الكتاب: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي المؤلف: محمد البهي (المتوفى: 1402هـ) الناشر: مكتبة وهبه الطبعة: العاشرة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي محمد البهي الكتاب: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي المؤلف: محمد البهي (المتوفى: 1402هـ) الناشر: مكتبة وهبه الطبعة: العاشرة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمات : مقدمة الطبعة الثامنة : - "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي": هو مواجهة مباشرة لتيارات فكرية مستترة وراء عناوين خادعة، وهي في جوهرها محاولات عنيفة لفصل المسلمين عن دينهم، ووضعهم في مجالات التبعية لغيرهم، هم وما تحت أيديهم من ثروات طبيعية، وما لهم من طاقات بشرية. ويواجه تيار الماركسية الإلحادية، المتخفي وراء اسم: العدالة الاجتماعية. وما في العالم المادي اليوم من مجتمعات يقع في حماية هذا الاتجاه، أو ذاك، والمجتمعات البشرية على تعددها تنتمي إذن إلى واحد منهما. وإذ يحسن كل يتار منهما اتجاهه الخاص به في نظر الشباب المسلم، يحاول في الوقت ذاته أن يشوه رسالة الإسلام، ويصفها على الأقل: بأن دورها للبشرية قد انتهى ولم تعد صالحة اليوم لحل مشاكل المجتمعات الإنسانية. والمهمة الأولى لهذا الكتاب: أن يكشف عن قيم الإسلام وعن صلاحية هذه القيم وحدها لتلافي مشاكل المادية في المجتمعات المعاصرة وهي تلك المشاكل التي واجهها على عهد الرسالة باسم الجاهلية، فجاهلية الأمس هي مادية اليوم. - وبهذا الكشف دخل الكتاب في صراع لا يهدأ مع الدافعين لهذا التيار أو ذاك، خارج المجتمعات الإسلامية أو داخلها، والمعانون لهذا التيار أو ذاك, هم في واقع الأمر أصحاب سلطة في هذه المجتمعات، وأصحاب عضلات قوية فيها. ولهذا كان هذا الكتاب: "الفكر الإسلامي الحديث.. وصلته بالاستعمار الغربي". عرضة لأن يصادر ويمنع تداوله من أصحاب السلطة؛ لأنه يقل أن يكون هناك صاحب سلطة في هذه المجتمعات يود أن تكون مسئوليته فيها أمام مبادئ الإسلام وقيمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقد صودر الكتاب، ومنع ويصادر ويمنع معه كل كتاب آخر بقلم مؤلفه، عندما يظهر التحول إلى الماركسية الإلحادية في أي مجتمع إسلامي. والمؤلف لا يحزن على المصادرة والمنع؛ لأنه يوم ألفه لم يستهدف بتأليفه سوى وجه الله وحده لم يستهدف دنيا، ولم يستهدف إرضا نظام حكم، أو حاكم. - واليوم يعود هذا الكتاب فيطبع وينشر في القاهرة، بعد عشر سنوات من مصادرته فيها، لا لأن رأي المؤلف في الكتاب قد تغير، ولكن لأن الخداع في أي تيار من التيارين المشار إليهما قد زال أو كاد، واتضح ما وراءه من استعمار صليبي، أو آخر ماركسي إلحادي، وهو ذلك الأمر الذي تحدث عنه الكتاب في غير مواربة، محذرا المسلمين من خداع الصليبية الدولية، والإلحاد العلمي للشيوعية العالمية. ولعل تلك اليقظة التي ظهرت اليوم بين شباب المسلمين -بعد أن انكشف الخداع الاستعماري الفكري والأيديولوجي- تستمر حتى تدفع إلى الكشف عن قيم الإسلام كمنهج سليم للحياة الإنسانية في مجتمعات السلمين. وبذلك يقبل الشباب على فكر أصيل في تاريخهم، يساعدهم على بقائهم مستقلين عن هذه الكتلة أو تلك. ويجعلهم أصحاب إرادة حرة في توجيه طاقاتهم البشرية، واستخدام ثرواتهم المتكاملة في حفظ قوتهم، واستقلال إرادتهم، أولًا. - وأنت يا مولاي: لك الشكر أولا، وآخرا: فقد أعنتني على ما كتبت، ووفقتني فيما رأيت وأعنت المسلمين اليوم على البدء في كشف خداع أعدائهم، وعلى الرجوع إلى أنفسهم وما حولهم، وما بين أيديهم. {رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} مصر الجديدة: 16 من رجب 1395هـ. 25 من يوليه 1975م دكتور محمد البهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تقديم الطبعة الرابعة : فيما كتبت في هذا الكتاب عن صلة الاستعمار الغربي بالفكر الإسلامي الحديث، ومدى تأثير هذا الاستعمار على اتجاهات الفكر الإسلامي -في عصرنا الحاضر- لم أكتب ظنا ولا تخمينا، ولا متجاوزا معمما أو مقللا منتقصا وإنما وقائع سجلتها، وهي من عناصر التاريخ الحديث، ومن فعل المستعمرين أو ردا لفعلهم. ولكن رغما عن ذلك، فإن بعض الكتاب والمفكرين في مجتمعنا الشرقي الحاضر -لأنه لم يزل متأثرا بالغرب وحضارته وبفكره واتجاهاته، إذ قد عاش فيها وبها في هذا المجتمع- لم يستطع أن يتصور أن "علماء الغرب" من الذين تصدوا للدراسات الشرقية الدينية واللغوية -على الأخص- سلكوا في طريق البحث ومنهج عرض التعاليم الإسلامية مسلك المعين على بقاء الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، التي أحتلها بصفة عامة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مسلك الذي ترجم فكر المستعمر بقلم محترفي البحث ومرتدي ثوب العلم! وقد حدث -بعد أن ظهر هذا الكتاب في طبعاته السابقة- أن صدرت بحوث تتعلق بالمستشرقين بينت في غير لبس مدى تحدي هؤلاء باسم البحث العلمي، ومدى جرأتهم في توجيه نداءاتهم المتعددة للمسلمين في الوقت الحاضر في وجوب إقدامهم على تعديل إسلامهم، حتى يلائم الحضارة الإنسانية القائمة أو مواجهة الركود فالفناء المحقق!!! كما أبانت مدى خطر هؤلاء على الإسلام والمسلمين، وأن دعوتهم هذه لا تقل -في هذا الخطر والضرر- عن تلك الدعوة الأخرى التي يوجهها إلحاد العلم الماركسي في الوقت الراهن في أفريقا وآسيا! وآثرت -من أجل إزالة أي أثر للشك- أن أضيف هذه البحوث التي نشرت أخيرًا لهذا الكتاب كملاحق تلحق به.. وهي بحوث ثلاثة: - أحدها للمؤلف، نشر في مجلة الأزهر. - وثانيها: للدكتور حسين مؤنس، نشر في أهرام الجمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 - وثالثها: للأستاذ الطباوي، نشر باللغة الإنجليزية في مجلة "العالم الإسلامي". وبذلك يكون قد توفر لكتاب "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" في طبعته الرابعة مزيد من الأدلة على قيمة ما عرض فيه من آراء واتجاهات. وإلى الله وحده نتوجه في أن يوفقنا فيما نعمل ويجزينا خير الجزاء على ما نقصد لديننا وأمتنا. والله من وراء القصد. 10 صفر الخير 1384هـ. 20 يونيه سنة 1964م محمد البهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 تقديم الطبعة الثالثة ... تقديم الطعبة الثالثة: ليس لي من كلمة أقدمها بين يدي الطبعة الثلاثة لهذا الكتاب، إلا أن أعبر عن شكري لله سبحانه وتعالى على نعمة التوفيق فيه. فليس لكاتب أو مفكر أن ينتظر في وصف توفيق الله على نعمة أنعم بها عليه، وراء قبول قرائه لما كتب ولما فكر، ولاستجابتهم لما أبدى من رأي وشرح من فكر، بما يعبرون عنه من تقدير في صور مختلفة. فبالرغم من أن لي كتبا وكتابات غير كتاب "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". فقد كنت أعرف وأعرف به في رحلاتي المختلفة في المشرق والمغرب، التي قمت بها منذ منتصف عام 1960 إلى آخر عام 1961 سواء في الباكستان، أو في الملايو، أو في أندونسيا، أو في الفلبين، أو في شمال أفريقيا في ليبيا وفي المغرب، أو في غرب أفريقيا في نيجيريا. فما ذكرت في مرة من المرات أثناء هذه الرحلات، وما عرفت عند إلقاء محاضرة أو حديث، إلا بأني مؤلف: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي". وقد شاء الله أن تكون هذه الطبعة الثالثة بالعربية لهذا الكتاب، مقرونة في الوجود بالترجمة الأولى إلى اللغة الإندونيسية، والتركية، والإنجليزية، والأردية. وذلك فضل الله أعتز به، وأشكره عليه بالتوفر على تأليف جزء ثان لهذا الكتاب بإذن الله، سيكون مجاله "الفكر الإسلامي في بلاد المغرب وفي الجزء الغربي من أفريقيا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والله جلت قدرته أستلهمه السداد فيما أكتب، وحسن القصد فيما أخطو إليه. وكما أملت في يقظة الوعي الإسلامي عن طريق هذا الكتاب عند صدوره في الطبعتين الأولى والثانية، يزداد أملي في قوة هذه اليقظة عند صدور هذه الطبعة. والله ولي الأمر وحده ... وإليه المآب. القاهرة: مارس 1961 الدكتور محمد البهي مدير جامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 تقديم الطبعة الثانية : ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في أكتوبر سنة 1957م، وما كادت تنتهي سنة على ظهوره حتى نفدت هذه الطبعة، رغم أن الإعلان عنه من المؤسسة التي تعهدت بتوزيعه كان محدودًا، ورغم أن الثمن الذي قدر للورق الجيد منه كان فوق مستوى الثمن للكتاب العربي في جملته. ولم أحاول أن أتصل بناقد من نقاد الكتب، يعرض له بالمديح والثناء عليه في صحيفة يومية أو أسبوعية، ولم أقم بإهداء نسخ منه إلا لعدد قليل. لا شحا وبخلا به، ولكن خشية من أن يساء فهمه وفهم مؤلفه لو توسعت في إهدائه واقتحمت به بريد الكثيرين من الكتاب والمفكرين: خشيت أن تلصق به رغبة الترويج، وتلصق بمؤلفه رغبة الدفع لما فيه من آراء، وخاصة أنا أعلم أن ما فيه من آراء -تتصل بقيم المستشرقين والاستشراق، وبقيم الماركسية والوضعية المادية -سيغضب الكثيرين ممن يوالون هذا الاتجاه أو ذاك، ويعيشون في حايتنا اليوم على ترديد ما لواحد منهما أو لآخر ... وعددهم بين الكتاب والمؤلفين المعاصرين ليس بقليل. تركت الكتاب إذن يعيش بنفسه وبقيمته، بين الكتب التي تخرجها المطابع العربية في القاهرة، وبيروت، وبغداد، ودمشق، والرباط، ومن فضل الله عليه وعلى مؤلفه، أن لقي من التقدير ما يسر له من نقاد طبعته الأولى في زمن قصير، رغم كل الظروف التي أشرت إليها، والتي من شأنها أن تمهله أو تبطئ به في السير نحو الرواج والنفاد. وقد توج هذا التقدير للكتاب، ما تفضل به السيد الوزير "كمال الدين حسين" وزير التربية والتعليم المركزي مشكورًا، من نصح الشباب بقراءته، وذلك في حديث لسيادته في صحيفة "الأهرام" وفي حديث آخر في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة بالقاهرة. وما أن نفدت الطبعة الأولى، حتى دفعت بالكتاب للطبعة الثانية التي أقدمها اليوم، والتي استغرقت من الوقت قرابة عام، نظرًا لكثرة الأعباء التي أضيفت إلي في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر، بجانب التدريس في كلية اللغة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وما في هذه الطبعة من موضوعات وآراء ومنهج للبحث، لا يختلف عما جاء في الطبعة الأولى ... لا تخلصا من أعباء امتحان ما في الكتاب من آراء -على الأقل- مرة ثانية في ضوء ما حدث من كتب للمعرفة علها صدرت، وتصل بموضوعات الكتاب، أو في ضوء مراجعة أخرى لبعض المصادر التي اعتمدت عليها من قبل؛ ولكن لأن نتيجة الاختبار الدقيق من جديد لما في الكتاب كله، قد أكدت نفس الآراء، كما أكدت سلامة منهج البحث فيه. وكل ما تتميز به هذه الطبعة الثانية: هو البسط في عرض بعض الفكر مرة، والعدول عن بعض الألفاظ والتراكيب التي استعملت سابقا إلى غيرها مما هي أكثر دقة في تأدية المعنى المطلوب، أو أكثر وضوحا في التمييز عنه مرة أخرى. والأمل الذي عبرت عنه عند تقديم الطبعة الأولى من هذا الكتاب -وهو إيقاظ الوعي بتفكير توجيهي محايد، وبـ"أيديولوجية" لا هي بالشرقية الإلحادية ولا هي بالغربية الصليبية، تقوم بين المسلمين على أساس من الإسلام الأصيل نفسه -لم يزل هو الأمل نفسه، يتجدد مرة أخرى؛ لأن فكرة "الحياد الإيجابي" في سياسة الشعوب الإفريقية والأسيوية بدت الآن أوضح عن ذي قبل, يوم أن صدر هذا الكتاب لأول مرة. وكلما مال الأمر في سياسة هذه الشعوب إلى "الإيمان" بالحياد الإيجابي، كلما نشط الوعي بينها في دائرة التوجيه إلى الرجوع إلى القيم الأصيلة في تراثها الثقافي والروحي، والاستناد إليها في النظرة إلى الحياة، وفي السلوك الإنساني، وفي الترابط بين الأفراد. ثم إن تطور وضع هذه الشعوب وتحررها تباعا من الاستعمار لا يقوي فيها دافع الحرص على استقلالها فحسب، وإنما ينمي مع ذلك فيها "ذاتيتها" و"شخصيتها" وتنمية الذات أو الشخصية يستتبع حتما التفتيش عن مصادر الأصالة في تكوينها وقيامها، أو هو لا يقوم نفسه على أساس من "اعتبار" هذه الأصالة، و"إعادة" تقديرها من جديد. والقيم الإسلامية الخالدة، هي الأمر الأصيل الذي ارتبطت به شخصية الشعوب الإسلامية في وجودها واستمرارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ومن هنا، اقترب "الأمل" إلى "ثقة" ... سيصبح حتما بعدها حقيقة واقعة. ولكن متى تقع هذه الحقيقة؟ هنا يعود الأمل من جديد في أن يكون قريبا، وهنا تشتد بنا الحاجة -كي يكون ذلك قريبا- إلى أن نتجه إلى الله جلت قدرته، في أن يهب هذه الشعوب الطاقة المادية والمعنوية على التحرر من هذا الاستعمار البغيض في صورتيه معا. إذ في زواله وبعد شبحه يتحقق الحياد الإيجابي كاتجاه سياسي وتظهر "الأيديولوجية" الإسلامية كمذهب رئيسي في التوجيه بين الشعوب الإسلامية. والله الموفق والمعين. القاهرة في 19 من جمادى الآخرة سنة 1379هـ دكتور محمد البهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تقديم الطبعة الأولى : اتصل الغرب المسيحي بالشرق الإسلامي اتصال اعتداء مسلح طوال قرنين كاملين من الزمن، من نهاية القرن الحادي عشر إلى آخر القرن الثالث عشر الميلادي، وهو اعتداء الحروب الصليبية، واختبر في هذا الاحتكاك عقيدة الإسلام في قوتها، وضعف المسلمين في مجتمعهم، وسعة ما يملكون من ثروة في بلادهم، فتأثر بالإسلام، وما جاء فيه من توحيد الله وبشرية الرسول: "لوثر"1 "Luther", "كالفن"2 "Calvin"، فيما قاما به من الإصلاح الديني في النصف الأول من القرن السادس عشر، وظهر أثر الإسلام واضحا في رفض البروتستنتينية: "التثليث"، و"عصمة" البابا، وكونه صاحب السلطة الأخيرة التي لا يجوز التعقيب عليها في تحديد رأي المسيحية، وغير ذلك من الرسوم والعقائد التي تعتبرها الكنيسة الرومانية -وهي الكنيسة الكاثوليكية- جزءا من الإيمان المسيحي. ويعتبر الغاء عصمة البابا في الإصلاح الديني المسيحي ذا أثر قوي في توجيه الإنسان الغربي نحو الاستقلال في التفكير، وفي رد اعتبار قيمته في الوجود. كما يعتبر رفض سلطة الباب في تفسير المسيحية، على أنها السلطة الأخيرة التي لا تعقيب عليها: سببا مباشرا في نشاط الفكر الأوربي في المعرفة. وفي إفساح مجال للعلم والقوة على الملاحظة والتجربة، وفي وضع معايير جديدة للحياة الإنسانية، ولقيم المجتمع البشري، لا تتعارض مع "الكتاب المقدس"، وقد سلك "لوثر" نفسه -وكذا من عاونه في إصلاحه الديني- طريق الملائمة مع نصوص "الكتاب المقدس" في رفض ما رفضه وقبول ما قبله من عقائد ورسوم للعبادة، دون اعتبار آخر لسلطة بشرية أخرى تعقب على تفسيره وفهمه. كما أفاد الغرب من هذا الاحتكاك -مرة ثانية- في إعداد نفسه ورسم خططه، انتهازا لزيادة ضعف المجتمع الإسلامي وتفككه، كي يحصل على ما لدى المسلمين من ثروة، تعد في تنوع مصادرها ومقدار كميتها أضخم ما عرف من ثروة في أي مكان آخر من العالم القديم.   1 1483: 1546م. 2 1509: 1564م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وكما كان القرن السادس عشر هو مصدر الإصلاح الديني في الغرب، كانت نهايته بداية اتصال الغرب المسيحي بالشرق الإسلامي اتصالا اقتصاديا, سواء في كشف موارد الثروة فيه، أو استغلالها ونقلها إلى الغرب في صورة تبادل تجاري، أو في أية صورة أخرى. واستتبع الاتصال الاقتصادي -بعد تقدم صنع السفينة في الغرب- اتصالا آخر؛ هو نفوذ الغرب المسيحي على التوجيه السياسي للشرق الإسلامي. وازداد هذا النفوذ بالتدريج، حتى وصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين منتهى ما يصل إليه نفوذ قوي على ضعيف. ولم يقف استخدام هذا النفوذ السياسي القوي عند حد الاستغلال الاقتصادي لأجل رفع مستوى الغرب وتقدم صناعته من جانب وإضعاف مستوى الشرق والحرص على تخلفه من جانب آخر، بل استخدم أيضا للتنفيس عن الهزيمة الصليبية في الحروب الماضية، وعن الحقد الصليبي على بقاء بيت المقدس في ظل السيادة الإسلامية!! - فكيف يستمر للغرب نفوذه السياسي على الشرق الإسلامي؟ - وكيف يبقى تخلف المسلمين؟ - وكيف تنفس النفس الصليبية عن حقدها؟ هذه الأسئلة الثلاثة ... يرتبط بعضها ببعض في تصور الغرب المسيحي المستعمر، ويحرص على أن تبقى متصلة بعضها ببعض في مباشرة سلطته هنا في الشرق، على أن وجود أي واحد من هذه الأمور الثلاثة وتمتعه بالبقاء كفيل بتمكين الوجود للأمرين الآخرين. لهذا ... ما أن باشر النفوذ الغربي سلطته في رقعة الشرق الإسلامي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر, حتى ابتدأ يعمل على تخلف المسلمين، وعلى تنفيس الحقد الصليبي. وليس له هنا طريق آخر لتحقيق هذه الغاية، سوى تناول "مادة التوجيه" المحلية، وجعلها غير صالحة.. ولم يكن هناك في توجيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الشرق الإسلامي سوى الإسلام، والتراث الإسلامي الذي خلفه المسلمون في شرح إسلامهم. - فإفساد الإسلام والتراث الإسلام إذن، غرض أول للمستعمر الغربي. - واختار وسيلته لذلك فيما أبرزه من المفارقة بين الغرب والشرق، من تقدم الأول وتأخر الثاني. - وابتدأ "العلم" وابتدأت "الدراسة" هناك تبحث عن أسباب هذه المفارقة، وتركزت الاسباب أخيرًا في المقابلة بين المسيحية والإسلام ... المسيحية دين المتقدمين، والإسلام دين المتخلفين!! وهناك قام بعض المسلمين ينادي باتباع الغرب فيما وصل إليه من حضارة صناعية وفكر طبيعي ... ولكن لا يكون هذا الاتباع مثمرا للشرق الإسلامي إلا إذا اتخذ موقفا من الإسلام يقربه من المسيحية!! وعلى أساس هذا التقريب قامت حركة السيد "أحمد خان" في الهند التي سماها "تجديدا" وقامت حركة أخرى بعدها، هي حركة "ميرزا غلام أحمد" أخذت طابع الدين والعقيدة ... وقصدت هاتان الحركتان إلى "تأويل" ما في الإسلام مما يخالف المسيحية، وعلى الأخص ما يدعو إلى الاحتفاظ بـ"الشخصية الإسلامية" وباستقلال الجماعة الإسلامية، وعاون المستعمر الغربي هاتين الحركتين بوسائل مختلفة؛ لأن في نجاحهما بين المسلمين ما يحقق له تحويل مادة "التوجيه" في العالم الإسلامي إلى مادة غير صالحة. لكن الإسلام بعد قيام هاتين الحركتين لم يقض عليه، وأيضا لم يزل بين المسلمين من يفهم الإسلام على الوجه الصحيح، ويؤمن به إيمانًا قويا ... فقام جمال الدين الأفغاني، ومن بعده الشيخ محمد عبده، ليدفعا حملة التشويه عن الإسلام، وليواجها المستعمر وجها لوجه. ومن هنا كانت مقاومة الاستعمار مرتبطة ارتباطا وثيقا برد التحريف الذي قصد توجيهه للإسلام من المستعمرين وأعوانهم في البلاد الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وبهذا نشأ في التفكير الإسلامي -منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر-اتجاهان: - أحدهما: لممالأة الاستعمار الغربي في "تقريب الإسلام من المسيحية" أو في تبديله إلى توجيه ديني يرضى عنه المستعمر. - والثاني: لمقاومة هذا التقريب أو هذا التبديل، مع الدعوة إلى احتفاظ المسلمين بإسلامهم كما يصوره القرآن والسنة, وإلى إعادة تماسك الجماعة الإسلامية، والسعي إلى استقلالها، وعدم انصهار المسلمين في غيرهم. وبانتهاء القرن التاسع عشر تم تبلور هذين الاتجاهين، وعرفت أسسهما في العالم الإسلامي، وأصبح لكل منهما أتباع وأنصار. جاء القرن العشرون، واستمرت أيضا الثنائية في اتجاه التفكير الإسلامي، ولكن أحد الاتجاهين عرف باسم "التجديد" بينما عرف الاتجاه الآخر باسم "الاتجاه الإصلاحي" أو اتجاه تجديد المفاهيم الدينية. - فاتجاه التجديد: سار في طريق خدمة الاستعمار الغربي -ولكن من غير قصد مباشر- على نحو ما سار الاتجاه المعاون له في النصف الأخير من القرن الماضي، فحركة "التجديد" في الفكر الإسلامي التي ظهرت في الشرق الإسلامي منذ بداية القرن العشرين، تعتبر "تقليدا" للدراسات الإسلامية في تفكير المستشرقين الغربيين، ثم أضيف إلى هذا التقليد فيما بعد -منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بعد أن تهيأ الجو في الشرق الإسلامي للحديث عن الإلحاد في مواجهة الإسلام والمسلمين- ترديد للفكر الإلحادي المادي الغربي، وهو التفكير الوضعي والماركسي. ودراسة المستشرقين للإسلام قامت أولا بوحي من الكنيسة الكاثوليكية خاصة، للانتقاص من تعاليم الإسلام وإهدار قيم تعاليمه، حرصا على مذهب "الكثلكة" من جانب، وتعويضا عن الهزائم الصليبية في "تحرير" بيت المقدس من جانب آخر! ثم تبني الاستعمار الغربي هذه الدراسة في الجامعات الغربية نفسها، حتى يقوى القائمون بأمرها على تصديرها إلى الشرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الإسلامي في صورة كتب تؤلف وترسل إلى طلاب الثقافة، أو في صورة طلاب من الشرق الإسلامي يدعون أو يعانون على الدراسة هناك، ثم يمنحون من الألقاب العلمية ما يتمكنون بها من الظفر بوظيفة التوجيه في الكليات النظرية بالجامعات الحديثة في الشرق الإسلامي. أما محاولة تجديد المفاهيم الدينية منذ بداية القرن العشرين، فقد باشرها في مصر تلاميذ الشيخ "محمد عبده" كما قام بها في الهند فيلسوف الباكستان" محمد إقبال". وهكذا نجد أن الاستعمار الغربي له صلة وثيقة بالفكر الإسلامي منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الآن ... سواء في خلق، أو معاونة ما يسند من اتجاه. أو في إثارة ما يقاومه من اتجاه آخر. والفكر الإسلامي نفسه في هذه الفترة- التي تبلغ الآن قرنا كاملا- هو مرآة لهذين الاتجاهين؛ لذلك كان عنوان الكتاب الذي نقدم له: "الفكر الإسلامي، وصلته بالاستعمار الغربي". وسيعرض الكتاب من أجل ذلك: لحركة السيد "أحمد خان" وحركة "ميرزا غلام أحمد" في القرن التاسع عشر كحركتين ممالئتين للاستعمار الغربي، كما يعرض لحركة "جمال الدين الأفغاني" وحركة "محمد عبده" في القرن التاسع عشر نفسه كحركتين مقاومتين للاستعمار. ثم يعرض فكر "التجديد" منذ بداية القرن العشرين: كفكرة "بشرية القرآن" وفكرة "الإسلام دين لا دولة" من اتجاه الاستشراق، وفكرة "الدين خرافة"، وفكرة "الدين مخدر" من الاتجاه الإلحادي المادي. كما يعرض لحركة تحديد المفاهيم الإسلامية التي قام بها في الهند "محمد إقبال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقد قصدت بهذا الكتاب بيان السبيل، لمن يحرص في الشرق الإسلامي على الاستقلال في التفكير وفي السياسة، من مفكري الإسلام وزعماء السياسة بينهم، وهذا السبيل ليس هو سبيل الغرب الذي يدعونا إليه؛ لأن في سبيل الغرب قبول الاستعمار والمذلة، والدعوة إلى التخلف، وإنما هو سبيل الشرق الذي يريد أن يتحرر من استعمار الغرب وإذلاله وحرصه على أن يبقى متخلفا. لم أعرض استنتاجا، وإنما عرضت حركات قامت ... وعرضت أحداثا وقعت، والأحداث أقوى في التوجيه؛ لأنها من التاريخ، والتاريخ هو حياة الأشخاص والأمم، ومعبد الطريق أمام الإنسان وجماعته، عند السير على المستقبل. القاهرة في 5من ذي الحجة سنة 1376هـ. 3 من يولية سنة 1957م. دكتور محمد البهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فاتحة : الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي : في بداية منتصف القرن التاسع عشر, وعلى التحديد في سنة 1857م. - تم للإنجليز الاستيلاء على الهند سياسيا، وانتقلت سلطة الحكم رسميا من شركة الهند الشرقية "التي تأسست في 31 ديسمبر سنة 1600م، والتي انضمت إلى شركة أخرى جديدة في سنة 1689م" إلى التاج البريطاني، وزالت بذلك إحدى الدول الإسلامية الكبرى التي قامت في مستهل القرن السادس عشر الميلادي، وهي دولة المغول في الهند أو الدولة التيمورية "نسبة إلى تيمورلنك مؤسس هذه الإمبراطورية" الإسلامية في آسيا الوسطى، أما الدولتان الأخريان إذ ذاك، فهما: الدولة الصفوية في إيران، ودولة الأتراك العثمانيين في آسيا الصغرى وشرقي أوربا. - كما تم في السنة نفسها -وهي سنة 1857 - استيلاء الفرنسيين على الجزائر كلها إلى الصحراء، بعد أن ابتدءوا غزوها سنة 1830م. - ومن قبل هاتين الدولتين الاستعماريتين -إنجلترا وفرنسا- احتلت هولندا في بداية القرن السابع عشر جزر الهند الشرقية "أندونسيا" عن طريق شركة الهند الهولندية التي تأسست في سنة 1602. وذلك بعد ما ضاع استقلال البرتغال بإعلان ملك أسبانيا ضمها إلى بلاده 1850م، تلك الدولة التي عبدت طريق الاستعمار الغربي المسيحي في وسط آسيا وشرقيها في الهند وفي أندونسيا سنة 1511م، والتي حصل ملكها من الباب إسكندر على صك رسمي بأن البرتغال "سيدة بحار العرب والعجم والهند والحبشة"!! فبعد قرنين ونصف، أي: منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تمكن الاستعمار الغربي المسيحي من السيطرة سيطرة تامة على المسلمين في وسط آسيا وشرقيها، واتخذ له نقطة ارتكاز رئيسية في إفريقيا، كما تمكن من مد نفوذه إلى قلب العالم الإسلامي ومركزه الرسمي في منطقة الشرق الأدنى، وبذلك طوق العالم الإسلامي من الشرق والغرب، وسلط ألاعيبه ودسائسه على بقية التجمعات الإسلامية الأخرى بين هذين الطرفين، فوهنت هذه التجمعات، وانحل عقدها، وسقط بعضا إثر بعض تحت نفوذ المستعمر الغربي، وما جاءت الحرب العالمية الأولى وانقضى أجلها، حتى أصبح العالم الإسلامي كله تحت نفوذ هذا المستعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر ... العالم الإسلام في نظر الغرب المستعمر: نشرت جريدة "المؤيد" في تمام القرن التاسع عشر "1317هـ" ترجمة لمقال كتبه "هانوتو" المستشرق الفرنسي ومستشار وزارة الاستعمار الفرنسية, يصف فيه المسلمين وعقيدتهم، ويضح المقترحات الضرورية في نظره لتوجيه سياسة فرنسا في مستعمراتها الإفريقية الإسلامية تحت العنوان التالي: "قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية". وكان مما جاء في هذا المقال: "اخترق المسلمون أبناء آسياء شمال القارة الإفريقية بسرعة لا تجارى، حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدن البيزنطيين "يونان الشرق" تم تراموا بها على أوروبا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدينة يرجع أصلها إلى آسياء بل أقرب في الوصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم، ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبتت أقدامهم أحقابا متعاقبة، ولكن لا يزال الهلال ينتهي طرفاه: من جهة بمدينة القسطنطينة، ومن أخرى ببلدة فاس في المغرب الأقصى، معانقا بذلك الغرب كله. " ... في تلك البقعة الإفريقية التي أصبحت مقر ملك الإسلام، جاءت الدولة الفرنسية لمباغتته، جاء القديس لويس -الذي ينتمي إلى إسبانيا بوالدته- ليضرم نيران القتال في مصر وتونس، وتلاه لويس الرابع عشر في تهديده الإمارت الإفريقية الإسلامية، وعاود هذا الخاطر نابليون الأول، فلم يوفق إلى تحقيقه الفرنسيون إلا في القرن التاسع عشر، حيث أخذوا على دولة الإسلام التي كانت لا تني في متابعة الغارات على القارة الأوربية، فأصبحت الجزائر في أيديهم منذ سبعين عاما، وكذلك القطر التونسي منذ عشرين عام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 " ... إذن فقد صارت فرنسا بكل مكان في صلة مع الإسلام، بل صارت في صدر الإسلام وكبده، حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطواتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين! وهي تدير اليوم شئونه وتجبي ضرائبه، وتحشد شبابه لخدمة الجندية، وتتخذ منهم عساكر يذبون عنها في مواقف الطعان ومواطن القتال". "إن شعبا جمهوري المبادئ "شعب فرنسا" يبلغ عدد نفوسه أربعين مليونًا لا مرشد له إلا نفسه: لا عائلات ملوكية فيه يتنازعن الحكم، ولا رؤساء يتناولون الرياسة بطريق الوراثة, هو الذي تقلد زمام إدارة شعب آخر لا يلبث أن ينمو حتى يساويه في العدد، وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمتبع لتقاليد وعادات غير التي نحنوا لها ونحترمها.. هو الشعب الإسلامي السامي الأصل، الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن ملح المدنية وروحها"!!. "ليس الإسلام في داخلنا فقط، بل هو خارج عنا أيضا ... قريب منا في "مراكش" تلك البلاد الخفية الأسرار, التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه، قريب منا في "طرابلس الغرب" التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر الأبيض المتوسط وبين الطوائف في باطن القارة الإفريقية، قريب منا في "مصر" حيث تصادمت معنا الدولة البريطانية فصادمنا إياها في الأقطار الهندية، وهو موجود وشائع في آسيا حيث لا يزال قائما في بيت المقدس وناشرا أعلامه على "مهد الإنسانية مقر المسيح"، ويحسب أنصاره وأشياعه في قارات الأرض القديمة بالملايين، وقد انبعثت منه شعبة في بلاد الصين فانتشر فيها انتشارًا هائلا، حتى ذهب البعض إلى القول بأن العشرين مليونا من المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون، فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء "لساكياموني" وليس هذا بالأمر الغريب، فإنه لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرًا في الآفاق. "فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس له زمرا وأفواجا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه، ففي البقاع الإفريقية نرى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل البيضاء، يحملون إلى الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار قواعد الحياة ومبادئ السلوك في هذه الدنيا، كما أن أمثالهم في القارة الأسيوية ينشرون بين الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 هو -أي: هذا الدين- قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها، أعني في الآستانة العلية، حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع الذي يحكم منه على البحار الشرقية ويفصل الدول الغربية، بعضها عن بعض شطرين. "وخلاصة القول: إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة. بها يديرون أعمالهم ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي يبتغونها، وهذه الرابطة تشبه السبب المتين الذي تتصل به أشياء تتحرك بحركته وتسكن بسكونه، ومتى اقتربوا من الكعبة: من البيت الحرام، من زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس، من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة، من الركن الذي يقولون عنه إنه سرة العالم، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام اشتعلت جذوة الحمية الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفا.. وتقدمهم الإمام مستفتحا العبادة بقوله: "بسم الله" فيعم السكوت والسكون وينشران أجنحتهما على عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف. ويملأ الخشوع قلوبهم ثم يقولون بصوت واحد: "الله أكبر"، ثم تعنوا جباههم بعد ذلك قائلين "الله أكبر" بصوت خاشع يمثل معنى العبادة. "لا تظنوا أن هذا الإسلام الخارجي الذي تجمعه جامعة فكر واحد، غريب عن إسلامنا "في تونس والجزائر" ولا علاقة له به؛ لأنه وإن كانت البلاد "الإسلامية" التي تحكمها شعوب مسيحية ليست في الحقيقة بـ"دار إسلام" وإنما هي "دار حرب"، فإنها لا تزال عزيزة وموقرة في قلب كل مسلم صحيح الإيمان! والغضب لا يزال يحوم حول قلوبهم كما تحوم الأُسد حول قفص جلست فيه صغارها، ربما كانت قضبان هذا القفص ليست متقاربة ولا بدرجة من المتانة تمنعها عن الدخول إليهم من بينها. "لا يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح وعلى أفكار المقهورين الذي أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم يثبط هممهم. نعم ليس لمقاومتهم رؤساء يشدون هذه المقاومة. ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرياسة.. ففي مسألة علاقتنا مع الإسلام تجد المسألة الإسلامية والمسألة الدينية والمسائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الداخلية والخارجية شديدة الاتصال بعضها ببعض، وهذا ما يجعل حلها صعبا ومتعذرًا -كما سنبينه"1!! فـ"هانوتو" يعرض -في هذه المقدمة لمقاله الطويل -لثلاث عناصر رئيسية: أولا: أن ما لدى المسلمين من معرفة وثقافة هي بعض بقايا تمدن البيزنطيين "يونان المشرق" ... وليست ثقافة أصيلة ابتدعوها! ثانيا: أن رسالة فرنسا بين المسلمين الذين خضعوا لسطوتها هي: "ملح المدنية وروحها"، التي يحملها شعب آري مسيحي جمهوري إلى شعب إسلامي سامي الأصل ... له تقاليد وعادات تغاير عادات وتقاليد المسيحيين الآريين! ثالثا: أن المسلمين الذين وقعوا تحت سيطرة النفوذ الفرنسي ليسوا منقطعي الصلة عن بقية المسلمين في الخارج، بل تربط بعضهم بعضا رابطة قوية، وديار المسلمين التي تحتلها فرنسا يعتبرها المسلمون القاطنون فيها والخارجون عنها "دار حرب"، وليست "دار إسلام" ... ولذا فالخطر موجود في الداخل والخارج. هذه الروح التي تجلت عند هذا المستشرق الفرنسي، هي نفس الروح التي يصفها المستعمر الفرنسي والإنجليزي والهولندي في نظرته إلى المسلمين في آسيا وإفريقيا، وفي توجيهه إياهم، وفي سلوكه معهم ... وهي ليست للمسلمين أصالة في الثقافة، فليست لهم قيمة ذاتية! ولذا يجب على المسلمين أن ينتقلوا إلى الحضارة الأوروبية الآرية المسيحية!! ويجب على شعوب أوروبا المسيحية الآرية أن تتعاون فيما بينها على دفع الخطر الإسلامي الكامن ضمن الوحدة الإسلامية: الفكرية، والروحية، والغائية! ولا يغفل "هانوتو" هنا أن يذكر -أو يتذكر- بواعث الحروب الصليبية في القرن: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فيقول:   1 تاريخ الإمام - ج2 ص401: 407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 "وهو -الإسلام- موجود وشائع في آسيا، حيث لا يزال قائما في بيت المقدس وناشرا أعلامه على "مهد الإنسانية ومقر المسيح""! فأهداف الحروب الصليبية قديما تركزت في استرداد بيت المقدس من المسلمين البرابرة "! " ولا يزال مما يزعج الغرب الآري المسيحي الآن بقاء لواء الإسلام منتشرا على "مهد الإنسانية"!! وهذا لا يقل خطرا على الغرب عن اجتماع المسلمين ونطقهم جميعا في لحظة واحدة قائلين: "الله أكبر"، إذا ما اتجهوا لعبادة الله سبحانه وتعالى!!. وبهذا تتضح سياسية الاستعمار في الشرق الإسلامي. إنها سياسة تقوم على إضعاف المسلمين ... في إسلامهم أولا وبالذات!! وسائل الاستعمار لإضعاف المسلمين في إسلامهم: ووسائله لذلك تنحصر في توجيه الفكر الإسلامي نحو تحقيق هذه الغاية، وقد برز هذا التوجيه في صورتين تنم كلتاهما عن هذه الغاية: - الصورة الأولى: قيام بعض مفكري المسلمين بحركة تقدمية في الإسلام: تبغي تقرير سلطة المستعمر وتثبيت ولايته على المسلمين من الوجهة الإسلامية، أو بعبارة أخرى تبغي عدم تحديه ومعارضته, سواء في مباشرة سلطته على المسلمين، أو في إدخاله ما يسميه بنظم الإصلاح الحديثة بينهم! - الصورة الثانية: قيام بعض الغربيين الآرييين المسيحيين بإبراز الخلافات المذهبية، وتأكيد الفجوات والثغرات. بين طوائف المسلمين وشعوبهم، من الوجهة الشعوبية، أو الجغرافية، أو نظام الحكم ... مع شرح كثير من مبادئ الإسلام شرحا يشوهها وينحرف بها عن أهدافها الأصلية! وذلك كله بالإضافة إلى تمجيد القيم المسيحية، والحضارة الغربية؛ والنظام السياسي، والسلوك الفردي للشعوب الغربية! - وفي مقابل هاتين الصورتين برز اتجاه إسلامي فكري آخر وهو حركة المقاومة للاستعمار الغربي: سواء في مظهره السياسي أو فيما يستبطنه ويخفيه من الهجوم على الإسلام وإضعاف المسلمين. وهذا اتجاه يعتبر كرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فعل مباشر لتوجيه الاستعمار الغربي للتفكير الإسلامي في صورتيه السابقتين. ويدخل في هذا الاتجاه الأخير: تلك المحاولة الفكرية لتجديد المفاهيم الإسلامية، بغية الملاءمة بينها وبين تطور الحياة وأحداثها المتلاحقة، حتى تطبع سلوك هذه الشعوب أفرادا وجماعات بطابع إسلامي.. كتلك المحاولة التي قام بها الشيخ محمد عبده في مصر، ومحمد إقبال في الهند. وبذلك يكون الاستعمار الغربي للشعوب الإسلامية قد خلق اتجاهين فكريين متقابلين: - اتجاها لحمايته. - واتجاها آخر لمقاومته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ مفكرون من المسلمين مع الاستعمار مدخل ... الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكرى الممالئ مفكرون من المسلمين مع الاستعمار: ذكرنا أن الاتجاه الفكري الممالئ للاستعمار اتخذ صورتين: - صورة محلية: نشأت وتبلورت داخل الشعوب الإسلامية ... أنشأها ونماها مفكرون من المسلمين أنفسهم. - وصورة أخرى تكونت في الخارج: قام بها القساوسة الغربيون، وأصحاب الدراسات السامية اللغوية والدينية التي عنيت بدراسة العهدين: القديم والجديد "التوراة والإنجيل" وما يتصل بهما من فروع علمية في الجامعات الغربية. وهاتان الصورتان ليستا منفصلتين إلا في ظاهر الأمر فقط.. وواقع الحال أن الصلة بينهما وثيقة، وان إحداهما تعتبر مرآة للأخرى، أو أن إحداهما تعتبر عاملا محركا والأخرى نتيجة لها. ومن المفكرين المسلمين الذي يمثلون الصورة الأولى من هاتين الصورتين: الزعيم الإسلامي في الهند، السير "سيد أحمد خان" كما يمثلها من العقائد الإسلامية التي جدت -كأثر لتوجيه الاستعمار الغربي- مذهبا القاديانية والأحمدية في الهند أيضًا. والدعوى التي ادعاها السيد أحمد خان باسم الإصلاح والتقدمية تعتبر مقدمة وتمهيدا لنشأة القاديانية، تلك العقيدة التي تفرع عنها فيما بعد، ذلك المذهب الذي يعرف بالأحمدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 حركة أحمد خان : تذكر مجلة "العروة الوثقى" -للسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وقد صدر العدد الأول منها في 11 مارس سنة 1884 وصدر العدد الأخير "وهو الثامن عشر" في 17 أكتوبر سنة 1884- في أحد أعدادها وصفا لهدف الحركة التقدمية التي قام بها السيد أحمد خان1 في الهند فتقول: " ... لما استقرت أقدامهم -الإنجليز- في الهند وألقوا به عصاهم، ومحيت آثار السلطنة التيمورية "نسبة إلى تيمورلنك مؤسس دولة المغول في القرن السادس عشر الميلادي"، نظروا إلى البلاد نظرة ثانية فوجدوا فيها خمسين مليونا من المسلمين، كل واحد منهم مجروح الفؤاد بزوال ملكهم العظيم، وهم يتصلون بملايين كثيرة من المسلمين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وأحسوا أن المسلمين ما داموا على دينهم، وما دام القرآن يتلى بينهم، فمحال أن يخلصوا في الخضوع لسلطة أجنبي عنهم، خصوصا إن كان ذلك الأجنبي خطف الملك منهم بالخديعة أو المكر تحت ستار المحبة والصداقة، فطفقوا -الإنجليز- يفتشون بكل وسيلة لتوهين الاعتقاد الإسلامي، وحملوا القسس والرؤساء الروحانيين على كتابة الكتب ونشر الرسائل، محشوة بالطعن في الديانة الإسلامية، مفعمة بالشتائم والسباب لصاحب الشريعة -برأه الله مما قالوا- فأتوا من هذا العمل الشنيع ما تنفر منه الطباع، ولا يمكن معه لذي غيرة أن يقيم على أرض تنتشر فيها تلك الكتب، وأن يسكن تحت سماء تشرق شمسها على مرتكبي ذلك الإفك العظيم!! "وما قصدهم بذلك إلا توهين عقائد المسلمين: وحملهم على التدين بمذهب الإنكليز! هذا من جهة، ومن جهة أخرى أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم من كل وجه فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة، وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس، ونفوا علماءهم وعظمائهم إلى جزيرة "أندومان" رجاء أن تفيدهم هذه الوسيلة -إن لم تفدهم الأولى- في رد المسلمين عن دينهم بإسقاطهم في أغوار الجهل بعقائدهم حتى يذهلوا عما فرضه الله عليهم! "فلما خاب أمل أولائك الحكام الجائرين في الوسيلة الأولى، وطال عليهم الأمد في الاستفادة من الثانية، نزعوا إلى تدبير آخر في إزالة الدين الإسلامي من أرض الهند أو إضعافه؛ لأنهم لا يخافون إلا من المسلمين   1 17 أكتوبر سنة 1817- 1898م. وله مؤلفات "حياة محمد" سنة 1870، و"تفسير القرآن" 1880 - 1895 إلى سورة الكهف، وتفسير الإنجيل وقد سماه "تبيان الكلام" سنة 1862. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أصحاب ذلك الملك المنهوب والحق المسلوب! فاتفق أن رجلا اسمه "أحمد خان بهادور" -لقب تعظيم في الهند -كان حوم حول الإنكليز لينال فائدة من لديهم، فعرض نفسه عليهم وخطا بعض خطوات لخلع دينه، والتدين بالمذهب الإنجليزي، وبدأ الأمر بكتابة كتاب1 يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين لينال بذلك الزلفى عندهم! ثم راجع نفسه فرأى أن الإنجليز لن يرضوا عنه حتى يقول: إني نصراني، وأن هذا العمل الحقير لا يؤتى عليه أجرا جزيلا، خصوصا وقد أتى بمثل كتابه ألوف من القسس والبطارقة, وما أمكنهم أن يحولوا من المسلمين عن الدين أشخاصًا معدودة! فأخذ طريقا آخر في خدمة حكامه الإنجليز، بتفريق كلمة المسلمين وتبديد شملهم، فظهر بمظهر الطبيعيين الدهريين ونادى بأن لا وجود إلا للطبيعة العمياء، وليس لهذا الكون إله حكيم "إن هذا إلا الضلال المبين! " وأن جميع الأنبياء كانوا طبيعيين لا يعتقدون بالإله الذي جاءت به الشرائع. "نعوذ الله! " ولقب نفسه بالطبيعي، وأخذ يغري أبناء الأغنياء من الشبان الطائشين، فمال إليه أشخاص منهم، تملصا من الشرع الشريف وسعيا خلف الشهوات! فراق الحكام الإنجليز مشربه، ورأوا فيه خير وسيلة لإفساد قلوب المسلمين، فأخذوا في تعزيزه وتكريمه وساعدوه على بناء مدرسة في "عليكره" وسموها مدرسة "المحمديين" لتكون فخا يصيدون به أبناء المؤمنين ليربوهم على أفكار هذا الرجل "أحمد خان بهادور". وكتب أحمد خان" تفسيرا2 على القرآن الكريم، فحرف الكلم عن مواضعه وبدل ما أنزل الله! "وأنشأ جريدة باسم "تهذيب الأخلاق" لا ينشر فيها إلا ما يضلل عقول المسلمين ويوقع الشقاق بينهم، ويلقي العداوة بين مسلمي الهند وغيرهم -خصوصا بينهم وبين العثمانيين- وجهر بالدعوة لخلع الأديان كافة، لكن لا يدعو إلا المسلمين!! ونادى: الطبيعة الطبيعة، ليوسوس للناس بأن أوروبا ما تقدمت في المدنية وما ارتفعت في العلم والصنعة   1 اسمه: تبيان الكلام" أخرجه في سنة 1862، وفسر فيه الإنجيل. 2 عمل في هذا التفسير من سنة 1880 إلى 1895م وانتهى فيه إلى سورة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وما فاقت في القوة والاقتدار، إلا برفض الأديان، والرجوع إلى الغرض المقصود من كل دين -على زعمه- وهو: بيان مسالك الطبيعة ... قد افترى على الله كذبًا! "ولما كنا بحيال الدين في الهند -في سنة 1879- أحسسنا من بعض ضعاف العقول اغترار بترهات الرجل وتلامذته، فكتبنا رسالة في بيان مذهبهم الفاسد وما ينشأ عنه من المفاسد, وأثبتنا أن الدين أساس المدنية وقوام العمران، وطبعت رسالتنا في اللغتين الهندية والفارسية "اسمها: الرد على الدهريين". "هؤلاء الدهريين ليسوا كالدهريين في أوربا، فإن من ترك الدين في البلاد الغربية تبقى عنده محبة أوطانه، ولا تنقص حميته لحفظ بلاده من عاديات الأجانب، ويفدي مصلحتها بروحه. أما أحمد خان وأصحابه، فإنهم كما يدعون الناس لنبذ الدين، يهونون عليهم مصالح أوطانهم ويسهلون على النفوس تحكم الأجنبي فيها، ويجتهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية ... لا لأجر جزيل ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دنيء ونفع زهيد، وهكذا يمتاز دهري الشرق عن دهري الغرب: بالخسة والدناءة، بعد الكفر والزندقة!! "1. ويقول السيد جمال الدين الأفغاني في عدد آخر من أعداد هذه المجلة2: " ... من هذا -من أسباب السياسة الأوروبية -لما سلك الإنجليز في الهند لما أحسوا بخيال السلطنة يطوف على أفكار المسلمين منهم، لقرب عهدها بهم، وفي دينهم ما يبعثهم على الحركة إلى استرداد ما سلب منهم، وأرشدهم البحث في طبائع الملل إلى أن حياة المسلمين قائمة على الوصلة الدينية، وما دام الاعتقاد المحمدي والعصبية الملية سائدة فيهم فلا تؤمن بعثتهم إلى طلب حقوقهم، فاستهووا طائفة ممن يتسمون بسمة الإسلام ويلبسون لباس المسلمين؛ وفي صدورهم غل ونفاق وفي قلوبهم زيغ وزندقة، وهم المعرفون في البلاد الهندية "بالدهريين والطبيعيين"! فاتخذهم الإنجليز أعوانا لهم   1 "العروة الوثقى" ص572-575. 2 ص 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 على إفساد عقائد المسلمين، وتوهين علائق التعصب الديني ليطفئوا بذلك نار حميتهم، ويبددوا جمعهم ويمزقوا شملهم، وساعدوا تلك الطائفة على إنشاء مدرسة عليكرة، ونشر جريدة لبث هذه الأباطيل بين الهنديين، حتى يعم الضعف في العقائد، وتهن الصلات بين المسلمين فيستريح الإنجليز في التسلط عليهم ... ". فحركة السيد أحمد خان، كانت تقوم على الافتنان بالعلم الطبيعي والحضارة الغربية المادية، كما يفتتن في عصرنا الحاضر بعض المفكرين بما يمسى "العلم" Science" وبالمركبات الحضارية التي قامت عليه. والافتتان بالعلم الطبيعي أو بالطبيعة كما يقال يؤدي إلى خفة وزن القيم الروحية والمثالية، وهي القيم التي تقوم عليها رسالة الأديان السماوية التي يمثلها الإسلام أوضح تمثيل، وقد يصير الافتتان بهذا العلم الطبيعي إلى إنكار كل قيمة أخرى مما لا يشاهد في الطبيعة ويدرك بالحس الإنساني. ومن هنا ربط السيد جمال الدين الأفغاني بين إلحاد السيد أحمد خان ومذهبه الدهري أو الطبيعي, مع بقاء انتسابه إلى الإسلام، ونعته بالإلحاد ... رغم ما كان يكرره "السيد أحمد خان" من القول بأنه يدافع عن الإسلام، وأنه يبغي أن يوجد طريقا للمسلم المعاصر، يوفق فيه بين إسلامه وتقبله الحياة العصرية التي قامت إثر نهضة العلم الطبيعي!! وقد نهج السيد أحمد خان في تفسيره القرآن الكريم، على تطبيق آياته على أساس طبيعي، مما يناقض تماما القول بالمعجزات وخوارق العادات، ولهذا جعل "النبوة" غاية تحصل وتكتسب عن طريق الرياضة النفسية، فهي غاية إنسانية طبيعية، وطريقها طريق إنساني غير خارق للعادة! ولكنه مع ذلك يقر ختم الرسالة الإلهية ببعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام. وفي شرحه لآيات القتال، أضعف من فرضية "الجهاد" في الوقت الحاضر. كما أنه في الآيات الأخرى الخاصة بـ"أهل الكتاب" عبر في غير لبس عن توهين الفجوة بين أهل الكتاب من جانب والمسلمين من جانب آخر!! وطلب التعاون بين المسلمين والغربيين، ودعا إلى ما أسماه "إنسانية الأديان" أي: المعنى الإنساني العام الذي تدعو الأديان السماوية إلى اعتباره وحفظه! وهو ما يشبه اليوم فكرة "العالمية" التي تتبناها اليهودية الرأسمالية والشيوعية الدولية؛ وقد كانت من قبل تلقب بالفكرة "الماسونية"! وفي هذه الفكرة تنمحي كل الفوارق بين الأوطان والقوميات والأديان والمذاهب!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولم يكن السيد أحمد خان داعية فقط لهذا التجديد، أو لهذه التقدمية في الإسلام، وإنما كان كذلك صحفيا ومؤلفا، ومدرسا ومشرفا على كلية علمية1 دينية "الكلية الإنجليزية الشرقية المحمدية" خرجت الكثير من شباب الهند التقدميين، وتحولت الآن إلى "الجامعة الإسلامية" في الهند بعد تقسيم سنة 1948م، وفيها تدرس المسيحية بالعناية التي يدرس بها الإسلام، مع أخذ حظ وافر من العلوم الحديثة والنظم الجامعية الغربية "الإنجليزية". ولهذا كان للسيد أحمد خان نفوذ سياسي تربوي، يقترن بنزعته التجديدية الدينية، أثرت بدورها فيما بعد في خلق المذهب "القادياني".   1 وقد افتتحت في مايو سنة 1875م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 - المذهب القادياني : بقيت تعاليم السيد أحمد خان وآراؤه ذات طابع إصلاحي، ولم تصطبغ بصبغة العقيدة والمذهب الروحي، فهمها بلغت من التأثير فسيبقى معها مجال للروح الإسلامية الصحيحة، حيث تظهر وتعمل عملها في تحديد العلاقة بين المسلمين وبين المستعمرين الصليبيين الغربيين الذي يطالبونهم بالولاء!! أدرك الإنجليز ذلك، وأحسوا مع نشاط السيد أحمد خان وأثر تعاليمه في خلق جماعة بين المسلمين تتشكك في القيم الإسلامية، وتنازل مواطنيها ومن هم على عقيدتها من المسلمين منازل الخصومة الفكرية، فتفرق الكلمة وتبعد مشكلة الاستعمار الأجنبي عن أن تكون موضوعا من موضوعات هذه الخصومة ولو إلى حين. أدركوا وأحسوا أنهم بحاجة إلى تعديل في الروح الأصيلة وفي موقفها من غير المسلمين، على أن يكون هذا التعديل -أو يصبح- مذهبا وعقيدة له سمة الإيمان والاعتقاد، بدلا من سمة الفكر والمنطق، بذلك تصبح الفجوة بين المسلمين أعمق وأطول مدى!! فإذا كان هذا التعديل لصالح الاستعمار فسيجد أعوانا من المسلمين أنفسهم على المسلمين، وتلك حالة مرغوب فيها لاطمئنان الاستعمار على مصالحه حينئذ فترة طويلة، إلى أن يجد عامل آخر أقوى من الدين نفسه يجمع الكلمة المفرقة، وينسى الخصومة في المذهب, والاتجاه الفكري، فقامت القاديانية1، وسجل   1 نسبة إلى ميرزا غلام أحمد القادياني "من قاديان بإقليم البنجاب", توفي سنة 1908م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 هذا المذهب رسيما في سنة 1900م، وله أتباع في البنجاب وأفغانستان وإيران، ولسان حال هذ العقيدة "مجلة الأديان" The Review of Religins" بالإنجليزية، التي تصدر كل شهر مرة في قاديان منذ 1902م. وصاحب هذا المذهب -وهو ميرزا غلام أحمد - ألف كتابا سماه "براهين الأحمدية" وخرج الجزء الأول منه سنة 1880م.. وفي هذا الجزء ادعى المؤلف أنه "المهدي". ويختلف هذا المذهب مع الإسلام الأصيل في جملة مسائل: - منها أن يقول: إن عيسى هاجر بعد أن بعث من موته الظاهري، إلى كشمير في الهند لينشر تعاليم الإنجيل في البلاد، وأنه توفي بعد أن بلغ من العمر 120 سنة، وأن قبره لم يزل موجودا هناك! ويدعي ميرزا غلام أحمد أنه "المهدي" ويذكر أنه حل فيه عيسى ومحمد على السواء، فهو نبي!. - ومن المسائل أيضا التي يفترق فيها الإسلام الصحيح عن القاديانية، مسألة "الجهاد في سبيل الله": فليس الجهاد في نظرها هو اللجوء إلى العنف باستخدام أدوات الحرب ضد غير المؤمنين، وإنما هو وسيلة سلمية للإقناع، وهكذا عملت القاديانية في هاتين المشكلتين على هذا النحو على تقريب شقة الخلاف بين المسيحية والإسلام أو على إدماج إحداهما في الآخر، ثم من جهة أخرى، أعلنوا إبطال الجهاد المعروف على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين!! وتبعا لرأيهم السابق أوقفوا العمل بمدلول هذه الآيات الكريمة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.   1 المائدة: 51. 2 المائدة: 55, 56. 3 المائدة: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ويقول "أبو الحسن الندوي" من كبار علماء الهند في كتيب له عنوانه: "القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام". " ... قد تحقق علميا وتاريخيا أن القاديانية وليدة السياسة الإنجليزية, فقد أهَمَّ بريطانيا وأقلقها حركة المجاهد الشهير السيد الإمام "أحمد بن عوفان الشهيد" "1842م" وكيف ألهب شعلة الجهاد والفداء، وبث روح النخوة الإسلامية والحماسة الدينية في صدور المسلمين في الربع الأول من القرن التاسع عشر المسيحي وكيف التف حوله وحول دعاته آلاف المسلمين، عانت منهم الحكومة الإنجليزية في الهند مصاعب عظيمة، وكانوا موضع اهتمامها. ثم رأت دعوة السيد "جمال الدين الأفغاني" تنتشر في العالم الإسلامي، كل ذلك رأته الحكومة الإنجليزية ودرسته، وعرفت أن طبيعة المسلمين طبيعة دينية، فالدين هو الذي يثيرها، وأن المسلمين لا يؤتون إلا من العقيدة والإقناع الديني، وما يكون له طابع ديني، واقتنعت أخيرا بأنه لا يؤثر في المسلمين وفي اتجاههم مثل ما يؤثر قيام رجل منهم باسم منصب ديني رفيع ويجمع حوله المسلمين ويخدم سياسة الإنجليز، ويؤمنهم من جهة المسلمين وعائلتهم، وفي شخص "ميرزا غلام أحمد القادياني" الذي كان مضطرب الأفكار والعقيدة وكان طموحا إلى أن يؤسس ديانة جديدة ويكون له أتباع مؤمنون ويكون له مسجد واسم في التاريخ مثل ما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- وجد الإنجليز وكيلا لهم يعمل بين المسلمين لمصلحتهم. ولم يزل يتدرج في التجديد إلى المهدوية.. ومن المهدوية إلى المسيحية، ومن المسيحية إلى النبوة.. حتى أتم ما أراد الإنجليز، وقام القادياني بدوره وبما كلف به خير قيام، وحماه الإنجليز ومكنوه من نشر دعوته. وحفظ القادياني هذه اليد، وعرف الفضل للإنجليز في ظهوره، وقد صرح في بعض كتاباته بأنه غرسٌ غرسته الحكومة الإنجليزية، كتب ذلك في التماسه الذي قدمه إلى حاكم مقاطعة البنجاب الإنجليزي في 14 فبراير سنة 1898م، وجاء نصه في كتاب: "تبليغ رسالته" من المجلد السابع لمير قاسم علي القادياني، وقد ذكر في مؤلفاته بكل صراحة -بل بكل وقاحة- ما يدين به للحكومة الإنجليزية من الولاء والوفاء، وما قدم لها من خدمة مشكورة، وإليك ترجمته: "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الإنجليز من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية، ومصر والشام وكابل"1. ويقول "أبو الحسن الندوي" في موضع آخر: "وبقيت الجماعة القاديانية في عهد مؤسسها وبعده معتزلة عن جميع الحركات الوطنية وحركة التحرير والجلاء في الهند، صامتة -بل شامتة- لما دهم العالم الإسلامي من رزايا ونكبات على يد المستعمرين الأوروبيين وعلى رأسهم الإنجليز مقتصرة على إثارة المناقشات الدينية، والمباحثات حول موت المسيح وحياته ونزوله، ونبوة ميرزا غلام أحمد، مما لا اتصال له بالحياة العامة، والمسائل الإسلامية، والحركات التي كانت مظهرا للغيرة الإسلامية والشعور السياسي في هذه البلاد". ويقول أيضا: "إن القاديانية تنشر في العالم الإسلامي الفوضى الفكرية, وعدم الثقة بمصادر الإسلام الصميمة ومراجعه وسلفه، وتقطع صلة هذه الأمة عن ماضيها وعن خير أيامها وأفضل رجالها، وتفتح باب الأدعياء والمتطفلين على مصراعيه وتسيء الظن بقوة الإسلام وحيويته وإنتاجه وتيئس المسلمين من مستقبلهم".   1 من كتاب "ترياق القلوب" ص15 تأليلف ميرزا غلام أحمد القادياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الأحمدية : وانشقت القاديانية -بعد نشأتها بقليل- إلى شقين، وتفرع عنها ما يعرف باسم "الأحمدية"، أو "جماعة لاهور"، وزعيما هذا الفرع: "خواجة كمال الدين" و"مولاي محمد علي" ولهذا الفرع نشاط كبير في الخارج، في آسيا وأوروبا، وقد انتهى مولاي محمد علي من ترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية في سنة 1920م، وألف كتابه "الإسلام" في 1936م، ويبلغ عدد الأحمدية نحو نصف مليون، منهم ستون ألفا في الهند. والفرق بين "القاديانية" الأصلية وبين هذه الشعبة التي تعرف باسم "الأحمدية" أو باسم "جماعة لاهور": أن هذه الشعبة تنظر إلى "ميرزا غلام أحمد" مؤسس المذهب على أنه مصلح ديني فقط, بينما تنظر إليه القاديانية على أنه نبي مرسل. ففي كتاب "حقيقة النبوة" لميرزا يشير أحمد الخليفة الثاني: أن "غلام" أفضل من بعض أولي العزم من الرسل "ص257"، وفي صحيفة الفضل "المجلد الرابع عشر 29 أبريل سنة 1927م": أنه كان أفضل بكثير من الأنبياء، ويمكن أن يكون أفضل من جميع الأنبياء، وفي صحيفة الفضل "المجلد الخامس": "لم يكن فرق بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلاميذ ميرزا غلام أحمد إلا أن أولئك رجال البعثة الأولى وهؤلاء رجال البعثة الثانية" وفي عدد 92 بتاريخ 28 مايو سنة 1918م من الفضل "المجلد الثالث": "ميرزا هو محمد -صلى الله عليه وسلم، وهو مصدق القرآن الكريم: اسمه أحمد". وبمساعدة الأخير للحركة التقدمية التي قام على الدعوة إليها سير "أحمد خان"، وكذا للمذهب القادياني الذي أسسه "ميرزا غلام أحمد" شهدت الهند الإسلامية -أو شهد العالم الإسلامي كله- فرقة أخرى في التوجيه والعقيدة بين المسلمين، كما شهد مظهرا فكريا إسلاميا تبناه الإنجليز لمصلحة الاستعمار الغربي إذ لا شك أنه عمل عقلي إنساني انطوى على محاولة جديدة طويلة المدى، صعبة المركب، لتغيير اتجاه الجماعة الإسلامية إلى ما لم تألفه، وإلى غير ما درج عليه اعتقادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المستشرقون ... والاستعمار مدخل ... المستشرقون ... والاستعمار: الصورة الثانية من صورتي اتجاه حماية الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية: يحكمها عمل المستشرقين، وتصوراتهم للإسلام وشرحهم لمبادئه، وبعثهم لخلافات المسلمين الماضية، وخلقهم خلافات أخرى لا يلتفت إليها المسلم، بعد ما صهر الإسلام علاقته بأخيه المسلم، وكون منها وحدة عديدة الحلقات والروابط. وينطوي عمل الدارسين للإسلام من المستشرقين على نزعتين رئيسيتين: - النزعة الأولى : تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وتمهيد النفوس بين سكان هذه البلاد لقبول النفوذ الأوربي والرضاء بولايته. - النزعة الثانية: الروح الصليبية في دراسة الإسلام، تلك النزعة التي لبست ثوب البحث العلمي، وطلاها خدمة الغاية الإنسانية المشتركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 النزعة الأول: أما مظهر النزعة الأولى فيتجلى: أولا: في إضعاف القيم الإسلامية. ثانيا: في تمجيد القيم الغربية المسيحية. - وإضعاف القيم الإسلامية: عن طريق شرح تعاليم الإسلام ومبادئه شرحا يضعف في المسلم تمسكه بالإسلام، ويقوي في نفسه الشك فيه كدين، أو على الأقل كمنهج سلوكي يتفق وطبيعة الحياة القائمة. فهذا "رينان" الفرنسي ... يصور عقيدة التوحيد في الإسلام بأنها عقيدة تؤدي إلى حيرة المسلم، كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك، على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 حين أن عقيدة التوحيد مزية الإسلام، وآية على أنه الرسالة الكاملة الواضحة لخالق الكون في كونه، كما أنها الطريق السليم والوحيد إلى رفع شأن الإنسان وتكريمه؛ لأن صاحب هذه العقيدة لا يخضع في حياته لغير الله، ولا يتوجه في طلب العون إلى غير الله سبحانه وتعالى. ولكن رينان يقول، متحدثا عن عقيدتي القدر والاختيار: المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر، والمغفرة والحساب وهي كلمات ثلاثة مصبوغة بصبغة دينية تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة المسلك في تفهمها. مع أنها من الأمور التي ينبغي الوقوف عليها والعلم بها مهما صعب منالها وتعذر مرامها. إن الدين هو الوسيلة التي تمهد للإنسان طريق الوصول إلى الحضرة الإلهية، أو بعبارة أخرى الواسطة في وقوف المخلوق بين يدي الخالق". "إذا تقرر ذلك، فهل الخالق بقدرته المطلقة يودع في نفس المخلوق استعدادا للعمل بمقتضى إرادته السرمدية، بحيث لا يحيد عما تأمره به هذه الإرادة؟ أم للإنسان متى تم خلقه إرادة خاصة يعمل بحسبها، واختيار مستقل لا يستمد من اختيار أسمى منه؟ وهل للإنسان الذي خلقه الله وسواه إرادة مطلقة من نفسه وتصرفه مطلق في ذاته؟ أم تجرع جميع أعماله من خير وشر إلى القدرة الربانية القابضة على زمام الكون، والمسببة لوجوده فيه؟ ". وفي دائرة هذا البحث، تنحصر الخلافات الدينية والفلسفية التي لم يوفق دين من الأديان ولا مذهب فلسفي إلى حسمها بكيفية يقتنع بها الإدراك ويرضاها العقل، ومع أن البحث فيها لإصابة هذا الغرض السامي لم يكن بالأمر الحديث، إذ طالما بحث فيها فلاسفة الأقدمين فلم يجدوا لها حلا، وكان حظهم منها كحظ فلاسفة المتأخرين وعلمائهم. "وغاية ما عرف منذ الأعصر السابقة إلى الآن أنه وجد مذهبان تشاطرا فيما بينهما العقائد البشرية من تلك الوجهة المهمة: فالأول منهما يقول بتناهي الربوبية في العظمة والعلو وجعل الإنسان في حضيض الضعف ودرك الوهن، ويذهب الثاني إلى رفع مرتبة الإنسان وتخويله حق القربى من الذات الإلهية بما فطر عليه من إيمان وإرادة وبما أتاه من أعمال صالحات وحسنات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 "والنتيجة الطبيعية للاعتقاد بمذهب الفريق الأول هي: تحريض الإنسان على إغفال شئون نفسه وبث القنوط في فؤاده وتثبيط همته وإيهان عزيمته، بينما تسوقه نتيجة الاعتقاد بمذهب الفريق الثاني إلى ميدان الجلاد والعمل وتلقي به في غمرات التنافس الحيوي، ومن الأمثلة على الفريقين: البوذيون الذين يتدينون بدين يقضي عليهم بالتجرد. إذ من قواعده أن الإنسان والكون يفنيان في الذات الإلهية ... وقدماء اليونان الذي يدينون بدين من قواعده تشبيه الإله بالإنسان في أوصافه المادية، ويقضي عليهم هذا الدين بالعمل والحياة لاعتقادهم بأن الإنسان أو "البطل" يمكنه أن يصير في عداد الآلهة بحسناته وخيراته. "وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمائة عام من انقضائه ديانتان: إحداهما ربانية، والثانية بشرية، تمثلان ذينك المذهبين المتناقضين، ولكن بتلطيف في التناقض. أما الأولى "الديانة الربانية": في الديانة المسيحية الوارثة بلا وساطة آثار الآريين1 والمقطوعة الصلات بالمرة مع مذهب السامية وإن كانت مشتقة منه وغصنا من دوحته، ومن خصائص هذه الديانة "المسيحية" ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية "البشرية" وهي الإسلام، المشوبة بتأثير مذهب السامية، تنحط بالإنسان إلى أسفل الدرك وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له. "هذان الميلان المختلفان يظهران ظهورا واضحا في الاعتقاد الأساسي لكلتا الديانتين: وهو أصل الألوهية، أما المسيحي: فيذهب في الأصل إلى الثالوث أي: إن الإله الأب أوجد الإله الابن واتصل الاثنان بصلة هي روح القدس، وعليه فكون يسوع المسيح إلها وبشرًا..هذا الثالوث السري، المشتقة أصوله من ضرورة إله بشري يمحو ذنب الجنس البشري ويفديه من الخطيئة التي اقترفها: يرفضه المسلم الذي يعتقد بوحدانية الرب، ويتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا شديدًا حيث يقول: لا إله إلا الله!! "غير أن إدراك المسيحيين من هذا القبيل هو أخف وأعلى وأجلب للثقة، إذ هو يحملهم على إتيان الأعمال التي تقربهم إلى الله حيث الوسائط بينهم وبين ذاته العلية موصولة، في حين أن المسلمين تجعلهم ديانتهم كمن   1 أليست البوذية ديانة الآريين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 يهوي في الفضاء بحسب ناموس لا يتحول ولا يتبدل ولا حيلة فيه سوى متابعة الصلوات والدعوات والاستغاثة بالله الأحد الذي هو مستودع الآمال! ولفظة الإسلام معناها: "الاستسلام المطلق لإرادة الله". "ترى الديانتين، أو بعبارة أخرى المدنيتين: المسيحية والإسلامية، إحداهما بإزاء الأخرى، وتتصل الاثنتان بعضهما ببعض من حيث المنشأ العام لهما إذ هما مشتقتان من الأصول اليونانية والسامية، ومنهما استمدتا جانبا من العقائد والمذاهب والآداب, فهما إذن متداخلتان من وجوه عدة، ولكن مسافة الخلف بينها شاسعة في الحقيقة: من حيث البحث في القدرة الإلهية والحرية البشرية"1. كتب هذا رينان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان يظن أن العقلية العلمية أو الطريق العلمي -الذي تدعي العقلية الغربية المعاصرة أنه من مفاخر القرن العشرين؛ لأنها تزعم أنها لا تخضع في بحث المسائل, وإصدار الأحكام لأثر حزبي أو مذهبي أو عاطفي، أو نحو ذلك مما يتأثر بها الإنسان العادي أو البدائي في أحكامه- كان يظن أن هذا القرن العشرين لا يصدر فيه تصوير مثل تصوير رينان للتثليث المسيحي مرة، وللتوحيد الإسلامي مرة آخرى! ولكن مجلة "The Muslim World"2 تردد هذا المعنى في شرح آية {إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فتقول ما ترجمته: "إن إله الإسلام متكبر جبار مرتفع عن البشرية يطلب أن يسير العابد نحوه بينما إله المسيحية عطوف متواضع يتودد للناس، فظهر في صورة بشر -وذلك هو الإله الابن- فعقيدة التثليث في المسيحية قربت الإنسان من الإله: وأعطته نموذجا رفيعا واقعيا في حايته يسعى ليقترب منه ... أما عقيدة التوحيد فباعدت بين الإنسان والإله، وجعلت الإنسان متشائما من شدة الخوف منه، ومن جبروته وكبريائه ... "‍!   1 تاريخ الإمام: ج2 ص407 -409. 2 عدد أكتوبر سنة 1955، التي يصدرها دكتور Crayg مدير مؤسسة Hartford للدراسات الدينية والشرقية بالولايات المتحدة الأمريكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وهذا مبدأ "الزكاة".. يفسره مستشرق على النحو الآتي: "إن الأموال المادية - في نظر الإسلام- هي من أصل شيطاني نجس ويحل لمسلم أن يتمتع بهذه الأموال شريطة أن يطهرها، وذلك بإرجاع هذه الأموال إلى الله"1. ويظهر أن الشارح أخذ من قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} 2 أي: إن الأموال نجسة في أصلها، وإذن فالزكاة وسيلة تطهيرها وبذلك فهم التطهير فهما حرفيا أو حسيا! وهذا الفهم الذي ذكره صاحب هذا الكتاب لمعنى الزكاة هنا، وبالتالي لموقف الإسلام من المال على أنه رجس، يردده غيره من المسيحيين القائمين على الدراسات الإسلامية في الوقت الحاضر، ففي العدد رقم 80 للسنة الثامنة والثمانين لصحيفة "The Montreal Star" بتاريخ 5 إبرايل سنة 1956م، تحدث أب دومنيكاني يقيم في مصر -وكان يقوم بإلقاء محاضرات عن علم الكلام الإسلامي بجامعة منتريال- عن النظرة الإسلامية في الحياة فقال: "إن المسلمين يتجنبون الناس الذي يشتغلون بالمال، ويعتبرونهم أقرب للكلاب منهم للبشر". ومثل هذا التصوير لموقف الإسلام من المال، في شعب كالشعب الأميريكي مادي النزعة، يسيء للإسلام والمسلمين أيما إساءة. ويشرح الاستشراق المبدأ الإسلامي عن الزوجية -وهو مبدأ "قوامة الرجل على المرأة"- بفكرة التفوق "Superiority" ويجعل منه أمارة على نظرة الإسلام إلى وضع كل من الرجل والمرأة في الحياة، فهو يسمو بالرجل إلى ذروة الرفعة بينما يهبط بالمرأة إلى هاوية الضعة!! أما "طاعة" المرأة للرجل فتعرض على أنها نوع من الإزلال، وسبب لغرض الرق والعبودية على نصف البشرية ... إلى غير ذلك مما يترتب على هذا الشرح المغرض.   1 كتاب: دراسة عن الإسلام في إفريقيا السوداء: لمؤلفه فليب فونداسي. 2 التوبة: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ويفترض اللورد كرومر في كتابه "مصر الحديثة": أن الرجل المسلم يتمسك بالإسلام أشد من تمسك المرأة المسلمة بالإسلام! ويعلل هذا الافتراض -على أنه ظاهرة في الحياة الإسلامية- بأنه يرجع إلى اختلاف وضعية كل من الرجل والمرأة في الإسلام، على النحو المشار إليه من قبل. ويشرح المستشرقون مبدأ الإسلام في "عدم قبول المسلم لولاية الأجنبي" بفكرة عدم التعاون مع الشعوب الأخرى، أو بفكرة النفرة من رياسة غير المسلم ولو كان ذا كفاية أو أهلية للرياسة والتوجيه أكثر من المسلمين أنفسهم! أما "الجهاد": فهو عند هؤلاء فكرة الاعتداء نفسها، أعطاها الإسلام صبغة شرعية ودينية، كي يدفع بها السلم لمهاجمة غير المسلم في وقت أمن فيه على نفسه وعرضه وماله! إنها فكرة الغدر أو تشجيع العدوان، ولهذا الشرح أثر سيئ إلى أقصى حد في علاقة الشعوب الغربية بالمسلمين، وفي تصورهم لحياة المسلم وأهدافه في الحياة. وهكذا يرى القوم في مبدأ "عدم زواج المسلمة بغير المسلم" فكرة العنصرية القائمة على تمييز الشعوب بعضها على بعض، بدافع العصبية الكريهة أو بدافع الغرور، دون أن يكون هناك مبرر واقعي أو منطقي لهذا التمييز! وفكرة "العودة إلى القرآن الكريم".. التي نادى بها ابن تيمية، وتابعه فيها غيره من المصلحين بعده ... لدفع ما ساد من عصبية جاهلية للمذاهب الكلامية والفقهية، وما ترتب على ذلك من انقسام المسلمين إلى طوائف انقساما واضحًا! نادى ابن تيمية بها تطبيقا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1. وهذه الفكرة ترمي في نظره أولا إلى عدم تحكم الخلافات المذهبية والشروح العديدة المختلفة لتعاليم الإسلام من ظاهرية وباطنية وصوفية وفقهيه إلى غير ذلك في توجيه المسلمين، وترمي ثانيا إلى العودة إلى صفاء التعاليم الإسلامية وبساطتها قبل تعقيدها بالشروح المغرضة أو القائمة على تعسف وعدم استقامة في تخريجها ... وبهذا وذلك   1 النساء: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يمكن للجماعة الإسلامية أن تعود إلى الوحدة أو على الأقل إلى التماسك أو عدم التضارب في الآراء والسياسة. ولكن المستشرقين عندما وقفوا على هذه الفكرة ورأوا أثرها الإيجابي في حياة الجماعة الإسلامية المقبلة لو سارت في طريقها الصحيح المرسوم لها، مالوا بها عن هذا الطريق، وشرحوها بأن معنى العودة إلى القرآن وإلى عصر الصحابة الأول -رضوان الله عليهم- هو الرجوع إلى الحياة البدائية التي كانت للجماعة الإسلامية الأولى: فهي عندهم ليست سوى جماعة بدائية! ثم تراهم ينكرون على من يقول بهذه الفكرة أن يدعو إلى الإصلاح، إذ الإصلاح في نظرهم هو التطور، هو الأخذ بأساليب المدنية الحديثة والقوانين المعاصرة وأسلوب الحكم الحديث، فإذا طلب إنسان العودة إلى العهد البدائي والأساليب البدائية باسم الإصلاح، فهو إما مدع للإصلاح، أو غير فاهم لمعنى الإصلاح! وإذا ترك أصحاب الدراسات الإسلامية من المستشرقين دائرة شرح المبادئ الإسلامية بما يحرفها ويشوه هدفها على هذا النحو، فإنهم يتركونها إلى جانب آخر رئيسي في الحياة الإسلامية وفي صلات المسلمين بعضهم ببعض.. إنهم يتركون هذه الدائرة لينتقلوا إلى مجال العلاقات بين الشعوب الإسلامية، ليذكوا الفرقة القائمة، وليثيروا أسباب أخرى للقطيعة وعدم الاتصال. فيتحدثون عن الكرد والعرب في العراق، وعما بين الجنسين من فوارق في تصور الحياة وفهم العقيدة والأماني القومية. وعلى هذا النحو يتحدثون عن المفارقات بين العرب والبربر في شمالي إفريقيا، وبين سكان الشمال وسكان الجنون في السودان، وبين السنة والشيعة في بغداد أو في إيران والبلاد الإسلامية الأخرى، وعلى الأخص يتحدثون عن العداء بين شعب الجزيرة العربية, وما يسود فيها من مذهب محمد بن عبد الوهاب من جانب، وشعبي العراق وإيران وما يسود فيهما من اتجاه شيعي من جانب آخر.. يتحدثون عن الفجوة بين الحكومات والسياسات في الدول الإسلامية ... إلخ إلخ. وإذا أكدوا ذلك باسم علم الأجناس، أو باسم طبيعة الشعوب، فإنهم يخلقون هوة أخرى في الإسلام باسم تباين البيئة الجغرافية والعوامل الثقافية القديمة للشعوب الإسلامية، فالإسلام في نظرهم ليس واحدا وإنما هو متعدد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كان واحدا أيام الفترة البدائية -هكذا يقولون- التي نزل فيها الوحي وتوقف فيها المسلمون عن الشرح وسلموا أمرهم لمبدأ "التفويض" وركزوا جهودهم للإيمان والطاعة، ولكن بعد أن تدخل المسلمون بالشرح، وأدخلوا ثقافتهم القديمة ونزعاتهم الموروثة في شرح القرآن وتعاليم الإسلام، لم يعد الإسلام دينا واحد1. بل هو ديانات إسلامية متعددة، وكلها ديانات ليس لها الطابع الإسلامي بل ليس لها الاعتبار الديني الإسلامي كذلك فهناك إسلام الهند، وإسلام تركيا، وإسلام البربر في شمالي إفريقيا، وإسلام مصر، وإسلام الملايو، وإسلام أندونيسيا وإسلام الصحراء الكبرى وإفريقيا السوداء.. وكل إسلام يختلف عن الآخر، ولكل اعتباره، والجميع مسلمون، وأفهامهم في الإسلام أفهام صحيحة، إذ كلهم أخذ بالمصادر الإسلامية وآمن بالرسالة المحمدية..هكذا يستطرد منطقهم. وفي هذا الشرح يدخل -بجانب إيجاد ثغرات وفجوات بين المسلمين بعضهم البعض- عامل آخر: وهو عامل التأثر بالمسيحية وبالاتجاه المسيحي. فكثير من العلماء المسيحيين يرون أن المسيحية دين فردي، أو دين شخصي، أو أنه يتكيف حسب الفرد ويتأثر بشخصه، أي: ليست المسيحية دينا يتكون من مبادئ، وإنما هي شعور فردي، وإحساس شخصي بالأصول المقدسة. إن الوحي المسيحي ليس كتابا يتلى ويشرح، بل هو "عيسى" نفسه تستحضر صفاته ويقتدى به في نفس المؤمنين حسب اختلافهم في إدراك هذه الصفات، وحسب اختلافهم في تحديدها، فالمسيحية -لأنها إحساس وشعور فردي- ليست واحدة في التصور والتبعية، ومع ذلك فالمؤمنون بعيسى جميعا مسيحيون مهما اختلفوا فيما بينهم. وبهذا التصور للمسيحية تأثر هؤلاء في الحكم على الإسلام، بالإضافة إلى الرغبة في إضعاف القيم الإسلامية وتفريق المسلمين، ولذلك لم يروا أن تاريخ الجماعة الإسلامية هو تاريخ لعلاقة المسلمين في أزمنتهم المختلفة بالإسلام الذي تحددت أصوله واستقرت مبادئه بانتهاء الوحي المحمدي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 2 ولم يفهموا أن الزمن الذي يمر بالمسلمين هو زمن يمر على علاقتهم بالإسلام   1 يروج هذه الفكرة المستشرق الكندي Wilfred Smith في كتابه: "الإسلام الحديث في الهند" باللغة الإنجليزية في سنة 1946. 2 المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وليس على الإسلام كدين وكرسالة من رسالات السماء.. بل جعلوا الإسلام نفسه يتطور، ويضيف جديدا إلى مبادئه بمرور الزمن، تحت تأثير الأحداث المحلية والعالمية، ومن هنا ينصحون المسلمين بعد التمسك بالماضي البعيد أو القريب في تاريخ الإسلام، وإنما عليهم أن يصوغوا الإسلام صياغة جديدة، ويبلوره في صورة تلائم المدنية الإنسانية القائمة، إذ ما صلح للماضي لا يصلح للحاضر؛ لأن صلاحيته كانت مؤقتة ومقيدة بظروف العهد الذي ولى!! والمدنية الإسلامية في تطورها هي التي تملي على المسلمين تكييف الإسلام. ومعنى ذلك أن الإسلام الأول -ومنه فهم المسلمين الأول للقرآن- قد انتهى اعتباره، والزمن وحده هو العامل الأساسي في صياغة الإسلام صياغة جديدة، وفي جعل المسلمين يسايرون المدنية الحديثة، بما فيها من قانون، ومثل عليا للحياة، ونظم للحكم، وأسس لبناء الجماعة وعلاقة الشعوب بعضها ببعض، والإسلام كدين ليس مبادئ إذن، بل هو مجرد نزعة إلى تحسين الإنسان والعمل على صفاء نفسه. وكما أن الإسلام ليس واحدا، إنما هو متعدد حسب تعدد شعوبه وحسب اختلاف العوامل الثقافية التي تأثر بها مسلمو هذه الشعوب في فهم القرآن. كذلك هو متعدد حسب طوائف المسلمين, فهناك إسلام المتصوفة وإسلام الفقهاء، ومتعدد حسب مصادره, فهناك إسلام القرآن الذي يختلف عن إسلام الحديث والسنة، ويجب أن يمنح الاعتبار للجميع، مع ما قد يكون -وكثيرا ما يكون- بين بعضها بعضا من اختلاف يصل إلى درجة التناقض، إذ إن جميع هذه الأنواع من الإسلام حقائق تاريخية سجلها التاريخ للمسلمين في صلتهم بدينهم وهو الإسلام. وهاتان الفكرتان: وهما فكرة تجدد الإسلام تبعا لأحداث الزمن وتوقيت بعض أحكامه ومبادئه، وفكرة تعدده كديانات حسب الشعوب المؤمنة به أو حسب طوائفه ومصادره, فكرتان لهما كثير من السيادة والسلطان على اتجاه كثير من المسلمين اليوم في مصر وخارج مصر في البلاد الإسلامية، وبلغ من تأثيرهما على متعلمي الشرق الإسلامي أن وجدنا عددا من المشتغلين بعرض الثقافة الإسلامية يروج لهما، ويدعو إليهما بطرق متعددة. وتكييف المستشرقين الإسلام على أنه نزعة روحية إلى تحسين الإنسان والعمل على صفاء نفسه، يستتبع أيضا إبعاد الإسلام عن مجال علاقات الأفراد بعضها ببعض في نظام عام، يعبر عنه بالدولة أو الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أو الحكومة، ولو وجد اليوم بين الكتاب المسلمين من يقرر أن الإسلام بعيد عن أن توجد فيه هيئة للإرشاد الديني توفرت على دراسة الإسلام؛ لأنه دين شخصي لا هيمنة فيه لشخص على آخر, لو وجد في هذا النوع من الكتاب لم يكن إلا مرددا لفكرة دعا إليها الاستعمار وتسربت من الفهم المسيحي بوساطة بعض الدارسين للإسلام من المستشرقين. - أن فكرة إبعاد الإسلام عن مجال العلاقات بين الأفراد ... من وحي الاستعمار. - وأن فكرة توقيت الجهاد بعهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعهد صحابته، أو فكرة إلغائه اليوم ... فكرة استعمارية. - وأن فكرة أن الظروف الدولية تدعو المسلم إلى الولاء لغير المسلم، وإلى رضائه بحكومته فكرة استعمارية. - وأن فكرة أن الإسلام نفسه يتجدد ويخضع لعامل الزمن في تطوره ... فكرة استعمارية. وتستتبع هذه الفكرة عدم التقيد بتعاليم الماضي جملة في تكييف الحاضر. - وأن فكرة أن الإسلام -كدين- يتعدد بتعدد شعوبه وأجناسه.. بتعدد مصادره ... فكرة استعمارية. - وأن فكرة أن الإسلام دين فردي شخصي لا يصح أن يتدخل في علاقات الأفراد بعضهم ببعض.. فكرة مسيحية استعمارية. وهي تستتبع ما يقال من وجوب الفصل بين ما يسمى دينا وبين ما يسمى دولة. - وأن تأسيس مبدأ الإسلام في عدم زواج المسلمة بغير المسلم على فكرة العنصرية.. ومبدأ الجهاد في سبيل الله على نزعة الميل إلى الاعتداء والغزو.. ومبدأ قوامة الرجل على المرأة في الأسرة على فكرة التفوق الجنسي.. وأمثال ذلك من صنع الاستعمار، وأثر من آثار التمهيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الرضاء بحكمه، بعد ضياع الشخصية الإسلامية، وصهر مجموعة الشعوب الإسلامية فيما يسمى "بالعالمية" أو الإنسانية الدولية. هذا بعض ما كان من شأن إضعاف القيم الإسلامية والتيئيس من التضامن والتكتل الإسلامي، كمظهر من مظهري النزعة الأولى في الفكر الإسلامي في صلته بالاستعمار الغربي، وهي نزعة تمكن للاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية. أما المظهر الآخر لهذه النزعة، وهو مظهر تمجيد القيم الغربية المسيحية في الفكر الإسلامي الحديث نتيجة لصلته بالاستعمار الغربي. فالسبيل إلى الوقوف عليه ما تراه من إبراز التفوق الغربي في الصناعة، وزيادة الدخل الخاص والعام الناشئ عن هذا التفوق ... تلك الزيادة التي ترتب عليها رفع مستوى المعيشة وتيسير أمر الحياة الإنسانية لدى الغربيين. هذا التقدم الصناعي هو المنفذ، أو النقطة التي يبتدئ منها الغربيون في التدلل على رجاحة التوجيه الغربي، وعلى سمو مقاييس الحياة الغربية في السلوك الفردي والعادات الاجتماعية، وعلى أصالة القيم المسيحية، وقوة صلتها بتحرير الإنسان من الجهل والفقر والمرض، وقوة صلتها كذلك بانطلاق الإنسان في الحياة من غير خوف أو وجل! والحضارة المادية الصناعية ... هي إذن عنوان هذه القيم!! ومنطق ذلك: أن تخلف المسلمين في مجال هذه الحضارة دليل على تخلف الإسلام في قيمه ومبادئه، وعلى إذلاله الإنسان، وتقييده في السير في هذه الحياة، طبقا لعقيدة الجبر فيه! ما هي القيم المسيحية ذات الأثر الإيجابي في هذه الحضارة الصناعية؟ أين هذه المبادئ والقيم المسيحية في عرف كثير من هؤلاء العلماء الدارسين للثقافة الإسلامية؟ ليست إلا "شخص عيسى" يستوحي منه السلوك الخلقي في هذه الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فليست هناك صلة بين المسيحية كدين وبين هذه الحضارة الصناعية الغربية المادية، إلا أن المباشر لهذه الحضارة يعتنق المسيحية وينتسب إلى الشعوب المسيحية، وليست المسيحية دينا للحضارة الإنسانية، وإنما هي دين للسلوك الفردي في الحياة الإنسانية. ولكن تمجيد القيم الغربية المسيحية على هذا النحو، وبهذا الربط من علماء المسيحية الدارسين للإسلام، والعارضين لمبادئه في الصور السابقة -أوجد صدى في حياة المسلمين وفي نفوس بعض الكتاب والمفكرين من المسلمين، فالحديث عن العلم Science وعن الطريقة العلمية، والدعوة إلى مسايرة خطواته مقترنة بالتقليل من قيمة التراث الماضي -وهو التراث الإسلامي- ينبئ عن هذا الأثر. العلم يدعو إليه الإسلام وتدعو إليه الحياة نفسها، ولكن اقتران الدعوة إلى العلم بالغض من قيمة الإسلام آية على أن منطق ربط الحضارة الصناعية الغربية بالقيم المسيحية أخذ طريقه في الحياة الإسلامية، وعلى أن المقابل لهذا الربط: وهو أن تخلف المسلمين إنما هو لتخلف مبادئ الإسلام وبدائيتها, له وزنه وأثره في توجيه الفكر الإسلامي الصادر من المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 النزعة الثانية : أما النزعة الثانية في دراسة الغربيين للإسلام والثقافة الإسلامية, وهي تأكيد الروح الصليبية فتتضح أيما وضوح في كتابة المستشرقين الفرنسيين! فكتاباتهم لا تنبئ فحسب عن ميل لإضعاف المسلمين، بل تنم عن حقد على المسلمين، وعن سخرية وتهكم برسول الله -صلى الله عليه وسلم، وررسالته الإلهية. نعم ... قام أساس الاستشراق على أن الإسلام من صنع محمد، فالإسلام دين بشري، وعلى أن الرسول لفق فيه من المسيحية واليهودية، وأنه حرف في نقله تعاليم هاتين الديانتين؛ إما لأنه لم يستطع فهمها كما يذكرون؛ وإما لأن نفسه لم ترتفع إلى مستوى عيسى حتى يستصوره على حقيقته، ولذلك أنكر محمد على عيسى أنه ابن الإله، وبالتالي أنكر التثليث، وتشبث بالتوحيد وببشرية الرسول. نعم: قام الاستشراق على مثل هذا الأساس، ولكن المستشرقين يختلفون فيما بينهم في تصوير آرائهم، وفي تقرير شروحهم لمبادئ الإسلام، وأشدهم حدة وعاطفة وهوى جامحا، وحيدة عن أدب الكتابة، فضلا عن البعد عن الأسلوب العلمي في الدراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 والحكمة، مستشرقو فرنسا، ومستشرقو الكثلكة على العموم في أوروبا وأمريكا. ولو فتشنا عن السبب لوجدناه في احتضان فرنسا للكثلكة، وفي زعماتها للحملات الصليبية الماضية لاسترداد بيت المقدس من البرابرة "المسلمين". فروح الصليبية لم تزل حية في نفوس الفرنسيين، ولم يزالوا يصدرون عنها في أحكامهم عن الإسلام والمسلمين، وفي معاملاتهم للمسلمين كذلك. الخاضعين لاستعمارهم أو لسيطرتهم بوجه ما، وفي توجيه سياستهم نحو المسلمين الخارجين عن نفوذهم! لم أر في دراستي للاستشراق حتى الآن مسيحيا بروتستنتيا عالج التراث الإسلامي بأسلوب الكاثوليكي، ولا بروحه الحاقدة الجامحة! يقول "كيمون" المستشرق الفرنسي في كتابه "باثولوجيا الإسلام": "إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا، بل هي مرض مريع، وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء، ويدمن على معاقرة الخمور ويجمح في القبائح، وما قبر محمد إلا عمود كهربائي يبعث الجنون في رءوس المسلمين، ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع العامة والذهول العقلي، وتكرار لفظة "الله" إلى ما لا نهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى الطباع أصيلة: ككراهة لحم الخنزير والنبيذ، والموسيقى، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في الذات ... "1. هذا الاتجاه من اتجاهي الفكر الإسلامي الحديث في صلته بالاستعمار الغربي: هو الاتجاه الممالئ للاستعمار والممهد لحكمه والرضاء به، سواء أكان من المسلمين أنفسهم أو من غيرهم؛ لأن تفكير غير المسلمين في هذا الاتجاه لم يبق منفصلا ولا بعيدا عن العقلية الإسلامية داخل البلاد الإسلامية. بل كان أهم رافد لتبلور هذا الاتجاه نفسه بين المسلمين، وأن الحديث عن   1 تاريخ الإمام: ج2 ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الاستشراق إذن هنا حديث عن خطر نفذ إلى المسلمين، ووجد أعوانا له من أرباب الفكر والقلم والعلم والسياسة في الشعوب الإسلامية ... ويكاد يكون هو العامل الموجه لما نسميه بـ"الفكر الإسلامي الممالئ للاستعمار الغربي". هناك مصدر آخر لم أشأ الحديث عنه الآن. أنه كتب الرحلات التي كتبها الرحالون المسيحيون المتجولون في الديار الإسلامية، فهذه الكتب كتبت بأسلوب تهكمي، وروح قصصية اختراعية، تغذي خيال الشعوب المسيحية الغربية والأمريكية، ولها أثرها السلبي في تصوير الإسلام والمسلمين -وهو أثر قوي- على هذه الشعوب! ولم أشأ الحديث عن هذه الكتب؛ لأن صلتها- كمظهر داخل البلاد الإسلامية- بالفكر الإسلامي واهية؛ ولأن أغلبها غير معروف للمسلمين حتى الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي مقاومة مزدوجة ... مقاومة مزدوجة: لم يستطيع الاستعمار الغربي أن ينفرد بالتوجيه داخل الشعوب الإسلامية, رغم ما بذله في سبيل تفرده بذلك من مال وسلطة ودهاء في السياسة، وتبشير بالفكر الأوروبي وبالمسيحية، وتيئيس للمسلمين في صور شتى: في مستقبلهم، وفي علاقتهم بإسلامهم.. بل وجد مقاومة له ومعارضة لذلك الاتجاه الفكري الذي خلقه أو أوصى به. أخذت المقاومة للاستعمار الغربي طابعا سياسيا، ولكن قامت على توجيه إسلامي وعلى فكر إسلامية أصيلة. وتكون من هذا التوجيه، وهذه الفكر الإسلامية الأصيلة معا، ما نسميه: "بالاتجاه الفكري الإسلامي المقاوم للاستعمار الغربي". ولكان لا بد لهذا الاتجاه أن ينقد الاتجاه الآخر المقابل له، وينقد عناصره الفكرية: سواء من الوجهة المنطقية الإنسانية، أم من الوجهة الإسلامية، وفي الوقت الذي يقوم فيه بالنقد كان لزاما عليه كذلك أن يعرض خطة عملية لمقاومته، ومقاومة الداعين له والمساعدين على الدعوة إليه. ولذلك نرى هذا الازدواج في الدعوة إلى مقاومته: نرى نقدا نظريا، ومنهجا عمليا.. وبعبارة أخرى نرى: سياسة، ودينا. أما النقد النظري: فيعرض لمثالب العناصر الفكرية أو المذهبية التي تعين الاستعمار في استعماره ... فنرى: نقدا لحركة السيد أحمد خان، ونقدا آخر للقاديانية، ونقدا ثالثا للاستشراق الغربي الذي ألبس ثوب العلم. ونرى الناقدين لهذه العناصر يضعون منهجا فكريا آخر لتقوية المسلمين في معارضتهم للاستعمار، وفي صلتهم بالإسلام وفهمهم لمبادئه، فهما يمكنهم من السير في الحياة القائمة. - نرى "جمال الدين الأفغاني": يحمل على السيد أحمد خان، وينقد اتجاهه الطبيعي نقدا مرا في كتاب سماه: "الرد على الدهريين". وفي الوقت نفسه يدعو المسلمين جميعا إلى العودة إلى القرآن الكريم، ونبذ الخصومة المذهبية، والرجوع إلى حال المسلمين الأول، قبل انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع العباسيون باسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الخلافة، دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه، كما كان الراشدون رضي الله عنهم1. - ونرى "محمد إقبال" يهاجم القاديانية هجوما عنيفا من الوجهة الإسلامية والوطنية، وفي الوقت نفسه يكتب كتابه: "تجديد الفكر الديني في الإسلام" Re-construction of Religious Thought in Islam ويوضح فيه محاولته لتقرير "علم الكلام" الإسلامي في صورة حديثة، كما يوضح مزايا التعاليم الإسلامية في خلق جماعة حية قوية، ويطلب إلى المسلمين أن يفهموا الإسلام في ضوء الحياة المعاصرة، وأن يسعوا في تكييفها وطبعها بطابع إسلامي بدلا من وقوفهم عن حد مفاهيم عصر الركود للمبادئ الإسلامية، تلك المفاهيم التي لم يعد التمسك بها الآن ذا أثر إيجابي في حياة المسلم الحاضرة. ونرى "الشيخ محمد عبده" يهاجم الاستشراق، ثم يضطره هذا الهجوم إلى الكتابة عن مزايا الإسلام بالنسبة للمسيحية، وفي ذات الوقت يضع منهجه التربوي لفهم إسلام القرآن والسنة الصحيحة بدلا من إسلام المتكلمين، وإسلام أرباب الكتب المتأخرة التي كانت تعيش في عزلة عن الحياة العامة. وهذه الحياة العامة نفسها، كان طابعها هو الانقسام إلى شيع، والتعصب والتقليد الضار، والضعف السياسي والاقتصادي ... ويسنعكس هذا كله على كتابات العصر لو عشات فيه. ويضع محمد عبده منهجه لإصلاح الأزهر على أمل أن يدرك أهله ورواده -وهم أصحاب الثقافة الإسلامية، والثقافة القومية الوطنية: الثقافة الأصلية في هذا الشرق الإسلامي- رسالة الإسلام: في نفسها كمبادئ وتعاليم، وكذا بين المسلمين كجماعة لها شخصيتها ولها هدفها في الحياة. نرى الشيخ محمد محمد عبده يدعو إلى القرآن والرجوع إلى عهد صدر الإسلام في طريق فهمه، والوحدة حوله. وفي الوقت نفسه يفسر القرآن بما يعيد على أسماع المسلم صلة الإسلام بالحياة، وانتزاع التوجيه فيها من مبادئه ومن خطة الرسول -صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم. كان ثلاثتهم من المفكرين. وكان ثلاثتهم من السياسيين أصحاب التوجيه ضد الاستعمار الغربي ... وليسوا من أصحاب السياسة الحزبية.   1 العروة الوثقى: ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 محمد جمال الدين الأفغاني 1839-1897 كأول مكافح للاستعمار الغربي: "جمال الدين الأفغاني".. زعيم من زعماء الحركات الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يختلف بعض الاختلاف عن زعيمين آخرين سابقين عليه هما: - "محمد بن عبد الوهاب" ... في القرن الثامن عشر. - و"محمد بن علي السنوسي الكبير" ... في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كل من هذين.. عاش في الصحراء، وإن ارتحل عنها فإلى داخل البلاد الإسلامية، وبعض هذه البلاد شبيه ببعض: في سيادة البدعة فيها، واختلاف المسلمين إلى شيع وأحزاب، وفي ضعف الأفراد، واستبداد الحكومات أو الولايات، والرضا من الحياة بـ"الوسيلة والشفاعة" والاكتفاء بالقعود عن السعي الجدي في طلب الرزق أو تنميته أو المحافظة على كرامة الجماعة أو مجدها. كل من هذين ... لم ير في مجال نشاطه إلا "العيوب" الداخلية، فأخذ يكافحها باسم الإسلام، وعلى أساس من الإسلام، والإسلام الذي رآه كلاهما أساسا للدعوة الإصلاحية، هو إسلام الصدر الأول: في فهمه، والتمسك بمبادئه، وفي موقفهم في الحياة من أجله. لم يعرف كل منهما نظم الغرب في حياة الأوروبيين بعد نهضته ... لم يعرف كل منهما معرفة مباشرة حياة عملية أخرى ... مستقيمة نوعا ما عن حياة المسلم في ذاك الوقت، تسير في مكان آخر وراء رقعة العالم الإسلامي، ويسودها صالح الأمة لا صالح الحاكم، ويسيطر عليها صالح الأفراد جميعا لا صالح الراعي وحده! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أما "جمال الدين" ... فبجانب وقوفه على عيوب الحياة الإسلامية، رأى رؤية مباشرة لونا إيجابيا من الحياة، خاليا من كثير من هذه العيوب والنقائض. ارتحل أولا في بلاد الهند، ومصر، والحجاز، وإيران، والعراق، واستانبول من بلاد الشرق، وارتحل ثانيا إلى لندن، وباريس، وميونيخ في ألمانيا، وبطرسبرج في روسيا من بلاد الغرب. ورحلته هنا وهناك، كشفت له: عن ضعف في جانب، وقوة في جانب آخر، واستكانة في جانب وتحفز في جانب آخر! وكشفت له عن أن هذا التحفز من الجانب الآخر، إنما هو ليلتهم هذا الجانب المستكين وليذله، وليبدل وضعه في التاريخ! ومعرفة جمال الدين بالإسلام, ثم وقوفه على المسيحية, أراه أن الإسلام في نفسه أداة قوة ومنعة وعزة وسطوة, بينما مسيحية الغربيين وسيلة للضعف والاستكانة!! ولذا يقول: " ... وبعد، فموضوع بحثنا الآن: الملة المسيحية الإسلامية، وهو بحث طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل ... "إن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة، ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية! ومن وصايا الإنجيل من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر, ومن أخباره: أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح هي لله وحده! "والديانة الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها، فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكما لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الملل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية، والتبحر فيما يلزمها من الفنون، كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها! ومن تأمل في آية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 1 أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة، وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية، فضلا عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه! ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق والرماية، انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرين عليها ... "2. ونتيجة هذا التنقل بين البلدان في نفس "جمال الدين" مع المفارقات التي رآها في حياة المسلمين وحياة الغربيين: هي أن تكون دعوته إلى التعجيل بحياة إيجابية متكاملة داخل البلاد الإسلامية أقوى, أو على الأقل تسير جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى مكافحة العيوب الجزئية الداخلية، وهي عيوب نشأت عن إهمال الإسلام بسبب ما تراكم عليه من غبار!! كان جمال الدين الأفغاني -لهذا الاتصال المباشر بالغربيين- يضع أمام سامعيه "مثلا منظورا" من الحياة يريد أن يصل إليه المسلمون، ولكن عن طريق التمسك بإسلامهم الذي أودع في كتاب الله ... وليس عن طريق ذاك الذي شوهته العقول المغرضة وحرفته الألسنة الملتوية!! بينما كان المثل الذي كان ينشده بن عبد الوهاب يعيش في تاريخ الماضي وهو حال المسلمين الأول، وهو كذلك "أمل وغاية" يقدم عليه التابعون للدعوة بدافع محض الاعتقاد والتصور المثالي، أكثر من دافع الحقيقة المشاهدة! وعلى هذا النحو كان موقف الفريقين، جمال الدين من جانب، ومحمد بن عبد الوهاب والسنوسي الكبير من جانب آخر، في الدعوة إلى مقاومة النفوذ الخارجي اللاإسلامي. - محمد بن عبد الوهاب، وعلى سنته محمد بن علي السنوسي الكبير، كلاهما يقف في تكتيل المسلمين ضد النفوذ الخارجي عن طريق استعراض أوصاف الكفر والإيمان في ذهن المسلم، وما يجب على المسلم اتباعه   1 الأنفال: 60. 2 مجموعة العروة الوثقى: 64-69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 في شأن الولاية العامة قبل غير المسلم من الحكام والولاة، إذا قيض لهؤلاء أن يديروا أمر المسلمين! - ولكن جمال الدين الأفغاني كان -إلى جانب ذلك- ينتزع الأمثلة من تاريخ الشعوب، ومن تاريخ الأمة الإسلامية نفسها، كما ينتزع الشواهد المحسوسة التي تفزع المسلمين من السياسة الاستعمارية في البلاد الإسلامية "في الهند ومصر على الخصوص".. هذه الأمثلة التي كان ينتزعها من شواهد الحياة الإسلامية ومظاهرها في وقته، مع بيان مدى ألاعيب السلطات الأجنبية ودسائسها، وهدفها الذي نهايته بسط النفوذ الأوروبي لصالح الجماعة الأوروبية وحدها على رقعة العالم الإسلامي. هذا الاحتكاك المباشر نفسه هو الذي أظهر حركة جمال الدين في صورة حركة سياسية.. وهو نفسه السبب في أن يلقي جمال الدين بمركز الثقل في نشاطه على "الحرية السياسية" في الشرق الإسلامي "للمواطنين جميعا: مسلمين ومسيحيين". - بدأ في نشاطه الحديث عن "الأمة" أكثر من الحديث عن المسلم، والحديث عما يجب أن يكون من صلة بين الحاكم والأمة من تبادل المشورة بينهما لا على نحو أن يكون أولهما سيدا والطرف الآخر مسودًا ومستعبدًا. - كما بدأ الحديث عن مقاومة الاستعمار الغربي في صورة سافرة. - بعد ذلك كله ... أكثر من الحديث عن مقاومة البدع، أو محاربة فرقة معينة من الفرق الإسلامية! تلون نشاطه بهذا اللون السياسي العام، ولكن عماد هذا النشاط وأساسه الذي يقوم عليه ومصدره الذي يجب أن يخرج منه: بقي "القرآن" والقرآن وحده يقول: "لا ألتمس بقولي هذا -في الدعوة إلى الوحدة- أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما كان عسيرًا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن, ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه"1.   1 مجموعة العروة الوثقى ص193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 إن حركة جمال الدين الأفغاني هي في واقع الأمر امتداد للكفاح الإسلامي في تاريخ الجماعة الإسلامية، وليست حركة منعزلة عن غيرها ... إن أساسها كأساس أية حركة كفاحية إسلامية ماضية، وغايتها ذات الغاية لهذه الحركات جميعها. لقد ركز الإسلام جهده في أول أمره وفي جماعته الأولى: لنشر دعوته. ثم بعدما انتشرت هذه الدعوة، تحولت جهوده -في آخر عصر الأمويين لمكافحة "الزندقة" الشرقية التي هي من مخلفات العقائد السابقة في الشرق، والتي نفذت إلى الجماع الإسلامية في صورة أو أخرى. فنشأت مدرسة "الاعتزال" الكلامية، ثم نشأت على أثرها مدارس أخرى تعارضها، أو تحاول أو توفق بينها وبين اتجاه آخر في الجماعة الإسلامية. وهنا ابتدأ الإسلام يكافح من أجل بقائه والحرص على سلامته، وليس من أجل انتشار دعوته، كما كان الحال في الجماعة الأولى وعلى عهد الرعيل الأول. - ثم انتقل ثقل النشاط في عصر العباسيين لمعانقة الفكر الإغريقي أو مهاجمته؛ وهو دخيل على الجماعة الإسلامية. وبذلك استمر الوضع السابق في الكفاح، وهو الكفاح من أجل البقاء والسلامة الذاتية. - ثم تحول هذا النشاط قبيل سقوط بغداد، وبعد سقوطها على يد التتار "656هـ"، إلى مقاومة الاعتداء الخارجي المسلح -وليس الاعتداء الفكري- ممثلا في غارة الصليبيين من جانب، والتتار من جانب آخر. وفي الوقت نفسه اتجه جزء من هذا النشاط إلى مقاومة الضعف الداخلي الذي تمثل في أثر "الباطنية" وتعاليمها، وفي غلو "التصوف" في تصور صلة الله بالإنسان على نحو حلولي، كما يتضح عند ابن عربي والحلاج، وكان زعيم هذه المقاومة الخارجية والداخلية ابن تيمية، في القرن الرابع عشر الميلادي.. وكان الكفاح الإسلامي كذلك من أجل البقاء والسلامة الذاتية. - إلى أن جاءت الحركة الوهابية فوضعت ثقل الكفاح على مقاومة الضعف الداخلي، وهو ضعف يستند إلى تعاليم الباطنية، وانحراف فريق من المتصوفة، ومع ذلك لم تغفل هذه الحركة مقاومة الهجوم الخارجي الذي بدت طلائعه في ضعف الخلافة العثمانية، تحت الضغط السياسي: الروسي القيصري المسيحي، والإنجليزي، والأوروبي بوجه عام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 - حتى جاء جمال الدين الأفغاني فأعاد ميزان الكفاح مرة ثانية نحو مقاومة الاعتداء الخارجي، وهو اعتداء ظهر في ثوب سياسي، فبدت لذلك حركة جمال الدين سياسية أكثر منها دينية، مع أنها قامت على الإسلام، واستندت إليه في خطواتها، وفي تحديد غايتها. وهكذا كان لموضوع الكفاح أثر في تلوين الكفاح نفسه. - على أيام المعتزلة كان الكفاح الإسلامي كفاحا دينيا، أو "كلاميا". - وعلى أيام الفلسفة الإغريقية كان كفاحا فكريا، أو فلسفيا. - وعلى أيام ابن تيمية كان كفاحًا ضد الصليبيين أو التتار. - وعلى أيام ابن عبد الوهاب كان كفاحا ضد البدعة والخرافة. - وعلى عهد جمال الدين الأفغاني كان كفاحا سياسيا ضد الاستعمار الغربي. وفي كل حركة من هذه الحركات كان الدين أساسا أوليا، وفي الوقت نفسه كان هدفا أخيرا وغاية مطلوبة. حركة "جمال الدين الأفغاني" في مظهرها حركة سياسية، وفي جوهرها حركة إسلامية. - كان جمال الدين يتحدث عن "وحدة المسلمين" مرة، وعن "حكومات إسلامية مستقلة يرتبط بعضها ببعض في "شبه اتحاد" مرة آخرى. ومع ذلك فالشيء الذي لم يتغير عنده هو الدعوة إلى الأخذ بتعاليم الإسلام، سواء في قيام الحكومة الواحدة أو في ارتباط الحكومات المختلفة. - يتحدث عن أخذ ما عند الغرب من حضارة ومدنية وعلم.. ولكن على أساس أن يكون ذلك في تلاؤم مع الإسلام؛ أو لأن الإسلام يدعو إليه. - ويتحدث عن مقاومة الاستعمار الغربي وبالأخص عن مقاومة الاستعمار الإنجليزي، ولكنه في حديثه عن ذلك يتكئ على الإسلام، ويطلب تحقيق تعاليمه. - ينقد سلطان الآستانة وشاه إيران وخديوي مصر؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يرغب في إعطاء الشعب حريته في الرأي والقول والمشورة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ولا يرغب في اعطاء الشعب دستورًا يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكومين، يأتي نقده لمصلحة الشعب، فتبدو عليه مسحة العمل السياسي ... ولكن هذا النقد أسس على الإسلام وعلى مبادئه التي تصون هذه المقدسات: حرية الشعب، وسيادته، ووضع الحاكم منه وضع المنفذ لمشيئته، لا وضع السيد صاحب السيادة المطلقة عليه. - يدعو إلى الترابط الوثيق بين المسلمين وغير المسلمين في الأوطان الإسلامية وإلى عدم التمييز بين مسلم وغير مسلم، فتبدو دعوته هذه في مظهر "الشرقية" أو "الوطنية" تبدو سياسية، ولذلك يميل بعض المؤرخين لجمال الدين إلى أن يسمي حركته هذه بـ"الحركة الشرقية". ولكن هو في دعوته هذه مسلم، وعمله عمل إسلامي؛ لأنه يستند إلى الإسلام في تاريخ الفتوح، وفي تعاليمه في الصلة بين المسلم وغيره، سواء في مكان واحد، أو مكانين مختلفين. - يدعو إلى نبذ الخصومة بين الشيعة والسنة، ليؤلف بين سلطتين قويتين في رقعة العالم الإسلامي إذ ذاك: بين سلطة إيران وسلطة القسطنطينية، بعد ذهاب دولة الهند الإسلامية، فيبدو لذلك سياسيا أو وسيطا في مجال السياسة، ولكنه هو يدعو بدعوة الإسلام في ذلك. - يحارب المذهب الطبيعي -الدهري- الذي انتشر في الهند 1897م، والذي قال فيه: أنه سيفرق المسلمين هناك إلى طائفتين: طائفة القديم وطائفة الجديد، طائفة أصحاب الطاعة والولاء للحاكم المستعمر، والطائفة الأخرى المناوئة المقاومة لنفوذه وولايته، كما سيفرق بين مسلمي الهند من جانب والخلافة العثمانية من جانب آخر، فيظهر مرة أخرى في دعوته هذه بمظهر الرجل الذي يريد أن يحافظ على وحدة الإمبراطورية الإسلامية الجغرافية، ولكنه في هذا الرد يقاوم الإلحاد الديني بصفة عامة، ويوضح ضرورة الدين للمجتمع الإنساني، أي دين. ثم يذكر مزايا الإسلام، التي تكفل للإنسان متعة في هذه الحياة أرفع بكثير من تلك المتعة التي يهيؤها له اعتناق المذهب الطبيعي "المادي أو الدهري". فهو في هذا مسلم، وعمله عمل إسلامي كذلك1. ويعنينا الآن بالذات مقاومته للفكر الإسلامي الذي قام لخدمة الاستعمار.   1 راجع مجموعة العروة الوثقى: ص471-477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 مقاومة جمال الدين للاستعمار الغربي وللفكر الإسلامي المعاون له: - الرد على الدهريين في الهند: "جمال الدين" يرى أسلوب الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية يتخذ صورا مختلفة للقضاء على الشخصية الإسلامية التي مصدرها القرآن، والتي تجمع بين المسلمين في رباط واحد، وأخطر صورة يراها من بين الصور، تلك الصورة، التي تسعى لإفساد عقيدة المسلم: إما بتشكيكه فيها أو بمحاولة صرفه عنها. وعنى بذلك المذهب الطبيعي، وهو ما سماه بمذهب الدهريين في الهند، فهو سلاح خطر ضد المسلمين: ضد قوتهم في وحدتهم. وضد مصدر هذه القوة: الذي هو الإسلام. وخطورة هذا المذهب على الإسلام في نظر جمال الدين -وإن كان تحديا للدين من حيث هو دين- أن الذين يدعون إليه في الهند "لبسوا ثوب المسلم" وقصدوا إلى إضعاف المسلم بالذات في عقيدته كما نقلنا عنه فيما مضى1. ومع أنه صريح فيما نقل عنه سابقا بتحديد من سماهم جماعة الدهريين في الهند ونياتهم من نشر هذا المذهب بين المسلمين، ذكر في موضع آخر بأنه لا يقصد توجيه الرد إلى هذه الجماعة، ولا إلى التشنيع عليهم، وإنما قصده إحقاق الحق في ذاته فقط ... يقول2: "ولا يظنن ظان أنا نقصد من مقالنا هذا تشنيعا بهؤلاء الطبيعيين في الهند.. كلا! إن هؤلاء لا نصيب لهم من العلم ولا من الإنسانية، فهم بعيدون من مواقع الخطاب، ساقطون عن منزلة اللوم والاعتراض.. وإنما غرضنا الأصلي إعلان الحق وإظهار الواقع"!!.   1 مجموعة العروة الوثقى: ص472- 477. 2 في كتابه الرد على الدهريين: ص28, 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ويتضمن رده على الدهريين ثلاثة أمور: - بيان ضرورة الدين للجتمع. - وبيان خطر انتشار المذهب الطبيعي على المجتمع. - ثم مزية الإسلام كعقيدة ودين على الأديان الأخرى. الدين ضرورة للمجتمع: يرى جمال الدين أن العقيدة الدينية كعقيدة، تكفل للمجتمع الإنساني ثلاثة عناصر رئيسية: - الحياء. - والأمانة. - والصدق. ويفيض في شرح هذه العناصر، وضرورتها للسلوك المستقيم في المجتمع ... مرة عن قيمتها في نفسها، وأخرى عن بيان أن المذهب الطبيعي لا يجتمع معها، فضلا عن أن يكفلها ... وفي بيانه هذا، يسلك طريق "السبر والتقسيم". يقول1: "إن وهم الدهري لا يجتمع مع فضيلة الأمانة، والصدق، وشرف المهمة، وكمال الرجولة؛ وذلك لأن الإنسان له شهوات لا تحد. وإن الطبيعة لم تحدد طريقا معينا لتحصيل هذه الشهوات، فطريقها: - إما بالسيف والقوة: وهذا يفضي إلى سفك الدماء والتخريب. - وإما شرف النفس. وشرف النفس محدود بالعرف والعادة، وليس له مقياس عام. - وإما الحكومة: وهي لا تعرف إلا الاعتداءات الواضحة، أما المفاسد المموهة فلا تعرفها.. على أن رجالها قد يكونون أيضا من المفسدين.   1 ملخصا من صفحات 71-80 من كتاب: الرد على "الدهريين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 - وأما الاعتقاد بمدبر الكون، وبأنه مالك الجزاء في الحياة الأبدية، وذلك هو المتعين. ويعقب بعد ذلك بقوله: "فتبين مما قررنا أن الدين وإن انحطت درجته بين الأديان وهي أساسه فهو أفضل من طريق الدهريين، وأحسن بالمدنية ونظام الجماعة الإنسانية، وأجمل أثرا في عقد روابط المعاملات، بل في كل شأن يفيد المجتمع الإنساني، وكل ترق بشري إلى أية درجة من درجات السعادة في هذه الحياة الأولى، فلم تبق ريبة في أن الدين هو السبب الفردي لسعادة الإنسان، فلو قام الدين على قواعد الأمر الإلهي الحق، ولم يخالطه أباطيل من يزعمونه، ولا يعرفونه، فلا بد أن يكون سببا في السعادة التامة والنعيم الكامل"1. أضرار المذهب الطبيعي المادي على المجتمع: أما أضرار المذهب الطبيعي المادي على المجتمع، فجمال الدين الأفغاني يوضحها بذكر أمثلة من تاريخ الجماعات المختلفة، التي سيطر عليها هذا المذهب في فترة من تاريخ حياتها قديما وحديثا، ويرى أن المذهب الطبيعي قد برز في صور متعددة على هذا النحو: - مذهب "أبيقور": في الشعب الإغريقي2. - مذهب "مزدك": في الشعب الفارسي3. - مذهب "الباطنية": في الجماعة الإسلامية4. - مذهب "فولتير، وروسو": في الشعب الفرنسي5. - مذهب "العصر الجديد": في تركيا6.   1 الرد على الدهريين: ص82, 83. 2 الرد على الدهريين: ص50-54. 3 الرد على الدهريين: ص54-57. 4 الرد على الدهريين: ص58-63. 5 الرد على الدهريين: ص63-65. 6 الرد على الدهريين: ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 - مذاهب "الاشتراكية، الاجتماعية": في أوروبا، وبخاصة في الشعب الروسي1. - مذهب "المورمان" في أمريكا2. ويقول جمال الدين شارحًا لذلك: "إن حياة الشعب الإغريقي فسدت بإباحية المذهب "الأبيقوري"، وكذلك فسدت الحياة في الشعب الفارسي عندما تأثرت "بمزدك". والمسلمون عندما دخلت عليهم الباطنية3 "بمذهبهم في القرن الرابع الهجري" بمصر، أفسدت حياتهم!! وهو يرى أن ضعف المسلمين ابتدأ حقيقة منذ ظهور "الباطنية"، والعقائد الطبيعية أو الدهرية، وليست الحروب الصليبية هي بداية هذا الضعف وأمارته، بل كانت إحدى نتائج هذا الضعف، وهذه العقائد هي إذن التي مهدت لهذه الحروب الصليبية، وكذا لحرب التتار4. وينسب إلى الباطنية أنهم يقولون: "إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات ... ولو كان موجودا لأشبه الموجودات، ولو كان معدوما لأشبه المعدومات، فهو لا موجود ولا معدوم"5.   1 الرد على الدهريين ص67, 68. ويلاحظ أن جمال الدين في ترجمة المصلحات: كان يطلق "الاشتراكية" على الشيوعية Communism "الاجتماعية" على الاشتراكية Socialism. 2 الرد على الدهريين ص69. 3 وقد تعرف بطائفة "النصيرية" نسبة إلى "محمد بن نصير" كان من أتباع الإمام الشيعي الحادي عشر، الحسن العسكري، ثم انفصل عنه وادعى الألوهية، وتسمى الطائفة أيضا "العلوية"، ومقرها اليوم في سوريا في جبال اللاذقية، ويبلغ عدد أفرادها 356 ألفا، وسميت بالباطنية؛ لأنها تستبطن التثليث: الأول "روح الله" وهي على، والثاني المظهر الخارجي لروح الله وهو "محمد"، والثالث ناشر الشريعة وهو سلمان الفارسي. 4 الرد على الدهريين ص67. 5 الرد على الدهريين ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ثم يقول: "الفرنسيون حتى القرن الثامن عشر كانت لهم أخلاق فاضلة: قوامها الترابط وعدم الانحلال، حتى ظهر فولتير وروسو، وسخرا من الدين والإله، فبدأ التحلل على أشده, وآراؤهما هي التي أضرمت نار الثورة الفرنسية وأفسدت أخلاق الكثير من أبنائها، فاختلفت بها المشارب وتتابعت المذاهب، وقام على مذهب فولتير وروسو مذهب الـ"كومن"Common "الاشتراكية" ولو تدارك الأمر أرباب العقائد النافعة لنسفت الاشتراكية على أديم فرنسا1، وما صنعه نابليون الأول في إعادة المسيحية لم يجد كثيرا ... كما لم يجد انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في إعادة الإسلام إلى مجده الأول في الجماعة الإسلامية الأولى. والأمة العثمانية إنما رقت حالها في الأزمنة الأخيرة بما دب في نفوس بعض عظمائها وأمرائها من وساوس الدهريين، فإن القواد الذين اجترحوا أثم الخيانة في الحرب الأخيرة بينها وبين روسيا -الحرب الروسية التركية 1877-1878م في البلقان- لزحزحة الأتراك كمسلمين عن شبه جزيرة البلقان وبلاد اليونان، كانوا يذهبون مذهب الطبيعيين، وبذلك كانوا يعدون أنفسهم من أبناء الأفكار الجديدة "أبنا العصر"، وربما كانت هذه الأفكار غاية "جمعية الإصلاح والترقي" التي نشأت بعد ذلك، لذلك خان أولئك الأمراء ملتهم مع ما كان لهم من الرتب الجليلة، ورضوا بالدنية، واستناموا إلى الخسة، ونسفوا بيت الشرف العثماني، وجلبوا المذلة على شعوبهم بعرض من الحطام قليل"2. والسوشيالست "الاجتماعيون أو الاشتراكيون" والنيلست3، "العدميون"؛ والكوميونست "الشيوعيون" غايتهم جميعا رفع الامتيازات الإنسانية كافة, وإباحة الكل للكل، واشتراك الكل في الكل.. وجميعهم   1 الرد على الدهريين ص63-64 وواضح هنا أيضا أن جمال الدين يترجم "الشيوعية" بالاشتراكية، ولعل هذه المذاهب ومصطلحاتها لم تكن قد تحددت بدقة في الفكر الشرقي في ذلك الزمن المبكر. 2 الرد على الدهريين ص66. 3 Nihilist نسبة إلى Niblism حركة قامت في روسيا سنة 1860-1871م تدعو إلى الانقلاب بإثارة القلاقل والاغتيال. ويلاحظ هنا أيضا أن جمال الدين يترجم الاشتراكية بالاجتماعية "السوشيالست: الاجتماعيون"، والشيوعية بالاشتراكية "الكوميونست العدميون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 على اتفاق في أن جمع المشتهيات الموجودة على سطح الأرض منحة من الطبيعة "والإخاء للتمتع بها سواء" والدين والملك عقبتان عظيمتان، وسدان منيعان يعترضان بين أبناء الطبيعة ونشر شريعتها المقدسة "الإباحة والاشتراك". فإن من الواجب على طلاب الحق الطبيعي أن ينقضوا هذين الأساسين، يبيدوا الملوك ورؤساء الأديان، ثم يعمدوا إلى الملاك وأهل السعة في الرزق, فإن دانوا لشرع الطبيعة فخرجوا على الاختصاص فتلك، إلا أخذ بأعناقهم قتلا، حتى يعتبر بهم من يكون من أمثالهم فلا يلوون رءوسهم كبرا على الشريعة المقدسة شريعة الطبيعة1. "وكثرت أحزابهم، ونمت شيعتهم في أقطار الممالك الأوروبية، خصوصا مملكة الروسيا، ولا جرم أن هذه الطوائف إذا استفحل أمرها وقوي ساعدها على المجاهرة بأعمال لها، قد تكون سببا في انقراض النوع البشري كما تقدم ذكره"2. الدين الإسلامي: ثم يتحدث عن الدين الإسلامي فيقول: "إنه في مقدمة الأديان من حيث حاجة البشرية إليه؛ لأن له مزايا ليست متوافرة في دين آخر. - أولا: صقل العقول بصقال "التوحيد" وتطهيرها من لوث الأوهام، وذلك يحول دون اعتقاد أن كائنا من الكائنات له تأثير نفع أو ضر، كما يحول دون اعتقاد أن الله يظهر بلباس البشر أو حيوان آخر، أو أن تلك الذات المقدسة نالت شديد الألم لمصلحة أحد من الخلق .... كما توجد تلك الأوهام: في ديانات براهما في الهند، وبوذا في الصين، وزرادشت في بقايا الفارسيين3. - ثانيا: محق امتياز الأجناس وتفاضل الأصناف وقرر المزايا البشرية على قاعدة الكمال العقلي والنفسي لا غير، فالناس إنما يتفاضلون بالعقل   1 الرد على الدهريين 67, 68. 2 الرد على الدهريين ص68. 3 الرد على الدهريين ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والفضيلة، وقد لا نجد في الأديان ما يجمع أطراف هذه القاعدة, فالبراهمية قسمت الناس إلى طبقات، واليهودية فضلت شعب إسرائيل على بقية الشعوب. - ثالثا: جعل العقيدة قائمة على الإقناع، لا على التقليد واتباع ما كان عليه الآباء، والدين الإسلامي كلما خاطب خاطب العقل، ويكاد يكون منفردا بتقريع المعتقدين بلا دليل، وتوبيخ المتبعين للظنون. - رابعا: نصب المعلم ليؤدي عمل التعليم، وأقام المؤدب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 2. "فإن قال قائل: إن كانت الديانة الإسلامية على ما بينت، فما بال المسلمين على ما نرى من الحال السيئة والشأن المحزن؟ "فجوابه: أن المسلمين كانوا كما كانوا، وبلغوا بدينهم ما بلغوا، والعالم يشهد: وأكتفي الآن من القول بهذا النص الشريف: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 3. - محاربة الاستعمار البريطاني: أما الشق الثاني في مقاومة الاستعمار الغربي في كفاح "جمال الدين" فيوجهه إلى الاستعمار البريطاني بخصوصه ... ولعل ذلك كان نتيجة احتكاكه المباشر به في مصر والهند. ففي مصر في المدة الواقعة بين مارس سنة 1871 و24 أغسطس سنة 1879م، عاصر جمال الدين بعثة Cave سنة 1875 التي وفدت إلى مصر لفحص ماليتها، وإنشاء مصلحة للرقابة المالية يخضع الخديوي لمباشرتها، وهي تلك الرقابة التي تمثلت في "صندوق الدين" الذي أنشئ   1 آل عمران: 104. 2 الرد على الدهريين ص93, والآية من سورة التوبة: 122. 