهم. وشرح ذلك يطول. وفي جمادى الآخرة منها، ورد كتاب قائد الأسطول أحمد بن يعلى من مدينة آسلان من عمل تلمسان، يذكر أن جوهرا قائد معد بن إسماعيل صاحب إفريقية قتل يعلى بن محمد بن صالح اليفرني صاحب مدينة آفكان غدرا، وأن ابن عمه انتصب مكانه بإقامة من جلة قومه له، ورجع القائد المذكور إلى قرطبة ومعه ولد ابن قرة، ابن عم يعلى بن محمد المتقدم الذكر، المقدم بعده في قومه بني يفرن؛ فبولغ في إكرامه. وفي سنة 348، في أول ربيع الآخر منها، خرج عليُّ بن يحيى الحسني إلى شرشل مكانه من العدوة قائدا، بمن انضم إليه من الحشم، لمكافحة أصحاب الشيعي صاحب إفريقية. وفي أول ذي القعدة منها، أوصل الناصر إلى نفسه حريز بن منذر في جماعة من وجوه الموالي والعرفاء ورجال الجند، يأمرهم جميعا بالخروج إلى مدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 مسنة من أرض العدوة، مع بدر الفتى الكبير صاحب السيف، لتنفيذ العدد فيها من أجل جولان جوهر قائد معد الشيعي صاحب القيروان بأرض العدوة؛ فنفذوا لأمره، ومكثوا كذلك إلى أن أمنت الحادثة؛ فانصرفوا مع القائد بدر، آخر ذي الحجة من السنة. وفي سنة 349، كان ابتداء علة الناصر، وذلك يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، وذلك نصف النهار منه، طرقت أمير المؤمنين الناصر علته الصعبة من الريح الباردة؛ فأرجف به، وخيف عليه، وأكبت الأطباء على معالجته، إلى أن ظهر عليه تجفيف؛ فتجشم القعود لخاصته في العشر الأوائل لجمادى الأولي. فوصل إليه الفتيان الأكابر، وصاحب الطراز، وخواص أكابر العبيد كمظفر وذويه؛ فاستبشر أهل المملكة بما بدا لهم من انحطاط مرضه، وسألوا الله كمال عاقبته؛ والقضاء قد سبق بموته من علته؛ فلم تفارقه، تخف حينا وتثقل حينا، إلى أن قضت عليه في سنة 50 التي بعد هذه. بعض أخبار الناصر على الجملة كان الناصر - رحمه الله - ملكا أزال الأواء؛ وحسم الأدواء، وقهر الأعادي، وعدل في الحاضر والبادي؛ قد أسس الأوس؛ وغرس الغروس واتخذ المصانع والقصور، وترك أعلاما باقية إلى النفخ في الصور. فاعتبر بالزهراء كم بها من قصر مشيد، وآثار ملوك صيد؛ قد عادت معاهدها بعدهم دارسة، وآثارها دونهم طامسة؛ تنفي الرياح بجنباتها، وتبكي الغيوم على عرصاتها. ولما ولي الناصر لدين الله، اعتز ركن الدين، واحتمى ذمار المسلمين، وقام الجهاد على ساق، وخمدت نار الخلاف والشقاق، ودخل الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 في طاعته أفواجا، واستنفروا إلى دعوته أفرادا وأزواجا. فناهيك من فضل أعطاهم، وعدل أكنفهم به وغطاهم، وتكرمة أنالهم إياها، ومسرة أبدى لهم محياها؛ قد ملك سبتة وما يليها من الأقطار، وطرد عنها ملوك الأدارسة طرد الليل النهار، وبث عماله وقواده فيها، وطاعت له البرابر في جميع نواحيها، واعتصموا بحبله، ولاذوا بفضله وعدله. وكان اصطفى مولاه بدرا، وجعله شمسا لملكه وبدرا، وقلده خطة الحجاب، وجعل له النفي والإيجاب؛ فشد ملكه بقوة ساعد، وسعج مساعد؛ ثم قدم موسى بن حدير؛ فكمل به الملك واتسق واتفق له من الجد ما اتفق؛ فقاد عسكرا مجرا، وجر الدنيا جرا. ومن قول ابن عبد ربه فيه (بسيط) : قَدْ أوضَحَ الله للإسلامِ مِنهاجا ... والناسُ قَد دخلوا في الدِّينِ أفواجا وَقد تَزَيّّنَت الدُّنيا لساكِنِها ... كأنَّما ألبسَت وَشياً ودِيباجَا يا ابن الخَلائفِ إنَّ المُزنَ لَو عَلمَت ... نَدَاكَ ما كان مِنها الماءنجاجا والحَربُ ولَو عَلِمت بأساً تَصُولُ به ... ما هيَّجَت من حُمّيّاكَ الذي اهتَاجا مَاتَ النِفاقُ وأعطَى الكُفرُ ذِمَّتَهُ ... وذَلَّت الخَيلُ إلجاماً وإسراجا وأصبَحَ النَّصرُ معقوداً بِألوِيةٍ ... تَطوى المَرَاحِلَ تَهجِيراً وإدلاجا إنَّ الخِلافةَ لن تُرضَى وَلا رُضِيَت ... حتَّى عَقَدتَّ لها في رأسِكَ التَّاجا ومن مناقبه، أنَّه لم يبق في القصر الذي هو من مصانع أجداده ومعالم أولىته بنية إلا وله فيها أثر محدث، إما بتجديد أو بتزييد. ومن مناقبه، كثرة جوده الذي لم يعرف لأحد قبله من أجواد الجاهلية والإسلام، حتى قيل فيه - رحمة الله عليه - (كامل) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 يا ابن الخَلاَئفِ والعُلَى للِمعُتَلى ... والمَجْدُ يُعرَفُ فَضلُهُ للِمُفضَلِ نَوَّهتَ بالخُلفاء بَل أَخمَلتَهُم ... حتَّى كَأنَّ نَبِيَلُهم لَم يَنبُلِ أذكَرتَ بَل أنسَيتَ مَا ذَكَرَ الوَرَى ... مِن فِعلِهم فَمأنَّهُ لَم يُفعَلِ وأتَيتَ آخرهُم وَشَأوُكَ فَائِتٌ ... للآخرين وَمُدرِكٌ لِلأوَّلِ تَأبِي فِعَالُك أنْ تُعَدَّ لآخِرٍ ... مِنهُمْ وَجُودُكَ أنْ يُعدَّ لأِوَّلِ وكم للناصر - رحمه الله - من غزوات مذكورة، وفتوحات مشهورة، يبقى في الأعقاب فخرها، ولا يبلى على مر الأحقاب أثرها. وقد نظم ابن عبد ربه في غزواته أرجوزة من سنة 301 إلى سنة 322. وقد أطال الشعراء في مدحه، وأطنبوا في شكره؛ ولولا أن الناس مكتفون بما في أيديهم منها، لأعدنا هنا ذكرها أو ذكر بعضها؛ ولكن المذهب هنا الاقتصار والإيجار والاختصار. حكاية ومما ذكر من إفضاله، مع بعض عماله، قال حيان بن خلف: كان محمد بن سعيد المعروف بابن السليم قد احتجن أموالا كثيرة بتصرفه في كبار الولايات في المدة الطويلة؛ فعلم ذلك منه الناصر؛ فعرض له مرارا في أن يساهمه فيه عن طيب نفس منه، وهو ملكه، ولو شاء لأخذه منه، ولكن أبى ذلك كرم طبعه. فقال في مجلسه يوما: (ما بال رجال من خاصتنا توسعوا في دنيانا، فطفقوا يحتجون الأموال، ويضيعون تعمدنا، وهم يرون غليظ مئونتنا في الإنفاق على شؤوننا التي بقدرتنا عليها صلاح أحوالهم ورفاهية عيشهم. ويعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قسطاس الموازين، قاسم عماله أرباحهم في تجاراتهم؛ فجعلها في بيت المال، وهو من هو، وهم من هم، والأسوة في فعله!) فسكت ابن السليم عنه وغالطه في تعرضه كأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 يعني غيره. فازداد الناصر حنقا عليه وغيظا؛ فقال له يوما في بعض مجالسه الخاصة معه، وقد أخذ الشراب منه، وشق تفاحة بسكين في يده: (وددت أن أشق هكذا رأس من أعرف له مالا كثيرا غله دوننا، ولم يسهم بيت المال منه!:) فطار عقل ابن السليم، ولم يختلجه الشك في أنه المعني به؛ فقام بين يديه، وقال: (يا أمير المؤمنين! طال ما عرضت بي! فسكت؛ بلى والله! إن عندي مالا كثيرا، وهو دون ظنك فيه، حطته بالتقتير، وأعددته للدهر العثور، ولست والله أعطيك منه درهما، فما فوقه، ورأيك في جميل إلا أن تستحل) (وأعوذ بالله!) أن تمد يدك إليه بغير جناية مني عليك! فإن الأنفس محضرة الشح. قال: فخجل الناصر وأطرق يتلو قول الله تعالى: [إن يسئلكموها فيحفكم أن تبخلوا ويخرج أضغانكم.] ثم أقبل على ابن السليم يونسه ويسكن جأشه، إلى أن اعتدل مجلسه؛ فجعل يمعن في الشرب طلبا للسكر الذي خامره من الذعر. فقال له الناصر: (خفض عليك، يا محمد؛ فلا سبيل إليك!) فلما سكر ابن السليم، تهوع؛ فقذف، وابتدره الوصفاء بالطست والمناديل؛ فأقبل الناصر وأخذ برأسه يمسكه، ويقول له: (استفرغ ما في معدتك وتأن بنفسك!) . فأنكر ابن السليم كلامه بين الخدم، وصرف إليه رأسه، وإذا به الناصر. فما تمالك أن خر إلى رجليه يقبلهما، ويقول: (يا ابن الخلائف! إلى هنا انتهيت من برِّي!) وجعل يدعو له، ويعظم شكره؛ فقال له الناصر: (ليتني أخرج كفافا من شأني معك الليلة: تأنيسا بإخافة وإلطافا بجفوة) . ثم أمر له بكسوة، وانقلب إلى أهله. فكان هذا مما يعد من كرمه وفضله. فلما مضت أيام، أرسل ابن السليم إلى الناصر بمائة ألف دينار دراهم؛ فقبلها الناصر، وشكر فضله) وعوضه بكبير الولايات، وصحبته منه النعمة العريضة إلى حين وفاته. حكاية ومازح الناصر - رحمه الله - يوما وزيره أبا القاسم لبِّا؛ فقال له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 (يا لبُّ اهج الوزير عبد الملك بن جهور!) فامتنع عليه؛ فقال لابن جهور: (فأهجج أنت، إذ أبى هو من هجوك) . فقال: (يا أمير المؤمنين، أتوقع عرضي منه، وأصون نفسي عنه!) فقال الناصر: (فأنا أهجوه.) فقال (سريع) : لبٌّ أبو القاسم ذو لحية ... طويلةٍ في طُولها ميلُ ثم قال لابن جهور: (لا بد لك من تذييل هذا البيت؛ فدع الاعتذار.) فقال: وعَرْضها مِيلان إن كُسِّرتْ ... والعَقلُ مأفونٌ ومدخُولُ لَو أنَّه أحتاج إلى غَسلِها ... لم يكفِهِ في غَسِلها السِّيلُ فضحك الناصر، وقال للب: (إنه قد سبب لك القول؛ فقل!) فقال لبّ: قَال أمين اللهِ في خَلقِهِ ... لي لِحيةٌ أزرَى بها الطُّولُ وابنُ عُيير قال قَولَ الَّذي ... مأكُولُهُ القَرظيل والفُولُ لولا حيائي من إمامِ الهُدَى ... نَخَشتُ بالمِنخَس (شُو قُولُ) فلما بلغ لبُّ إلى قوله (شو) سكت؛ فقال له الناصر: (قول) . فأتم له على نحو ما أضمر؛ فقال له: (أنت هجوته، يا مولاي!) فضحك الناصر، وأمر له بصلة. وكان الناصر قد خرج يوما على فرس أبلق في هيئة جليلة والوزراء قد حفوا به؛ فقال ابن عبد ربه في ذلك مرتجلا (سريع) : بَدرٌ بَدَا مِن تَحتِهِ أبلَقُ ... يَحْسُدُ فِيهِ المَغْرِبَ المَشْرِقُ لوْ يعلُمُ الأبلَقُ مَن فَوقَه ... لاختالَ من عُجبٍ به الأبَلَقُ إمامُ عَدلٍ باسِطٌ كفَّهُ ... يَرزُقُ منها الله مَن يَرزُقُ عَاَبه الدَّهرُ الذي قَد مَضَى ... وجَدَ واللهِ به المُخبلَقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وكان، لما ترعرع ابنه الحكم بن عبد الرحمن، ولاه العهد من بعده. وكان له أخ اسمه عبد الله؛ فحسده على ذلك، واجتمع عليه قوم وأراد قتل أخيه؛ واتفق مع أصحابه أن يبادروه؛ فافتضحوا وقتلوا جميعا، كما تقدَّم. وأما الولد عبد الله، فذكر أنه أخرجه أبوه الناصر ثاني يوم عيد الأضحى؛ فذبح بين يديه - رحمه الله -؛ وكان عالما فاضلا. وكان الناصر أمر ببناء الصومعة العظيمة في سنة 340، وشرع في بنائها؛ وهي الشهيرة التي لا صومعة تعدلها. وكان الذي دعاه إلى بنائها حدث في القديمة؛ فهدمت إلى قواعدها وبنيت بصخر الحجارة المنقولة إليها على العجل؛ وجمع لها فجاءت فائقة الصنعة. وقد كانت الأولى ذات مطلع واحد؛ فصير لهذه مطلعين، وفصل بينهما بالبناء؛ فلا يلتقي الراقون فيها إلا بأعلاها. ولكل مطلع منها مائة درج وسبعة أدراج؛ وطولها ثمانون ذراعا بالرشاشي إلى وقوف المؤذن؛ وفي أعلى ذروة المنار ثلاث رمانات تغشى النواظر بشعاعها، وتخطف الأبصار بالتماعها: الأولى مفروغة من الذهب، والوسطى من الفضة، والثالثة من الذهب أيضا؛ وفوقها سوسانة من الذهب المحض مسدسة؛ وفوق السوسانة رمانة صغيرة من الذهب؛ ثم طرف الزج، وفيه تأريخ مكتوب بالذهب. وزنة كل رمانة من الثلاثة المذكورة قنطار واحد فما دونه، ودور كل واحدة ثلاثة أذرع ونصف. وكمل بناء الصومعة في جمادى الأولى؛ فذلك ثلاثة عشر شهرا. وكان الناصر زاد في المسجد الجامع بقرطبة زيادته المشهورة، المتصلة بزيادة ابنه الحكم بعده، وفيها القبو الكبير الذي يصطف المؤذنون أمامه يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الجمعة للأذان، وهو من أعجب البنيان. وإذ قد وقع ذكر المسجد الجامع بقرطبة؛ فالواجب أن نذكر أول من أحدثه ومن تولي بناءه من ملوك بني أمية. على سبيل الاختصار؛ فنقول: ذكر مسجد قرطبة الأعظم ذكر الرازي عن الفقيه محمد بن عيسى أنه قال: لما افتتح المسلمون الأندلس، استدلوا بما فعل أبو عبيدة وخالد - رضي الله عنهما - عن رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صلحا. فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة في كنيستهم العظمى التي كانت بداخلها، وابتنى المسلمون في ذلك الشطر مسجدا جامعا. وبقى الشطر الثاني بأيدي الروم، وهدمت عليهم سائر الكنائس. فلما كثر المسلمون بالأندلس، وعمرت قرطبة ونزلها أمراء العرب بجيوشهم. ضاق عنهم ذلك المسجد، وجعلوا يعلقون منه سقائف؛ فنال الناس من الضيق مشقة عظيمة. فلما دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس، وسكن قرطبة، نظر في أمر الجامع، وتوسيعه، وإتقان بنائه؛ فأحضر أعاجم قرطبة، وسألهم بيع ما بقي بأيديهم من الكنيسة المذكورة، وأوسع لهم البذل فيه، وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه؛ وأباح لهم بناء كنائسهم التي كانت هدمت عليهم في وقت الفتح بخارج قرطبة. وخرجوا عن الشطر؛ فاتخذه وأدخله في الجامع الأعظم. وكان شروع عبد الرحمن الداخل في هدم الكنيسة وبناء الجامع سنة 169؛ وثم بناؤه، وكملت بلاطاته، واشتملت أسواره في سنة 170؛ فذلك مدة من عام كامل؛ فقيل إن النفقة التي أنفق الإمام عبد الرحمن بطول هذه السنة في بناء الجامع ثمانون ألفا بالوازنة. وفي ذلك يقول البلويُّ - رحمه الله - (طويل) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وَأبرَزَ في ذاتِ الإلهِ وَوَجهِهِ ... ثَمانينَ ألفاً من لُجَينٍ وعَسْجَدِ فأنفَقها في مَسِجدٍ أُسُّه الشُّقَي ... ومَنْهَجُه دينُ النبيِّ مُحَمَّد ثم زاد ابنه هشام صومعة، كان ارتفاعها أربعين ذراعا إلى موضع الأذان وبنى بآخر المسجد سقائف لصلاة النساء؛ وأمر ببناء الميضأة بشرقي الجامع. وأقام الجامع على هيئته تلك إلى أيام عبد الرحمن بن الحكم؛ ثم زاد عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الزيادة المنتظمة بالأرجل، طولها خمسون ذراعا، وعرضها مائة وخمسون، وعدد سواريها ثمانون سارية؛ وكان الفراغ من هذه الزيادة في جمادى الأولى سنة 234. ثم زاد الأمير محمد بن عبد الرحمن أن أمر بإتقان طرر الجامع، وتنميق نقوشه، وبإقامة المقصورة، وجعل لها ثلاثة أبواب؛ فلما كمل ما أمر به في الجامع، دخله وصلى فيه ركعات خشع فيها. فقال في ذلك موسى بن سعيد (طويل) : لَعمِري لقد أبدَى الإمامُ التواضُعَا ... فأصبَحَ للدُّنيا وللدِّين خَاشِعا بَنَى مَسجداً لم يُبنَ في الأرض مِثلُه ... وصلى به شُكراً لذي العَرش راكِعا فطُوبَى لمن كان الأمير محمَّد ... له إذْ دَعَا فيه إلى الله شافِعا ثمَّ زاد الأمير المنذر بن محمد البيت المعروف ببيت المال في الجامع؛ فوضع فيه الأموال الموقفة لغياب المسلمين؛ وأمر بتجديد السقاية وإصلاح السقائف. ثم زاد أخوه الأمير عبد الله بن محمد ساباطا معقودا على حنايا، أوصل به ما بين القصر والجامع من جهة الغرب؛ ثم أمر بستارة من آخر هذا الساباط إلى أن أوصلها بالمحراب؛ وفتح إلى المقصورة بابا كان يخرج منه إلى الصلاة؛ وهو أول من اتخذ ذلك من أمراء بني أمية بالأندلس - رحمهم الله -. رجع الخبر إلى ذكر الناصر. قيل إنه أنفق في صومعة المسجد وفي تعديل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 المسجد وبنيان الوجه للبلاطات الأحد عشر بلاطا سبعة أمداد وكيلين ونصف كيل من الدراهم القاسمية. وجملة ما أنفق عبد الرحمن الناصر في بناء مدينة الزهراء وقصورها خمسة وعشرون مدبا من الدراهم القاسمية وستة أقفزة وثلاثة أكيال ونصف. ذكر بناء مدينة الزهراء بقرطبة أعادها الله للإسلام بفضله ابتدئ بنيانها في أيام الناصر من أول سنة 325. وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنجور ستة آلاف صخرة سوى التبليط في الأسوس؛ وجلب إليها الرخام من قرطاجنة إفريقية ومن تونس؛ وكان الأمناء الذين جلبوه عبد الله بن يونس، وحسن القرطبي، وعليُّ بن جعفر الإسكندراني؛ وكان الناصر يصلهم على كل رخامة بثلاثة دنانير، وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية. وكان فيها من السواري أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية وثلاث عشرة سارية، المجلوبة منها من إفريقية ألف سارية وثلاث عشرة سارية. وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية؛ وسائر ذلك من رخام الأندلس. وأما الحوض الغريب المنقوش المذهب بالتماثيل، فلا قيمة له، جلبه ربيع الأسقف من القسطنطينية من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر؛ ووضعه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس؛ وكان عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصع بالدر النفيس العالي مما صنعه بدار الصنعة بقصر قرطبة. وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم، لم يتكل الناصر فيه على أمين غيره. وكان يخبز في أيامه كل يوم يرسم حيتان البحيرات ثماني مائة خبزة، وهذا من أعظم الأشياء إلى ما فوق ذلك. وكان الناصر قد قسم الجباية على ثلاثة أثلاث: ثلث للجند، وثلت للبناء، وثلث مدخر. وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن المستخلص والأسواق سبع مائة ألف دينار وخمسة وستين ألف دينار. ومما قيل في آثار مدينة قرطبة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية - رحمهم الله تعالى - إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكاب أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألأف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصرها الزهراء أربعمائة دار، وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته. وعدد الفتيان الصقالبة ثلاثة آلاف وسبع مائة وخمسون. وعدة النساء بقصر الزهراء الكبار والصغار وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة؛ وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل ينقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان. وعدد حماماتها ثلاثمائة حمام؛ وقيل إنها المبرزة للنساء. وكان عدد أرباض قرطبة - أعادها الله للإسلام - في ذلك الوقت ثمانية وعشرين ربضا، منها مدينتان: الزهراء والزاهرة. وأما اليتيمة التي كانت في المجلس البديع، فإنها كانت من تحف قيصر اليوناني صاحب القسطنطينة، بعض بها للناصر مع تحف كثيرة سنية. فسبحان من لا يبيد ملكه ولا ينقطع عزه!. وفي سنة 350، توفى الناصر - رحمه الله -، وذلك في صدر رمضان منها. ووجد بخطه تأريخ قال فيه: (أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في مدة سلطاني يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.) فعدت تلك الأيام؛ فوجد فيها أربعة عشر يوما. فأعجب أيها الغافل لهذه الدنيا، وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأولائها. إن الخليفة الناصر ملك خمسين سنة وسبعة أشهر وثلاثة أيام، ولم يصف له من الدنيا إلا أربعة عشر يوما! فسبحان ذي العزة العالية، والمملكة الباقية، تبارك اسمه وتعالى جده! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وممن رثاه، جعفر بن عثمان المصحفي، فقال (طويل) : ألا إنَّ أياماً هَفَتْ بإمامها ... لَجائرةٌ مُشتطَّةٌ في احتِكامِها فلَمْ يُولم الدُّنيا عِظامُ خُطُوبها ... وأحداثِها إلاَّ قلوب عِظَامِها تأمَّلْ فهَلْ من طَالِعٍ غَيرَ آفلٍ ... لَهُنَّ وهَل من قاعِدٍ لِقامِها وعَاينْ فهَلْ من عائشٍ برَضاعِها ... من الناس إلاَّ مَيِّتٌ بفطامِها كأنَّ نفوسَ الناس كانت بنَفْسِهِ ... فلمَّا تَوَارَى أيْقنَتْ بِحِمامِها فطَارَ بهِا يأسُ الأسَى وتقَاصَرَتْ ... يَدُ الصَّبْرِ عن أعوالها واحتدامِها خلافة الحكم بن عبد الرحمن المستنصر بالله نسبه: الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل. كنيته: أبو المُطرف. أمه: اسمها مهرجان. عمره: ثلاثة وستون سنة وسبعة أشهر. بويع بعد موت أبيه لثلاث خلون لرمضان سنة 350. وتوفى ليلة الأحد لثلاث خلون من صفر من سنة 366؛ فكانت دولته خمس عشرة سنة، وسبعة أشهر، وثلاثة أيام. لقبه: المستنصر بالله. صفته: أبيض مشرب بحمرة، أعين، أقنى، جهير الصوت، قصير الساقين، ضخم الجسم، غليظ العنق، عظيم السواعد، أفقم. قضاته: منذر بن سعيد البلوطي قاضي أبيه؛ ثم أبو بكر محمد بن السليم. نقش خاتمه: الحكم بقضاء الله راض. وافتتح خلافته بالنظر في الزيادة في المسجد الجامع بقرطبة؛ وهو أول عهد أنفذه؛ وقلد ذلك حاجبه وسيف دولته جعفر بن عبد الرحمن الصقلي، وذلك لأربع خلون لرمضان من السنة، وهو اليوم الثاني من يوم خلافته. فكان أول ما عهد إليه تقديم النظر في سوق الصخور التي هي أس البنيان؛ فابتدئ بانتقالها في رمضان المذكور. وكان قطر قرطبة قد كثر به الناس؛ فضاق الجامع عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 حملهم، ونالهم التعب في ازدحامهم؛ فسارع المستنصر إلى الزيادة فيه؛ فخرج لتقديرها، وتفصيل بنيانها، وأحضر الأشياخ والمهندسين؛ فحدوا هذه الزيادة من قبلة المسجد إلى آخر الفضاء مادا بالطول لأحد عشر بلاطا. وكان طول الزيادة من الشمال إلى الجنوب خمسة وتسعين ذراعا؛ وعرضها من الشرق إلى الغرب مثل عرض الجامع سواء؛ وقطع من هذا ساباط القصر المتخذ لخروج الخليفة إلى الصلاة إلى جانب المنبر بداخل المقصورة؛ فجاءت هذه الويادة من أحسن ما زيد في المسجد قبل وأشده وأتقنه. ذكر الحبس الذي حبس المستنصر بالله على الجامع بقرطبة لما كملت زيادته، أحضر الفقهاء والعدول الشهداء وأعيان الناس ووجوههم وقضاتهم وأئمتهم. فحمد الله، وأثنى عليه، وجدد شكره على توفيقه، لإجراء هذه البنية الكريمة على يديه، وأنه تلقى هذه النعمة العظيمة بأن حبس ربع جميع ما جرته إليه الوراثة عن أبيه أمير المؤمنين في جميع كور الأندلس وأقاليمها على ثغور الأندلس كافة تفرق عليهم غلات هذه الضياع عاما بعد عام على ضعفائهم إلا أن تكون بقرطبة مجاعة، فتفرق فيهم إلى أن يجبرهم الله. وجعل القبض والنظر في هذا الحبس إلى حاجبه وسيف دولته جعفر؛ وجعل دفع ذلك إلى وزيره وكاتبه عيسى بن فطيس. وأشهد الحاضرين على ذلك، وأشهد أيضا بعتق كل مملوك له من الذكران، وخرج غازيا إلى بلاد المشركين. وفي سنة 351، غزا الحكم المستنصر بالله بلاد الروم؛ ففتح بها حصونا كثيرة ومدنا جليلة، وسبى وغنم، وانصرف غانما ظافرا. وفيها، وفد عليه أبو صالح زمور البرغواطي رسولا من ملك برغواطة أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار؛ فسأله الحكم عن أنساب برغواطة ومذاهبهم؛ فأخبره بما تقدم في الجزء الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وكان الحكم قد أنفذ الكتب في محرم من سنة 351 إلى جميع الولاة والقواد والعمال بأقطار الأندلس، يأمرهم بارتباط الخيل، والقيام عليها، والاستعداد بالعدد والأسلحة والآلات برسم الجهاد في سبيل الله. وفيها، عزل عبد الله بن بدر عن شرطة المدينة بقرطبة، وولاها محمد بن جهور، وأنفذ له سجلا بذلك بخط يده. وفيها، استحجب جعفر الصقلبي الفتى الكبير الناصري. وفيها، وفد على المستنصر بالله أردون بن إذفونش الأحدب، من ملوك الجلالقة، المنازع لابن عمه شانجه بن ردمير سابقه إلى ولاية ملكهم؛ فبالغ في إكرامه في خبر طويل. وكان الفصحاء في ذلك مقامات وأشعار يطول الكتاب بذكرها. فمن قول عبد الملك بن سعيد من قصيدة (كامل) : مَلكُ الخِلافة آيةُ الإقبال ... وسُعودُه مَوصُولةٌ بتَوَالِي فالمُسلمونَ بعِزَّةٍ وبرفعةٍ ... والمشُرِكونَ بذِلَّةٍ وسَفالِ ألقتْ بأيديها الأعاجِمُ نَحوَه ... مُتَوَقِّعينَ لصَولةِ الرِئْبَالِ هذا أميرُهم أتاهُ آخذاً ... مِنْه أواصِرَ ذِمَّةٍ وحِبالِ وفيها، وصل قرطبة إرسال شانجة بن ردمير، منازع الطاغية أردون ابن عمه ملك الجلالقة، ومعهم عبد الرحمن بن جحاف قاضي بلنسية، وأيوب بن الطويل وغيرهما؛ فتوصلوا كلهم إلى المستنصر في ربيع الآخر، وأوصلوا كتاب شانجة بن ردمير بجواب ما خوطب فيه وبيعته التي عقدها على نفسه وجميع أهل مملكته لأمير المؤمنين المستنصر بالله، في خبر طويل. وفيها، ولد للخليفة الحكم ولد ذكر من حزيته التي سماها جعفرا أم ولده؛ فسماه عبد الرحمن، وسرَّ به سرورا عظيما، إذ كان لا يولد له. وقالت في ذلك الشعراء والأدباء. فأكثروا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وفيها، ظهر نكث الجلالقة بكل جهة. وفيها، كان المدُّ الطامي بنهر قرطبة. وفي سنة 352، كانت غزوة شنت أستبن، غزاها الحكم المستنصر بالله. وفي سنة 353، كانت بقرطبة مجاعة عظيمة؛ فتكفل الحكم بضعفائها ومساكينها بما تقيم أرماقهم، وأجرى نفقاته عليهم بكل ربض من أرباض قرطبة وبالزهراء. وفيها، قرى بالجامعين: قرطبة والزهراء، فتح ورد من قبل سعد الجعفري مولي الخليفة الحكم، القائد بالجوف، يذكر ما أتاحه الله على يديه في أهل جليقية، وأفاءه على المسلمين بسعد إمامهم الزكي. وفيها، كان ازدحام الناس بالمسجد الجامع بقرطبة وتضاغطهم حتى كادت النفوس تتلف؛ فأمر المستنصر بالله بتوسعته والزيادة فيه؛ فأتى القاضي منذر ابن سعيد إلى المسجد الجامع، ومعه صاحب الأحباس والفقهاء والعدول بما اجتمع قبله من أموال الأحباس؛ فنظروا في الزيادة فيه. وفيها، أنفذ المستنصر بالله أحمد بن نصر لبنيان مدينة بثغر طليطلة، وتشييدها، وتوثيق أمورها؛ وجعل بين يديه أحمال أموال. وفيها، تحرك الحكم من قرطبة إلى المرية توقعا لما يصدر من صاحب إفريقية المحاد لأهل الأندلس، ولمعاينة ما استكمله بها من الحصانة ومطالعة حال رابطة القبطة ومشارفة حال الرعايا بتلك الجهة. وفيها، كان خبر اللص الذي سرق بيت المال الذي للسبيل بداخل المسجد الجامع بقرطبة في شوال. وفي سنة 354، نزل الغيث بقرطبة؛ فرويت الأرض، وطاب الحرث، وسرَّت النفوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وفيها، ولد هشام بن الحكم. قال ابن حيان: كان الخليفة الحكم شديد الكلف بطلب الولد لعلو سنه؛ فبشر في بعض خلواته باشتمال أم ولده على حمل؛ فسر به، وبقى يترقبه؛ فأتته به أول خلافته؛ ثم مات طفلا؛ فأحزته. فلما بشر بهذا، فرح به؛ فاستبشر جعفر بن عثمان وزيره ببشراه، وأرسل إليه في التهنئة بذلك أبياتا، وهي (وافر) : هنيئاً للأنام وللإمامِ ... كَرِيمٌ يستفيدُ على كِرامِ مُرَجَّى للخلافة وَهَوَ ماءٌ ... مأمول لآمالٍ عِظَامِ أضاء على كريمته ضِيَاه ... فلَمْ تَعْلَمْ بغاشيةِ الظلامِ وَلِمْ لا يُستَضاءُ بجانِيَهْا ... وبَين ضلُوعِها بَدرُ التَّمامِ قال: فلما ولدت جاريته جعفر ابنها هشاما الملقب بالمؤيد، بشر الخليفة الحكم بطلوعه، وجعفر بن عثمان عنده في خلوة؛ فارتاح لارتياحه؛ فقال على البديهة يهنئه (منسرح) : اطّلع البدر من حجابه ... واطَّرَدَ السَّيفُ من قِرابِه وجاءنا وارِثُ المَعَالِي ... لِيُثبت المُلكَ في نِصَابِه بَشَّرنا سَيّدُ البَرايَا ... بنعمة الله في كتابه لَو كنتُ أعطي البشيرَ نفسي ... لَم أفض حقاً لِما أتَى بِهْ وفيها، كملت القبة المبتناة على المحراب في الزيادة بالمسجد، وذلك في شهر جمادى الآخرة منها. وفيها، شرع في تنزيل الفسيفساء بالمسجد الجامع؛ وكان ملك الروم بعث بها إلى الخليفة الحكم. وكان الحكم قد كتب له في ذلك، وأمره بتوجيه صانعها إليه، افتداء بما فعله الوليد بن عبد الملك في بنيان مسجد دمشق؛ فرجع وفد الحكم بالصانع، ومعه من الفسيفساء ثلاثمائة وعشرون قنطارا، بعث بها ملك الروم هدية؛ فأمر الحكم بإنزال الصانع، والتوسيع عليه، ورتب معه جملة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 مماليكه لتعلم الصناعة؛ فوضعوا أيديهم معه في الفسيفساء المحلوبة، وصاروا يعملون معه؛ فأبدعوا، وأربوا عليه، واستمروا بعد ذلك منفردين دون الصانع القادم، إذ صدر راجعا عند الاستغناء عنه، بعد أن أجزل له المستنصر الصلة والكسوة. وتداعى إلى هذه البنية كل صانع حاذق من أقطار الأرض. وركب الحكم المستنصر بالله في العشر الوسط لشوال من الزهراء إلى الجامع، ودخله، ونظر إلى الزيادة وما تم فيها، وأمر بإقلاع السواري الأربع التي كانت في عضادة المحراب القديم الفائقة التي لا نظير لها، وصيانتها إلى أن توضع في المحراب الجديد عند إتقان إحكامه وإكماله. وفي سنة 355، في المحرم، أمر بوضع المنبر القديم إلى جانب المحراب، ونصب المقصورة القديمة. ونصب في قبلة هذه الزيادة مقصورة من الخشب، منقوشة الظاهر والباطن، مشرفة الذروة، طولها خمسة وسبعون ذراعا، وعرضها اثنان وعشرون ذراعا، وعلوها إلى الشرفات ثمانية أذرع. وكان الفراغ من هذه الزيادة ونصب المقصورة في رجب من السنة. وفي يوم الجمعة لثمان خلون منه، قرى كتاب فتح من قبل سعادة الجعيفري، القائد بمدينة الفرج، يذكر ما فتح الله له وأتيح على يديه من أعداء الله المشركين. وفي يوم الأربعاء لأربع خلون من ربيع الأول منها، نفذت الكتب إلى عمال الثغر الأدنى والأقصى في ارتباط الخيل، والتكثير منها، وجودة القيام عليها لما يؤمل من الجهاد بعون الله. وفي يوم الجمعة لثلاث خلون منه، قرى بقرطبة والزهراء كتاب فتح ورد من قبل الوزير يحيى بن هاشم، وكتاب فتح ورد من قبل سعد الجعفري، وكتاب فتح ورد من قبل حريز بن هايل، يذكرون ما منحهم الله وفتح على أيديهم من قبل أعداء الله المشركين، وأن كل واحد منهم نهض إلى ما قبله من بلادهم، فقتل وسبى، واكتسح وأشجى، وانصرف سالما غانما. وفي أول رجب منها، ورد كتاب من قصر أبي دانس على المستنصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 بالله، يذكر فيه ظهور أسطول المجوس ببحر الغرب بقرب من هذا المكان، واضطراب أهل ذلك الساحل كله لذلك، لتقدم عادتهم بطروق الأندلس من قبله فيما سلف؛ وكانوا في ثمانية وعشرين مركبا؛ ثم ترادفت الكتب من تلك السواحل بأخبارهم، وأنهم قد أضروا بها، ووصلوا إلى بسيط أشبونة. فخرج إليهم المسلمون، ودارت بينهم حرب، واستشهد فيها من المسلمين وقتل فيها من الكافرين. وخرجت أسطول إشبيلية؛ فاقتحموا عليهم بوادي شلب، وحطموا عدة من مراكبهم، واستنفذوا من كان فيها من المسلمين، وقتلوا جملة من المشركين، وانهزموا إثر ذلك خاسرين. ولم تزل أخبار المجوس تصل إلى قرطبة في كل وقت من ساحل الغرب، إلى أن صرفهم الله تعالى. وفيها، أغزى الحكم القائد غالبا؛ ففتح الله له في المشركين، وانصرف سالما غانما. وفيها، أمر الحكم لابن فطيس بإقامة الأسطول بنهر قرطبة، واتخاذ المراكب فيها على هيئة مراكب المجوس - أهلكهم الله - تأميلا لركوبهم إليها. وفي سنة 356، عهد الخليفة الحكم بمخاطبة العمال بكور الأندلس، يعنفهم على جرأتهم ويحذرهم من سطوته وعقوبته، إذ اتصل به أن بعضهم قد استزادوا زيادات فاحشات يعاملون بها الرعية ظلما لهم؛ فأنكر ذلك عليهم. وفيها، كانت غزوات للمسلمين انجلت عن هزائم للمشركين. وفيها، ولي أمير المؤمنين الحكم محمد بن عبد الله بن أبي عامر الذي رأس بعد وتلقب بالمنصور وكالة أبي الوليد هشام بن الحكم، وفوض إليه في جميع شؤونه؛ فتحركت حاله في الدولة. وفي النصف من شوال، قعد الخليفة الحكم على السرير بالزهراء قعودا بهيَّا احتفل فيه، وأوصل إلى نفسه رسولين وصلا من أمراء الغرب الأدارسة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 فأوصلا كتابهم، يذكرون أنهم على محبة صادقة ومودة مستحكمة مع التزامهم للطاعة واعتقادهم للولاية؛ فأدنى رسوليهم، وألطف جوابيهما. وفي يوم الجمعة لأربع بقين من شوال، قرى كتاب فتح ورد من قبل القائد غالب، يذكر ما هيا الله له في كفرة قشتيلة من القتل والأسر؛ فسر الخليفة بذلك ودخلت الرؤوس قرطبة. وفي يوم السبت بعده، أنفذ الخليفة الحكم كتبه إلى القواد والعمال بأقطار مملكته، بإنكار ما اتصل به من أن بعضهم يسفك دماء بعض بلا عهد ولا مشورة، وأن ذلك عظم عنده، وتبرأ إلى الله ممن أقدم عليه. وفيها، أجرى الماء إلى سقايات الجامع والميضأتين اللتين مع جانبيه: شرقيه وغربيه، ماء عذبا جلبه من عين بجبل قرطبة، خرق له الأرض، وأجراه في قناة من حجر متقنة البناء، محكمة الهندسة، أودع جوفها أنابيب الرصاص لتحفظه من كل دنس. وابتدى جري الماء من يوم الجمعة لعشر خلون لصفر من السنة؛ وفي جري الماء إلى قرطبة يقول محمد بن شخيص في قصيدة له، منها (بسيط) : وقدْ خَرَقت بُطُونَ الأرضِ عن نُطّفٍ ... من أعذَبِ الماءِ نحوَ البَيْت نُجْريها طُهْرٌ الجُسومِ إذا زالت طهارتها ... رَيُ القُلوب إذا حَرَّتْ صَوَادِيها قَرَنْتَ فَخراً بِأجرٍ قَلَّ مَا اقتَرنَا ... في أمَّةٍ أنتَ راعِيها وحامِيها وابتنى بغربي الجامع دار الصدقة، اتخذها معهدا لتفريق صدقاته - رحمه الله تعالى -. ومن مستحسنات أفعاله وطيبات أعماله، اتخاذه المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن حوالي المسجد الجامع وبكل ربض من أرباض قرطبة؛ وأجرى عليهم المرتبات، وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح، ابتغاء وجه الله العظيم؛ وعدد هذه المكاتب سبعة وعشرون مكتبا، منها حوالي المسجد الجامع ثلاثة، وباقيها في كل ربض من أرباض المدينة. وفي ذلك يقول ابن شخيص (بسيط) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وسلحَةُ المَسجِدِ الأعلَى مُكَلَّلةٌ ... مَكَاتِباً لليَتامَى من نَوَاحيها لَوْ مُكِنَتْ سُوَرُ القُرآنِ مِنْ كَلِمٍ ... نادَتْكَ يَا خَبرَ تَالِيها ووَاعِيها ووجد بخط الخليفة المستنصر بالله: (ابتدى بنيان الجامع - صانه الله - يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة 351، وكمل سنة 355. وبلغت النفقة فيه إلى مائتي ألف وأحد وستين ألفا وخمسمائة وسبعة وثلاثين دينارا ودرهم ونصف (وقع " ونصف " في الأصل المنقول منه هذا. وقال إنه نقله مندرسا، ثم إنه تعرف بعد ذلك صحته من الثقات أنه " ونصف " صحيح؛ وكذلك قال وقع بخط الحكم - رحمه الله -) . وفي سنة 357، في العشر الآخر من رمضان، احتل الوزيران القائدان غالب بن عبد الرحمن وسعيد بن الحكم الجعفري بجيوش الثغر بالصائفة على حصن قلهرة؛ فأقاما بساحته مدة استظهرا بها على تمكين بنيان الحزام فيه والزيادة في ارتفاع البرج الثامن بذروته فانتهيا من ذلك إلى الإدارة، وقفلا بالعسكر، وقد وثقا للحصن بالأمنة. وفي سنة 360، في محرم منها، قعد الخليفة المستنصر بالله على السرير بقصر قرطبة على جرى العادة من الاحتفال والزينة؛ فأوصل إلى نفسه عيسى بن محمد ومحمد بن العالي وحسن بن عليّ رُسُل بني محمد الحسنين أمراء الغرب؛ فأوصلوا كتاب مرسليهم، وذكروا ما هم عليه من الطاعة، وطلبوا بعثه رماة تقوية لهم لما يتوقعونه من حركة قائد معد الشيعي نحوهم؛ وتقربوا بإهداء خيل وجمال وغير ذلك؛ فقبلت منهم. وفي صدر رمضان منها، وقع الإرجاف بتحرك المجوس الأردمانيين - لعنهم الله -، وظهورهم في البحر، ورومهم سواحل الأندلس الغربية على عادتهم؛ فأزعج السلطان قائد البحر بالخروج إلى المرية، والتأهب لركوب الأسطول منها إلى إشبيلية، وجمع الأساطيل كلها للركوب إلى ناحية الغرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 ذكر مقتل زيري بن مناد، قائد الشيعي على تيهرت، وفي يوم السبت، لاثنتي عشرة ليلة بقيت لشهر رمضان منها، ورد الخبر على المستنصر بالله بقتل زيري بن مناد عامل معد الشيعي وقائده على الغرب، قتله جعفر ويحيى ابنا عليّ المعروف بابن الأندلسي، المخالفان على معد فيمن استظهرا به عليه من زنانة، وجدوه بناحية الغرب في حرب دارت بينهم شهدها بنو خزر وغيرهم من رؤساء القبائل القائمين على زيري بدعوة الحكم المستنصر بالله؛ ففتح لهم في قتله أعظم الفتوح. ووصل عليُّ البغدادي كاتب جعفر المذكور بكتابه إلى المستنصر وذكر اهتياج الحرب العظيم بين أهل الدعوتين بالغرب. ذكر فراق جعفر بن عليّ المعروف بابن الأندلسي صاحب المسيلة لمعد ابن إسماعيل الشيعي صاحب إفريقي، وتقربه إلى الحكم المستنصر بانضمامه إلى زناتة المنحاشين إلى دعوة بني أمية، وتألب جماعتهم على زيري بن مناد الصنهاجي عامل معد الشيعي على حرب بلاد الغرب وقتلهم لزيري عند انقضاضه عليهم صادا لهم عن طريقهم متقربين بقتله إلى الحكم. وسبق جعفر ويحيى أخوه وذووهما بالعبور إلى الأندلس مهديين رأس زيري، خالعين للدعوة الشيعية، متقلدين للدعوة الأموية الجماعية. فكان لهما في ذلك قبول ورفعة عظيمة من الخليفة. وقد ذكر محمد بن يوسف الوراق خبرهما؛ قال: وهما أبنا عليّ بن حمدون؛ وجدهما الأكبر عبد الحميد كان الداخل إلى الأندلس من الشام، ونزل بكورة إلبيرة؛ ثم تنقل حفيده حمدون، جد جعفر هذا، إلى بجاية، وصحب أبا عبد الله الشيعي الداعي، ودخل في مذهبه. فلما تغلب الشيعي على إفريقية، ظهر عليُّ بن حمدون؛ ثم ازداد ظهورا في أيام عبيد الله المهدي وحظوة، وضمه إلى ابنه أبي القاسم ولي عهده؛ فازداد حظوة لديه، وخرج معه إلى أرض الغرب؛ فأمره ببناء مدينة المسيلة، وولاه عليها؛ فبقى بها إلى أن هلك في فتنة أبي يزيد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 سقط من جرف عال، فاندقت يداه ورجلاه، سنة 334. وتولى جعفر هذا ابنه المسيلة من بعده؛ فلم يزل متوليا لها، رفيع المنزلة عند سلطانه، إلى أن قتل محمد بن الخير بن حزر الزناتي القائم بدعوة بني أمية زيري بن مناد؛ فخاف جعفر من صاحب إفريقية؛ فبادر إلى الفرار بنفسه مع أخيه يحيى وجميع أهله وماله سنة 360؛ فصار عند بني خزر أمراء زناتة؛ فشق جعفر الصحراء معهم قاصدين لزيري؛ فالتقوا معهم، ودارت بينهم حرب صعبة انجلت عن قتل زيري وخلق من رجاله؛ واحتوى الزناتيون فيها على جميع عسكر زيري، وأدركوا ثأرهم منهم. ولما أن تم الأمر لأمراء زناتة وجعفر بن عليّ على ما أملوه من الفتح في عدوهم زيري بن مناد، بادر جعفر بمراسلة الحكم إلى الأندلس، ملقيا بنفسه عليه، معتصما بدعوته؛ ثم أرسل إليه أخاه يحيى؛ ثم سار إليه بنفسه، فحظي عنده. قال ابن حماده: وفي ربيع الآخر من سنة 360، التقى يوسف بن زيري