3 الرد على الدهريين ص 93, والآية من سورة الرعد: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 في سنة 1876م، كما قامت بإنشاء نظام الرقابة الثنائية لمراقبة مصروفات الحكومة من اثنين: أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي, وبإنشاء لجنة مختلطة لإدارة السكك الحديدية وميناء الإسكندرية، ثم تطورت الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة برئاسة نوبار باشا -المنحدر من أصل أرمني، يدخلها وزير إنجليزي لوزارة المالية وآخر فرنسي لوزارة الأشغال، نعم كان الاحتلال البريطاني الرسمي في سنة 1882م، أي: بعد ما أبعد جمال الدين عن مصر في سنة 1879م، ولكن إذا عرف إن إبعاده عن مصر قبل الاحتلال البريطاني بثلاث سنوات كان بمشورة القنصل الإنجليزي "المستر فيفان" على الخديوي توفيق -إذا عرف هذا- ربما يتضح مقدار النفوذ الأوروبي، الممثل في النفوذ البريطاني بمصر، على عهد إقامة جمال الدين بالقاهرة، والتهمة التي وجهت إلى جمال الدين لإبعاده عن مصر، كانت هي: أنه يرأس "جمعية من الشبان ذوي الطيش تجتمع على فساد الدين والدنيا". أما احتكاك جمال الدين المباشر بالسلطة البريطانية في الهند: فيتضح من زياراته الثلاث لهذه البلاد. وقبل هذا وذاك، كان احتكاكه بهذه السلطة على عهد تنازع الأسرة المالكة في أفغانستان على الحكم والملك، بتشجيع الدسائس الإنجليزية، وقد اضطر هو إلى الرحيل من أفغانستان إلى الهند تحت ضغط هذه الدسائس. - ففي المقال الافتتاحي، لأول عدد من جريدة "العروة الوثقى"، يصور جمال الدين حادث الاحتلال البريطاني لمصر على أنه كارثة على العالم الإسلامي، وقد أهاب بالمسلمين -بباعث من دينهم- أن يتكاتفوا لدفع بلاء هذا الاحتلال. يقول1: "إن الخطر الذي ألم بمصر نفرت له أحشاء المسلمين، وانكلمت به قلوبهم، ولا تزال آلامة تستفزهم ما دام الجرح نقارا، وما هذا بغريب على المسلمين، فإن رابطتهم الملية أقوى من رابطة الجنس واللغة، وما دام القرآن يتلى بينهم، وفي آياته ما لا يذهب على أفهام قارئه فلن يستطيع الدهر أن   1 مجموعة العروة الوثقى ص28, 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 يذلهم. إن الفجيعة في مصر حركت أشجانا كانت كامنة، وجددت أحزانا لم تكن في الحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرا، بل نفيرا عاما، تكون صاخة تمزق من اسمه الطمع". ويقول في موضع آخر1: "نرى أهل هذ الدين -الإسلام- في هذه الأيام، بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم". "فأهل بلوخستان كانو يرون حركات الإنجليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم، ولا يجيش لهم جأش، ولم تكن لهم نعرة على إخوانهم". "والأفغانيون كانوا يشهدون تدخل الإنجليز في بلاد فارس، ولا يضجرون ولا يتملمون". "وإن جنون الإنجليز تضرب في الأرض المصرية ذهابا وإيابا، تقتل وتفتك ولا نرى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من "حلاقيمهم" الذين احمرت أحداقهم من مشاهدتها بين أيديهم وأرجلهم وأيمانهم وشمائلهم!! أما وقد مضى الزمن الكافي لظهور غدرهم وسوء نيتهم، فلا يوجد من الأهالي المصريين من يميل إليهم، بل لا يوجد إلا من يبغضهم, ويود لو يعمل عملا لهلاكهم، ولكن الوهم هو الذي يجسم المخافة ويكبح العزيمة"2. "فيأيها المصريون: هذه دياركم وأعراضكم وعقائد دينكم، وأخلاقكم وشريعتكم، قبض العدو على زمام التصرف فيها غيلة واختلاصا. فقد رأيتم أنه أفسد شئونكم، وأقلق راحتكم، ووهب من بلادكم لأعدائكم، وأضر بمنافعكم العامة، وقصد إلى التدخل فيما يختص بأموركم، كالأوقاف"3.   1 مجموعة العروة الوثقى ص74. 2 العروة الوثقى ص236. 3 المصدر السابق ص249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 واستمر جمال الدين -بهذا الأسلوب- يوقظ المسلمين بوحي من دينهم، كي يتعاونوا على مقاومة من يذلهم ويستعبدهم, ويكرر الأسلوب في عدة مقالات وفي عدة مناسبات. ومن بين المقالات التي كتبها في مجلة "العروة الوثقى" سبع عشر مقالة, من بين مجموعها وهو خمس وعشرون، هي شروح للآيات القرآنية الآتية: - {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1. - {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 2. - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 3. - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 4. - {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 5. - {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 6. - {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} 7. - {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 8. - {بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} 9. - {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 10. - {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} 11.   1 الممتحنة: 14 2 الأحزاب: 62. 3 سورة ق: 37. 4 آل عمران: 103. 5 الذاريات: 55. 6 الأعراف:3. 7 الأنفال: 46. 8 يوسف: 87. 9 آل عمران: 118. 10 النحل: 33. 11 العنكبوت: 1, 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 1. - {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 2. - {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3. - {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 4. - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 5. - {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 6. أما بقية مقالات هذه المجلة: وهي مقالاته السياسية ضد الاستعمار الغربي, فقد قامت على شروح لبعض الأحاديث الصحيحة. وبهذا يتضح في غير لبس: كيف أقام جمال الدين كفاحه السياسي على أسس إسلامية، لا خلاف فيها. - أما بخصوص الاستعمار البريطاني في الهند فإن السيد جمال الدين فوق أنه رد على الاتجاه الطبيعي، أوالاتجاه العلمي التقدمي الذي حاول به السيد أحمد خان أن يجعل الولاء للسلطة البريطانية مشتقا من تعاليم الإسلام، وينشيء جيلا من شباب الهند يعاون الاستعمار باسم التقدمية في الإسلام. فوق أنه رد على هذا المذهب، فإنه نفر من زعيم هذا المذهب بالكشف عن صلته بالبريطانيين في الهند وبيان رزايا الاستعمار في جانب العقيدة، والوطنية، والاقتصاد، والاجتماع. وهكذا لم يفتأ يصور الإنجليز في صورة المنتهك للحرمة والغاصب   1 الحج: 46. 2 القصص:5. 3 آل عمران: 102. 4 الرعد: 11. 5 الأنفال: 53. 6 النساء: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 والمستعبد, كما لم يفتأ يوجه نظر المسلمين إلى أن دينهم يحتم عليهم إجلاءهم عن ديارهم. يقول1. "مع أن دينهم -دين المسلمين- يرسم عليهم أن لا يدينوا لسلطة من يخالفهم، بل الركن الأعظم لدينهم طرح ولاية الأجنبي عنهم وكشفها عن ديارهم بل منازعة كل ذي شوكة في شوكته! هل نسوا وعد الله بأن يرثوا الأرض وهم العباد الصالحون؟ هل غفلوا عن تكفل الله لهم بإظهار شأنهم على سائر الشعوب {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 2؟ هل سهوا عن أن الله اشترى منهم لإعلاء كلمته: أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ لا لا، إن العقائد الإسلامية مالكة لقلوب المسلمين، حاكمة في إرادتهم، وسواء في العقائد الدينية والفضائل الشرعية عامتهم وخاصتهم". وبهذا نرى أن ولاية الأجنبي على المسلمين كانت محور الخصومة في الفكر الإسلامي في ظل الاستعمار الغربي، بين محاول لقبولها وبين رافض إياها، كما نرى أن محاولة قبولها توصف بالتقدمية أو التسامح في العقيدة، بينما يوصف الجانب الآخر بالرجعية والتزمت. هذا ما كان من كفاح السيد جمال الدين للاستعمار الغربي كمسلم ناقد, أو كداعية سياسي، التزم في دعوته السياسية مبادئ القرآن والسنة الصحيحة. أما منهجه الذي اقترحه ليجعل من المسلمين قوة متماسكة، سائرة في الحياة، حريصة على أن تكون سيدة نفسها، فيتلخص في هذه الجملة: "أرجو أن يكون سلطان جميعهم -جميع المسلمين- القرآن ووجهة وحدتهم الدين". ويقول شارحًا ذلك3: "أما المسلمون، فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من   1 المصدر السابق ص133. 2 الأنفال: 8. 3 المصدر السابق ص70, 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 كل كمال حربي حظا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم. - أقوام بلباس الدين.. أبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها من الأعمال! - هذا إلى ما أدخله الزنادقة.. فيما بين القرن الثالث والرابع الهجري. - وما أحدثه السوفسطائيون الذي أنكروا مظاهر الوجود، وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق. - وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث.. ينسبونها إلى صاحب الشرع -صلى الله عليه وسلم، ويثبتونها في الكتب وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا في الهمم وفتورا في العزائم. وتحقيق أهل الحق، وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة، ومبادئه الثابتة التي دعا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة وبين فئة ضعيفة". "ولعل هذا -يقول الأفغاني- هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذي نعاني من عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه!! وما دام القرآن يتلى بين المسلمين، وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق وهو القائم عليهم، يتلى بين المسلمين، وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق وهو القائم عليهم، يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المنفعة من كل سبيل، لا يقنن لها وجها ولا يخصص لها طريقا. فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم، فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحة والمنازلة والمصاولة، حفظا لحقوقهم، وضنا بأنفسهم عن الذل، وملتهم عن الضياع, وإلى الله تصير الأمور". ويقول: "هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع المعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية"1. "إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لم ينسخ، فارجعوا إليه، وحكموه في أحوالكم وطباعكم، وما الله بغافل عم تعملون"2. "وفي الظن، أن العلماء لو قاموا بهذه الفريضة -فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- زمنا قليلا، ووعظوا الكافة بتبيين معاني القرآن الشريف وإحيائها في نفوس المؤمنين، لرأينا لذلك أثر في هذه الملة يبقى ذكره أبد الدهر، وشهدنا لها يوما يسترجع فيه مجدها في هذه الدنيا، وهو مجد الله الأكبر"3. "إن حركتنا الدينية "بالدعوة إلى القرآن" كناية عن الاهتمام بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها، مثل: حملهم نصوص "القضاء والقدر" على معنى يوجب عليهم أن لا يتحركوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل". "ومثل فهمهم لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان أو قرب انتهائه، فهما يثبط هممهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح، مما لا عهد للسلف الصالح به". "فلا بد إذن من بعث القرآن, وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور" وشرحها على وجهها الثابت، من حيث يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى. "ولا بد من تهذيب علومنا، وتلقيح مكتبتنا، ووضع مصنفات فيها قريبة سهلة الفهم، فنستعين بتلك الكتب والعلوم التي تضمنتها على الوصول إلى الرقي والنجاح"4.   1 المصدر السابق ص58, 59. 2 المصدر السابق ص140. 3 المصدر السابق ص244. 4 سلسلة "اقرأ" العدد 18 - ص99, 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ويستطرد الشيخ المغربي -أحد أبناء مدرسة الأفغاني- في شأن الرجوع إلى القرآن وتحديد مفهومه، نقلا عن الحديث الشفوي بينه وبين أستاذه في تركيا.. فيذكر: "القرآن وحده هو سبب الهداية، والعمدة في الدعاية، وما تراكم عليه، وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطاتهم ونظرياتهم، فينبغي أن لا نعول عليه كوحي، وإنما نستأنس به كرأي.. ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه، وإرشاد الأمم إلى تعاليمه وتفسيره وإضاعة الوقت في عرضه"1. بهذا يكون هناك في تاريخ الجماعة الإسلامية، وفيما أثر عنها فيما يتصل بإسلامها، نوعان من المصادر: "مصدر مؤكد هو القرآن، وما في منزلته من السنة المتواترة: فالتواتر، والإجماع، وأعمال النبي المتواترة إلى اليوم، هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن والدعوة إلى القرآن وحده"2. "ومصدر غير مؤكد: يصح أن يستأنس به، ولكن يجب أن لا يؤخذ به كما هو، وهو ما تجمع حول القرآن من آراء المسلمين، وشروحهم للإسلام". وعلى هذا النحو يكون تحديد الرجوع إلى المصادر الأولى للإسلام، وفي الوقت نفسه يكون تقويم المدارس الإسلامية المختلفة عند جمال الدين مماثلا لما وجد عند ابن تيمية، وابن عبد الوهاب بعده، ومحمد بن علي السنوسي الكبير أخيرًا. ولكن الإجماع الذي حدده الشيخ المغربي -نقلا عن حديث الشيخ جمال الدين- ربما يختلف عن ذاك الذي ينسب إلى جمال الدين في مجلة "العروة الوثقى"3 ونصه: "وقد بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية، حتى جعل إجماع الأمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفا عن حكم   1 المصدر السابق ص61. 2 المصدر السابق ص60. 3 مجموعة العروة الوثقى ص145, 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الله وما في علمه، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعد جحوده مروقا من الدين، وانسلاخا عن الإيمان". فهذا النص في "العروة الوثقى" يفيد أن "الإجماع". - أولا: هو إجماع الأمة. - وثانيا: أن حجيته هي في كل وقت، وليست قاصرة على وقت معين، وجيل معين من المسلمين. بينما الذي يفيده تحديد الشيخ المغربي -نقلا عن حديث جمال الدين في إجابته عن أسئلة وجهها إليه: أن الإجماع هو إجماع الصحابة "رضوان الله عليهم" على عمل أو أمر وقع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو بهذا التحديد له حجيته في الجماعة الإسلامية كلها، وله منزلة تقرب من منزلة القرآن. ونص الشيخ عبد القادر المغربي في هذا، كما يلي: "وكذا إجماع المسلمين في الصدر الأول، على حكم من الأحكام العملية الماضية من الزمن: هو ما يتمشى مع القرآن. ولا سيما أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته هي: تفسير القرآن، وعمل بالقرآن"1. والفرق بين النقلين في معنى الإجماع: أن أي إجماع بعد إجماع الصحابة، وقع في عهد لاحق لعهد الصحابة، له حجيته في نقل "العروة الوثقى" وليست له حجية في نقل "الشيخ المغربي"! هل نقل الشيخ المغربي" يعتبر تخصيصا للعموم في معنى الإجماع الذي ورد في "العروة الوثقى"؟.   1 سلسلة "اقرأ" العدد 68 ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ربما ... ولكن الذي يفهم من روح مقال "العروة الوثقى" أن جمال الدين قصد هذا العموم؛ لأنه في سبيل بيان قيمة التكتل والوحدة والاتفاق.. وهنا يبدو جمال الدين زعيما شعبيا، أكثر منه مفكرا مجتهدا! بهذا شرح السيد جمال الدين رأيه في الرجوع إلى القرآن وإلى تعاليمه الصافية، بعد أن آلت شروحه السابقة وتخريجه المتنوع إلى مذاهب، وآل أمر هذه المذاهب إلى تفريق الأمة إلى طوائف، وآل أمر الطوائف إلى العصبية والتنابذ في الخصومة، وصار ذلك كله بالأمة إلى الضعف، ثم إلى الانهيار. يقول في بعض كتاباته متعجبا من أمر الفرقة بين المسلمين، مع وحدة المصدر في التوجيه، وعدم الاختلاف في المصالح العامة: "أي فرق بين الأفغانيين وإخوانهم الإيرانيين؟ كل يؤمن بالله وبما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- فعلى الأفغانيين أن يرفعوا أبصارهم ويستقبلوا حظهم بفكر سديد وعقل رشيد، ويتقدموا للاتفاق مع إخوانهم الإيرانيين، فيس بينهم وبينهم: ما يصح عليه الاختلاف في المصالح العمومية.. فالجميع من أصل واحد, وتجمعهم رابطة واحدة وهي أشرف الروابط: رابطة الدين الإسلامي"1! يريد إضعاف الفوارق بين المسلمين، لتقوى سيادة المسلمين على أنفسهم وأمام غيرهم!! وإذا اهتم جمال الدين بالإسلام كله بوجه عام في كفاحه ضد الاستعمار الغربي، فإنه يهتم على وجه الخصوص بذلك الجانب من الإسلام الذي يدعو المسلمين إلى العزة والمحافظة على استقلالهم في شخصيتهم بعدم انصهارهم في غيرهم، فضلا عن الخضوع والاستسلام للأجنبي المتحامل عليهم. بيد أن جمال الدين لم يحاول تلك المحاولة التي حاولها فيما بعد "محمد إقبال" في الهند والشيخ "محمد عبده" في مصر، من شرح المنهج الذي يحول دون الاستمرار في ضعف الأمة الإسلامية، والذي يخلق نشئا   1 مجموعة العروة الوثقى ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 آخر يشعر بالأخوة الصادقة بين المسلمين جميعا، كما يشعر بقوة الإسلام في توجيهه نحو حياة أفضل، ونحو مجتمع متماسك البناء، وهذا النهج قد عرف عند إقبال بـ"إعادة تجديد مفاهيم الفكر الديني في الإسلام" كما عرف عند الشيخ محمد عبده بمنهج "التربية الإسلامية" أو التربية القومية. جمال الدين الأفغاني وابن تيمية: قام جمال الدين -إذن- بحركته في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، كرد فعل للاستعمار الغربي، وخاصة في مصر. وقد بدت الرغبة في استعمار مصر واضحة منذ مشروع قناة السويس، ثم اشتدت هذه الرغبة في وضوحها منذ الاحتفال بافتتاحها على عهد الخديوي إسماعيل، حتى كشف عنها القناع تماما منذ الاحتلال البريطاني سنة 1882م. وفي سبيل مواجهة هذا الاستعمار، طالب جمال الدين بمقاومته ... ولأجل هذه المقاومة عمل على إيقاظ روح التضامن الإسلامي، عن طريق: طلب التمسك بالقرآن, والغاء العصبية المذهبية، وطرح التقليد الحزبي، وإعمال الاجتهاد في فهم القرآن، والملاءمة بين مبادئه وظروف الحياة التي يعيش فيها المسلمون، وطرح الخرافات والبدع، التي غيرت من جوهر الإسلام، والتي جعلته وسيلة سلبية في الحياة، بدلا من كونه حقيقة واضحة، وقوة إيجابية في السيطرة على الحياة وتوجيهها. لقد أراد جمال الدين في كفاحه ضد الاستعمار الغربي أن ينقل المسلمين من حال الضعف إلى حال القوة، كي يستطيعوا مواجهة الاعتداء الغربي في إعداده المنظم وعدته القوية. - وحال الضعف التي كان عليها المسلمون إذ ذاك، تتمثل في: تفرق الكلمة -في تعصب- بسبب كثرة المذاهب وتباينها، والتقليد -في تبعية لا تخضع لترو أو فهم- لآراء أرباب الفرق، والانحراف عن الإسلام بالاعتقاد في البدع والخرافات، ككرامات الأولياء، وقدرتهم على الشفاعة والوساطة. هذا إلى سلبية واضحة في الحياة باتباع التصوف المنحرف، وتحكم عقيدة الجبر والتسليم في التوجيه! - أما حال القوة: فهي في طرح ذلك كله. والتمسك بالقرآن كأساس موحد بين المسلمين، وإيجابية في الحياة بمباشرة الاجتهاد على الوضع الذي كان عليه السف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 حال الضعف التي وصفها جمال الدين للمسلمين في وقته، هي حال الضعف التي كان عليها المسلمون في وقت "ابن تيمية". ووسيلة القوة والتكتل التي حددها ابن تيمية من قبل، هي الوسيلة التي تمسك بها جمال الدين، وأصر على سلوكها. وليس هناك اختلاف بين الاثنين، سوى أن: ابن تيمية برهن كعالم إسلامي مطلع، واستخدم الدليل الديني والمنطقي في تدعيم رأيه، وكتب وراسل وألف. أما جمال الدين فاتخذ أسلوب "الإثارة" وإيقاظ الوعي، فتحدث وخبط، واتصل بزعماء المسلمين وقادتهم اتصالا شخصيا مباشرًا، مستحثا هممهم، ودافعا إياهم إلى مقاومة الاعتداء الغربي، في أية صورة من صور المقاومة؛ لأنه اعتداء مذل مخرب. - ابن تيمية: كان مضطرا أن يؤلف، وأن يحاج بالدليل النظري والمنطقي أو النقلي؛ لأن خصومه في داخل الجماعة الإسلامية دفعوه إلى الحجاج والنزاع العلمي، وهؤلاء الخصوم هم أرباب الفرق الإسلامية المختلفة. أما جمال الدين: فقد حدد له خصومة -وهم المستعمرون- نوع الوسيلة التي يقاوم بها، وهي وسيلة الإثارة، والتكتيل الشعبي، عن طريق إلهاب العواطف واستفزاز الهمم الإنسانية والحماس الديني. إذ المستعمر كان حاكما للشعوب الإسلامية، ومقاومته يجب أن تكون -في الصف الأول- من الشعوب ذاتها، وتكتيل الشعوب، وتجميع القوى المنثورة فيها، يتبع إثارة العواطف قبل أن يتبع الإقناع بالحجة. ومع ذلك فقد خلق جمال الدين جيلا من القادة، خلفه بعد وفاته، على أساس من المعرفة والتبصير الهادئ الرزين، وعلى أساس من فهم صحيح للإسلام وتعاليمه، وفي توجيه العالم المجرب، فلم يكن جمال الدين قائد شعب أو شعوب ضد اعتداء أجنبي قوي منظم فحسب، بل كان مع ذلك رائد فكرة، ورائد فهم سليم للإسلام، ولولا دفع جمال الدين الأفغاني وتبصيره العلمي الإسلامي، لما رأينا من بعد شخصية كشخصية الشيخ محمد عبده، تتميز كل التميز عن أقرانها يومئذ في فهم الإسلام وفي تقدير قيمه، وفي فهم الحياة وظروفها، ولما وجد هذا النظام الإسلامي الشامل للحياة الإسلامية في ظل الإسلام وتعاليمه، الذي وضعه تلميذه المخلص محمد عبده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 هذا فضلا عن الفارق، الذي ذكر غير مرة. وهو: أن كلا من حركة ابن تيمية وحركة جمال الدين الأفغاني، أخذت طابعا معينا، أملته ظروف كل من صاحب الحركتين. فقد أملت ظروف الشيخ جمال الدين عليه وسيلة الكفاح في رد الاعتداء, كما أملت عليه طابع حركته, فأصبح مظهرها مصبوغا بالصبغة السياسية؛ لأنها في مواجهة اعتداء سياسي مقنع، ينطوي تحته اعتداء صليبي، وقد كشف اللورد اللنبي -بعدما استولى على القدس في أعقاب الحرب العالمية الأولى- هذا القناع بكلمته المشهورة: "الآن انتهت الحروب الصليبية، وانتصرت"!! تقدير المستشرقين لجمال الدين الأفغاني: مع نشاط جمال الدين الواسع، وحركته الدائبة في مقاومة الاستعمار الغربي، وجلده القوي الطويل المدى في هذه المقاومة، يحاول المستشرقون وزنه وتقديره في جانبه الفكري، على أساس أنه لم يكن عميق التفكير ولم يكن الشخص الذي يمكنه أن يفيد الإسلام في عرض أفكاره وتعاليمه له. يعلق المستشرق الإنجليزي "جب" عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" The Modern Trends in Islam على رأي "محمد إقبال" في جمال الدين، على النحو الآتي1: "إقبال يرى أن جمال الدين كان إنسانا له نظرة عميقة في تاريخ الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية. لذلك كان يعتقد أن جمال الدين لو ركز قوته الذهنية في خدمة الإسلام كنظام للتوجيه الإنساني والحياة الاعتقادية للإنسان، لوجد العالم الإسلامي اليوم على أساس أقوى بكثير".. وعلى هذا الرأي يعقب "جب" بقول: "إن العمل الوحيد الذي نشر لجمال الدين هو كتاب "الرد على الدهريين" وهو عمل لا يوحي مطلقا بأن جمال الدين إنسان له هذه الاستطاعة العقلية، على نحو ما تنبأ إقبال"!! ولو فارقنا "جب" إلى مستشرق آخر ... مثل "برون" Brown أو "آدمز" Adams، لوجدنا أن جمال الدين في كتاباتهم: شخصية تملكها   1 صفحة 28-29 من كتاب: The Modern Trends in Islam. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الحق على الاستعمار الغربي، بعد أن تمكنت منه العاطفة غير المعتدلة في أحكامه وفي مقاييسه، أما نصيبه في التفكير عند أمثالهما: فغير وافر في كمه، وغير عميق في نوعه!! يقدر المستشرقون جمال الدين على هذا النحو؛ لأن جمال الدين واجه الاستعمار الغربي وجها لوجه، ولم تضعف إرادته في مقاومته، ولم يدار أو يموه بالنسبة لنقائص الغرب في المجتمع البشري، وقد أشاد بالإسلام في مواجهة المسيحية، فكان نصيبه من دراسة المستشرقين لآثاره نصيب المفكر الإسلامي ابن تيمية، الذي وصف في كتاباتهم بضيق الأفق وعدم تقديره للعقل الإنساني فيما كتبه في: "رد المنطق"، ويعلم الله أن ابن تيمية أراد بكتابه هذا أن يبين أن الإسلام ليس في حاجة إلى "منطق الإغريق" ليروج، أو لتوزن به مبادئه، فله أسلوبه الخاص، ومنهاجه الواضح في الدعوة إلى الله وهدايته للإنسان، ولكن السبب الخفي في الحقد على ابن تيمية، هو مهاجمته للمسيحية، في شخص الصليبية التي حاولت انتزاع بيت المقدس من المسلمين، كما حاولت تحطيم جمعهم والنيل من مقدساتهم. وقبل أن ننتقل من عرض الكفاح الفكري الديني والسياسي لجمال الدين الأفغاني، يجب أن نشير إشارة وجيزة إلى رده على المستشرق الفرنسي رينان Ernest Renan أثناء إقامته في باريس سنة 1882م. ألقى رينان محاضرة في السوربون عن: "الإسلام والعلم" في مارس سنة 1883م وذكر في هذه المحاضرة: أن الإسلام لا يشجع الجهود العلمية، بل هو عائق لها، بما فيه من اعتقاد للغيبيات وخوارق العادات، وإيمان تام بالقضاء والقدر "الجبر". وتولى جمال الدين الرد عليه في Journal Des Debats ... ويتلخص رده فيما يلي: "إن المرء ليتساءل بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها: أصدر هذا الشر عن الديانة الإسلامية نفسها، أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت بها الديانة الإسلامية في العالم، أم أن أخلاق الشعوب التي اعتنقت الإسلام أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 حملت على اعتناقه بالقوة وعاداتها وملكاتها الطبيعية هي جميعا مصدر ذلك؟؟ "1. ومعنى هذا: أن تقييم الإسلام، من حيث هو دين ومنهج هداية من الله سبحانه وتعالى، يجب أن لا يدخل فيه ما ينسب للإنسان من أفهام وعادات، وإنما يجب أن يراعي في تقييمه -فحسب- مدى حظ مبادئه في هداية الإنسان وتوجيهه الوجهة السليمة الملائمة لحياته، كإنسان متميز عن غيره من الكائنات الأخرى: يجب أن لا تكون صنعة الإنسان العقلية فيه، وعاداته التي ورثها، هي الميزان والفيصل في تقدير مبادئ الإسلام. وفي هذا المجال بالذات، سنعرض لرد الشيخ محمد عبده فيما بعد على ما ذكره رينان هنا ... وسيتجلى لنا فرق واضح بين رد التلميذ وأستاذه: ففضلا عن أن الشيخ عبده أوضح تماما "وجوب الفصل في القيم" وعدم الخلط في تقييم الفكر والمبادئ بقيم حامليها والمتصلين بها، فقد عمد إلى شرح عقيدة "القضاء والقدر" التي كانت محور تشنيع رينان على الإسلام، بما يبعدها تماما عما يسمى "بالجبر" وجعل هذه العقيدة حافزا ودافعا لمن يعتقدها إلى العمل والسعي الإيجابي في الحياة. وبذلك استطاع الشيخ عبده أن يدخل دخولا مباشرا في المشكل، ويحدد معناه من تاريخ الإسلام نفسه، رافضا المعنى الآخر الذي يعتبر دخيلا، وهو معنى "الجبر" الذي يراد أن تؤسس عليه النتيجة التالية: أن يدعو إلى عدم العمل، فهو لذلك صورة من الصور الـFatalism، أو هو ذلك المذهب المعروف، بالتواكل. ولأن السيد جمال الدين لم يعن في هذا الرد عنايته في الرد على الدهريين بالهند، ولم يكن لتفكيره هنا نفس العمق ولا أسلوب الجدل القوي اللذين يكونان طابع التفكير عند الشيخ عبده في رده على رينان، قصدنا إلى الإشارة الموجزة لرد السيد جمال الدين هنا إتماما لتصوير كفاحه ضد الاستعمار الغربي في مظهره السياسي، وفيما أوحى به هذا الاستعمار من فكرة مشككة أو عقائد ناشزة يحترفها دعاته من المسلمين، وأخيرا فيما يوعز به من الخارج، ويدفع به إلى داخل الجماعة الإسلامية، بغية تمزيقها وقصدا إلى خلخلة الصلة بين المسلم وإسلامه.   1 أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث: ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 مات جمال الدين في سنة 1897م، بعد صراع عنيف مع الاستعمار الغربي استمر قرابة ثلاثين عاما، ولكن ما أن توفي -عليه رحمة الله- حتى انتشر كفاحه واتجاهه في التفكير في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبخاصة في تلك الأنحاء التي تسلط فيها الأجنبي وعبث بمقدسات المسلمين وبكراماتهم واقتصادياتهم ومواردهم في الثروة الطبيعية. مات جمال الدين في استانبول، وظهر أثره. -في مصر: عند محمد عبده ومدرسته "السلفية". - وفي الجزائر: في جمعية علماء الجزائر "لمؤسسها المرحوم عبد الحميد بن باديس المتوفى سنة 1940م". - وفي أندونيسيا: في حركة تجديد "المنار". - وفي الهند: جماعة أهل الحديث. وفي ندوة العلماء "لمؤسسها محمد شبل النعماني المتوفى سنة 1941م" وفي أزهر الهند: في مدرسة دار العلوم في "ديوبند"، والتي نقلت بعد تقسيم 1948م "إلى أكوري" ببشاور في الباكستان. وفي كل هذه الحركات نجد هدفا واحدًا: هو تحرير الوطن الإسلامي من الاستعمار الغربي، ومحاربة الاتجاه الاستعماري في التفكير ثم نجد مع هذا الهدف، الوسائل لتحقيقه. - أما تحرير الوطن الإسلامي من الاستعمار الغربي في كل هذه الحركات: فيعتمد على استرجاع قوة المسلمين في تكتلهم وتآخيهم. واسترجاع هذه القوة يعتمد بالتالي على طرح ما طرأ على الإسلام من عادات غريبة في السلوك، وأفهام سقيمة في تخريج نصوصه وشرح تعاليمه. ثم على الرجوع إلى موقف المسلمين الأول من القرآن في استلهامهم التوجيه منه مباشرة، لطبع تصرفاتهم بالطابع الإسلامي من جهة ولوصولهم إلى الغاية التي ينشدونها في أمان وسرعة من جهة أخرى. - وأما محاربة الاتجاه الاستعماري في التفكير، فبالوقوف في وجه الشبه التي تثار، والتخريجات المغرضة لنصوص مصدري الإسلام: القرآن والسنة الصحيحة. وبيان محاولات تزييفها بالأسلوب العلمي والتاريخي، وتصحب ذلك محاولة تقريب مبادئ الإسلام من العقلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الإسلامية الحديثة، وتوضيح أن هذه المبادئ هي لتوجيه الإنسان توجيها سليما، سواء في عصر الإبل، أو في عصر الحضارة القديمة، الهندية، والفارسية، والإغريقية، أو في عصر الحضارة الإسلامية، أو في عصر البخار والآلة، أو في عصر الذرة والإنسان الآلي الذي لم يشهده جمال الدين. وتوضيح ذلك كله، وليس من الوجهة النظرية فحسب، بل من الوجهة العملية أيضا. ولهذا الشبه في الهدف والوسيلة بين هذه الحركات التي ترجمت كفاح جمال الدين الأفغاني من جديد، نجد ما ينسب إلى الشيخ عبده في مصر من حركة إصلاحية، ودعوة إلى تحديد المفاهيم الإسلامية تحت تأثير الحياة الحديثة وما فيها من حضارات لم تكن مألوفة، وإمكانيات لسيطرة الإنسان على الحياة لم يكن للمسلمين عهد بها من قبل. هو ما نجده كذلك عند زعماء تلك الحركات "التحررية". والاختلاف بينها في سعة الحركة الإصلاحية أو ضيق نطاقها. أو في قوة الدعوة إليها أو ضعفها! وما ينسب للشيخ عبده: من منهاج تربوي لتنشئة المسلم الصغير، وتقويم العامي، وتخريج الدعاة والباحثين، وتثقيف المرأة، وما نجده عنده من منهاج للتعليم "الوطني". نجده أيضا أساسا من أسس تلك الحركات، مع ما قد يكون من فارق بينهما في النوع أو الكمية! - فالتعبئة العامة للشعوب الإسلامية على أساس من دينها، لا على أساس من مذاهب الطوائف فيها، ومن أجل هذا الدين هي مجمل هذه الحركات. - وأن يكون الدين لسيادة المؤمنين به، وأن يكون واجب هؤلاء المؤمنين أن يحافظوا عليه ويتمسكوا به ويدافعوا عنه لتبقى لهم السيادة هذا هو شعار تلك الحركات. ذلك وصف إجمالي للاتجاه الفكري الإسلامي المقاوم للاستعمار الغربي، أما الاتجاه الآخر المقابل له.. فقد أدرك الاستعمار أن مذهب العقيدة الجديد الذي ساعد هو على قيامه وانتشاره في الهند، وفيما وراء الهند بعد ذلك في آسيا وأفريقيا، حتى أوروبا نفسها "في لندن وألمانيا" سوف لا يلقى الانتشار المرجو له؛ لأن مخالفته الأصول الإسلامية بدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 مخالفة واضحة صريحة، كما سبق أن أشير إلى ذلك. ومع ذلك يجب أن تستمر مساعدته ومساندته، إذ مهما كان من أثر فسيجذب بعض تفكير المسلمين المعارضين إلى بحث قضايا دينية، وسيثير عندهم جدلا، وسيأخذ من وقتهم ما يخف به ضغطهم ضد الاستعمار, وتضعف به يقظتهم لأسلوب آخر يستخدمه الاستعمار في تأمين نفسه، ولن يكون آمنا على نفسه إلا عندما ينقسم المسلمون إلى شيع يجادل بعضها بعضا، وإلا عندما تضعف القيم الإسلامية في نفوسهم. لهذا عاد الاستعمار من جديد فشجع اتجاه السيد "أحمد خان" وهو اتجاه "التجديد" في الإسلام، ومحاولة الملائمة بين تعاليم الإسلام وقوانين "العلم" أو الطبيعة. وهنا -منذ انتهاء القرن التاسع عشر- برزت نزعة التجديد في التفكير الإسلامي وتحديد غايتها في وضوح: - في محاولة الملائمة بين العلم والدين. - وفي اعادة امتحان أسس العقيدة واختبارها، في ضوء الفكر الغربي الحديث. وظهر في مصر مجددون. وفي الهند، وفي إيران، وفي تركيا.. ظهر مجددون آخرون!! وفي الوقت الذي كانت عوامل الاستعمار الغربي تعين على دفع حركة التجديد في هذه الخطوات في سيرها نحو تقريب الفكر الغربي للعقلية الإسلامية على حساب التعاليم الإسلامية الأصيلة، بدعوى الملائمة بينهما، وبدعوى أن الفكر الغربي الحديث أثبتت الحضارة الغربية قيمته ووزنه في الحياة، فلكي يعيش الإسلام أو لكي يبرهن الإسلام على وجود نفسه أو صحته: يجب أن يسير في اتجاهه ويختبر نفسه بموازينه. في هذا الوقت نفسه، كانت عوامل الاستعمار نفسها تضغط على الثقافة الإسلامية، وعلى المظاهر الإسلامية بين الشعوب الإسلامية، بدعوى أن التشدد فيها نكسة ورجعية، وأن التزام مجاراتها يبعد الإنسان الحديث عن أن يعيش في الحياة الحديثة! وقد ربط الاستعمار في التدليل على ذلك بين حال المسلمين إذ ذاك -وهي حال متأخرة- هزيلة. وبين ما سماه التمسك بالإسلام أي: إن تلك الحال المتأخرة هي نتيجة التمسك بالإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ترى أي إسلام يتمسك به المسلمون أصحاب هذه الحال؟. أهو إسلام القرآن. أم إسلام البدع وإسلام التعصب للمذاهب؟ وتولى أعوان الاستعمار في الأجهزة المشرفة على التعليم والتوجيه الرسمي القيام بهذه الرسالة: وهي الضغط على الثقافة الإسلامية في برامج المدارس وفي الوظائف الحكومية، وفي حياة المجتمعات الإسلامية. وهكذا وجد في الهند، وأندونيسيا، والجزائر، "دانلوب" آخر، على نحو "دانلوب" مصر!. ووجد ازدواج في التعليم: أحدهما مدني والآخر ديني. والمدني هو التعليم التقدمي، والديني هو التعليم الرجعي!! وصاحب الثقافة المدنية هو الأجدر لذلك بوظائف الحكومة، أما صاحب الثقافة الدينية فهو نفسه لا يصلح للحياة في نظر هذا المنطق، فضلا عن أن ينتظر منه أن يساهم في دفع الحياة إلى الأمام! والأزهريون في مصر، والمتخرجون في مدرسة دار العلوم "بديوبند" بالهند وفي جامع الزيتونة بتونس، وجام القرويين بالمغرب، يحملون صفة التخلف عن ركب الحياة لا لشيء إلا أنهم حملة الثقافة الإسلامية ودعاة الفكر الإسلامي المناوئ للاستعمار، وانقسمت الجماعة الإسلامية بذلك في كل قطر إسلامي إلى جماعتين، كل منهما تحمل الحقد والكراهية للأخرى، والاستخفاف في التقدير، وسوء الفهم في المعاملة!! - وظهر في أصحاب الثقافة المدنية، أي: اللادينية واللاإسلامية: فريق دعاة التجديد. - بينما قام من أصحاب الثقافة الإسلامية: نفر -قليل- يدعو إلى "الإصلاح الديني" وإلى تمجيد القيم الدينية، كما يدعو زملاءه في الثقافة إلى تحصيل المعارف الحديثة، لا حرصا على المساهمة في هذه الحياة القائمة؛ ولكن لأن الإسلام نفسه يدعو إلى العلم والحضارة، كما يدعو إلى القيم والفضائل الإنسانية! ومن هنا وجدنا الشيخ "محمد عبده" في مصر يدعو إلى إصلاح الأزهر، ويربط بين إصلاحه وإصلاح حال المسلمين، وفهم رسالة الإسلام على حقيقتها. وأخيرا يربط بين هذا الإصلاح من جانب، ومقاومة الاستعمار الغربي وسيادة الأمة الإسلامية على نفسها من نفسها من جانب آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ودعوة الشيخ "محمد عبده" لإصلاح الأزهر صادفتها دعمة مماثلة في الجزائر عن طريق "جمعية العلماء"، التي حرصت كل الحرص على تحويل أكبر عدد ممكن من المدارس الأولية في القرى إلى مجال تحفيظ القرآن الكريم، إبقاء على اللغة العربية وعلى الروح الإسلامية والشعور بالإخاء الإسلامي. ذلك الذي بدا أثره واضحا اليوم في الكفاح الدموي بين مسلمي الجزائر والاستعمار الغربي، ولم يؤثر قرن وربع قرن من الزمان على تلك الروح!! وفات على المستعمر مقصده الذي طالما سعى لتحقيقه المستمر بمحاربة اللغة العربية، ومنعها من التداول، إلا في نطاق ضيق، وكذا بتشويه الإسلام عن طريق الإرساليات التبشيرية، وما يسميه بالبحوث العلمانية، وبحوث المستشرقين، أصحاب المشورة والرأي في توجيه السياسة الاستعمارية في الشرق الإسلامي. وعلى غرار دعوة الشيخ "محمد عبده" في مصر قامت دعوة أخرى في الهند، سواء في مدارس "أهل الحديث" هناك، أو في مدرسة "دار العلوم" بديوبند. ولم يفت الاستعمار الغربي مع ذلك أن يبشر بفكرة جديدة تبدو بعيدة عن الإسلام وتعاليمه، ولكنها متصلة به اتصالا وثيقا. فإن نجحت هذه الفكرة كانت وسيلة أخرى لفصم المسلم عن إسلامه أو إضعاف اعتقاده به، وإن لم تنجح فقد خلقت جوا من التوتر بين المسلمين، وبالتالي أحدثت اهتزازا لماضي المسلمين!! من ذلك: فكرة كتابة العربية بالحروف اللاتينية كما فعلت تركيا. وفكرة نشر "الثقافة الخفيفة". وفكرة اللغة العامية في أسلوب الكتابة وفي أحاديث الإذاعة وفي مقالات الصحف. كل ذلك بدعوى أن ذلك يجاري الواقع من جهة، أو يدعو إلى تخفيف الانفصالية بين الشرق والغرب من جهة أخرى!! وكل هذه الأفكار تقوم على وضع حجاب كثيف بين ماضي الشعوب الإسلامية -في تاريخها وإسلامها وكفاحها وبطولتها- وبين حاضر هذه الشعوب، حتى لا تستطيع أن تستند إلى ذلك الماضي يوم أن يعتدى عليها أو تسلب حقوقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 على أن الاستعمار الغربي وقد وضع خطته هذه في توجيه الفكر الإسلامي وجهة ملائمة له، وعمل على ضغط الثقافة الإسلامية: بالتقليل من شأنها، وإبعادها عن مجال التثقيف، والتخفيف من شأن حملتها، بتقديرهم تقديرا ماديا متواضعا في الدائرة الضيقة التي يسعون للتوظف فيها. لم يفته أن يضع مثل ذلك في سياسته التي يدير بها الشعوب الإسلامية الأخرى. - فخلق المشكلات الطائفية في "لبنان". متذرعا بإحصاءات واعتبارات تتلاعب في تقديرها الأهواء، ليحول وجودها دون تكتل شعوب الشرق الأدنى على أساس من الإسلام. - وأنشأ "إسرائيل" كدولة يهودية. ليحول إنشاؤها دون تكتل هذه الشعوب على أساس من مقومات اللغة العربية، والتاريخ العربي المشترك. - وقرار "تدويل القدس". ليس سوى عمل سياسي استعماري غربي لتحقيق فكرة الكتلة الصليبية، في إبعاد المسلمين "البرابرة" عن مهد "الإنسانية"!! ولا يفوتني هنا بالذات، أن أشير إلى سذاجة وزير مصري مفوض لدى الفاتيكان في العهد السابق قبل قيام الثورة -وبعد أن نشأت العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان وبين مصر في أعقاب الحرب العالمية الآخيرة- كان يكتب التقرير تلو التقرير إلى وزارة الخارجية المصرية يمجد فيها رأي الفاتيكان في تدويل القدس، ويعد هذا الرأي تقربا من المسيحية الكاثوليكية إلى الإسلام، ويطلب مزيدا من التعاون بينهما في النطاق الدولي، والنطاق الثقافي. وللفاتيكان نفسه عشرات من المدارس الدينية في مصر، لها أسماء مختلفة بأسماء عدد من القديسين، وبأسماء دينية مسيحية: "كالسكركير" و"المير دي دييه" و"الفرير" و"الجزويت"، وهي تعلم لغات مختلفة كالألمانية والفرنسية والإيطالية والأسبانية، وهدفها واحد والتوجيه فيها يخضع لمجلس يرأسه القاصد الرسولي في مصر، وهو ممثل دولة الفاتيكان!! - وما مشكلة "كشمير" إلا وسيلة أخرى للحيلولة دون نمو الباكستان وتقدمها الزراعي على وجه خاص، وخلق هذه المشكلة عند قيام هذه الدولة أشبه بتهديد الفناء لمولود جديد، لم تتوافر له كل إمكانيات المولود الطبيعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 - إن دعاة "الإصلاح الديني" بعد جمال الدين الأفغاني يمثلون حركة دفاع أو إنقاذ. - وعادة "التجديد" بعد السير أحمد خان، يمثلون الهجوم الصليبي الاستعماري الغربي على مقومات المسلمين. ولكن ليس بلازم أن يكون جميع هؤلاء المجددين على صلة مباشرة بالاستعمار الغربي وبخططه، بل كثيرا ما يكونون قد تأثروا ببريق "التجديد" وما صحبه من حضارة مادية تأثرا إيجابيا، بينما تأثروا على النقيض بحاضر المسلمين، ومستوى حياتهم المتواضعة، وضعف سعيهم نحو حياة ومستقبل أفضل. وسنعرض فيما يلي لاستمرار الفكر الإسلامي المقاوم للاستعمار، في حركة الشيخ "محمد عبده". على أن نتبعه بعرض للاتجاه الآخر في صورة "التجديد" و"المجددين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 محمد عبده : يصور الشيخ "محمد عبده" أهداف تفكيره بقلمه الخاص فيما يلي: "وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: - الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفها إلى ينابيعها الأولى، واعتباره -الدين- ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه. وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلال علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم. - أما الأمر الثاني: فهو إصلاح اللغة العربية. - وهناك أمر آخر: كنت من دعاته، والناس جميعا في عمى عنه، وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية, وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه ... وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب, وما للشعب من حق العدالة على الحكومة, نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها. دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم -وأن وجبت طاعته- هو من البشر الذين يخطئون، وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يوقف طغيان شهوته إلى نصح الأمة له بالقول والفعل! "جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له، أي عبيد!! "نعم، إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع!! غير أني كنت روح الدعوة. أصبت نجاحًا في كثير مما عنيت به، وأخفقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 في كثير مما وجهت عزيمتي إليه، ولكل ذلك أسباب: بعضها مما غرز في طبعي. وشيء منها مما دار حولي"1. محمد عبده في طريق جمال الدين: لم يشذ الشيخ محمد عبده في حركته الفكرية، عن أن يسير في ذات الطريق الذي سلكه جمال الدين الأفغاني، ولا عن الغاية التي وضعها هدفا له. كما اعتمد على نفس السند الذي اعتمد عليه أستاذه من قبل. وليس من شك في أن الشيخ محمد عبده واحد من أولئكم الزعماء الذين وصفوا بالزعماء الوطنيين. وهم في واقع الأمر زعماء مقاومة الاستعمار الغربي، ومعارضة النفوذ الأجنبي في دائرة العالم الإسلامي "العربي"!! وهو لا يقل في التأثير على التوجيه القومي عن مواطن معاصر له مثل "مصطفى كامل"، صاحب تلك الحركة التي اتجهت إلى مقاومة الاستعمار الإنجليزي مباشرة في مصر، ورئيس الحزب الوطني السياسي في السنوات العشرة الأخيرة، من حياة الشيخ محمد عبده. وإذا كان الشيخ محمد عبده قد ابتعد في الفترة الأخيرة من حياته التي تزعم فيها مصطفى كامل الحركة الوطنية في مصر، وإذا كان لم يشاركه في التوجيه السياسي القومي ضد الاستعمار الغربي في ذلك الوقت، مؤثرا تركيز نشاطه الخاص في الجانب العلمي والديني. فإن ابتعاده عن مجال هذا التوجيه السياسي القومي طوال هذه الفترة لا يحول دون أن يؤرخ له كصاحب دور رئيسي في توجيه الحركة الوطنية المصرية، التي برزت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. أما سبب اعتكافه وتوفره على الجانب العلمي والديني، فلعله رأى أن العمل في هذا الجانب ليس متوفرًا لكثير من أصحاب النشاط في الجانب القومي والسياسي إذ ذاك، لعدم توسعهم الكافي والعميق في فهم المبادئ الإسلامية، والمصلحة الوطنية نفسها تقضي عندئذ بتوفره هو على ذلك. أو لعله رأى من تجاربه في الصراع الوطني السابق على الاحتلال البريطاني الرسمي 1882م. ومن اختلافه مع عرابي وبعض رفاقه في طريقة الصراع   1 تاريخ الإمام محمد عبده ج1 ص11, 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وأسلوب الكفاح، أن الأولى له -لعدم تبديد نشاطه وقوته- أن يتوفر على الجانب الذي توفر عليه أخيرًا، وهو الجانب الإسلامي الفكري والتربوي. ومنذ هذا الحين الذي اعتزل فيه الشيخ عبده الإسهام في قيادة الجانب القومي وترك الزعامة فيه لغيره، واحتضن الجانب الإسلامي -تفكيرا، وتعليما، وإحياء- منذئذ عرف في تاريخ الحركات الإسلامية في العالم العربي خاصة، أن لكل من الجانبين: الوطني والديني زعماء باشروا قيادته وتوجيهه: - عرفت "للشيخ محمد عبده" مدرسة، وعرف له أتباع وتلاميذ. - كما عرف لـ"مصطفى كامل" أنصار وأشياع. ولكن هذا الفصل بين الجانبين، يرجع إلى تنظيم الجهود الوطنية في مقاومة الاستعمار الغربي، أكثر من أن يهدف إلى تحديد مناطق نفوذ بأن تكون للدين منطقته وللسياسة منطقتها، ولم يعرف لأي اتجاه قومي أصيل في العالم العربي خاصة، منذ أخريات حياة الشيخ محمد عبده حتى الآن، أنه يحاول قصر الإسلام على "ضمير الفرد" وإبعاده من علاقة الفرد بالفرد في الجماعة، أو في علاقة الأفراد بالدولة، أو في علاقة الدول بعضها ببعض! ولقد أسس "مصطفى كامل" حركته لمقاومة الاستعمار البريطاني في مصر على أمرين رئيسيين: - على خلق الوعي الوطني. - والوعي الإسلامي. وكان من رأي "مصطفى كامل" أن التعليم العالي، والتعليم الجامعي على الأخص، هو وسيلة إيجاد الوعي الوطني. أما إيقاظ الشعور الإسلامي، وربط مصر بالعالم الإسلامي الخارجي على أساس من التذكير بتعاليم الإسلام، فقد وكل أمره إلى الصحافة. على أن تسهم أيضا في تقوية الوعي الوطني المصري. وقد اختلف مصطفى كامل مع الشيخ محمد عبده فترة من الوقت. ولكن لم يكن مرجع هذا الاختلاف إلى أن الشيخ عبده كان يدعو إلى التمسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بالإسلام ويدعو إلى العودة للقرآن على نحو ما دعا؛ بل لأنه توفر على ما سماه بـ"الإصلاح الديني"، وابتعد كلية عن الإسهام في التنوير السياسي العالم. - وإن الحركة القومية التي عرفت في مصر سنة 1919 برئاسة "سعد زغلول" إنما نشأت ونمت داخل جدران الأزهر، واعتمد خطباؤها على المنابر في المساجد، والمجتمعات العامة السياسية، كما اعتمد كتابها في الصحافة على كثير من آيات القرآن. وهي الآيات التي تنصح بالتعاون والتماسك، وتدعو إلى نبذ ولاية الأجنبي، ومقاومة نفوذه في التوجيه، وتصريف شئون الجماعة الإسلامية. - كما أن مقاومة السلطة البريطانية المنتدبة من قبل عصبة الأمم في جنيف بعد الحرب العالمية الأولى على العراق وفلسطين، تأسست على تمجيد الإسلام، والدعوة إلى التمسك به في مقاومة النفوذ الأجنبي. وقد كان "مفتي فلسطين" -في ذلك الوقت- رمز الزعامة الوطنية السياسية الفلسطينية!! - وكذلك صدرت مقاومة النفوذ الفرنسي في سوريا الممثل في سلطة الانتداب أول ما صدرت عن "الجامع الأمور" في دمشق، وقاد علماء المسلمين هناك المظاهرات الشعبية ضد هذا النفوذ وتولوا الكتابة عنه في الصحف! ومع ذلك فقد وضح في تاريخ الاتجاهات الفكرية داخل العالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين أن هناك فصلا -في الظاهر على الأقل- بين النشاطين: القومي "السياسي" في الحركات الإسلامية لمقاومة الاستعمار الغربي بعد جمال الدين الأفغاني، بتأثير من جمال الدين نفسه، فإن الشيخ محمد عبده بتوفره على ما عرف منسوبا إليه باسم الإصلاح الديني قد خلق مدرسة.. مدرسة فكرية، ودينية، وعلمية، وتربوية تتجه لمقاومة الاستعمار الغربي نفسه اتجاها غير مباشر، ولا تقل وزنا في تحقيق هذا الهدف عن ذلك النشاط القومي السياسي. الشيخ محمد عبده..القروي، المصري، الأزهري: عرفت بيئة الشيخ محمد عبده في القرية بأنها بيئة الرجل الفقير.. وعرفت قريته بأنها مثل من الأمثلة العديدة لمستوى الحياة المصرية الخالصة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وهي حياة الكادحين المكروبين المستذلين، والمؤمنين بالله، الذي يرون في الآخرة العوض لهم عن حياتهم الحاضرة. نشأ الشيخ عبده في هذا الجو. واتصل في تربيته بـ"كتاب القرية" ثم بالأزهر. و"كتاب القرية" والأزهر، كلاهما يعني بالإسلام الأول يعنى بتحفيظ القرآن وهو المصدر الأول للإسلام، والثاني يعنى بتدريس شروح القرآن وبمدارس المسلمين الفقهية والكلامية والأصولية، كما يعنى باللغة العربية في قواعد إعرابها وفي وصف أسلوبها, والأزهر في عنايته بالمعرفة الإسلامية التي تدور حول القرآن الكريم، إنما كان يعنى بها على النحو الذي وصلت إليه هذه المعرفة في الحلقة الأخيرة من تاريخ الفكر الإسلامي والتأليف العربي: - منحى الجدل العقلي، الذي يجري لأجل الدربة الذهنية، أكثر من استخدامه لمعرفة قيمة الحجة. - ومنحى المناقشات اللغوية التي تدور حول اللفظ أو التركيب المفرد. أكثر مما تدور حول المعنى والهدف العام للأساليب!! - وهو منحى التزام أحكام فقيهة خاصة صدرت في وقت معين من مؤلفين معينين، أكثر من التزام منهج لتقدير هذه الأحكام ثم البناء عليها!! وبحكم ظروف خاصة بالشيخ عبده، أضاف إلى هذا اللون من المعرفة -في تنشئة نفسه- لونا آخر تأتى له عن طريق خال والده الشيخ درويش خضر. ذلك "الشيخ" الذي اتصل بـ"الزاوية السنوسية" وتعلم فيها وسيلة صفاء القلب، وعرف عن طريقها ما يجب أن يتبع في فهم الإسلام وذلك بالاحتكام إلى القرآن والسنة الصحيحة، وعدم التعصب لما سواهما من أقوال أرباب المدارس والشروح والمؤلفين المسلمين، وهذا الذي كان يمارسه الشيخ درويش خضر من الإسلام العملي، وما كان يعرفه من الإسلام، ومن مقاييس فهمه، هو ما يعرف بالنظام الصوفي الفكري الإسلامي "للسنوسي الكبير" وهو نظام يهدف إلى سمو الروح، وتهذيب النفس، وتوكيد أواصر الأخوة الإسلامية، وإجادة فهم الإسلام. بهذين اللونين من المعرفة: ما كان عن طريق الأزهر، وما كان عن طريق الزاوية السنوسية ... تكونت لدى الشيخ محمد عبده: - معرفة عقلية للإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 - ومباشرة عملية لتهذيب النفس. - ثم تقدير للثقافة الإسلامية القائمة في الأزهر إذ ذاك. - وفي ضوء ذلك كله ابتدأ -بعد تلمذته على الشيخ خضر- يتخير أساتذته في المرحلة الأخيرة من مراحل دراسته في الأزهر. - فتخير "الشيخ حسن الطويل" لدراسة الفلسفة السينائية، والمنطق الأرسطي. - والشيخ "محمد البسيوني" لدراسة الأدب العربي. - وبعد أن علم بقدوم "جمال الدين الأفغاني" إلى القاهرة اتصل به، وصحبه في مجالسه وندواته, وجمال الدين هو السياسي الثائر على استعمار الغرب للبلاد الإسلامية. - وكما ابتدأ يتخير أساتذته بين علماء الأزهر ابتدأ ينقد الطابع العام لتفكير رجال الأزهر، وكتب الدراسة فيه، وطرق التدريس المتبعة هناك. - وباتصاله بجمال الدين الأفغاني ابتدأ يدرك الحالة الداخلية في مصر: من سوء معاملة الحكومة للفلاحين، ومن الاستبداد السياسي القائم في الحكم. وهي حالة انطبعت في نفسه منذ أن نشأ في قريته. ولكنه ربما لم يستطع أن يدركها، ويعبر عنها تعبيرا واضحا قبل أن يتصل بجمال الدين. وباتصاله بجمال الدين، ابتدأ يدرك أيضا زيادة على ذلك: التعقيد السياسي والاقتصادي في مصر، وتسرب النفوذ الأجنبي في المشاكل المصرية، وتسربه باسم الإصلاح القومي، أو باسم المصلحة الأوروبية!! وهكذا جمع الشيخ "محمد عبده" في معرفته: - بين بيئة القرية، وبيئة المدينة التي هي مقر الحكم في مصر. - وبين المعرفة العقلية، والتهذيب الروحي الصوفي المتزن. - وبين تفكير القرون الوسطى والتفكير المعاصر في وقته. - كما عرف الجمود في التفكير، والثورة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ولقد حرص الشيخ عبده على ماضيه. كما حرص على أن يعيش في حاضره، ولكن على سند من الماضي وفي أسلوب الحاضر. الشيخ محمد عبده المفكر: تناول الشيخ محمد عبده في تفكيره عدة جوانب رئيسية: - الجانب القومي والوطني. - والجانب الاجتماعي. - وجانب الاعتقاد. - وأخيرا ... الجانب التربوي والتوجيهي العام. الجانب القومي: تناول محمد عبده في الجانب القومي: حدود الوطن، وضرورة شعور المواطن بوطنه، والصلة الوثيقة بينهما يقول: "وجملة القول إن في الوطن من موجبات الحب والحرص والغيرة، ثلاثة تشبه أن تكون حدودا: - الأول: إنه السكن الذي فيه الغذاء، والوفاء والأهل، والولد. - الثاني: إنه مكان الحقوق، والواجبات التي هي مدار الحياة السياسية وهما حسيان ظاهران. - والثالث: أنه موضع النسبة التي يعلو بها الإنسان ويعز، أو يستغل ويذل.. وهو معنوي محضا"1. ثم يستطرد فيقول: "ولقد كان بعض الناس يحاولون خلع الشعار الوطني عن ذوي الحقوق والواجبات في مصر، وإلباسهم جميعًا لباس الجهالة والذل، ولكن   1 تاريخ الإمام: ج2 ص195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أبت الحوادث إلا أن تثبت لنا وجودا وطنيا، ورأيا عموميا، ولو كره المبطلون ... على أن منهم فئة لا يزالون يؤلمون أسماعنا بما يكررون من سفساف القول، من مثل: أننا تعودنا احتمال الظلم والحيف، ,ألفنا الخدمة والرق، فلن يستقل لنا رأي، ولن نهتدي سبيل الحرية!! كأنهم لا يعلمون أن أهل الغرب أجمعين تعودوا مثل ذلك الحيف أعصرا، وكانوا في قديم الأيام على ضروب من الرق وانخفاض الجناح!! ولئن كان من فضل هذه المائة "القرن التاسع عشر" أن يكتب في صدر تاريخها تحرير أرقاء العصر السالف، فقد رجونا أن يختم ذلك التاريخ بتحرير الذين كانوا في هذا العصر"1. كما تناول في هذا الجانب نظام الشورى في الحكم، ووجوبه على الحاكم والمحكوم سواء: "وإن لنا لدليلا على ما قدمنا -من وجوب نظام الشورى- فيما فعل سيدنا عمر وقومه رضي الله عنهم، حيث قام بينهم خطيبا فقال: يا أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه! فقام رجل أعرابي فقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا! فقال عمر: الحمد الله الذي جعل في المسلمين من يقوم عوج عمر بسيفه. إذ ليس معنى تقويم الاعوجاج في هذا إلا التنبيه على الحق، والإرشاد إلى الطريق المستقيم!! "فما يدل على وجوب التشاور مع الحاكم: هو طلب عمر رضي الله عنه تقويم اعوجاجه". "وما يدل على وجوبه على المحكوم: هو إجابة الصاحبي بقوله: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا"، فإنه لا يجوز استعمال القوة إلا بعد الإعذار بالإرشاد والهدى. "وكأني بمن يقول: إن لنا فيما كان عليه السلف من طريقة التشاور لغنى عن سلوك هذه الطريقة الحالية. فأقول في جوابه: إن هذه الطريقة الحالية قد صارت -دون سواها- ذات الواقع العظيم والتأثير القوي في النفوس، ربما اتصفت به من كونها مناطا للعدل، ومظهرا للاستقامة في سائر الممالك، وحينئذ فالغاية المقصودة من التشاور لا تترتب إلا عليها، وأما   1 تاريخ الإمام: ج2 ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 طريقة السلف فقد كانت كافية في الغرض، لما أنها هي المستعملة في زمنهم. على أن هذه الهيئات ليست إلا وسائل غير مقصودة لذاتها، فإذا انقطعت الرابطة بينها وبين الغايات كانت مهملة غير مقصودة، وتحول القصد إلى ما صار بينه وبين الغاية ارتباط ووفاق"1. "وأن الشورى لا تنجح إلا بين من كان لهم رأي عام يجمعهم في دائرة واحدة، كأن يكونوا جميعا طالبين تعزيز مصالح بلادهم فيطلبونها من وجوهها وأبوابها، فما داموا طالبين هذه الوجوه فهم طلاب الحق ونصراؤه، فلا يلتبس عليهم بالباطل، ولا لوم عليهم إذا لم يأت مطلوبهم على غاية ما يمكن من الكمال.. وإن استعداد الناس لأن ينهجوا المنهج الشوري غير متوقف على أن يكونوا مندوبين في البحث والنظر على أصول الجدل المقررة لدى أهله، بل يكفي كونهم نصبوا أنفسهم، وطمحت أبصارهم للحق وضبط المصالح، على نظام موافق لمصالح البلاد وأحوال العباد"2! وإذا وجبت الشورى على الحاكم والمحكومين سواء، فإن وظيفة الحكومة بعد ذلك في الأمة تمكين الأفراد من العمل في حرية، وبالوسيلة الصحيحة، لخير أنفسهم وجماعتهم. "إن شأن الحكومة ليس إلا أن تطلق للناس عنان العمل، فيعملوا لأنفسهم ما يعلمونه خيرًا. فإن أية حكومة قيل إنها عادلة حرة، لم يكن لها إلا أن أباحت للناس، أن يدخلوا في أي باب من أبواب المنافع، ويطلبوا الخير الحقيقي بكل وسيلة"3. ولم يفت محمد عبده أن يتناول في الجانب القومي كذلك: الصلة بين ما يشرع من قوانين، وبين أحوال البلاد القائمة، وهو يرى ضرورة الصلة القوية بينهما، ولو كانت أحوال البلاد وعاداتها غير سليمة كل السلامة يقول: "ولا يتوهم أن القانون العادل، المؤسس على الحرية، هو الذي يكون منطبقا على الأصول المدنية والقواعد السياسية في البلاد الأخرى انطباقا   1 تاريخ الإمام: ج2 ص199, 200. 2 تاريخ الإمام: ج2 ص203, 204. 3 تاريخ الإمام: ج2 ص149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 تاما: فإن البلاد تختلف باختلاف المواقع، وتباين أحوال التجارة والزراعة، وكذلك سكانها يختلفون: في العوائد، والأخلاق، والمعتقدات إلى غير ذلك: فرب قانون يلائم مصالح قوم لا يلائم مصالح آخرين، فينفع أولئك ويضر بهؤلاء! إذ على مؤسس القوانين أن يراعي اختلاف الناس على اختلاف طبقاتهم وأحوالهم، وطبيعة أراضيهم، ومعتقداتهم، وكافة عوائدهم، ليتسنى له أن يحدد مصالحهم ويربط أعمالهم بحدود تجر إليهم جلائل الفوائد، وتسد عليهم أبواب المفاسد. وحينئذ لا يسوغ لأرباب الشورى أن يجاروا غير بلادهم في سن القوانين"1. ثم يضيف قائلا: "وقد جرت عادة المشرعين في كل زمان أن يراعوا في وضع القوانين درجة عقول الذين يراد وضعها لهم، حتى لا تكون مبهمة عليهم، فلا يتيسر لهم فهمها ولا معرفة الغرض منها، وأن يلاحظوا العوائد والأخلاق ملاحظة تامة، فلا يخرجوا في تأسيس القوانين عما تقتضيه من الشدة والتخفيف، فرب طائفة من الناس ينفع فيهم الزجر الخفيف، ويردعهم الوعد بالجزاء الهين، إذا كانت طباعهم سهلة الانقياد ... ورب أمة فطرت أفرادها على الغلظة، ومجافاة الرقة، وكانت بواطنهم منطوية على الخسة والسفالة، ونفوسهم بعيدة عن خصال الشرف، فهؤلاء لا يردعهم عن غيهم إلا القوانين الصارمة، المؤسسة على الجزاءات الشديدة"2. وبالجملة فليست هيئة النظام المدني لأمة من الناس سوى صورة لمادة الملكات التي اكتسبها أفرادها من مألوفاتها وعوائدها التي نشأت عليها، سواء أكانت ممدوحة أو مذمومة، وإن اختلاف قوانينها في معارج صعودها، ومدارك هبوطها، لا ينفك عن هذه الملكات، مهما تغيرت أصنافها، وتبدلت شئونها، وهذا ما جعل عقلاء الناس يجتهدون أولا في تغيير الملكات، وتبديل الأخلاق عندما يريدون أن يضعوا للهيئة الاجتماعية نظاما محكما, فيقدمون التربية الحقيقية على ما سواها ليتسنى لهم أن يحصلوا على هذه الغاية، بل يجعلون في نفس القوانين النظامية فصولا وأبوابا لضبط الأخلاق، وحفظ   1 تاريخ الإمام: ج2 ص203, 204. 2 تاريخ الإمام: ج2 ص159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الملكات الفاضلة، فتصبح الأخلاق فاضلة، والعادات حسنة، وتسير الأمة في طريق الاستقامة إلى خير غاية"1. والقانون على هذا النحو، يجب أن يمكن له في التطبيق، وأن تكون له وحدة السيادة. يقول في ذلك: "فإذا أرادت تلك الأمة أن تعيد مجدها الأثيل، وعزها الأول، فلا بد لها من إعادة شأن القانون، فتشيد منه ما هدمته يد الغرور، وبددته سطوة الفجور، وتأخذ الوسائل النافعة لاستمالة قومها إلى التمسك بقواه وهداه"2. وبهذه النقط الثلاث الرئيسية التي أثارها الشيخ محمد عبه بتفكيره في الجانب القومي وهي: الوطن، والشورى في الحكم، وصلة التشريع بالأسس المقومة لسكان الوطن من لغة ودين وعادات وأخلاق، وضع أمام المواطن الحقائق التي يجب عليه الحرص عليها، والدفاع من أجلها. وهي تلك الحقائق التي تحدد شخصيته كإنسان ومواطن. فلا ينبغي له أن يفرط في وطنه مهما كان حال هذا الوطن، ولا أن يفرط في لغته، ودينه، وأخلاقه، وعرف مواطنيه، كما يجب أن يتمسك بالشورى في الحكم، حاكما أو محكوما إذا تكون للأمة رأي عام يجمع المواطنين في دائرة واحدة، ولم تقسمهم الأهواء والشهوات إلى أغراض مختلفة. ويشير هنا حديثه عن ضرورة الربط بين التشريع وأحوال البلاد، إلى نظرته إلى القانون فهو ينظر إليه على أنه حافظ لحال قائمة، دون أن تكون له هو نفسه إمكانية أن يحدث فيها تغييرا. وإنما مرجع التغيير في عادات الأمة وأخلاقها وتوجيهها، إلى "التربية" دون التشريع!! وهكذا: تكون التربية في نظره هي التي تمهد وتدفع، والقانون هو الذي يحفظ ويحرس.   تاريخ الإمام: ج2 ص163. 2 تاريخ الإمام: ج2 ص92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ويزيد الشيخ محمد عبده في توضيح ذلك يقوله: "ليست القوانين التي تفرض العقوبات على الجرائم، وتقدر المغارم على المخالفات، وهي التي تربي الأمم وتصلح من شأنها, فإن القوانين لم توضع في جميع العالم إلا للشواذ، والهفوات، والسقطات.. أما القوانين المصلحة، فهي نواميس التربية الملية لكل أمة"1. - الجانب الاجتماعي: وتناول الشيخ محمد عبده في الجانب الاجتماعي: - الروح الجماعية. - عيوب المجتمع. - الاقتصاد الوطني. الروح الجماعية: تناول محمد عبده ضرورة تقوية الروح الجماعية في الأمة، مع إضعاف الفردية أو الانفصالية. وطريق ذلك في نظره التربية الحقة. والتربية الحقة هي التي تقوم على رعاية التعاليم الإسلامية. يقول: "إن التغالب في هذه الأوقات أصبح معظمه -إن لم أقل جميعه- تغالب الأفكار والآراء، فالأمة ذات البسطة في الأفكار، والمهارة في المعارف، هي الأقوى سلطانا، والأقوم سياسة، وهي الغالبة على ما سواها من الأمم2. إن الإنسان لا يكون إنسانا حقيقيا إلا بالتربية، وليست هي إلا عبارة عن اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحكم والتعاليم. تعلم الإنسان الصدق، ومحبة نفسه، فإذا تربى الإنسان أحب نفسه أجل أن يحب غيره، وأحب غيره لأجل أن يحب نفسه!!   1 تاريخ الإمام: ج2 ص469. 2 تاريخ الإمام: ج2 ص144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 "إذا تربى الإنسان أحس في نفسه أنه سعيد بوجود الآخر معه، ولكن نحن في وسط لا يحس فيه أحدنا إلا أنه شقي بوجود غيره، وقد ذهبت الثقة بيننا أدراج الرياح، وخلفتها الشكوك والريب، والظنون الأثيمة، المولدة للوساوس والأوهام، ولا شقاء للمرء أعظم من وجود ضميره في هذا الشقاء! "ولو كنا متربين لانبث فينا إحساس واحد، يؤلف بين شعورنا وحاجتنا، وحينئذ يحس كل فرد منا بأن عليه وظيفة يؤديها لنفسه، وغيره. "إن العلم الحقيقي هو الذي يعلم -الإنسان- العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من الأفراد في جامعته، فهو إذن يعلم الإنسان: من هو؟ ومن معه؟ فيتكون من ذلك شعور واحد وروابط واحدة، هي ما يسمونه بالاتحاد. "ألا إن الاتحاد ثمرة لشجرة ذات فروع، وأوراق، وجذوع، وجذور هي الأخلاق الفاضلة بمراتبها! فعلى المسلمين أن يربوا أنفسهم تربية إسلامية حقيقية ليجنوا تلك الثمرة. وبغير ذلك كل أمل باطل، وكل الأماني أحلام وأوهام، وكل احتجاج بغير سعي عجز!! "الناس في كل الأمم أكفاء في التمثيل، ولا نقص في الدنيا إلا من جهة العقول والأخلاق. هي لا تكمل إلا بالتربية، وما وراء ذلك من العلوم لا يبث فيها غير القلق والهذيان"1. "والسبب في فقر البلاد: عدم سريان روح التربية الشرعية العقلية، التي تجعل إحساس الإنسان بمنافع بلاده كإحساسه بمنافع نفسه، وشعوره بأضرار وطنه كشعوره بأضرار ذاته، إن لم نقل: تجعل الإحساس الأول أقوى من الثاني، وتزيد في إحساس الإنسان بمنافعه ومضاره"2. "ولما تشوقت النفوس لأن تكون التربية في المدارس على هذا النمط المفيد، الذي عول عليه جميع الأمم المتمدنة في مبادئ تعاليمهم، فإن   1 تاريخ الإمام: ج2 ص469. 2 تاريخ الإمام: ج2 ص154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 من تتبع قوانين التعليم في الممالك الأوروبية رآها بأسرها موجهة للابتداء بالتعاليم الدينية، والاستمرار عليها إلى ما تزيد عن ست سنوات تقريبا"1. وقد استرسل الشيخ محمد عبده وأفاض في صلة التعاليم الإسلامية بالمعرفة العقلية السليمة، والتهذيب النفسي الحقيقي، وبين جدوى ذلك على الأخص في المرحلة الأولى من مراحل التعليم، بما كشف عن صلة التعاليم الإسلامية بطبيعة الإنسان، ومدى تأثيرها عليها تأثيرا توجيهيا سليما، كما رسم الطريق التربوي لنفع النفس الإنسانية بهذه التعاليم. وهو إذ يحاول أن يكشف علة الضعف الحقيقي في الأمة والجماعة الإسلامية لم يرد هذه العلة في غير فقر النفوس، وسوء توجيه العقول! ولم يرها في أرض مصر وسمائها، ولا في طبيعة البلدان الإسلامية الأخرى! وأرجع فقر النفوس، وسوء توجيه العقول، إلى سيطرة "الأنانية" وانحلال معنى "الجماعة" في نفوس الأفراد، أما بسبب الجهل المطلق، أو بسبب سوء فهم الإسلام والحياة. ومن أجل ذلك كانت محاولته لإصلاح هذه الحال محاولة تفتيشية عن العلاج الحاسم في تحقيق هذا الإصلاح، فحدد الإصلاح بأنه استعادة الروح الجماعية والروح القومية، والروح الإسلامية، والروح الإنسانية العامة، وحدد العلاج تبعا لذلك: بالتنشئة الدينية: وقيام المرحلة الأولى من مراحل التعليم على التعاليم الإسلامية. ولكنه مع ذلك لم يرد أن يقصر مناهج المدرسة على هذه التعاليم، بل جعل هذه التعاليم أساسا رئيسيا في منهج المدرسة، على أن تضاف إليه العلوم والصنائع التي تنفع الناشئ في حياته، وتجعله لا يقل عن الغربي في سيطرته على الحياة. وجوب مساهمة الأغنياء في تعليم الأمة: وهو إذ يطلب من التعليم أن يكون تربية توصل إلى ملكات وعادات، وتقود إلى توجيه غير مضطرب. وإذ يطلب في التربية أن يكون أساسها   1 تاريخ الإمام: ج2 ص80, 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 إسلاميا، حتى تكون هناك جماعة، وروح جماعية، تسود النوازع الفردية، وبذلك يتحقق التماسك، ثم يتحقق هدف الأمة من عزة وسيادة. إذ يطلب ذلك كله، ويطلب من الأغنياء أن يسهموا في التعليم، ويوضح أن إسهامهم في هذا النوع من التعليم تقتضيها ضرورة اجتماعية خاصة بهم؛ لأنهم معرضون للتهديد في أموالهم وأنفسهم من الأجنبي عنهم، قبل الفقير من مواطنيهم يقول: "أفلم يبصر الأغنياء أنه لا معنى لشدة البأس في أيامنا هذه: ألا تدرع الحكمة وتبطن الدهاء؟ ألم يقفوا على الأسباب التي أعدها غيرنا "يريد الغرب" لنيل أعلى مراقي المجد في أوطانه، ثم اندفع إلينا لا ندري ماذا يريد أن يصنع بنا!! فإن عقلوا جميع ذلك، أفلا يفقهون أنهم إن لم يكونوا نصراء لجيش العلم، أصبحوا على شفا الخطر؟. "فعلى الأغنياء منا -الذين يخافون من تغلب الغير عليهم، وتطاول الأيدي الظالمة إليهم- أكثر من الفقراء، وأن يتآلفوا، ويتحدوا، ويبذلوا من أموالهم في افتتاح المدارس، والمكاتب، واتساع دوائر التعليم، حتى تعم التربية، وتثبت في البلاد جراثيم العقل والإدراك، وتنمو روح الحق والصلاح، وتتهذب النفوس، ويشتد الإحساس بالمنافع والمضار، فيوجد من أبناء البلاد من يضارع بني غيرها من الأمم، فنكون عند ذلك معهم في رتبة المساواة: لهم مالنا، وعليهم ما علينا! "الم يعتبروا بالجمعيات الأوروبية" التي لم يكن أعضاؤها إلا المزارعين، والصانعين، والتجار. كيف يبلغ إيراد الواحدة منهم نحو ثلاثين مليونا من الجنيهات، وبعضها أكثر وبعضها أقل، وجميع ذلك يصرف في بث المعارف والعلوم، واتساع دائرة المصانع والفنون، وتقوية روح التربية الحقة، التي لا شأن للبلاد إلا إذا تحلى أبناؤها بحلاها"1! التعليم الديني يحتاج مسلكا آخر: والشيخ محمد عبده إذ يقوم التعاليم الدينية إلى هذا الحد في خلق جماعة قوية في معارفها، واتجاهها، وسيطرتها على الحياة، وحصولها في المجال الدولي على وضع لا يقل شأنا عن الأمم الأخرى القوية السائدة   1 تاريخ الإمام: ج1 ص 143-150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 يرى أنه لا يتم هذا الأثر الإيجابي في توجيه المواطنين وجهة سليمة نافعة، وهي الوجهة الجماعية، إلا إذا تغير مجرى التوجيه القائم، وخلت الثقافة الإسلامية من عوامل الضعف والجمود، وهي عوامل الانحراف التي طرأت عليها، وعلى الأخص في الحقبة الأخيرة في تاريخ التأليف العربي الإسلامي، يقول -رحمه الله- في ذلك: "إذا استقرينا أحوال المسلمين للبحث عن أسباب الخذلان لا نجد إلا سببا واحدا: وهو القصور في التعليم الديني: إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد، وإما بالسلوك إليه من غير طرقه القويمة كما في بعض آخر! "أما الذين أهمل فيهم التعليم الديني: فجمهور العامة في كل ناحية. لم يبق عندهم من الدين إلا الأسماء يذكرونها ولا يعتبرونها! فإن كانت لهم عقائد، فهي بقايا من عقائد الجبرية والمرجئة، ومن نحو: أنه لا اختيار للعبد فيما يفعله، وإنما هو مجبور فيما يصدر عنه جبرا محضا؛ فلهذا لا يؤاخذ على ترك الفرائض ولا على اجتراح السيئات!. ومثل: إن رحمة الله لا تدع ذنبا حتى تشمله بالغفران قطعا لا احتمال معه للعقاب، فليفعل الإنسان ما يفعل من الموبقات وليهمل من المفروضات فلا عقاب عليه. وما شاكل ذلك, مما أدى إلى هدم أركان الدين من نفوسهم، واستل الحمية من قلوبهم. ولا منشأ له إلا عدم تعلمهم عقائد دينهم، وغفلتهم عما أودع في كتاب الله، وسنة رسوله! "وأما الذين أصابوا شيئا من العلم الديني، فمنهم من كان همهم على أحكام الطهارة والنجاسة، وفرائض الصلاة والصوم، وظنوا أن الدين منحصر في ذلك!! ومتى أدوا هاتين العبادتين على ما نص في كتب الفقه فقد أقاموا الدين! وإن هدموا كل ركن سواهما. ويشتركون مع الأولين في تلك العقائد الفاسدة! "ومنهم من زاد على ذلك علم الفروع في أبواب المعاملات، متخذا ذلك آلة للكسب، وصنعة من الصنائع العادية. وأولئك الأغلب من طلاب الإفتاء والقضاء، ووظائف التدريس، وما شاكل ذلك. لا ينظرون إلى الدين إلا من وجهة ما يجلب إليهم المعيشة!! فإن مال بهم طلب العيش إلى مخالفته، لم يبالوا بذلك، معتمدين على مثل عقائد الجهلة مما قدمنا!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 "وهؤلاء لا تختص مفاسد أعمالهم بذواتها، ولكنها تتعدى إلى أخلاق العامة وأطوارهم! فهذا القسم أعظم الأقسام خطرا، وأشدها ضررا في العامة والخاصة. وما أفراده بقليل! ". "إن إصلاح الجداول -في التعليم- لا يتم بأن يدرج في فنون المدارس الإسلامية بعض الكتب الفقهية، مع بقاء التعليم على طرقه المعهودة في المساجد وفي دروس بعض العلماء!! فإن العلوم العلية، إذا لم تبن على عقائد صحيحة وإيمان صادق لا تلبث أن تضمحل، ولئن ثبتت فإنما تسوق إلى أعمال خالية من النيات وخاوية من سر الإخلاص، فتكون أشبه شيء بالباطلة في عدم ترتب الأثر المطلوب عليها كما قدمنا! ". "فلا بد أن يوجه النظر إلى أن تقوى به العقيدة ويستحكم سلطانها على العقول, ثم إلى تربية تذكر بما تنال النفس من ذلك الفن فيكون التذكار مستحفظا لما يصل إليها منه، ثم إلى فن الفقه الباطني -إلى فن الضمير- وهو ما تعرف به أحوال النفس وأخلاقها، والمهلك منها: كالكذب والخيانة والنميمة والحسد والجبن وسائر الرذائل، والمنجي منها: كالصدق والأمانة والرضا والشجاعة وسائر الفضائل! ويضم إلى ذلك باقي علم الحلال والحرام على ما هو مذكور في الكتاب والسنة، ومتفق عليه بين أئمة الملة الإسلامية إلى تربية تحفظ وتروض على العمل بما تعمل به". "ثم يكون التعليم في هذه الفنون المذكورة والتربية على وجه يتفق مع قواعدها، مستندين إلى الشرع الشريف، بحيث تذكر مآخذها من القرآن والسنة الصحيحة، وما صح أثره من أقوال الصحابة وعلماء السلف الأول، ومن حذا حذوهم كحجة الإسلام الغزالي وأمثاله". "فالمقصد بالذات علمان: علم الظاهر وعلم الباطن، وهما أصلان ومجموعهما ركن الإصلاح". والركن الآخر "التربية" بما يهديان إليه، حتى تصير العلوم ملكة راسخة تصدر عنها الأفعال بلا تعمل. ثم يتبعهما فن آخر يقوي على الغرض منهما، وهو فن التاريخ الديني، خصوصا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه، والخلفاء الراشدين1.   1 تاريخ الإمام: ج2 ص511-905. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وهذا المنهج التربوي، وضعه الشيخ محمد عبده للتثقيف العام بالثقافة الإسلامية وهو الذي جعله أساس المرحلة العامة في التعليم. وتحدث بعد ذلك عن مناهج أخرى لتخريج المدرسين والدعاة والمرشدين، لا مجال للحديث عنها هنا؛ لأننا بصدد عرض وجهة نظره في قيام التربية العامة على أصول إسلامية، وضرورة الأخذ بها في تلافي الحال الفاسدة في الأمة، تلك الحال التي ذكرها غير مرة، وأشار إلى علتها في وضوح، وهي: تفشي الأنانية، وانعدام "الروح الجماعية". عيوب المجتمع المصري: يتعرض الشيح محمد عبده في هذ الجانب الفكري، إلى عيوب المجتمع المصري، وهي نفسها تقريبا عيوب المجتمع الشرقي الإسلامي في وقته بوجه عام وهو يحلل أسبابها وعللها، ويذكر ما يراه كفيلا بإزالتها. - فيصف أحاديث المجتمع المصري: بأنها عنوان على سوء الفهم للحياة، وعلى عدم الجد فيها، وسوء التربية، وعدم تهذيب الخلق. ويرجو أن تتوجه أحاديث المجتمع إلى النافع الصالح، على نحو ما في البلاد الأوروبية -كما كان في وقته- أو على نحو ما كان في صدر الإسلام، أو لدى الأمم الراقية في التاريخ! ويسأل قارئيه أن لا يفهموا من كتابته في هذا الجانب الاجتماعي أنه يقصد لوم فريق معين من الناس، بل غرضه الإصلاح والتهذيب1. - ويتحدث عن الزواج: كضرورة اجتماعية، وفي الوقت نفسه يعد تعدد الزوجات مضرة اجتماعية، فيذكر أن الاختيار في الزواج قائم على طبيعة الإنسان, باعتبار أنها طبيعة مفكرة لها اختيار من جانب، وأن لديها الميل الغريزي إلى التعاون من جانب آخر، وكل من الأمرين يطلب من الإنسان أن يتخير إذ تزوج، أما أحدهما: فيميز المرغوب من غير المرغوب فيه، وأما الثاني: فيحدد من يمكن التعاون معه! ثم هو يعتبر الزواج نفسه عاملا من عوامل السعي الجدي في الحياة، وضربا من ضروب التنظيم في حياة الاثنين، بحيث إن أحدهما يكمل الآخر لمصلحتهما معا، ومصلحة امتداد حياتهما في أولادهما والجماعة.   1 تاريخ الإمام: ج2 ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أما الزواج بأكثر من واحدة، فيرى -الشيخ محمد عبده- الناس غنيهم وفقيرهم، قد اتخذوه طريقا لصرف الشهوة، وغفلوا عن القصد الحقيق منه. وهذا لا تجيزه الشريعة، ولا يقبله العقل!! "فاللازم الاقتصار على واحدة، إذا لم يقدروا على العدل -كما هو مشاهد- عملا بالواجب عليهم، بنص قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 1 وأما الآية: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2، فهي مقيدة بآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، كما يجب عليهم أن يتبصروا قبل طلب التعدد في الزوجات فيما يجب عليهم شرعا من "العدل" وحفظ الألفة بين الأولاد، وحفظ النساء من الغوائل التي تؤدي بهن إلى الأعمال غير اللائقة، ولا يحملوهن على الإضرار بهم وبأولادهم، ولا يطلقون إلا لداع ومقتض شرعي، شأن الرجال الذين يخافون الله، ويوقرون شريعة العدل، ويحافظون على حرمات النساء وحقوقهن، ويعاشروهن بالمعروف، أو يفارقوهن عند الحاجة"3. - ويذكر البدع: ومدى دلالتها على الانحراف في الاعتقاد، فيذكر منها على الخصوص: زيارة قبور الأولياء، والتشويش على المصلين في المساجد بضرب الطبول والباز. وفي الوقت الذي كان يعيب فيه الشيخ محمد عبده مثل هذه البدع، لم يكن مفتيا ولا قاضيا ولا معلما، بل كان محررا في صحيفة "الوقائع المصرية"، ونصيبه الذي ساهم به في محاربة عيوب المجتمع المصري والإسلامي -ومن بينها البدع- هو: لفت النظر إليها، والثناء على القائمين بالأمر عند اتخاذهم تدبيرا من التدابير ضد بدعة معينة، بالإضافة إلى ذكر الأسانيد الشرعية والقانونية، أو الاستشهاد بأحوال الأمم وقت قوتها أو ضعفها على حال يريد بقاؤه أو يريد إزالته"4!! - الرشوة: كعنوان على الضعف الخلقي، ينعى عليها إلى حد أنه اعتبر أنها أمارة على فقد الشعور بالواجب وأدائه: في الأمة، والأداة الحكومية على السواء!! وأنها عادة شنيعة مضرة بالدين والدنيا، في طباع أدنياء الهمم، تقربا لذوي المناصب، وتذللا خبيثا، لا يجوزه الشرع ولا قانون البلاد، وتنفر منه نفس كل ذي إحساس إنساني!.   1 النساء: 3. 2 النساء: 3. 3 تاريخ الإمم: ج2 ص112. 4 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 133، 142، 501. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ولأنها أمر مضاد لمعنى الإنسانية، ومضاد بالتالي للشرع وقانون البلاد، يرى الشيخ محمد عبده أن الراشي والمرتشي شركاء في هذه الجريمة الخلقية، بل يرى أن نصيب الراشي في ذلك أكبر!! وحينئذ فما يلحق الراشي من اللوم أشد مما يلحق المرتشي وإن كان كل منهما مجرما؛ لأن الأول ضيع ماله واسترسل مع الجبن وضعف مع الوهم في مقام يستوي فيه الحاكم والمحكوم أمام القانون، وأمال المرتشي لأخذ الرشوة وقوى طمعه ودله على الشر وكلف نفسه بما لم يكلف به"!! 1 - عدم المبالاة بالمصلحة العامة: ومما عابه كذلك على المجتمع المصري -وكذلك المجتمع الشرقي الإسلامي- عدم المبالاة بالمصلحة العامة. "فانظر إلى هذه الحال الرديئة التي نشأت من تفرق القلوب، وانقطاع التواصل بين النفوس! فلا يهتم واحد بعمل يشترك في منفعته مع آخر وإن كان يتحقق الضرر لنفسه بتركه، كأن اشتراك الغير في المنفعة صيرها مضرة وينبغي اجتنابها!! وكان من الواجب أن الاشتراك يدعو إلى التعاون والقوة بدل التهاون والانحطاط. فكأنهم سلبوا الخواص الطبيعية التي لإنسان الجبال والغابات"2. - وأخيرا يتحدث عما سماه فقدان ملكة "حفظ الماضي" والاحتفاظ بملكة الحقد والضغينة. وهنا يتحدث الشيخ محمد عبده عن الرسوم والتماثيل على أنها: "قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية!! وهي التي تسمى في العرف الحديث: متاحف الأمم أو الحضارة الإنسانية. فهي وسيلة فائدتها محققة لا نزاع فيها". وهو لذلك يرى: "أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، وبعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين: لا من جهة العقيدة ولا العمل"3!!   1 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 85. 2 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 68. 3 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 501. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ويرى الشيخ محمد عبده أن المسلمين اعتادوا أن يخوضوا مجال التساؤل فيما تظهر منفعته ليحرموا أنفسهم منه، وهم لا يعنون بحفظ شيء يبقى نفعه لمن يأتي بعد!! "فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا!! وإنما الذي يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد العباد، وتخرب البلاد، ويلتقي بها أربابها على شفير جنهم يوم المعاد"1!! - ضرورة إعادة توزيع الثروة في الأمة: وكما تكلم هنا في الجانب الاجتماعي عن الروح الجماعية، وعيوب المجتمع، تكلم عن بعض العادات التي تتصل بالثروة الوطنية: - فعاب السفه والإسراف. - وحدد معنى الاقتصاد بأنه الحد الوسط، ومدحه ونصح به. - ثم حدد موقفه من "الرأسمالية" وعيوبها، ونصح بتوزيع الثروة في الأمة على غالبية الأهالي. - فيصف المسرفين: فيقول: "ولكن أبى حاكم الشهوات، إلا أن يكلف هؤلاء الضعفاء النفوس المنحطي الأفكار بما يطيقون!! كأنهم يبرهنون بأعمالهم هذه، وتهورهم في الإسراف والإنفاق، على أنهم ليسوا أهلا للثروة!! ولا مستحقين للغنى ولا يتحملون ثقل الخير على أنفسهم، بل يحبون أن يكونوا على الدوام فقراء تربين لا يملكون شيئا، وإن كانوا في صورة أغنياء موسرين، ويرغبون أن يكونوا تحت ذل الدين، ولا يعلمون أن نكبات الدهر كثيرة الورود، شديدة البطش"2!! ويستند في ذلك إلى الآية: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 3. - ويحدد الاقتصاد: بأنه: "فضيلة من فضائل الإنسانية الجليلة. فإذا جمع الشخص بين الإمساك عما لا يلزمه، والبذل فيما هو أحوج   1 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 502. 2 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 58. 3 الإسراء: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 إليه، فقد حاز فضيلة "الاقتصاد" التي قال بها نبينا -صلى الله عليه وسلم: $"الاقتصاد نصف المعيشة"1. - وموقفه من "الرأسمالية": تكشف عنه هذه الكلمات: "إذا انحصرت الثروة في دائرة مخصوصة، عند أشخاص قليلين، لوازمهم ليست بالكثير، فتكسد أسواق الصناعة والتجارة، لقلة الراغبين في الصنائع والبضائع، أي: لقلة القادرين على اقتنائها!! وهذه الصورة خاصة بالرأسمالية في المجتمعات الشرقية الإسلامية: وهي اكتناز المال في غير تداول، وتقل الرغبة في الأعمال الزراعية، إذ يكون الجميع كأجراء، لا يهتمون اهتمام الملاك، وأن أغنى البلاد، وأسعدها: هي البلاد التي توزعت ثروتها على غالب أهلها، ويزداد الضرر إذا وقعت الأملاك والمبيعات في أيدي الغرباء الأجانب"2. - جانب الاعتقاد: وتناول محمد عبده في جانب الاعتقاد موضوعين رئيسيين: - تحرير المسلم من عقيدة الجبر مع الإبقاء على عقيدة القدر. - وإفهام المسلم بأن عقل الإنسان نعمة من الله، يجب أن يتلاءم ويسير جنبا إلى جنب مع دين الله، ورسالته للإنسان. وأن إغفال العقل معناه الغض من هذه النعمة. مشكلة الجبر: ربما يرى الشيخ محمد عبده أن التبعية المطلقة للمذاهب والكتب المتأخرة، لم تكن ذات صلة فحسب بالإحساس بضعف الشخصية العلمية في وقته، وعدم مسايرتها الشخصية الإسلامية الأولى في خطواتها الإيجابية، وموقفها الواضح من الكتاب والسنة بل كانت ذات صلة أيضا بعقيدة "الجبر"!   1 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 59. 2 تاريخ الإمام: ج2 صفحة 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فكما يكون من نتائج مذهب "الجبر" الشعور بضعف شخصية المعتقد في نفسه أمام الله، يكون من نتائجه شعوره بهذا الضعف أمام غيره من البشر؛ لأن اعتقاد الجبر يقوم في واقع الامر على إلغاء الشخصية والوجود الذاتي، وإذا كان هذا الإلغاء في الأصل هو بالنسبة إلى الله المعبود، فإنه قد يدفع المعتقدين به إلى أن يتجاوز بشعورهم بضعف شخصيتهم دائرة الصلة بينهم وبين الله. إلى الصلة بينهم وبين المخلوقين، والجبري مؤمن سلبي في الحياة، أخص مظاهر سلوكه الاعتماد على غيره، ولو كان هذا الغير أضعف منه في واقع الأمر. وعلى كل حال فعقيدة "الجبر" تتلاءم مع "التقليد"، وكلاهم مظهر الضعف في الحياة! و"الجبري"، و"المقلد": كلاهما تقوم حياته على الصدفة، وكلاهما يتهاون في ترك مجال الحياة لغيره، وكلاهما لا يعنى بالنظر إلى غيره. والشيخ محمد عبده -عليه رحمة الله- منذ أن ثار على "التوجيه"القائم في وقته، ثار في واقع الأمر على الضعف والتهاون، وثار على سلبية الإنسان في الحياة، وأراد للمسلم أن يكون ذا شأن وإيجابية في يومه وغده. وهنا في تحديد الصلة بين المسلم وربه، لم يرض أن تكون عقيدة الإنسان في هذا الجانب عقيدة "الجبري"، لأن هذا الاعتقاد سيفضي حتما إلى ضعف الإنسان، ويصير به إلى أن يكون عديم الإرادة، وعديم الإيجابية في الحياة.. ومن أجل هذا يكافح محمد عبده عقيدة "الجبر"، ومن أجل أن يكون المسلم بناء يدعو محمد عبده إلى عقيدة "الاختيار" بقوله: "لو شئت لقربت البعيد فقلت: إن من بالغ الحكم في الكون أن تتنوع الأنواع على ما هي في العيان، ولا يكون النوع ممتازا عن غيره حتى تلزمه خواصه، وكذا الحال في تميز الأشخاص، فواهب الوجود يهب الأنواع والأشخاص وجودها على ما هي عليه، ثم كل وجود متى حصل كانت له توابعه، ومن تلك الأنواع الإنسان، ومن مميزاته -حتى يكون غير سائر الحيوانات- أن يكون مفكرا، مختارا في عمله، على مقتضى إرادته. فوجوده الموهوب مستتبع لمميزاته هذه. ولو سلب شيء منها لكان إما ملكا أو حيوانا آخر. والفرض أنه إنسان، فهبة الوجود له لا شيء فيها من القهر"1!.   1 رسالة التوحيد صفحة 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ولم يسلك محمد عبده في مكافحة عقيدة "الجبر" من جانب، وفي الدعوة إلى "عقيدة "الاختيار" من جانب آخر مسلك الإنسان الفيلسوف. الذي يستمد الرأي من وجهة نظر خاصة، تمكنت من نفسه ورغب في شرح الحياة والوجود على أساس منها بل سلك، كشأنه فيما نقد ورأى، مسلك رجل الدين المتبصر، فالأساس الذي يقوم عليه تفكيره أساس ديني، والهدف الذي يبغي الوصول إليه هو هدف ديني، والطريق بين الأساس والهدف يتسم بالصبغ الدينية. علل قوله: "بالاختيار" ببعض نصوص القرآن الدالة على إسناد الفعل والعمل إلى الإنسان، وببعض النصوص الأخرى التي ربطت الجزاء الأخروي بالعمل في هذه الحياة الدنيا "كقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} 1 يقول: "تجلت بدعوة التوحيد للإنسان نفسه حرة كريمة، وأطلقت إرادته من القيود التي كانت تعقدها بإرادة غيره: سواء أكانت إرادة بشرية ظن أنها شعبة من الإرادة الإلهية أو أنها كإرادة الرؤساء والمسيطرين، أو إرادة موهومة اخترعها الخيال, كما يظن في الأشجار والكواكب، ونحوها. وقرر أن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 2، و {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 3. وأضاف محمد عبده إلى هذه النصوص تبرير العقل لذلك، على نحو ما ينسب إلى رجال الاعتزال في تصحيح التكليف من الوجهة العقلية، ويؤثر عن هؤلاء الرجال أنهم يقولون: إن التكليف لا يترتب عليه الجزاء بنوعيه -عقلا- إلا إذا كان الإنسان "مسئولا" ولا تعقل مسئوليته إلا إذا كانت له إرادة بالفعل وكان له "اختيار" في واقع الأمر. وهذا التبرير العقلي ليس عملا عقليا مستقلا عن رأي الدين، بل هو شرح لما جاء فيه من عقائد وفرائض، فهو دليل على شيء معتقد بالفعل، وليس دليلا قصد به إنشاء عقيدة يقول في ذلك: "لا ينبغي للإنسان أن يذل فكره لشيء سوى الحق، والذليل للحق   1 النجم: 39, 40. 2 الزلزلة: 7, 8. 3 رسالة التوحيد: صفحة9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 عزيز. نعم يجب على كل طالب أن يسترشد بمن تقدمه، سواء أكانوا أحياء أم أمواتا، ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم، فإن وجده صحيحا أخذ به، وإن وجده فاسدا تركه!! والحاصل أن الفكر الصحيح يوجد بالشجاعة، والشجاعة هنا قسمان: شجاعة في رفع القيد الذي هو التقليد الأعمى، وشجاعة في وضع القيد الذي هو الميزان الصحيح الذي لا ينبغي أن يقرر رأي ولا فكر إلا بعد ما يوزن به ويظهر رجحانه، وبهذا يكون الإنسان حرا خالصا من رق الأغيار، عبدا للحق وحده"1. ويزيد الشيخ محمد عبده على هذ التبرير العقلي، الذي يعرف للمدرسة الاعتزالية ولفلاسفة المسلمين، تبريرا آخر يشتقه من هدف الإسلام في حياة الإنسان. وهو: أن الإنسان "المختار" لبنة إيجابية في بناء الجماعة، وهو لهذا دعامة قوية لا يتواكل ولا يني في العمل والإنتاج، وذلك هو ما يقصده الإسلام في توجيهه للإنسان، لا يبغي إنسانا سلبيا متهاونا، ولا جماعة كثيرة العدد قليلة العدة كغثاء السيل، تداعى عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وينزع الله المهابة من قلوب أعدائها! وهنا يذكر الإمام: "صاح -الإسلام- بالعقل صيحة أزعجته من سباته، وهبت به من نومة، طال عليه فيها الغياب، وجهر بأن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام، ولكنه فطر على أن يهتدي: بالعلم، وأعلام الكون، ودلائل الحوادث، فأطلق بهذا سلطان الحق من كل ما قيده، وخاصة من كل تقليد كان استعبده، ورده إلى مملكته، يقضي فيها بحكمه وحكمته"2. ولكنه بعد ذلك يفرق بين: مذهب "الجبر" وبين معنى "القدر". يقول في رده على هانوتو، المستشرق الفرنسي: "اعتقد الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر، وبين الاعتقاد بمذهب الجبريين، القائلين بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله، وتوهموا أن المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الريح كيفما تميل. ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا اختيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا سكون، وإنما جميع ذلك بقوة   1 تاريخ الإمام: ج1 صفحة 762, 763. 2 رسالة التوحيد: صفحة 101, 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 جابرة وقدرة قاسرة، فلا ريب تتعطل قواهم، ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، وتنمحي من خواطرهم داعية السعي والكسب، وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم!! "وهكذا ظنت طائفة من الإفرنج، وذهب مذهبها كثيرون من ضعاف العقول في المشرق، ولست أخشى أن أقول: كذب الظان، وأخطأ الواهم، وبطل الزاعم، وافتروا على الله والمسلمين كذبا, لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني، وشيعي، وإسماعيلي، وزيدي، ووهابي، وخارجي يرى مذهب "الجبر" المحض، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة. بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزءا اختيارايا في أعمالهم، ويسمى "الكسب" وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية، والنواحي الربانية الداعية إلى كل خير، الهادية إلى كل فلاح، وإن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل. "نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى "الجبرية" وذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار، وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ، وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته!! ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السلطة الفاسدة، وقد انقرض أرباب هذه المذاهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة. وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر، هو عين الاعتقاد بالجبر، ولا من مقتضيات ذلك ما ظنه أولئك الواهمون. الاعتقاد بالقضاء: يؤيده الدليل القاطع، بل ترشد إليه الفطرة، ويسهل على من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان، وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه، ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها، وأن لكل منها مدخلا ظاهرا فيما بعده بتقدير العزيز العليم، وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة. وليست الإرادة إلا أثرا من آثار الإدراك، والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس وشعورها بما أودع في الفطرة من الحاجات. فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله، فضلا عن عاقل. وأن مبدأ هذه الأسباب التي ترى في الظاهرة مؤثرة: إنما هو بيد مدبر الكون الأعظم، الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته، وجعل كل حادث تابعا لشبهه، كأنه جزء له، خصوصا في العالم الإنساني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 "ولو فرضنا أن جاهلا ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم، فليس في إمكانه أن يتملص عن الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية، والحوادث الدهرية، في الإرادات البشرية، فهل يستطيع إنسان أن يخرج بنفسه عن هذه السنة التي سنها الله في خلقه؟؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلا عن الواصلين!! "الاعتقاد بالقضاء والقدر، إذ تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجرأة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة، ويبعث على اقتحام المهالك، التي ترجف لها قلوب الأسود، وتنشق منها مرارة النمور. هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأحوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج عن كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة. كل هذا في سبيل الحق، الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة. "والذي يعتقد بأن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء -كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه، وإعلاء كلمة أمته أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله، في تعزيز الحق وتشييد المجد، على حسب الأوامر الإلهية، وأصول الاجتماعات البشرية؟ "امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد، مع بيان فضله، في قوله الحق: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1. "هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغص بها الفضاء، ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم، وردوهم على أعقابهم"2.   1 آل عمران: 173, 174. 2 تاريخ الإمام: ج2 ص259 -267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 في صلة العقل بالوحي.. أو في صلة استخدام العقل كمطلوب للوحي: وفي توضيحه صلة العقل بالوحي، أو صلة رجال العقل برجال النص في الجماعة الإسلامية. يرى الشيخ محمد عبده ما رآه "ابن رشد" في القرن السادس الهجري، وما رآه "ابن تيمية" في القرن الثامن من قرون الهجرة، ومن أن النص يجب أن يتفق مع العقل ... يقول: "فقد أمر الكتاب بالنظر واستعمال العقل: فيما بين أيدينا من ظواهر الكون، وما يمكن النفوذ إليه من دقائقه، تحصيلا لليقين بما هدانا إليه، ونهانا عن التقليد بما حكى من أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم، فالتقليد مضلة يعذر فيها الحيوان، ولا يجمل بحال الإنسان"1! ويقول أيضا: "والذي علينا اعتقاده: أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد، لا دين تفريق في القواعد! العقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه, وما وراء ذلك فنزعات شياطين، أو شهوات سلاطين"2! فالوحي بالرسالة الإلهية أثر من آثار الله، والعقل الإنسان أثر أيضا من آثار الله في الوجود. وآثار الله يجب أن ينسجم بعضها مع بعض، ولا يعارض بعضها بعضا! - لأنها آثار للكامل كمالا مطلقا: والعقل البشري يحيل أن يكون هناك تناقض بين آثار الكامل المطلق؛ لأن التناقض في الأفعال نقص! فلو تعارضت أو تناقضت الآثار الصادرة من مصدر واحد، دل تعارضها وتناقضها على عدم الكمال المطلق لهذا التصرف. - لأن الوحي مصدر هداية، والعقل الإنساني مصدر هداية أيضا: وكلاهما يهدف إلى تحديد الطريق المستقيم في الحياة للإنسان، وإلى تحديد الغاية الأخيرة في هذا الوجود. وأمران شأنهما هذا الشأن، لا بد أن يتفقا في التحديد الإجمالي -على الأقل- لطريق الإنسان في حياته، وغايته في وجوده.   1 رسالة التوحيد: ص15. 2 رسالة التوحيد: ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فإن بدا أن هناك اختلافا بين تطبيق رسالة الوحي واستخدام العقل، كان منشأ هذا الاختلاف: إما تحريف في نص رسالة الوحي، أو سوء في استخدام العقل، والمحرف للرسالة السماوية، وكذلك المسيء لاستخدام العقل الإنساني، وهو: الإنسان هنا وهناك، وليس الملك الذي نزل بالوحي، ولا الرسول المصطفى لتبليغ الرسالة! طبيعة الوحي يجب أن توافق طبيعة العقل الإنساني إذن؛ لأنهما معا مصدر هداية, صدرا لغاية واحدة من كامل كمالا مطلقا. وتحريف الكتاب المنزل بتخريج نصوصه تخريجا يبعده عن هدفه، تحت التأثر بعوامل شخصية، أو التأثر بمذهب معين, عمل من شأنه أن يحول بين انسجام الكتاب المنزل والعقل السليم في الإنسان! والدخول في بحث العقل للكتاب المنزل وللرسالة الإلهية، بعد الاعتقاد بعقيدة خاصة، أو قبل التخلي عن المؤثرات المغرضة يجعل من الصعب أن يوافق مثل هذا العقل الباحث أهداف الكتاب السماوي، ورسالة الله في جماعة الإنسان! والإنسان هو الذي يخرج الكتاب تخريجا فيه بعد أو مجافاة لهدفه الأصيل، والإنسان نفسه هو الذي يميل بالعقل الإنساني نحو عقيدة خاصة أو جهة معينة، وينحرف به عن أن يكون العقل الخالص، الذي فطر الله الإنسان عليه!! وبذلك يكون الإنسان هو الذي حال دون أن يوافق الكتاب العقل، ودون أن يوافق العقل الكتاب، وليست طبيعة كل منهما هي التي حالت دون ذلك. وابن رشد -قبل محمد عبده- كتب كتابه: "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" وكذلك كتب ابن تيمية كتابه: "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول". - وابن رشد: وإن هدف فيما كتبه في الكتاب السابق إزالة الخلاف بين الفكر الإغريقي والإسلام، إلا أنه أسس ذلك على عدم التنافر بين طبيعية الدين كدين، وطبيعة العقل كعقل. - والثاني: وهو ابن تيمية وإن قصد مباشرة إلى عيب الفكر الإغريقي ونقضه، إلا أنه في الوقت نفسه برهن على أن طبيعة الدين -فيما ينقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 نقلا صحيحا- لا تعارض طبيعة العقل، إذا تخلى هذا العقل عن الظنون والهواجس والغرض في أحكامه. - والشيخ محمد عبده: في معالجة الصلة بين الوحي والعقل، لم يهدف إلى ما هدف إليه ابن رشد، كما لم يقصد إلى ما عناه ابن تيمية بل أراد من أول الأمر أن يوضح أن فطرة الله التي فطر الناس عليها فيما يتصل بالعقل، لا تعارض مظهرا آخر من مظاهر الله، ومن آثاره في ملكوته، وبالأخص لا تعارض رسالة الوحي كما يتضمنها الكتاب المنزل، في صورته الأصيلة. جانب التربية والتوجيه العام: وفي هذا الجانب الأخير اتجه تفكير الشيخ محمد عبده إلى: - محاربة الحزبية المذهبية والتقليد. - ومحاربة سلطة الكتاب الموجه: وإخضاعه للنقد العقلي والتاريخي، وللتصحيح والتعديل. - وإصلاح الأزهر: باعتباره قلب الجماعة الإسلامية، إن فسد فسد الجسم. وإن صلح صلح الجسم. وأخيرا إحياء الكتب القديمة: للتعرف على العقليات الإسلامية المنتجة في تاريخ الجماهير الإسلامية، والانتفاع بصحيح الآراء، والبناء على هذا الصحيح منها، تبعا لمقتضى الحياة المعاصرة. محاربة الحزبية المذهبية التقليدية: وجد الشيخ محمد عبده أن انقسام الجماعة الإسلامية إلى فرق وأحزاب، وصل إلى مرحلة ضعفت فيها الجماعة عن أن تكون جماعة واحدة، لها عناصر الأمة القوية. وذلك بسبب طغيان التبعية أي: عدم انفكاك التابعين لمذهب ما عن تقدير هذا المذهب، ومنحه سلطة عليا في التوجيه والاعتقاد في كل رأي من آرائه، وفي كل مؤلف من تأليفه، والخطر الذي يهدد الجماعة -أي جماعة- لا يكمن في تعدد مذاهبها في التفكير أو الاعتقاد، بل في تحكم هذه المذاهب وسيطرتها على التابعين بحيث يهاب هؤلاء التابعون نقدها، وإبداء الرأي في قيمتها، وعندئذ تكون الجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الواحدة جماعات وشعوبا وطوائف، بينها فواصل منيعة، تحول الفواصل دون تجاوبها لتوجيه واحد، ولغاية واحدة، ودون سيرها في اتجاه واحد، ولغاية واحدة. وهي فواصل هذه التبعية، أو فواصل التعصب البغيض الناشئ عن الحزبية الجامحة. وجد الشيخ محمد عبده انقسام الجماعة الإسلامية على هذا النحو. وجد فجوة واضحة بين المتكلمين بعضهم تجاه بعض. وفجوة أشد من هذه وضوحا بين المتكلمين جميعا من جانب وأرباب العقل والفلسفة من جانب آخر. كما وجد أرباب المذاهب الفقهية وهي مذاهب التوجيه في معاملات الناس بعضهم لبعض، وفي عبادة الناس لخالقهم، يتنابذون في الخصومة, ويعرضون قيمهم البشرية للتجريح، وقيمهم المذهبية في سلوكهم الديني للأخذ والرد، على نحو ما يوجد في كتب الفقهاء المتأخرين. لهذا لم يجد مناصا من أن يعرض لقيم هذه المذاهب، ولم يجد مناصا كذلك من أن يكون تقديره إياها بحيث لا يجعل لواحد منها رجحانا مطلقا على آخر، وبذلك تكون وضعية هذه المذاهب أمام المجتمع الإسلامي وضعية الشارح لأول الإسلام وتعاليمه، الذي من شأنه أن يصيب ويخطئ؛ لأن هذا الشارح إنسان، ومن أجل ذلك لا يحق لمذهب منها، فضلا عن المتابعين له، وأن يدعي أنه هو الحق على الإطلاق، أو أنه يمثل الإسلام كصورة تامة له. وتناول محمد عبده عرض قيم هذه المذاهب: - في بيانه لـ"علم الكلام" وفي الوقت نفسه في موقفه هو من علم "التوحيد". - وكذلك: في رأيه في تحديد "الفرقة الناجية" من بين الفرق الكلامية: ففي تقديره لبحوث "المتكلمين" الإلهية خالف معاصريه، وخالف التقدير السائد إذ ذاك لعلم التوحيد، وقد كان المعاصرون له في الأزهر يرون أن علم التوحيد -وما دار في كتبه من أخذ ورد في عرض أدلة الفرق الكلامية على مذهبهم- وسيلة إيجابية, ومنهج واجب الاتباع، في تنشئة الاعتقاد الصحيح بالله بين المسلمين، ولهذا تلي منزلته -في مواد الثقافة الإسلامية الموجهة -منزلة القرآن الكريم وعلومه، أي: تلي مباشرة المباحث التي تتعلق بالمصدر الأصيل للإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 خالف محمد عبده هذا التقدير، ورأى رأي "الغزالي" -ومن قبل الغزالي إمام الحرمين "أبو المعالي الجويني"- في أن علم الكلام يصلح أن يكون وسيلة من وسائل الدربة الذهنية، والتمرينات العقلية، ولكنه لا يصلح بحال أن يكون وسيلة لتنشئة العقيدة الإسلامية، أو تدعيم الإيمان بها!! وأصلح الوسائل لذلك منهج القرآن نفسه في عرض الدعوة الإسلامية، ومطالبة الناس باتباع ما يدعو إليه الإسلام، إنه منهج "الإقناع": ذلك المنهج الذي يراعي الفطرة الإنسانية العامة، وهي القدر المشترك بين الناس جميعًا. وهو من أجل هذا يلائم الدين، من حيث إنه للكافة، وليس توجيها خاصا لفريق معين في الجماعة الإنسانية، أما علم الكلام في جميع مذاهبه على نحو ما تصور، كتب المتأخرين، فقد بعد باستخدام المنطق الأرسطي عن هذا المنهج، وأصبح بذلك وسيلة الحجاج لدى الخاصة ممن اتصلوا بالفكر الإغريقي، واستمرءوا منطقه الصوري في البرهنة. أما بالنسبة لتحديد "الفرقة الناجية" بفرقة خاصة من بين فرق المتكلمين, فيتجلى موقف محمد عبده في تعليقه على شرح "الرسالة العضدية1.. وشارح هذه الرسالة أصلا هو جلال الدين الصديقي الدواني، المتوفى سنة 1067هـ، وقد استهل رسالته بقوله: "وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة"، قيل: ومن هم؟ قال: "الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي" ثم بعد أن أورد المؤلف الحديث عمد إلى تحديد هذه الفرقة الواحدة الناجية بقوله: "وهذه عقائد الفرقة الناجية وهم الأشاعرة"". وبعد أن انتهى من هذا التحديد عقب الشيخ محمد عبده بقوله: "لا بد لنا أن نتكلم في هذا الحديث بكلام موجز، فاسمع واعلم أن الحديث قد أفادنا: 1- أنه يكون في الأمة فرق متفرقة. 2- وأن الناجي منهم واحدة. 3- وقد بينها النبي، بأنها هي التي على ما هو عليه وأصحابه.   1 لعضد الدين الإيجي، المتوفى سنة 756هـ "1355م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 "وكون الأمة قد حصل فيها افتراق على فرق شتى, تبلغ العدد المذكور أو لا تبلغه: ثابت، وقد وقع لا محالة. "وكون الناجي منهم واحدة أيضا حق لا كلام فيه، فإن الحق واحد، وهو ما كان النبي عليه وأصحاب، فإن ما خالف النبي عليه فهو رد. "أما تعيين أي فرقة هي الفرقة الناجية، أي: التي تكون على ما هو عليه وأصحابه: فلم يتبين بعد إلى الآن". "فإن كل طائفة -ممن يذعن لنبينا بالرسالة- تذهب فتجعل نفسها على ما النبي عليه وأصحابه! حتى إن "مير باقر الدماد" برهن على أن جميع الفرق المذكورة في الحديث هي فرقة الشيعة، وأن الناجي منهم فرقة الإمامية، وأما أهل السنة والمعتزلة وغيرهم وسائر الفرق فجعلهم من أمة الدعوة. فكل يدعي الأمر، ويقيم على ذلك أدلة. وذكر الفلاسفة وأدلتهم.. والصوفية وأدلتهم ... والمعتزلة وأدلتهم ... وأهل السنة وأدلتهم ... قال: "فكل يبرهن على أنه الفرقة الناجية المذكورة في الحديث، وكل مطمئن بما لديه، وينادي نداء المحق لما عليه! والوقوف على حقيقة الحق في ذلك يكون من فضل الله وتوفيقه. فإن للناظر أن يقول: - أن تكون الفرقة الناجية، والواقفة على ما كان عليه النبي وأصحابه قد جاءت وانقرضت، وأن الباقي الآن من غير الناجية. - أو أن الفرق المرادة لصاحب الشرع -في هذا الحديث- لم تبلغ العدد الآن، وأن الناجية ما وجدت، وستوجد. - أو أن جميع هذه الفرق ناجية: حيث إن الكل مطابق لما كان عليه النبي وأصحابه من الأصول المعلومة لنا عنهم كالألوهية، والنبوة، والمعاد، وما وقع فيه الخلاف، فإنه لم يكن يعلمه علم اليقين، وإلا لما وقع فيه خلاف. - أو أن بقية الفرق ستوجد من بعد، أو وجد منها بعض ولم يعلم، أو علم, كمن يدعي ألوهية علي مثلا: "وبناء على هذا الافتراض تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الفرقة التي لم تعلم أو علمت -وقد وضح انحرافها- هي غير الناجية، وما عداها هو الناجي". - وموجب هذا الترديد: أنه ما من فرقة إلا ويجدها الناظر معضدة بكتاب، وسنة، وإجماع، وما يشبه ذلك "كالقياس". والنصوص فيها متعارضة! "والحق الذي يرشد إليه الشرع والعقل، أن يذهب الناظر المتدين إلى إقامة البراهين الصحيحة على: - إثبات الصانع، وهو واجب الوجود. - ثم منه إلى إثبات النبوات. ثم يأخذ كل ما جاءت به النبوات بالتصديق والتسليم، بدون فحص فيما تكنه الألفاظ، إلا فيما يتعلق بالأعمال، على قدر الطاقة. "وإن أراد التأويل لغرض: كدفع معاند أو إقناع جاحد، فلا بأس عليه إذا سلم برهانه من التشويش والتقليد". وبهذا النقد للمذاهب الكلامية في ذاتها وهذا الموقف من تحديد مذهب معين منها على أن أتباعه هم الناجون، ثم برفع الفجوة بين صنعة "العقل" ورسالة "النص" من قبل. خلخل الشيخ محمد عبده التبعية، والتعصب لهذه المذاهب، وحول "القداسة" التي منحها تابعو هذه المذاهب إياها، وكذلك "السلطة" التي كانت لهذه المذاهب على نفوس تابعيها، حولهما إلى المصدر الأول للإسلام وهو: القرآن الكريم، ثم إلى السنة الصحيحة بعده، على نحو ما كان الشأن أيام الدعوة وبعدها بقليل في القرن الأول الهجري.. إنه يقول: "ألم يأن لنا أن نرجع إلى المعروف مما كان عليه سلفنا، فنحيا بما كان قد أحياهم، ونترك ما ابتدعه أخلافهم مما أماتهم وأماتنا معهم"1؟!   1 تاريخ الإمام: ج2، ص411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ويقول أيضا: "فالقرآن سر نجاح المسلمين، ولا حيلة في تلافي أمرهم إلا إرجاعهم إليه، وما لم تقرع صيحته أعماق قلوبهم وتزلزل هزته رواسي طباعهم، فالأمل مقطوع من هبوبهم من نومهم، ولا بد أن يؤخذ القرآن من أقرب وجوهه، على ما ترشد إليه أساليب اللغة العربية، ليستجاب لدعوته، كما استجاب لها رعاة الغنم وساقة الإبل ممن نزل القرآن بلغتهم، والقرآن قريب لطالبه، متى كان عارفا باللغة العربية، ومذاهب العرب في الكلام، وتاريخهم وعوائدهم أيام الوحي"1. وبهذا اعتقد الشيخ محمد عبده أنه صان وحدة الجماعة الإسلامية. وعمل على تماسكها من جديد. وربما يكون طريقه إلى ذلك أنجح من طريق "الأشعري" ثم من طريق "ابن تيمية" بعده في محاولة كل منهما تخفيف حدة المذاهب الإسلامية وإرجاع المسلمين إلى الكتاب والسنة، وإلى الوحدة الأولى للجماعة الإسلامية. - لأن "الأشعري" قامت محاولته: على إقرار بعض الآراء من هذا المذهب وعدم إقراره للبعض الآخر منه، ثم انتخابه بعض آراء أخرى من مذهب آخر وتركه البعض الآخر فيه. وهكذا ... ثم ضم المنتخب، الذي أقره بعضه إلى بعض، في وحدة سماها: مذهب "أهل السنة والجماعة". - وكذلك فعل "ابن تيمية" في نطاق أوسع: فما قبله من الآراء برهن على صحته، وما رفضه منها برهن من الشرع والعقل على عدم اعتباره. ومن شأن مثل هذه المحاولة أن تبقي على القيمة الدينية لبعض الآراء الكلامية، وهي الآراء التي قبلت من صاحب المحاولة وذلك يؤدي بدوره إلى أن هذه القيمة لها صلة بالعقيدة من حيث تكوينها، أو توقيتها وتأكيدها. - وهذا ما لم يقبله الشيخ محمد عبده، إذ جعلها قاصرة على الدربة الذهنية، وأوضح أن سبيل العقيدة يجب أن يكون هو السبيل الذي حدده القرآن الكريم في عرض دعوته.   1 تاريخ الإمام: ج2 ص515. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وطالما كانت هناك قيمة عقيدية باقية للمذاهب في جملتها، فالتبعية باقية له. وعندئذ ليس هناك ضمان أن تعود لهذه التبعية سلطاتها، وبذلك تعود فجوة الفرقة إلى قوتها الأولى، وتتفتت وحدة الجماعة من جديد عن طريق ذلك. والشيخ محمد عبده إذ يدعو المسلم إلى التحرر من التبعية الحزبية المطلقة والمذهبية.. يدعوه أيضا أن يكون ذا شأن ورأي، وله سلطة النقد، واختيار أسلوب التوجيه، وتكييف أحداث الحياة.. يدعوه إلى أن يفكر كإنسان، ولكن عليه -ضمانا لنجاح تفكيره، وسلامة هذا التفكير- أن يستهدي القرآن ويسترشده.. يدعوه إلى "الاجتهاد" ونبذ "التقليد"، يقول في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} : "ثم -هو الله- "الصمد" في تحديد الحدود العامة للأعمال، ووضع أصول الشرائع، فلا بد أن يرد إلى ما أنزل جميع ما يقع الاختلاف فيه. وليس من المباح أن يرجع إلى قول غيره، متى نطق صريح كتابه بخلافه، وعلى الناس كافة أن يرجعوا إلى الكتاب. فإذا لم يكونوا عارفين به, رجعوا إلى العارف وطالبوه بالدليل منه. وعليهم أن يهتموا بأن يعرفوا منه أصول ما يعتقدون وما يعملون. فإذا لم يفعلوا اختلفت الآراء، وحجبت المذاهب كتاب الله فدرس معناه، وذهبت الحكمة من إنزاله.. لتعلق الناس بقول غير المعصوم، وعماهم عن هدى المعصوم، فكانوا بمنزلة من لم تأتهم رسالة. وإنما يعملون بما يقول لهم زعماؤهم، الذي لا يجدون دليلا على امتيازهم بالزعامة، فيكونون متمسكين بما لم ينزل به الله سلطانا، فسيقعون في مهاوي الشقاق الدنيوي والأخروي"1. آمن الشيخ محمد عبده بأن للإنسان وجودا ذاتيا وكيانا مستقلا في هذا العالم، والدعى بأن للإنسان وجودا ذاتيا، يستتبع منطقها إقرار إمكان الإنسان فهم نصوص الكتاب المنزل، والتفقه على أساس منها، وذلك هو ما يعرف "بالاجتهاد" إذ الاجتهاد هو التفتيش في مصدر الجو الديني الأصيل، كي يطبع حالا معينة أو حادثة جديدة بطابع هذا الجو، بحيث لا يبدو شذوذ، ولا نفرة عن ذلك الجو الأصيل!   1 تفسير جزء عم: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ومن هنا لا يتردد الشيخ محمد عبده في القول بإباحة الاجتهاد ونبذ التقليد! وسبب الدعوة إلى الاجتهاد عنده هو طبيعة الحياة، وضرورات المجتمع الإنساني: فالحياة الإنسانية صائرة ومتطورة، ويجد فيها من الأحداث والمعللات اليوم، ما لا يعرفه أمس هذه الجماعة. والاجتهاد هو الوسيلة العلمية، والنظرية المشروعة، للملاءمة بين أحداث الحياة المتجددة وتعاليم الإسلام العامة. ولو وقف الأمر بتعاليم الإسلام عند حد تفقه الأئمة السابقة لسارت الحياة الإنسانية في الجماعة الإسلامية في عزلة عن التوجيه الإسلامي، وبقيت أحداث هذه الحياة في بعد عن تحديد الإسلام لها وتكييفها بالكيفية الإسلامية، وهذا وضع سيحرج المسلمين في إسلامهم وفي حياتهم معا! فإما أن تخف قيمة الإسلام في نفوسهم، تحت ضغط تيار الحياة وأحداثها، وإما أن يقفوا عن متابعة السير في الحياة فيصيروا في عزلة عن الحياة نفسها وضد الحياة وقانونها كذلك! ومع أن الاجتهاد هو الوسيلة المشروعة والحتمية لامتداد الصيغة الإسلامية لأحداث المجتمع الإنساني في الجماعة الإسلامية، إلا أنه من جانب آخر لا يجوز أن يمارسه إلا من كان على الصفات العلمية التي كان عليها المجتهد الأول في القرون الثلاثة الأولى. ومن أجل ذلك قرر الشيخ محمد عبده جوازه في عصره وبعد عصره، بالشروط التي جاز بها فيما مضى, واحتاط في هذه الشروط احتياطا لا يقل عن احتياط الأوائل فيها. وكان من الضروري، إذ يجوز الاجتهاد أن ينعى على التقليد؛ لأنه وقف بالعقل الإنساني عند حد معين لا يتجاوزه. - وذلك يتنافى مع طبيعة العقل ذاته؛ لأن العقل وجد للملاءمة بين الإنسان وظروف الحياة التي يعيش فيها، ولذلك كان هذا العقل مصدر هداية وتوجيه له في حياته، فإن قضى عليه في عصر أن يقف عند حد أنواع الملاءمة التي استنبطت في عصر سابق، كان ذلك خروجا به عن طبيعته، ومثلا لحركته الذاتية في سيره. - ويتنافى الوقوف به عند زمن معين مع طبيعة الحياة؛ لأن أحداثها ليست أزلية غير متغيرة، بل خصيصتها التغير والتجدد. وإذن، قد يكون ما ناسب أحداثها الماضية من علاج اقتراح من قبل غير مناسب لعلاج الأحداث الجديدة! والحكم بإخضاع هذه الأحداث الجديدة لتكييف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الماضي وعلاجه قد يؤدي إلى تعسف ومشقة، نتيجة التنافر بين خصائص الأحداث الجديدة والعلاج الذي أخذ به لأحداث سابقة فيما مضى. - ويتنافى أيضا مع طبيعة المبادئ الإسلامية وخصائصها؛ لأن هذه المبادئ ليست لها طبيعة التوقيت، ولا الخصوص المكاني أو الزماني. فهي للناس كافة، وللإنسانية في أزمنتها المتتابعة، وفي جميع بقاعها. ومقتضى ذلك أنها صالحة لتناول أحداث الحياة، وقادرة على صبغها بالصبغة الإسلامية، وأنها صالحة كذلك لتوجيه الإنسان في الحياة في ظروفها المختلفة. والشيخ محمد عبده إذ ينعى على التقليد، ينعى عليه لذاته من حيث هو كمبدأ، ثم على وجه أخص ينعى على صورته التي كان عليها في زمنه، وهي التي تتمثل في تبعية حرفية لها شبه قداسة وسلطة.. تبعية لمذاهب واتجاهات ولدتها أو مالت بها عن خط الاستقامة عهود الضعف الفكري، والسياسي، والاقتصادي في الجماعة الإسلامية.. وتبعية لكتب قامت على كثرة الافتراض النظري في تفصيل الآراء، وبعدت بذلك عن الحياة في سيرها الواقعي، وغمضت في أسلوبها، وهدفت إلى توكيد الخصومة المذهبية الجامحة. ويبين محمد عبده مدى أثر هذا التقليد على علماء الأزهر: "وإذا وصل إلى أيدي هؤلاء العلماء كتاب فيه غير ما يعلمون لا يعقلون المراد منه!! وغذا عقلوا منه شيئا يروونه ولا يقبلونه!! وإذا قبلوه: حرفوه إلى ما يوافق علمهم وحزبهم، كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة"1. فإقرار الاجتهاد وجوازه -في نظر الشيخ محمد عبده- ليس مظهرا لاعتبار الإنسان وتقديره فحسب، بل هو قبل ذلك ضرورة اجتماعية إسلامية، واستمرار عملي للحياة الإسلامية داخل المجتمع الإسلامي. العقل الإنساني هو العقل الإنساني في كل عصر وجيل.. وموقف الإنسان المسلم من كتاب الله وسنة رسوله في أي جيل، يجب أن يكون هو موقف الإنسان المسلم أول الدعوة في الإسلام، وفي الفترة الذهبية له. هذا   1 تاريخ الإمام: ج1 ص766. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الموقف هو: أن للمسلم المتأخر في الزمان الحق كل الحق في أن يفهم القرآن والسنة الصحيحة، كما كان هذا الحق نفسه للمسلم السابق، على أن تتوافر للمتأخر مقومات الفهم "السليم" على نحو ما عرفها السلف فيما مضى، واعتبرت دستور الاجتهاد أو شروطه، وهذا الحق المشترك بين السابق واللاحق لا يوحي به تحقق الوصف الإنساني لكل منهما فحسب، بل توحي به أيضا الأحداث المتغيرة في الجماعة الإسلامية، وتطور الحياة نفسها بين المسلمين. فهذه الأحداث خليقة بأن تحمل المسلمين في بيئاتهم المختلفة وأجيالهم المتعاقبة على إخضاع هذه الأحداث نفسها للإسلام، حتى يصبح تصرف المسلمين إزاءها تصرفا إسلاميا ... وبذلك لا يغيش الإسلام في عزلة عن مجرى الحياة العلمية للجماعة الإسلامية! هذه الأحداث خليقة بحمل المسلمين على ذلك؛ لأنها طارئة على حياتهم، ولم يعرفها أسلافهم من قبل، ولو وقف المتأخرون عند حد ما قطعه السابقون، في الملاءمة بين أحداث الحياة وتعاليم الإسلام، لوجدوا أنفسهم -بعد فترة من الزمن- أنهم أمام هذه الثنائية: - حياة تسير وتجري في سيرها، لا يستطيعون وقف سيرها وجريانها، وبالتالي لا يستطيعون اتخاذ موقف معين إزاءها. - وإسلام يعتقدون به، ويرون أن يكون سلوكهم في حياتهم على أساس من تعاليمه وتوجيهه!! محاربة سلطة الكتاب الموجه، وهو كتاب المتأخرين: ويرى الشيخ محمد عبده في كتب المتأخرين، والتي ألفت في عهود الركود والضعف -من تأثيرها على التوجيه تأثيرا سلبيا، وحجبها العقل الإسلامي من أن يرى الحياة فيسايرها في أحداثها وتطورها- ما رآه في الحزبية المذهبية من قبل! فكما أن أثر الحزبية المذهبية في الجماعة الإسلامية أثر سلبي على وحدتها وتماسكها من جانب، وعلى الاهتداء بالقرآن نفسه والسنة الصحيحة اهتداء مباشرًا في تكييف الحياة الإنسانية المتجددة من جانب آخر، فكذلك الشأن بالنسبة لكتب المتأخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 يقول في تقدير هذه الكتب: "إذا رجعنا إلى كتب القرون المتوسطة -فترة ما قبل الركود، كالزيلعي مثلا- نكون قد خطونا خطوة لإصلاح الكتب والفقه، وما دمنا مقيدين بعبارات هذه الكتب -المتأخرة- المتداولة، ولا نعرف الدين والعلم إلا منها، فلا نزداد إلا جهلا!! هذا الشوكاني لما كسر قيود التقليد الأعمى، حيث كان وهابيا معتدلا، صار عالما وفقيها! إن حالة الفقهاء هذه -في كتب المتأخرين- هي التي ضيعت الدين؟ ". كما نعى محمد عبده على التطويل في بحوث العبادة، وعلى ترك التطور والتفصيل في باب المعاملات، حيث يقول: "إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان، أمور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب، فهل نوقف سير العالم من أجل كتبهم؟ هذا لا يستطاع؟! "ولذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية، ولجئوا إلى غيرها.. والفقهاء هم المسئولون عند الله عن هذا، وعن كل ما عليه الناس من مخالفة الشريعة؛ لأنه كان يجب عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان، ويطبقوا عليه الأحكام بصورة يمكن للناس اتباعها، كأحكام الضرورات، لا أنهم يقتصرون على المحافظة على نقوش هذه الكتب ورسومها، ويجعلونها كل شيء، ويتركون لأجلها كل شيء!! "يقرءون "الأصول" ولا يخطر ببال واحد منهم أن يرجع فرعا من هذه الكتب إلى أصله، أو يبحث عن دليله!! بل لم يخجلوا أن يقولوا: نحن مقلدون لا يلزمنا النظر في الكتاب والسنة!! دانوا لكتب المتقدمين "عليهم مباشرة" على تعارضها وتناقضها، الذي تشتت به شمل الأمة، ويكتفون بقولهم: ولكهم من رسول الله ملتمس!!! "ينبغي أن يكون للفقهاء جمعيات يتذاكرون فيها، ويتفقون على الراجح الذي ينبغي أن يكون عليه العمل.. وإذا كان بعض المسائل رجح لأسباب خاصة بمكان أو زمان، ينبغي لهم التنبيه على ذلك، وعلى أن هذا الحكم ليس عاما، وإنما سببه كذا؛ لا أنهم يجعلون كل ما قيل عن فقيه، واجب الاتباع في كل زمان ومكان"1.   1 تاريخ الإمام: ج1 صفحة 943-945. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 إحياء كتب الأوائل: وفي الوقت الذي عاب فيه محمد عبده على كتب المتأخرين، ونعى على المتمسكين بها إلى حد أن كان تمسكهم بها سببا في ضياع مصالح الناس ... دعا إلى إحياء التراث القديم، وساهم هو مع ذلك في إحيائه، وهو بهذا وذاك، منطقي مع تفكيره العام في الجانب التوجيهي؛ لأنه إن عاب كتب المتأخرين، لم ينتقص من قيمة التراث الإسلامي والعربي، كأساس يجب أن يقوم عليه كل إصلاح، وتبنى عليه نهضة الشرق الإسلامي، في مسايرته للحياة الواقعية. فاعتماده على هذا التراث من جانب، وتقليله من قيمة كتب المرحلة المتأخرة من جانب آخر.. كان لا بد أن يوحي بفكرة إحياء التراث القديم!! ساهم محمد عبده بنفسه في إحياء هذا التراث، ودفع إليه السلطة القائمة إذ ذاك، ورغب تلاميذه في هذا العمل ... فشرح كتاب "البصائر النصيرية" في علم المنطق، وأخرج "نهج البلاغة" في الأدب، وغير ذلك، وهكذا أعطى محمد عبده نموذجا للانتفاع بالتراث القديم! كما وضع مبادئ عامة للتأليف الحديث، ورسم منهجا خاصا لتفسير القرآن الكريم.. والتزم هذه المبادئ في تأليفه، "رسالة التوحيد" وفي تفسيره الخاص لكتاب الله المنزل. ويقوم منهجه في تفسير القرآن الكريم على هذه الأسس التالية. - إخضاع حوادث الحياة القائمة في وقته لنصوص القرآن الكريم, إما بالتوسع في معنى النص، أو بحمل الشبيه على الشبيه. - اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة, لا يصح الإيمان ببعضه، وترك بعض آخر منه، كما أن فهم بعضه متوقف على فهم جميعه. - اعتبار السورة كلها أساسا في فهم آياتها، واعتبار الموضوع فيها أساس في فهم جميع النصوص التي وردت فيها. - إبعاد الصنعة اللغوية عن مجال تفسير القرآن، وإبعاد تفسيره عن أن يجعل مجالا لتدريب الملكة اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 - عدم إغفال الوقائع التاريخية في سير الدعوة إلى الإسلام، عند تفسير الآيات التي نزلت فيها. والشيخ محمد عبده بهذا المنهج في تفسير القرآن الكريم لم يعد للقرآن حرمته واعتباره فقط، بل رسم منه دائرة تستطيع أن تحيط بالحياة الإنسانية في حاضر الإنسان المسلم، كما أحاطت في الماضي البعيد بحياة المسلم على عهد الدعوة، وفي العهد القريب منها بعد ذلك. إصلاح الأزهر: رأينا حتى الآن أن الشيخ محمد عبده يمارس التفكير في جوانب متعددة: - يمارسه في الجانب القومي في السياسة الوطنية، والتربية الجماعية. - ويمارسه في الجانب الاجتماعي: في الكشف عن عيوب المجتمع، وبيان مقوماته. - ويمارسه في جانب العقيدة: ببيان ما يحول دون المسلم أن يكون إيجابيا وما يدفعه إلا أن يكون بناء. - ويمارسه في جانب التوجيه العام: ليخلق من المصري، والشرقي المسلم مواطنا صالحا. وفي جميع تلك الجوانب التي مارس فيها محمد عبده التفكير نقدا وبناء، التزم شيئا واحدا هو: الثقافة الإسلامية. فنواة تفكيره في ذلك كله هي الثقافة الإسلامية.. وهو يرى أن الانحراف في هذه الثقافة هو سبب فساد المجتمع. وإعادة هذه الثقافة إلى إيجابيتها، هي السبب في نهضة الأمة كجماعة، وكأفراد، وهي السبب بعد ذلك في دفع الاستعمار، وفي محو الظلم والإهانة البشرية، اللذين تقوم عليهما سلطته المستعمرة في البلاد الإسلامية. - لكن ما السبيل إلى إبعاد الانحراف عن هذه الثقافة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 - ما السبيل إلى جعل هذه الثقافة ثقافة بناءة؟ - ما السبيل إلى إبعاد عوامل الفرقة في الأمة؟ - ما السبيل إلى رد اعتبار الإنسان للإنسان في هذه البلاد؟ - ما السبيل أخيرا إلى أن نسير دائما، ولا نتخلف أبدًا؟ سبيل ذلك في نظره: إصلاح الأزهر, وإصلاح الأزهر وحده! فالأزهر، هو كقلب الأمة، إن فسد فسدت الأمة، وإن صلح صلحت الأمة, إن فسد فسيحترف رجاله الدين عن غير فهم صحيح للإسلام، فيطغى الانحراف في توجيه الأمة، وتنتشر المذاهب الانفرادية والإباحية، وتزيد الأمة ضعفا بذلك على ضعف!! وبهذا يخف وزن الإسلام وتخف قيمه في نفوس الناس، وبالتالي يقوى النفوذ الاستعماري، ولا يستطيع المسلمون أن يواجهوه في صف واحد كتلة قوية، بإيمانهم في الحياة، وبسيادتهم فيها ولو على أنفسهم على الأقل!! وإن صلح هذا الأزهر فسيشع منه نور الهداية، وسيكون علماؤه قدوة للمواطن المسلم الصالح ... قدوة في العمل، والتفكير معا! ويجمل الشيخ محمد رشيد رضا رأي الشيخ محمد عبده في قيمه إصلاح الأزهر، فيما يلي: "ثم سمت به همته إلى السعي في إصلاح الأزهر، معتقدا: أن إصلاحه خير إصلاح لحال المسلمين الدينية والدنيوية، ولإصلاح كل من يساكنهم في بلادهم بالتبع لهم، وأنه خير وسيلة للتعارف بين الشرق والغرب، وخير صلة بين المدنية القديمة والمدنية الجديدة؛ لأنه علم أن السبب في التقاطع بين أوروبا والمسلمين: هو جهل الأوروبيين بحقيقة الإسلام، وعجز المسلمين عن إفهامهم تلك الحقيقة؛ لأنهم غير متحققين بها، لا علما ولا عملا ولا تحققا.. ثم جهل المسلمين بحقيقة أوروبا، وبكنه ارتقائهم العلمي والاجتماعي. "ولو صلح حال التعليم في الأزهر، لهب المسلمون إلى طلب العلوم الصحيحة، كما هبوا لذلك في أول نشأتهم، فأحيوا ما أماته الزمان من علوم الهند واليونان، فلا يجدون أمامهم إلا أوروبا وعلومها الحية، ويفهمونها على أنها خير عون لهم على تكميل مدنيتهم ... فيتعارفون، ولا يتناكرون! وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 عارضت الساسية تعارفهم فإنه يسهل من إزالة معارضتها مع التقارب والعلم، ما لا يسهل عليهم مع التقاطع والجهل"1! كان أمل الشيخ محمد عبده في حياته إذن بعد تفكيره الذي وضح خطوطه: هو إصلاح الأزهر! عادى خديوي مصر "عباس الثاني" من أجل الأزهر، ومن أجل أوقاف المسلمين "وقف الجيزة" على كتاب الله! واتصل بكرومر الحاكم غير الشرعي من أجل الأزهر وأوقاف المسلمين، على كتاب الله! ومات أخيرا، وهو صريع الكفاح من أجل الأزهر وكتاب الله! ودعا الأزهريين إلى فهم كتاب الله.. إلى نبذ التقليد ... إلى الرجوع إلى كتب المتقدمين.. إلى فهم الحياة الواقعية ... "إلى السير مع السائرين فيها ... إلى عرض الإسلام بعقلية العصر وأسلوب العصر ... أنه يقول: "إن العالم المسلم لا يمكنه أن يخدم الإسلام، من كل وجه يقتضيه حال هذا العصر، إلا إذا كان متقنا للغة من لغات العلم الأوروبية، تمكنه من الاطلاع على كتب أهلها في الإسلام وأهله، ومن مدح وذم"2. وقد رسم محمد عبده خطة المناهج: لتخريج الدعاة، وتخريج المؤلفين، وتخريج العلماء الباحثين، ونفذ هذه الخطة في دروسه، وتواليفه للخاصة والجمهور، وفي إحيائه للتراث القديم. ولكن الأزهريين قاوموا الشيخ محمد عبده ... اتهموه في إيمانه، وفي دينه! اعتبر الأزهريون إيمان الشيخ محمد عبده ضعيفا, واعتبروا دينه رقيقًا وطال الأمد على هذا الظن، حتى تحول الاتجاه عن محمد عبده، وعن إصلاحه وعن خطته، وطريقته في درسه وتأليفه! ومع ذلك مات الشيخ محمد عبده غير يائس من إصلاح الأزهر3 ولكنه لم يدر بخلده يوما ما، أن يتحول الأزهر إلى معهد لتخريج مدرسي   1 تاريخ الإمام: ج1: ص543. 2 تاريخ الإمام ج1: ص927. 3 هل تحققت آمال المفكرين في إصلاح الأزهر بصدور القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 اللغة العربية في المرحلة الابتدائية من مراحل التعليم في وزارة التربية والتعليم، وأن لا يستطيع أن يخرج من يفهم الإسلام، فضلا عن أن يفهمه الناس، فضلا عن أن يكون هذا المتخرج ذا بحث وبناء في رسالة الإسلام. لم يدر بخلد الشيخ محمد عبده أن يصير الأزهر إلى وضع يؤدي إلى حجب الثقافة الإسلامية عن الأجيال القادمة، وأن يكون حاله الذي صار إليه مساويا في النتائج لذلك المشروع الغربي الاستعماري، وهو مشروع كتابة العربية بالحروف اللاتينية!. فالأزهر -فيما صار إليه- قد توقف عن تخريج فاهم للإسلام. وبذلك بقيت كتب التراث الإسلامي في عزلة عن حياة المسلمين، إذ الأزهري الفاهم للإسلام كان فيما مضى هو الصلة بين الطرفين وفكرة كتابة العربية بالحروف اللاتينية -لو قيض لهذه الفكرة أن تتم- لكانت نتيجتها ذات النتيجة وهي: قطع حياة المسلمين عن ماضيهم الإسلامي, في ثقافتهم الموروثة. لم يدر بخلد الشيح محمد عبده أن مشيخة الأزهر في عهد ما ستتحول إلى مكتب، نشاطه لا يتصل بالتعبئة الروحية في الشعب، ولا يتصل بالدفاع عن الإسلام في وجه هجوم الغرب الصليبي المستعمر، ولا بالعمل على إبراز حيوية الإسلام وسمو تعاليمه في مواجهة الإلحاد المادي، مما يعتبر المهمة الأساسية الكبرى للأزهر كجامعة وحيدة في العالم الإسلامي، وكمصدر للقوة الفكرية الإسلامية، ومصدر لا ينازع لزعامة مصر في العالم الإسلامي، ولمنزلة مصر في العالم العربي كذلك. تقدير المستشرقين للشيخ محمد عبده: إن الشيخ محمد عبده كان في نهاية القرن الماضي شمعة مضيئة.. كان الظلام شديد الحلوكة حوله، ولكن لم يكن قليل الضياء في نفسه -كما يقول ماكس هورتن المستشرق الألماني- بل إن وقته قد تجاهله وحاربه، فلم ير ضوءه على حقيقته؟؟ وماكس هورتن واحد من عديدين من المستشرقين، الذين يحاولون وضع غطاء على قيمة الشيخ محمد عبده نفسه؛ وعلى آرائه في صلتها بحقيقة الإسلام. فذلك المستشرق الفرنسي "B. Mechel" - الذي قام بالاشتراك مع الشيخ مصطفى بعد الرازق بترجمة "رسالة التوحيد" للشيخ محمد عبده يعلق على رأي الشيخ محمد عبده في الإسلام بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 "كان محمد عبده متفائلا أكثر من الواقع حيث قال باتحاد العلم مع الدين في كل وضع، في حين أن العلم لا يخضع للدين في بعض الأحيان، كما في أوروبا! ولعله أتى بهذا الرأي لحمل العلماء من المسلمين على دراسة المدنية الحديثة، ورأى أن هذا هو الطريق لذلك"1؟؟ ودائرة المعارف الإسلامية -التي أخرجها بعض المستشرقين -تذكر ما يلي في تعليقها على آراء الشيخ محمد عبده فيما يتصل بتقييم الإسلام: "والإسلام البدائي -نقصد الإسلام على عهد الرسول وصحابته- في نظر الشيخ عبده، ليس هو الإسلام التاريخي "الذي صار إليه الأمر في حياة المسلمين! " ... وإنما هو إسلام اصطنع مثاليته، وجعله متوقفا على المسيحية في أنه دين معقول، ومتصل بالحياة اتصالا كثيفا، متصل بتلك الحياة الواقعية؟ "وعمله "الشيخ محمد عبده"، بالنسبة للإسلام، له طابع الدفاع عن العقيدة ... ومساهمته في فكرة الإسلام الديني هي محاولة لخلق موضع للإسلام في العالم الحديث"2. وبمثل هذا التعليق يحاول المستشرقون أن يصوروا -من طريق غير مباشر- أن الإسلام في ملاءمته للعلم، وفي سمو مبادئه, وفي صلاحيته للحياة، ليس على النحو الذي يصوره به الشيخ محمد عبده، وأن الإسلام على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى عهد صحابته رضوان الله عليهم، لا يفترق عن الإسلام كما فهمه المسلمون بعد ذلك، وعلى نحو ما تمسكوا به في عهودهم ضعفهم!! وإذن فالشيخ محمد عبده مجرد متفائل ... يحاول الدفاع عن الإسلام، فيطبعه بطابع مثالي ... كما يحاول أن يجعل له مكانا في الحياة الحديثة، مع أنه ليس له مكان فيها!!   1 ترجمة رسالة التوحيد: ص50. 2 دائرة المعارف الإسلامية -الطبعة المختصرة باللغة الإنجليزية، ص405-407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وهكذا يصاب من المسشرقين كل من يكتب عن الإسلام، بعقيدة المؤمن به، أما في شخصه وطبعه كجمال الدين الأفغاني، أو في تفكيره ورأيه كالشيخ محمد عبده!! محمد عبده ... والسير أحمد خان: يذكر المرحوم أحمد أمين في تعليقه وترجمته للسير "سيد أحمد خان" في الهند، أنه يشبه الشيخ "محمد عبده" في مصر، من حيث إن كلا منهما كان مصلحا دينيا، وقصد الإصلاح عن طريق التربية، مؤثرا هذا الطريق على طريق الثورة والاحتكاك بالمستعمرين وهو الطريق الذي سلكه جمال الدين الأفغاني ... يقول1: "ثم كلاهما كان يرى أن السطان في مصر وفي الهند، في يد الإنجليز، ولهم من القوة المادية والأسلحة والذخائر في البر والبحر، ومن القوة العلمية والسياسية، ما لا تستطيع الهند ومصر مقاومته!! قد يستطيعون المقاومة إذا اتحدوا، ولكن كيف يكون اتحادهم مع جهلهم وضعف خلقهم! بل كيف يكون ذلك مع فساد أمرائهم، وبحثهم عن منافعهم الشخصية، ولو حلى حساب الأمة قالا: إذن، فالأولى مسالمة الإنجليز، والتفاهم معهم، وأخذ ما نستطيع لخير الشعب منهم". والأستاذ أحمد أمين يشير بهذه "المسالمة" للإنجليز -فيما يخص الشيخ محمد عبده- إلى مهادنته للورد كرومر. ولكن مهادنة الشيخ محمد عبده لكرومر إنما كانت لحماية نفسه من اضطهاد الخديوي عباس الثاني إياه، كي يتمكن من إعلان رأيه في إصلاح الأزهر والدفاع عنه، وحتى يستمر في نشاطه الفقهي، وفي أحاديثه التوجيهية والعلمية في مجالسه ودروسه ... كانت أيضا لحماية أوقاف المسلمين الخيرية، التي أخذ هذا الخديوي الشاب في تصفيتها -جشعا منه- بسبب أو بآخر، ويضيفها إلى أملاكه الخاصة. لقد كانت توجد في مصر سلطتان: سلطة الاحتلال وسلطة أخرى محلية وهي سلطة الخديوي، بينما كانت توجد في الهند سلطة واحدة هي: سلطة الاحتلال الإنجليزي, فهناك نوع من المفارقة بين الهند ومصر، وبالتالي   1 كتاب زعماء الإصلاح ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 بين موقف الشيخ عبده وموقف السير سيد أحمد خان: فالممالأة للسلطة القائمة هناك كانت واضحة لتحقيق منفعة شخصية أو لتحقيق خدمات للاستعمار. أما التفاهم هنا في مصر مع ممثل السلطة المحتلة فكان للوقاية، وللحيلولة دون استمرار تنفيذ الخطة الموضوعة لتصفية أوقاف المسلمين، وتوجيهها وجهة أخرى غير التي وقفت عليها من الخيرين!! ثم إن الشيخ محمد عبده له ماض طويل في الكفاح ضد الاستعمار، سواء وهو بمصر، أو حين كان في باريس، أو في بيروت، أو في شمال إفريقيا، مع أنه لم يعرف للسير "أحمد خان" موقف واحد ضد الاستعمار البريطاني، ولا ضد النفوذ البريطاني في صورة ما في الهند، حتى قبل نقل السلطة من شركة الهند الشرقية الإنجليزية إلى التاج البريطاني سنة 1857م!! يضاف إلى ذلك، أن الشيخ محمد عبده لم يحاول في "إصلاحه الديني" -كما حاول سير أحمد خان- أن يوقف مبدأ من مبادئ الإسلامي الرئيسية كمبدأ الجهاد ولا أن يمالئ المسيحيين في الاعتراف بإنجيل من أناجيلهم الأربعة: "إنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، وإنجيل مرقس" -وهي جميعها تدخل في ما يعرف بـ"العهد الجديد"- بل كتب كتابه المشهور في فضل الإسلام على المسيحية، وهو: "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية"، في حين كتب السير أحمد خان كتابه: "تبيان الكلام" يدافع فيه عن صحة المسيحية كرسالة من السماء بوضعها الموجود فيه في الأناجيل الأربعة بين المسيحيين.. تلك الإناجيل التي كتبها بعض من الحواريين على حسب رواية كل منهم، وعلى حسب ما تصوره وأدركه شخصيا من تعاليم المسيح. وقد عاد المرحوم الأستاذ أحمد أمين -بعدما ذكر من وجه الشبه بين السير أحمد خان والشيخ محمد عبده- إلى الحديث عن السير أحمد خان وموقفه من البريطانيين في الهند ... فقال: "عندما قام الهنود بحركة عنيفة في ثورتهم على الاستعمار البريطاني سنة 1857م، وهاج الرأي العام الإنجليزي هياجا شديدا، كان السير أحمد خان متزنا، مخالفا للرأي العام، ورأى أن هذه الثورة لا تأتي بنتيجة، وأن آخر أمرها عودة الإنجليز إلى السيطرة ثانية، من غير فائدة إلا ضحايا الطرفين، وأن قتل الإنجليز وخاصة المدنيين، عمل غير إنساني.. لذلك وضع خطة بذل فيها الجهد مع أصدقائه لحماية الإنجليز من القتل، وإنجاء من تصل إليه أيديهم منهم، فنجا على يده وأيدي أصدقائه كثير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وضحى في ذلك بالكثر من ماله، واضطهاد أقاربه حتى لقد طعن بعضهم بالخنجر من الثائرين، وماتت أمه لهول الصدمة من قوع الحوادث الأليمة. "فلما هدأت الثورة، عرف له الإنجليز فضله، وحفظوا له جميله، وكأفئوه ماديا وأدبيا. ومن ذلك الحين تأكد الصلة بينه وبنيهم فاستخدمها فيما وضع من خطة الإصلاح"1. والآن ترى: أيعد هذا الصنيع من السير أحمد خان أمارة ولاء للإسلام وللوطن الإسلامي؟! أم هو أمارة على الولاء للمستعمر، وتمكينه من اغتصاب حقوق المسلمين؟! ووجه الشبه الذي يربط به الأستاذ أحمد أمين بين السير "أحمد خان" والشيخ "محمد عبده"، على نحو ما ذكرنا، قد تأثر فيه بما يصور به المستشرقون حركة السير أحمد خان من أنها حركة إصلاحية، ليكون لها طابع الإصلاح الديني وبذلك تجد قبولا لدى المسلمين، ومن ثم يسري هدفها إلى نفوسهم ... فالذي ينقل هنا عن موقف السير أحمد خان من الإنجليز هو تيئيس للمسلمين من مقاومة الاستعمار، فما أبعد هذا عن أن يكون غاية لإصلاح ديني إسلامي وسياسي وطني. والمستشرق بلوم هارت Blum Hardt كتب مقالا في "دائر المعارف الإسلامية" باللغة الإنجليزية، يحاول فيه أن يطبع حركة السير "أحمد خان" بطابع حركة الشيخ "محمد عبده"؛ وهو الطابع الإصلاحي، وبنفس الأسلوب الذي كتب به المرحوم الأستاذ أحمد أمين موازنا بين الشيخ محمد عبده والسير أحمد خان فيما ذكر هنا2. والذي أميل إليه: هو أن المرحوم أحمد أمين في هذا الموضوع، قد حسن ظنه بما يكتبه المستشرقون، على عادة كثير من الكتاب المسلمين في معالجتهم القضايا الإسلامية. فإنهم يقعون تحت تأثير ما يكتبه المستشرقون في أحكامهم وأهدافهم, دون أن يحتاطوا في التبعية لهم, والتأثر بهم .... وفي كثير من الأحايين يرون ما يكتبه أولئكم جديرا بالاعتبار؛ لأنه في ظنهم قائم على منطق لا يرد؟!   1 زعماء الإصلاح الحديث: ص123, 124. 2 دائرة المعارف الإسلامية "المختصرة": ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 محمد عبده.. ومحمد بن عبد الوهاب: كما تتلمذ ابن عبد الوهاب على "كتابات" ابن تيمية، تتلمذ محمد عبده على "شخص" جمال الدين الأفغاني .... ولكن مع فارق في التلمذة، وفارق آخر في نتيجة هذه التلمذة: - "محمد عبد الوهاب": حفظ لابن تيمية وأكد حفظه، ولكن لم ينمه، ولم يمتحنه ... أبقى عليه كما هو، وإن ركز عنايته في بعض جوانبه دون البعض لآخر، على نحو ما يعرف له من تأكيده الجانب السلبي في تعاليم ابن تيمية دون الجانب الإيجابي منه، كاستخدام الاجتهاد مثلا، واستطاع أن يوفر على العناية بهذه التعاليم، سلطة وحكومة تهتم به وبصيانتها -على الأقل من الوجهة الرسمية. - أما "محمد عبده": فقد تلقى على جمال الدين الأفغاني، واستمع إليه، وشاركه الرأي، وعبر عما ينسب إليه من فكر، ومع ذلك لم يبق في حدود ما تركه جمال الدين، بل امتحنه ونماه.. وخلق منه نظاما علميا وعقليا متعدد الجوانب وإن كان موحد المصدر وموحد الغاية. اختبر محمد عبده ما خلفه جمال الدين، أو ما تركه في نفسه كتلميذ له.. فلم يرقه سبيل إثارة الحماس الشعبي؛ لأن هذا السبيل مؤقت في تأثيره، كما أنه غير مأمون العاقبة؟ ولذا حاد عنه رويدا رويدًا، بعد أن شارك فيه أستاذه، وبعد أن استمر فيه أيضا بعد أستاذه مشاركا عرابي ورجاله في ثورتهم المشهورة التي انتهت بالاحتلال البريطاني سنة 1882م1. وبعد أن اختبر "محمد عبده" ما عرف لجمال الدين الأفغاني من آراء ومنهج رسم لنفسه طريقا آخر يؤدي في نظره إلى ذات الغاية، مستعينا في الوصول إلى هذه الغاية بذات المبادئ التي عنى بها جمال الدين.. رسم   1 هذا الاحتلال كان متوقعا من وقت لآخر بدون هذه الثورة، واقتران الاحتلال بهذه الثورة أمام الرأي العام العالمي، يشبه إلى حد كبير اقتران تمكين إسرائيل في الحرب اليهودية في 15 مايو سنة 1948 من معظم الأراضي الفلسطينية, بمشروع الهدنة الأولى في هذه الحرب.. إن كلا من الأمرين كان مناورة استعمارية، تلمست لها السياسة الغربية شبه مبرر لتنفيذها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 لنفسه طريق "التربية": تريبة الشعب، وتربية القادة والموجهين، وهم العلماء. - تربية الشعب لفهم الحياة، والسير فيها، وإخضاع الحكم لإرادته ورأيه. - وتربية القادة لتوجيه الشعب في قراه ومدنه، ولتوجيه البحث في أكاديمية البحث وهي: الأزهر. والأساس المشترك في نوعي التربية عنده هو الإسلام؟ ولكنه ليس إسلام الفرق والمذاهب، ولا إسلام المقلدين، ولا إسلام المبتدعين ولا إسلام "السلبيين" من أرباب الطرق الصوفية. إنما هو إسلام القرآن الذي يحث على الإعداد الإنساني لهذه الحياة، وهو الإعداد القائم على الذاتية وعلى عدم إلغاء الشخصية الفردية. ولهذا فإن "الاجتهاد" مطلوب للإسلام، أو هو نتيجة من نتائج الإسلام الصحيح. والغاية الأخيرة التي يقصد إليها الشيخ محمد عبده: هي نهضة المسلمين, وصيانتهم لحقهم في أن يعيشوا متساوين مع غيرهم في الحياة، حريصين على أن لا يستذلوا لأحد أجنبي عنهم. ويتميز "محمد عبده" أيضا في علاقته بجمال الدين عن محمد بن عبد الوهاب في صلته بابن تيمية بأن محمد عبده، فوق أنه اختبر الذي ألقي إليه من جمال الدين وما وجهه به، وأخرج نظاما علميا يختلف في الصياغة وإن اتحد في الأساس والغاية.. لم يبق في حدود "التربية" من الوجهة النظرية، بل ضرب الأمثلة وقدم النماذج. - على مناهجه العلمية لتربية الشعب، في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية. - وفي برامجه الإصلاحية للبحث بين علماء الأزهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 - وفي تأليفه الشعبي: كتفسيره جزء عم.. وتأليفه الأكاديمي: كدروسه في تفسير القرآن الكريم بالرواق العباسي التي كان يؤمها قادة الشعب من الأقباط والمسلمين وكبار علماء الأزهر. لقد مارس محمد عبده إذن الجانب العملي في تطبيق فكرتي: التربية والاجتهاد. بينما وقف محمد عبد الوهاب حارسا على تركة ابن تيمية، وإن كان قد أضاف إلى مجهود الحراسة مجهودا آخر: فإنما هو تأكيده الحرب ضد البدع، وفي إبراز التفرقة بين الشيعة المعتدلة من الإمامية والجماعة السنية! هذا الاختبار الذي أجراه محمد عبده في تراث جمال الدين الأفغاني، والذي أدى به إلى أن يتخير وسيلة أخرى: هي وسيلة "التربية"، دفع بعض الكتاب إلى أن ينظروا إلى الشيخ محمد عبده -كما تقدم- على أنه تربوي، أو مصلح ديني، وليس لعمله صلة بالسياسة أو الحركات السياسية!! ودفع هؤلاء الكتاب بالتالي إلى أن يحكموا على نشاط محمد عبده بأنه في اتجاه يغاير تماما اتجاه جمال الدين الأفغاني. ولكن إذا قصد بالسياسة العمل على تخليص البلاد الإسلامية من الاستعمار الغربي، أو قصد بها مقاومة الاستعمار ... فإن كلا من جمال الدين ومحمد عبده، هدف إلى مقاومة الاستعمار الغربي، وتخليص البلاد الإسلامية من هذا الاستعمار! فالغاية لم تتخلف عند أحدهما، والأسس التي يجب أن تؤدي إلى ذات الغاية لم تتغير في نظر واحد منهما أيضا. كذلك يحاول بعض الكتاب، أن يضع فراغا آخر بين جمال الدين ومحمد عبده وراء الوسيلة عند كل منهما، وهو: أن "جمال الدين" إسلامي عالمي يسعى إلى تكتل المسلمين جميعا نحو حكومة واحدة أو في ظل اتحاد عام، بينما "محمد عبده" وطني مصري قصر نشاطه على وطنه مصر!! ولكن إذا روعي أن الأسس التي أقام عليها "محمد عبده" ونظامه التربوي، والتي جعلها مقدمة لتخليص البلاد الإسلامية من الاستعمار الغربي، أو لرد الاعتداء الغربي المسيحي على الشرق الإسلامي، هي نفس الأسس التي اتخذ منها "جمال الدين" دعامته في مقاومة الاستعمار الغربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وفي كفاحه السياسي، وهي: الرجوع إلى القرآن، وإلغاء التقليد، وأعمال الاجتهاد، ومحاربة البدع والسلبيات ... إذا روعي هذا فإن هذه التفرقة بين الاثنين تغدو غير مفهومه، على النحو الذي قصد إلى إبرازه..إلا على اعتبار أن محمد عبده جعل مصر "حقل" تجاربه التربوية. ثم إنه لم يثبت من جانب آخر أن "جمال الدين" حدد غايته الأخيرة تحديدا واضحا بإقامة حكومة واحدة تخضع لسلطانها كل البلاد والشعوب الإسلامية، وإنما الذي ثبت في كتاباته في مجلة "العروة الوثقى" أن غايته هي: "الجامعة الإسلامية" بين الشعوب الإسلامية.. وقد فهم بعض الكتاب من كلمة "الجامعة الإسلامية" الوحدة الإسلامية، وتركوا المعنى الآخر لهذه الكلمة وهو "الرابطة" أو الترابط ... في حين أن كلمة "الجامعة" في اللغة العربية أقرب إلى المعنى الثاني منها إلى المعنى الأول، وقد عبر جمال الدين هو نفسه تعبيرا واضحا صريحا بأنه لا يريد حكومة إسلامية واحدة، بل يريد تعاونا وترابطا أخويا إسلاميا! على أن هناك شيئا آخر يتميز به "محمد عبده" في علاقته بجمال الدين من جانب، عن "محمد بن عبد الوهاب" في صلته بابن تيمية من جانب آخر، وهو: أن جمال الدين ومحمد عبده واجها حلقة من حلقات الاعتداء الغربي المسيحي على الشرق الإسلامي، لم يواجهها ابن تيمية ولا تلميذه محمد بن عبد الوهاب من بعده ... وهي حلقة "الدراسات الإسلامية" التي يقوم بها المستشرقون الغربيون، لا لمصلحة الاستعمار الغربي فحسب، وإنما تنفيسا للعداوة التقليدية التي تخلفت عن الحروب الصليبية قبل كل شيء! ولم يستطع بعض الدارسين من علماء المسيحيين للتراث الإسلامي أن يخففوا من حدتها على نفوسهم عند مباشرة هذه الدراسة باسم "العلم" الذي مفهومه: الوسيلة المحايدة لخدمة الإنسانية، فضلا عن أن يتخلصوا من هذه العداوة تماما!! وهكذا واجه جمال الدين "رينان" المستشرق الفرنسي ومستشار وزارة الخارجية الفرنسية في شئون شمالي إفريقيا الإسلامية، وسمع منه رأيه في الإسلام والمسلمين.. واضطر كل من جمال الدين ومحمد عبده أن يشرحا بعض تعاليم الإسلام، التي اتخذ منها "رينان" "وهانوتو" مركز الهجوم على الإسلام، كما اضطرا أن يفرقا في غير لبس بين الإسلام كدين مصدره القرآن والسنة الصحيحة.. وبين عمل المسلمين وأفهامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 في القرآن والسنة في فترات متتابعة، كصورة تبعد وتقرب من مصدري الإسلام، ولكنها على كل حال ليست مصدرا للإسلام كالقرآن والسنة!! يقول الشيخ محمد عبده في ذلك: "عند النظر في أي دين، للحكم له أو عليه في قضية من القضايا، يجب أن يؤخذ ممحصا مما عرض عليه من بعض أهله، أو محدثاتهم التي ربما تكون جاءتهم من دين آخر! فإذا أريد أن يحتج بقول أو عمل لأتباع ذلك الدين في بيان بعض أصوله، فليؤخذ في ذلك بقول أو عمل أقرب الناس إلى منشأ الدين، ومن تلقوه على بساطته التي ورد بها من صاحب الدين نفسه"1. فالحكم إذن بالتفرقة بين "جمال الدين" و"محمد عبده"- فيما عدا الوسيلة والطريق- يحتاج إلى قليل أو كثير من البحث والاختبار. وربما يقال: إن الشيء الذي واجهه جمال الدين ومحمد عبده من دراسات علماء الغرب للإسلام، كحلقة من حلقات الاعتداء على الإسلام، وكسبب من أسباب رد الفعل في استمرار الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، متجهة هذا الاتجاه المناوئ للغرب المسيحي ... قد واجه ابن تيمية من قبل في وقته، وكان سببا أن يؤلف كتابه "الرد الصحيح على من بدل دين المسيح"!. ولكن واقع الأمر أن الذي كتبه ابن تيمية هذا ليس ردا على هجوم باسم الدراسات الإسلامية موجه للإسلام ... وإنما هو تقدير للمسيحية في أناجيلها الأربعة من وجهة نظره الإسلامية. وأخيرًا ... إن كلا من محمد عبده وجمال الدين نادى بإحياء الكتب القديمة, وبالأخص تلك التي تمثل "الأصالة" والإمامة في الرأي والفهم ... ترى هل كان حدبهما على إحياء هذه الكتب رد فعل لصنيع المدارس التبشيرية والإرساليات الثقافية الغربية المسيحية التي انتشرت في شاطئ   1 كتاب الإسلام والنصرانية: ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الشام "لبنان" على البحر الأبيض المتوسط على أثر الحروب الصليبية، وفي مصر بعد حملة نابليون؟ وهي التي حاولت فيما بعد أن تجعل اللغة "العامية" اللغة الأولى في الكتابة والحديث للبلاد العربية، وبذلك تحول هذه اللغة العامية -بعد انتشارها على مر الزمن -دون تلاوة القرآن وفهمه؟؟.. كما حاولت أيضا أن تضع حدا فاصلا بين التراث الماضي للفكر الإسلامي والجماعة الإسلامية، عن طريق تمجيد الجديد؛ لأنه جديد، والحط من قيمة القديم؛ لأنه قديم؟ وكما أن محمد عبده يتميز عن جمال الدين في التعاليم المشتركة بينهما على النحو السابق، يتميز عنه هنا في جانب إحياء التراث العربي الإسلامي القديم بنفس الطريقة التي تميز بها من قبل ... فقد ضرب المثل العملي في هذا الجانب ولم يقف عند حد المطالبة بتحقيقه من الوجهة النظرية، بل أضاف إلى المطالبة بذلك أن أخرج عدة كتب قديمة، كما شرح عددا آخر منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين ... اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين: منذ نهاية القرن التاسع عشر.. بعد وفاة "جمال الدين الأفغاني"، وبعد أن توفر الشيخ "محمد عبده" على ما سماه الإصلاح الديني، وبعد أن ظهر "مصطفى كامل" كزعيم لحركة المقاومة السياسية.. اتجه الفكر الإسلامي المقاوم للاستعمار الغربي هنا في رقعة الشرق الأدنى إلى شعبتين: - الشعبة الأولى: اتجهت إلى التعبئة الروحية والإصلاح، عن طريق عرض الإسلام عرضا واضحا، والعمل على جعله أساسا في التربية الوطنية، وسبيل ذلك إصلاح الأزهر، وإحياء الكتب القديمة.. وقد مثلت المدرسة "السلفية" التي قادتها مجلة "المنار" هذه الشعبة بعد وفاة الشيخ محمد عبده. - والشعبة الثانية: اتجهت إلى تعبئة الحماس القومي في الجيل الناشئ، عن طريق: الصحافة، والاجتماعات العامة، ثم عن طريق تأسيس "الجامعة المصرية"، بسعي من مصطفى كامل نفسه. ففكرة "الجامعة المصرية" وجدت أولا لخدمة القضية المصرية، وهي قضية التحرر من الاستعمار الغربي، وتفكير "الجامعة"، هو نوع من التفكير يتجه إلى مقاومة الاستعمار الغربي عن طريق تخريج أحرار في التوجيه غير خاضعين لنظام التعليم الرسمي إذ ذاك، وهو نظام وضعه الاحتلال البريطاني، ولم تزل رواسب هذا النظام باقية في اتجاه المدرسة المصرية إلى وقت قريب. ورؤي إذ ذاك -لتحقيق هدف "الجامعة"- أن يبعد بها عن الطابع الرسمي والإشراف الحكومي، وأنشئت بهذا الطابع سنة 1908م، واستمرت بعيدة عن الإشراف الحكومي فترة طويلة من الزمن، إلى أن ضمها "علي ماهر" في سنة 1925م إلى التعليم الحكومي، على أن يحتفظ باستقلالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وفي جو "الجامعة". وفي داخل الاتجاه السياسي "القومي" الذي يعد متوازيا مع اتجاه "الإصلاح الديني"، إذ كلاهما يهدف إلى مقاومة الاستعمار الغربي. في هذا وذاك، قام ما يعرف بـ"التجديد والمجددين"، أو ما يصح أن يطلق عليه: "الفكر الإسلامي المغرب" Westernized إنه ذلك الفكر في المجتمع الإسلامي الذي يسير في اتجاه الفكر الغربي، أو بمعنى أدق ذلك الفكر الذي يسير إما في اتجاه "الاستشراق" وتوجيه الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية, أو في الاتجاه "الطبيعي" العلمي هناك. يقول المستشرق الإنجليزي "جب" في تحديد هذين الاتجاهين1: إن النتائج التي أعقبت نشاط الشيخ عبده اتجهت بعده إلى اتجاهين متقابلين: - فمن جانب نشأ محيط "مدني" في التفكير: صور على أنه "التجديد". وهو يقوم على الاحتفاظ بالعقيدة الإسلامية، ولكنه متأثر في قوة بالأفكار الغربية.. والمثل التقدمي لهذا التجديد يميل إلى "العلمانية" التي تهدف إلى فصل "الدين" عن "الدولة"، والاستعاضة بالنظام الغربي "للقانون" عن الشريعة الإسلامية. "وقد طبقت مبادئ "العلمانية" في تركيا بعد إلغاء الخلافة العثمانية في سنة 1924م ... وفيما عدا تركيا من البلاد الإسلامية يجد هذا الاتجاه سندا قويا له، ولكن مع موقف معتدل بعض الاعتدال من المؤسسات والتقاليد الإسلامية، ومهما كانت نظرات المشجعين "للعلمانية" في البلاد الإسلامية إلى القانون والسياسة، فموقفهم التوجيهي يمكن أن يخلص: - في الرفض العام لتعاليم القرون الوسطى "في الإسلام! " كسلطة لا تعقيب عليها. - وفي الاحتفاظ بالحرية الإنسانية في تقدير الأشياء، وفي كون العقل وحده هو الفيصل في ذلك -"وليس الإسلام"!!   1 في كتابه: "المذهب المحمدي" ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 - ومن جانب آخر تكون حزب ديني، يسمي نفسه بـ"السلفية"، وهو يتفق مع الاتجاه العلماني في رفض سلطة تعاليم القرون الوسطى، ولكن مع قبول القرآن والسنة، كأساس للفصل في الحقائق الدينية. "وهؤلاء السلفيون في مقابل المجموعة العظمى من علماء الأزهر يعتبرون مصلحين، وفي مقابل المجددين أو العلمانيين: يرفضون مذهب "الحرية العقلية" الذي هو وليد الغرب.. وكان زعيم هذا الاتجاه الإصلاحي السلفي تلميذ الشيخ عبده محمد رشيد رضا السوري الذي توفي سنة 1935م". فالتجديد إذن -في رقعة الشرق الأدنى- منذ بداية القرن العشرين: هو محاولة أخذ الطابع الغربي، والأسلوب الغربي في تفكير الغربيين، سواء في تعبيرهم عن الدين، أو في تحديدهم لمفاهيمه ومفاهيم الحياة التي يعيشونها، أو في تقديرهم للثقافات الشرقية الدينية والإنسانية: يقول صاحب "مستقبل الثقافة في مصر": "فهي -أي: مصر- إنما أنشأت تلك الجامعة لترتفع بالشباب المصري عن ذلك التعليم الآلي الذي فرضته عليهم الظروف، ولترقى بهم إلى تعليم حر مستقل، يهيئهم أو يهئ بعضهم على الأقل ليكونوا علماء أحرارًا مستقلين! والظاهر أن مصر لا تريد أن تعبث ولا أن تهزل حين تقرر أنها تريد أن يكون من شبابها علماء أحرارًا مستقلون، يشبهون أمثالهم في الأمم الأخرى، ويثبتون لهم، ويشاركونهم في الإنتاج العلمي الحر المستقل الذي لا تقوم الحضارة بدونه، ولا تستطيع أن تثبت ولا أن تنمو إلا إذا اتخذته لها أساسًا"1!! كما يقول: "الجامعة تمثل العقل العلمي، ومناهج البحث الحديثة، وتتصل اتصالا مستمرا بالحياة العلمية الأوروبية، وتسعى إلى إقرار مناهج التفكير الحديث شيئا فشيئا في هذا البلد"2!!   1 مستقبل الثقافة: ج2 ص28, 29 "مطبعة المعارف - يوليو سنة 1938م". 2 المصدر السابق: ج2 ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وصاحب مستقبل "الثقافة في مصر" يذهب في طلب الأخذ عن الغرب وسلوك طريقهم في البحث والتعليم إلى أن يبتدأ بذلك منذ مرحلة التعلم الثانوي ولهذا يوصي بتعليم اللغتين "اللاتينية واليونانية" في مرحلة هذا التعليم قبل الجامعة ضمانا لمساوقة الغرب والسير معه في اتجاه واحد؟! ويرى أن ما سلكه الغرب، يجب أن تسلكه مصر في طريقها التجديدي ... ومن ذلك تعليم اللغتين اللاتينية واليونانية في التعليم الثانوي، قبل العالي؟ يقول: "إذا كان كل هذا حقا، فليس على مصر إلا أن تنظر إلى الأمم الحية الراقية: كيف تسلك طريقها إلى تكوين العلماء الأحرار المستقلين، ثم تسلك نفس هذا الطريق التي تسكلها هذه الأمم"1. "إن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها ولا الاستغناء عنها، فدرس اللاتينية واليونانية في الجامعة لا يغني عن درسها في المدارس العامة بل استلزاما"2. وقد أوضح المؤلف مرة أخرى معنى هذا "التجديد" في موضع آخر: "ولكن السبيل إلى ذلك واحدة فذة ليس لها تعدد ... وهي: أن تسير سير الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب"3. فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي، الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفنى، فنحن نريد وسائله بالطبع.. ووسائله:   1 المصدر السابق: ج2 ص289. 2 المصدر السابق: ج2 ص289-293. 3 المصدر السابق: ج1 ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أن نتعلم كما يتعلم الأوروبي ... "ولنشعر كما يشعر الأوروبي، ولنحكم كما يحكم الأوروبي، ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي، ونصرف الحياة كما يصرفها"1!! فتجديد الفكر في المجتمع الإسلامي هنا، دعوة إلى مسايرة الأوروبيين: في تفكيرهم وفي خطواتهم في الحياة، وفي فصل الدين عن السياسة، وفي إبعاد الدين واللغة عن مجال الترابط ... "ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين، ووحدة اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية، ولا قواما لتكوين الدول"2. والأساس الذي قامت عليه فكرة "التجديد" على هذا النحو، عند صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" هو أن العقلية المصرية عقلية أوروبية، أو قريبة قربا شديدا من الأوروبية، ولها اتصال وثيق بالعقلية اليونانية، وبعيدة كل البعد عن العقلية الشرقية؟! وهي منذ قديم الزمان -منذ العهد الفرعوني- لم تتأثر بالطارئ عليها في أي عصر، فلم تتغير بالفرس ولا بالرومان، ولا بالعرب أو الإسلام ... يقول: "وأنا -من أجل ذلك- مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارًا, ولن تخترع اختراعًا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة الخالدة "الفرعونية! " ... وبأن مستقبل الثقافة في مصر لن يكون أقل امتداد صالحا راقيا ممتازا لحاضرها المتهالك الضعيف، ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد "الفرعوني"، وحاضرها القريب "وهو الاتجاه الحر في التفكير". "ومعنى هذا كله واضح جدا: وهو أن العقل المصري "القديم"، لم يتصل بعقل الشرق الأقصى اتصالا ذا خطر، ولم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي، وأنه عاش معه عيشة حرب وخصام. "معنى ذلك أن العقل المصري قد اتصل من جهة بأقطار الشرق القريب "الشام وفلسطين والعراق" اتصالا منظما مؤثرا في حياته ومتأثرا، واتصل من جهة أخرى بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى اتصال تعاون وتوافق   1 المصدر السابق: ج1 ص49, 50. 2 المصدر السابق: ج1 ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وتبادل مستمر منظم للمنافع في الفن والسياسة والاقتصاد ... إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط"1. "فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون، وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي اليسير وحده، بل معناه العقلي والثقافي, فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني، منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي؟. وقد استطعت أن أفهم كثيرا من الخطأ، وأسيغ كثيرا من اللغط، وأفسر كثيرا من الوهم، ولكني لم أستطع قط ولن أستطيع في يوم من الأيام أن أفهم هذا الخطأ الشنيع، أو أسيغ هذا الوهم الغريب"2! "وكانت مصر من أسبق الدول الإسلامية إلى استرجاع شخصيتها القديمة"؟ " التي لم تنسها يوما من الأيام ... فالتاريخ يحدثنا بأنها قاومت الفرس أشد المقاومة وبأنها لم تطمئن إلى المقدونيين حتى فنوا فيها، وأصبحوا من أبنائها واتخذوا تقاليدها وسننها لهم تقليدا وسننا؟ ". "والتاريخ يحدثنا كذلك، بأنها قد خضعت لسلطان الإمبراطورية الرومانية الغربية والشرقية على كره مستمر ومقاومة متصلة، فاضطر القياصرة إلى أخذها بالعنف وإخضاعها للحكم العرفي! ". "والتاريخ يحدثنا كذلك، بأن رضاها عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من السخط، ولم يخلص من المقاومة والثورة، وبأنها لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظل ابن طولون، وفي ظل الدول المختلفة التي قامت بعده". "فالمسلمون إذن فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة. وهو: أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول فإنما يقومان على المنافع العملية، قبل أن يقوما على شيء آخر".   1 المصدر السابق: ج1 ص6، 10، 11. 2 المصدر السابق: ج1 ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 "وهذا التصور هو الذي تقوم عليه الحياة الحديثة في أوروبا. فقد تخففت أوروبا من أعباء القرون الوسطى، وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس"1! "فأما الآن وقد عرفنا تاريخنا، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرنا العزة والكرامة، واستيقنا أن ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر، ولا في الطبع، ولا في المزاج، فإني لا أخاف على المصريين أن يفنوا في الأوروبيين"2. وفيما نقلناه هنا من "مستقبل الثقافة في مصر"، خاصا بالأسباب التي تدعوه إلى فهم "التجديد" على أنه مسايرة للغربيين في كل شيء، أشار المؤلف إلى شيئين: - إلى أن اتصال العقل المصري القديم بالعقل اليوناني كان اتصال تعاون وتوافق، وتبادل مستمر منظم للمنافع في الفن، والسياسة، والاقتصاد ... ويوضح هذا التفاعل نصف منقول عن مولانا "محمد علي" في تعليقه على ترجمة القرآن الكريم3 ... يقول: "في سنة 332 قبل الميلاد فتح الإسكندر مصر، وبنى مدينة الإسكندرية، ومن هذا التاريخ ظهرت مرحلة جديدة في ثقافة مصر، فقد اختلطت الثقافة المصرية بالفكر الإغريقي وغيره، وأصبحت في طبيعتها ثقافة عالمية. "وفي وقت هيرودوث تأثر العقل الإغريقي الحساس بـ"الأسرار" والحكمة المصرية". وبهذا صارت أرض مصر عالمية في: الدين، والثقافة، والفلسفة. "وبعد أن ضمت مصر في سنة 30 قبل الميلاد إلى الإمبراطورية الرومانية، أصبحت عبادة الآلي "المصري" Serapis شائعة في قلب الإمبراطورية الرومانية".   1 المصدر السابق: ج1 ص17, 18. 2 المصدر السابق: ج1 ص63. 3 المصدر السابق: ج1 ص413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فالعقل المصري القديم إذن، كان عقل السحر والحكمة، وعابدا للإله Serapis وقد بقي هذا العقل دون أن يتفاعل في انسجام مع الثقافة العربية الإسلامية.. ولذا كانت مصر أسبق الدول الإسلامية إلى استرجاع شخصيتها القديمة التي لم تنسها يوما من الأيام، ولم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظل "ابن طولون"، وفي ظل الدول المختلفة التي قامت بعده. - الأمر الثاني الذي أشار إليه صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" في هذا المقام هو: أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد، بأن وحدة الدين ووحدة اللغة، لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية، ولا قواما لتكوين الدول، والمسلمون من أجل هذا فطنوا منذ عهد بعيد إلى أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول، إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على شيء آخر، وهذا أصل من أصول الحياة الحديثة! ولا أدري إذا كان المؤلف1 لا يزال يرى الآن أن الترابط بين الجامعة العربية على أساس من اللغة العربية والتاريخ العربي المشترك يمكن أن يستثنى من هذا الأصل للحياة -أي: إلغاء اللغة ووحدتها، والدين ووحدته- في ترابط الشعوب وتكوين الدول؟ ولعلهما إذا ألغي اعتبارهما في الترابط في الشعب الواحد وتكوينه، فالغاؤهما أولى في الترابط بين جماعات عديدة ودول متفرقة! وعلى كل حال ... نخلص مما قاله هنا إلى أن التجديد هو أخذ كل ما عند الغربيين من فكر، ومنهج للبحث، وحضارة، وعادات، وتقليد في فصل الدين عن السياسة ... إلخ. و"التجديد" يرى أن ذلك هو الذي يناسب العقلية المصرية التي لم تتغير بأحداث الشرق الثقافية، وفي مقدمتها الفتح الإسلامي العربي وبقيت على وضعها القديم الفرعوني في انسجام وتعاون مع العقلية اليونانية، وعقلية البحر الأبيض المتوسط.   1 يشغل سيادته الآن منصب رئيس اللجنة الثقافية في جامعة الدول "العربية"، كما حصل على جائزة "الدولة" التقديرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فـ"التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث في رقعة الشرق الأدنى محاولة -لا احتياط فيها- لمتابعة التفكير الأوروبي: في اتجاهه، وفي أحكامه، وفيما فصل فيه من مشاكل الحياة، وفي مدارسه.. ومكان هذا التجديد المختار هو "الجامعة المصرية"، والقائمون على أمرهم "العلماء الأحرار المستقلون"!! ويتحدث صاحب "مستقبل الثقافة في مصر"، عن "الأزهر" في سخرية، وفي تحريض للقائمين بأمر الحكم على أن لا يحفلوا بأمره ولا برأي رجاله. "فلا هو -الأزهر- كسب من حرية الرأي، ولا هو حصل من العلم الحديث، ولا هو عرف من اللغات السامية، ولا هو أتقن من علوم اللغة العربية نفسها ولا آدابها ما يؤهله لهذا الإشراف، فضلا عن أن يجعل إشرافه -على اللغة العربية- نافعًا مفيدًا"1. "يجب أن ننظر إلى اللغة العربية نظرة مدنية صريحة، وأن نعالج أمورها كلها على هذا النحو، في غير تردد ولا اضطراب، وفي غير خوف ولا إشفاق! "إننا انتهينا إلى عصر يجب أن تكسد فيه سوق التجارة باتهام الناس بالخروج على الدين"2. "فقد أحسن المشرفون على شئون التعليم منذ أكثر من نصف قرن، أن تعلم اللغة العربية يحتاج إلى كثير من العناية، ليصبح ملائما للتقدم الذي ظفرنا به في التعليم المدني؟ وأحسوا أن "الأزهر" لا يستطيع أن ينهض بهذه المهمة، لمكانه حينئذ من الإسراف في المحافظة، والامتناع عن التجديد، والعجز عن أن يسيغ العلم الحديث، بل عن أن يقبل التفكير فيه"3!   1 مستقبل الثقافة: ج2 ص310. 2 المصدر السابق: ج2 ص311. 3 المصدر السابق: ص372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ويذكر المؤلف -بطريق ضمني- عجز "الأزهر" عن الصلاحية للإشراف على الدراسات الإسلامية، في قوله: "وليس من شك في أن طبيعة الحياة العصرية، تقتضي أن تعنى "كلية الآداب" عناية خاصة بالدراسات الإسلامية على نحو عملي صحيح؛ لأن "كلية الآداب" متصلة بالحياة العلمية الأوروبية، وهي تعرف جهد "المستشرقين! " في الدراسات الإسلامية؟ ومن الحق عليها أن تأخذ بنصيبها من هذه الدراسات، لتلائم بين جهود مصر التي ترى لنفسها زعامة البلاد الإسلامية وبين جهود الأمم الأوروبية". طابع التفكير الغربي: أما التفكير الغربي الذي يجب أن يتبع هنا في مصر في منهجه، وفي أحكامه ... في موضوعات البحث، شرقية أو غربية، باسم "التجديد" ... فهو ليس إلا تفكير "القرن التاسع عشر" يومئذ! يجب أن يتبع هذا التفكير منذ أن نشأت حركة "التجديد" في مصر، وتولت زعامتها "الجامعة المصرية" وباشرت هذه الزعامة "كلية الآداب"، أو أريد لها أن تباشرها، ومنذ دعا لهذه الحركة التجديدة صاحب "مستقبل الثقافة في مصر"!. والتفكير الغربي في "القرن التاسع عشر"، هو التفكير المادي الطبيعي الذي انتهى بالأوروبيين إلى ذروة الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، ولبلاد المواد الأولية في إفريقيا وآسيا للصناعة الأوروبية، ثم إلى قيام الشيوعية الروسية في أعقاب الحرب العالمية الأولى سنة 1917م! وهذا التفكير المادي يقوم جملة على تمجيد القوة المادية والمظاهر الحضارية الآلية والتفسير الاقتصادي للتاريخ البشري، كما يقوم على التقليل من شأن الروحية الدينية والمثالية الإنسانية، أو الدينية الأخلاقية! فـ"التجديد الفكري في مصر"، أو الفكر الإسلامي "المغرب"، أخذ نفس الطابع، واحتكم إلى نفس المقاييس التي يحتكم إليها تفكير "القرن التاسع عشر" وهو ما يسمى باتجاه الماديين العلمييين، أو التفكير المادي الطبيعي؟ وانزلق هذا "التجديد" في مصر، بشعور أو بدون شعور إلى نفس الهدف الذي هدف إليه ذلك التفكير ... وهو تمجيد القوة المادية، والتقليل من شأن الروحية أو المثالية الإنسانية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 و"الغرب" قد مجد القوة المادية يومئذ؛ لأنه يمتلكها.. وخفف من وزن الروحية والمثالية الإنسانية؛ لأنه لا يريد في الجانب العملي أن يسلك مع الشعوب التي استعمرها نفس السلوك الخاص بأصحاب القوة المادية وهم الأوروبيون، كما تحتم ذلك الروحية الدينية أو المثالية الإنسانية1؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى رأى "الغرب" في ضعف الشعوب المستعمرة -وهي الشعوب الإسلامية في رقعة العالم الإسلامي- فرصة يربط فيها بين مظاهر الضعف عندهم وبين "ثقافتهم" ومصدر هذه الثقافة، حتى يحول في وقت ما -قرب أو بعد هذا الوقت- بينهم وبين التمسك بهذه "الثقافة" واحتضانها؟ كما رأى في ضعف هذه الشعوب نفسها فرصة أخرى للتنفيس عن "الصليبية" التي دفعته فيما مضى، وبتحريض من الكثلكة والكنيسية الغربية، إلى الاعتداء على البلاد الإسلامية مدة ثلاثة قرون تقريبا باسم الصليب، دون أن يحصل على هدفه الأصلي وهو طرد المسلمين من بيت المقدس، وإبعاد السيادة الإسلامية عن "مزار المسيحية"، ودون أن يحصل على مغنم آخر سريع إذ ذاك؟ وفي مجال التنفيس الصليبي جال "الاستشراق" جولته هنا في بحث الإسلام وعرض تعاليمه.. جال جولته باسم البحث العلمي والمعرفة العقلية، وصيانة تراث الإنسانية الماضي؟   1 التفكير المادي العلمي أو الطبيعي ينقسم إلى اتجاهين: - الاتجاه الميكانيكي Mechanistic Matreailism وهو لا يرى وجودا للروح أو العقل، فضلا عن أن ينسب إليها تدبير الجسم. - الاتجاه المادي الديالكتيكي Dialecae Materialism وهو المذهب المادي الماركسي، ويرى وجود العقل والروح، ولكن وجودها بعد وجود المادة وتابع لوجودها.. ومعنى ذلك أنه إذا فنيت المادة فلا بقاء للروح أو العقل، والله؛ لأنه خال عن المادة لا وجود له! - الاتجاه الروحي Spiritualism: هو الذي يرى وجودا للروح "سابقا على المادة، وليس متوقفا عليها. ولذا يقول الله كعلة للكون.. وهذا الاتجاه يقابل الاتجاه المادي بقسميه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أثر الحملة الصليبية في تشويه الإسلام: يحدثنا صاحب كتاب "الإسلام على مفترق الطرق"1 عن أثر "الحملة الصليبية، في تشويه الإسلام، وعن دراسة "الاستشراق" لتعاليمه ... يقول: "إلا أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح، ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شرا ثقافيا؟ لقد نشأ تسميم العقل الأوروبي عما شوهه قادة الأوروبيين من تعاليم الإسلام ومثله العليا أمام الجموع الجاهلة في الغرب؟ في ذلك الحين استقرت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوروبيين من أن الإسلام دين شهوانية، وعنف حيواني، وأنه تمسك بفروق شكلية، وليست تزكية للقلوب وتطهيرا لها، ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت؟ "إن من أبرز الحقائق على ذلك. الفيلسوف والشاعر الفرنسي فولتير، وهو من ألد أعداء النصرانية وكنيستها في القرن الثامن عشر لكنه كان في الوقت نفسه مبغضا مغاليا للإسلام ولرسول الإسلام"2. أما وصفه لعمل "المستشرقين" فيودعه في عبارته الآتية: "لا تجد موقف الأوروبي موقف كره في غير مبالاة فحسب -كما هي الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات عدا الإسلام- بل هو كره عميق الجذور، يقوم في الأكثر على صدود من التعصب الشديد؟. وهذا الكره ليس عقليا فقط، ولكنه أيضا يصطبغ بصبغة عاطفية قوية؟! "قد لا تقبل أوروبا تعاليم الفسلفة "البوذية" أو "الهندوكية"، ولكنها تحتفظ دائما فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن ومبني على التفكير؟.   1 الكتاب نقل إلى العربية، وطبع الطبعة الثالثة 1951م، والمؤلف هو المستشرق النمساوي ليوبولد فايس.. أسلم وتسمى باسم "محمد أسد"، وتولى رياسة قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الباكستانية فترة من الزمن. 2 الإسلام على مفترق الطرق: صفحة 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 "إلا إنها حالما تتجه إلى "الإسلام" يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي في التسرب، حتى إن أبرز المستشرقين الأوروبيين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العامي في كتاباتهم عن الإسلام.. ويظهر في جميع بحوثهم على الأكثر، كما لو أن "الإسلام" لا يمكن أن يعالج على أنه "موضوع" بحث في البحث العلمي، بل إنه "متهم" يقف أمام قضاته؟! إن بعض المستشرقين يمثلون دور "المدعي العام" الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام "المحامي" في الدفاع!! فهو مع اقتناعه شخصيا بإجرام موكله، لا يستطيع أكثر من أن يطلب له -مع شيء من الفتور- اعتبار "الأسباب المخففة"!!. "وعلى الجملة، فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين تذكرنا بوقائع "دواوين التفتيش"، تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى! أي: إن تلك الطريقة لم يتفق لها أبدا أن نظرت في القرائن التاريخية بتجرد وغير تحزب، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها؟ ويختار المستشرقون "شهودهم" حسب الاستنتاج الذي يقصدون أن يصلوا إليه مبدئيا، وإذا تعذر عليهم الاختيار العرفي للشهود عمدوا إلى اقتطاع أقسام من الحقيقة التي شهد بها الشهود الحاضرون، ثم فصلوها عن المتن، أو تأولوا الشهادات بروح غير علمي، من سوء القصد، من غير أن ينسبوا قيمة ما إلى عرض القضية من وجهة نظر الجانب الآخر ... أي: من قبل المسلمين أنفسهم"1. وإذن فحركة "التجديد" في الفكر الإسلامي بعد بداية القرن الحاضر، تسير إما في طريق "الاستشراق" ودراسة المستشرقين القائمة على تشويه الإسلام، وعرض تعاليمه عرضا مغرضا.. وإما في طريق الفكر المادي المنكر للروحية أو المستخف بها. - ولو استعرضنا من جديد بعض أسس هذه الدراسات الاستشراقية كما تصورها "دائرة المعارف الإسلامية" مثلا، وترددها مؤلفات زعماء الاستشراق من قساوسة المسيحيين وعلماء اليهود لأمكننا أن نجملها فيما يلي:   1 المصدر السابق: ص51, 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 - "محمد" مصلح ديني أسس ما سماه "الإسلام"، وأولى أن يسمى بالمذهب المحمدي..محمد بشر، وقرآنه صنعة بشرية، وصنعة بشرية يكثر فيها التناقض وعدم الانسجام. يقول المستشرق "نيكلسون" في كتابه: "الصوفية في الإسلام": "والقارئون للقرآن من الأوروبيين لا تعوزهم الدهشة من اضطراب مؤلفه وهو محمد، وعدم تماسكه في معالجة كبار المعضلات، وهو نفسه لم يكن على علم بهذه المتعارضات، كما لم تكن حجر عثرة في سبيل صحابته الذين نقل إيمانهم الساذج القرآن على أنه كلام الله.. ولكن الصدع من هنا وجد، وسرعان ما أظهر نتائج بعيدة الآثار"1. - والإسلام الذي وضعه "محمد" تأثر فيه بالتعاليم الدينية السابقة عن تعاليم اليهودية والمسيحية، وبالأخص مسيحية الكنيسة السريانية.. ثم إن "محمدًا" في اقتباسه من المسيحية حرف الفهم فيما اقتبسه؛ لأنه حكم نفسه ومنزلته وقيمته الإنسانية في فهمها.. فقد أنكر ألوهية المسيح متأثرا بنفسه كإنسان، ولم يرق هو في تصور نفسه إلى منزلة عيسى حتى يتصور أنه "إله" كما كان عيسى. - ولو استعرضنا بعد ذلك اعتبار المستشرقين لمصادر الإسلام لوجدناهم يعتبرون أن الإسلام في دراسته كما يؤخذ من القرآن والسنة، يؤخذ من تفكير المسلمين في مدارسهم المتنوعة ومذاهبهم المختلفة في تاريخ جماعتهم، ومعنى ذلك أن لهذا التفكير نفس الحجة التي للقرآن والسنة الصحيحة.. وهذا التفكير كذلك يصور الإسلام تماما، كما يجب أن يصوره القرآن والسنة. - فالإسلام والمجتمع الإسلامي سواء أحدهما يصح أن يكون دليلا للآخر، بل يجب أن يكون دليلا على الآخر. - والمذاهب الإسلامية في العقيدة والفقه، تعبيرات صادقة عن القرآن والسنة الصحيحة. والإسلام هو مجموع هذه المذاهب، بالإضافة إلى القرآن والسنة، فلا فرق بين رسالة الله، وصنعة الإنسان في هذه الرسالة.   