الصنهاجي، المشتهر اسمه ببلقين، مع محمد بن الخير أمير زناتة؛ فهزمه بلقين ابن زيري، وقتل جماعة من أهله ورجاله. فلما أيقن محمد بن الخير أن عدوه قد أحاط به، اتكأ على سيفه، فذبح به نفسه، أنفة من أن يملكه بلقين؛ فأتى بأمر عظيم سار ذكره بأرض الغرب. وملك بلقين بن زيري إثر ذلك الغرب، وقتل زناتة، وهدم مدينة البصرة وغيرها من مدن الغرب، ولم يثن عنانا عن مدينة سبتة؛ ومنها رجع، وإليها كان انتهاؤه؛ وصدر عاجزا عنها. وفي ذي القعدة منها، خاطب المستنصر بالله قواده وعماله بكور الأندلس في استقدام كبارها وأعلام رجالها لمشاهدة دخول يحيى بن عليّ بن حمدون وبني خزر أمراء زناتة القادمين برأس زيري بن مناد الصنهاجي قائد معد بن إسماعيل الشيعي وبرؤوس أعيان أصحابه. فلما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة منها، خرج صاحب السكة والمواريث، وقاضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 إشبيلية محمد بن أبي عامر لتلقي جعفر بن عليّ ويحيى أخيه، ومعه أربعة من عتاق الخيل وبغل أشهب، منتقاة من دواب الخليفة، بسروج الخلافة ولجمها؛ ومعه الأخبية الديباجية وغير ذلك. فاحتل ابن أبي عامر بالمرسى الذي خرج فيه جعفر وبمقربة من مالقة. ثم وصل بعد ذلك للوافدين خيل وبغال من قبل الخليفة، وهوادج وكسوات وعماريات لعيال جعفر؛ ثم قدموا إلى قرطبة ببروز عظيم، واحتفال لدخولهم جسيم، حتى وصلا الخليفة. وقد ذكرت الشعراء شأن فراق جعفر وأخيه يحيى لسلطاتهما معد بن إسماعيل ومسيرهما إلى الخليفة الحكم، واعتافهما بحقه فيما مدحت به الخليفة الحكم وأكثرت في ذلك. وقال يوسف ابن هارون (كامل) : وَلَقَدْ عَجِبتُ لِغَفلَةِ المستَنْصِرِ ... إذْ أكْتَفَ الجَيشَ اللُّهَامَ لجِعفَرِ وَلَوَانَّ مَنْ أهوَاهُ وَجهَهُ ... قَامَتْ لَوَاحِظُهُ مَقَامَ العَسْكرِ وفي يوم السبت لليلتين من ذي القعدة منها، جلس الخليفة الحكم فوق السرير جلوسا بهيا، وأوصل إلى نفسه أجناد الكور ووجوه أهلها، الذين استدعاهم لمشاهدة جعفر بن عليّ ومن أتى معه من أمراء زناتة، وأمرهم بالانصراف إلى بلادهم؛ فانصرف جند دمشق، وهم أهل إلبيرة، وجند حمص، وهم أهل كورة إشبيلية، وجند فنسرين، وهم أهل جيان، وجند فلسطين، وهم أهل شذونة، وغير هؤلاء. وفي سنة 361، هاجت بالغرب حروب مع حسن بن قنون الحسني وقواد الحكم المستنصر بالله. بعض أخبار حسن بن قنون الحسني أمير الغرب مع قواد الأندلس في هذه السنة. كان المستنصر بالله دعا محمد بن قاسم الناظر في الحشم، وأمره بالخروج إلى مدينة سبتة في رمضان من هذه السنة، قائدا على من يضمه إليه من طوائف الأجناد، للذي بدا من نقض حسن بن قنون، وانحرافه إلى دعوة معد صاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 إفريقية واستدعائه من دن منه من أحزابه، مستعينا بهم فيما اعتزم عليه من نفاقه على الحكم، وإعلانه بإيقاع الدعاء الشيعي معد على منابر عمله، فأوصى الحكم قائده محمد بن قاسم باستعماله جده وجهده في مغاورة ابن قنون، وأمره، إن أظهره الله تعالى، أن يأخذ بالعفو والصفح، وإصلاح البلاد، واستصلاح الرعية؛ وأمره أن يستعين بمن دخل في الطاعة الأموية. فكان عبوره البحر إلى سبتة لإحدى عشرة بقيت من شوال منها؛ وتكاملت الجيوش والأساطيل بسبتة. وفي يوم السبت لأربع خلون من ذي القعدة ورد كتاب على المستنصر بالله بفتح طنجة، فتحها قائده على البحر عبد الله بن رماحس، يذكر أنه نازلها بالأسطول غرة ذي قعدة، ودعا أهلها إلى الطاعة والعود إلى الجماعة؛ فاستولوا الرد عليه؛ وكان حسن بن قنون داخلها يشد عزائمهم؛ فلما كان يوم الخميس، خرج حسن لقتال العسكر الخارج إليه من سبتة إلى تلون، وأبرز من طنجة عددا كثيرا من جنده الغربيين وأنصاره؛ فانهزموا أمام جيش الحكم، وولوا مدبرين؛ فلما رأى ذلك حسن، فرَّ هاربا في خاصة من أصحابه، لا يلوى على أحد، ولم يعرج على ما كان له ولأصحابه بطنجة من أموال وأخبية وأمتعه؛ فلما أمعن في فراره، وأسلم أهل طنجة، خرج شيخهم ابن الفاصل إلى القائد ابن رماحس مع جماعة وجوه طنجة، وهم ينادون (الطاعة لله ولأمير المؤمنين الحكم) ثم تقدم ابن الفاضل إلى القائد رماحس وطلب منه الأمان لأهل بلده؛ فأعطاه إياه، ودخل طنجة، ونهب ما كان بها لحسن بن قنون وأصحابه؛ وأنفذ القائد كتابه بالفتح إلى الخليفة. وورد كتاب القائد محمد بن قاسم على المستنصر بالله لتسع بقين من ذي القعدة، يذكر أنه التقى مع حسن بن قنون؛ فدارت بينهما حرب شديدة، أجلت عن هزيمته، وقتل كثير من شيعته؛ وفر فيمن بقى معه إلى جبل حصين؛ فتبعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الجند، وانفضوا عليه؛ فدارت بينهم حرب يسيرة؛ ثم انهزم أيضا، وخلف أثقاله، وفرَّ، لا يلوى على شئ؛ فصار الجبل بأيدي الجند، ونهبوا ما فيه؛ ثم نهضوا في اليوم الثاني إلى مدينة دلول؛ ففتحها الله لهم. ولحق بهم القائد محمد بن قاسم في العسكر؛ فقصد مدينة آصيلا، فدخلها؛ ودخل القائد إلى جامعها، فوجد فيه منبرا جديدا موسوما باسم الشيعي معد بن إسماعيل؛ فأمر بإحراقه بالنار، بعد أن خلع من أعلاه اللوح المنقوش فيه اسم معد، وكان فيه من الغلو ما في ذكره أمر كبير؛ فأمر باقتلاعه، وأرسله مع كتاب الفتح إلى المستنصر. وانصرف العسكر إلى مدينة دلول؛ فأمر بهدم أسوارها، وتضريم بيوتها نارا، وتركها عبرة. واستولي العسكر على ما كان بها، واستوسعوا في أطعمتها وما ترك فيها حسن المذكور. وفي سنة 362، قتل القائد محمد بن قاسم بفحص مهران على يدي حسن ابن قنون، يوم الأحد لسبع بقين من ربيع الأول؛ وقتل في ذلك اليوم جملة من الجند الذين كانوا معه نحو الخمسمائة من الفرسان الأبطال الأندلسيين الأنجاد، ومن رجالتهم نحو الألف. وفي غرة جمادى الآخرة، دخل إلى قرطبة جمع من مصمودة ممن كان مع حسن بن قنون، وهم سبعون رجلا، نزعوا إلى الطاعة. وفيها، استدعى المستنصر بالله غالب بن عبد الرحمن، وأمره بحرب حسن ابن قنون الحسني عندما تفاقم أمره، وقتل الجند. وورد على المستنصر بالله كتاب فتح من قبل القواد بمدينة آصيلا، أنهم التقوا مع حسن بن قنون، فدارت بينهم حرب شديدة انهزم فيها حسن وقتل كثير من حماته. وقدم إلى قرطبة حنون بن إدريس صاحب مدينة العدوة الأندلسية من فاس، ورسول عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 الكريم صاحب مدينة القرويين من فاس، يرغبان في طاعة أمير المؤمنين المستنصر، والقيام بدعوته؛ فكرم رسولهما، وأجمل موعودهما. وفي شعبان منها، خوطب القائد غالب بأنه بعث إليه بعشرة آلاف دينار لصلات الخارجين إليه من أصحاب حسن بن قنون، يوزعها عليهم بحسب مقاديرهم؛ وقرن بها من فاخر الكسوة والسيوف المحلاة عدد كثير للخلع عليهم. وفيها، أرسل المستنصر بالله الوزير يحيى بن محمد النجيبي إلى الغرب بعسكر، ممدا للقائد غالب، وجامعا لليد معه على الخالع للطاعة حسن بن قنون؛ فكان ذلك في خبر طويل. وفي أواخر ذي القعدة، ورد على المستنصر كتاب القائد غالب يذكر صنع الله تعالى في افتتاحه حصن الكوم، وهرب المخذول عنه حسن بن قنون مع صهره صاحب البصرة عليّ بن خلوف وغيرهما. وفي منتصف ذي الحجة، ورد كتاب صاحب الشرطة، قاضي القضاة بالغرب محمد بن أبي عامر، يذكر تعييد الناس يوم الخمس، وقيام الخطبة في المصليات هنالك للمستنصر بالله، وسرور المسلمين بذلك، وابتهاجهم به. وفيها، كانت حروب مع الحسنيين يطول ذكرها، انجلت عن مقتل خلق كثير من أصحاب حسن بن قنون الحسني؛ وحز من رؤوس مشاهيرهم مائة رأس؛ وترك أكثرهم صريعا. وقتل في الهزيمة محمد بن أبي العيش الكتامي وكان من حسن محل أخيه تارة ومحل أبيه تارة أخرى. وفي سنة 363، افتتح غالب، قائد الحكم المستنصر بالله، مدينة البصرة التي كان انتزى فيها محمد بن حنون الحسني، وذلك أن أهل البلد قاموا عليه، وقتلوا نائبه وخليفته عليهم، وابتدروا لمخاطبة القائد غالب، يستجلبونه إليهم؛ فوصلهم، وملك المدينة، وخاطب الخليفة بخبرها، وأدرج كتاب أهلها طيَّ كتابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وفي يوم الخميس منتصف صفر، ورد كتاب غالب على المستنصر، يذكر منصرفه عن بلد البصرة وأخذه رهنهم، ويذكر أنه قد صار إلى الطاعة جميع أهل الغرب وعامة قبائل البربر، ولم يبق فيه غير الخائن حسن بن قنون، وأنه قد صار من ضيق أمره في غمة. ووصل أهل البصرة إلى قرطبة الدافعين لأميرهم حسن، الداخلين في الطاعة. وفيها، ورد الخبر السار على المستنصر بالله بإذعان الحسن بن قنون الحسني، ودخوله في طاعته؛ فشهد الخليفة صلاة الجمعة منسلخ جمادى الآخرة؛ فقعد بجامع قرطبة، وأعلم الوزراء بخضوع حسن بن قنون المنتزي عليه بالغرب، وأنه ورد عليه كتاب غالب بذلك، وأنه يوجه إليه ابنه عليّ بن حسن المذكور، وأن الخطبة قامت بدعوته في قلعة حجر النسر؛ فاستبشر الوزراء وعنؤه، وغبطوه وأعلنوا بالسكر لله تعالى والدعاء للخليفة، وأطالوا في ذلك. وفي سنة 364، قدم على المستنصر قائده غالب بن عبد الرحمن قافلا من عدوة الغرب، ومعه حسن بن قنون وسيعته بنو إدريس الحسنيون ملوك الغرب، المستنزلون من معاقلهم إلى الأندلس، حافين بشيخهم المشتهر بحنون، واسمه أحمد بن عيسى، صاحب مدينة الأقلام وما ولاها؛ ومعه اخوته وبنو عمه وبنوهم وأهلوهم؛ فأمر باحتمال هؤلاء الأشراف من المحلة، في ظلام ليلة الخميس لأربع خلون من المحرم، إلى الدور التي أخليت لهم بقرطبة؛ فأرسل القوم معهم ثقاتهم من فتيانهم ومواليهم، حتى أدتهم إلى الدور المعدة لهم، بعد أن فرشت مجالسها بشيء يطول ذكره. وفيها، كان اعتلال الخليفة الحكم، في ربيع الأول؛ واحتجب عن جميع مملكته إلى أن تخلف وصبه، وظهر لخاصته يوم الجمعة لليلة بقيت من ربيع الآخر منها. وفي عقب ربيع المذكور، أعتق الحكم نحوا من مائة رقبة من عبيد، له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 فيه لبعضهم تدبير، ولباقتهم عتق بتل ومؤجل، خلص به جميعهم من الرق؛ وعقدت بذلك وثائق. فكان أول من أوقع شهادته فيها أبو الوليد هشام بن الحكم، ثم الفقهاء أهل الشورى، ثم العدول. وفيها، حبس الحكم حوانيت السراجين بقرطبة على المعلمين لأولاد الضعفاء. وفيها، أسقط الحكم سدس جميع المغارم عن الرعايا بجميع كور الأندلس، شكرا لله على أنظاره له. وفيها، كان جيشان العدو - خذله الله - ومنازلته بعض حصون المسلمين. وفيها، كان الظفر بأبي الأحوص معن بن عبد العزيز النجيبي؛ فقبض عليه رشيق، وبعثه مكبولا إلى قرطبة مع عشرة من أصحابه؛ وكان يظاهر المشركين ويدلهم على عورات المسلمين؛ فأخذه الله. وفي سنة 365، خرج من قرطبة جعفر ويحيى، ابنا عليّ بن حمدون بن الأندلس، قائدين إلى الغرب من العدوة، وبين أيديهما الألوية والطبول مديلين للوزير يحيى بن محمد بن هاشم. وفيها، كان الإعلان ببيعة أبي الوليد هشام بن الحكم، وأن تؤخذ له من الخاصة والعامة بقرطبة وسائر كور الأندلس، وما إلى طاعته من بلاد الغرب. وذكره في الخطبة على المنابر في الجمعة والأعياد، وذلك مستهل جمادى الآخرة: قعد أمير المؤمنين الحكم بقصره، وافتتح الكلام بما عزم عليه من تقليد ابنه عهده الخلافة من بعده؛ فالتزمت بيعته، وأخرجت نظائر من كتب البيعة ليوقع شهادته كل من التزمها؛ وتولي إعطاءها للناس على مراتبهم المنصور محمد بن أبي عامر، وهو يومئذ صاحب الشرطة والمواريث، وميسور الفتى الجعفري الكاتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وفيها، خرج الوزير يحيى بن محمد بن هاشم قائدا إلى سرقسطة، وبين يديه الطبول والبنود. وفيها، نفذ عهد الحكم إلى الوزير صاحب المدينة جعفر بن عثمان المصحفي بإطلاق أبي الأحوص النجيبي من سجن المطبق مع أصحابه؛ فصفح الحكم عنهم. وفي سنة 366، توفى أبو عليّ البغدادي، صاحب النوادر، المعروف بالقاليّ، منسوب إلى قالي قلا من ديار المشرق. وفيها، مات محمد بن يحيى النحوي، وأبو مروان المرادي، وعبد الملك بن سعيد؛ فكانت تسمى سنة الأدباء. وكمل بناء المسجد سنة 65؛ كان المنبر الذي صنعه الحكم مدخلا من عود الصندل الأحمر والأصفر والأبنوس والعاج والعود الهندي؛ قام على الحكم - رحمه الله - بخمسة وثلاثين ألف دينار وسبعمائة دينار وخمسة دنانير؛ وكان تمامه في خمسة أعوام. ووجد بخط المستنصر بالله تأريخ وفاة قاضيه وقاضي أبيه منذر بن سعيد البلوطي، وأنه توفى يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي قعدة من سنة 55؛ وكان مولده سنة 273؛ فكان عمره اثني وثمانين سنة. وكان في هذا القاضي منذر دعابة يعرض بها ويتعرض له بها؛ فكتب إليه قوم من أهل المجانة والظرف (خفيف) : قُلْ لِقَاضي الجماعة البَلُّوطي ... ما ترى في خريدة كالخُوطِ ناكها للثواب قَوْمٌ ظِرافٌ ... هَلْ تَرَى سيِّدِي بذا مِنْ سُقُوطِ فوقع لهم في كتابهم: (لا منفردة) . فقال له من حضر: (ما هذا؟) . فقال: (أردت لا أرى ذلك) . فقالوا: (لا يفهم عنك إلا غيره) . فقال: (كل يجاوب على معتقده) !. فكان له - رحمه الله - نوادر مستحسنة، وغرائب مستملحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ذكر اتصال محمد بن أبي عامر بخدمة الحكم المستنصر قال بعض المؤرخين: كان اتصال ابن أبي عامر بالحكم، فيما حدثني به ابن حسين الكاتب والأديب أبو إسحاق بن محمد الإفليلي وغيرهما من المشيخة أن الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، القائم بدولة الحكم، خلا في بعض الأيام بالقاضي محمد بن إسحاق بن السليم؛ فشكا إليه ابن السليم شجوه بمحمد بن أبي عامر ووصف له حاله. فلما طلب الحكم له وكيلا لولده عبد الرحمن الدارج في حياته، ذكر له جعفر ابن أبي عامر بخير، ووصف لأم عبد الرحمن جماعة اختارت منهم ابن أبي عامر، وذلك باختيار جعفر له؛ فنصبه الحكم لخدمتها وخدمة ابنها عبد الرحمن. فلما مات عبد الرحمن، بقى في خدمة أمه السيدة، وكانت قد ولدت هشام بن الحكم؛ فصرف ابن أبي عامر لوكالته. وكان تقدمه أولا لوكالة الولد عبد الرحمن يوم السبت لتسع خلون من ربيع الأول سنة 356؛ وأجرى عليه في ذلك الوقت خمسة عشر دينارا في الشهر مرتبا بالوازنة. فبدا من نصحه وحسن نظره ما عرف له؛ ثم استأثر الله بعبد الرحمن؛ فصرف إلى وكالة هشام، يوم الأربعاء لأربع خلون لرمضان سنة 359. وكان قد تقدم للنظر في امانة دار السكة يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت لشوال من سنة 56. كانت ولايته أولا لوكالة، وأضاف له الخزانة؛ ثم قدمه على خطة المواريث يوم الخميس لسبع خلون من المحرم سنة 358. واستقضاه على كورة إشبيلية ولبلة وأعمالها يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 58 المذكورة. وفي سنة 361، قدم الحكم المستنصر بالله محمد بن أبي عامر على الشرطة الوسطى في جمادى الآخرة، وأهاب به إلى الأمانات بالعدوة؛ فاستصلحها واستمال أهلها؛ وجعله قاضي القضاة بالغرب من العدوة، وأمر عماله وقواده ألا ينفذوا شيئا دونه، إلا بمشورته؛ ثم أضاف إليه الحكم النظر في الحشم، وهو في علته التي مات فيها بالفالج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وقيل أيضا إن سبب ظهوره كان خدمته للسيدة صبح البشكنشية، أم عبد الرحمن وهشام؛ فكانت أقوى أسبابه في تنقيل الملك عما قليل إليه؛ فإنه استمال هذه المرأة بحسن الخدمة، وموافقة المسرة، وسعة البذل في باب الإتحاف والمهاداة، حتى استهواها، وغلب على قلبها؛ وكانت الغالبة على مولاها، وابن أبي عامر يجتهد في برها والمثابرة على ملاطفتها؛ فيبدع في ذلك، ويأتيها بأشياء لم يعهد مثلها، حتى لقد صاغ لها قصرا من فضة وقت ولايته السكة، عمل فيه مدة، وأنفق فيه مالا جسيما؛ فجاء بديعا، لم تر العيون أعجب منه؛ وحمل ظاهرا لأعين الناس من ذار ابن أبي عامر، وشاهد الناس منه منظرا بديعا، لم تر العيون أعجب منه؛ فتحدث الناس بشأنه دهرا، ووقع من قلب المرأة موقعا لا شئ فوقه؛ فتزيدت في بره، وتكفلت بشأنه، حتى تحدث الناس بشغفها به. وقال الحكم يوما لبعض ثقاته: (ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا حتى ملك قلوبهن، مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا هداياه، ولا يرضيهن إلا ما أتاه؟ إنه لساحر عليم، أو خادم لبيب! وإني لخائف على ما بيده!) ثم سعى به إلى الحكم، وقيل عنه إنه قد أسرع في إتلاف مال السكة الموقوف قبله؛ فأمره الحكم بإحضاره ليشاهد سلامته؛ فأظهر الإسراع إلى ذلك، وقد استهلك جملة من الأموال؛ فألقى نفسه في جبرها على الوزير ابن حدير في إسلافه إياها؛ وكان صديقا له؛ فياسره فيه، وةحمل المال إليه من وقته؛ فتمم به ما قبله، وارتفعت الظنة عنه؛ فأكذب الحكم ما رفع إليه عنه، وازداد عجبا به، وأقره على حاله؛ فرد ابن أبي عامر المال لابن حدير من حينه، ولصق بالحكم، وصار في عداد كنفاته. واشتغل قلب الحكم، آخر أيامه، بأمر العدوة ومن جرده إليها من عساكره لحرب الأدارسة وغيرهم، واغتم لما خرج من يده في ذلك الوجه من الأموال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 فقلد ابن أبي عامر قضاء القضاة بالغرب، وجعله عينا على العسكر، وأوعز إليه في مهماته؛ فسار ابن أبي عامر إلى هنالك؛ فحمدت سيرته، وصحب حينئذ وجوه العسكر وأشياخ القبائل وملوكهم؛ فكانت تلك الحركة أول ظهوره، وبعد رجوعه منها، لم يزل يزداد نبلا، ويرتقى منزلة، وهو مع ذلك كله يغدو إلى دار جعفر بن عثمان المصحفي وزير الدولة ويروح، ويختص به، ويدعى نصيحته. وفي سنة 366، توفى الحكم المستنصر بالله بعد اتصال علته؛ وجعفر بن عثمان يدير سلطانه إلى حين وفاته، ليلة الأحد لثلاث خلون لرمضان من السنة المؤرخة. خلافة هشام بن الحكم ابن عبد الرحمن الناصر والدولة العامرية نسبه: تقدم في خلافة أبيه وجده. كنيته: أبو الوليد. لقبه: المؤيد بالله. أمه: صبح البشكنشية، أم ولد، وكان سيدها الحكم يسميها بجعفر، وكانت مغنية حظية عنده، وتوفيت في خلافة ابنها هشام. بويع له يوم الاثنين لأربع خلون من صفر سنة 66 بعهد من أبيه، وهو ابن إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر؛ وخلع يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، سنة 399؛ فكانت خلافته الأولى، إلى أن قامت الفتنة، ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام. وفي الخلافة الثانية سنتين وعشرة أشهر؛ الجميع الذي كمل له في المؤتين ستة وثلاثون سنة وشهران وعشرة أيام. صفته: أبيض، أشهل، أعين، خفيف العارضين، لحيته إلى الحمرة، حسن الجسم، قصير الساقين، مائل إلى العبادة والانقباض، مقبل على تلاوة القرآن ودرس العلوم، كثير الصدقات على أهل الستر من الضعفاء والمساكين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 قضاته: محمد بن السليم، ألقاه قاضيا لأبيه فأقره على ولايته؛ ثم أبو بكر ابن زرب؛ ثم محمد بن يحيى التميمي عرف بابن برطال، وغيرهم. نقش خاتمه: (هشام بن الحكم، بالله يعتصم) . وتولي عقد الشهادة على الناس في البيعة بين يديه وكيله وصاحب شرطته الوسطى والسكة والمواريث أبو عامر محمد بن أبي عامر، بعدما كان قاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن السليم يأخذها على من شهد المجلس من الأعمام وأبنائهم والوزراء وطبقات أهل الخدمة ورجالات قريش وأعلام أهل الحضرة. فلما كان يوم السبت السادس من جلوس هشام، وهو العاشر لصفر سنة 366، قلد الخليفة هشام حجابته وزير أبيه الأخص أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفي. وفي هذا اليوم، أنهض الخليفة هشام محمد بن أبي عامر إلى خطة الوزارة، نقله إليها عن شرطته الوسطى وأجراه رسيلا لحاجبه جعفر في تدبير دولته؛ فماده محمد شأوا، وجرى إلى غاية برز فيها دونه، سابقا في الحلية، وتخلف جعفر عن مداه. ومن أخبار جعفر بن عثمان المصحفي: هو أبو الحسن جعفر بن عثمان بن نصر بن فوز بن عبد الله بن كسيلة القيسي. كان لطيف المنزلة من الحكم المستنصر بالله، قديم الصحبة، قريب الخاصة؛ وكان أول سبب ذلك تأديب والده عثمان بن نصر للحكم في صباه، واستخدمه في أيام والده الناصر، واستكتبه، ورقاه إلى خطة الشرطة الوسطى والنظر في عدة من الأعمال والكور. فلما أفضت الخلافة إلى الحكم، قلده، بعد ثلاثة أيام من خلافته، خطة الوزارة، وأمضاه على الكتابة الخاصة؛ ثم جمع له الكتابة العليا بالخاصة، وولي ابنيه الأعمال الكبار. وكان جعفر بن عثمان أحد شعراء الأندلس المحسنين، المتصرفين في أنواع الشعر من المديح والأوصاف والغزل، غاية في كل ذلك في الرقة والإبداع والحسن. وقد تقدم قوله مرتجلا: (هنيا للإمام والأنام) وقوله مرتجلا: (تطلع البدر من حجابه) وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 قال ابن بسام: كان جعفر بن عثمان رجلا بلغ المنتهى، وسوغ برهة من دهره ما اشتهى، دون مجد تفرع من دوحته، ولا فخر نشأ بين مغداه وزوجته. فسما دون سابقة، وارتقى إلى رتبة لم تكن لبينته مطابقة؛ فلم يزل يستقل ويضطلع، وينتقل من مطلع إلى مطلع، حتى التاح في أفق الخلافة، وارتاح إليها بعطفها كنشوان السلافة؛ وحجب الإمام، وانسكب برأيه ذلك الغمام. فأدرك بذلك ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشرك، واقتنى وادخر، وأزرى بمن سواه وسخر. واستعطفه محمد بن أبي عامر، ونجمه غابر لم يلح، وسره مكتوم لم يبح؛ فما أقبل عليه ولا عطف، ولا جنا من روضة دنياه زهرة أمل ولا قطف؛ وأقام في تدبير الأندلس، وهو يجري من السعد في ميدان رحب، ويكرع من العز في مشرب عذب. وكان له أدب بارع، وخاطر إلى نظم المحاسن مسارع. فمن ذلك ما بعثه عليه إيناس دهره وإسعاده، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده (طويل) : لِعَيْنِكِ في قَلبِي على عُيُونُ ... وبَيْنَ ضُلُوعِي للشُجُونِ فُنُونُ لَئِنْ كان جِسْمي مُخلَقاً في يَدِ ألَوَى ... فحُبُّكِ غَضٌ في الفُؤادِ مَصُونُ وله، وقد أصبح يوما عاكفا على حمياه، هاتفا بإجابة دنياه، مرتشفا ثغور الأنس متنسما رياه، والملك يغازله بطرف عليل، ويبرم من أنسه كل نحيل، والسعد قد عقد عليه أيَّ إكليلي، يصف لون مدامه، وما يعرف منها دون ندامه؛ فقال (كامل) : صَفْراءُ تَبْرُقُ في الزُّجاج فإِنْ سَرَتْ ... في الجسم دبَّت مِثلَ صِّلٍ لادِغِ عَبَثَ الزمانُ بحُسنِها فتستَّرَتْ ... عن عَيْنه ثَوْبِ نُورٍ سابِغِ خَفِيَتْ على شُرَّابِها فكأنَّما ... يَجِدُونَ رِيِّا في إِناءِ فارِغِ واستمر في حجابته، ومر بين سمع الدهر وإجابته، والنفوس العلية من تناهي حاله متغيرة، وفي تكيف سعده متحيرة. ولم يزل لنجاد تلك الخلافة معتقلا، وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 مطالعها متنقلا، إلى أن توفى الحكم؛ فانفصم عنده المحكم، وانبرت إليه النوائب، وتسددت له الخطوب بسهام صوائب؛ واستولي عليه الكسل، وأسرعت إليه الذوابل والأسل، وتعاوره الإدبار، وساوره من المكروه ما فيه اعتبار؛ وانتقل إلى المنصور ذلك الأمر، واختص به كما اختص بيزيد أخوه الغمر، وأناف في تلك الخلافة كما شب قبل اليوم عن طوقه عمرو؛ فاعتقل بتلك النجاد، واستبد به دون أولئك الأمجاد، وانبرى إلى المصحفي بصدر كان قد أوغره، وجد سام طال ما استقصره؛ فأباده ونكبه، وسلب جاهه وانتهبه، وأقنص من تلك الإساءة، وأغصَّ حلقه بكل مساءة، وألهب جوانحه حزنا؛ ونهب له مدخرا ومختزنا، ودمر عليه ما كان حاط، وأحاط به من مكروهه ما أحاط؛ فبقى سنين في مهوى النكبة، وجوى تلك الكربة، ينقله المنصور معه في غزواته، ويعتقله بين أظفار التضييق أو في لهواته، وهو يستعطف ويستميل، فلا يتحقق له رجاء ولا تأميل، إلى أن تكورت شمسه، وقاضت بين أنياب المحن نفسه؛ فاغتيل في المطبق، ونفذ فيه أمر الله وسبق. بعض أخبار المنصور محمد بن أبي عامر في ابتدائه نسبه: هو أبو عامر محمد بن أبي حفص عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الداخل إلى الأندلس مع طارق؛ وكان له في فتحها أثر جميل؛ وكان في قومه وسيطا؛ وقد ذكره محمد بن حسين الشاعر العالم بأخبار الأندلس في بعض أمداحه للمنصور هذا، فقال (طويل) : وَكُلُّ عَدُوٍّ أنت تَهْدِمُ عَرشَهُ ... وَكُلُّ فُتُوحٍ عنك يُفْتَحُ بَابُها وإنَّك من عبد الملِيك الذي له ... حُلَى فضتحِ قَرطَاجَنَّةٍ وانتِهابُها جَبَاها أبو مَروانَ جَدُّك قابضاً ... بكفٍّ تليدٌ طعْنُها وضِرابُها فإنْ سَنَحَتْ في الشِركِ من بَعْدِ فَتحِهِ ... فُتُوحٌ فَمَصْرُوفٌ إليك ثَوَابُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وجده عبد الملك هو الذي دخل مع طارق ونزل الجزيرة الخضراء لأول الفتح؛ فساد أهلها، وكثر عقبه فيها؛ وتكررت فيهم النباهة والوجاهة؛ وجاور الخلفاء منهم بقرطبة جماعة أحدهم أبو عامر محمد بن الوليد، الذي عرف آل عامر طرَّا به. وساد بعده ولده عامر، وتقدم عند الخلفاء، وولي الأعمال، ومات بقرطبة؛ وباسمه نقش محمد السكك، ورقم الأعلام. وكان عبد الله السكنى بأبي حفص، والد محمد المنصور، من أهل الدين والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان؛ سمع الحديث، وأدى الفريضة، ومات منصرفا من حجه بمدينة إطرابلس المغرب؛ وأصهر التميميين المعروفين بقرطبة ببني برطال؛ فنكح بريهة بنت يحيى بن زكريا؛ فولدت له أبا عامر المنصور، وأخاه يحيى. وكانت أم عبد الله، والد المنصور، بنت الوزير يحيى بن إسحاق، وزمر الناصر لدين الله وطبيبه. وكان محمد هذا حسن النشأة، ظاهر النجابة، تتفرس فيه السيادة؛ سلك سبيل القضاة في أولىته، مقتفيا آثار عمومته وخولته؛ فطلب الحديث في حداثته، وقرأ الأدب، وقيد اللغات على أبي علي البغدادي، وعلى أبي بكر بن القوطية؛ وقرأ الحديث على أبي بكر بن معاوية القرشي، راوية النسائي، وغيره من رؤساء أهل المشرق؛ وبرع بروعا أدناه، مع نوازع سعد وبوادر حظ، من الحكم المستنصر؛ فقربه وصرفه في مهم الأمانات وأصنافها؛ فاجتهد وبرز في كل ما قلده، واضطلع بجميع ما حمله. وكان الحكم، لشدة نظره في الحدثان، يتخيل في محمد بن أبي عامر أكثر الصفات المجتمعة إلى النسب والبلدة. وكان يجد القائم عليهم من الجزيرة الخضراء، أصفر الكفين. فيقول لخاصته: (ألا ترون صفرة كفيه؟) فإذا قالوا له: (أرح نفسك منه!) يقول: (لو كانت به شجة، لكانت تكملة صفاته) . فكان من قدر الله أن حدثت الشجة بمحمد بعد موت الحكم بضرية غالب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 الناصري له، وبها تم الأثر فيه؛ كما أن الحكم قد كان وقف في الأثر على البقعة التي بنيت فيها الزاهرة؛ وكانت ملوك المروانية تتخوف ذلك، وكان ألهجهم بشأنها الخليفة الحكم؛ فنظر في أمرها، وهي البقعة المعروفة بألش (بفتح اللام) ، وهي بغربي قرطبة؛ ووجد انتقال الملك إليها؛ فأمر حاجبه جعفرا بالسبق إليها والشروع في بنائها طمعا في مزية سعدها، وأن لا يخرج الأمر عن يد ولده؛ وأنفق عليها مالا عظيما؛ فكان من غريب الأمور أن محمد بن أبي عامر تولي النظر في شأنها مع من نظر فيها، وهو يومئذ في حال النتوة والاحتياج، ولا يعلم يومئذ به. فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء. ثم رفع إلى الحكم أن البقعة بغير ذلك الموضع، وأنها بشرقي مدينة قرطبة؛ فأنفذ ثقته محمد بن نصر بن خالد للوقوف عليها، وانتهى إلى منزل أبي بدر المسمى بألش (مضمومة اللام) ، وأصاب هنالك عجوزا مسنة وافقته على حد الارتياد، وقالت له: (سمعنا قديما أن مدينة تبنى هنا، ويكون على هذا البئر نزول ملكها) . فعاد إليه محمد بن نصر بالجلية؛ فلم تطل المدة حتى بناها ابن أبي عامر، وتبوأ أرجاء ذلك البشر قرارة. وكان المنصور على ثقة من سرعة انتقال الملك إليه، لا يشك في ذلك لأنه تمكن من مطالعة ما كان عند الحكم؛ فوقف على الجلية. ولم يزل الحكم يقدم محمدا ويؤثره، إلى أن ولي العهد ابنه هشام؛ فزاد مقداره لخاصته بولي العهد ومكانه من السيدة والدته؛ فاحتاج الناس إليه وغشوا بابه؛ فأنساهم من سلف من أصحاب السلطان سعة إشعاف، وكرم لقاء، وسهولة حجاب، وحسن أخلاق؛ فعرض جاهه، وعمر بابه، وأتسع في بناء داره بالرصافة، واتخذ الكتاب الجلة، واستصحب سراة الصحابة. وكانت مائدته موضوعة لمن ينتاب داره، وهمته تترامى إلى وراء ما يناله؛ وهو في هذا كله يغدو إلى دار جعفر بن عثمان المصحفي ويروح، ويصيح ببابه ويختص به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ثم اتصلت علة الخليفة الحكم من الفالج، وجعفر يدير سلطانه. ووقع إرجاف بموت الحكم؛ فأشار محمد بن أبي عامر على جعفر بن عثمان باستركاب ولي العهد هشام في ذلك اليوم في الجيش، إرهابا لأهل الخلاف؛ ففعل وركب في الناس ركبته المشهورة، ومحمد بن أبي عامر بين يديه، قد كساه الخزَّ، ونقله إلى أكابر أهل الخدمة. وأمر ولي العهد هشام في ذلك اليوم وهو العاشر لصفر من سنة 66 بإسقاط ضريبة الزيتون المأخوذة في الزيت بقرطبة، وكانت إلى الناس مستكرهة؛ فسروا بذلك أعظم سرور، ونشب شأنها إلى محمد بن أبي عامر، وأنه أشار بذلك؛ فأحبوه لذلك. ولم تزل الهمة تحذوه، والجد بحظيه، والقضاء بساعده، والسياسة الحسنة لا تفارقه، حتى قام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة، وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، واستشعر اليمن كل فريق. وأسقط جعفرا المصحفي، وعمل فيه ما أراده. فأول غزوة فصمها من عرى المملكة عزوة الصقالبة الخدم بالقصر موضع الخلافة؛ وكانوا أبهى حلل المملكة، وأخص عددها؛ عنى الخلفاء يجمعهم والاستكثار منهم؛ وكانوا خاصة الناصر والحكم بعده، حتى لقد ظهرت منهم في زمن الحكم أمور قبيحة أغضى عنها مع إيثاره العدل واطرح الجور بالجملة. وكان يقول: (هم أمناؤنا وثقاتنا على الحرم؛ فينبغي للرعية أن تلين لهم، وترفق في معاملتهم؛ فتسلم من معرتهم، إذ ليس يمكننا في كل وقت الإنكار عليهم.) ولما مات الحكم، كان الصقالبة أكثر جمعا وأحد شوكة، يظنون أن لا غالب لهم وأن الملك بأيديهم. وكانوا نيفا على الألف محبوب؛ فحسبك بما يتبعهم؛ وكان رأسهم فائق المعروف بالنظامي، صاحب البرد والطراز؛ ويليه صاحبه جوذر صاحب الصاغة والبيازرة؛ وإليهما كان أمر الغلمان الفحول بخارج القصر. وكان قد جرى بين فائق وجوذر مع الحاجب جعفر المصحفي إثر موت الحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 ما أذكره: وذلك أنه لما توفى الحكم، خفى موته على وزيره جعفر وسائر أهل المملكة لطول تردده في العلة، وتفرد بعلم ذلك في وقته خادماه الخاصان به: فائق وجوذر؛ فاستظهرا بكتمان ذلك، وتقدما في ضبط الدار، وخلوا للتشاور، وقد عزما على رد الأمر للمغيرة بن الناصر، أخي مولاهما الحكم، خشية من انتثاره على ابنه هشام، لصغر سنه، وإنكار الناس لتقديمه على أن يقر ابن أخيه هشاما على العهد بعده؛ فيمنا على المغيرة بسوق الخلافة إليه، وبقيا لمولاهما بارتقاب كبر ولده، ويكون الملك في أيديهما بحاله؛ وكان رأيا حسنا لو أراد الله به. فلما اتفقا على ذلك، قال جوذر لفائق: (ينبغي أن نحضر جعفر بن عثمان الحاجب؛ فنضرب عنقه؛ فبذلك يتم أمرنا) . فقال له فائق: (سبحان الله يا أخي! تشير بقتل حاجب مولانا وشيخ من مشيختنا دون ذنب، ولعله لا يخالفنا فيما نريده، مع افتتاحنا الأمر بسفك الدم.) فأرسلا في جعفر بن عثمان؛ فحضر: ونعيا إليه الحكم، وعرضا عليه ما أجمعا عليه من الرأي. فقال لهما جعفر: (هذا، والله! أسد رأي وأوفق عمل؛ والأمر أمركما؛ وأنا وغيري فيه تبع لكما. فاعزما على ما أردتما، واستعينا بمشورة المشيخة؛ فهي أنفى للخلاف، وأنا أسير إلى الباب، فأضبطه بنفسي؛ وأنفذا أمركما إلى بما شئتما.) وخرج عنهما؛ فضبط باب القصر، وتقدم في إحضار أصحاب الهاشمية مثل زياد بن أفلح مولي الحكم، وقاسم بن محمد، ومحمد بن أبي عامر، وهشام بن محمد بن عثمان، وأشباههم؛ واستدعى بني برزال، إذ كانوا بطانته من سائر الجند. واستحضر سائر قواد الأجناد الأحرار؛ فاجتمع له من هذه الطوائف ما شد ركنه وقوى أيده؛ فنعى لهم الخليفة، وعرفهم مذهب الصقالبة في نكث بيعة هشام؛ وأقبل بثبت أصحابه، وقال لهم: (إن جبسنا الدولة على هشام، أمنا على أنفسنا، وصارت الدنيا في أيدينا؛ وإن انتقلت إلى المغيرة قبل أن يبلغه موت أخيه، فتمكنه الحيلة. فعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 برأيهم؛ فتوافقوا فيما بينهم النهوض إلى قتله؛ فكفوا وجبنوا؛ فبدرهم محمد بن أبي عامر وقال: (يا قوم إني أخاف فساد أمركم، ونحن تبع لهذا الرئيس وأشار إلى جعفر، فينبغي ألا نختلف عليه، وأنا أتحمل ذلك عنكم إن أجذبني إليه؛ فاحفضوا عليكم!) فأعجب جعفرا والجماعة ما كان منه، وولوه شانه، وقالوا له: (أنت أحق بتولي كبره لخاصتك بالخليفة هشام ومحللك من الدولة.) فأرسل جعفر معه طائفة من الجند الأحرار، وثق بهم لذلك. مقتل المغيرة بن عبد الرحمن الناصر فركب محمد بن أبي عامر إلى المغيرة من ساعته، وركب معه بدر القائد مولي الناصر في مائة غلام من غلمان السلطان، ووقف لهم خارج باب دار المغيرة، وأحاط سواه من أصحاب محمد بجهاتها، واقتحم محمد عليه؛ فوجده مطمئنا على غير استعداد؛ فنعى إليه أخاه الحكم، وعرفه بجلوس ابنه هشام في الخلافة، وأن الوزراء خشوا خلافه، فأنفذوه لامتحان القصة. فاشتد ذعره؛ ثم استرجع عليه، واستبشر يملك ابن أخيه، وقال: (أعلمهم أني سامع مطيع واف ببيعتي؛ فتوثقوا مني كيف شئتم!) وأقبل يستلطف ابن أبي عامر، ويناشده الله في دمه، ويسأله المراجعة في أمره، حتى رق له محمد، وكتب إلى جعفر يصدقه عنه ويصف له الصورة التي وجده عليها من السلامة والطمأنينة، ويستأذنه في شأنه. فرد عليه جعفر يلومه في التأخير، ويعزم عليه في التصميم، ويقول له: (غررتنا من نفسك؛ فانفذ لشأنك؛ أو فانصرف، نرسل سواك.) فحمى محمد لجوابه، وعرض الرقعة على المغيرة، وجعلها بيده، وزال عن وجهه، وأدخل عليه تلك الطبقة؛ فقتلوه خنقا في مجلسه، وعلقوا جسده في مخدع يتصل بمجلسه، كهيئة المختنق من تلقاء نفسه، وذلك كله بمعاينة حرمه. ثم أشاعوا أنه خنق نفسه، لما أكرهوه على الركوب لابن أخيه؛ فطاح دمه على هذه الصورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وكان سنه يوم قتل سبعا وعشرين سنة. ثم تقدم محمد بإخفاء ذلك، وأمرهم بدفنه في مجلسه، وأن يسدوا أبوابهم، فيأمنوا بذلك على ولده ونعمته. وعاد ابن أبي عامر إلى جعفر بالقصة؛ فطابت نفسه، وصير محمدا إلى جانبه، وشكره. ووصل الحادث على المغيرة إلى جوذر وفائق؛ فدهشا، وسقط في أيديهما. وقال جوذر لفائق: (قد نصحت لك، فلم تسمع مني!) وكان أكمل دهاء منه. فانكفشا إلى جعفر، فأظهرا له السلامة والاستبشار بما أتاه، والاعتذار مما رأياه، وقالا له: (إنَّ الجزع أذهلنا عما أرشدك الله إليه. فجزاك الله عن ابن مورنا خيرا، وعن دولتنا وعن المسلمين!) فأظهر لهما بعض القبول. وانغمس جعفر في الشغل بأمر البيعة أياما، وفي نفسه للصقالبة ما لا تهنيه معه عيشة، وفي أنفسهم له أبرح لوعة. وأجلس جعفر هشام بن الحكم للبيعة بالخلافة صبيحة يوم الإثنين لأربع خلون من صفر سنة 366؛ ودعا الناس ابن أبي عامر للبيعة؛ فلم يختلف عليه اثنان. فكان لابن أبي عامر في أخذها أثر كبير، تذاكره الناس، وعلا شأنه ومكانه، وبعد في الناس صيته. بعض أخبار الصقالبة مع ابن أبي عامر وذلك أنه لما تمكنت الوحشة ما بين جعفر والصقالبة، انحرفوا عنه، وكرهوا ولاية هشام. فأخذ جعفر حذره منهم؛ وأذكى العيون؛ وبلغه أن جوذرا وفائقا يديران على الدولة، ويدسان في ذلك إلى بعض من في قيادتهما من وجوه الغلمان والفحولة؛ وكان الدخول والخروج إليهما على باب الحديد؛ فأمر الحاجب جعفر المصحفي بسده بالحجر، وصير دخول الناس على باب السدة، فحسم شر الصقالبة، وصيرهم تحت الرقبة. ونظر جعفر في غزالة الغلمان الفحولة عن رسم هذين الصقلبيين بمواطاة محمد بن أبي عامر؛ ودس محمدا إلى من طلبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 له؛ فتقدم عليهم محمد بن أبي عامر؛ فكان يطأ عقبه منهم خمسمائة غلام، فاشتد بهم أرزه، وفخم أمره، وقدمهم في الإنزال والعطاء؛ فأحبوه؛ ثم انقلب بنو برزال إلى محمد بن أبي عامر، وصاروا في قيادته. فاعتز بالطائفتين، وقهر عدوه، وتبعه سائر الجند. فهان أمر الصقالبة عنده. ثم إن جوذرا الفتى استأذن السلطان في الخروج إلى داره مستعفيا من الخدمة، وهو يظن أنه لا يجاب إلى ذلك؛ فأذن له في الخروج؛ فاشتد وعيد أصحابه، وزاد كلامهم؛ وكان أجسرهم على ذلك دري الفتى الصغير، لما فيه من التمرد والجهالة؛ فحرك جعفر ابن أبي عامر لإزالته والراحة منه، وقال: (حاول عليه!) فدس إلى رعبته ببياسة، وأمرهم بالشكوى به وبعماله، ووعدهم العدوى عليه والإراحة من جوره؛ فسارعوا إلى ذلك. ورفع الحاجب جعفر قصته إلى السلطان، وقد أحكم ابن أبي عامر شأن التدبير عليه؛ فخرج التوقيع بالجمع بين ذري وبينهم، والنظر في مصالحهم؛ فاستدعى دري إلى بيت الوزارة؛ فلما أشرف على الدار، ورأى من أعد فيها، أحسن بالشر؛ فخنس راجعا؛ فمنعه ابن أبي عامر، وقبض عليه؛ فتجاذبا؛ فبطش دري بابن أبي عامر، وقبض على لحيته؛ فصاح محمد بن أبي عامر بمن حضر من الجند؛ فاحتشم الأندلسيون دريا، وأسرع بنو برزال إلى إجابته؛ فتقدموا إلى دري، فأوجعوه ضربا؛ ولحقته ضرية بصفح السيف، أزالت عقله، وحمل للوقت إلى داره؛ فعوجل من ليلته بالقتل. وأمر في الوقت فائقا وجماعة من كبارهم بالخروج إلى ديارهم والتزامها؛ فخرجوا إليها. وانحصدت شوكة الصقالبة حينئذ، وفل حدهم؛ وتجرد ابن أبي عامر لطلبهم، فاستخرج منهم أموالا جمة. وآلت حال فائق إلى أن صير إلى الجزائر الشرقية؛ فمات هنالك. وفي خروج الصقالبة من القصر، يقول سعيد الشنتريني الشاعر (سريع) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 أخرِجَ من قَصرِ إمَامِ الهُدَى ... كُلُّ فَتَى مُنْبَسِط جائِر فَمَن رَأينا مِنهمُ قال لا ... مَسَاسِ فِعلِ الناسِ بالسامِرِ فَخَفَّ ظَهرُ المِلَكِ المُرتَضَى ... قَد خَفَّ من ثِقلِهمُ الظاهِرِ وسِاِلِ ماءُ العِلمِ من وَجهِهِ ... مُذْ زَالَ من جَهلِهمُ الخاثِرِ فلازَمَ الإقرَاءَ في قصره ... مَعَ الوزيرِ الخَيِرِ الطاهِرِ وقلد جعفر المصحفي أمر القصر والحرم، بعد إخراج هاؤلاء الفتيان، سكرا صاحبهم؛ فسكن أنفس الصقالبة، وأجراهم على الطاعة؛ فأصغوا إليه إلى أن استهاجهم جوذر الفتى عظيمهم عند الظهور الذي هم به. فلما هم لابن أبي عامر تدبيره في الصقالبة، جعل يتوصل إلى تقلد جيش المملكة، والقيام بجهاد العدو دون الجماعة؛ وكان العدو جاس بلاد المسلمين، وطمه في انتهاز الفرصة فيهم؛ فأنف ابن أبي عامر من ذلك، وأشار على الحاجب جعفر بتجهيز الجيش والاعتداد للجهاد، وعرض القيام به على جميع الأكابر؛ فكلهم كع عنه إلا ابن أبي عامر؛ فإنه بادر إليه على أن يختار من يخرج معه من الرجال، ويتجهز لغزوه بمائة ألف دينار. فاستكثر ذلك بعض من حصر؛ فقال له محمد بن أبي عامر: (خذ ضعفها وامض! وليحسن غناؤك!) فخام المعترض عن ذلك، وسلم الجيش والمال إلى ابن أبي عامر؟ غزوة محمد بن أبي عامر الأولى فخرج لثلاث خلون من رجب من سنة 366، ودخل على الثغر الجوفي. فنازل حصن الحامة من جليقية؛ فحاصره، وأخذ ربضه، وغنم وسبى؛ وقفل بالسبي والغنائم إلى قرطبة إلى ثلاثة وخمسين يوما. فعظم السروربه، وأخلص الجند له، لما رأوا من كثرة جوده، وكرم عشرته، وسعة مائدته؛ فأحبوه والتقوا به؛ وكثر إحسانه إليهم وإفضاله عليهم، إلى أن أدرك بهم سولة، وبلغ مأموله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 ذكر نكبة الحاجب جعفر بن عثمان وذلك أنه، لما سمت الحال بمحمد بن أبي عامر، واستتب أمره، أعمل الحيلة والتدبير في إسقاط جعفر بن عثمان، والانفراد بالدولة؛ فلم يجد لذلك سببا أقوى من مظاهرة الوزير أبي تمام غالب الناصري، صاحب مدينة سالم والثغر الأدنى، شيخ الموالي قاطبة، وفارس الأندلس يومئذ غير مدافع له؛ وكان بينه وبين الحاجب جعفر بن عثمان عداوة ومنافسة. والثاثت حال غالب صدر دولة هشام في سنه ولايته لما ملك جعفر أمرها، وبان تقصير غالب في مدافعة أعداء الله، وخاف أن يصل أمره إلى الخلاف والمعصية؛ فأشار ابن أبي عامر في استصلاحه ورعى ذمامه. ولم يزل ابن أبي عامر يقوم بشأنه، ويخدمه داخل الدار عند السيدة أم هشام وسائر الحرم، حتى تم مراده فيه كي يستعين به على إهلاك المصحفي؛ فأنهض غالبا إلى خطة الوزارتين، وأنفذ إليه كتاب الخليفة بذلك، وأمره بالاجتماع مع ابن أبي عامر على التدبير على الصوائف، على أن يدير ابن أبي عامر جيش الحضرة، ويدير غالب جيش الثغر. غزوة ابن أبي عامر الثانية وخرج محمد بن أبي عامر بالصائفة يوم الفطر من سنة 366؛ فاجتمع مع غالب بمدينة مجريط. وأصل معه من التظافر على جعفر ما أصاب به النكتة من قلبه؛ واتفقا وتوافقا. وخدم ابن أبي عامر غالبا في سفره هذا خدمة ملك بها نفسه؛ فمال إليه غالب بكلمته. واستمرا في غزوهما، وافتتح حصن مولة، وظهرا فيه على سبي كثير، وغنم المسلمون أوسع غنيمة. وكان أكثر الأمر فيها لغالب؛ فتجافى عنه لابن أبي عامر. وسار معه إلى ثغره، ومنه فارقه، بعد أن أبلغ في مواطأة محمد بن أبي عامر على عدوه جعفر بما أراده؛ وقال غالب لابن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 عامر عند وداعه: (سيظهر لك بهذا الفتح اسم عظيم وذكر جليل، يشغلهم السرور به عن الخوض فيما تحدثه من قصة. فإياك أن تخرج عن الدار حتى تعزل ابن جعفر عن المدينة وتتقلدها دونه!) فاعتقد محمد ذلك. وخاطب غالب الخليفة هشاما بحسن مناب ابن أبي عامر في هذه الغزوة، ونسب السعي والاجتهاد إليه، وشكره، وشدَّ عضده عند الخليفة؛ وعاد محمد ابن أبي عامر إلى حضرة قرطبة منصرفا بالسبي والغنائم. فاستمال محمد بهذا الفتح قلوب العامة والخاصة، وتعرفوا فيه يمن النقيبة؛ فبعد صيته، وهان عليه أمر جعفر وغيره، وشرع في هدمه. فخرج أمر الخليفة يوم وروده بصرف محمد بن جعفر بن عثمان عن المدينة وتقليدها ابن أبي عامر. فخرج محمد نحو كرسيها في هذا اليوم، والخلع عليه، ولا عند جعفر علم بذلك؛ وكان محمد بن جعفر جالسا في مجلسها في أبهة، إذ صعد ابن أبي عامر نحوه؛ فولي محمد بن جعفر ناكصا على عقبه، وأتبع بدايته. وملك ابن أبي عامر الباب بولاية الشرطة؛ والجيش يقوده له؛ والدار بعناية الحرم به؛ فملك على جعفر بذلك وجوه الحيلة، وخلاه، وليس في يده من الأمر إلا أقلخ. فضبط محمد المدينة ضبطا أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولى السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويكايدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو. فكشف الله ذلك عنهم بمحمد بن أبي عامر وكفايته، وتنزهه عما كان ينسب لابن جعفر. فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والذعارات، حتى ارتفع البأس، وأمن الناس، وأمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان؛ حتى لقد عثر على ابن عم له يعرف بعسقلاجة؛ فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدا مبرحا كان فيه حمامه؛ فانقمع الشرُّ في أيامه جملة. واستخلف ابن أبي عامر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي عامر؛ فسلك في أهل الشر سبيله، بل أربى عليه في ذلك. وكاتب جعفر غالبا يستخلصه، ويستميله، ويخطب بنته لابنه؛ فتجددت بينهما ألفة، وجرى عقد في المناكحة. وانكشف ذلك لابن أبي عامر؛ فكاتب غالبا ينشده العهد، وألقى أهل الدار عليه في فسخ المصاهرة؛ فكاتبوه في ذلك؛ فانحرف إلى ابن أبي عامر، وحل عقدة جعفر في نكاحه، وأنكح ابن أبي عامر أسماء ابنته؛ فكانت أحظى نسائه. غزوة ابن أبي عامر الثالثة فلما تم هذا العقد، خرج إليها؛ فدخل على طليطلة غرة صفر من سنة 367؛ فاجتمع مع صهره غالب؛ فعظمه وجرى إلى موافقته. ونهضا معا؛ فافتتحا حصن المال وحصن زنبق، ودوخا مدينة شلمنقة وأخذا أرباضها. وقفل ابن أبي عامر إلى قرطبة بالسبي والغنائم، وبعدد عظيم من رؤوس المشركين، إلى أربع وثلاثين يوما من خروجه؛ فزاد له السلطان في التنوبه، وأنهضه إلى خطة الوزارتين، سوى فيها بينه وبين غالب، ورفع راتبه إلى ثمانين دينارا في الشهر، وهو راتب الحجابة. واستقدم السلطان غالبا لاستهداء أسماء إلى زوجها محمد؛ فبالغ في إكرامه؛ ووقع زفاف أسماء في مشهد بعد العهد بمثله شهرة وجلالة؛ وزفت إليه ليلة النيروز من قصر الخليفة؛ فهو الذي تولي مع حرمه أمرها. وكانت أسماء هذه توصف بجمال بارع وأدب صالح؛ وحظيت عند ابن أبي عامر؛ فلم يفارقها. وقلده الخليفة خطة الحجابة مع جعفر مشتركا. ثم سخط الخليفة على جعفر بن عثمان المصحفي، وصرفه عن الحجابة يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 367؛ وأمر بالقبض عليه وعلى ولده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وأسبابه، وعلى ابن أخيه هشام؛ وصرفوا عما كان بأيديهم من الأعمال، وكلبوا بالأموال. فتوصل ابن أبي عامر بمحاسبتهم إلى استصفاء أموالهم، وانتهاك حرمهم، وترديد النكبات عليهم، حتى مزقهم كل ممزق. وسارع إلى قتل هشام ابن أخي جعفر في المطبق، إذ كان أشد آل عثمان عداوة له؛ وأخرج إلى أهله ميتا. واستمرت النكبة على جعفر سنين عدة، يحبس مرة ويطلق أخرى. ومما حفظ له في ابن أبي عامر، مستعطفا له (متقارب) : عَفَا الله عَنْكَ ألا رَحمةً ... تَجُودُ بعَفْوِكَ ان ابعَدَا لئن جَلَّ ذَنبٌ وَلَمْ أعتَمِدهُ ... فَأنتَ أجَلُّ وأعلَى بَدَا ألَمْ تَرَ عَبداً عَدَا طَورُه ... ومَولي عَفَا ورَشِيدا هَدَى ومُفسِدَ أمرٍ تلافيتَه ... فَعَاد فَأصلَحَ ما أفسَدَا أقِلني أقَالَكَ مَن لم يَزَلْ ... بَقِيكَ ويَصْرِفُ عَنكَ الرَّدَى وكان جعفر بن عثمان في محنته أخور الناس، أرأمهم للذل، وأحبهم في الحياة؛ انتهى به الاستحذاء لمحمد بن أبي عامر، والطمع في الحياة، أن كتب إليه بعرض نفسه عليه لتأديب ابنيه عبد الله وعبد الملك؛ فقال ابن أبي عامر: (أراد أن يستجهلني ويسقطني عند الناس، وقد عهدوا مني ببابه مؤملا؛ ثم يرونه اليوم بدهليزي معلما.) ثم جد ابن أبي عامر في مكروهه، وأدق حسابه، وأمر بإحضاره إلى مجلس الوزراء بقصر الخلافة، ليناظر بين أيديهم فيما ادعى عليه من الخيانة؛ فتردد إلى هذا المجلس مرارا، وأقبل آخر مرة إليه، وواثق الضاغط يزعجه، والبهر والسن قد هاضاه، وقصرا خطاه، والموكل به يحذوه ويستحثه؛ فيقول له جعفر: (يا بني رفقا؛ فستدرك ما تريد! ويا ليت أن الموت بيع، فأغلى الله سومه!) حتى انتهى به إلى المجلس، والوزراء جلوس، فجلس في آخر المجلس دون أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 يسلم؛ فأسرع إليه الوزير محمد بن حفص بن جابر، وكان من حزب ابن أبي عامر؛ فعنفه، واستجهله، وأنكر عليه ترك التسليم، وجعفر معرض عنه. فلما أكثر عليه، قال له جعفر: (يا هذا جهلت المبرة، فاستجهلت عالمها وكفرت. اليد، فقصرت بمسديها.) فاضطرب ابن جابر من قوله، وقال: (هذا هو البهت بعينه! وأي أياديك الغراء التي مننت بها؟ أيد كذا أم يد كذا) ؛ وعدد أشياء؛ فأنكرها عليه الحاجب، وقال: (هذا لا يعرف؛ والمعروف دفعي عن يمناك القطع، وشفاعتي فيها إلى الماضي - رحمه الله - حين استخونك في مال كذا!) فأصر ابن جابر على الجحد؛ فقال جعفر: (أنشد الله من له علم بما ذكرت أن يتكلم!) فقال الوزير ابن عياش: (قد كان بعض منا ذكرته؛ وغير هذا أولى بك، يا أبا الحسن!) فقال: (أحرجني الرجل، فقلت.) ثم أقبل الوزير محمد بن جهور على محمد بن جابر، فقال له: (أوما علمت أنه من كان في سخط السلطان، تحامى السلام على أولىائه لأنهم إن ردوا عليه، أسخطوا السلطان لتأمينهم من أخافه؛ وإن تركوا الرد، أسخطوا الله، وتركوا ما أمر به؟ فكان الإمساك أولى! ومثل هذا لا يخفي على أبي الحسن.) فخجل ابن جابر وأسفر وجه جعفر وتهلل. ثم أخذ القوم في مناظرته على المال؛ فقال: (قد والله استنفدت ما عندي من الطارف والتالد، ولا مطمع فيَّ في درهم، ولو قطعت إرباً إربا!) فصرف إلى محبسه في مطبق الزهراء؛ فكان آخر العهد به. وله، وقد أودعه المنصور المطبق، والشجون تسرع إليه وتسبق، معزيا لنفسه، ومجتزيا في يومه بإسعاد أمسه؛ فقال (متقارب) : أجَارِي الزمانَ على حالِهِ ... مُجَاراةَ نَفسِي لأنفْاسِهَا إذَا نفَسٌ صاعِدٌ شَفَّهَا ... توَارَتْ به بَينَ جُرسِها وإنْ عَكَفَتْ نَكْبَةٌ لِلزَّمانِ ... عَكَفتُ بِصَدرِي على رَأسِهَا ومن بديع ما حفظ له في نكبته، قوله - رحمه الله - يستريح من كربته (طويل) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 صَبَرْتُ عَلَى الأيَّامِ لَمْا تَوَلتِ ... وألزَمتُ نَفْسِي صَبرَهَا فَاستَمَرَّتِ فَيَا عَجَباً للقَلبِ كيفَ اصطِبَارُهُ ... وللنفِسِ بَعدَ العِزِ كيفَ استَذَلتِ وما النَّفسُ إلاَّ حَيثُ يَجعَلُها الفَتَى ... فَإن طُمِعَت تَافَت وإلاَّ تَسَلَّتِ وَكَانَت عَلَى الأيَّامِ نَفسِي عَزيزَةً ... فَلمَّا رَأتْ صَبرِي عَلَى الذُّلِّ ذَلَّتِ وَقُلتُ لَهَا نَفسِ مُوتي كَرِيمةً ... فَقدْ كَانَتِ الدُّنيَا لَنَا ثُمَّ وَلتِ وكان من هلاكه في محبسه هذا على يقين؛ وذلك أنه لما أمر به إلى المطبق، ودع أهله وولده ووداع الفرقة، وقال: (هذا وقت إجابة الدعوة! وأنا أرتقبه منذ أربعين ينة!) فسئل عما ذكره؛ فقال: (رفع على فلان أيام الناصر وسعى به إليه؛ فأشرفت على أعماله؛ فآل أمره إلى ضربه وتغير نعمته وإطالة حبسه. فبينا أنا نائم ذات ليلة، إذ أتاني آت؛ فقال لي: (أطلق فلانا؛ فقد أجيبت دعوته فيك؛ ولهذا أمر أنت لا بد لاقيه!) فانتبهت مذعورا، وأحضرت الرجل، وسألته إحلالي؛ فامتنع عليَّ؛ فاستحلفته على إعلامي بما خصني به من الدعاء؛ فقال: (نعم! دعوت الله أن يميتك في أضيق السجون كما أعمرتنيه حقبة.) فعلمت أنه قد وجبت دعوته، وندمت حيث لا ينفع الندم، وأطلقت الرجل؛ ولم أزل أرتقب ذلك في السجن.) فما لبث في السجن إلا أياما، وأخرج ميتا، وأسلم إلى أهله. فقيل: قتل خنقا في البيت المعروف ببيت البراغيت في المطبق؛ وقيل: دست إليه شربة مسمومة. قال محمد بن إسماعيل، كاتب المنصور: (سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده، والحضور على إنزاله في ملحده؛ فنظرت إليه ولا أثر فيه، وليس عليه شئ يواريه غير كساء خلق لبعض البوابين، ستره به. فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل؛ فغسله (والله!) على فرد باب اقتلع من ناحية الدار، وأنا أعتبر من تصرف الأقدار؛ وخرجنا بنعشه إلى قبره، وما معنا إلا إمام المسجد المستدعي للصلاة؛ وما تجاسر أحد على النظر إليه.) ثم قال: (وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله طالب وعظ، ولا وقع في مسمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 ولا تصور للحظ؛ وقفت له في طريقه، أيام نهبه وأمره، أروم أن أناوله قصة كانت به مختصة؛ فوالله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة، لكثافة موكبه، وكثرة من حفَّ به؛ وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق، ينظرون إليه ويسلمون عليه، حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص؛ فانصرفت، وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص، فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور، واعتقله، ونقله معه في الغزوات ذليلا وحمله. واتفق أن نزلت بجليقية في بعض المنازل إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقد النيران ليخفي على العدو أثره، ولا ينكشف له خبره؛ فرأيت - والله - ابنه عثمان يسفه دقيقا قد خلطه نماء يقيم به أوده، ويمسك به رمقه بضعف حال، وعدم زاد ومال، وسمعته يقول (طويل) : تأمْلتُ صَرْفَ الحادِثاتِ فلَم أزَلْ ... أراها تُوافي عِندَ مَقَدِها الحُرَّا فلله أيَّام مَضَتْ لسيلها ... فإنِّيَ لا أنسَى لها أبداً ذِكرَا تجَافَت بها عَنَّا الحوادِثُ بُرهَةً ... وأبدَتْ لنا منها الطلاقةَ والبشْرَا ليَالِيَ لَم يَدرِ الزَّمانُ مَكانَنَا ... وَلا نَظَرتْ منَّا حَوَادِثُهُ الشَّزرَا وَمَا هّذِهِ الأيَّامُ إلا سَحَائبٌ ... عَلَى كُلِّ أرضٍ تُمطرُ الخَيْرَ والشَّرَّا وكان مما أعين به ابن أبي عامر على جعفر بن عثمان المصحفي ميل حلية الوزراء إليه وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقيه، وأخذهم بالعصيبة فيه؛ فإنهم، وإن لم تكن لهم حمية أعرابية، فقد كانت سلفية سلطانية، يقتفى القوم فيها آثار سلفهم، ويمنعون بها ابتذال شرفهم؛ غادروها سيرة، وخلفوها عادة أثيرة، تشاح الخلف فيها تشاحَّ أهل الديانة، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة؛ ورأوا أن أحدا من التوابع لا يدرك فيها غاية، ولا يلحق لها راية. فلما أحظى المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه، ووضعه من أثرته حيث وضعه، حسدوه وذموه، وخصوه بالمطالبة وعموه. وكان أسرع هذه الطائفة إلى مهاودة المنصور عليه، والانحراف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 عنه إليه، آل أبي عبدي وآل شهيد، وآل جهور، وآل فطيس؛ وكانوا في الوقت أزمة الملك وقوام الخدمة، ومصابيح الأمة؛ فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعه، ولأسباب المصحفي منازعه، وشادوا بناءه، وقادوا إلى عنصره سناءه، حتى بلغ الأمل، والتحف بمناه واشتمل. وعند التيام هذه الأمور لابن أبي عامر، استكان جعفر بن عثمان للحادثة، وأيقن بالنكبة، وزوال المرتبة، وكف عن اعتراض محمد وشركته في التدبير، وانقبض الناس عن الرواح إليه والتبكير. وانثالوا على ابن أبي عامر؛ فخف موكبه، وغار من سماء العزة كوكبه، وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه حتى محاه، وهتك ظلاله وأضحاه. ومن قوله (كامل) : لا تَأمَنَنَّ مِن الزّمانِ تَقَلُّباً ... إنَّ الزَّمانَ بأهِلهِ يَتَقَلَّبُ ولَقَد أراني واللبوثُ تَهَابُني ... وأخافني من بعد ذاك الثَّعَلبُ حَسبُ الكَرِيمِ مَهَانةً ومَذَلّةً ... ألاَّ يزال إلى لَئِيمٍ يَطْلُبُ وكان قوله هذه الأبيات لمّا سبق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة، وواثق الضاغط يزعجه ويستحثه، وهو يقول له: (رفقا بي، يا واثق، فستدرك ما تحبه وتشتهيه، وترى ما كنت ترتجيه!) وقد تقدم ذلك. استبداد ابن أبي عامر بالملك وتغلبه عليه لما قتل ابن أبي عامر جعفر بن عثمان، انفرد بشأنه، ورمى الغرض الأبعد من ضبط السلطان والحجر عليه والاستبداد بالمملكة وأمور الدولة؛ جرى في ذلك مجرى المتغلبين على سلطان بني العباس بالمشرق من أمراء الديلم، حتى أورث ذلك عقبه. فأخذ ابن أبي عامر في تغيير سير الخلفاء المروانية في استجرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الأمر لنفسه وسبك الدولة على قالبه؛ فأداه ذلك إلى مضادة ما كانوا عليه؛ فعوض باللبن غلظة، وبالسكون حركة، وبالأناة بطشه، بالموادعة محاربي؛ فجعل أهل الرأي من مصادر أموره ومواردها يقصون بخروجها عن حد الصواب وقانون التدبير لها؛ وربما فاوض جلتهم الرأي، فيسيرون عليه من الوجه الذي عرفوه، والقانون الذي حمدوه؛ فيعدل عن ذلك إلى المذهب الذي شرعه، والطريق الذي نهجه، والخطر الذي لايجهل اقتحامه؛ فيبهت القوم من حسن ما يقع له. قال الفتح بن خاقان: (فرد نابه على من تقدمه، وصرفه واستخدمه؛ فإنه كان أمضاهم سنانا، وأذكاهم جنانا، وأتمهم جلالا، وأعظمهم استقلالا. قال أمره إلى ما آل، وأوهم العقول بذلك المآل؛ فإنه كان آية الله في إتقان سعده، وقربه من الملك بعد بعده؛ بهر برفعه القدر، واستظهر بالأناة وسعة الصدر، وتحرك فلاح نجم الهدو، وتملك فما حقق بأرضه لواء عدو، بعد خمول كابد منه غصصا وشرفا، وتعذر مأمول صارد فيه سهرا وأرقا، حتى أنجز له الموعود، وفرَّ نحسه أمام تلك السعود. فقام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها أنافة؛ وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة؛ فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك؛ وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كل فريق. وملك الأندلس بضعا وعشرين حجة، لم تدحض لسعادتها حجة، ولم تزخر لمكروه بها لجة؛ لبست فيها البهاء والإشراق، وتنفست عن مثل أنفاس العراق. وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أسد سهام. غزا شاتيا وصائفا، ومضى فيما يروم زاجرا وعائفا؛ فأوغل في تلك الشعاب، وتغلغل حتى راع ليث الغاب، ومشى تحت ألويته صيد القبائل، واستجرت في ظلها بيض الظبى وسمر الذوابل؛ وهو يقتضي الأرواح بغير سوم، وينقضي الصفاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 على كل روم، ويتلف من لا ينساق للخلافة وينقاد، ويختطف منهم كل كوكب وقاد، حتى استبد وانفرد، وأنس إليه من الطاعة ما نفر وشرد. وانتظمت له الأندلس بالعدوة، واجتمعت له اجتماع قريش في دار الندوة؛ ومع هذا، فلم يخلع اسم الحجابة، ولم يدع السمع لخليفته والإجابة، ظاهر يخالفه الباطن، واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن. وأذل قبائل الأندلس بإجاوة البربر، وأخمل بهم أولائك الأعلام الأكابر؛ فإنه قاومهم بأضدادهم، واستكثر من أعدادهم، حتى تغلبوا على الجمهور، وسلبوا منهم الظهور، ووثبوا عليهم الوثوب المشهور، الذي أعاد أكثر الأندلس قفرا يبابا، وملأها وحشا وذئابا، وأعراها من الأمان، برهة من الزمان. وعلى هذه الهيئة، فهو وابنه المظفر كانا آخر سعد الأندلس، وحد السرور بها والتأنس. وغزواته فيها شائعة الإثر، رائعة كالسيف ذي الأثر، وحسبه وافر، ونسبه معافر. ولذا قال ينخر (طويل) : رَمَيْتُ بَنفِسي هَوْلَ كُلِّ كَريهةٍ ... وخَاطَرت والحرُّ الكَريمُ مُخاطرُ وما صاحِبي إلاَّ جَنَانٌ مُشَيعٌ ... وأسمرُ خَطِيٌّ وأبيض بَاتِرُ وإني لَزَجَّاءُ الجيوشِ إلى الوَغَى ... أسُودٌ تُلاقِيهَا أسُودٌ خَوَادِرُ لَسُدتّث بنفسي أهل كُلِّ سِيَادةٍ ... وكَاثَرتُ حَتَّى لَم أجِدْ مَنْ أُكاثِرُ وما شِدتُّ بُنياناً ولاكِنْ زِيَادةً ... على مَا بَنَى عَبدُ المَلِيك وعامِرُ رَفَعنا المَعَالِي بالعَوَالِي حَديثةً ... وأورَثَناها في القَديِمِ مَعَافِرُ وكانت أمُّه تميمية؛ فحاز الشرف من طرفيه؛ والتحف بمطرفيه. قال القسطلي (طويل) : تَلاَقت عَليه مِنْ تَميمٍ ويَعرُبِ ... شُموسٌ تلألا في العُلَى وَبُدُورُ مِنَ الحِميريينَ الذِينَ أكُفُّهُم ... سحائبُ تهمِي بالنَّدى وبُحُورُ وتصرف قبل ولايته في شتى الولايات، وجاء من التحدث بمنتهى أمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 بابات، حتى صح زجره، وجاء بصبحه فجره، يؤثر عنه في ذلك أخبار، فيها عجب واعتبار. وكان أديبا محسنا. وعالما متفننا. فمن ذلك قوله، يمني نفسه بملك مصر والحجاز، ويستدعي صدور تلك الأعجاز (خفيف) : مضنضعَ العَينَ أن تذوقَ المَنَاما ... حُبُّها أن تَرَى الصَّفَا والمَقامَا لي دُيونٌ بالشرق عِندَ أُناسٍ ... قَد أحلُّوا بالمشعرينِ الحَرَاما إنْ قَضَوْها نالوا الأَمانِي وإلاَّ ... جعلوا دُونَها رقاباً وهَمَا عَنْ قَرِيبٍ تَرَى خُيولَ هِشامٍ ... يَبْلُغُ النِيلَ خَطْوها والشامَا وفي سنة 368، أمر المنصور بن أبي عامر ببناء قصره المعروف بالزاهرة، وذلك عندما استفحل أمره، واتقد جمره، وظهر استبداده، وكثر حساده، وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان، وخشي أن يقع في أشطان. فتوثق لنفسه، وكشف له ما ستر عنه في أمسه، من الاعتزاز عليه؛ ورفع الاستناد إليه؛ وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه، ويحله بأهله وذويه، ويضم إليه رياسته، ويتمم به تدبيره وسياسته، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه. فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة، الموصوفة بالقصور الباهرة، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، ونسق فيها كل اقتدار معجز ونظم. وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة، وحشد إليها الصناع والفعلة، وجلب إليها الآلات الجليلة، وسربلها بهاء يرد العيون كليلة؛ وتوسع في اختطافها، وتولع بانتشارها في البسيطة وانبساطها، وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها. فاتسعت هذه المدينة في المدَّة القريبة، وصار من الأنباء الغريبة. وبنى معظمها في عامين. وفي سنة 370، انتقل المنصور بن أبي عامر إليها، ونزلها بخاصته وعامته؛ فتبوأها وشحنها بجميع أسلحته، وأمواله وأمتعته، وأتخذ فيها الدواوين والأعمال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وعمل داخلها الأهراء، وأطلق بساحتها الأرجاء. ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه، وقواده وحجابه؛ فاقتنوا بأكنافها كبار الدور، وجليلات القصور، واتخذوا خلالها المستغلات المفيدة، والمنازه المشيدة. وقامت بها الأسواق، وكثرت فيها الأرفاق؛ وتنافس الناس في النزول بأكنافها، والحلول بأطرافها، للدنو من صاحب الدولة، وتناهى الغلو في البناء حوله، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة، وكثرت بحوزتها العمارة، واستقرت في بحبوحتها الإمارة. وأفرد الخليفة من كل شئ إلا من الاسم الخلافي، وصير ذلك هو الرسم العافي. ورتب فيها جلوس وزرائه، ورؤوس أمرائه، وندب إليها كل ذي خطة بخطته، ونصب على بابها كرسي شرطته، وأجلس عليه واليا على رسم كرسي الخليفة، وفي صفة تلك الرتبة المنيفة. وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة بأن تحمل إلى مدينته تلك الأموال الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات، وينتابها طلاب الحوائج، وحذر أن يعوج عنها إلى باب الخليفة عائج. فاقتضيت لديها اللبانات والأوطار، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار. وهم لمحمد بن أبي عامر ما أراد، وانتظم بلبة أمانيه المراد؛ وعطل قصر الخليفة من جميعه، وصبره بمعزل من سامعه ومطيعه، وسد باب قصره عليه، وجدَّ في خبر ألا يصل إليه، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر، ويبسط فيه النهى والأمر، ويشرف منه على كل داخل، ويمنع ما يحذره من الدواخل؛ ورتب عليه الحراس والبوابين، والسمار والمنتابين، يلازمون حراسه من فيه ليلا ونهارا، ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا؛ وقد حجر على الخليفة كل تدبير، ومنعه من تملك قبيل أو دبير. وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء، محجور الغناء، خفي الذكر، عليل الفكر، مسدود الباب، محجوب الشخص عن الأحباب، لا يراه خاص ولا عام، ولا يخاف له بأس ولا يرجى منه إنعام، ولا يعهد منه إلاَّ الاسم السلطاني في السكة والدعوة، وقد نسخه وليس أبهته، وطمس بهجته. وأغنى الناس عنه، وأزال أطماعهم منه، وصيرهم لا يعرفونه، وأمرهم أنهم لا يذكرونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 واشتد ملك محمد بن أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة، وتوسع مع الأيام في تشييد أبنيتها، حتى كملت أحسن كمال، وجاءت في نهاية الجمال، نقاوة بناء، وسعة فناء، واعتدال هواء رق أديمه، وصقالة جو اعتل نسيمه، ونضرة بستان، وبجة للنفوس فيها افتنان. وفيها يقول صاعد اللغوي (بسيط) : يَا أيُّها المَلِكُ المَنصُورُ من يَمَنٍ ... والمُبتَنِى نَسَباً غَيرَ الذي انتَسَبَا بِغَزوةٍ في قُلوبِ الشِركِ رلتِعةٍ ... بَينَ المنايا تُنَاغى السُّمرَ والقُضُبَا أما تَرَى العَينَ تَجرِي فَوقَ مَرمَرِها ... زَهوا فَتُجرِي على أحسائها الطَّرَبَا أجرَيتَها فَطَمَا الزاهِي بجِريتَها ... كَمَا طَمَوتَ فَسُدتَّ العُجمَ والعَرَبَا تَخَالُ فيه جُنودَ الماءِ رافِلةً ... مُستَلئماتٍ تُربكَ الدَرعَ والبَلَبا تَحُفُّها من فُنُونِ الأيكِ زَاهِرةٌ ... قد أورقت فِضِّةً إذ أثَمَرَت ذَهَبَا بَديِعةُ المُلكِ ما يَنفَكُّ ناظِرُها ... يَتلُو على السَّمْعِ مِنها آيةً عَجَبَا لا يُحسِنُ الدَّهرُ أن يُنشِي لَهَا مَثَلاً ... وَلضوْ تَعَنَّتَ فيها نَفسَهُ طَلَبَا ودخل عليه عمرو بن أبي الحباب في بعض قصوره من المنية المعروفة بالعامرية، والروض قد تفتحت أنواره، وتوشحت بجاده وأغواره، وتصرف فيها الدهر متواضعا، ووقف بها السعد خاضعا؛ فقال (بسيط) : لا يَومَ كاليومِ في أيَّامِك الأوَلِ ... بالعامِريَّةِ ذَاتِ الماء والطّلَل هَوَاؤُها في جميعِ الدّهْرِ مُعتضدِلٌ ... طِيباً وإن حَلٌ فَصْلٌ غَيرُ مُعتَدِلِ ما إن يُبالِي الذي يَحتَلُّ ساحَتَها ... بالسَعدِ ألاَّ تَحُلَّ الشَّمْسُ بالَحمَلِ وما زالت هذه المدينة رائقة، والسعود بلَّبتها متناسقة، تراوحها الفتوح وتغاديها، وتجلب إليها منكسرة أعاديها، ولا تزحف منها راية إلا إلى فتح، ولا يصدر عنها تدبير إلاَّ إلى نجح، إلى أن حان يومها العصيب، وقبض لها من المكروه أوفر نصيب. فتولت فقيدة، وخلت من بهجتها كلَّ عقيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وأشاع ابن أبي عامر أنَّ السلطان فوَّض إليه النظر في أمر الملك، وتخلَّى له عنه لعبادة ربه. وانبث ذلك في الرعية حتى اطمأنوا إليه، مع قوة ضبطه وسرعة بطشه. فانتظم له ذلك كلُّه وأكثر منه، بعد أن حصن قصر الخليفة في هذا الوقت بالسور الذي أدار حوله، وعمل الخندق المطيف به من جانبيه، والأبواب الوثيقة بالأحراس والسمار الذين وضعهم بأنقابه. ومنع الخليفة من الظهور، ووكل بأبوابه من يمنع وصول خبر إليه أو أمر من الأمور إلا عن إذنه؛ فإن عثر على أحد من الناس في تجاوز هذا الحد، عاجله ونكل به. والأخبار عنه في هذا المعنى واسعة جدا، غير أن الاختصار في ذلك أن ابن أبي عامر بلغ من ذلك مبلغا لم يبلغه قط متغلب على خليفة، لأنه احتوى على الملك كله، وصير الخليفة قبضة في يده، حتى أنه لم يكن ينفذ له أمر في داره ولا حرمه إلا عن إذنه وعلمه. وجعل متولي قصره من قبله من يثق به، وصيره عينا على السلطان، لا يخفى عليه شئ من حركاته وأخباره. ولما ترقى ابن أبي عامر إلى هذا القدر، عمل في مكروه القائد الكبير غالب الناصري صهره، والتوطئة لأسباب هدمه. فرأى أن يبني عليه ضدا له من أصحاب السيوف والحرابة المشهورين، لأن غالبا كان يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية، ويباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة التي لم يتقدم لابن أبي عامر بها معرفة. فلم يجد لذلك مثل جعفر بن عليّ بن حمدون المعروف بابن الأندلسي شدة بأس، وربط جاش، ونباهة ذكر، وجلالة قدر. فجد في استجلابه، وهو مقيم بالعدوة. وآل عليّ ممن أطاع الخليفة هشاما من زناتة؛ فبعث ابن أبي عامر إليه، وتواترت كتبه إليه؛ فأسلم العمل إلى أخيه يحيى، وعبر إلى الأندلس بجيشه؛ فنزل قصر العقاب، بعد أن أعد له ما يصلح فيه. فاستوزره أبي عامر؛ فعظم شأنه، وأحله محل الأخ في الثقة، وقدمه على الكفاة؛ فوجد عنده ما أحبه، وفوق ما قدره؛ فاعتدل بالبرابرة أمره، وقوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ظهره، وكانت هذه القطعة من البربر نحو الستمائة. وما زال بعد ذلك يستدعيهم ويتضمن الإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، إلى أن أسرعوا إلى الأندلس، وانثالوا على ابن أبي عامر، وما زالوا يتلاحقون، وفرسانهم يتواترون، يجئ الرجل منهم بلباس الخلق على الأعجف، فيبدل له بلباس الخز الطرازي وغيره، ويركب الجواد العتيق، ويسكن قصرا لم يتصور له في منامه مثله، حتى صاروا أكثر أجناد الأندلس. ولم تزل طائفة البربر خاصة ابن أبي عامر وبطانته، وهم أظهر الجند نعمة، وأعلاهم منزلة. ولما علم غالب بإدناء جعفر، علم الغرض فيه؛ ففسد ما بينهما، ووقع بينهما معارك وفتن كان الظفر فيها لابن أبي عامر على غالب. ومات، وهو يقاتله مع النصارى؛ وكان قد استجلبهم إليه في خبر طويل. فوجد غالب مقتولا في مجال الخيل، وابن أبي عامر كاد أن ينهزم له. فقيل إن قربوس سرجه قتله. وقيل غير ذلك. فكان ذلك أكبر سعد ابن أبي عامر؛ ولم يبق له بعد ذلك من يخاف منه. ولما فرغ ابن أبي عامر من غالب، دبر الحيلة في حتف جعفر بن علي، الذي أقامه أكبر معين في أمر غالب؛ فواكأ على قتله أبا الأحوص معن بن عبد العزيز النجيبي فارس العرب، في طائفة من أصحابه الأندلسيين؛ فقتلوه غيلة؛ ثم قتل ابن أبي عامر بعد ذلك أبا الأحوص، وانفرد وحده. وفي سنة 371، تسمى ابن أبي عامر بالمنصور، ودعى له على المنابر به، استيفاء لرسوم الملوك؛ فكانت الكتب تنفذ عنه: من الحاجب المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر إلأى فلان. وأخذ الوزراء بتقبيل يده؛ ثم تابعهم على ذلك وجوه بني أمية؛ فكان من يدخل عليه من الوزراء وغيرهم يقبلون يده، ويمولونه عند كلامه ومخاطبته. فانقاد لذلك كبيرهم وصغيرهم؛ وإذا بدا لأبصارهم طفل من ولده، قاموا إليه، فاستبقوا ليده تقبيلا، وعموا أطرافه لثما. فساوى محمد بن أبي عامر الخليفة في هذه المراتب، وشاركه في تلك المذاهب. ولم يجعل فرقا بينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وبينه إلا في الاسم وحده في تصدير الكتب عنه، حتى تنامت حاله في الجلالة، وبلغ غاية العز والقدرة. قال حيان بن خلف: وقرأت في بعض الكتب أن محمد بن أبي عامر، لمَّا حجب هشاما عن الناس واستبد بالأمر دونه، ظهرت فيهم بقرطبة أقوال معرضة أفشوا بينهم فيها أبياتا فاحشة. فمن ذلك ما قيل على لسان هشام الخليفة في شكواه لهم (وافر) : ألَيسَ مِنَ العَجَائبِ أنَّ ... يَرَى ما قَلَّ مُمتَنِعاً عَلَيهِ وتُمَلَك باسمِهِ الدُّنيا جَميعا ... وما من ذاك شئٌ في يَدَيِه ومما قيل في تقديم هشام، وهو صغير لم يبلغ الحلم، وفي قاضيه ابن السليم (سريع) : اقتَربَ الوَعدُ وحَانَ الهَلاكْ ... وَكُلُ ما تَكرَهُهُ قَدْ أتاكْ خَلِيفةٌ يَحضُرُ في مَكتَبٍ ... وأمُّه حُبلَى وَقَاضٍ ينَاكْ يريد بذلك شغف أم هشام بابن أبي عامر، لأنها كانت تتهم به، وهي أوصلته إلى حيث وصل من الحال التي لم يتمكن لأحد قبله ولا بعده مثلها؛ فسلب هشاما ملكه وجنده وماله. وفي سنة 372، قتل جعفر بن عليّ بن حمدون المعروف بابن الأندلسي؛ وذلك أن المنصور عزم - بزعمه - على إكرام جعفر المذكور ليلة الأحد لثلاث خلون من شعبان من السنة، مكرا منه، وحيلة لقتله؛ فانتخبه ساقي المجلس بكأس؛ فقال له ابن أبي عامر: (اسقها أعز الناس عليّ) . فأمسك الساقي حيرة لكثرة من ضم المجلس من العلية؛ فزجره ابن أبي عامر وقال: (ناولها الوزير أبا أحمد! عليك لهنة الله!) فقام جعفر؛ فتناولها على قدمه، واستخفه الطَّرب حتى قام يرقص؛ فلم يبق أحد بالمجلس إلا فعل كنعله، وأميلت إليه الكؤوس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 حتى ثقل وانصرف في جوف الليل مع بعض غلمانه؛ فخرج إليه معن وأصحابه؛ فلم يكن فيه امتناع لما كان عليه من السُّكر؛ فأخذته السيوف حتى برد، وحز رأسه ويده اليمنى، وحملا إلى ابن أبي عامر سرا. فأظهر ابن أبي عامر الحزن عليه. وفي سنة 375، جهز المنصور جيشا كثيفا، وبعثه إلى العدوة؛ فحاصر حسن ابن قنون الشريف الحسني. وكان حاول الخروج من الدعوة المروانية؛ واجتمع إليه خلق من أهل الغرب، وظهر أمره؛ فوصله الجيش العرمرم؛ فلم يجد ملجأ إلا الاستسلام للأمان. فأمنه قائد الجيش، وحمله إلى قرطبة مرقبا. فلم يمض ابن أبي عامر أمانه، وأمر بقتله ليلا في الطريق بغيا وتعديا، لأن أمان قائده أمانه؛ فقال من شاهد قتله أن هبت عليهم ريح عاصف في تلك الليلة التي قتل فيها غدرا ذلك الشريف، صبتهم على وجوههم، وسلبتهم أثوابهم، واحتملت رداء حسن المقتول؛ فلم يجدوه، وأظلم عليهم الأفق حتى خافوا على أنفسهم. وفيها تفرق بنو إدريس في البلاد، وملك ابن أبي عامر الغرب، وأخرج منه من كان بقي به من الأدارسة. فقيل في ذلك (كامل) : فِيمَا أرَى عَجَبُ لمَن يَعَجَبُ ... جَلتْ مُصِيبَتُنَا وَضَاقَ المَذهَبُ إنّي لأُكذِبُ مُقلَتَيَّ فيما أرَى ... حتَّى أقولَ غَلِطتُّ فيما أحسَبُ أيكونُ حيَّا من أُميَّة وَاِحدٌ ... وَبَسُوسُ صَخْمَ المُلكِ هذَا الأحدَبُ تَمِشي عَسَاكِرُهُم حَوَالَيْ هَودَجٍ ... أعوادُهُ فِيهِنَّ قِردٌ أَشهَبُ أبَي أُمَيَّة ابن أقمار الدُّجى ... مِنكم وما لوجوهها تَتَغَيَّبُ ثم قام بعد ذلك في الغرب على ابن أبي عامر زيري بن عطية المغراوي، ونكث طاعته بعد الحب الشديد والولاء الأكيد؛ وطعن على ابن أبي عامر تغلبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 على هشام وسلبه ملكه. فأنفذ له ابن أبي عامر واضحا الفتى في جيش كثيف؛ فقاومه بالغرب؛ ودارت بينهم حروب عظيمة. ثم أردفه ابن أبي عامر تولده عبد الملك، وهبط ابن أبي عامر إلى الجزيرة الخضراء، يمدهم بالقواد والأجناد، وسار عبد الملك بن أبي عامر من طنجة إلى زيري بن عطية؛ ودارت بينهم حرب، لم يسمع بمثلها قط. ثم انهزم زيري ومن معه، ونجا مثخنا بالجراح. وملك ابن أبي عامر بلاد الغرب إلى سنة 397. (وكان أول من ملك سبتة من بني أمية وملك منها الغرب) عبد الرحمن الناصر؛ وسبب ذلك أنه وجه إليها أسطولا. فلما حلت بسبتة، أعلن أهلها بدعوته، وبادروا إلى طاعته، يوم الجمعة صدر ربيع الأول من سنة 319. ثم تتابعت البلاد بالطاعة؛ ثم تكاثر ورود وفودها عليه وعلى الحكم ابنه؛ ثم التاثت طاعتها على ابن أبي عامر؛ فوجه واضحا فتاه؛ فسكن في جبل أبي حبيب عاما في الأخبية؛ ثم وجه بابنه عبد الملك إليها؛ فالتقى بزيري وهزمه، وغدره ابن عمه الخير بن مقاتل؛ فطعنه برمح في قفاه وهرب. ومات بعد ذلك زيري من الجرح بعدما لقي جموع صنهاجة، أصحاب إفريقية، وهزمهم. وانصرف عبد الملك بعدما استقامت له الطاعة بالغرب؛ فوجد أباه في غزاته بلاد البشاكشة منصرفا عنها. والتقى به بسرقسطة؛ وهي التي تسمى بغزاة البياض، سنة 379. وفي سنة 379، قتل المنصور بن أبي عامر عبد الرحمن بن مطرف صاحب سرقسطة والثغر الأعلى؛ وسبب ذلك أنه، لما فكر عبد الرحمن في شأن من أتلفه ابن أبي عامر من كبار رجال الدولة، علم أنه لم يبق غيره، وخشي أن يلحقه بالجماعة. فسول له القدر المتاح التدبير على محمد؛ وقرب عليه مأخذه ولده عبد الله بن المنصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ذكر تدبير عبد الرحمن بن مُطرف مع عبد الله بن المنصور في القيام عليه وذلك أن عبد الله بن محمد بن أبي عامر كان مقيما بسرقسطة عند عبد الرحمن، متغير النفس على أبيه لإحظائه عبد الملك أخيه. وكان عبد الله يرى أنه أشجع وأفهم وأرجل وأفرس من أخيه عبد الملك، وأن أباه عين الظالم له في النسوية بعبد الملك؛ فكيف في تقديمه عليه. فكان في قلبه على أبيه سعير نار، أذكاها عبد