1 الصوفية في الإسلام: صفحة 7, 8 ترجمة نور الدين شريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ومنطق اعتبارهم أن "تفكير المسلمين ومذاهبهم" تساوي في الحجية "القرآن والسنة الصحيحة" يؤدي إلى: - أن تفكير الباطنية والصوفية والملاحدة مثلا.. له نفس الحجية التي للقرآن والسنة، ومساو في القيمة لمذاهب أهل السنة، ومعتدلي الشيعة؟! - وأن الفتاوى التي تصدر عن أصحاب الوظائف الرسمية في البلاد الإسلامية في أي عصر وفي ظل أي حكم.. لها نفس الحجية التي للقرآن والسنة؟! وأن أنواع تفسير القرآن المختلفة، من صوفية رمزية، إلى تعليمية باطنية، إلى تفسير بالتأويل, إلى تفسير بالرواية، إلى تفسير بالقصص الإسرائيلي، لها نفس الحجية التي للقرآن! - وإن الإنسان المسلم في كل عصر، وبانتسابه إلى الإسلام على أي وجه.. حجة على الإسلام وسلوكه في حياته وتأديته لعبادته، تمثل تعاليم الإسلام في الأخلاق والعبادة؟! هذه نظرة المستشرقين في الإسلام.. وإلى رسوله في صلته بالقرآن, وإلى مصادره وتقدير هذه المصادر. - أما قيمة الإسلام كدين وكمصدر توجيه في الحياة في نظرهم فإنهم على -نحو ما ذكرنا سابقا- يخضعون هذه القيمة والحكم عليها إلى اتجاهات الغرب في الحياة وإلى نظراته وآرائه؛ لأنها في نظرهم هي اتجاهات الحياة الحضارية التي تمثل الصورة الراقية لحياة الإنسان. ولا يسلك المستشرقون مسلك المسلمين في التدليل على قيمة الإسلام في صلته بالحياة بحال المجتمع الإسلامي الأول على عهد الرسول وصحابته. إذ إن هذه الحال التي كانت للمجتمع الأول لا تقوم في نظرهم دليلا على القيمة التوجيهية للإسلام، كجملة من المبادئ، والوصايا في حياة الإنسان ... إن سيادة المسلمين إذ ذاك -كما يذكرون- كانت بالسيف والقوة، ولم تكن نتيجة للروحية والتوجيه الديني؟ ثم إنها كانت لفترة قصيرة، انحطت بعدها أفهامهم ومداركهم، وسقط مستواهم في الحياة والتوجيه، مما يدل على أن الإسلام كدين، غير عملي وغير مثمر؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فالمسشرقون إذن "لا يقيمون" الإسلام من نفس تعاليمه ومبادئه، ومن علاقة هذه التعاليم بطبيعة الإنسان وتوجيهه كفرد، وتوجيه مجتمعه، كما "يقيم" كل دين أو مذهب فلسفي عند تقديره والحكم عليه.. أنهم لا يريدون أن يسلكوا هذا الطريق، رغم أنهم يدعون أن بحثهم في الإسلام يقوم على أساس علمي، وربما يرون -غير مشاركين غيرهم من العلماء الأوروبيين- أن الطريق العلمي في بحث الإسلام، هو إنكار قيمته مقدما، وليس تقديره من ذاته ولذاته، بغض النظر عن الشروح الإنسانية التي جمعت حوله، وليست من مقوماته الذاتية في شيء. وتخلص هذه الدراسات الاستشراقية للإسلام في جوانبها الثلاثة: في الأسس التي قامت عليها، وفي تقدير مصادر الإسلامي، وأخيرا في "تقييم" الإسلام كدين ... إلى أن توصي المسلمين بالأمور الآتية: - أن المجتمع الإسلامي في صلته بالإسلام، لم يكن على نحو قوي إلا لمدى فترة قصيرة هي الفترة الأولى، على عهد بدائية المجتمع الإسلامي، وبدائية هذا المجتمع هي التي أوجدت نوعا من التلاؤم بين الحياة فيه وتعاليم الإسلام ... وبعد مضي هذه الفترة القصيرة البدائية، اتسعت الفجوة بين الطرفين بين المجتمع وبين الإسلام كمصدر توجيه في الحياة، وكلما تطورت الحياة بالمجتمع الإسلامي بفعل العوامل الخارجية: الثقافية، والسياسية والاقتصادية كلما تخلف الإسلام عن أن يجاري تطور الحياة لهذا المجتمع. وما زالت الفجوة تتسع، حتى أعلنت تركيا الحديثة -مقر آخر خلافة إسلامية- إبعاد الإسلام عن مجال الحياة العامة، وتركه في ضمير الفرد مستورا، لا يعبر عنه الفرد إلا لنفسه فقط، وفي غير إعلان أو حماس. هل كان إعلان تركيا الحديثة إبعاد الإسلام نتيجة مؤامرة دولية ضد الإسلام أو كان نتيجة للتقييم الذاتي للإسلام؟ - إن التخلف عن تنفيذ تعاليم الإسلام تمليه الضرورة الاجتماعية، تحت ضغط ظروف الحياة المتجددة التي لم يستطع الإسلام أن يكيفها في ضوء تعاليمه، ولم يستطع أن يلائم بين تعاليمه وبينها! والتشديد في تعاليم الإسلام معناه إذن: "العزلة" في الحياة، و"التخلف" في استخدام وسائل الحضارة، والترحيب بالفقر والمرض والجهل للسكان المسلمين على نحو ما هو الحال ببلاد الجزيرة العربية التي تطبق الإسلام رسميا!! أفليست هي النموذج في تطبيق الإسلام!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 - إن التطور -وهو قانون الحياة العام الذي لا مفر من الخضوع له- يجب أن يستخدمه المسلمون في إسلامهم ليسايروا العالم الغربي الحديث. ولينجوا من أسباب الضعف والفساد! ويجب لهذا أن يتطوروا بالإسلام نفسه ... كدين!! وهنا يقترحون هذه السبل لإتمام عملية التطور: - يجب في تطور الإسلام كدين، أن يستعان فيه بالمسيحية التي هي المثل للدين كتوجيه روحي لتصفية النفس ومحبة الله، وبناء على ذلك، يجب أن لا يتشبث الإسلام بتكييف العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وعلاقتهم الدولية مع غيرهم، كما لا يتشبث بتكييف علاقات رءوس الأموال في الصناعة والتجارة بين الممولين والعمال أو بين أصحاب الأموال والطبقات الفقيرة، فيتدخل بالحل والحرمة، ويتدخل في تقدير نسبة ما يخصم من الأرباح "كزكاة" لرد طغيان الفقر والعوز. يجب على الإسلام أن يترك أمر هذه العلاقات تركا تاما، لتخضع في حرية مطلقة إلى المصالح المشتركة وحدها، وإلى أحوال "العصر" التي تحدد هذه المصالح ... يجب أن تكون "للعلمانية" المكان الأول هنا!! - يجب في تطور الإسلام أن يجاري "المسيحية" في هدفها، وهو تنمية "المحبة الإلهية" في نفوس المؤمنين به، ويقصر نشاطه على ترويض المسلمين على هذه المحبة في حياتهم العملية! يجب أن يأخذوا بـ"الصوفية الحلولية" التي لا تجعل الله بعيدا عن الإنسان ومخيفا له، بل تجعله "في" الإنسان نفسه حتى يكون قريبا منه ويحبه، بدلا من أن يتصوره قاهرا جبارًا، متكبرا عليه!! يقول المستشرق "نيكلسون": "يبدأ القرآن بفكرة الله "الواحد الصمد"، الإله "القادر" الذي تجرد عن المشاعر والميول البشرية.. وهو "سيد" عباده لا والد أبنائه، و"القاضي" الذي ينزل بالآثمين عدلا رادعا، ويبسط رحمته على من يتقون غضبه بالتوبة والخضوع ويواصلون أعمال البر.. إنه إله "خوف" أكثر منه إله "حب"!! "ولذلك" فإن التفكير الإسلامي وقد أفزعته الرؤى المخيفة لـ "غضب" الله الذي سينزل بالمذنبين، قد تنبه في بطء وعسر لأهمية هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الأفكار الحرة: "الأفكار الصوفية"، القائمة على "الحب" و"الفناء في الله"1. وهنا نلاحظ أن المستشرقين يسرفون في تمجيد "التصوف الإسلامي" في فترته الأخيرة التي يدعو فيها إلى عقيدة الحلول والفناء في "الحب الإلهي"؛ وذلك لأنهم يرون في مثل هذا الانحدار صرفا للمسلمين عن "الجهاد في سبيل الله" فالاعتقاد بـ"الحلولية" يسقط التكاليف كلها، ومن بينها الجهاد ... و"الحب الإلهي" على نحو "الحب الهندوكي"، -وهو حب الفناء- يصر الوالهين والعاشقين عن الاحتفاظ بما يسمى "الجماعة" الإسلامية، التي يدعوها الإسلام -قصد صيانتها ودفع الاعتداء عليها- إلى الكفاح والجهاد!! و"رهبانية" المسيحية التي تقوم على هذا "الحب الإلهي" تناقض فكرة "الجهاد في سبيل الله" تماما، كما تعارض مبدأ الزواج وتكوين الأسرة لمن يسلك طريق "الرهبنة". - الجماعة الإسلامية -كي تتطور، هكذا يوصي المستشرقون- يجب أن تسير وفق المثل الغربية، وتتفاعل معها في بيئتها الشرقية ... إذ اتجاهات الغربيين في الفكر وفي الحياة، قامت على مجموعة من التجارب الإنسانية، استخدموا في تكوينها الطريقة "العلمية" وهي الطريقة التي لا تتأثر بخرافة أو عقيدة خاصة، مستهدفة خير الإنسانية وحدها. وإذن.. يجب على المسلمين باسم "العلم" و"التطور" و"الخير العام" أن يكونوا مسيحيين في موقفهم في الحياة، وفي فهمهم للإسلام كدين.. وهم ليسوا بحاجة إلى أن يكونوا مسيحيين بالانضمام إلى الجماعة المسيحية واعتناق المسيحية كدين وعقيدة، بل يجب أن يكون سلوكهم وتحديد موقفهم من أحداث الحياة المتجددة سلوكا مسيحيا، وعلى نمط موقف الجماعة الغربية المسيحية. وفي تضامن المسلمين مع غيرهم -أي: مع الغربيين- لا يكفي أن يكون أحد الجانبين أو كلاهما متسامحا، بل يجب أن يشترك الطرفان في إيجابية، على هذا النحو السابق، في تحقيق المثل والغايات الإنسانية والتضامن العالمي.   1 الصوفية في الإسلام: صفحة 26 ترجمة نور الدين شريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وإذا أراد المسلمون أخيرا أن يعيشوا في أوطانهم غير أذلاء، فعليهم أن يطوروا دينهم، ويغيروا فهمهم له، بما يعود به إلى حال المسيحية ووضعها في الجماعة، وهو حال العزلة عن الحياة العامة!! حال العلمانية. وطريق ذلك: - أن يبعدوه عن الحكومة، والدولة، والسيادة العامة. - وعن علاقة الأفراد بعضهم ببعض. - وأن ينحوا عنه مظاهر القوة المادية وأسبابها، كالجهاد والرغبة في الحرب والاعتداء! - وأن ينحوا عنه مظهر "العنصرية والاستعلاء الذاتي" الممثل في عدم قبول ولاية غير المسلم على المسلم، وفي عدم زواج المسلمة بغير المسلم. - وأن ينحوا عنه كذلك تأكيد الدفع إلى "الحياة الحيوانية" هذا الدفع الممثل في إباحة تعدد الزوجات إلى أربع. - وأخيرًا -وليس آخرًا- أن ينحوا منه التفريق بين الأنثى والذكر في الميراث، وفي حق الطلاق. - إن على المسلمين أن يعودوا بدينهم إلى الروحية الخالصة.. إلى محبة الإنسان لله. يعودون به إلى الاعتراف بوجود "المثل الإلهي" مجسما في حياة الإنسان -على نحو تأليه عيسى- وذلك مثل ما صنع غلاة الشيعة في نظرتهم إلى إمامهم، وكما صنع المتصوفة المتأخرون -وهم عند المستشرقين على حق فيما صنعوا! -حتى ترقى نفس الإنسان المسلم، وتبتعد عن الحيوانية والرغبة في القوة المادية، وتقترب من الإنسان الإله ... الإنسان الابن، النموذج البشري الإلهي في حاية الإنسان!! فإله المسلم -على نحو ما يصوره الإسلام في نظرهم- إله حرب، وشهوة، واستعلاء، ولا إله عطف ومحبة..إلخ، مما ذكر قبلا من أرائهم. إن هؤلاء "المستشرقين" هم "أهل كتاب" من قساوسة المسيحيين أو علماء اللاهوت من اليهود، ويواجهون بهذه الدراسات مسلمين لم يزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 القرآن يتداول بينهم، فإن نسي المسلمون ماضي أسلاف هؤلاء القوم مع المسلمين على عهد ظهور الإسلام، ونسوا اتهاماتهم لرسول الإسلام ولكتابه إذ ذاك، فإن المسلمين اليوم لا يزالون يتلون هذه الاتهامات، ولا يزالون يقفون منها ما وقفه من قبل رسولهم وصحابته، وسيستمرون على هذا النحو طالما هناك قرآن، وطالما هناك من يتلوه. هم يتلون في قرآنهم: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 2. {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} 3. كما يتلون في قرآنهم الكريم قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 4. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5.   1 البقرة: 135. 2 البقرة: 120. 3 البقرة: 136, 137. 4 البقرة: 212. 5 المائدة: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ثم قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. إنهم إذا يجعلون قرآن الرسول صنعة بشرية، لا وحيا منزلا من عند الله، يحلون لأنفسهم أن يجعلوا أسلوب حياتهم وما يعتقدون نموذج الحياة الإنسانية فالعمدة في الاستشراق إذن: محاولة التدليل على بشرية "القرآن". - هذا هو اتجاه الاستشراق ... وهو أحد اتجاهين صبغا التفكير الغربي الذي سيطر على القرن التاسع عشر بالصبغة الخاصة به. - أما الاتجاه الثاني -كما ذكرنا آنفا- فهو "المادية العلمية" ... وهذه تقوم أساسا على إلغاء اعتبار ما وراء الوجود المشاهد، وهي بالتالي تعتبر الإيمان بالله والدين القائم على هذا الإيمان ضربا من العبث أو الخداع في توجيه الإنسانية، ومن ثم هي تدعو الإنسانية إلى الإيمان بالطبيعة، وبما لها من مظاهر، وبما يدور فيها من تجارب.. ويتفرع عن هذه المادية العلمية: "التفسير الاقتصادي للتاريخ"، وهو أساس مذهب كارل ماركس، وأساس الشيوعية السوفييتية والدولية معا. وهذا الاتجاه الثاني، وهو اتجاه "المادية العلمية"، سواء فيما يسمى بـ"الوضعية" و"الواقعية"، أو بما يسمى بـ"التفسير المادي أو الاقتصادي للتاريخ" ... يضاد الدين والتدين، في أي صورة من الصور. وإذا عدنا الآن -بعد هذا- إلى الحديث عن "التجديد" في الفكر الإسلامي في مصر، أو ما نسميه بالفكر الإسلامي "المغرب" فإننا نجد هذا الفكر يسلك إحدى هذين الطريقين:   1المائدة: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 -إما امتحان القرآن والإسلام بالمقاييس البشرية، وبما يسمى بالحقائق التاريخية، ثم ترتيب كل النتائج التي تترتب على ذلك، وهي النتائج المعروفة في كتابات "المستشرقين" في الدراسات الإسلامية. - أو الدعوة إلى "خرافة الميتافيزيقا"، أو خداع الدين وكل الآراء التي تتصل بالعالم الذي هو وراء هذا العالم المشاهد، وهو عالم "الغيب" وملكوت "الله" على نحو ما جاءت به الأديان، أو عالم "الاتجاه المثالي" على نحو ما يوصف في المدارس الفلسفية العقلية. المجددون في مصر: وسنعرض "للمجددين" في مصر، منذ أن قامت الجامعة المصرية في سنة 1908م حتى الآن، لنقف على الصلة بين ما ينسب إلى هؤلاء "المجددين" من تفكير وبين ما يعرف لتفكير "القرن التاسع عشر" في أوروبا في اتجاهيه ... لنقف على مقدار الوفاء والأمانة من "المجددين" المصريين لذلك التفكير الغربي في القرن الماضي. فإذا وقفنا على تلك الصلة اتضح لنا في غير شك أن الفكر الجديد في الشرق الإسلامي هو ذات الفكر "المغرب"، وأن التجديد هنا في الشرق الإسلامي هو تقليد لذلك الفكر المغرب، وقد يكون تقليدا محرفًا!! - وفي عرضنا لهؤلاء المجددين سنتحدث عن أمثلة تمثل الجانبين: الجانب الاستشراقي، والجانب الإلحادي. - كما سنلتزم في بيان الصلة بين تفكير "القرن التاسع عشر" في الغرب من جانب، وتفكير "المجددين" في الشرق الإسلامي من جانب آخر -تلك الصلة التي جعلناها الهدف هنا في هذا البحث -عرض نصوص المجددين في الشرق في مواجهة نصوص أرباب التفكير الأوروبي في القرن المشار إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 بشرية القرآن : تعرض فكرة بشرية القرآن في إحدى صورتين: الصورة الأولى: أن القرآن "انطباع" في نفس محمد -صلى الله عليه سلم، نشأ عن تأثره ببيئته التي عاش فيها.. بمكانها وزمانها.. ومظاهر حياتها المادية والروحية والاجتماعية. - والصورة الثانية: أنه "تعبير" عن الحياة التي عاش فيها محمد -صلى الله عليه وسلم- بما فيها المكان، والزمان، وجوانب الحياة الاقتصادية، والسياسية، والدينية، والاجتماعية. وإحدى الصورتين ملازمة للأخرى ... فإذا كان القرآن انطباعا منبثقا من البيئة فهو يعبر عن ذات هذه البيئة، وبالعكس إذا كان تعبيرا عن البيئة فقد انطبع أولا بلا شك في نفس قائله قبل أن يعبر به وقبل أن يقوله!! وكلتا الصورتين إذن تفصح عن أن القرآن عمل خاص بمحمد -صلى الله عليه وسلم، تأثر فيه كما يتأثر الإنسان العادي، وعبر به عن المعاني التي كانت في نفسه ومن بيئته كما يعبر الإنسان عن أية معان تجول بنفسه قد تأثر بها من بيئته، وانطبعت في خاطره من ظروف الحياة التي تحيط به!! ويتوقف اختيار إحدى هاتين الصورتين على الأخرى لدى الكاتب الذي يرى "بشرية القرآن"، على أحوال البيئة التي يعلن فيها الكاتب الرأي، فإن كانت بيئة أجنبية غير مسلمة أمكن مواجهتها بالصورة الأولى, وهي أن القرآن انطباع نفسي! أما إذا كانت بيئة إسلامية فيقتضي الأمر أن يتبع فيها أسلوب اللف والمداورة، والصورة الثانية هي الأليق بهذا الأسلوب، وهي أن القرآن يعبر عن الحياة الجاهلية - أي: حياة ما قبل الإسلام- أصدق تعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الصورة الأولى: ولا أريد هنا أن أنقل عن أي مستشرق عبر عن "بشرية القرآن" بل سأتخير واحدا يعد مثلا للاتزان بينهم، وهو المستشرق الإنجليزي "جب" Gibb أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية. وسنرى من النصوص التي ننقلها عنه هنا من كتابه: "المذهب المحمدي" Mohammedanism أنه آثر الصورة الأولى، بأسلوب بيدو فيه تجنب للألفاظ النابية فيما يحكيه عن الرسول، وتجنب الصراحة المكشوفة فيما يريد أن يودعه في نفس القارئ. إن "جب" يرى: - أن جو "مكة" بما فيه من زعامة اقتصادية وسياسية ودينية، ثم بما فيه من عيوب اجتماعية -كالرق والفوارق البعيدة المدى بين الطبقات، هو الذي أثر في نفس محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون صاحب ثورة! فـ"الحياة المكية" -بما فيها من عوامل إيجابية وأخرى سلبية- قد تفاعلت في نفسه، وهو يرتبط في رسالته بهذه الحياة أيما ارتباط، بحيث لو كان رجلا غير "مكي" لما صادف هذا النجاح. إنه يقول في ذلك1: "إن "محمد" ككل شخصية مبدعة، قد تأثر بضرورات الظروف الخارجية "عنه" المحيطة به من جهة، ثم هو من جهة أخرى قد شق طريقا جديدا بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه. "وقليل ما هو معروف -على سبيل التأكيد- عن حياته وظروفه المبكرة ... ولكن الشيء الذي يصح أن يبحث ماضيه الاجتماعي. "لقد كان أحد سكان "مدينة" غير رئيسية.. وليس هناك ما يصح أن يصوره بأكثر من أنه "بدوي"، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرحل من الناس:   1 كتاب Mahammedanism ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أ- و"مكة" في ذات الوقت لم تكن خلاء بعيدا عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل.. بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصادية، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. ب- و"سكانها" مع احتفاظهم بطابع البساطة العربية الأولية في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارف واسعة بالإنسان والمدن ... عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميين من رجال الإمبراطورية الرومانية. وهذه التجارب قد كونت في زعماء مكة ملكات عقلية، وضروبا من الفطنة وضبط النفس، لم تكن موجودة عند كثير من العرب. جـ- ثم إن "السيادة الروحية" التي اكتسبها المكيون من قديم الزمان على العرب الرحل، زادت قوة ونموا بفضل الإشراف على عدد من "المقدسات الدينية" التي وجدت داخل مكة وبالقرب منها. "وانطباع هذا الماضي الممتاز "لمكة"، يمكن أن نقف على أثره واضحا في كل أدوار حياة محمد ... وبتعبير إنساني: إن محمدًا نجح؛ لأنه كان واحد من المكيين! ولكن بجانب هذا الازدهار في "مكة،" كانت هناك ناحية أخرى مظلمة خلفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصادية ثرية، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثل في الأرقاء والخدم، وفي الحواجز الاجتماعية، وواضح من دعوة محمد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أن هذه الناحية كانت سببا من الأسباب العميقة لثورته الداخلية "النفسية"". فهنا يذكر المستشرق "جب" ... أن "مكة"، كانت فيها حياة زاخرة بالتجارة والسياسة والدين، وأنه وجدت فيها زعامة وزعماء، وأنه وجد ظلم اجتماعي بين سكانها.. وأن "الرسول" محمد انطبعت في نفسه كل هذه الجوانب وكان على وعي تام بها، وترى آثارها في حياته: في قرآنه وفي كفاحه إلى أن مات! - ويرى "جب" كذلك أن ثورة الرسول النفسية لم تبرز في صورة "إصلاح اجتماعي" ولم يقم بها على أنه مصلح للحياة المكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الاجتماعية، وإنما برزت في صورة "دينية" وفي صورة أنه "رسول"؛ وذلك لأنه أراد أن يستغل قيم "المقدسات الدينية" بمكة في الزعامة والرواج الاقتصادي. ومعارضة المكيين إياه -لذلك- كانت معارضة في الزعامة السياسية، وخشية على ازدهارهم الاقتصادي من أن يضعف لو قبلوا دعوته، ولم تكن -معارضتهم إياه- بسبب العقيدة والإيمان!! وإلا فالقرآن نفسه، يدل على أن فكرة الوحدانية -وهي الفكرة الأساسية في الإسلام- كانت معروفة في غربي الجزيرة العربية! يقول "جب" في ذلك: "ولكن نواة هذه الثورة النفسية لم تظهر في صورة "إصلاح اجتماعي"، بل بدلا من ذلك دفعته إلى "اتجاه ديني" أعلنه في اعتقاد ثابت لا يتأرجح، بأنه رسول من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسل الساميين القديم توبوا فجزاء الله حق!! وكل ما جد بعد ذلك كان نتيجة منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد "بأنه رسول" وبين الكفر به، ومعارضته من فريق بعد فريق"1. "وهناك حقيقة واحد مؤكدة "في تاريخه" وهي: أن الدافع له كان "دينيا" على الإطلاق، فمن بدأ حياته كداع كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليهما نظرة تأثر فيها بما عنده من صورة عن الحكومة الدينية وأغراضها في عالم الإنسان"2. "ومحمد في البداية، لم يكن نفسه على علم بأنه صاحب دعوة إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكيين له، وخصومتهم له من مرحلة إلى أخرى، هي التي قادته أخيرا وهو بالمدينة -بعد أن هاجر إليها- إلى إعلان الإسلام كجماعة دينية جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصة. "ويبدو أن معارضة المكيين له لم تكن لمحافظتهم وتمسكهم بالقديم، أو بسبب عدم رغبتهم في الإيمان.. بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسية واقتصادية.. لقد تملكهم الخوف من آثار دعوته التي تؤثر على   1 المصدر السابق: ص28. 2 المصدر السابق: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ازدهارهم الاقتصادي، وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أن تلحق ضررا بالقيمة الاقتصادية لمقدساتهم. "بالإضافة إلى ذلك، فإن المكيين قد تصوروا -أسرع مما تصور محمد نفسه- أن قبولهم لتعاليمه رمبا يمهد لنوع معقد من السلطة السياسية داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتى ذلك الوقت"1. ويقول أيضا: "ومعروف من القرآن نفسه، أن فكرة "الوحدانية" كان معروفة في غربي الجزيرة العربية.. لقد كان وجود "الإله الأكبر" وهو الله، مبدأ مقبولا كأصل عام لدى محمد ولدى خصومه على السواء، والقرآن لم يناقش هذه النقطة أبدا، وحجته التي كان يقيمها فقط أن لا إله إلا الله"2. إن مؤلف كتاب "المذهب المحمدي" يريد أن يقول إذن: إن محمدًا أراد أن ينافس في الزعامة القائمة بمكة، وأن يكون صاحب سلطة فيها. وبما أن "المقدسات الدينية" كانت لها صلة وثيقة بالازدهار الاقتصادي المكي، وبسيادة المكيين الروحية على بقية العرب الرحل!! لم يشأ محمد أن يظهر في منافسته للمكيين في صورة أخرى غير الصورة الدينية ... لقد تحكمت فيه الرغبة إلى "الحكومة الدينية" منذ البداية في الصراع، ولقد كافح لأن يكون صاحب حكومة دينية حتى أعلن في النهاية -وهو بالمدينة- نظام هذه الحكومة فيما سماه "الإسلام" و"الجماعة الإسلامية". ولأنه أراد أن ينافس "المكيين" في الزعامة السياسية، لم تكن مقاومتهم إياه ومعارضتهم لدعوته بسبب أنهم محافظون متمسكون بالقديم والتقاليد، إذ القرآن ليس جديدا عليهم كله، فأهم مبدأ فيه وهو التوحيد كان معروفا لدى العرب، وإنما خشية على ضياع مجدهم السياسي والروحي وفقدان رواجهم الاقتصادي!! و"المكيون" لم يعارضوا شيئا في القرآن سوى ما انتزعه "محمد" من اليهود أو النصارى كفكرة الجزاء الأخروي وأوصاف الجنة والنار.   1 المصدر السابق: ص29. 2 المصدر السابق: ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فـ"إن فكرة الجزاء الأخروي" لم تكن منتزعة بالتأكيد من التقاليد العربية، ولكنها مأخوذة من المصادر المسيحية، ومقابلة المكيين لهذه الفكرة بالكفر العميق والسخرية، تدل على أنها لم تكن معروفة تماما لديهم! "وليست هذه الفكرة وحدها، بل أيضا ما يختص بالجنة والنار من تفصيلات تساوي تماما ما في المسيحية السريانية"1. وملخص ما يقول "جب" حتى الآن هو: - أن "مكة" كانت فيها حضارة وزعامة ... ولم تكن أرضا جرداء، ولم يكن سكانها حفاة غلاظا، بل كانت لديهم فطنة، وملكة في السياسة ومعارف واسعة بالناس والمدن على السواء. - وأن حياة "محمد" كانت حياة "مكية" خالصة.. بما فيها نشأته ودعوته، وصراعه.. فهي حياة محدودة بظروف الزمان والمكان. فدعوته عندئذ ليست دعوة عامة، بل لأناس معينين! واختياره طابع الدعوة بأن تكون دينية، ثم اختياره هذه الدعوة الدينية بأن تكون في صورة حكومة إلهية، هو من تحديد عوامل الحياة المكية، وقد وقع "محمد" تحت تأثير ما دار فيها من اتجاهات سياسية واقتصادية ودينية! - وأن "القرآن" ليس جديدا كله على العرب "المكيين" وأن ما فيه من مسيحية لا يتعدى المسيحية الشرقية السريانية2، وكذا ما فيه من يهودية لا يتعدى اليهودية المعروفة في "المدينة"! وليست معارضة "المكيين" له بسبب تمسكهم بالقديم أو بسبب الإيمان، كما يذكر القرآن مثلا في قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 3 وإنما جاءت معارضة، "مكة" في نظر "جب" بسبب   1 المصدر السابق: ص38. 2 المسيحية الشرقية السريانية، هي مسيحية الزهد، التي تأثرت بالاتجاه الإشراقي الزهدي. 3 الزخرف: 22-24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 المنافسة في الزعامة والسياسة، والخوف من انهيار حياتهم الاقتصادية! و"القرآن.. كما يريد جب" أن يقول إذن هو عمل "إنسان": إنسان معين هو "محمد"، عاش في حياة خاصة وهي حياة "المكيين" وتبلورت حايته الخاصة هذه فيما قاله فيه؟ الصورة الثانية: أما الصورة الثانية للرأي القائل بـ"بشرية القرآن"، وهي أنه تعبير عن الحياة التي وجد فيها "الرسول" وهي حياة ما قبل الإسلام، فيحكيها كتاب1 "الشعر الجاهلي". ولعل "إهداء" الكتاب وقت نشره، إلى صاحب السلطة الحكومية في ذلك الوقت، يشعر بأن الفكرة التي تروى فيه ليس لها مكان في الجو الإسلامي الخالص، ولذا تحتاج لشيء من حماية السلطة السياسية! يقول المؤلف في "إهداء" الكتاب: إلى صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا: "سيدي صاحب الدولة: كنت قبل اليوم أكتب في السياسة، وكنت أجد في ذكرك والإشادة بفضلك راحة نفس تحب الحق، ورضا ضمير يحب الوفاء. وقد انصرفت عن السياسة وفرغت للجماعة، وإذا أنا أراك في مجلسها كما كنت أراك من قبل: قوي الروح، ذكي القلب، بعيد النظر، موفقا في تأييد المصالح العلمية توفيقك في تأييد المصالح العملية السياسية ... فهل تأذن لي في أن أقدم إليك هذا الكتاب، مع التحية الخالصة والإجلال العظيم"! 22 مارس سنة 1926 طه حسين.   1 لطه حسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قدم المؤلف كتابه: "الشعر الجاهلي"، إلى "صاحب الدولة" رجل الحكم والنفوذ إذ ذاك ... على عادة المؤلفين في عهد الركود الفكري في تاريخ التأليف الإسلامي قصدا إلى الترويج والحماية. والنفس التي تحب الحق في واقع الأمر، تقدم البحث إلى راغبي المعرفة وطلاب العلم، لا إلى رجل السياسة وقت توليه السلطة، إذ إن المحب للحق يحميه الحق، والمحب للسياسة يحميه رجل السياسة! وشتان بين الحق والسياسة.. الحق يكشف عن الخداع، والسياسة تصطنع الخداع؟ فكرة كتاب "الشعر الجاهلي": يقوم هذا الكتاب على فكرة واحد، هي: أن الشعر الجاهلي لا يمثل حياة العرب قبل ظهور الإسلام ... أي: لا يمثل الحياة التي عاش فيها الرسول قبل الرسالة، بما لها من جوانب وأجواء، إذ هو شعر مصطنع مفتعل، ولذا لا يعبر عن حقائقها ولا عما دار فيها! فهو في جملته يعبر عن حياة جاهلية فيها غلظة وخشونة، وبعيدة عن التمرس السياسي، والنهضة الاقتصادية، والحياة الدينية الواضحة، مع أن حياة العرب في الجاهلية كانت حياة حضارية، والعرب كما يقول المؤلف1: "لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالا ولا غلاظا، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى.. كذلك يمثلهم القرآن". "وإذا كانوا أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها مؤثرة فيها -فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية، لا أمة جاهلة همجية! وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن ظهر في أمة جاهلة همجية؟ "2. ومنطق المؤلف: بما أن الشعر الجاهلي لا يصح أن يكون مرآة صافية للحياة الجاهلية -وهي الحياة التي نشأ فيها الرسول، وقام بدعوته، وكافح من أجل هذه الدعوة فيها- فالشيء الذي يعبر عن هذه الحياة تعبيرا صادقًا،   1 الشعر الجاهلي: ص22, 23. 2 المصدر السابق: ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وموثوقا به كل الثقة، هو القرآن ... "فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي". وإذا رجعنا إلى القرآن -هكذا يستنتج المؤلف- نجده قد صور العرب وحياتهم بما يجعلهم أمة سياسية، تنشد أن تكون "قوة ثالثة" بين الفرس والروم، كما كانت "أمة وسطا" بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، وبذلك كانت مركزا للتجارة "العابرة" ... وعن هذا الوضع بين الشمال والجنوب أثرت ونافست في القوة، كما كان لها دين ومعتقد ناهض! يقول في ذلك: "لم يكن العرب إذن -كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي- معتزلين! فأنت ترى أن القرآن يصف عنايته بسياسة الفرس والروم: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} 1.. فهذا الذي ذكره القرآن في "سورة الروم"، يراه المؤلف "عناية سياسية"، أكثر منه إخبارًا عن طريق الوحي بمصير الإمبراطورية الرومانية في الشرق! ويستطرد المؤلف فيقول: "وهو -أي: القرآن- يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} 2 ... وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس. "وسيرة النبي تحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة ... ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد؟ وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا الحيرة إلى بلاد الفرس، وبأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر.. فلم يكونوا إذن معتزلين، ولم يكونوا إذن   1 من المصدر السابق: 22, 23. - والآية من سورة الروم: 1-5. 2 قريش: 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بنجوة من تأثير: الفرس، والروم، والحبش، والهند، وغيرهم من الأمم المجاورة لهم! "أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية في القرآن، أنفع وأجدى من التماسها في هذا الشعر العقيم الذي يسمونه الشعر الجاهلي؟ أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغيير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهليين؟ "1. ومعنى هذا القول كما يريد المؤلف أن يفهم قارئه: أن القرآن انطباع للحياة القائمة في وقت صاحبه, وهو النبي ... وهو يمثل لذلك بيئة خاصة في عقيدتها ولغتها، وعاداتها، واتجاهها في الحياة ... وهي البيئة العربية في الجزيرة العربية. ويقول المؤلف في توضيح هذا المعنى: "وليس من اليسير: بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب! فلو كان كذلك لما فهموه ولما وعوه، ولا آمن به بعضهم، ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر! وفي القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من وثنية، وفيه رد على اليهود، وفيه رد على النصارى، وفيه رد على الصابئة والمجوس ... وهو لا يرد على يهود فلسطين، ولا على نصارى الروم، ومجوس الفرس، وصابئة الجزيرة2 وحدهم ... وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها، ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه، وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة! "أفترى أحدا يحفل بي لو أني أخذت أهاجم "البوذية" أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر؟؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية، وأحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام"3.   1 المصدر السابق: ص22, 23. 2 الجزيرة: هي الدلتا بين دجلة والفرات، وفيها مقر الصابئة. 3 المصدر السابق: 16, 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وإذن فالقرآن -بعبارة آخرى- دين محلي، لا إنساني عالمي، قيمته وخطره في هذه المحلية وحدها! قال به صاحبه متأثرا بحياته التي عاشها وعاش فيها، ولذلك يعبر تعبيرا صادقا عن هذه الحياة! أما أنه يمثل غير الحياة العربية أو يرسم هدفا عاما للإنسانية في ذاتها، فيس ذلك بحق! إنه دين بشري"، وليس وحيا إلهيا.. قاله صاحبه لقوم معينين، ولذلك تجاوبوا معه، أو قاموا ضده! ولو أن صاحبه قاله في جماعة أخرى "لما حفل به أحد" لأن ما يقوله فيه لا يتصل عندئذ بحياة الجماعة الأخرى في قليل أو كثير! فالقرآن مؤلف، ومؤلفه "نبيه" محمد! ويمتاز تأليفه بأنه يمثل حياة العرب المحدودة في شبه جزيرة العرب، في اتجاهات حياتها المختلفة: السياسة، والاقتصادية، والدينية!. ومنهج دراسة الحياة الجاهلية للعرب قبل الإسلام دراسة علمية، كان يدور عند صاحب كتاب "الشعر الجاهلي" بين أمرين لا ثالث لهما: بين ما يسمى بالشعر الجاهلي، وبين القرآن.. كلاهما للإنسان، وكلاهما يتحدث عن الحياة العربية الجاهلية، ولكنه استبعد الشعر الجاهلي واختار القرآن لهذه الدراسة؛ لأنه صادق في كونه "انطباعا" دقيقا لهذه الحياة!. القرآن إذن مصنوع ومؤلف: وهو مرآة لأفق خاص من الحياة، هو أفق الحياة في شبه الجزيرة العربية، وفي مكة بوجه خاص. وما في القرآن من عقائد لا يمثل إلا عقائد تلك البيئة ... فحديثه عن النصرانية هو: حديث عن نصرانية العرب، دون نصرانية السريان، فضلا عن نصرانية القسطنطينية ونصرانية مصر، أو نصرانية روما! وحديثه عن مودة النصارى- في مقابل موقف اليهود من المسلمين- في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 1 حديث يرجع إلى أن احتكاك المسلمين بالنصارى كان   1 المائدة: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ضعيفا، على العكس من احتكاكهم باليهود فقد كان قويا.. هكذا يعلل صاحب كتاب "الشعر الجاهلي" على نحو ما يعبر في قوله: "وأما "يهودية اليهود" فقد ألبت عليه وجاهدته جهادًا عقليا وجدليًا؟ ثم انتهت إلى الحب والقتال!! وأما "نصرانية النصارى" فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية.. لماذا؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية، إنما كانت وثنية في مكة، ويهودية في المدينة.. ولو ظهر النبي في الحيرة أو في نجران، للقي من نصارى هاتين المدينتين ما لقي من مشركي مكة ويهود المدينة"1. وليست إذن مودة النصارى للمؤمنين قائمة على أن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون كما أخبر القرآن في الآية السابقة؛ وإنما لأن النبي لم يلتق بهم كما التقى بمشركي مكة ويهود المدينة ... ولو أنه التقى بهم في مدينة نصرانية لكان وضع هذه الآية غير وضعها الحالي. ولقد وصل الأمر في نظر صاحب "الشعر الجاهلي" بالنسبة للقرآن، وأنه وحده -لا الشعر الجاهلي- يعبر تعبيرا صادقا عن حياة العرب قبل الإسلام، إلى أن القرآن في نظره لا يعبر عن "الحقائق" التي وقعت في هذه الحياة العربية الجاهلية، بل أيضا عن "الأماني" في هذه الحياة العربية وما يروج بشأنها من قصص. فكتاب "الشعر الجاهلي" يرى أن فكرة: "العرب المستعربة"، و"العرب العاربة" التي تقوم على التقاء قبيلة "عدنان" في شمالي الجزيرة العربية "في الحجاز" بقبيلة "قحطان" التي تسكن الجنوب "في اليمن" في اللغة العربية وإن كانت في الأولى مصطنعة وطارئة، وفي الثانية طبيعية وأصيلة قصة مصطنعة، تعبر عن "أمل" قريش في قيام وحدة سياسية وكتلة قوية في مواجهة قوتي الفرس والرومان. وبناء على ذلك تكون قصة إسماعيل بن إبراهيم الذي ينسب إليه العدنانيون قصة خيالية، وكذلك ما يروى من حديث نبوي: "إن أول من تكلم بالعربية ونسي لغة أبيه" وهي اللغة العبرية أو الكلدانية" إسماعيل بن إبراهيم" حديث موضوع.   1 المصدر السابق: ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 و"القرآن" أو "محمد" لم يشأ أن يغفل شأن هذه القصة لما لها من أهمية في قريش، وبالتالي لما لها من أهمية في الصراع بينه وبين قريش صاحبة السيادة في العرب، والحريصة على الاحتفاظ بهذه السيادة بعدما قام بدعوته. يقول المؤلف في ذلك: "وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح "قبل ظهور الإسلام بقليل"، فقد كانت أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في "مكة" وما حولها، وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من البلاد العربية. "فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية، ونهضة دينية وثنية.. وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة، تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة، ودياناتهم في البلاد العربية"1. ويقول أيضا: "أمر هذه القصة "قصة إسماعيل" إذن واضح, فهي حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني سياسي! وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي أن يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن، إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأية لغة من اللغات السامية المعروفة، وأن قصة المستعربة والعاربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير، لا حظ له ولا غناء فيه"2. "وفي الحق إن البحث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية، واللغة التي كانوا يصطنعونها   1 المصدر السابق: ص27, 28. 2 المصدر السابق: ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 في شمال هذه البلاد ولدينا نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ، وفي قواعد النحو والتصريف أيضا"1. وهكذا لا يكون في نظر مؤلف كتاب "الشعر الجاهلي" معبرا عن واقع الحياة الجاهلية فحسب، بل إنه يعبر أيضا عن الأماني التي كانت تدور فيها وتشغل حظا كبيرًا من انتباه القوم، وتجذب وعيهم بالحياة وبالقوة فيها، ولذلك فهو يمثل تلك الحياة أصدق تمثيل. يقول: فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية، فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس، والنابغة، والأعشى، وزهير؛ لأني لا أثق بما ينسب إليهم! وإنما أسلك إليها طريقا آخر، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته ... أدرسها في القرآن: فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي"2. وتخلص من الموازنة بين كتاب "المذهب المحمدي" وكتاب: "الشعر الجاهلي" إلى ما يلي: أن كليهما يرى: - أن الحياة الجاهلية قبل الإسلام، كانت حياة حضارية ... كانت حياة حافلة بالكياسة السياسية، والنشاط الاقتصادي، والنهضة الدينية! - وأن "محمدًا" -أو الإسلام، أو القرآن- استغل المقدسات الدينية في مكة، وفي مقدمتها "البيت الحرام" أول بيت وضع للناس بمكة، والذي قام على عمارته إبراهيم والد إسماعيل! وظاهرة استغلال هذه المقدسات كما يرى كتاب "المذهب المحمدي" هي في أن ثورة محمد أو الإسلام أخذت طابع الدين، دون الطابع الاجتماعي! أما كتاب "الشعر الجاهلي" فيرى هذه الظاهرة في أن محمدا أو الإسلام اضطر إلى قبول قصة إسماعيل وتعلمه العربية اضطرارا مع أنها خرافة أثبتت الحقائق العلمية عدم وقوعها! اضطر إلى ذلك حتى لا يفقد سلاح "المقدسات الدينية" القائمة في مكة وحول مكة في صراعه مع خصومه "المكيين" إذ المكيون أنفسهم كانوا على استعداد نفسي لقبول هذه   1 المصدر السابق: ص25. 2 المصدر السابق: ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 القصة، رغبة في الوحدة والتكتل، ليكونوا قوة ثالثة في مواجهة قوتي الفرس والروم! - وأن "القرآن" لم يكن جديدا كل الجدة على العرب، فما فيه من عقائد كانت تعرفها مكة، وتعرفها العرب في شبه الجزيرة، لكن صاحب كتاب "المذهب المحمدي": يرى أن آية معرفتهم لذلك هي عدم معارضة المكيين له فيما ذكر من عقائد حتى عقيدة الوحدانية، وأرجع معارضتهم إياه إلى المنافسة السياسية والخشية على انهيار اقتصادهم! بينما يرى صاحب كتاب "الشعر الجاهلي": أن آية ذلك هي قبول من قبل منهم ومعارضة من عارض من بينهم. فلو لم يكن القرآن مألوفا لديهم لما عارض من عارض ولا قبل من قبل، ولا حفل به أحد، ولا كان له أي خطر!! - وأن "دعوة الإسلام" دعوة محلية، في جماعة خاصة، وفي حياة خاصة، ولذا فالقرآن أو الإسلام انطباع واضح لهذه الجماعة الخاصة -في حياتها الخاصة! ويمكن أن يتبع آثار هذه الجماعة الخاصة في حياتها الخاصة- في حياة محمد في جميع أدواره ... وهذا ما يصوره صاحب كتاب "المذهب المحمدي" ولهذا السبب يعتبر القرآن تعبيرا صادقا عن هذه الجماعة الخاصة في حياتها الخاصة، حتى عن أمانيها، كما يصوره صاحب كتاب "الشعر الجاهلي" ... وإذن فالقرآن محدود القيمة، محدود المكان، محدود الزمان! ومنطق هذا كله أن القرآن ليس وحيا لرسالة الله، إذ لو كان وحيا من عند الله لكان للناس جميعا، في كل مكان وفي كل جيل! ولو كان وحيا أيضا لرسم خطة جديدة لهداية الناس في عقيدتهم، ولم يكن حاكيا لما كان عليه بعض أفراد الجماعة الإنسانية، ثم إن العرب أنفسهم -قبل الناس الآخرين- لم يكونوا في جهل، ولم يكونوا على ضلال، حتى يحتاجوا لرسالة جديدة تدعو إلى الهداية! والفرق بعد ذلك بين الكتابين في عرض فكرة "بشرية القرآن" هو: - أن أحد الكتابين في وصفه للقرآن، وفي وصفه لصلة القرآن بالعرب يقول: - فيه "أي: القرآن" أخذ من "الوثنية" العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 - وفيه أخذ من "المسيحية" العربية. - وفيه أخذ منه "اليهودية" العربية. وهذا الكتاب هو كتاب "المذهب المحمدي". ويهم الاستشراق دائما أن يردد أن القرآن أخذ من المسيحية أو اليهودية، بدلا من أن يذكر أنه رد على المسيحية أو اليهودية! -بينما الكتاب الثاني، في تحديد هذه الصلة -وهو كتاب "الشعر الجاهلي"- يذكر أن القرآن: - فيه رد على الوثنية العربية. - وفيه رد على المسيحية العربية. - وفيه رد على اليهودية العربية. وذلك كي يوهم القارئ المسلم أن القرآن لم يلتق مع المسيحية القائمة، ومع اليهودية الموجودة إذ ذاك. وطالما حدد الكتابان القرآن بالبيئة العربية، فما وراء ذلك من اختلاف لا يحدث فرقا أصيلا بينهما؛ لأن التعبير بأنه "أخذ" من المسيحية واليهودية قصد التمهيد إلى الحكم بأن القرآن لم يكن كله جديدا على العرب، وهذا عين ما قصده التعبير بأنه "رد"! وبيئة الكاتبين هي التي أوحت إلى كل منهما بالاختلاف في التعبير، على نحو ما رأينا! ولم يكن القصد في الموازنة بين الكتابين في عرض "بشرية القرآن" إلى بيان أن أحدهما أخذ من الثاني. بل كان القصد أولا وبالذات، إلى توضيح أن كتاب: "الشعر الجاهلي" في العالم العربي يحكى رأي المستشرقين في هذا الجانب. ذلك الرأي الذي تنوعت أساليبهم في عرضه، والذي يعد مع ذلك هدفا سياسيا في بحوثهم منذ أن نشأ الاستشراق، ومنذ أن اتجه الاستشراق من مبدأ أمره إلى تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، عن طريق إضعاف قيمة الإسلام كدين ورسالة من رسالات السماء! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 رأي القرآن في كتابي: المذهب المحمدي"، و"الشعر الجاهلي". أما القرآن الكريم نفسه فنقرأ فيه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. والقرآن في ذلك يفيد ثلاثة أمور: - أن الله أرسل رسولا أميا يتلو آيات الله. - وأنه أرسله بالتزكية، والتعليم، والحكمة، لقوم أميين، وكانوا من قبل نزول القرآن في ضلال مبين. - وأن رسالة هذا الرسول الأمي ليست مقصورة على هؤلاء القوم الضالين، بل تتجاوزهم إلى آخرين بعدهم، لما يلحقوا بهم. وهذا الذي تفيده الآية الكريمة على هذا النحو يدل على: - أن العرب خاصة كانوا في مسيس الحاجة إلى الرسالة الإلهية، لما كانوا عليه من ضلال مبين. - وأنهم لم يكونوا أصحاب حضارة ومعرفة بالصورة التي يصورهم بها الكتابان السابقان. - وأن رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسالة محلية، ولا مقيدة بمكان، أو زمان، أو جيل {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} 2. والقرآن أيضا يقول: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} 3.   1 الجمعة: 2-4. 2 الجمعة: 3. 2 النمل: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 1. وإذا يقول القرآن هذا ... وذاك، ويقول كثيرا غيره، يقرر تقريرا واضحا وحي القرآن، ووضعية الرسول -صلى الله عليه وسلم- كرسول بعث للناس كافة بهداية واضحة، هي هداية السماء التي أرسل بها من قبله من الرسل. ولكن هذا الذي يقوله القرآن هنا وفي آيات أخرى، لا يواجه به إلا مسلما غير متردد في إيمانه بالإسلام! أو هو يواجه به من كان صافي الطبع غير مبيت سوء القصد من البشر، وعندئذ يكون القرآن له شفاء وهداية ... {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ! 2. أما لو واجهنا بالقرآن غير المسلم، من متعصبي أهل الكتاب، فإنه لا يكون له دليل هداية وإقناع على أن القرآن وحي من الله، وإنما الذي يجب أن يسلك معه مطالبته بتحديد موقفه من "الوحي" كقضية عامة للديانات السماوية الثلاث، وليست قضية الإسلام وحده، فما يقوله الغرب المسيحي باسم العلم تأييدا لوحي عيسى أو موسى يصح أن يقال تأييدا لوحي محمد!. فإذا كان "الوحي"، كأمر غير عادي، يخضع للطريقة العلمية الحديثة، أو لا بد أن يقف عن حد اعتقاد المؤمنين به في كل دين، فكل أنواع "الوحي" سواء في هذا ... أو ذاك. أما الأمر الذي يجب أن ينكره البحث العلمي -بهذا التحديد- فهو أن يناقش نوع من "الوحي" ويتشكك فيه باسم العلم، ثم يصان نوع آخر منه على أنه بديهي التسليم، وبعيد عن مجال الجدل العقلي النظري أو العلمي التجريبي. ولذا لا نحاول هنا أن نؤيد وحي الرسالة الإسلامية خاصة؛ لأن قضية "الوحي" إذن قضية عامة مشتركة، ما يصلح دليلا عليها هناك يصلح دليلا عليها هنا ... فيجب أن تخرج القضية في جملتها عن محل النزاع! وقديما حاول فلاسفة القرون الوسطى أن يؤيدوا الوحي السماوي بالدليل العقلي ... ولكن لم تخرج برهنتهم عن شرح عقلي لوضع الرسول   1 الأنعام: 50. 2 الإسراء: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الإسلام دين ... لا دولة: ما "الدين" ... وما هي طبيعته؟ ما هي "الدولة" ... وما هو اختصاصها؟ سؤالان يجيب عنهما الغربيون المسيحيون، قبل الدخول في دراسة الإسلام. ودراستهم للإسلام بعدئذ، هي محاولة إخضاعه للتحديد الذي يحددونه من قبل: "للدين" و"للدولة" ... فإذا لم يطع الإسلام هذا التحديد، قضوا في شأنه بأنه ليس وحيا ولا رسالة من السماء، وهو على الأكثر رسالة إصلاحية بشرية قام بها زعيم أو مصلح إنساني. أما تحديدهم "للدين" و"للدولة" معا، فمأخوذ من واقع الصلة بين المسيحية والحكومة في نظر الغربيين أنفسهم ... تلك الصلة التي تأثرت بعوامل مختلفة، وتبلورت أخيرا فيما يسمى الآن بـ"الكنيسة" و"الدولة" أو بتمايز "السلطتين". والحكومة الغربية -في تطورها الأخير- منتزعة من الصراع بين الكنيسة كسلطة إلهية حكمت وتحكم باسم الرب والإله، وبين الجهة الأخرى المعادية لسلطان رجال الدين في مجالات الحياة المختلفة، والتي حرصت على أن تشق عصا الطاعة لهم ... جهة أصحاب الإقطاع وأصحاب السلطة من الأمراء، وأصحاب النفوذ الفكري من الفلاسفة، والأدباء، والعلماء. والسؤال هنا الذي يختلف الطرفان المتصارعان في الإجابة عنه هو: إلى أي مدى يكون للكنيسة "أي: لرجال الدين" سلطة وسلطان؟. هل تمثل الكنيسة السلطة العليا والأخيرة في تتويج الملوك، وإقامة الحكومات واختيار قادة الجيش، وإعلان الحرب، وعقد السلام ... إلى غير ذلك من المهام التي تباشرها "سلطة" لا تعقيب عليها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أم أن سلطتها وسلطانها يجب أن يقف عند حد التوجيه الروحي، أي: عد حد القلب والإيمان، دون أن يتجاوزهما إلى الشئون المدنية والسياسية وعندئذ تترك هذه الشئون للأمراء والحكومات التي تقيمها الشعوب؟ - قبل أن يتبلور الصراع بين الكنيسة والحكومة في صورة الوضع الحاضر من الفصل بينهما كان الأمر في الشعوب الغربية قبل دخول المسيحية روما, إلى الجيش والقانون. - وبعد أن دخلت المسيحية تحول الأمر بالتدريج إلى أن أصبح كله رجال الدين وإرادة الكنيسة. - ثم أعقبه الوضع الحاضر من الفصل بين الاثنين. فالصراع كان بين طبقة وطبقة، وسلطة وسلطة. - معنى "الدين"، فأرادوا به التوجيه الروحي للأفراد. - كما حددوا معنى "الدولة" و"الحكومة": فقصدوا بهما تنظيم العلاقات بين الأفراد. واستعانوا في هذا التحديد بموقف المسيح في قومه، وبطابع رسالته إلى شعب إسرائيل وهي: رسالة "المحبة بين ذوي القربى" وقد كانت هذه الرسالة تحمل الدعوة إلى إعادة الصفاء بين النفوس التي مزقت روح الحقد والاضطهاد العلاقة بينها. وبهذا كان "الدين" في تصور الغربيين مشتقا من طابع الرسالة التي جاء بها عيسى، وكذا من الحال التي انتهى إليها النزاع بين الكنيسة والحكومة الغربية. وأصبحت "الروحية" أو الدعوة إلى صفاء النفوس التي كدرتها شرور المادة والتزاحم في الحياة الدنيوية مجال اختصاص "الدين". وما خرج عن نطاق هذه الدعوة فليس من شئون الدين، ويرجع فيه إلى المصلحة العامة التي تقدرها الرعاية البشرية العامة للجماعة، وهي تلك الرعاية التي تمثل في "السلطة الحكومية" أو "الدولة". وبناء على ذلك، يجب لتحديد أي دين سابق على المسيحية أو آخر لاحق لها -في تصور الغربيين- أن تؤخذ في مفهومه خصيصة المسيحية وهي: الدعوة إلى الصفاء النفسي فقط، أي: الوقوف عند حد "الروحية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 و"الإسلام" -لأنه ينظم العلاقات بين الأفراد كما يقوم على الدعوة إلى الصفاء النفسي- يخرج إذن عن طبيعة "الدين"، ويدخل في مجال "الإصلاح" البشري عندهم! ومن ثم كان تنظيمه لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض آية على بشريته في تقدير الغربيين المسيحيين. ومن الغريب أنهم يقفون بهذا التطبيق عند حد الإسلام وحده، لا يتجاوزونه إلى "اليهودية" مثلا، فلا ينكرون عليها طبيعة "الدين" إذا ما اتخذت أساسا لقيام دولة إسرائيل، وإذا ما حاول اليهود في العالم وضع خريطة هذه الدولة وتنفيذها طبقا لتعاليم "العهد القديم"، وطبقا لما جاء في هذا العهد خاصا "بشعب الله المختار". وإذا ما حاولوا أيضا جعل اليهودية دستورا لعلاقات بعضهم ببعض داخل إسرائيل، وكذا لعلاقات هذه الدويلة بالعالم الخارجي، وبالأخص بجيرانها من العرب. وإذن "هذه الفضلة" في رسالة الإسلام، وهي التي تتصل بعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، كانت سببا في إخراج "الإسلام" عن طبيعة "الدين" وبالتالي كانت سببا في الحكم ببشريته من وجهة نظر الغربيين! أما المسلمون المجددون -وهم أولئكم الذين تأثروا بالغربيين في نظرتهم إلى الحياة كلها. أو هم الذين يحاكون الغربيين لمجرد محاكاتهم فقط، وليس هنا مجددون في الشرق الإسلام لم يتأثروا بالغربيين- فبعد أن يقروا هؤلاء على نظرتهم إلى "الدين" وعلى تحديدهم لمعناه ومفهومه، يحاولون أن يجدوا تخريجا لهذه "الفضلة" في الإسلام، حتى يبقوه دينا، وحتى ينالوا في الوقت نفسه رضاء علماء الغرب عن "الإسلام" والمسلمين. لا كدين ولا كمؤمنين به، وإنما كمشاركين للغربيين في الحياة الحاضرة. هذه "الفضلة" هي موضوع التخريج، أو هي موضوع من موضوعات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث. وادعاء أن الإسلام "دين لا دولة" واحد من تخريجات عدة لهذه الفضلة التي عابت الإسلام كدين، ووقفت في طريق اعتراف الغرب المسيحي المتحضر به. وترجع هذه التخريجات المتنوعة كلها أو تئول إلى شيء واحد هو: إلغاء "شخصية" الجماعة الإسلامية. ولكي نفهم العلاقة بين هذه التخريجات أولا، ثم التقاءها عند هذا "الإلغاء" ثانيا، يجدر بنا أن نحدد شخصية "الجماعة الإسلامية" من واقع "القرآن" نفسه، تحديدا إجماليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 شخصية أية "جماعة" تقوم على المقومات التي يطلب من الجماعة الاحتفاظ بها، أو صيانتها من الضعف أو التلاشي والإلغاء. ومقومات الجماعة، بصفة عامة تتركز: - في تنظيم العلاقات بين الأفراد. - ثم في مباشرة هذا التنظيم. وتنظيم العلاقات بين الأفراد هو: تنظيم التعامل بينها، وتنظيم لطريق فض الخصومات في هذا التعامل عند الاختلاف فيه، فنظام "المعاملات" التجارية والمالية، ونظام الأسرة" في الزواج والنسب، ونظام "القضاء" عند النزاع في فهم هذه النظم، أو في تطبيقها ... من ضروب تنظيم العلاقات بين الأفراد. ومباشرة هذا التنظيم هو: تولي إقرار النظم الناشئة عنه، وحمايتها. فالتمكين لهذه النظم من الاستقرار في الداخل، والدفاع عند مهاجمتها ومحاولة إحداث الانقلاب فيها من الخارج.. من صور المباشرة لتنظيم هذه العلاقات. فشخصية "الجماعة" يحددها "دستورها" الذي قامت عليه، والذي يحتكم إليه أفرادها في شئونهم العامة والخاصة. ودستور "الجماعة الإسلامية" في قيامها وتكوينها، تشرحه بعض آيات من "القرآن" الكريم، مثل قوله تعالى: - {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} : - {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، - {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، - {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، - {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ، - {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، - {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 - {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، - {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، - {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، - {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. وهكذا جمع القرآن الكريم في هذه الآية، بين ثلاثة أنواع من الأسس: - النوع الأول: ما يتعلق بعقيدة الفرد: فحرم عليه الشرك بالله في العبادة. - النوع الثاني: ما يتصل بسلوك الفرد الأخلاقي، فأوصاه: - بالإحسان إلى الوالدين. - وبتجنب قتل الأولاد ... والتعليل هنا بخشية الفقر صرح به القرآن؛ لأنه كان العلة الشائعة لدى العرب وقت مجيء الإسلام؛ وليس لأن النهي مرتبط به وحده. وإلا فتجنب قتل الأولاد مطلوب على الإطلاق، بعموم قوله تعالى هنا في هذه الآية: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 2. - وبتجنب اقتراف الفواحش، خفيها وظاهرها. - وبتجنب قتل النفس بغير حق. - والنوع الثالث: ما يتصل بالمعاملات بين الأفراد، فطلب: - عدم مساس مال اليتيم إلا بما يعود عليه بالنفع حتى يبلغ اليتيم رشده، واليتيم هو الضعيف في صورة من صور الضعف الإنساني. - وبالوفاء في الكيل والميزان أي: بتحقيق التعادل في التبادل بين الناس.   1 الأنعام: 151-153. 