الرحمن بن مطرف وأضرمها. فتوطئا على الوثوب بالمنصور في أول فرصة، على أن يقسما ملك الأندلس: فالحضرة لعبد الله، والثغر لعبد الرحمن. وشرعا في إحكام سيل ذلك والتماس وجهه؛ وساعدهما عليه جماعة من وجوه أهل قرطبة من الجند والخدمة وغيرهم، فيهم الوزير عبد الله بن عبد العزيز المرواني صاحب طليطلة. فانبثت أراجيف شنيعة تحقق المنصور صحتها، ولم يشك فيها؛ فاستدعى ابنه عبد الله من سرقسطة، واستأنف له كثيرا من التقديم والمبرة، خديعة ومغالطة؛ وصرف المرواني عن طليطلة صرفا جميلا؛ ثم صرفه عن الوزارة بعد مديدة، وألزمه داره. ثم خرج ابن أبي عامر غازيا إلى قشتيلة؛ فتوافت إليه أمداد الثغور، فيهم عبد الرحمن بن مطرف ورجال سرقسطة؛ فلما صاروا بوادي الحجارة، أطبق أهل الثغور على الشكوى بعبد الرحمن، بدسيسة من ابن أبي عامر لهم في ذلك، حيلة منه؛ وذكروا أنه يحتبس أرزاقهم، ويحتجن لنفسه. فصرفه المنصور عن سرقسطة منسلخ صفر من سنة 79 المذكورة، وقلدها مكانه (ابن أخيه عبد الرحمن بن يحيى) الملقب بسماجة، إطماعا لقومه النجيبيين في المحافظة. ولبث عبد الرحمن في العسكر مترددا إلى أن قبض عليه يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وسخط عليه المنصور، وأمر بحسابه؛ ثم قتل بعد ذلك بالزاهرة بين يدي المنصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 واستدعى المنصور ابنه عبد الله إلى عسكره خوف أن يحدث حدثا بأنفته؛ فوافي العسكر؛ فرفق به أبوه، وأمل استصلاحه، وقد تباعد ذلك عليه لسقم سريرته وشدة حقده. ونازل المنصور أثناء ذلك مدينة شنت أشتبين؛ فلما اشتغل المسلمون بالقتال، فرَّ عبد الله بن المنصور من العسكر في ستة نفر من غلمانه؛ فلحق بعدو الله غرسية بن قرذلند صاحب آلبة؛ فقبله وأجازه على أبيه؛ فتحرك المنصور لغزو غرسية ومطالبته بإسلام ابنه إليه، وأقسم له أنه لا يقلع عنه حتى يمكنه من ولده. وأصر غرسية على الامتناع من ذلك؛ فهزم المنصور غرسية، وفض جمعه، واشتق بلد آلبة، وافتتح حصن وخشمة عبوة، أسكنه المسلمين؛ فضرع غرسية في مسالمته على ما شار من شروطه في عبد الله وغيره؛ فعقد له المنصور على ذلك؛ فوكل غرسية بعبد الله جماعة من العلوج؛ وحمل عبد الله وأصحابه على البغال. وخرج سعد الخادم يستقبل عبد الله؛ فدنا من سعد وهو على بغل فاره، مرتفع الحلية، عليه ثوب عجيب الصنعة، وهو متطلق، قوي الرجاء في الإقالة. فقبل سعد يده، وأنسه، وهون عليه الخطب؛ ثم تخلف عنه بقرب الوادي الجوفي، ووكل به من قتله؛ فحفَّ به الموكلون وأعلموه بموته. ذكر مقتل عبد الله المنصور ولما أعلموه بأن حلَّ به ما كان يحذره، أمروه بالنزول؛ فلم يمتنع لهم وترجل، ومشى إلى السيف متطلقا؛ فظهرت منه عند الموت صرامة، عجب لها من شاهده؛ وتقدم إليه ابن خفيف الشرطيُّ؛ فضرب عنقه صبرا عند غروب الشمس من يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة 380. وأنفذ المنصور رأس ابنه إلى الخليفة مع كتاب الفتح؛ ودفن جسده في الموضع الذي قتل فيه. وكان سنه يوم قتل ثلاثا وعشرين سنة، وذلك في غزوته الخامسة والأربعين. ثم إنَّ ابن أبي عامر استثقل سعدا وابن خفيف، ولم يزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 حاقدا عليهما، حتى قتلهما بعد الامتحان. وأزداد ابن أبي عامر بما فعله بابنه هيبة، وملئت قلوب الناس منه ذعرا. ومما حكى في أمر عبد الله المقتول، قال الوزير أبو عمر بن عبد العزيز: لما قتل المنصور ابنه، ارتاع الناس لذلك، وأوحشهم فعله؛ فتكلموا في ذلك كثيرا، ورجموا فيه الظنون، ولم يتوجه لأحد فيه سبب يقضي بقتله. ثم تحرك المنصور إثر ذلك في بعض غزواته، فلما احتل بقلعة رباح؛ قال المخبر: دعينا إلى الطعام، فقال من حضر على لسان واحد: أيد الله المنصور! لقد صرت من قتله في غاية يعدم الصبر في مثلها. فما سبب ذلك؟) قال: (لا أعلم أن أسلو عنه. فابتعتها، متجاوز النهاية في ثمنها، وجعلتها عند قريبة لي. وكنت كل يوم أخطر عليها أتعرف استبراءها؛ فلما أحست بحبي لها، وكلفي بها، توخت رضائي، وذكرت لي أنها قد استبرأت، وهي كاذبة في ذلك، تريد بذلك موافقة مساري واستعجال مرادي؛ فدخلت بها، وهي لم تستبرأ؛ فكنت شاكا فيه.) وكان مولده سنة 358. حكاية زطرزون البربري مع المنصور. - وجرت للمنصور غبَّ ذلك مع رجل من أعيان البربر اسمه زطرزون بن نزار البرزالي نادرة؛ وذلك أنه قال يوما، وقد بسطه في بعض المجالس: (يا مولاي لم قتلت عبد الله ابنك؟) ووصف شجاعته وخصاله؛ فقال له المنصور: (لا يسوك ذلك! فلو لم أفعل لقتلني. ما كان من ولدي! وبهذا اتهمت أمه وكانت أمه سوء. وقد قالوا إنَّ الأرحام الردية تفسد الذرية) . فقال الجاهل زطرزون: (كذا يا مولاي؟ فحرام أمه وجرم أبيه) ؛ فخجل المنصور وقال: (شقينا بهذا الملعون في حياته وبعد موته!) وعلم ما كان عليه زطرزون من الجهالة؛ فأعرض عنه. وصارت كلمته مأثورة في الناس مدَّة طويلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وكان المنصور آية من آيات فاطرة دهاء ومكرا وسياسة: عدا بالمصاحفة على الصقالبة حتى قتلهم وأذلهم؛ ثم عدا بغالب الناصري على المصاحفة حتى قتلهم وأبادهم؛ ثم عدا بجعفر بن الأندلسي على غالب حتى قتله؛ ثم عدا بنفسه على جعفر وقتله؛ ثن أنفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر: (هل من مبارز؟) فلما لم يجده، حمل الدهر على حكمه؛ فانقاد له وساعده؛ فاستقام أمره، منفردا بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا، على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسب شركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به، مع قوة سعده، وتمكن جده، سعة جوده وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان؛ وأول ما اتكأ على أرائك الملك وارتفق، وانتشر عليه لواء السعد وخفق؛ حط صاحبه المصحفي، وأثار له كامن حقده الخفي، حتى أصاره للهموم وخفق، وفي غايات السجون حبيسا؛ فكتب إليه يستعطفه (بسيط) : هَبنِي أسأتُ فأينً العَفوُ والكَرَمُ ... إذ قادَني نَحوَكَ الإذعانُ والنَّدَمُ يا خَيرَ مَن مُدَّت الأيدِي إليه أمَا ... تَرقِي لشيخٍ نَعَاهُ عِندَكَ القَلَمُ بالغتَ في السَّخطِ فأصفح صَفحَ مُقتَدِرٍ ... إنَّ المُلوكَ إذا مَا استُرحمُوا رَحِموا فما زاده ذلك إلا حنقا وحقدا، ولا أفادته الأبيات إلا تضرما ووقدا. فراجعه بما أيأسه، وأراه مرمسه، وأطبق عليه محبسه، وضيق تروحه من المحنة وتنفسه) : الآنَ يَا جَاهِلاً زلَّت بِك القَدَمُ ... تَبغِي التَّكَرُّمَ لَمَّا فَاتَكَ الكَرَمُ أغرَيتَ بي مَلِكاً لَولا تَشَبُّتُهُ ... مَا جَارَ عِندَه نُطقٌ ولا كَلِمُ فايأس مِنَ العَيش إذ قَد صِرتَ في طَبَقٍ ... إنَّ المُلُوك إذَا مَا اسُتنقموا نَقَموا نَفسِي إذا سَخِطَت لَيست بِراضِيةٍ ... وَلو تَشَفَّعَ فِيكَ العُربُ والعَجَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب البر والقربة، بنيان المسجد الجامع والزيادة فيه سنة 377. وذلك أنَّه، لما زاد الناس بقرطبة، وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية، وتناهى حالها في الجلالة، ضاقت الأرباض وغيرها، وضاق المسجد الجامع عن حمل الناس؛ فشرع المنضور في الزيادة بشرقيه حيث يتمكن الزيادة لاتصال الجانب الغربي بقصر الخلافة. فبدأ ابن أبي عامر هذه الزيادة على بلاطات تمتد طولا من أول المسجد إلى آخره؛ وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة المبالغة في الإتقان والوثاقة دون الزخرفة، ولم يقصر مع هذا عن سائر الزيادات جودة ما عدا زيادة الحكم. أول ما عمله ابن أبي عامر تطييب نفوس أرباب الدور والمستغلات الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة، بإنصافهم من الثمن أو بمعاوضة. وصنع في صحته الجبَّ العظيم قدره، الواسع فناؤه. وابن أبي عامر رتب إحراق الشمع في المسجد الجامع زيادة للزيت؛ فتطابق بذلك النزران. وكان عدد سواري الجامع، الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره، ما بين كبيرة وصغيرة، ألف سارية وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية. وعدد ثريات الجامع، ما بين كبيرة وصغيرة، مائتان وثمانون ثرية؛ وعدد الكؤوس سبعة آلاف كأس وأربعمائة كأس وخمس وعشرون كأسا. وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس عشرة أرباع أو نحوها؛ وزنة ما يحتاج إليه من الكتَّان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار؛ وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة ربع أو نحوها؛ يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد. ومما كان يختص برمضان المعظم ثلاثة قناطير من المشع، وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقصر) ، لإقامة الشمع المذكور؛ والكبيرة من الشمع توقد بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلا، يحترق بعضها بطول الشهر، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة. وكان يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي عامر ويتصرف فيه من أئمة، ومقرئين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وأمناء، ومؤذنين، وسدنة، وموقدين وغيرهم من المتصرفين مائة وتسعة وخمسون شخصا. ويوقد من البخور ليلة الختمة أربع أواق من العنبر الأشهب وثماني أواق من العود الرَّطب. ومن ذلك: بنيان قنطرة على نهر قرطبة الأعظم. ابتدأ المنصور بنيانها سنة 387، وفرغ منها في النصف من سنة 89؛ وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار؛ فعظمت بها المنفعة، وصارت صدرا في مناقبه الجليلة. وكانت قطعة أرض لشيخ من العامة، ولم يكن للقنطرة عدول عنها؛ فأمر المنصور أمناءه بإرضائه فيها؛ فحضر الشيخ عندهم، وأخذ حذره منهم؛ فساوموه بالقطعة وعرفوه وجه الحاجة إليها، وأن المنصور لا يريد إلا إنصافه فيها. فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده فيما ظنه ألا تخرج عنه بأقل من عشرة دنانير ذهبا، كانت عنده أقصى الأمنية، وشرطها صحاحا. فاغتنم الأمناء غفلته، ونقدوه الثمن، وأشهدوا عليه؛ ثم أخبروا المنصور بخبره؛ فضحك من جهالته، وأنف من غبنه، وأمر أن يعطى عشرة أمثال ما سأل، وتدفع له صحاحا كما قال. فقبض الشيخ مائة دينار ذهبا؛ فكاد أن يخرج عن عقله وأن يجن عند قبضها من الفرح؛ وجاء محتفلا في شكر المنصور. وصارت قصته خبرا سائرا. ومن ذلك أيضا: بنيان قنطرة على نهر إستجة، وهو نهر شنيل؛ فتجشم لها أعظم مؤنة. وسهل الطرق الوعرة والشعاب الصعبة. ومن ذلك: إنه خط بيده مصحفا كان يحمله معه في أسفاره، يدرس فيه ويتبرك به. ومن قوة رجائه، إنه اعتنى بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده؛ فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله، حتى اجتمع له منه صرة ضخمة عهد بتصييره في حنوطه عند موته؛ وكان يحمله حيث ما سار مع أكفانه، توقعا لحلول منيته؛ وقد كان اتخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضيعة الموروثة عن أبيه، وغزل بناته. وكان يسأل الله تعالى أن يتوفاه في طريق الجهاد؛ فكان كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وكان المنصور متسما بصحة باطنه، واعترافه بذنبه، وخوفه من ربه، وكثرة جهاده. وإذا ذُكر الله ذَكر، وإذا خوف من عقابه ازدجر، ولم يزل متنزها عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر؛ لكنه أقلع عنها قبل موته بسنتين. وكان عدل المنصور في الخاصة والعامة، واطراحه المهاودة، وبسطه الحق على الأقرب فالأقرب من خاصته وحاشيته، أمرا مضروب به المثل. ومن عدله أنه وقف عليه رجل من العامة يوما بمجلسه؛ فناداه: (يا ناصر الحق! إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك!) وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة، وكان له فضل محل عند ابن أبي عامر؛ ثم قال: (وقد دعوته إلى الحاكم؛ فلم يأت!) فقال المنصور: (أو عبد الرحمن بن فطيس بهذه المنزلة من العجز والمهانة، وكنا نظنه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك، يا هذا!) فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما قطعها من غير نصف؛ فقال المنصور: (ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية!) ثم نظر إلى الصقلبي، وهو قد ذهل عقله؛ فقال: (ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغرا، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك!) ففعل، ومثل بين يديه؛ ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: (خذ بيد هذا الظالم الفاسق، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره!) ففعل ذلك، وعاد الرجل إليه شاكرا؛ فقال له المنصور: (قد انتصفت أنت؛ فاذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي.) فتناول الصقلبي بأنواع من المذلة، وأبعده عن الخدمة. ومن ذلك، قصة فتاه الكبير المعروف بالميورقى مع التاجر المغربي؛ فإنهما تنازعا في خصومة توجهت فيها اليمين على الفتى المذكور، وهو يومئذ أكبر خدم المنصور، وإليه أمر داره وحرمه؛ فدافع الحاكم، وظن أن جاهه يمنع من إحلافه. فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلما من الفتى؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 فوكل به في الوقت من حمله إلى الحاكم؛ فأنصفه منه، وسخط عليه المنصور، وقبض نعمته منه ونفاه. ومن ذلك، قصة محمد، فصاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه؛ فإن المنصور احتاجه يوما إلى القصد، وكان كثير التعهد له؛ فأنفذ رسوله إلى محمد؛ فألفاه الرسول محبوسا في سجن القاضي محمد بن زرب، لحيف ظهر منه على امرأته، قدر أن سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة. فلما عاد الرسول إلى المنصور بقصته، أمر بإخراجه من السجن مع رقيب من رقباء السجن، يلزمه إلى أن يفرغ من عمله، ثم يعيده إلى محبسه. ففعل ذلك على ما رسمه، وذهب القاصد إلى شكوى ما ناله؛ فقطع عليه المنصور، وقال له: (يا محمد، إنه القاضي وهو في عدله، ولو أخذني الحق، ما أطقت الامتناع منه! عد إلى محبسك أو اعترف بالحق؛ فهو الذي يطلقك.) فانكسر الحاجم، وزال عنه ريح العناية. وبلغت قصته للقاضي؛ فصالحه مع زوجه، وزاد القاضي شدة في أحكامه. ومن دهائه، قال ابن حيان: كان جالسا في بعض الليالي، وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر؛ فدعا بأحد الفرسان، وقال له (انهض إلى فجّ طليارش، واقم فيه؛ فأوَّل خاطر يخطر عليك، سقه إليَّ.) قال: فنهض الفارس، وبقى في الفج في البرد والريح والمطر واقفا على فرسه، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له، ومعه آلة الحطب؛ فقال له الفارس: (إلى أين تذهب، يا شيخ؟) فقال: (وراء حطب.) فقال الفارس في نفسه: (هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطبا. فما عسى أن يريد المنصور منه؟) قال: فتركته. فسار عنّي قليلا؛ ثم فكرت في قول المنصور، وخفت سطوته؛ فنهضت إلى الشيخ، وقت له: (ارجع إلى مولانا المنصور.) فقال: وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني لطلب معيشتي!) فقال له الفارس: (لا أفعل) ثم قدم به على المنصور، ومثله بين يديه، وهو جالس، لم ينم ليلته تلك. فقال المنصور للصقالبة: (فتشوه!) ففتش؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فلم يوجد عنده شئ؛ فقال: (فتشوا برذعة حماره!) فوجدوا داخلها كتابا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور، يحزمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النواحي المعلومة. فلما انبلج الصبح، أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب الزاهرة؛ فضربت أعناقهم، وضربت رقبة الشيخ معهم. ومن ذلك قصة الجوهري التاجر؛ وذلك أن رجلا جوهريا من تجار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير، وأحجار نفيسة؛ فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه، ودفع إلى الجوهري التاجر صرته، وكانت قطعة يمانية. فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرملة على شط النهر؛ فلما توسطها، واليوم قائظ، وعرقه منصبٌّ، دعته نفسه إلى التبرد في النهر؛ فوضع ثيابه وتلك الصرة على الشط؛ فمرت حداة، فاختطفت الصرَّة، تجسبها لحما، وصاعدت في الأفق بها ذاهبة؛ فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر؛ فقامت قيامته، وعلم أنه لا يقدر أن يستدفع ذلك بعدوى ولا بحيلة؛ فأسر الحزن في نفسه، ولحقته لأجل ذلك على اضطرب فيها. وحضر الدفع إلى التجار؛ فحضر الرجل لذلك بنفسه؛ فاستبان له ما به من المهانة والكأبة، وفقد ما كان عنده من النشاط وشدة العارضة. فسأله المنصور عن شأنه؛ فأعلمه بقصته؛ فقال له: (هلا أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر؟ فكنا نستظهر على الحيلة؛ فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها؟) قال: (مرَّ مشرفا على يمت هذا الجنان الذي يلي قصرك!) يعني الرملة؛ فدعا المنصور شرطيه الخاص به؛ فقال له: (جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة) ؛ فمضى، وجاء بهم سريعا؛ فأمرهم بالبحث عمن غير حال الإقلاق منهم سريعا، وانتقل عن الإضافة دون تدريج؛ فتناظروا في ذلك، ثم قالوا: (يا مولانا! ما نعلم إلا لأجل من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم، ويتناولون السقىَ بأقدامهم عجزا عن شراء دابة؛ فابتاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 اليوم دابة، واكتسى هو وولده كسوة متوسطة. فأمر بإحضاره من الغد، وأمر التاجر بالغدو إلى الباب؛ فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور؛ فاستدناه، والتاجر حاضر، وقال له: (سبب ضاع منا وسقط إليك: ما فعلت به؟) فقال: (هو ذا يا مولاي؟) وضرب بيده إلى حجزة سراويله، فأخرج الصرة بعينها؛ فصاح التاجر طربا، وكاد يطير فرحا؛ فقال له المنصور: (صف لي حديثها.) قال: (نعم! بينا أنا أعمل في جناني تحت نخلة، إذ سقطت أمامي؛ فأخذتها، وراقني منظرها؛ فقلت إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار؛ فاحترزت بها، ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيونا كانت معها مصرورة، وقلت: أقل ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها.) فأعجب المنصور ما كان منه، وقال التاجر: (خُذ صرَّتك، وانظرها، واصدقني عن عددها.) ففعل وقال: (وحق رأسك، يا مولاي، ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها، وقد وهبتها له.) فقال له المنصور: (نحن أولى بذلك منك، ولا ننقص عليك فرحتك. ولولا جمعه بين الإفرار والإنكار) ، لكان ثوابه موفورا عليه.) ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضا من دنانيره، وللجنان بعشرة دنانير ثوابا لتأنيه عن إفساد ما وقع بيده، وقال: (لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث، لأوسعناه جزاء!) قال: فأخذ التاجر في الثناء على المنصور، وقد عاوده نشاطه، وقال: (والله لأبثن في الأقطار عظيم ملكيك، ولأبينن أنك تملك طير عملك كما تملك انسها؛ فلا تعتصم منك ولا تؤذي جارك!) فضجك المنصور، وقال: (اقصد في قوله! يغفر الله لك!) فعجب الناس من تلطف المنصور في أمره، وحيلته في تفريج كربته. وكان المنصور أشد الناس في التغير على من علم عنده شئ من الفلسفة والجدل في الاعتقاد، والتكلم في شئ من قضايا النجوم وأدلتها، والاستخفاف بشيء من أمور الشريعة. وأحرق ما كان في خزائن الحكم من كتب الدَّهريَّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 والفلاسفة، بمحضر كبار العلماء، منهم الأصيلي وابن ذكوان والزبيدي وغيرهم؛ واستولي على حرق جميعها بيده. وممن أوقع به المنصور في مثل هذه المعاني المبتكرة: محمد بن أبي جمعة؛ بلغه عنه قول من الأرجاف في القطع على انقراض دولته؛ فقطع لسانه، ثم قتله وصلبه؛ فخرست ألسن جميعهم لذلك؛ وكذلك أيضا عبد العزيز بن الخطيب الشاعر، وكان أرفع أهل هذه الطبقة منزلة؛ وكان مقدما في أصحاب المنصور، حتى فسد ضميره عنده، وبقى مدة يلتمس غرَّة منه، حتى قال في بعض أبيات من شعر أفرط فيها (كامل) : مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءتِ الأقْدَارُ ... فَاحُكُمْ فَأنتَ الواحِدُ القَهارُ فَكَأنَّمَا أنتَ النَّبيُّ مُحَمدٌ ... وَكَأنَّمَا أنصَارُكَ الأنصَارُ فأمر بضربه خمسمائة سوط، ونودي عليه باستخفافه؛ ثم حبسه، ونفاه بعد عن الأندلس. وفي سنة 381، رشح المنصور ولده عبد الملك للولاية، وقدم أخاه عبد الرحمن للوزارة. وترك اسم الحجابة، واقتصر على التسمي بالمنصور؛ وأن يكتب: (من المنصور أبي عامر - وفقه الله - إلى فلان.) بحذف اسم الحجابة، ويذكر اسم ولده عبد الملك بخطة الحجابة والقيادة العليا وسائر خطط المنصور، سلم فيها لابنه عبد الملك، وصحت له الحجابة من يومئذ. وبعد هذا، واستبدل المنصور جند الأندلس بالبربر؛ فأقام لنفسه جندا اختصهم باستصناعه، واسترقهم بإحسانه، نسخ بهم في المدة القريبة جند الخليفة الحكم - رحمه الله -، كما فعله في سائر أموره. واتفق في ذلك الوقت أن تحرك بلقين بن زيري الصنهاجي إلى المغرب في جموعه، وأوقع بقبائل زناتة طالبا ثأر أبيه زيري؛ فهربوا أمامه كلهم إلى سبتة، وضاقت عليهم أرض العدوة؛ فقيل لابن أبي عامر: (قد أمكنك الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 من اصطناع فرسان زناتة، واعتقاد المنة عليهم. فأرسل إليهم، يأتوك سراعا؛ فيجد إحسانك إليهم مكانا!) فعمل ابن أبي عامر على ذلك، وأنفذ كتبه إلى قبائل العدوة يستدعيهم، ويتضمن الإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، حتى كثروا بالأندلس؛ فحسنت أحوالهم، وكثرت أموالهم، وما زالوا خاصته وبطانته إلى أن هلك، وانقرضت الدولة العامرية. وقد صار بالأندلس منهم القبائل بأسرها، وكاثروهم حتى نفذ قضاء الله عليهم بأيديهم. وفي سنة 386، عهد المنصور أن يخص بتسويده من بين سائر الناس كافة في المخاطبات، وأن يرفع ذلك عن سائر أهل الدولة مع الاقتصاد في مراتب الأدعية؛ فنفذ الكتب بذلك، وجرى العمل عليه بقية حياته؛ وخوطب هذا الوقت بالملك الكريم؛ واستبلغ في تكريمه وتعظيمه. غزوة شنت ياقوب على سبيل الاختصار وعند تناهي المنصور ابن أبي عامر في هذا الوقت على الاقتدار، والنصر على الملوك الطاغية - دمرها الله -، سما إلى مدينة شنت ياقوب قاصية غلبسية، وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة. وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا؛ فيها يحلفون وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها؛ ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقوب الحواري أحد الاثني عشر - رحمهم الله -؛ وكان أخصهم بعيسى - عليه السلام -، وهم يسمونه أخاه للزومه إياه. وقد زعم جماعة منهم أنه ابن يوسف النجار. وشنت ياقوب هي مدفن ياقوب؛ فهم يسمونه أخا الرب - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا -. وياقوب بلسانهم يعقوب؛ وكان أسقفا ببيت المقدس؛ فجعل يستقري الأرضين داعيا لمن فيها؛ فجاز إلى الأندلس حتى انتهى إلى هذه القاصية؛ ثم عاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 إلى أرض الشأم؛ فقتل بها، وله مائة وعشرون سنة شمسية. فاحتمل أصحابه رمته، فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره. ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها، ولا الوصول إليها، لصعوبة مدخلها وخشونة مكانها، وبعد شقتها. فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 387، وهي غزوته الثامنة والأربعون. ودخل على مدينة قورية. فلما وصل المنصور إلى مدينة غليسية، وافاه عدد عظيم من القوامس المتكسطين بالطاعة، في رجالهم، وعلى أتم احتفالهم؛ فصاروا في عسكر المسلمين، وركبوا في المغاورة سبيلهم. وقد كان المنصور تقدم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس من ساحل غرب الأندلس، وجهزه برجاله البحريين وصنوف المترجلين، وحملت الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة، استظهارا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره؛ فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه؛ فعقد هناك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هناك. ووزع المنصور ما كان فيه من الميرة على الجند؛ فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو. ثم نهض يريد شنت ياقوب؛ فقطع أرضين متباعدة الأقطار، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدها البحر الأخضر. ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فلطارش ومباسيطة والدير وما يتصل بها؛ ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر، لا مسلك فيه، ولا طريق لم تهتد الأدلاء إلى سواه. فقدم المنصور الفعلة بالحديد لتوسعه شعابه وتسهيل مسالكه؛ فقطعه العسكر وعبروا بعده وادي منية؛ وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة، وانتهت مغيرتهم إلى دير قسطان وبسيط بالبنوك على البحر المحيط، وفتحوا حصن شنت بلايه، وغنموه، وعبروا سياخه إلى جزيرة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي؛ فسبوا من فيها ممن لجأ إليها. وانتهى العسكر إلى جبل مراسية المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط؛ فتخللوا أقطاره، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائمه. ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليج لورقى في معبرين أرشد الأدلاء إليهما؛ ثم نهر ايله؛ ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة، كثيرة الفائدة، منها بسيط أونبة وقرجيطة ودير شنت برية. ثم انتهوا إلى خليج ايلياء؛ وهو من مشاهد ياقوب أيضا صاحب القبر، تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل، يقصد نساكهم له من قاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنوبة وغيرها. فغادره المسلمون قارعا. وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقوب البائسة، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان؛ فوجدها المسلمون خالية من أهلها؛ فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها، وعفوا آثارها. ووكل المنصور بقبر ياقوب من يحفظه ويدفع الأذى عنه؛ وكانت مصانعها بديعة محكمة؛ فغودرت هشيما، كأن لم تغن بالأمس، وذلك يوم الاثنين أو الثلاثاء بعده. وانتسفت بعوثه بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت إلى جزيرة شنت مانكش منقطع هذا الصقع على البحر المحيط، وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم، ولا وطئها لغير أهلها قدم. فلم يكن بعدها للخيل مجال، ولا وراءها انتقال. وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقوب، وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله. فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أرذون ليستقر به عائثا ومفسدا، حتى وقع في عمل القوامس المعاهدين الذين في عسكره؛ فأمر بالكف عنها، ومرَّ مجتازا حتى خرج إلى حصن مليقه من افتتاحه. فأجاز هناك القوامس بجملتهم على أقدارهم، وكساهم، وكسا رجالهم، وصرفهم إلى بلادهم. وكتب بالفتح من مليفه. وكان مبلغ من أكساه ابن أبي عامر في غزاته هذه من ملوك الروم ولمن حسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 عناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمسا وثمانين شقة من صنوف الخز الطرازي، وإحدى وعشرين كساء من صوف البحر، وكسائين عنبريين، وأحد عشر سفلاطونا، وخمس عشرة مريشات، وسبعة أنماط ديباج، وثوبي ديباج رومي، وفروي فنك. ووافى جميع العسكر قافلا إلى قرطبة سالما غانما، وعظمت النعمة والمنة على المسلمين. والحمد لله. ولم يجد المنصور بشنت ياقوب إلا شيخا من الرَّهبان جالسا على القبر؛ فسأله عن مقامه؛ فقال: (أوانس يعقوب.) فأمر المنصور بالكف عنه. قال الفتح من خاقان: وتمرس المنصور ببلاد الشرك أعظم تمرس، ومحا من طواغيتها كل تعجرف وتغطرس؛ وغاردهم صرعى البقاع، وتركهم أذل من وتد بقاع؛ ووالى على بلادهم الوقائع، وسدد إلى أكبادهم سهام الفجائع؛ وأغصَّ بالحمام أرواحهم، ونغص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم. ومن أوضح الأمور هنالك؛ وأفصح الأخبار في ذلك، أن أحد رسله كان كثير الانتياب، لذلك الجناب؛ فسار في بعض مسيراته إلى غرسية صاحب البشكش، فصادفه في يوم فصح؛ فوالى في إكرامه، وتناهى في بره واهتمامه؛ فكالبت مدته فلا متنزه إلا مرَّ عليه متفرجا، ولا موضع إلا سار إليه معرجا؛ فحل في ذلك أكثر الكنائس هنالك؛ فبينا هو يجول في ساحتها، ويجيل العين في مساحتها، إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر؛ قويمة على طول الكسر؛ فكلمته، وعرفته بنفسها وأعلمته، وقالت له: (أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بوسها، ويتمتع بلبوس العافية وقد قصت لبوسها؟) وزعمت أن لها عدة من السنين بتلك الكنيسة محبسة، وبكل ذلٍّ وصغار ملبسه، وناشدته الله في إنهاء قصتها، وإبراء غصتها، واستحلفته بأغلظ الأيمان، وأخذت عليه في ذلك أوكد مواثيق الرحمان. فلما وصل إلى المنصور، عرفه بما يجب تعريفه به وإعلامه، وهو مصغ إليه حتى نمَّ كلامه. فلما فرغ، قال له المنصور: (هل وقفت هنالك على أمر أنكرته، أم لم تقف على غير ما ذكرته؟) فأعلمه بقصة المرأة، وما خرجت عنه إليه، وبالمواثيق التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 أخذت عليه؛ فعتبه ولامه، على أن لم يبدأ بها كلامه؛ ثم أخذ في الجهاد من فوره، وعرض مَنْ مِن الأجناد في نجده وغوره؛ وأصبح غازيا على سرجه، مباهيا مروان يوم مرجه، حتى وافى ابن شانجه في جمعه؛ فأخذت مهابته ببصره وسمعه؛ فبادر بالكتاب إليه يتعرف ما هي الجنية، ويحلف له بأعظم ألية، ما جنا ذنبا؛ ولا نبا عن مضجع الطاعة جنبا. فعنف أرساله، وقال لهم: (كان قد عاهدني ألا يبقى بأرضه مأسورة ولا مأسور، ولو حملته في حواصلها النسور؛ وقد بلغني بعد مقام فلانة المسلمة) بتلك الكنيسة. ووالله! لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها!) فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها، وأقسم له أنه ما أبصرهن، ولا سمع بهن، وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها، قد بالغ في هدمها، تحقيقا لقوله، وتضرع له في الأخذ بطوله. فاستحيى منه، وصرف الجيوش عنه، وأوصل المرأة إلى نفسه، وألحق توحشها بأنسه، وغير سوء حالها، وعاد بسواكب نعماه على جذبها وإمحالها، وحملها إلى قومها، وكحلها بما كان شرد من نومها. وحدث شعلة، قال: قلت للمنصور ليلة طال فيها سهره: (قد أفرط مولانا في السهر، وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم؛ وهو يعلم ما يحركه عدم النوم من علة العصي!) فقال لي: (يا شعلة، إن الملك لا ينام إذا نامت الرعية! ولو استوفيت نومي، لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة!) وكان المنصور يزرع في كل سنة ألف ألف مدى من الشعير قصيلا لدوابه الخاصة به؛ إذا قدم من كل غزوة من غزواته، لا يحل عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل، فيعلمه ما مات منها وما عاش، وصاحب الأبنية، فيعلمه بما وهي من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره. وكان له دخالة في كل يوم اثني عشر ألف رطل من اللحم، حاشى الصيد والطير والحيتان. وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصري الزاهرة والزهراء. وابتنى المنصور على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 طريق المباهاة والضخامة مدينة الزاهرة) ذات القصور، والمتنزهات المخترعة كذات الواديين، ومنية السرور، وأرطانية، وغيرها من منشئاته البديعة. قال ابن حزم: كنا مع المنصور، في يوم صقيل الجو، في الزورق، في النهر الذي بين يدي الزاهرة، في نفر من وزرائه، ومنظر يفنن بأمامه وورائه، ونحن على مؤانسة قد امتد طنبها، وارتشف بها لعس المسرة وشنبها، وانحشر إليها لهو الدنيا ولعبها؛ وهو يستبدع ذلك النشيد، ويتطلع منها إلى المزخرف والمشيد، ويصوب نظره ويصعده في قصوره المشرقة، ومصانعه المونفة، وقد قيدت الألحاظ جمالا، وجددت في الحياة آمالا. فقال المنصور: (وبها لك! يا زاهرة الحسن. لقد حسن مرءاك، وعبق ثراك، وراق منظرك، وفاق مخبرك، وطاب تربك، وعذب شربك! فليت شعري من المربد الذي يعدمك، يوهن ركنك ويهدمك، ويخلي ميدانك، ويضوي قصبك وأفنانك! فبؤسا له إذ لا يروقه حسنك، فيكف عن تغييرك! ألا تسببه بهجة منظرك، فكيف عن محو أثرك!) قال: فاستعظمنا ذلك منه، وأنكرنا ما صدر عنه، وظننا أن الراح غلبت عليه، وخيلت ذلك عليه؛ فأفرط الكل مما في استنكار ما جاء به، وفاه بأمره وسببه؛ فقال: (والله! كأنكم لا تعلمون ذلك! نعم! سيظهر عليها عدونا في أٌقرب مدة، فيهدم هذا كله ويعدمه. وكأني بحجارتها في هذا النهر!) فأخذنا به طريق التسكين والتهدين، وعجبنا لما ذكره من ذلك النبأ المبين. وعند فراغه من ابتناء الزاهرة، غزا غزوة أبعد فيها الإيغال، وغال فيها من عظماء الروم من غال، وحل من أرضهم ما لم يطرق، وراع منهم ما لم يرع قط ولم يفرق، وصدر صدرا أسمى به على كل حسناء عقيلة، وجلا به كل صفحة للحسن صقيلة، ودخل قرطبة دخولا لم يعهد، وشهد له فيه يوم لم يشهد. وكان ابن شهيد متخلفا عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده، وجفاه منتجعه ورائده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وابن شهيد هذا أحد حجاب الناصر، وله على ابن أبي عامر أياد محكمة الأواصر. وكان كثيرا ما يتحفه، ويصله ويلطفه. فلما صدر المنصور من غزوته هذه، نسى متاحفته، وأغفل ملاطفته؛ فكتب إليه (خفيف) : أنا شيخٌ والشَّيْخُ يَهْوَى الصَّبَايَا ... يا لنَفْسِ تَقِيكَ صَرْفَ الرَّزايَا ورَسُولُ الإِلهِ أَسهَمَ في الفيء ... لِمَنْ لَمْ يُخِبَّ فِيهَا المَطايَا فاجْعَلْني (فُدَيْتَ!) أَنْكِحُ مَعْر ... وفَكَ وأبْعَثْ بها عِذَابَ الثَّنايَا هُوَ عُرْفٌ فإنْ تَحَوَّل صِهْراً ... كَانَ وَاللهِ آيَةً في البَرايَا فبعث إليه بعقيلة من عقائل الروم، يكنفها ثلاث جوار كأنهن نجوم سرار، وكتب (خفيف) : قَدْ بَعَثْنا بِهَا كَشَمْسِ النَّهارِ ... في ثَلاثٍ مِنَ المَهَى أَبْكارِ فاجتَهِدْ واتَّئِد فإنْكَ شَيْخٌ ... خَفِيَ اللَّيْلُ عن بَيَاضِ النَّهارِ صانَكَ اللهُ عن كَلاَلِكَ فيها ... فَمِنَ العارِ كَلَّةُ المِسْمَارِ فافتضَّهُنَّ جميعا في ليلة واحدة، وكتب إليه (خفيف) : قَدْ فَضَضْنا خِتَامَ ذَاكَ السِّوارِ واصطَبَغنا من النَّجِيعِ الجارِي ونَعَمْنا في ظِلِّ أَنْعِمِ لَيْلٍ ... وَلَهَوْنا بالبَدْر ثُمَّ الدَّراري وقَضَى الشَّيْخُ ما قَضَى بِحُسامٍ ... ذِي مَضَاءِ عَضْبِ الظُّبَى بَتَّار فاصْطَنِعْني فلَسْتُ أجْزِيكَ كُفراً ... واتَّخِذْني سَيْفاً عَلَى الكُفَّارِ قال حيَّان بن خلف: وجد بالمنصور عزم أزعجه الغزو بعض البروج المهمة؛ فأبرز أموالا عظيمة، وتقدم إلى الناس في البكور للزاهرة؛ فاستبقوا، وقد طرقه في ليلته وجع حماه عن العمض؛ فلم يمنعه من إنفاذ عزيمته، وقعد للنظر في شأنه بأعلى منسته المسماة باللؤلؤة، وقد صح على الكيِّ عزمه، وكان أقرب أبواب الراحة منه؛ فأقبل بوجهه على من تحته، يفري الفريَّ في شانهم؛ وقد ناول الطبيب في خلال ذلك رجليه؛ فحمل عليها عدة كيَّات، ثم أمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 شفه نحوه، وأمكنه من يديه معا واحدة بعد أخرى، وما زوى وجهه، ولا فقد نصحا له كلامه، بل كان يتناول أوامره من وعده ووعيده بأنفذ من الإشفى، ويحملهم من وروده على الأوفى فالأوفى، وإن نتن لحمه المكوي ليبتثُّ فيهم آخذا بخواشيمهم، وهم لا يعلمون. وفي سنة 392، توفى المنصور ابن أبي عامر - رحمه الله - ليلة الاثنين لثلاث بقين لرمضان المعظم، وهو ابن خمس وستين سنة وعشرة أشهر؛ كان له من الولد الذكور يوم وفاته إثنان، وهما عبد الملك وعبد الرحمن الناصر؛ فكانت مدة قيامه بالدولة منذ تقلد الحجابة إلى أن توفى خمسا وعشرين سنة، وأربعة وأربعين يوما. وترك من الأموال الناضة بالزاهرة أربعة وخمسين بيتا. وكان عدد الفرسان المرتزقين بحضرته ونواحيها، الذين حارب بهم الحروب، عشرة آلاف وخمسمائة، وأجناد الثغور قريبا من ذلك. ولله دَرُّ القائل فيه (كامل) : آثارُهُ تُنْبِيكَ عَنْ أخْبَارِهِ ... حَتَّى كأنَّكَ بالعُيُونِ ترَاهُ تَاللهِ ما مَلَكَ الجَزيرَةَ مِثْلُهُ ... حَقًّا وَلاَ قَادَ الجُيُوشَ سِوَاهُ وذُكرَ أنَّ هذين البيتين قد نقشا في رخامة على قبره - رحمه الله -. وكانت عدَّة غزواته سبعا وخمسين غزوة، باشرها كلها بنفسه، وهو في أكثرها يشكو على النقرس - عفا الله تعالى عنا وعنه! - كَمُلَ السفر الأوَّلُ بحمد الله تعالى وحسن عونه وتوفيقه ويمنه. وصلى الله على سيدنا محمد نبيّه وعبده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301