2 الأنعام: 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 - وبالقضاء بالعدل والتمسك به: مهما كانت عوامل الضغط على الانصراف عنه. - وبالوفاء بالعهد والالتزام به: إذا لم يكن العهد على شر أو فساد، بل كان في سبيل خير ومصلحة, ولذلك عبر عنه "بعهد الله". فهذه الآية وحدها لم تقف بالإسلام عند حد معنى "الدين" الذي حدده الغربيون "للدين" -وهو الذي يتصل بالعقيدة في الإله، ولا عند حد الوصايا الأخلاقية الفردية فقط.. بل تجاوزت هذين الجانبين إلى جانب التعامل في دائرة الأموال والتبادل التجاري، وفي دائرة القضاء، وفي دائرة الوفاء بالعهد والالتزام- ذلك العهد الذي يصح أن يضاف إلى الله وهو: كل عهد تتوفر فيه المصلحة الخاصة بطرفيه اللذين عقداه بينهما، أو تتوفر فيه المصلحة العامة للجماعة كالعهد الذي بين الراعي العام ورعيته في الجماعة. والآية إذن، فوق أنها تحدد العقيدة والوصايا الخلقية الفردية، تقرر مبدأ التعامل، ومبدأ القضاء، ومبدأ الدولة نفسها وصلتها بالأفراد, فالدولة عهد بين الأفراد بعضهم مع بعض، ووجوب الوفاء به من البعض نحو البعض الآخر مرهون بأن يكون في سبيل المصلحة العامة. وتجلي آية أخرى من كتاب الله، هذا الدستور لشخصية الجماعة الإسلامية.. يقول جل شأنه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. فأضافت هذه الآية -إلى ما أفادته الآية السابقة- "استقلال" الجماعة الإسلامية ... يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .. ومعنى ذلك أن الاعتبار في الترابط بين الأفراد والإخلاص فيه هو للإيمان   1 التوبة: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وحده، فالإيمان أشبه بمنفذ في "سور" الجماعة، ينفذ منه إلى الجماعة من له صفة أفرادها، ويغلق دون من ليست له هذه الصفة، ولو كان ذا قربى لواحد من آحادها، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. وبهاتين الآيتين، يمكن أن يتحدد الدستور في قيام الجماعة الإسلامية، وفي استقلالها.. وتكون الجماعة الإسلامية إذن جماعة مستقلة في مواجهة غيرها من الجماعات الأجنبية عنها. وهي في استقلالها في مواجهة غيرها، يحدد الإسلام علاقتها بغيرها من الجماعات. وفي تحديد العلاقة بين الجماعة المؤمنة والجماعات الأخرى: دعا الإسلام الجماعة الإسلامية إلى إقرار مبدأ "السلم" بادئ ذي بدء. ويقول القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2. ثم في حال وقوع اعتداء عليها من الجماعات الآخرى: طالب الإسلام جماعته بـ"رد" الاعتداء، دون أن تزيد فيه ... فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 3، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 4. ولأن جماعة المسلمين جماعة مستقلة في هدفها وغايتها، وفي منهجها في الحياة وفي ترابط أفراها بعضهم ببعض؛ ولأنه مطلوب منها أن تحرص على استقلالها برد العدوان عليها، وعدم التهاون في ذلك كان من المترقب لمثل هذه الجماعة أن يحتك بها غيرها من الجماعات الإنسانية التي تطمع في التوسع، أو تتعصب لفكرتها ومبدئها في الحياة. لذلك طلب الإسلام من "الجماعة الإسلامية" أن تكون دائما على حذر واستعداد مادي وروحي معا، لمقاومة من يحتك بها، قاصدا إضعافها وإذهاب استقلالها!   1 التوبة: 23. 2 البقرة: 208. 3 البقرة: 190. 4 البقرة: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولكن هذه التعبئة المادية والروحية التي يطلبها الإسلام من المؤمنين به، يضعها دائما في خدمة "السلام" لا للغزو والاعتداء: يقول القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وإذا كانت الجماعة الإسلامية لها غاية وشخصية مستقلة، فهي لا تسعى فقط إلى تأمين استقلالها ... بل يجب عليها كذلك أن تؤمن فكرتها، وغايتها في الحياة، كما يجب عليها أن لا تهادن الكفر بفكرتها، إذ في الكفر وحده يكمن العداء لها، والخطر على وجودها! إن الكفر أينما وجد هو مصدر عدائها.. وهو يتمثل في الشرك، كما يتمثل في الإلحاد: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2. {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 3. فموقف "الجماعة الإسلامية" إذن في شتى بقاع الأرض من العالم الخارجي عنها، الذي لا يؤمن بما تؤمن به، يتمثل في المبادئ الآتية: - التزام السلام والدعوة إليه. - مقاومة العدوان ودفعه بحيث لا يتجاوز حدود الاعتداء. - عدم مهادنة الإلحاد، والعمل على مقاومته في إصرار.   1 الأنفال: 60, 61. 2 الأنفال: 55-58. 3 التوبة: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ولعل ما نراه الآن في الصراع بين "الشرق الشيوعي" و"الغرب الصليبي" وهو صارع حول فكرتين مختلفتين، وما يتخذ في هذا الصرع من أساليب مختلفة ... يقرب لنا موقف الإسلام من "الإلحاد": إن "الإلحاد" خطر على البشرية كلها، وليس خطرا على "الجماعة الإسلامية" وحدها. ومن هنا كان موقف الإسلام منه عدم المهادنة! وليست دعوة الإسلام إلى عدم مهادنة الإلحاد ميلا منه إلى الحرب في ذاتها، وإلا ما دعا إلى السلام وحرص عليه بادئ ذي بدئ كمبدأ عام من مبادئه وإلا ما ألزم المسلمين أيضا بالبقاء في حدود تصرف المعتدي، ولا يتجاوزون هذه الحدود بحال عند ردهم أي اعتداء عليهم. إذ مشروعية الحرب بالسيف ودفع المسلمين إلى القتال في ميدان الحرب، مرتبط بـ"رد" الاعتداء فقط على الجماعة الإسلامية. إن عدم مهادنة "الإلحاد" دعوة لدفع الخطر المحدق بالإنسانية كلها، طلب الإسلام من المسلمين القيام بها. وفي دفع هذا الخطر، إقرار للسلم، واستقرار للجماعة الإنسانية، وكفالة إقرار السلم العالمي جانب من رسالة الجماعة الإسلامية في نظر الإسلام، ومن هنا كان دفع هذا الخطر فرضا ملازما لقيام "الجماعة الإسلامية" في أطوار حياتها وفي كل أجيالها، وعليها أن تكون متهيئة بصفة مستمرة للقدرة على دفعه. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. هذا التهيؤ والإعداد لدفع خطر "الإلحاد"، الذي يتمثل في الكفر وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو ذلك المبدأ المعروف في الإسلام بمبدأ "الجهاد". وطالما أريد أن يكون للجماعة استقلال، وطالما يناط بها كفالة إقرار السلم العالمي، فإن التهيؤ لإمكان صيانة استقلال الجماعة، وإمكان تنفيذ إقرار السلم العالمي, أمر يجب أن تكون له صفة الاستمرار والدوام في   1 البقرة: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 حياة الجماعة نفسها. وفي نداء القرآن للرسول بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1 ما يشير إلى طلب الإعداد الدائم لمقاومة الضعف الداخلي والخطر الخارجي معا. وتوجيه النداء على هذا النحو للرسول باعتباره راعيا ورئيسا للجماعة المؤمنة مما يؤيد أن الإسلام لم يكن وقفا على تبليغ رسالة، بل كان رعاية أيضا لاستقرار هذه الرسالة وتمكينها، سواء في وقت الرسالة أو بعده ... أي: هو "دين" و"دولة" معا. فإذا طلب الآن بعض شراح الإسلام: جعل "الجهاد"، الذي هو مقاومة الاعتداء، فريضة "مؤقتة" بوقت الرسالة، أي: بوقت الرسول ودعوته.. إذا طلبوا إنهاء العمل بالجهاد بعد قيام الجماعة الإسلامية واستقرارها منذ فتح مكة، فقد طلبوا في واقع الأمر إغفال الحرص على استقلال الجماعة الإسلامية، والتنازل عن استمرار بقائها كوحدة في مواجهة الجماعات الأخرى، وهذا معناه جعل الإسلام دينا "لأفراد"، وليس دينا "لجماعة"..أو بعبارة أخرى جعله "دينا" لا "دولة" بالمعنى المفهوم لدى الغربيين. وإذا ساق بعض آخر من شراح الإسلام: تفسير "الجهاد" على أنه رياضة نفسية روحية، وليس ردا لاعتداء مادي خارجي، كان مؤدى هذا التفسير هو نفس مؤدى توقيت الجهاد، على النحو السابق! وإذا صرح فريق ثالث: بأن الإسلام "دين لا دولة" كان هذا التصريح واضحا في قصر الإسلام على "الأفراد" دون "الجماعة" وبعبارة أخرى كان واضحا في إلغاء شخصية الجماعة الإسلامية، وكان واضحا أيضا في محاولة إلغاء "الجهاد" أو إنكاره على الإسلام، كرسالة من رسالات السماء، مع أنه جزء لا يتجزأ منها. - حاول السير "أحمد خان" -زعيم الحركة الإصلاحية في الهند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر -المحاولة الأولى.   1 التوبة: 73، والتحريم: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وحاولت "القاديانية" -دعوة الولاء للتاج البريطاني- المحاولة الثانية ... وحاول كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" المحاولة الأخيرة. ولكها محاولات تصطدم مع الآيات التي ذكرت سابقا في تحديد الإسلام، وما يطلبه من "الفرد" المسلم، و"الجماعة" المؤمنة، وما وضعه من دستور للطرفين، وفوق ذلك تصطدم هذه المحاولات مع الآيات التي طلب فيها القرآن من المؤمنين به دفع خطر "الإلحاد" وهو الكفر ... من مثل قوله تعال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1. فليس المراد تجنيد المؤمنين على عهد رسول الله فقط، لمقاومة الكفر المحلي في وقته: كفر المشركين الوثنيين بمكة وبشبه الجزيرة العربية، ولمقاومة النفاق في أيامه ... إذ الكفر أو الإلحاد، وكذلك النفاق، لا يزول من العالم الإنساني بزواله من الجزيرة العربية. إن الكفر والإيمان -وكذلك النفاق- من ظواهر الجماعة الإنسانية تلك الظواهر التي تلازمها في حياتها في كل جيل ووقت، والشيء الذي يختفي حتى يكاد ينعدم، أو يبدو ويطفو حتى يكاد يسيطر، وهو أثر ظاهرة الكفر في مقابل ظاهرة الإيمان، أو العكس. الإسلام وأصول الحكم: وكتاب "الإسلام وأصول الحكم"2 -من كتب "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث- يعالج أو يعرض دعوى أن "الإسلام دين لا دولة".   1 الأنفال: 38, 39. 2 الطبعة الثالثة: سنة 1925، مطبعة مصر، ومؤلفه الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الأزهر وأحد قضاة المحاكم الشرعية، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية، وبعض المراجع الأساسية لعلم الاجتماع الإسلامي في دراسة الجامعات الأمريكية على الخصوص للإسلام وتعاليمه، ويأتي تقويمه على هذا النحو؛ لا لأنه يعرض فكرة جديدة على الغرب في الدراسات الإسلامية؛ بل لأنه صدر من مسلم -هو عالم أزهري- وفي ذلك ترويج لفكر الكتاب بين الطلاب الغربيين، الذين يدرسون الإسلام والشعوب الإسلامية، وهو كتاب يحكي عن الغرب أكثر مما يتحدث عن جوهر الإسلام ذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وفي عرضه لهذه الدعوى يستعير من الدراسات الإسلامية للمستشرقين: القساوسة الصليبيين، واليهود الحاقدين ما لهم من آراء في هذا الجانب، وما لهذه الدراسة من أصول تواضعوا عليها عند النظر إلى الإسلام، لا نتيجة لبحث نزيه، ولكن انبثاقا عن غرض خاص! وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" -في سير حركة التفكير فيه- يتخذ الطابع الذي عرفت به المسيحية بين أتباعها أساسا في تقدير الإسلام كدين، على نحو ما صنع الغربيون في حكمهم عليه، وحين يواجه الكتاب بعد ذلك ما ورد في المصدرين الأصليين للإسلام -وهما: القرآن، والسنة الصحيحة- مما يجعل الإسلام متجاوزًا حد "الدين" في عرف الغرب المسيحي إلى ما يسمى بـ"الدولة" عندهم، يتخذ الكتاب موقفا متأرجحا بين أمرين متقابلين: - الأمر الأول: تأويل هذا "الزائد" عن حد الدين، في عرف الغربيين، بأنه لا يتصل بما يسمى بـ"الدولة" أو السياسة في قليل ولا كثير. - والأمر الثاني: قبول هذا "الزائد" على أنه من مظاهر "السياسة" ومن شئون "الدولة" ومع ذلك هو خارج عن حدود الدعوة الدينية التي كلف بها الرسول، ولكن اقتضته فقط "الزعامة النبوية" على عهده. ثم إن خصائص هذه "الزعامة النبوية" موقوته بوقت الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبشخصه، فلا تكون لإنسان آخر بعده مهما بلغ من سمو المنزلة في نفسه أو بين المسلمين. ويخلص الكتاب إلى أن الإسلام "دين" فقط، وأن ما يدعو إليه من "وحدة" بين المؤمنين به هو وحدة دينية ... لا وحدة في "الحكومة"، أو في "الدولة"، أو في الترابط السياسي والعلاقات العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وكان لا بد للكتاب من أن يتعرض لفكرة "الجهاد" في الإسلام كمظهر واضح من المظاهر التي تجعله دين "جماعة"، وليس دينا "لمجموعة" من الناس، مما لا يساعد على الوقوف بالإسلام عند حد "الدين" في عرف الغربيين. وقد تعرض لها فعلا، وشرحها أخيرا على أنها من خصائص، الزعامة النبوية"، فهي إذن موقوتة بوقتها, ولذا فقد انتهى أمر "الجهاد" بوفاة صاحب هذه الزعامة، وانتهت بذلك شخصية "الجماعة" الإسلامية، وبقي المسلمون بعد وفاته أفرادا، يختار كل فريق منهم الاتجاه السياسي الذي ينزع إليه ... ولو كان اتجاها شيوعيا. وهذا الذي ينتهي إليه الكتاب من نتيجة، هو ذات النتيجة التي ينتهي إليها تفكير السير "أحمد خان" ومذهب "القاديانية" ... من إلغاء الشخصية الإسلامية. وهذه النتيجة أو هذا الهدف، هو دائما المركز الذي تلتقي عنده معاول الهدم باسم الدراسات الإسلامية في دراسات المستشرقين.. على نحو ما بينا، ونبين فيما بعد. الإسلام دين لا دولة: وفكرة: "الإسلام دين لا دولة" أولى النقط في تفكير الكتاب، أو بمثابة الدعوى التي يطلب البرهنة عليها. ويضعها الكتاب لذلك في صيغة السؤال، حتى يجيب عليه بما يريد أن يبديه من رأي، فيقول: "فاعلم أن المسألة الآن هي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان صاحب دولة سياسية ورئيس حكومة، كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دينية ... أم لا؟؟ "1. والسؤال على هذا النحو، يفرق من أول الأمر بين "دين"، و"دولة" ... والجواب عليه محاولة لاختبار الإسلام على أساس من هذا الفرق، الذي أخذ الآن مقدما صفة الجزم أو اليقين في تفكير الكتاب!   1 الإسلام وأصول الحكم: ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ولذا يجيب الكتاب عليه إجابة واضحة، تعبر عن الرأي الأخير له، ويعتبر النتيجة النهائية لتفكيره فيما يتصل بالإسلام. يقول: "ولاية الرسول على قومه: ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعا صادقا تاما، يتبعه خضوع الجسم". "وولاية الحاكم: ولاية مادية، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلب اتصال". "تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه الآية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض، تلك للدين.. وهذه للدنيا، تلك لله.. وهذه للناس، تلك زعامة دينية ... وهذه زعامة سياسية ... وما أبعد ما بين السياسة والدين"1. وهذا المعنى الذي يجيب به الكتاب على سؤاله السابق، يقوم على أساس من "مثنوية" تفكير القرون الوسطى فيما يتصل بالإنسان.. وهو التفكير الذي ساد لدى الغربيين عند فصلهم بين "الكنيسة" و"الدولة". و"مثنوية" الإنسان معناها: أن هناك "انفصالا" بين جسمه وروحه: وأنه ليس أحدهما تابعا للآخر، فضلا على أن يكونا "وحدة" واحدة!! وتفكير القرون الوسطى في المشاكل الفلسفية الإلهية والإنسانية، يستوي في التعبير عنه ما يوجد عند فلاسفة المسلمين أو فلاسفة المسيحيين من الآباء أو المدرسيين؛ لأن قوامه هنا وهناك ما خلفه الإغريق وورثوه للمسلمين والمسيحيين على السواء. و"لإخوان الصفا" تعبير واضح عن هذه "المثنوية" ... يقولون: "اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه: بأن الإنسان لما كان هو جملة من جسد جسماني، ونفس روحانية -وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال، ومشتركان في الأفعال العارضة والصفات الزائدة- صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريدا للبقاء   1 المصدر السابق: ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 في الدنيا ومتمنيا للخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية طالبا للدار الآخرة ومتمنيا البلوغ إليها، وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله "مثنوية" متضادة: "كالحياة والممات، والعلم والجهالة"1. وما ذكره "إخوان الصفا" هنا من رغبة الإنسان في البقاء في الدنيا، وتمنيه الدار الآخرة مع ذلك, هو ترتيب لبعض النتائج على "مثنوية" الإنسان في تفكير القرون الوسطى! وعلى هذا النحو يوزع الإنسان بين اختصاصين: هما "الكنيسة" و"الدولة"، للكنيسة روحه وللدولة جسده.. تماما كما يحكيه كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، هنا في نصه السابق. و"مثنوية" الإنسان يعدها العلم الحديث، وهو البحث النفسي التجريبي، تصورا نظريا لا يركن إليه الرأي السليم في قيادة الإنسان وتوجيهه، والإنسان الآن -في نظر هذا البحث العلمي- وحدة واحدة لا انفصال بين جسمه ونفسه، ولذا يستحيل أن يوزع بين اختصاصين متقابلين، وسلطتين مختلفتين.. والأضمن إذن في سلامة توجيهه أن تكون قيادته واحدة. وتجربة توزيع السلطة في الغرب بين "الكنيسة" و"الدولة" -وهو ما يعرف بالفصل بين "الدين" و"الدولة"- لم تثمر الاحتكاك بين السلطتين فقط؛ بل كان من ثمراتها إخضاع إحدى السلطتين للأخرى في النهاية، وفي واقع الأمر كان هو إخضاع "الدولة للكنيسة! فـ"الدولة" الغربية الحديثة في أوروبا وأمريكا تعتمد على النظام الديمقراطي، وهو نظام التصويت الشعبي ... وفي معركة التصويت الشعبي يتفوق الحزب السياسي الذي يبذل لتنفيذ اتجاه الكنيسة من الوعود والعهود أكثرها، إذا ما وصل إلى كرسي الحكم. ومظهر الفصل بين السلطتين في الغرب يتجلى في فرض الضرائب وجبايتها: "فللدولة" ضرائب، و"للكنيسة" ضرائب أخرى. والسلطة التنفيذية لا تتدخل في تشريع ضرائب الكنيسة، وإنما تتدخل فقط في تحصيلها لصالح الكنيسة باسم القانون العام، أو تطبيقا للعهد بين السلطتين.   1 الرسالة السابعة من القسم الرياضي - فصل في مثنوية الإنسان ص169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 إن رجال السياسة في الغرب عامة يعرفون جيدا الثمن الذي دفعوه "للفاتيكان" مقابل تأييده للحلفاء ضد النازية والفاشية في الحرب الآخيرة، ويعرفون جيدا أيضا الثمن الذي يدفعونه الآن لقاء تعضيده مقاومة الشيوعية في العالم المسيحي! وكذا رجال السياسة في كل بلد غربي مسيحي الآن يعرفون متى يحكمون؛ وأنه لا بد لهم من تأييد "الكنيسة" المحلية لحكمهم! والتاريخ السياسي الحديث لم يزل يذكر ثورة الأرجنتين على ديكتاتورها السابق عندما شق عصا الطاعة على رجال الكنيسة الأرجنتينية. ومع أن "مثنوية" الإنسان التي قام عليها الفصل بين الدين والدولة تعتبر فكرة غير سليمة من الوجهة العلمية، وغير عملية من الوجهة التطبيقية, فإن دعاة "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث لا يزالون يرون "الوحدة" في الإنسان وفي القيادة تخلفا؛ لأنها من أصول الإسلام. وبعد أن يفصل كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في أمر الإسلام على أساس "مثنوي"، ويقصر رسالته على ما سماه ولاية القلب، يعود فيصرح بأنه يجب في فهم الإسلام على هذا النحو والحكم عليه بما حكم عليه أن يقتدي بالمسيحية ووضعها، عندما يعترض الإنسان في القرآن أو الحديث الصحيح شأن من شئون الحكم. يقول: "ولقد كان عيسى بن مريم عليه السلام رسول الدعوة المسيحية وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله1. ويوضح المؤلف غرضه في قياس الإسلام على المسيحية عندما يواجه الإنسان فيه بشأن من شئون الدولة فيقول: "تكلم عيسى بن مريم عليه السلام عن حكومة القياصرة، وأمر أن يعطى ما لقيصر لقيصر ... فما كان هذا اعترافا من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شريعة الله، ولا مما يعترف به دين المسيحية، وما كان لأحد   1 المصدر السابق: ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ممن يفهم لغة البشر في تخاطبهم أن يتخذ من كلمة عيسى حجة له على ذلك. وكل ما جرى في أحاديث "النبي" صلى الله عليه وسلم- من ذكر الإمامة والخلافة، والبيعة.. لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه "المسيح" حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر ... فإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذكر البيعة، والحكم والحكومة، وتكلم عن طاعة الأمراء. "الولاة" وشرع لنا الأحكام في ذلك، فوجه ذلك ما عرفت وفهمت"1. ولتأكيد ما ذهب إليه هنا يعقب المؤلف بقوله: "لم يبق أمامك -بعد الذي سبق- إلا مذهب واحد، وعسى أن تجده مذهبا واضحا ... ذلك هو القول: بأن محمد -صلى الله عليه وسلم- ما كان إلا رسولا لدعوة "دينية" خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة. وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم "سياسة" من هذه الكلمة ومرادفاتها.. ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكا، ولا مؤسس دولة، ولا داعيا إلى ملك"2. ويستعرض الكتاب بعض آيات من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 3. وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 4. كما يذكر الكتاب هذا الحديث: "أنتم أعلم بشئون ديناكم" ثم يعلق أخيرا بقوله: "ترى من هذا أنه ليس "القرآن" هو الذي يمنعنا من اعتقاد أن النبي كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية، وليست "السنة" هي   1 المصدر السابق: 18، 19، 21. 2 المصدر السابق: ص55. 3 الفتح: 28. 4 الصف: 7-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وحدها التي تمنعنا من ذلك، ولكن مع الكتاب والسنة، حكم "العقل"، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها.. إنما كانت ولاية محمد -صلى الله عليه وسلم- على المؤمنين ولاية الرسالة، غير مشوبة بشيء من الحكم"1. ومن هذا التعليق يفهم: أن كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" يرى أن الإسلام "دين" بالمعنى المحدد عند المسيحيين الغربيين، أخذا من وصف القرآن له في هذه الآيات بأنه "دين الحق" ... وهكذا يستدل المؤلف على هذه الدعوى. ولكن ترى كيف يكون المعنى، إذا أضيف إلى هذه الآيات آيات أخرى هي من صميم القرآن؟ ومن ذلك مثلا: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 2. وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} 3. ترى أيبقى الإسلام في حدود المعنى الغربي "للدين"، والذي أنس إليه كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هنا في تفسير الإسلام؟! أم يكون تفسير الإسلام الصحيح باعتباره رسالة من السماء، فلا يحكمه سوى كتاب الله، وهو القرآن؟؟ - الآيات التي ساقها الكتاب يؤخذ منها حقا أن الإسلام: هداية، ودعوة وإرشاد. - وفي الآيات الأخرى -التي سيقت هنا الآن- ما يدعو صراحة على أنه أيضا: كتاب للحكم به بين الناس.   1 الإسلام وأصول الحكم: ص90. 2 المائدة: 49. 3 النساء: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 في القرآن ما يفيد أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله كلف بتبليغ رسالته إلى الناس.. كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1. فمهته عليه الصلاة والسلام الآن أن يدعو للهداية والإرشاد، وليس من صميم رسالته أن يحمل على قبول دعوته من يأبى طبعه قبولها، كما يشير إلى ذلك عجز الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} . لكن في القرآن أيضا مثل قوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} 2، فهنا توضح الآية أن مهمته عليه السلام مزدوجة: الدعوة والعدل. - والدعوة: كما تكون بالقول تكون بالعمل. ولذلك طلب القرآن منه عليه السلام الاستقامة في السلوك، والسلامة في الاعتقاد، فقال: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} . - وتحقق العدل لا يكون بمجرد الدعوة إليه؛ بل لا بد مع ذلك من القيام على أمره ومباشرة تنفيذه. ولذا يقول القرآن في مواجهة رسول الله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} بين المؤمنين، إذا كان مبلغا فقط وداعيا فحسب إلى الهداية؟ إن "العدل" قيمة من القيم، وقيمة بين طرفين، وليس لطرف واحد أو من طرف واحد كالقيم الفردية ... هو قيمة جماعية. والقيم الجماعية لا تتحقق بالإرشاد بل بالإلزام، وحكم الجماعة وسياستها ليس أمرا خارجا عن قصد العدل وتطبيقه بين أفرادها بالقهر والإلزام. - فرسالة الإسلام: رسالة تهذيب، وحكم. - ومحمد رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم: مبلغ الرسالة، وقائم على تنفيذ الرسالة.   1 المائدة: 67. 2 الشورى: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 والإسلام "دين" بالمعنى الذي يحدده "القرآن" ... لا بالمعنى "المستورد" من الغرب المسيحي الصليبي. أما حديث: "أنتم أعلم بشئون ديناكم". فهو لا ينحي الرسول من أن يكون قائما على العدل بين المؤمنين، أي: صاحب حكم وتدبير، على نحو ما طلب منه القرآن. إذ هذا الحديث قيل بمناسبة "تأبير النخل" وتلقيحه والنخل والعناية بثمره أمر محلي يخضع لتجربة القوم الذي يحفلون ويعنون به، وليس أمرا يحتاج إلى مبدأ عام تأتي به رسالة السماء، ويكلف الرسول بتبليغه للناس جميعًا. والقرآن نفسه -بعد العبادات التي حددها، وبعد مبادئ المعاملات العامة التي أوصى بها- ترك للمؤمنين به المجال لإبداء الرأي وتبادله في شئونهم وفي مدى انطباق هذه المبادئ عليها، وعدم قيام المؤمنين بالنزول في هذا المجال أمرا يحسب لهم في الجزاء، كقيامهم بالواجبات والوصايا التي وجههم للعمل بها. يقول تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} ، {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ، {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} ، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 1. وهذا النهج من القرآن يساير طبيعة الأمور وسنة الحياة.   الشورى: 36-38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" -بعد هذا- استمد تحديده للإسلام كـ"دين" من فكرة الفصل بين الكنيسة والدولة في الغرب، دون أن يستشري في هذا التحديد بادئ ذي بدء: مصدره الأول، وهو "القرآن" وكتاب "الخلافة"1 للمستشرق الإنجليزي "توماس أرنولد" الذي كتبه عقب الثورة الكمالية في تركيا تمجيدا لهدم الخلافة وإبعاده الإسلام عن مجالات الحياة العامة في تركيا، ومن المصادر الموجهة للكتاب الذي نحن بصدده في التجديد في الفكر الإسلامي، عند تحديد طبيعة الإسلام كدين لا دولة. ليس في الإسلام سياسة، وما فيه من سياسة لا يتصل بالدين: وإذا كان كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" لا يرجع إلى القرآن في بدء الأمر عند تحديد طبيعة الإسلام، واقتنع من قبل الدخول في البحث بما حدده به مصدر أجنبي عنه، فإنه سيسلك طريق "التأويل" حتما لما يواجهه في القرآن من آيات تثير الشك فيما اقتنع به من قبل. وقد يكون "التأويل" عبارة عن إنكار لما يفهم من اللغة بطبيعتها، وقد يكون مرة أخرى محاولة للجمع والتوفيق بين الجانبين: جانب أن الإسلام فيه سياسة وحكم، وجانب أنه "دين" فقط ... وهذا هو ما جرى عليه الكتاب. فالمؤلف يقول: في تصوير "النمط الأول" من التأويل، وهو "الإنكار": إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي ولا من أنظمة الدولة المدنية. وهو بعد، إذا جمعته، لم يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين. "إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير1 وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى عنا، وسيان أن يكون   1 Thomas W. Arnold طبع أكسفورد سنة 1924. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 منها البشرية مصلحة مدنية أو لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول"1. فهذا النص: - في الفقرة الأولى منه يدفع: أن الأنظمة التي جاء بها الإسلام لها صلة بأساليب الحكم السياسي. - لكنه في نفس الفقرة يقر من جديد بأنها من أساليب الحكم السياسي، ولكن مجموعها ضئيل إذا قيس بما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين. والفقرة إذن صدرها يناقض عجزها.. وتنحل العبارة إلى الوضع التالي: - أنظمة الإسلام وقواعده ليس فيها قليل ولا كثير يتصل بالسياسة. - ما في الإسلام من نظم سياسية جزء يسير مما تحتاجه الدولة! والفقرة الثانية من هذا النص تعني أن ما في الإسلام من عقوبات ومعاملات هي لمصلحة البشر الدينية، ولم تقصد منها المصلحة المدنية. ترى ما هي "المصلحة الدينية" من العقوبات والمعاملات؟؟ وما هي "المصلحة المدنية" من العقوبات والمعاملات؟؟ هل ما يوضع من حدود في العقوبات، وتشريع في المعاملات، لم يقصد به سوى تمكين الأمن والاستقرار.. تمكين العدل في تبادل المصالح بين الأفراد، الذين وضعت لهم العقوبات وشرعت لهم المعاملات؟؟ إن هذه الفقرة الثانية -كعجز الفقرة الأولى- اعترفت بوجود النظم السياسية في الإسلام، ولم تستطع أن تواجه الإسلام بإنكار هذه النظم فيه كلية ... ولكي ينسجم الرأي في الكتاب الكله، حملت هذه النظم على أنه   1 الإسلام وأصول الحكم ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قصد بها أن تكون شرعا دينيا خالصا لله تعالى، ولم يقصد بها مصلحة البشر المدنية. والفرق بين المصلحتين شيء لم يستطع الكتاب، بعد ذلك أن يوضحه. ففي هذا النص جميعه نرى: -إنكارا كليا لوجود نظم سياسية في الإسلام. - ثم نرى بعد ذلك اعترافا بوجودها ولكن مع ضالة كميتها. - ثم نرى ثانية حملا لها على أنها لله وليست للدنيا! ويأتي النص التالي، وهو ما يمثل "النمط الثاني" ... نرى حملا لهذه النظم السياسية من جديد على أنها "للدنيا" ... وليست لله. يقول: "الخلافة" ليست في شيء من الخطط الدينية! كلا، ولا "القضاء" ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها! فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة، كما أن تدبير الجيوش الإسلامية، وعمارة المدن والثغور، ونظم الدواوين لا شأن للدين بها"1. وبهذا النص مع سابقه.. يوضح كتاب "الإسلام وأصول الحكم" المعنى الآتي: - ما جاء في الإسلام لا يتصل بالسياسة. - وما كان فيه من سياسة لا يتصل بالدين. فهو ليس فيه "سياسة" ... وفيه "سياسة" في الوقت نفسه!! وإذن أي شيء هو الإسلام؟؟ ليس "سياسة" ... وليس "دينا".   1 المصدر السابق ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ولكن مرد هذا الاضطراب، وسبب هذا الاضطراب هو في قبول فكرة الغرب أولا، ثم محاولة إخضاع الإسلام لها. الزعامة النبوية: ويبدو لأول نظرة أن التعبير بـ"الزعامة النبوية" مستحدث في اللغة العربية. وهو فعلا جديد فيها، ولكنه في واقع الأمر بديل عن تعبير آخر هو "صاحب الحكومة الدينية" الذي يردده المستشرقون في وصفهم للرسول. فالمستشرق جب "Gibb"، كما ذكرنا هنا قبلا1 يقول: "إن هناك حقيقة واحدة مؤكدة "في تاريخ محمد" وهي أن الدافع له كان دينا على الإطلاق، فمن بدء حياته، كداع، كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث، وحكمه عليها، نظرة تأثر بما عنده من: صورة عن الحكومة الدينية، وأغراضها في عالم الإنسان. ويعلل جب انطباع صورة الحكومة الدينية وأغراضها في عالم الإنسان في نفس الرسول -صلى الله عليه وسلم، بجو مكة السياسي والاقتصادي والديني، وما فيه من زعامة تقوم دعامتها السياسية على صيانة المقدسات الدينية في مكة وما حولها2! والرسول في نظر جب -كبقية المستشرقين- إنسان سعى إلى "الزعامة" في مكة، عن طريق استغلاله قيم المقدسات الدينية لدى الشعب المكي، فقد كان يبغي حكومة ويبغي زعامة، ولكنه لم يستطع أن يغفل شأن الجو الديني، إذ ذاك، فأعلن حكومة دينية وهو بالمدينة بعد هجرته من مكة إليها ... من أجل ذلك غزا وحارب، وعاهد وتخالف. فالدراسات الإسلامية في "الاستشراق": - تعيب الإسلام كـ"دين" لما جاء فيه من نظم سياسية.   1 راجع ص164 من هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث". 2 راجع صفحات 161، 163 من هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 - وما وضعه من مبدأ "الجهاد" خاصة لصيانة الجماعة الإسلامية. - وهذه الدراسات تفسر الإسلام لذلك على أنه "حركة إصلاحية إنسانية". - وبالتالي تفسر هذه النظم السياسية فيه على أنها "خارجة" عن نطاق الدين. وليست من طبيعته. وكتاب: "الإسلام وأصول الحكم" يرغب في أن يتفق مع هذه الدراسات على أن هذه النظم السياسية خارجة عن نطاق الدين، وليست من طبيعته، ولكنه لا يبرر أخذ النبي بها في تدبير أمر جماعة المؤمنين بأنه لم يكن صاحب دين سماوي، أو بأنه كان فقط صاحب حركة إصلاحية إنسانية كما يشرح المستشرقون.. إنه يريد أن يبقى للإسلام صفة "الدين" ثم ينزع منه سمة القوة والحكومة والنظم السياسية، ويجعلها ملحقة بالدعوة الدينية على أنها من مستلزمات ما سماه: "الزعامة النبوية" ... وهنا إذن فرق بين "الدعوة الدينية" و"الزعامة النبوية" على نحو ما يسأل الكتاب ويجيب. يقول: "فهل كان تأسيسه -صلى الله عليه وسلم- للمملكة الإسلامية, وتصرفه في ذلك الجانب خارجا عن حدود رسالته -صلى الله عليه وسلم، أم كان جزء مما بعثه الله له وأوحى به إليه. "فأما أن المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو مع ذلك رأي صالح لأن يذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفرًا وإلحادًا"1. ولكن، ترى هذه المملكة، أو هذه "الزعامة الدينية" التي تخرج عن نطاق الرسالة، وتخرج عن نطاق الوحي الإلهي.. هل كانت ضرورة لصالح الرسالة، أو هي ضرورة لإقامة حكم وتثبيت دولة سياسية "دنيوية"؟؟   1 الإسلام وأصول الحكم ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 شأن الكتاب هنا كشأنه فيما سبق، عند الحديث عن أن الإسلام "ليس فيه ما يتصل بالسياسة". إذ له موقفان متقابلان، أو له على هذا السؤال جوابان متغايران تغايرا واضحا. - فمرة يقبول: "فقد غزا -صلى الله عليه وسلم- المخالفين لدينه من قومه العرب، وفتح بلادهم، وغنم أموالهم، وسبى رجالهم ونساءهم. ولا شك في أنه -صلى الله عليه وسلم- قد امتد بصره إلى ما وراء جزيرة العرب، واستعد للانسياب بجيشه في أقطار الأرض، وبدأ فعلا يصارع دولة الرومان في الغرب, ويدعو إلى الانقياد لدينه: كسرى الفرس في الشرق، ونجاشي الحبشة، ومقوقس مصر. "وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله. وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان، وتوسع الملك"1. فـ"الجهاد" الذي هو مظهر القوة والسلطة، أو بعبارة أخرى: الجهاد الذي هو شعار حيوية2 الجماعة، يفسر هنا على أنه كان وسيلة التوسع في الملك وتثبيت السلطان. وهو إذن من لوازم الدولة وسياستها التوسعية، ولا شأن له بالدين. "إذ لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله". ويزيد الكتاب هذا الأمر -أي: القول بأن "الجهاد" ليس من خصائص الرسالة الإلهية أيا كانت -إيضاحا بنص آخر: "وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلا حمل الناس على الإيمان بالله بحد السيف ولا غزا قوما في سبيل الإقناع بدينه! وذلك هو بنفس المبدأ الذي يقرره -صلى الله عليه وسلم- وفيما كان يبلغ من كتاب الله.   1 المصدر السابق 52. 2 يقول الزهاوي الشاعر: كتب الفوز بالبقاء على الأر ... ض لناس تدججوا للنضال لم يفز بالسلام إلا أنا ... س قد أعدوا سلاحهم للقتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 "وإذا كان -صلى الله عليه وسلم- قد لجأ إلى القوة والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، ولا تقوم حكومة إلا على السيف وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم هو سر "الجهاد" النبوي ومعناه"1. - ومرة أخرى ترى المؤلف على الضد من ذلك يذكر: "لا يريبنك الذي ترى أحيانا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم، فيبدو لك كأنه عمل حكومي ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يلجأ إليها تثبيتا للدين، وتأييدا للدعوة! وليس عجيبا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل، هو وسيلة عنيفة وقاسية.. ولكن ما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان، وربما وجب التخريب ليتم العمران"2. فهنا لم يكن الجهاد لتأييد ملك ولا حكومة، ولا لتثبيت دولة، بل كان: "تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة". وسر هذا التضارب هنا، هو سره فيما سبق. قبول لرأي غريب عن طبيعة الإسلام، ثم محاولة بعد ذلك لإخضاع الإسلام لهذا الرأي الغريب المتنافر. خصائص الزعامة النبوية موقوته بوقتها: وسواء أكانت مظاهر الحكم والسياسة -ومنها الجهاد- من وسائل توسيع الملك وتدعيم شأن الدولة، أو لتثبيت الدين وتأييد الدعوة، فهي في نظر كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" موقوتة بوقت الرسول، وقاصرة على شخصه لا تتعداه إلى من يخلفه في الجماعة الإسلامية بعده!! ثم ليس هناك أيضا من داع وسبب بعد وفاته، لأن تكون للمسلمين دولة وحكومة.   1 المصدر السابق ص53. 2 المصدر السابق ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 إذ القرآن لم يدع إلا إلى وحدة في الدين، دون وحدة في الدولة، لم يدع إلا إلى رباط القلب, دون رباط السلطان، وتكتل الجماعة، وتزايد العلاقات. "الإسلام دعوة دينية إلى الله تعالى، ومذهب من مذاهب الإصلاح لهذا النوع البشري، وهدايته إلى ما يدنيه من الله جل شأنه، ويفتح له السعادة الأبدية التي أعدها الله لعباده الصالحين، وهو وحدة دينية، أراد الله جل شأنه أن يربط بها البشر أجمعين"1. وحكمة هذا التوقيت -كما ذكر الكتاب: "أن مقام الرسالة يقتضي لصاحبه سلطانا أوسع مما يكون بين الحاكم والمحكومين، بل أوسع مما يكون بين الأب وأبنائه، قد يتناول الرسول من سياسة الدولة مثل ما يتناول الملوك، ولكن للرسول وحدة وظيفة، لا شريك له فيها. "من أجل ذلك كان سلطان النبي -صلى الله عليه وسلم، بمقتضى رسالته سلطانا عاما، وأمره في المسلمين مطاعا، وحكمه شاملا، فلا شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا نوع من الرياسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية النبي -صلى الله عليه وسلم- على المؤمنين ... ذلك سلطان ترسله السماء من عند الله على من تنزل عليه ملائكة السماء بوحي الله"2. كما يذكر المؤلف: "تلك زعامة كانت لمحمد بن عبد الله بن عبد الملطب الهاشمي القرشي، ليست لشخصه ولا لنسبه؛ ولكن لأنه رسول الله ... فإذا ما لحق عليه السلام بالملأ الأعلى، لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني"3. وهذه النصوص مع كونها تفيد أن مظاهر الحكم في الإسلام قاصرة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تفيد أيضا أن مظاهر الحكم والسلطان، ونظم الدولة والسياسة، مصاحبة لكل رسالة دينية، ولكنها فقط وقف على الرسول المرسل: تلغى بعد وفاته ولا يتمتع بها شخص آخر سواه! 1 وما تفيده النصوص على هذا النحو يؤكده نص آخر هنا:   1 المصدر السابق ص77. 2 المصدر السابق ص66-68. 3 المصدر السابق ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 "طبيعي معقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية, وأم الذي يمكن أن يتصور ويوجد بعد ذلك. فإنما هو نوع من الزعامة جديد، ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين.. هو إذن نوع لا ديني. "وإذا كانت الزعامة لا دينية، فهي ليست شيئا أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية ... زعامة الحكومة والسلطان، لا زعامة الدين، وهذا هو الذي كان"1. والسؤال الذي يتردد الآن، بعد عرض هذه النصوص ومقابلة بعضها ببعض: أي حال يكون بعد وفاة الرسول؟ أتلغى النظم العامة للحكم، وقواعد السياسة؟ إن كانت الأولى ... فلم كانت ملحقة بالرسالة الإلهية؟ وإن كانت الثانية.. فأي فرق بين عهد الرسول -وقد وقع فيه اجتهاد إنساني في تطبيق تلك النظم والقواعد، وبين عهد من يكون بعده- وسيقع فيه أيضا اجتهاد إنساني في تطبق تلك النظم والقواعد؟؟ ربما يكون الفرق في أن عهد من جاء بعد الرسول سيتأسى بعهد الرسول في التطبيق: أسسه وكيفيته. ولكن مع ذلك كلا العهدين فيه رسالة دينية, وفيه أيضا عمل بشري داخل إطار هذه الرسالة. ثم إن كانت هذه النظم من ملحقات الرسالة والدعوة الدينية، وهي "سلطان ترسله السماء من عند الله، على من تنزل عليه ملائكة السماء بوحي الله"، تثبيتا للدعوة وتأييد للرسالة ... يصح أن يسئل الآن: أهي نظم تنسجم مع طبيعة الإنسان كإنسان في توجيهه وقيادته للتهذيب وفعل الخير، وربط أفراد الإنسانية بعضهم ببعض؟ أم ترى يكون تأثيرها على الإنسان في توجيهه وقيادته قاصرا على عهد الرسول وعلى شخصه، وعندما تنجح تكون نتائج تطبيقها في قبول الدعوة معجزة للرسول؟؟ ولكن لم يكن قبول دعوة أي رسول من المؤمنين لما جاء به "معجزة" له، خاصة به؟! لو صح هذا الزعم لما كان لمدلول الآية الكريمة الآتية معنى يقع ويتحقق يوما ما. وهي: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. فإن القرآن لا يطلب من جماعة المؤمنين الدعوة   1 المصدر السابق ص9. 2 آل عمران: 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باستمرار في كل جيل، إلا إذا توقع أنهم يصادفون نجاحا.. ومع ذلك هم ليسوا رسلًا. إن النظم السياسية التي طبقها الرسول في تأييد دعوته هي من النظم التي تنسجم مع طبيعة الإنسان، وطبيعة الجماعة الإنسانية، وطالما كان هناك "اجتهاد" ومحاولة بشرية في فهم هذه النظم تحت تأثير الأحداث والظروف وفي تطبيقها، فالتفرقة: بأن لهذه النظم الصبغة الدينية في عهد الرسول، والصبغة المدنية في عهد من بعده، تفرقة فيها غموض ولبس. وربما نجد توضيح هذه التفرقة الغامضة فيما يقول به المستشرقون من أن كثير مما جاء به الإسلام على عهد الرسول لا يصلح للتطبيق بعد حياته في جماعة المسلمين ويجب أن يقصر اعتباره على عهده ووقته فقط.. فالمستشرق الإنجليزي جيوم Alfred Guillame في كتابه "الإسلام" يقول: "كل مسلم يعلم أن كثيرا من القرآن جاء للوجود كي يلتقي مع بعض أزمات معينة، أو لأحوال مؤقتة في حياة محمد! لكن من هو الذي يعلم أن الواجبات والمحرمات والمكروهات التي جاءت في الإسلام مقصود أن تساس بها حياة الملايين "بعده"، كي تظل تعيش في أوضاع لا تتصور، وهي أوضاع القرن السابع الميلادي"1. فكتاب: "الإسلام وأصول الحكم" قد تقبل مثل هذا الرأي, سواء في هذه العبارة أو في عبارة أخرى، وحاول أن يبررها في صورة مقنعة.. فكان هذا الإيهام، أو هذا الخلط, الذي رأينا. وحدة الدين لا وحدة الحكومة: والآن، بعد عرض فكرة الكتاب الأصلية، وهي إلغاء جزء من رسالة الإسلام، وهو ما يتعلق بالجماعة الإسلامية في تكوينها، وربط بعضها ببعض وصيانة قوتها والحرص على إيقاظ وعي المقاومة فيها، وهو وعي الجهاد، يبرز الكتاب مرة أخرى فكرة: أن الإسلام لا يحفل بالجماعة ونظامها، بل يعني بوحدة القلب، وهو ليس دينا للجماعة، وإنما هو دين لمجموعة من   1 صفحة: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 البشر! وليس من المعقول لدى هذا الكتاب أن تكون هناك جماعة إسلامية لها سياسة واحدة، ولكن من المعقول أن تكون هناك وحدة دينية. "معقول أن يؤخذ العالم كله بدين واحد، وأن تنتظم البشرية كلها وحدة دينية.. فأما أخذ العالم كله بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة، فذلك مما يوشك أن يكون خارجا عن الطبيعة البشرية، ولا تتعلق به إرادة الله! على أن ذلك إنما هو غرض من الأغراض الدنيوية، التي خلى الله سبحانه وتعالى بينها وبين عقولنا، وترك الناس أحرارا في تدبيرها، على ما تهديهم إليه: عقولهم وعلومهم، ومصالحهم، وأهواؤهم ونزعاتهم"1. وعندئذ.. "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية"2. أي للمسلمين أن يتخيروا أي نظام لحكمهم. لهم أن يتخيرو نظام الحكم: المطلق أو المقيد، الفردي أو الجمهوري، الاستبدادي أو الشوري، الديمقراطي أو الاشتراكي، البلشفي أو الشيوعي. "إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة، كان صحيحا ما يقولون: من أن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع: مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية، أو بلشفية"3. ولقارئ هذه النصوص أن يسأل الآن: كيف يمكن إقامة الشعائر الدينية "الإسلامية أو غيرها" في ظل حكومة تخضع للهوى والنزعات، وفي حكومة بلشفية لا دينية, وفي ظل حكومة إلحادية مادية؟؟   1 الإسلام وأصول الحكم ص78. 2 المصدر السابق ص103. 3 المصدر السابق ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إن القرآن يقول في توجيه أمر الله إلى المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} 1. ويزيد على ذلك فيطلب القرآن منهم مقاومة الإلحاد والملحدين وأهل الأهواء والنزعات: إذ يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} 2. إن إقامة شعائر المؤمن لا تؤدي إلا في ظل رعاية مؤمنة بالله، وأن تماسك المؤمنين لا يقوى إلا في ظل سياسة موحدة متجانسة، وإن وعي الأفراد بجماعتهم لا ينشأ ولا يبقى إلا تحت حماية ودفع لهذا الوعي الجماعي، وذلك لا يكون إلا إذا كان الإشراف العام في الجماعة يصدر عن العوامل المشتركة في هذا الوعي بين الأفراد جميعا. واليوم يسعى العالم إلى "حكومة عالمية" ولا ينكر أحد عليه هذا السعي، اليوم تقترب الثقافات والجماعات والطوائف، ولا ينشد أحد من بين هذه الجماعات والطوائف أن يقف في سبيل هذا التقريب، فإذا جاء الإسلام بوحدة في الرباط والنظم والقواعد لجماعته المؤمنة، أنكر فريق من المسلمين عليه ما جاء به في هذا الجانب.. باسم التجديد، والحضارة، ورغبة في اللقاء مع الأمم المتمدينة في صعيد واحد. ولكن -كما ذكرنا- أن "تجديد" الشرق في الفكر الإسلامي الحديث هو تقليد لفكر الغرب في القرن التاسع عشر.. تقليد لفكر إنساني انكشف ضعفه، وهواه وعصبيته، وانتهى أجله واعتباره. إنه الشرق يستورد ... ولا يخلق؟؟ هل نرجو الآن أنه قد وعى، وسيخلق يبني، ثم يرود لغيره كما كان يفعل؟؟   1 النساء: 144. 2 التوبة: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الدين خرافة : فكرتا. "بشرية القرآن".. و"الإسلام دين لا دولة" تمثلان اتجاه الاستشراق الغربي ونفوذه في تفكير "المجددين" في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث. منذ بداية القرن العشرين؟ وهما فكرتان ينصب أثرهما السلبي على الإسلام وحده، دون المسيحية أو اليهودية ... وهذه هي ظاهرة الاتجاه الاستشراقي في تفكير الغربيين؟ أما الاتجاه الآخر في تفكير الغرب في القرن التاسع عشر, الذي تسرب نفوذه إلى الشرق في صورة "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث أيضا, فهو التفكير "الوضعي" أو "المادي" الذي انتهت قمته أو انتهى غلوه إلى تفكير "الشيوعية" ... وهو تفكير انبثق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأصبح بعد الحرب العالمية الثانية يتصارع في عنف مع "الديقراطية" الغربية من جانب، و"الأديان" جميعا من جانب آخر. وسنعرض من هذا الاتجاه الأخير، لمشكلتين أو لفكرتين أخذتا طابع الرواج في الشرق في الفكر الإسلامي الحديث، منذ نهاية هذه الحرب العالمية الثانية: - المشكلة الأولى "خرافة الميتافيزيقا": وتتضمن خرافة الدين، وإنكار قيمته في التوجيه ... وهي وليدة الفكر المادي السابق على ظهور الشيوعية. - والمشكلة الثانية " الدين مخدر ": وتتضمن مطاردة الدين وإبعاده عن مجال الإنسان والجماعة، "والدين مخدر" هو شعار الشيوعية أو الماركسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فيرجع إلى ما يسمى "المذهب الاسمي". - وإلى مذهب يعرف "بالمذهب التجريبي". المذهب الاسمي: Nominalism أما "المذهب الاسمي" فهو مذهب فلسفي، يرى أن "العبارات العامة" وهي العبارات الدالة على الأنواع والأجناس -كعبارة "الوجود" ... و"الإنسان".. و"الحيوان" مثلا- ليست إلا ألفاظا فقط، لا تحمل مدلولاتها طابع الواقعية، هي أسماء تستخدم كرسوم للأشياء وخصائصها، وليس هناك -خارج التصور الذهني لها- شيء موضوعي حقيقي يشار إليه، وذلك على عكس العبارات الدالة على الأفراد وهي أعلام الأشخاص، فإنها تدل على حقائق في الخارج وعلى أمور واقعية يمكن الرجوع إليها بطريق الحواس، ويشار إليها على أنها هنا أو هناك. ويرجع هذا المذهب الاسمي -في نواته الأولى- إلى الفيلسوف أنتيستنيس Antisthenes الذي عاش في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد "444-368 ق م" وتتلمذ على السوفسطائي جورجياس Gorgias، ويعتبره مؤرخو الفلسفة في ثورته على الدين المتوارث والتقاليد الإغريقية -وهي تقاليد الأمة التي نشأ فيها: "روسو" Rousseau العصر القديم. وكان أنتيستنيس هذا يدعو إلى القناعة، ويطالب بالرجوع إلى بساطة الطبيعة، ويرفض الدين الوراثي في ذلك الوقت، كما يرفض الدولة الوراثية، و"الحكيم" في نظره هو من ليس مواطنا في دولة معينة، بل هو مواطن عالمي، أما رأيه في الوجود فهو رأي أصحاب المذهب المادي Materialism1.   1 المذهب المادي: يعتبر المادة جوهر العالم، ويعتبر المظاهر النفسية والفكرية ناشئة عنها. والأخلاق في نظره يجب أن تهدف إلى المتعة الحسية في الآن الحاضر، وإلى تحصيل الطيبات الحسية فقط، أما القيمة المثالية فيجب أن تحتقر، والطيبات المادية هي أساس الحياة= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وعقب أنتيستنيس الفيلسوف الإغريقي، جدد روسلينوس فون كومبين Roscellinus von Compiegne مذهبه هذا في القرن الحادي عشر الميلادي "1050- 1120م" على عهد "المدرسيين" في آواخر القرون الوسطى. وفي القرن الرابع عشر دافع ويلهلم فون أوكام Wilhelm von Occam "1270- 1347م" عن هذا المذهب الاسمي دفاعا حارا، وأرجع المعرفة الإنسانية كلها إلى التجربة الحسية أو النفسية، وليس إلى ما وراء الطبيعة مما يسمى بالرسالة الإلهية أو الفلسفة الميتافيزيقية ... على معنى أن الوجود المشاهد هو مصدر المعرفة الصحيحة، وكذلك ما تحصله النفس وما يقوم بها عن طريق الاتصال بهذا الموجود المحس مصدر صحيح أيضا للمعرفة، أما ما يتلقاه مما وراء الطبيعة، من ذلك العالم الخفي الذي لا يرى ولا يحس فليس مصدرا للمعرفة وعلى الأقل ليس مصدرا للنوع اليقيني منها. ولهذا يرى "أوكام": أن من غير الممكن معرفة الله معرفة يقينية عن طريق النظر العقلي، أو أن إقامة دليل على وجوده من هذا الطريق، وليس على الإنسان إلا أن يؤمن فحسب بالله؛ لأنه حصر إمكان المعرفة الإنسانية فيما يخضع للتجربة الحسية أو النفسية، ويقصد بالتجربة النفسية ما تتلقاه النفس من عالم التجارب الواقعية، وهو عالم المحسوسات، ومع ذلك يفرق "أوكام" بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية "الميتافيزيقية" عند نقده للميتافيزيقا، فلا يستهجن الحقيقة الدينية ولا يمسها أيضا مسا مباشرًا بقدر ما يستخف بتلك الحقيقة الفلسفية.   = الثقافية، والذي يفقدها عليه أن يشغل نفسه مع شيطان القيم المثالية وشعار هذا المذهب: "البطن قبل الروح". أما المذهب المادي التاريخي: فيرى أن الاقتصاد هو المبدأ المحدد والمقدر في الحياة الإنسانية، حتى الثقافة العقلية والقيم غير المادية! وطريقة الإنتاج في الحياة المادية تحدد بوجه عام تطور الحياة الاجتماعية، والسياسية, والعقلية، وليس عقل الإنسان هو المحدد لوجود الإنسان، بل الوجود الجماعي هو المحدد لعقله ... كما سيأتي تفصيله في فكرة "الدين مخدر" عند الحديث عن الشيوعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وعرف "أوكام" بمكافحته للسلطة الزمنية "السياسية" التي يمارسها البابا، ولما ينسب إليه من عصمة لا تقبل النقض في القول والعمل، أي: لا تقبل الخطأ على الإطلاق. واستطاع المذهب الاسمي -ذلك المذهب الذي يرى في العبارات الدالة على الأنواع والأجناس مجرد رسوم وشعارات- أن يسود بالتدريج، ويشق طريقه في القرون التالية للقرن الحادي عشر حتى عصر "كانت" وذلك بفضل مجهود "أوكام" وحده. فلما جاء "كانت" في القرن الثامن عشر، ساق في كتابه، "نقد العقل الخالص" تشبيه "العبارة" مطلقا بورق النقد، وجعل ضمانها: "المحسوس" المشاهد، فالعبارة التي ليس لها هذا الضمان المحسوس -وهي العبارة الدالة على النوع أو الجنس- تكون في نظره عديمة القيمة. أما العبارة التي تدل على الفرد وهي كذلك الدالة على الشخص فلها قيمتها واعتبارها؛ لأن المحسوس المشاهد عندئذ يمكن أن يشير إلى مضمونها، وإلى ما تدل عليه، يقول Schulze في ذلك، متأثرا بـ"كانت": إن أسماء الجنس والنوع هي كلمات تحمل ما لا يقوم الدليل عليه. فهذا "المذهب الاسمي" بحث من بحوث "المنطق" إذن، يفرق في دلالة الألفاظ بين ما تدل عليه في الخارج مما يحس، وبين ما يبقى متصورا ذهنيا فحسب. وهو يفرق بين الألفاظ الدالة على الأنواع والأجناس من جانب، والأخرى الدالة على الأشخاص من جانب آخر. - ولفظ "الله": لا يدل على نوع ولا على جنس ولا على شخص محدد يدرك بالحس؛ لأن مدلول لفظ الجلالة لا يصدق على كثيرين حتى يكون جنسا أو نوعا. - ثم هو لا يدل على شخص يشار إليه في الحس والمشاهد ويقال عنه: هذا هو الله، وإن كان يدل على فرد لا شريك له. وهو إذن خارج عن بحث "العبارة" في بحوث المنطق. ولذلك يعقب أصحاب "المذهب الاسمي" فيما يتصل بالله- بأن مجال الله هو الإيمان والاعتقاد، وليس البحث العقلي الجدلي الإنساني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 قال بذلك "أوكام" وقال بذلك "كانت" ويقصد "أوكام" في تفرقته بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية "الميتافيزيقية": أن تكون الميتافيزيقا مجال التطبيق لفكرته "الاسمية" أولا وبالذات. 2- المذهب التجريبي Empirieism: وأما "المذهب التجريبي" فيرى أن تحصيل الإنسان للحقائق الكونية ومعرفته بها لا يكون إلا بالتجربة الحسية وحدها. ومعنى ذلك أن الحس المشاهد -لا غيره- هو مصدر المعرفة الحقيقية اليقينية: ففي العالم الحسي تكمن حقائق الأشياء، أما انتزاع المعرفة مما وراء الظواهر الطبيعية الحسية، والبحث عن العلة في هذا المجال، فأمر يجب أن يرفض، ولهذا تكون كل نظرية أو كل فكرة عن وجود له طابع الحقيقة واليقين- فيما وراء الحس- نظرية أو فكرة مستحيلة. هذا هو تقدير "المذهب التجريبي" للمصدر الذي تستقى منه "الحقيقة" أما موقف هذا المذهب من "العبارات" على وجه العموم، فيرى أنها لا توجد ولا تنشى معرفة للأشياء على حقيقتها، ولا عن خواصها التي لها، إذ هي بعيدة الصلة عن ذلك. ولذا لا تقول إلا بما نحسه فقط، وبالشبه الذي يكون بين الأشياء بعضها وبعض. وهذا المذهب عرف به في القرن الثامن عشر: الفيلسوف الاسكتلندي: "هيوم" Hume "1711 - 1886". أما عمل العقل في نظره فهو وقف على ما تأتي به هذه الحواس والتجارب: ليس له من عمل سوى أن يربط بين ما تأتي به هذه الحواس والتجارب، وهي المدركات الحسية أو صور المفردات في العالم الخارجي. وقد يغير العقل في وضع هذه الصور في نفسه عن وضع أصولها في الخارج وقد يوسع أو يقلل في الصور نفسها التي هي التجارب والمدركات المحسوسة. ولكنه على أي حال لا يخرج عن دائرتها. وبهذا العمل العقلي تنشأ الأفكار، ومن بينها فكرة: "الله". فالعقل يحصل فكرة "الله" في نفسه، في الوقت الذي يرتفع فيه عن حدود الخصائص الإنسانية كلها من الحكمة والخير، أي: إذا أدرك من تجاربه خيرا للإنسان وحكمة له، فإنه ينتقل من هذا الخير الإنساني والحكمة الإنسانية- متجاوزًا الدائرة الإنسانية كلها- فيدرك مطلق الخير ومطلق الحكمة، وذلك هو فكرة الألوهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 والرابط بين الأفكار على هذا النحو في نظر "هيوم" يمكن أن يتأتى بواسطة العقل والعمل الفكري وحده، بغض النظر عن الوجود "الخارجي" وهو الوجود المحس المشاهد. أما الأسباب والمسببات -في مقابل هذا- وهي التي تتصل بالأشياء الواقعة فلا يمكن أن تعلم بواسطة العقل، بل تتم معرفتها بواسطة التجربة وحدها، ومن هنا ليس هناك -في نظره- معرفة في الأزل أو فيما وراء التجربة والحس لها الطابع العلمي، ومعنى ذلك أن التفتيش عن "علة" وراء هذا الوجود المحسوس لهذا الوجود المحسوس نفسه، لا يقوم على طريق علمي، أي: طريق تجربي, بل يقوم على طريق عقلي تصوري، كطريق "الربط" بين الأفكار، أو عن طريق "الوحي" والإيمان أي: طريق الدين. وغاية المعرفة الإنسانية عنده -لهذا- هي تحصيل علل الظواهر الطبيعية، وترتيب آثارها في دائرة قليلة من العلل العامة، أما محاولة كشف علل أخرى لهذه العلل العامة أو كشف علة واحدة عامة مشتركة لها فمحاولة غير مجدية "من الطريق الإنساني"، أي: لا يصل إليها الإنسان وصولا علميا يقينيا. والقول بأننا ننتظر من العلل المشابهة آثارا متشابهة، يرجع إلى العادة التي ألفناها والتي تحولت إلى اعتقاد جازم، ولا يرجع إلى القياس العقلي أو إلى المعرفة الأزلية السابقة. والحقائق الدينية لا يمكن إذن أن تعلم أبدا عن طريق الإنسان، سواء بعقله أو حواسه، وإنما يصدق الإنسان بها فقط. هذا المذهب التجربي -كما ذكرنا- عرف به "هيوم" في القرن الثامن عشر، ولكن نواته وجدت في القرن الخامس قبل الميلاد عند الفيلسوف الإغريقي بروتاجوراس Protagoras "480 - 410ق.م" ثم من بعد "هيو" تطور المذهب بعمل الفيلسوف الفرنسي بايل Bayle "1677 - 1706م" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ قد رفض Bayle التعليل العقلي للحقائق الدينية أي: رفض أن يقوم من العقل دليل على وجود تلك الحقائق، وبالأخص على وجود الحقيقة الإلهية، ونال بهذا الرفض من كل معرفة تتجاوز المحسوس ولا تكمن فيه وهي معارف "الميتافيزيقا" كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ثم بعد أن نال من هذه المعارف، طلب في الحياة الأخلاقية أن يحكم الإنسان "العقل" وحده. وبذلك ينكر الإيمان الديني، والذي يعتبره مناقضا للعقل. ولكن أي إيمان ديني أنكره Bayle؟؟ سينكشف فيما بعد أنه الإيمان بالتثليث، أي: إيمان الكنيسة الكاثوليكية، وهو الإيمان الذي يؤسس عليه أن يجمع عيسى في طبيعته بين طبيعتي الإله والإنسان. وقد أثر اتجاه Bayle هذا ضد" الميتافيزيقا" وضد الحقائق الدينية التي وراء العالم المحسوس على السواء في التضييق على المعاني النظرية الصرفة، وبالتالي دفع إلى الحياة العملية "الواقعية" وكان أثر هذا الاتجاه في فرنسا أكثر منه في إنجلترا، وأصبح مفهوم "العلم" في المحيط الفرنسي إذ ذاك مقصوا على التجربة الطبيعية والإنسانية، أي: التي يجربها الإنسان في محيط الطبيعة، دون الحقائق الدينية والفلسفة الميتافيزيقية. ولم يأخذ هذا "المذهب التجريبي" مكانه في تاريخ الفلسفة -كمدرسة- إلا على عهد الفيلسوف الفرنسي "كومت" Comte في القرن التاسع عشر "1798 - 1857" ومنذئذ عرف "بالمذهب الوضعي" Positivism و"أوجست كومت" Aogust Comte: يعتبر إذن المؤسس الأول "للفلسفة الوضعية" Positive Philosophy. وهي الفلسفة التي لا تعتبر شيئا ما "حقيقيا" و"واقعيا" إلا ذلك الموضوع الوضعي، الذي جاء أثرا لتجارب الحس، ويمكن مع ذلك اختباره بالحس. و"المذهب الوضعي" الذي استخلصه "أوجست كومت" من "المذهب التجريبي" السابق عليه، يرى أن الفلسفة يجب أن تجتاز ثلاث مراحل، وتنتقل من واحدة إلى الأخرى، لكي تستقر في المرحلة الأخيرة: - يجب أن تمر في المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي يشرح فيها الإنسان الشيء الطبيعي، ويعلل وجوده ومظاهره من القوى الخارجة عن الطبيعة، وهي القوى الإلهية، أي: من دائرة الدين. - وتنتقل الفلسفة إلى المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي يشرح فيها الإنسان الحياة الإنسانية وقوانينها وأغراضها، من عبارات نظرية تصورية إنسانية، أي: من دائرة الميتافيزيقا، أي: من العقل النظري الخالص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ولكن أي دين وأية عبادة؟؟ - الدين: هو دين "الطبيعة الكبيرة". - والمعبود هو "الإنسانية". وقد كان تفكير هذا المذهب الوضعي، من العوامل القوية في قيام الماركسية و"الشيوعية" فيما بعد. ومن أتباع هذه المدرسة الوضعية "ميل" واسبنسر" و"راسل" Russel في إنجلترا، و"لودفيج فيرباخ" في ألمانيا، مما سلف الذكر. ملخص هذين المذهبين: هذان مذهبان في تفكير القرن التاسع عشر. كلاهما: يبحث في قيمة الميتافيزيقا -كمصدر من مصادر المعرفة- وهي فلسفة ما وراء الطبيعة. فأولهما: "المذهب الاسمي" يجعل "العبارات" التي تدل على الأنواع والأجناس كالوجود، والإنسانية، والعلة ... وغيرها: أسماء وإشارات إلى مدلولات متصورة في الذهن، وليست واقعة في الخارج وبما أن هذه العبارات هي مصطلحات الميتافيزيقا، فالفلسفة الميتافيزيقية ليست مصدرا لمعرفة واقعية، بل مصدر ذلك هو الواقع المحسوس وحده، والوسيلة الى التعرف عليه هي الحواس الخمس. ويلاحظ أن "أوكام" Occam- من عمد المذهب- لا يدخل الحقائق الدينية في الحقائق الميتافيزيقية، ولذا لا يوجه إليها هجوما مباشرًا، بل يفصل بينهما فصلا تاما، وهو إذ يناقش فلسفة ما بعد الطبيعة يناقش صنعة إنسانية، تطلب لنفسها الاعتبار العام فيما تذكره من أفكار وآراء. وهو أيضا إذا يعيب الدين -المسيحي طبعا- لا يعيب الرسالة المسيحية وتعاليمها كما يفهما العقل الصحيح، أو حتى كما تفهمها البروتستانتية، وإنما يعيب ما لحق بهذه الرسالة من سلطة سياسية عليا، وعصمة لشخص الباب -كرئيس للكنيسة الكاثوليكية- في قوله وعمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 كما يلاحظ أن "كانت" الألماني، يشبه العبارات الميتافيزيقة بورق نقد بدون ضمان، ويهدف إلى بيان: أن صنعة العقل الإنساني فيما بعد الطبيعة لا تأتي بيقين واقعي؛ لأن العقل لا يستطيع أن يأتي بيقين إذا اجتاز مرحلة الإنسان ودائرته الحسية إلى دائرة أعلى منها فوقها، وكل ما يأتي به عندئذ لا يخرج عن الظن والتخمين. إذ العقل بحكم أنه محدد: بالبيئة وبالمكان والزمان والثقافة الخاصة، والجو الطبيعي والاجتماعي والسياسي، لا يستيطع أن يأتي بيقين عن الموجود غير المحدود، وهو "الله" فالله مطلق في وجوده، لا تحدده شهوة ولا رغبة، ولا يحدده زمان ولا مكان، ولا شيء مما يحدد به الإنسان. ولذلك لا يستطيع الموجود أن يتصور غير المحدد تصورا تماما، وكل ما يفعله أن يقيس وجوده على وجود نفسه. وذلك ظن وليس بيقين! ومن ثم يطالب "كانت" في فلسفته بإفساح مجال القلب للإيمان وإبعاد العمل العقلي عن مجال الألوهية؛ وليس ذلك لأنه ينكر الألوهية؛ بل لأنه يريد أن يبعد العقل البشري عن الظن والتخمين. وعلى هذا النحو طالب "الغزالي" ومن قبله أبو بكر "الباقلاني" و"إمام الحرمين الجويني" بإبعاد الصنعة العقلية عن مجال الألوهية ووضع الإيمان وتركيزه في القلب، بدلا من تركه في مركز المناقشة العقلية وتشبه حجة هؤلاء العلماء من المسلمين في ذلك حجة "كانت" أيضا، من حيث إن العقل لا يصل إلى يقين فيما بعد الطبيعة، ولذلك كان علم الكلام في نظرهم علما لا ينشئ عقيدة ولا ينمي اعتقادا. وثاني المذهبين -وهو المذهب التجريبي كما تركه "هيوم" وقبل أن يتحول إلى "المذهب الوضعي" الذي تزعمه "أوجست كومت"- لا ينكر الوصول إلى "الله" عن طريق العمل العقلي، وهو العمل القائم على الربط والمشابهة بين الأفكار. وهو ينكر فقط أن تكون للمعرفة فيما بعد الطبيعة ميزة المعرفة الطبيعية في إمكان اختبارها والتثبت منها عن طريق التجربة. نعم، بعد أن تحول هذا المذهب إلى "الفلسفة الوضعية" رغبت هذه الفلسفة الوضعية إلى "البحث الفلسفي" جملة أن ينهى توجيهه. ويبقى في "العلم" وفي الدائرة الإنسانية والطبيعية، إذا طلب لمعرفته صفة الحقيقة واليقين، وعلى الإنسان في سلوكه أن يبتدئ من ذات الفرد، وهي "أنا" ويسير منها للجماعة، وفي عبادته يجب أن يتجه إلى المجتمع والطبيعة الكبرى، دون أن يتجه بها إلى ما وراء الإنسان ووراء الجماعة وهو الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وبالموازنة بين المذهبين "الاسمي" و"التجريبي" نجد أن المذهب الأول وهو "المذهب الاسمي" عبارة عن بحث في الألفاظ والعبارات، وهو بحث منطقي، اتخذ موضوعه مصطلحات فلسفة ما بعد الطبيعة، وأعلام الأشخاص في هذا الوجود المشاهد، ولكنه لم يتجاوز ذلك إلى إنكار الألوهية، بل حرص قادة هذا المذهب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على الاحتفاظ بالإيمان وبالعقيدة.. وإن كان لهم نقد يتعلق بالدين، فهو موجه لما صاحب المسيحية في تطورها، لا للأسس التي تقوم عليها، على أنهم فرقوا في ذات العبارات، بين عبارات الأنواع والأجناس من جانب، وعبارات الأعلام الشخصية من جانب آخر. ولفظ "الله" ليس من عبارات النوعين. خرافة الميتافيزيقا: وهنا في مصر، كان من مظاهر التجديد في الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين ترديد الفكر الغربي في القرن التاسع عشر. ولم يكن الترديد ترديد النافع منه الذي يصح أن يثمر في الجماعة الإسلامية الناهضة، كالفكر العلمي، في مجال التعمير والهندسة ... في مجال الطب.. في مجال الكيمياء ... في مجال الطبيعية أو الرياضة البحتة ... وإنما كان ترديدا لفكر المستشرقين كما رأينا من قبل، أو للفكر المادي على نحو ما نذكر هنا. وعند ترديد هذا الفكر باسم التجديد، قد يردد مشوها أو محرفا كما سنرى، مما يزيد الأمر لبسا، ويدفع إلى الشك السلبي، على نحو ما قيل بين طلاب الجامعة: "الدين إيحاء خرافي". هنا في التعليم الجامعي في بعض كليات الآداب يدرس كتاب "خرافة الميتافيزيقا" ... وهو كتاب منقول من الفكر الأوروبي المادي، الذي أشرنا إليه. هذا الكتاب يصور الهدف الرئيسي منه في العبارة الآتية: "الغاية الرئيسية من هذا الكتاب هي: بيان أن "العبارات" الميتافيزيقية خلو من المعنى، مع تحديد الميتافيزيقا بأنها البحث في أشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 لا تقع تحت الحس، لا فعلا ولا إمكانا؛ لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تدرك بحاسة من الحواس"1. لم يذكر الكتاب في سطر واحد منه، أن المراد من قوله: "البحث في أشياء لا تقع تحت الحس، لا فعلا ولا إمكانا هو "الفلسفة الميتافيزيقية" وحدها دون الحقائق الدينية, كما صرح بذلك مثلا "أوكام" فيما نقلناه عنه من قبل، وبهذا كان يمكن أن يضع أمام قارئه من أول الأمر أنه يهدف إلى مناقشة البحث الفلسفي الإنساني الذي له طابع ما بعد الطبيعة ... أما الدين ورسالته.. أما الإسلام على وجه أخص فأمر آخر. وبذلك يبتعد القارئ عن اللبس، ويصون قدسية الدين، في الوقت الذي يناقش فيه صنعة الإنسان، وهي صنعته الميتافيزيقية. لكن الكتاب ذكر كلمة "العبارات الميتافيزيقية" من غير أن يفرق بين عبارات الأنواع والأجناس من جانب، وعبارت الأعلام الشخصية من جانب آخر، كما صنع أساتذة هذا المذهب فيما عرضنا هنا من قبل. وبذلك لا يعرف القارئ أنه بصدد تحديد ألفاظ، ومدى ارتباطها بمدلولها في واقع الأمر، كما لا يعرف أن اسم "الله" جل جلاله ليس مصونا فحسب عن هذا النقاش، بل لا يدخل في دائرته بحال. إنه يقول: مطلقا بدون تحديد: "العبارة الميتافيزيقة التي تخبرنا عن شيء غير محس عبارة فارغة من المعنى، لسبب بسيط وهو: أنها ليست مما يجيز المنطق أن يكون كلاما على الإطلاق، فمتى يقبل الكلام عند المنطق؟ المنطق يقبل الكلام إذا كان لدى السامع وسيلة لتحقيقه، فإما أن يصدقه بعد التحقيق أو يكذبه، أما الكلام الذي يستحيل بطبيعة تركيبه أن نتصور وسيلة لمراجعة صدقه أو كذبه، فهو كلام خلو من المعنى"2. ونحن بدورنا نتساءل: أي "منطق" له هذه الوظيفة؟ تراه منطق الإنسان عامة؟ وهناك أنواع متعددة من المنطق: منطق الرياضة ومنطق الصورة والقياس، ومنطق الفلسفة الوضعية.   1 كتاب خرافة الميتافيزيقا ص11. 2 المصدر السابق ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 لو حدد الكتاب هذا المنطق "بالمنطق الوضعي" لعرف القارئ أن هناك أنواع أخرى من المنطق تخالف هذه الوجهة من النظر، ومن هنا يكون هو إمام منطق محدد، لكن ليس من دافع لأن يجزم بأن المنطق الإنساني عامة -كما يوهم الكتاب- يحيل أن تكون هناك عبارات موجودة على سبيل الحقيقة، وهي تلك العبارات التي مدلولاتها توجد فيما بعد الطبيعة. ويزيد الكتاب في هذا الإبهام في عباراته التالية: "إن الميتافيزيقي" لا يقول حين يدعي ما يدعيه: أني أحلل لفظة إلى ما يساويها، هو يصف كائنات يزعم وجودها بصفات معينة، فإذا طلبت إليه أن يدلك على الخبرة الحسية التي من شأنها أن تطلعك على تلك الكائنات، حتى ترى لنفسك إن كانت حقا موصوفة بالصفات التي زعمها أو لم تكن، أجابك بأنها ليست مما يحس.. وإذن هو موقف عجيب: يقول كلاما عن أشياء، ثم يرفض أن يدلك كيف يمكن أن تلتمس الأشياء في خبرتك، لتصدقه أو تكذبه. "فلا هو على استعداد أن يحقق لنا ما يقوله بالخبرة الحية كما يفعل الذين يحدثوننا عن الأشياء الخارجية في العلوم أو في الحياة الجارية، ولا هو بقانع أن يجيء كلامه تحصيل حاصل حتى تصفه بالصدق من غير التجاء إلى خبرة حسية! "وإذن فلا هو يقول عبارات تركيبية كالتي يقولها العلماء الطبيعيون، ولا عبارات تحليلية كالتي يقولها علماء الرياضة. "فأي نوع من الكلام يقول؟ كلام الميتافيزيقي فارغ لا يحمل معنى. "يزعم لنا الميتافيزيقي أنه قد جاء بعلم عن الحقيقة التي لا تدخل في نطاق الطبيعة المحسوسة المشهودة، إذ هو يحدثنا عن أشياء تجاوز عالم الشهادة والحس، فنسأله: من أي المقدمات استخلصت نتائجك التي انتهيت إليها؟ أليس يتحتم عليك -كما يتحتم على سائر الناس- أن تبدأ بشهادة حواسك، وإن كان ذلك كذلك، فكيف يجوز أن تستنبط من مقدمات حسية نتائج عن حقيقة أخرى خارجة عن نطاق الحواس؟ إنك إذا بدأت بمقدمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أكل كلمات "الميتافيزيقا" على هذا النحو، وجماهير الناس لا يعرفون "الميتافيزيقا" فضلا عن أن يقفوا على مصطلحاتها؟ "للميتافيزيقا" سوق يتعامل فيه جماهير الناس، وهي أبعد جوانب الفلسفة وأشدها عزلة عن الحياة العقلية العامة وحياة الرأي العام، وهي حياة الجماهير. إن منطق الكتاب هو التعمية وعدم التفرقة. - أولا: بين عبارات الأنواع والأجناس من جانب وعبارات الأعلام الشخصية والأفراد من جانب آخر. - وثانيا: بين الحقائق الدينية والحقائق الميتافيزيقية كما صنع أرباب "المذهب الاسمي". وهذا المنطق من السهل تحديد هذه "الكلمة المتداولة" في كثرة، والتي ظن الناس منذ مدة طويلة أن لها قيمة كبيرة وهي زيف لا قيمة لها في التعامل, لو تنبه الناس إلى ذلك، بأنها "الله". وهكذا يكون لفظ الله فارغ، ولا مدلول له وهو خرافة!! قصد التعمية هنا، وتجاهل التفرقة التي التزمها أصحاب "المذهب الاسمي" كما رأينا، لا تدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية، بل تدل أيضا على أن "البتر" في النقل عن الغير يكاد يكون صفة من صفات "التجديد" في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين. قد قيم المشركون أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم "الحس"، وحده، ورأوا أن مصدرهم في المعرفة هو عالم المحسوسات لا غيره، واعتقدوا أنهم وصلوا إلى حقائق لا يجوز لهم أن يستبدلولها بتلك الحقائق الأخرى التي ليست في شاهدهم. ومع ذلك كانت معارفهم أسماء لا مسميات لها على سبيل الحقيقة، وتبين أنهم يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ويتحدث القرآن عنهم في قول الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 1. فقد يقع "الحس" على أشياء وأشياء، ومع ذلك لا يدرك هو نفسه حقائقها ومدلولاتها في الخارج، وعندئذ تكون عباراتها أسماء، وتكون تلك الأسماء رموزا وأرقاما، لا تحمل حقائق، ولا تدفع "العقل" الخالص نحو إقرارها. قد تدرك "الحواس" إذن إدراكا خطأ، وقد يكون تصور "العقل"وهما وظنا، ولكن حسن الظن بالحواس، أو الثقة بالعقل قد تحمل محسن الظن على أن ينخدع بأحدهما، أو بكليهما. فالقرآن هنا في الآية السابقة يحكي عن المشركين الذين انخدعوا بـ"الحس" فاعتقدوا في كائنات محسة -هي على الحقيقة أحجار- أنها صاحبة تأثير إيجابي أو سلبي في حياتهم، وأنها آلهة تعبد.. وطاوع "عقلهم" ما انخدعوا فيه من حس، فكان العقل ظنا وهوى، لا علما وحقيقة واقعة. الإنسان المحدود قد يطغى أن رآه استغنى، ويدفعه طغيانه إلى إنكار عقله وإنكار أصل وجوده وخلقه ... مع الإيمان فقط بما يتصل بشهوة بطنه وفرجه, وذلك هو الإنسان صاحب الفلسفة "الحسية". وقد يدفعه هذا الطغيان مرة أخرى إلى إنكار عالمه الذي يعيش فيه، وإنكار العالم الأزلي السابق على وجوده الذي فيه خالقه ... مع الإيمان فحسب، بأنه هو الوجود، أو على الأقل هو نفسه رب الوجود! فمن "عقله" يحدد خصائص الوجود، ومن "عقله" أو "نفسه" يلون العالم الذي يعيش فيه، وذلك هو الإنسان العقلي أو النفسي في تفلسفه.   1 النجم: 19-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وإذ ينتقل كتاب: "خرافة الميتافيزيقا" من الجانب النظري إلى الناحية العلمية -وهي الجانب الخلقي- يقول عن مصدر القيم الأخلاقية. "القيم "الأخلاقية" جزء من ذات نفسه، وإن العالم الخارجي عن ذاته، لا خير فيه ولا جمال، وإنما هو عالم من الأشياء!! فإذا أراد أن يقف إزاءها وقفة العالم الذي ينطق كلاما ذا معنى، كان لا بد له من قصر الحديث على وصف ما يراه فعلا، وما يسمعه، وما يحسه بسائر حواسه، دون إضافة شيء من ذات نفسه إلى الوصف، وإلا فقد أراد لنفسه شيئا غير العلم ومجاله"1. والكتاب في هذا الجانب العملي يشير إلى المذهب النفسي في التفلسف Psychologism ... ذلك المذهب الذي ينكر وجود العالم الخارجي على نحو معين في ذاته من الخير أو الجمال أو نحو ذلك. ويرى أن وصف العالم الخارجي بشيء من ذلك يرجع إلى إحساسات الإنسان وانفعالاته المختلفة، دون ذوات الأشياء. فالإنسان هو الذي يضفي الوصف على الأشياء، وليس هذا الوصف للأشياء من ذواتها. وتقابل هذه النظر، نظرة مذهب الوجود antolagism -وليس الوجودية- وهي نظرة ترى أن المبادئ الميتافيزيقية، وبالأخص فكرة "الوجود المطلق" -وهي الله- بداية التفلسف وبداية المعرفة، وليست الحقائق التجريبية النفسية. ويقصد بذلك أن التجارب النفسية من عواطف وإحساسات ليست هي التي تصبغ العالم الخارجي بصبغتها، بل مبادئ الوجود الثابتة، وفي مقدمتها مبدأ "الوجود المطلق" -أي: الله- هي التي يرجع إليها شرح هذا العالم وما فيه من موجودات، وإذن ما في العالم من خير وشر وجمال، مصدر تحديده فكرة الوجود المطلق، وليس إملاء عواطف الإنسان. وكتاب "خرافة الميتافيزيقا" في الجانبين: النظري والعملي، يتشبث بدعوى "الاسميين" و"الوضعيين" ... ولكن بالصورة التي عرض هو بها آراءهم وليس بالصورة التي أفرغوها هم في تاريخ مذهبيهم! وقد رأينا من قبل في تاريخ "الاسميين" أنهم يحتاطون في فصل الدين عن الميتافيزيقا بأن وجهوا إلي هذه الأخيرة النقد باسم البحث   1 صفحة 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 العلمي. كما رأينا في تاريخ "التجريبيين" و"الوضعيين" أنهم في فترة طويلة صانوا الدين عن النقد، ثم مسوه بعد أن قام كومت Comte ومن بعده فيرباخ Feuerpach على تدعيم "المذهب التجريبي" باسم "الفلسفة الوضعية" لكن لمذا تجاوز النقد في أوروبا الميتافيزيقا إلى الدين؟ يمكننا أن نقف على هذا السؤال من عمل الفلاسفة الذين قاموا في القرنين السابع عشر والتاسع عشر بمحاولة عقلية فلسفية للاحتفاظ بقدسية الدين، وقيمة الوحي ... وسنرى أن السبب في ذلك هو الرغبة في مقاومة نفوذ الكنيسة الكاثوليكية أولا وليس في مقاومة الإيمان في ذاته. في القرن السابع عشر قام "سبينوزا" Spinoza 1، و"ليبنيتز" Leibniz2 و"لوك" Locke3 ... وأراد ثلاثتهم أن يجمعوا الطوائف المسيحية الثلاث في أوروبا الغربية -طوائف الكاثوليك، وأتباع لوثر، والمصلحين- على أساس من التعاليم الأصيلة للمسيحية وابتدعوا لهذه المحاول ما سموه "بنظام العقيدة" ... وكتب "لوك" خطابات ثلاثة عن "التسامح" وعبر عن هذا التسامح في كلمته المعروفة "كنيسة حرة، في دولة حرة". وتحولت هذه المحاولة من الوجهة النظرية -عند الفلاسفة الثلاثة- إلى القيام بتعليل عقلي لـ"مسيحية عامة صافية"، وأطلقوا على هذا التعليل "دين الطبيعة" أو "دين العقل"، وجعل أساس هذا الدين: الإيمان الكامل بالوحي الإلهي, وعرفوا الوحي الإلهي بأنه ما كان فوق العقل البشري، لكنه ينسجم مع العقل، أي: إن الذي يعتبر وحيا هو ما لا يستطيع العقل أن يجده في نفسه، ولكن مع ذلك يمكن له أن يفهمه في وفاق وانسجام مع تفكيره الصحيح. وقد زاد جماعة السوسينيين Socinienes4 في تأكيد وجود   1 عاش بين سنتي 1631-1677. 2 عاش بين سنتي 1646-1716. 3 عاش بين سنتي 1632-1704. 4 أتباع الفيلسوف الإيطالي Socin في القرن السادس عشر "1525-1562" وقد كان ضد الكثلكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الوحي الإلهي، ولكنهم عبروا بأنه ما ليس بوحي هو ما لا يستطيع العقل أن يفهمه، وتطبيقا لهذا اعتبروا ما جاء في كتب العقيدة المسيحية من التثليث، ومن جعل المسيح إلها إنسانيا -في وقت واحد- غير وحي. ثم رأوا أن ما أوحى به الله له طابع القانون، ويجب العمل به. والدين لا يبقى في حيز الفكرة النظرية, بل هو خضوع تام للقانون الإلهي، هو عمل وسلوك طبقا لهذا القانون؛ لأنه طالما كان القانون الإلهي غير مؤسس على الأغراض الشخصية بل هو عام للإنسانية، يجب أن ينفذه الشخص؛ لأن في تنفيذه مصلحته ومصلحة غيره. وفي القرن التاسع عشر أسس الفيلسوف الألماني "فريدريك هيرش جاكوبي" Friedrick Heirich Hacobi فلسفته التي سماها "فلسفة الإيمان" وجعلها في مقابل فلسفة "كانت" في "نقد العقل الخالص". وتقول هذه الفلسفة: إن فينا عقلا مباشرا من الله، ذلك الذي صنع للإنسان طبيعته الخاصة، وواهب هذا العقل وهو الله، يعيش في قلوبنا حاضرا, كما تتمثل الطبيعة أمام حواسنا الخارجية.. هو: "ضوء في قلبي، ولكن عندما أريد إحضاره في العقل ينطفئ"!! أي: إن العقل لا يستطيع أن يحده وإن كان يملأ فراغ القلب بالإدراك الوجداني. وجاء "هيجل" Hegel في القرن التاسع عشر أيضا، وأقام فلسفة خاصة به على أساس مما سماه "الفكرة" ... ووصل بهذه الفلسفة الخاصة إلى وحدانية الله، وبذلك أغضب الكنيسة الكاثوليكية بإنكار التثليث في الألوهية! ويقول "هيجل" معلقا على الحركة الفكرية لـ"كانت": "في ألمانيا دارت هذه التمثيلية الخاصة، وهي: أن الشعب المثقف هو شعب من غير ميتافيزيقا، وأن المعبد الذي استكمل زينته وزخرفته هو المعبد الذي خلا من أقدس المجودات". وعلى غرار هيجل، قام شلنج Schelling بعمل فلسفي سمي بالفلسفة "البنائية" وهي فلسفة تهدف إلى إقرار مذهب الوحدة في الألوهية. وهنا نجد، من دفاع هؤلاء الفلاسفة عن الدين، ومن محاولاتهم الفلسفية لإصلاحه، أن الدين تجاوزوا من فلاسفة الغرب بنقدهم الميتافيزيقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 إلى الدين، لم ينقدوه إلا لتصفيته من العقائد غير المعقولة، في عصر تيقظ الإنسان فيه إلى قيمة نفسه. لقد حاربوا التثليث، وعقيدة ألوهية عيسى، والاعتقاد بعصمة البابا وبسلطانه الزمني ... ولم ينقدوا "الإيمان" في أصله، بل نقدوا الطارئ عليه، مما لا يستقيم مع العقل الإنساني الواضح.. مما سيكون موضع تفصيل في حديثنا عن المشكلة التالية: الدين "مخدر"، حتى يتضح موضوع النزاع على حقيقته في الفكر الأوروبي. ولكن هنا في مصر والشرق الإسلامي، عندما ارتضى "المجددون" لأنفسهم أن يكونوا مرددين لمفكري الغرب، رددوا هجوما على دين ليس ثمة داع لمهاجمته "وهو الإسلام" لأنهم قرءوا ما يشبه الهجوم على المسيحية باسم النقد العلمي أو العقلي!! فعندما أراد المجددون في مصر أن يقفوا على قدم المساواة مع الغربيين الأحرار -كما فعل صاحب "مستقبل الثقافة في مصر! "- رأوا من المساواة في الوقوف على قدم واحد معهم: أن ينقلوا عيب الغربيين المغرضين للإسلام، وأن يغمضوا ويبهموا فيما ينقلونه باسم الفكر التجريبي أو الاسمي، حتى يكون منهم في تجديدهم في الفكر انتقاص للإسلام، وبذلك يتساوون في الوقوف على قدم واحدة، وهي توجيه الملام والعيب للدين!! والتساوي في الوقوف مع الإنسان الحر في البحث، هو أن لا تطغى عليه عاطفة فيما يبحث، وأن يكون صريحا في الحديث عن عاطفته -إذا تملكته هذه العاطفة في البحث- دون أن يغمط شأنها أو يرهق "الحرية في البحث" يوم يدعو من وراء ستار إلى ما يرى أو يرغب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الدين مخدر : الصراع بين الدين والعقل والحس في تاريخ الفكر الأوروبي: مضت على التفكير الأوروبي منذ القرن الرابع عشر إلى الآن مراحل شهدت فيها العقلية الأوروبية صراعا فكريا، واتجاهات عقلية مختلفة، تدور حول "تبرير" مصادر المعرفة التي عرفتها البشرية في تاريخها حتى الوقت الحاضر، وهي: الدين، والعقل، والحس أو الواقع، وفي كل مرحلة من هذه المراحل ينشأ سؤال عن "قيمة" أي واحد من هذه الثلاثة, كمصدر للمعرفة المؤكدة أو اليقينية، ثم يكون الجواب على هذا السؤال إيجابا أو سلبا، ومن السؤال وما يدور حوله من جدل وأخذ ورد، تتكون المذاهب الفلسفية التي تعبر عن قيمة المصدر، الذي وضع للاختبار والتقدير. سيادة النص أو الدين: كان "الدين" أو "نص" سائدا طوال القرون الوسطى في توجيه الإنسان، سواء في سلوكه وتنظيم جماعته، أو في فهمه للطبيعة، وكان يقصد بالدين: "المسيحية" وكان يراد من المسيحية: "الكثلكة" وكانت الكثلكة تعبر عن "البابوية". والبابوية نظام كنسي ركز "السلطة العليا" باسم الله في يد البابا. وقصر حق تفسير "الكتاب المقدس" على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى الاعتبار بين نص الكتاب المقدس ومفاهيم الكنيسة الكاثوليكية.. وجعل عقيدة "التثليث" عقيدة أصيلة في المسيحية كما جعل "الاعتراف بالخطأ" و"صكوك الغفران" من رسوم العبادة ... وغير ذلك مما يتصل بالكاثوليكية كمذهب وكنظام لاهوتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 حتى كان القرن الخامس عشر، وحتى ابتدأت الحرب الصليبية تثمر ثمرتها الإيجابية في العقلية الأوروبية، فقام "مارتن لوثر " Luther1 "وكافح" "تعاليم الشيطان" كما سماها..وهي تعاليم البابوية والكنيسة الكاثوليكية، فحارب "صكوك الغفران" ونظر إليها كوسائل للرق والعبودية، وألقى الأضواء على عقيدة "التثليث" كما حارب سلطة "البابا"، وجعل السلطة الوحيدة في المسيحية هي الكتاب المقدس وكلمة الله "النص" وطالب بالحرية في بحث الكتاب، ولكن ليست أية حرية على العموم.. ومع ذلك جعل الكتاب المقدس نفسه هو مصدر الحقيقة فيما يتصل بالإيمان، ثم جعل "الإيمان" في الاعتبار والقيمة مقدما على أي شيء آخر عداه، من العقل أو الطبيعة. وجاء بعد لوثر -في طريقه- "كالفن" Calvin 2، وأقر لوثر على أن: الإنجيل وحده هو المصدر "للحقيقة المسيحية" دون تفسيراته وشرحه، وأوضح رأيه في عقيدة التثليث وفقا لأصول المسيحية الصحيحة. وبحركة "لوثر" و"كالفن" الإصلاحية، تعرضت المسيحية للجدل الفكري وأصبحت موضوعا للنقاش العقلي والمذاهب الفلسفية، والمسيحية التي تعرضت لذلك هي المسيحية التي تناولها لوثر بإصلاحه أي: الكاثوليكية البابوية: - من أنكر من الفلاسفة على الدين أن تكون له "سلطة" ... أنكر سلطة البابوية. - ومن وضع العلاقة بين الدين والعقل كشيئين متقابلين أو متناقضين.. حدد العلاقة بين "الكثلكة" وتصويرها لعقيدة "التثليث" وما فيها من مراسم "صكوك الغفران" من جانب، وبين العقل الإنساني العام من جانب آخر. - ومن دافع عن المسيحية من الفلاسفة، كـ"هيجل": دافع عن "التعاليم النقية للمسيحية" التي احتضنها "لوثر"، في إصلاحه في مواجهة تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.   1 عاش بين سنتي 1438-1546. 2 عاش بين سنتي 1509-1564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وهكذا: كان "الدين" الذي جعل موضوعا للصراع العقلي الأوروبي ... نوعا خاصا من الدين. وكذلك كان الذي قبل منه باسم الفلسفة أيضا كان جملة خاصة من تعاليمه. كما كان الذي رفض منه باسم الفلسفة كان أيضا جملة خاصة من تعاليمه. وفي عهد سيادة "الدين" كمصدر للمعرفة -سواء في عصر سلطة الكنيسة الكاثوليكية أو في عهد الإصلاح الديني للوثر -نظر إلى "الكتاب المقدس" وهو الإنجيل على أنه فوق العقل ... على معنى أن للعقل أن يبحث ويرى- إن جاز له أن يبحث ويرى- ولكن للكتاب المقدس الكلمة الأخيرة فيما يرى العقل ويحكم. والفلاسفة الذين ناصروا الدين والوحي، اعتبروا أن الألوهية المرجع الأخير للوجود وللمعرفة على السواء. سيادة العقل: استمر اعتبار الوحي كمرجع أخير للمعرفة على خلافة في تحديد تعاليمه، حتى كان النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهو عصر "التنوير" في تاريخ الفلسفة الأوروبية ... وعصر التنوير له طابعه الخاص الذي يتميز به عن العصر السابق عليه، وكذا عن الآخر اللاحق له، وله طابعه المشترك في الفكر: الألماني والإنجليزي والفرنسي في الفترة الزمنية التي تحدده، وله فلاسفة في دوائر الفكر الثلاث كونوا الطابع الفكري الذي عرف به. فمن فلاسفته في ألمانيا: ولف Chirstian Wolf ولسج Lessing وفي إنجلترا: لوك John Loke. وفي فرنسا: فولتير Voltaire وبيلي Pieter Bayle ولامتري Lamettrie الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وطابعه الفكري الذي يتميز به هو: -نمو شعور العقل وإحساسه بنفسه، وبقدرته على أن يأخذ مصير مستقبل الإنسانية في يده، بعد أن يزيل كل عبودية ورثها من قبل -وهي عبودية الكنيسة وتعاليمها- حتى لا تحجبه عن التخطيط الواضح لهذا المصير. - الشجاعة والجرأة التي لا تتأرجح في إخضاع كل حدث تاريخي لامتحان العقل وكذلك في تكوين الدولة، والجماعة، والاقتصاد، والقانون والدين والتربية، تكوينا جديدا، على الأسس السليمة المصفاة التي لكل واحدة منها. - الإيمان بتعاون جميع المصالح والمنافع، وبالإخوة في الإنسانية، على أساس من هذه الثقافة العقلية وحدها، المستمرة في التزايد والنمو. ومعنى ذلك كله. وجوب سيادة "العقل" -كمصدر للمعرفة- على غيره.. وغيره الذي ينازعه "السيادة" في ذلك الوقت هو "الدين".. أي: المسيحية "الكاثوليكية" أولا. وقد تكون معها "البروتستنتية" كمذهب عرف للإصلاح الديني هناك. فللعقل -في نظر أصحاب عصر التنوير- الحق في الإشراف على كل اتجاهات الحياة، وما فيها من سياسة وقانون ودين. و"الإنسانية" هي هدف الحياة للجميع، وليس الله أو المجتمع الخاص أو الدولة الخاصة. وكما يسمى هذا العصر بـ"عصر التنوير" يسمى أيضا بـ"العصر الإنساني" ... وكذا يسمى بعصر الـ"Deisin" أي: عصر الإيمان الفلسفي بإله ليس له وحي وليس بخالق للعالم إذ كل مسميات هذه الأسماء تعتبر من خواصه. فالتنوير: لا يقصد به إلا إبعاد الدين عن مجال التوجيه، وإحلال العقل محله فيه. والإنسانية التي يبشر بها هذا العصر: ليست إلا عوضا عن القربى "من الله" كهدف للإنسان في سلوكه في الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والإله الذي ليس له وحي ولا خلق: يتفق مع تحكيم العقل وحده، وطلب سيادته على أحداث الحياة واتجاهاتها. وكانت في عصر "التنوير" إذن خصومة فكرية بين "الدين" و"العقل" واتجه التفكير فيه إلى إخضاع الدين للعقل.. لذلك عد زمن هذا العصر فترة سيادة "العقل"، كما عد العصر السابق عليه فترة سيادة "الدين". ولكن مع ذلك، كان للدين في هذه الفترة أنصار من أرباب الفكر، كما كان للعقل وقت سيادة الدين في العصر السابق أنصار من رجال الدين "وهم المصلحون" ورجال الفلسفة كذلك: بلانش: فنرى -مثلا- Ballanche يعقد سيادة "العقل" كمصدر وحيد للمعرفة ويذكر: أن فلسفة "التنوير" أخطأت عندما قصدت إلى أن العقل -وحده ومن نفسه- يمكن أن يوجد "الحقيقة" وينظم الجماعة ... وأخطأت كذلك عندما أرادت أن تقيم صورة العلاقة المشتركة بين الأفراد على ما بينهم من ميل ومحبة إنسانية، دون ما يربطهم من قبل من رباط اللغة والدين والتقاليد، وما أشبه ذلك من الروابط الأخرى السائدة. ويستطرد بلانش فيذكر أنه في الواقع كل حياة عقلية للإنسان هي حصيلة للتقاليد الاجتماعية، واللغة بالذات.. فاللغة هي وحي الله للإنسان، و"الكلمة الإلهية" هي مصدر "الحقيقة" والمعرفة الإنسانية هي دائما قسم من هذه الحقيقة الإلهية، وتنمو من الضمير الذي بداخلها، والذي يجعل للعام اعتبارا خاصا بأنفسنا، و"الكنيسة" هي حاملة "الكلمة الإلهية" فتعاليمها هي "العقل العام" الذي هو منحة من الله، والتي تشبه شجرة نمت على مر الزمن ونضجت بها كل المعارف الإنسانية الخالصة من الزيف، ولهذا يمكن أن يعتبر "الوحي" وحده أساسا "للجماعة" ونظامها، كما يعتبر أساسا "للمعرفة" و"الحقيقة" معا. ويعلق "فندلبند" على نقد بلانش لفلسفة عصر "التنوير" بقوله: و"العنصر الفلسفي لهذه النظرية الكنسية جاء من الاعتراف بـ"العقل النوعي" الذي تحقق ووجد في التطور التاريخي للجماعة، كسبب للحياة العقلية عند الأفراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ومن هذا يتضح: أن صراع العقل مع الدين هو صراع "الفكر الإنساني" مع "مسيحية الكنيسة الكاثوليكية". وأن دوافع هذا الصراع هي الظروف التي أقامتها الكنيسة في الحياة الأوروبية.. سواء في مجال التوجيه والبحث، أو في مجال السياسة أو في نطاق العقيدة والإيمان!! فيشته: ومن الذين دخلوا في هذا الصراع -من أجل العقل وسيادته- الفيلسوف الألماني "فيشته" Fichte1. أقام فلسفته على أساس من استخدام الإنسان لمبدأ "النقيض" في "تصور الإنسان لنفسه" وأكد في هذه الفلسفة: - قيمة العقل الإنساني. - وحريته. - كما رأى -في الجانب العملي- أن "الخلقية الإنسانية" هي في العمل وحده ... وعلى الأخص في تهذيب الجسم. وصقل العقل، واندماج الإنسان في الجماعة الإنسانية كعضو فيها. - وجعل هذا التطور الإنساني "ذوبان" الجنس البشري في جمهورية تتكون من الشعوب صاحبة المدنية، على أن تخضع العامة لأصحاب المهارة السياسية، وعلى أن يحتفظ المدنيون جميعا بالحرية المقررة، وأن يتمتعوا بحق الوقاية من القهر والخضوع بالقوة، وبحق الملكية وفرصة العمل وبحق المشاركة في إنتاج الدولة الاقتصادي. - وأخيرا، رأى أنه يجب على كل واحد في الجماعة أن يفهم رسالة العظماء وصانعي الخير في الإنسانية. وذلك بأن يعمل لإثراء الجنس الأخوي وإسعاده.   1 عاش بين سنتي 1762-1814. وهو: Johann Gottlieh Fichte. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ولم يخرج "فيشته" بفلسفته العقلية هذه عن الطابع العام لعصر "التنوير"، وهو طابع تقدير "العقل" وحده دون "الوحي" والدين في المعرفة، والنظر إلى "الجماعة الإنسانية" كهدف أخير للإنسان.. على أن يحتفظ فيها الفرد بحريته المشروعة، وعلى أن تقود الطبقة المفكرة صاحبة المهارة السياسية غيرها من الطبقات الأخرى فيها. مبدأ النقيض: وفي الوصول إلى هذه النتائج من الوجهة الفلسفية، قرر "فيشته" أن"تصور الإنسان لنفسه وحده" هو بداية الطريق، وأشبه بالمقدمات التي تسلتزم نتائجها ... على النحو الذي حدد به غاية فلسفته. فإذا تصور الإنسان نفسه.. أي إذا "أنا" تصورت "أنا". نشأ عنه: أن "أنا" هو "أنا". ونشأ عنه أيضا: ما "ليس أنا" غير "أنا". -فهنا: "أنا" an-sich، وهنا أيضا: "ليس أنا" fure-sich وتصور "أنا" يسلتزم تصور "ليس أنا". - ولكن وجود "ليس أنا" منطو في الوجود الحقيقي لـ"أنا". - وإذن "أنا" باعتبار أنه يطوي في ذاته وجود "ليس أنا"، وهو جامع للشيء ومقابله an-sich und fure-scich. وتصور الإنسان لنفسه ينتج إذن خطوات ثلاثا في الفكر. Tiplily" Tripliziaet". وبما أنه ليس هناك -عندما تصور الإنسان نفسه -إلا "أنا"، فالأشياء الخارجة عن أنفسنا أي: الأشياء التي هي "ليس أنا"، نتصورها فقط عن طريق: أن "أنا" يطوي في نفسه حقيقة أخرى، وهي: "ليس أنا" وهذه الأشياء الخارجة عن أنفسنا بعد ذلك ليست منطوية فقط في "أنا" بل هي عمل لـ"أنا" ومن إنتاجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وترجع فكرة: "تصور الإنسان لنفسه" وما تستتبعه من خطوات ثلاث، إلى مبدأ آخر هو مبدأ "النقيض" Der widerspruch وهو مبدأ قامت عليه الفلسفة الألمانية "العقلية" وتراه مبدأ ضروريا لا يقبل الرفع. ويتبع طبيعة العقل، وخاصة من خواصه. ومن أجل هذا المبدأ كان العقل حقيقيا، ثم بالتالي كان المبدأ نفسه حقيقيا ... وقد استخدمه في هذه الفلسفة العقلية "فيشته" أولا, ثم تبعه فيها "هيجل"، ثم تبعهما "كارل ماركس" فاستخدمه في الفلسفة "المادية". وكل من "فيشته" و"هيجل" وضع مصطلحات تعبر عن هذا المبدأ1: أما "كارل ماركس" فقد آثر أن يستخدم مصطلحات "هيجل" لأنه أحد تلامذة مدرسته، وإن نهج بتفكير هذه المدرسة إلى غاية أخرى غير غايتها الأولى التي هدف إليها "هيجل"، وتحول عن ذلك منذ بداية سنة 1840م، متأثرا في هذا التحول بـ"فيرباخ" الفيلسوف الوضعي الألماني. ومنطق "مبدأ النقيض" على النحو الذي استخدمه "فيشته": - أن العقل مستقل تماما عن غيره، وموجود من أجل نفسه, ووجوده هو وجوده هو، لا وجود غيره. - وماهية العقل تتضح إذن من العقل نفسه، وليست مما هو خارج عنه مغاير له.. إذ لو توقفت ماهية العقل على غيره الخارجي عنه، لكان معناه أن: "ليس أنا" هو نقطة البداية، وفي ذلك الغاء لـ"أنا" فتوقف العقل في توضيح ذاته على غيره دون توقفه على ذاته نفي للعقل نفسه قبل أن يصل إلى غيره؛ لأنه لا معنى لوجود "ليس انا" إلا نفي وجود "أنا" أي: نفي العقل نفسه. كما أن منطق هذا المبدأ على نحو ما يستخدم في "تصور الإنسان لنفسه". لا يجعل إدراك عالم الأشياء من إنتاج قوة التصور والفكر لدى   1 وضع فيشته المصطلحات السابقة: an-sich und fuer-such. an-sich. ووضع هيجل: syn-thesis, anti-thesis, thesis أما كارل ماركس فقد استخدم مصطلحات هيجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الإنسان فحسب.. بل يؤكد "حرية الإنسان في هذا الإدراك، كما يؤكد حريته في العمل على العموم. ويؤكد بالتالي أنه غير مجبر لغيره، ولا مضطر في عمله: إذ هذه الحرية من تفكير الإنسان، لا يحددها الشيء الخارج عنه هي من العقل الذي يحدد غيره، وهو الشيء الخارج عنه. وبهذا وصل فيشته إلى: -استقلال العقل في الوجود عن الجسم أو أي كائن آخر، وإلى سيادته على نفسه، وعلى غيره وهو العالم الخارجي عنه. - ثم إلى حرية الإنسان في العمل حرية تامة، لا يشوبها شبه تحديد من غير الإنسان نفسه. - وأخيرا إلى تبعية عالم الأشياء في تصوره إلى العقل. ويستمر "فيشته" -في استخدام "مبدأ النقيض"- فيصل إلى أن عالم الأشياء غير متوقف في تصوره فحسب على العقل، بل هو أيضا ليس سوى الشيء المادي لعمل الإنسان، أي ليس سوى المحسوس المادي لـ"واجب" الإنسان ... هو تعبير عن "خلقية" الإنسان، هو في تصوره متوقف على الإنسان، وفي الوقت نفسه يمثل خلقية الإنسان؛ لأنه عمله. ويذكر "فيشته" أن بين موجودات العالم الخارجي: تهذيب الجسم، وصقل العقل، واندماج الإنسان في الجماعة الإنسانية، على أنها تمثل أعمال الإنسان الخلقية في العالم المحسوس. الجماعة الإنسانية الخاصة والعامة: وتكوين الجماعة الإنسانية غاية العقل الأخيرة في نظر "فيتشه" كعمل خلقي للإنسان, وثمرة من ثمرات تفكيره الحر ... شأنها شأن عمل التهذيب للجسم، والتمدين للعقل على السواء، لا يتمتع المتمدينون فيها بالحرية المشروعة، وبحق الوقاية من القهر بالقوة فحسب، بل لهم الحق كذلك في الملكية، وفرصة العمل، والاشتراك في إنتاج الدولة الاقتصادي، والجمهور مع ذلك هو أداة في يد المهرة السياسيين، وحقه محفوظ في الدولة طالما يخضع بمحض اختياره للشخصية المنتجة "الخالقة"، وهي شخصية القادة وأصحاب المهارة السياسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ويكمن كل تحديد "للواجب" -كما تكمن كل قيمة للعمل- في أن كل واحد في الجماعة -بالاشتراك مع "الكل"- يضع نفسه في خدمة النوع البشري العام، وخدمة الدولة الخاصة. وهذا هو غاية العقل في إدراكه وحريته، وغاية خلقية الإنسان في العمل والتصرف. واتجاه تطور الإنسان -كما يراه "فيشته"- يسير نحو اندماج الجنس البشري كله في "جمهورية" للشعوب صاحبة المدنية، وفي عمل مشترك منظم تنظيما دقيقا يقصد لرفع قوة الإنسان فوق قوة الطبيعة، عن طريق علم الطبيعة والفن، كما يقصد لإخضاع الطبيعة كلها إخضاعا تاما تحت سلطان الفكرة والعقل. والندء الأخير لهذه الفلسفة "الفيشتية" هو: أن كل صانعي الخير والمجد في الإنسانية، وكذا كل العظماء في تاريخهم عملوا من أجلي ... فواجبي أن أفهم رسالتهم، وأن أعمل على إثراء الجنس الأخوي وإسعاده، وعلى إتمام "المعبد" العظيم الذي اضطروا لتركه بدون إتمام. وهنا ينتصر فيشته: - للعقل: ويجعل غيره -وهو الطبيعة- تابعا له. - وينتصر للحرية الفردية، وحرمات الفرد. - ويجعل العمل من أجل الدولة، كإنتاج للإنسان، عملا يتسم بالخلقية والمدنية. - وينتصر لقيادة الخاصة: وهم أصحاب العقل "الخالق"، ويجب أن يوضع بيدهم توجيه الجماهير والعامة، ويحدد رسالة هؤلاء الجماهير والعامة في أن يسيروا في ذات الطريق الذي عبده عظماؤهم، وإلى نفس الغاية التي قصدوا إليها في سيرهم. ويرى أن تطور البشرية يجب أن يكون إلى الانصهار في جمهورية عامة، وهو عمل للعقل، صادر عن حرية في الفكر، وإرادة خلقية، ويوم تنصهر الشعوب في جمهورية واحدة يدل ذلك على أنها تمدنت بالفعل، وعلى أن العقل أدى رسالة عظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 و"فيتشه"- لذلك كله- يؤمن بالفكر: بحريته وإرادته، ويؤمن بالفرد وبالجماعة، وبالإنسانية عامة. ويؤمن أيضا بأن الإنسان بعقله يسود الطبيعة وأنه بأداء ما يجب عليه يهذب نفسه وجسمه ويمدن جنسه، ويقوي أواصر الأخوة بينه وبين غيره. هيجل: وإذا كان فيشته قد استخدم مبدأ "النقيض" كي يدعم سيادة "العقل" كمصدر للمعرفة مقابل الدين أو الطبيعة -على نحو ما رأينا، فإن "هيجل" استخدم نفس المبدأ لتأكيد قيمة "العقل" أيضا، ثم لدعم فكرة "الألوهية" من جديد، وتأكيد "الوحي" كمصدر أخير "للحقيقة" وذلك على اعتبار أن "الله" عقل. وبدلا من المصطلحات الثلاثة التي تعرف لـ"فيشته"، والتي يستخدمها في توضيح مبدأ النقيض, وهي التي تعبر عن الخطوات الثلاث للفكر عند تطبيقه، ويعبر "هيجل" عن ذلك بعبارات خاصة به أيضا وهي: - الدعوى Thesis. - ومقابل الدعوى Anti-thesis. - وجامع الدعوى ومقابلها Syn-thesis. والمجال الذي يستخدم فيه "هيجل" مبدأ "النقيض" كي يصل إلى غايته، وهو مجال "الفكرة" "Idea" أولا، وليس مجال "الشيء" Das"Ding". فقد تصور "هيجل" في مجال "الفكرة"، أن هناك فكرة مطلقة أسماها "العقل المطلق"، ولهذا "العقل المطلق" وجود ذاتي "an-sich" أزلي قبل خلق الطبيعة، وقبل خلق العقل المحدد. هذا العقل المطلق هو "الله" ... ومنه تنبثق "الطبيعة"، وهي تغايره تماما، إذ إنها مقيدة محددة ومتفرقة، بينما العقل المطلق واحد وحدة مطلقة عن كل قيد. وبوجود "الطبيعة" ظهرت -أو انتقلت- "الفكرة" التي في "العقل المطلق" غير المحدد، فيما وجوده مقيد محدد، فالطبيعة هي خروج "الفكرة" من دائرتها الأولى "fuet-sich". ومن أجل ذلك كانت ضرورة وصدفة, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وليس فيها حرية واختيار، وتعتبر لهذا مقابلا ونقيضا "للفكرة" في "العقل المطلق". - وإذا كان "العقل المطلق" دعوى Thesis. - فالطبيعة" عندئذ مقابل الدعوى Anti-thesis. و"الفكرة" انتقلت بذلك من المطلق إلى المقيد، أو من النقيض إلى نقيضه، وإذن فالفكرة من حيث هي فكرة، انطوت على نقيضها حتى الآن. ولكن "الفكرة" في الطبيعة تسعى من جديد، لتكسب الوحدة الأولى- التي كانت في العقل المطلق- بعد أن افتقدتها في تفرق الكائنات فيها، وتسعى لتحصيلها وتحقيقها ثانية، وتحصيلها عندئذ هو "العقل المجرد". والعقل المجرد هو نهاية الطبيعة المحدودة وغايتها "an-sich, und fuer-sich" وهو نفسه عندئذ جامع الدعوى ومقابل الدعوى Syn-thesis. فـ"الفكرة" في نظر "هيجل" انتقلت من ذاتها كـ"عقل مطلق"، إلى نقيضها وهو "الطبيعة" كعقل مقيد، ثم انتقلت من النقيض إلى جامع يلتقي فيه الشيء ونقيضه، وهو "العقل المجرد". والعقل المجرد -هو جامع الدعوى ومقابل الدعوى- هو العقل في صورة اتصال العالم بعضه ببعض، سواء ما يأخذ منه طريقه إلى الظهور أو ما ظهر منه بالفعل وهذا العقل المجرد يتمثل في القانون، والأخلاق وفي الفن، والدين، والدولة، والجماعة، والفلسفة. وإذن "العقل المجرد" الذي يتحقق في أي واحد من هذه القيم العامة المذكورة جامع للمتقابلين: - جامع للفكرة في العقل المطلق وهو "الله". - وللفكرة في العقل المقيد وهو "الطبيعة". - ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق، ولا تحديد عقل الطبيعة. بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق، ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى Syn-thesis. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ففكرة الألوهية ظهرت وتجلت في الطبيعة المفرقة المحددة، واجتمعت من جديد في "العقل المجرد" وبقدر ما تبعد "الطبيعة" عن الله، يقترب "العقل المجرد" منه، و"العقل المجرد" إذن يمثل "الله" أكثر مما تمثله "الطبيعة"، وهو بمثابة نوع للعقل المنثور في الطبيعة، ويعلوه "العقل المطلق"، وهو الله. فـ"الفكرة" كفكرة انتقلت من المطلق إلى المقيد، ثم من المقيد إلى ما فيه إطلاق وتحديد معا. الدولة والله ... الغاية الأخيرة للعقل: و"هيجل" أراد باستخدام مبدأ "النقيض" أن لا يجعل "الطبيعة" غاية أخيرة للإنسان تحصل لذاتها, إذ هي ستنتقل وتتغير إلى "العقل المجرد"، الذي يتحقق في جملة من القيم العليا: في القانون، والأخلاق، والدولة، والدين، والذي هو أقرب شبها بالله، أو يعد موجودا إلهيا على الأرض. ولذا يتحدث عن "الدولة" كصورة من صور العقل المجرد بأنها الإرادة العاقلة الإلهية، وبأنها "الإله" على الأرض، ويرى لذلك أن لها مطلق الحق قبل الأفراد، وأن على الأفراد بطريق الإلزام المطلق أن يكونوا أعضاء في الدولة، وأن يطيعوها طاعة تامة. كما أراد -باستخدام هذا المبدأ- من جانب آخر، بل أولا وبالذات, أن يؤكد سيادة العقل, ولكن على الطبيعة، لا على الدين. وهذا هو الفرق بينه وبين "فيشته". إذ الله في نظره عقل، ويمثل العقل المطلق، الذي هو أصل الوجود كله، ولهذا فإن كلمته ووحيه أصل المعرفة. وهو يؤكد سيادة العقل؛ لأن العقل المطلق إذا كان أزليا وسابقا على وجود الطبيعة وظهورها، فالفكرة أو العقل هو أساس الوجود الطبيعي، وليست المادة أصلا للفكرة والعقل. والمادة إذن في وجودها تابعة ولاحقة لموجود الفكرة أو العقل، و"الحقيقة" إذن مصنوعة من الروح أو العقل, وليس ما يسمى بالعالم المادي سوى المظهر الخارجي للعمل الداخلي للعقل. فالعقل والروح عنده حقائق.. والعالم المادي هو عالم الظاهر، هو نوع من عالم الخيال اليقظ بدون جوهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وإذا كانت "الفكرة" أو العقل سابقا على المادة، فليست "المعرفة الصحيحة" مستوحاة من الوجود الطبيعي أو المادي على عكس "كومت" كما سيأتي ... بل العقل هو مصدرها الصحيح، والوحي -وهو كلمة العقل المطلق "الله"- يمثل كتاب المعرفة اليقينية، دون الطبيعة. بين فيشته وهيجل: ومبدأ "النقيض" عندما استخدمه "فيشته" في تصور الإنسان لنفسه، وصل به إلى تأكيد سيادة "العقل" ووقف عند هذا الحد، دون أن يسترسل في الاستنتاج إلى تأييد الدين، من حيث إن الله عقل أيضا ... بل إن فلسفته تشعر بمناوأة الدين، ثم إن الخطوات الثلاث التي يتطلبها تطبيق هذا المبدأ -وهي: الدعوى، والجامع بينهما- لم تتجاوز عنده العمل الفكري في "تصور الإنسان لنفسه". بينما أكد هيجل في استخدامه لهذا المبدأ سيادة العقل, وسيادة الدين معا. عن طريق أن الله عقل. ثم تجاوز به في التطبيق العملي الفكرة إلى الوجود نفسه: إذ "الفكرة" -التي طبق في دائرتها مبدأ النقيض- موجودة، ووجودها على سبيل الحقيقة، لا من حيث كونها سابقة على عالم الحس فقط، بل حيث إنها "الأصل" في الوجود الذي ينتقل من حال إلى حال آخر ... وهكذا إلى أن يعود الوضع إلى الحال الأول، ولذلك صاحب استخدام مبدأ "النقيض" عند "هيجل" مبدأ "التغير" في الوجود، وإذن يشترك "فيشته" و"هيجل" في استخدام مبدأ النقيض في التدليل على قيمة العقل، وأرجحيته على الطبيعة في هذه القيمة. ومبدأ "النقيض" عند "هيجل" هو بعد ذلك قانون عام للوجود, تخضع له كائنات الطبيعة كذلك، وهي "الأشياء"، وإن آثر هيجل تطبيقه أول الأمر في دائرة "الفكرة" وخضوعها له سيجعل مصيرها إلى العقل المطلق، وهو الله، فكل كائن من كائنات هذه الطبيعة يحمل في نفسه المقابل والنقيض له، ويصير إليه لحظة ما. أي: إن كل كائن يتضمن بذور عدمه. والشيء: هو ما ليس هو، والعالم كله ناشئ عن التعارض والتناقض، وكل شيء فيه متغير؛ لأن كل شيء ينطوي على سلب نفسه. وإذا كان كل شيء -له حال الصيرورة- متغيرا، وإذا كان كل شيء كذلك له صلة وعلاقة بالشيء الآخر، فإدراك الحقيقة هو أن يفهم: كيف تتغير الأشياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ويرى "هيجل" أن تغير الأشياء يحدث بتأثر الصلة بين زيادة كمية الشيء ونقصها وخصائص الشيء وصفاته تتغير بدورها تبعا لتغير كميته زيادة ونقصا، أي: إن التغير للشيء من حال إلى حال، يحدث أما بزيادة كميته أو بنقصها، وتغير خصائصه وصفاته يتبع التغير في كمه. والشيء ينتقل إلى مقابله بتغير كمه زيادة ونقصا، كما تنتقل خصائصه الأولى إلى المقابلة لها، تعبا لتغير الكم فيه, فالماء يتغير إلى بخار بتغير كم الماء أولا عن طريق الحرارة، ويأخذ خصائص البخار بالتدريج تبعا للتغير السابق في كمه. ومبدأ النقيض -هو الذي يصاحبه التغير والانتقال كظاهرة له- يقوم في تطبيقه في "الشيء" على الخطوات الثلاثة: الدعوى، ومقابل الدعوى، والجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى، كما قام على هذه الخطوات نفسها في تطبيقه في مجال: الفكرة "Idea" عند "هيجل" نفسه من قبل. وكذا في مجال: "تصور الإنسان لنفسه" عند "فيشته". فـ"الشيء" دعوى ... و"لا شيء" مقابل الدعوى.. لأن التفكير في "الشيء" ينساق حتما إلى المقابل وهو: "لا شيء" وكونه يفهم: أن "الشيء" يصير إلى "لا شيء" ويرتبط في التفكير بـ"لا شيء" كان في هذه الصيرورة أو في هذا الارتباط: جامع الدعوى، ومقابل الدعوى. ويقول "هيجل": نحن إذا تأملنا كونه "يصير" وجدنا ذلك يتجزأ من جديد إلى دعوى، فمقابل الدعوى، فإلى الجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى وهكذا ... حتى إن كل شيء سينتهي إلى الروح الأخير المطلق، وهي "الله". وتوضيح ذلك في مثال "الماء" السابق: - أن "الماء" دعوى ... - و"لا ماء" وهو البخار مقابل الدعوى. - وصيرورة الشيء إلى نقيضه -وهي هنا "صيرورة الماء إلى بخار"- جامع الدعوى ومقابل الدعوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وصيرورة الشيء إلى نقيضه ستنحل من جديد ... إلى دعوى فمقابل الدعوى، فصيرورة الماء إلى بخار ستنحل من جديد ... إلى ماء فبخار.. وهكذا ... - فالشيء ... - ومقابل الشيء ... - وصيرورة الشيء إلى مقابله ... تمثل الخطوات الفكرية لمبدأ النقيض، وهي: - الدعوى ... - ومقابل الدعوى ... - والجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى "Triplizitaet". و"هيجل" يطلق على هذا الشرح العقلي لمبدأ النقيض: "جدلا نظريا" "Dialektik". - وطالما هذا الجدل باق في شرح "الفكرة" في ذاتها "an-sich" وهي العقل المطلق، يأخذ عنده اسم: علم المنطق، أو علم الوجود، أو الميتافيزيقا ... - فماذا تجاوز ذلك إلى شرح "الفكرة" -بعد أن تنتقل إلى المقابل والنقيض "Fure-sich" وهو الطبيعة -يأخذ اسم "فلسفة الطبيعة". - حتى إذا وصل إلى "الفكرة" التي هي جامع الدعوى ومقابل الدعوى "an-sich" und "fuer-sich" -وهي العقل المجرد- يأخذ اسم فلسفة العقل. وغاية الجدل النظري عنده -إذن- هي الاستخدام العلمي لـ"القانوينة" المستقرة في طبيعة التفكير، أي: الاستخدام العلمي لقانون النقيض Det- Widerspruch تلك "القانونية" التي توجد في حركة "الفكر" وانتقالها من وضع إلى وضع، هذه الفكرة التي تزول وترتفع من نفسها تبعا لمبدأ "النقيض" -المبدأ الذي يحتل "الفكرة" ويسكنها-كي تعود لنفسها من جديد في درجة أعلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 إذ الفكرة تتحول فيما يقابلها ويناقضها ... ثم تجتمع مع هذا المقابل سويا في فكرة أعم وأعلى، مما يترتب على ذلك ضياع التناقض وذهابه، بوساطة "سلب السلب" ... "وسلب السلب إيجاب". وقد وضح ذلك من قبل في أن "شيء" يستلزم "لا شيء" وكلاهما يجتمع في "صيرورة". ونتيجة الاستخدام العلمي لمبدأ "النقيض" هي ذهاب مثل هذا التحديد الخاص وانتقاله إلى المقابل "النقيض" وبهذا تتطور "الفكرة" بعضها من بعض في تتابع لا يدخله شيء من خارج الفكر، حتى يصل الأمر إلى الأعم الأشمل وهو "فكرة المطلق"، أو الله. وباستخدام مبدأ "النقيض"- كخاصة من خواص العقل الإنساني، وصل"فيشته" و"هيجل" معا من الوجهة الفلسفية إلى: - ترجيح جانب "العقل" على الطبيعة والحس. - وتقدير "الدولة" كعمل خلقي للعقل الإنساني. - كما وصلا إلى أن سعادة البشرية رهن بالتعاون على العمل المثمر المنظم في الطريق الذي يرسمه عظماء الفكر والسياسة. وبعد ذلك يختلف "فيشته" عن "هيجل": في أن الأول يميل إلى سيادة العقل سيادة مطلقة على كل شيء آخر سواه, حتى على "الدين والوحي" بينما "هيجل" يميل إلى سيادته فحسب على الطبيعة وحدها. - سيادة "الحس" ومذهب "الوضعية": انتهى عصر التنوير بانتهاء القرن الثامن عشر تقريبا، وابتدأ عصر آخر من عصور الفكر الأوروبي بظهور فجر القرن التاسع عشر. وموضوع الصراع العقلي عند الأوروبيين واحد لم يختلف عن ذي قبل هو: الدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 والعقل، والطبيعة، ولكن تميز القرن التاسع عشر بفلسفة معينة؛ لأن اتجاه التفكير فيه مال إلى سيادة "الطبيعة" على الدين والعقل معا، وإلى استقلال "الواقع" كمصدر للمعرفة اليقينية مقابل الدين والعقل ... تميز القرن التاسع عشر بأنه عصر "الوضعية" "Positivism" و"الوضعية" نظرية فلسفية نشأت في دائرة "المعرفة"، وقامت في جو معين وعلى أساس خاص، أما جوها المعين: فهو أولا وبالذات سيطرة الرغبة على بعض العلماء والفلاسفة في معارضة الكنيسة، والكنيسة تملك نوعا خاصا من المعرفة، وكانت تستغله في خصومة المعارضين فترة من الزمن. وهذا النوع الخاص من المعرفة الكنسية هو "المعرفة المسيحية الكاثوليكية" بوجه خاص -كما سبق أن ذكرنا- أو هو المعرفة الدينية، أو المعرفة الميتافيزيقية بوجه عام، يضاف إلى هذا الرغبة القوية في معارضة الكنيسة، ومعارضة ما تملك من معرفة خاصة، أن فلسفة عصر "التنوير" وهي الفلسفة العقلية أو المثالية- في نظر فلاسفة "الوضعية" قد أفلست فيما أرادت أن تصل إليه، وهو إبعاد التوجيه الكنسي كلية عن توجيه الإنسان، وتنظيم الجماعة الإنسانية على هذا الأساس. إذا مالت هذه الفلسفة على عهد "هيجل" إلى تأييد الوحي والدين من جديد، بعد أن أحاط "كانت"1 إبان عصر التنوير -في نقده "للعقل النظري"- المعرفة الدينية بمجموعة من الشكوك تجعلها ظنا بعيدا عن اليقين، كما جعل جدل "منطق" ما بعد الطبيعة يعلل الظاهر دون أن يهدمه، وادعى أن في كل ظاهرة -في تعليل ما بعد الطبيعة- تكمن علة شخصية للحكم يدعي فيها أنها علة مجردة. وإذن الغاية الأولى للمذهب الفلسفي الوضعي هي معارضة الكنيسة وبالتالي معارضة معرفتها، ومن باب التغطية عارض هذا المذهب باسم "العلم" الميتافيزيقا والمثالية العقلية بهذا العنوان، وإلا فإن المذهب الوضعي في الوقت الذي ينكر فيه دين الكنيسة، يضع دينا جديدا بدله هو: دين "الإنسانية الكبرى"! ويقوم هذا الدين على "عبادة" " و"طقوس" -كما تقوم المسيحية، وله قداسة واحترام في نفوس التابعين على نحو ما للكثلكة. وأما الأساس الخاص الذي قامت عليه الفلسفة الوضعية: فهو تقدير الطبيعة وتقييمها وحدها كمصدر للمعرفة، والطبيعة، أو الحقيقة,   1 عاش بين 1724-1804م: وهو: Immanuel Kant. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أو الواقع، أو الحس كلها تدل على معنى واحد في نظر الوضعيين، وتقدر هذه الفلسفة الطبيعية، لا كمصدر مستقل فحسب للمعرفة، بل كمصدر فريد للمعرفة اليقينية أو المعرفة الحقة، ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو: أن الطبيعة في نظرها هي التي تنقش الحقيقة في عقل الإنسان، وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة هي التي تكون عقل الإنسان والإنسان -لهذا- لا يملى عليه من خارج الطبيعة أي: لا يملى عليه مما وراءها، كما لا يملى عليه من ذاته الخاصة, إذ ما يأتي من "ما وراء الطبيعة" خداع للحقيقة، وليس حقيقة!! وكذا ما يتصوره العقل من نفسه وهم وتخيل للحقيقة، وليس حقيقة أيضا. وبناء على ذلك: يكون "الدين" -وهو وحي "أي: ما بعد الطبيعة" -خداع! هو وحي ذلك الموجود، الذي لا يحدده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة، هو وحي "الله" الخارج عن هذه الطبيعة كلية. وكذلك "المثالية العقلية" وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي، إذ هي تصورات الإنسان من نفسه، من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله. وإذن ما يتحدث به الإنسان -ككائن شخصي- عن الإنسان كموضوع للوصف أو ما يتحدث به الإنسان عن الطبيعة التي يعيش فيها كموضوع للحكم عليها، مستمدا حديثه عن هذا أو ذاك من معارف الدين أو المثالية العقلية، هو حديث بشيء غير حقيقي عن شيء حقيقي هو: حديث غير صادق، خضع فيه الإنسان المتحدث إلى خداع الدين بحكم التقاليد، أو إلى خداع "الوهم" بحكم غرور الإنسان بنفسه. إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة -أي: ما فيه من معرفة- وليد الطبيعة، التي تتمثل في الوراثة، والبيئة، والحياة الاقتصادية والاجتماعية .... إنه مخلوق. ولكن خالقه الوجود الحسي ... إنه يفكر، ولكن عن تفاعل مع الوجود المحيط به.. إنه مقيد مجبر، وصانع القيد والجبر هو حياته المادية ... ليس هناك عقل سابق على الوجود المادي، كما أنه ليست هناك معرفة سابقة للإنسان عن طريق الوحي ... عقل الإنسان ومعرفته يوجدان تبعا لوجود الإنسان المادي.. هما انطباع لحياته الحسية المادية التي يتنفسها. الطبيعة هي التي تنطق عن نفسها، بل يجب على الإنسان أن يعتمد منطقها إذا أراد أن يعيش فيها. ومنطقها وحده -لا منطق "المؤلهين"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ولا منطق "العقليين"، ولا منطق "أصحاب" النظرية السيكولوجية في معرفة الإنسان- هو الذي يخط الطريق المستقيم في حياة الإنسان، وهو الذي يحدد أهدافه فيها! وطريق الإنسان في حياته الطبيعية يبتدئ من الفرد وينتهي بالجماعة. وإذن: فالفرد نفسه ليس غاية، وحياته التي يعيشها ليست هدفا لسعيه، وإنما غايته الأخيرة التي يجب أن يسعى إليها، ويذهب فيها -كما يذهب العابد الصوفي صاحب عقيدة "الاتحاد" فيما يؤلهه ويعبده- هي الجماعة، وطالما كانت الجماعة هي غاية الفرد الأخيرة، فهي معبودة، وتذهب حريته فيها لتبقى لها الحرية، وتفنى حياته في سبيلها لتبقى لها الحياة الأبدية الخالدة. كومت Comte: و"أوجست كومت"، في مقدمة بناة هذا المذهب الوضعي، كما سبق أن تحدثنا عنه هنا فيما قبل1. ونعيد الحديث عنه مرة أخرى لصلة مذهبه بفلسفة "ماركس" وبما يراه هذا الآخير في أن "الدين مخدر" تلك القضية التي هي موضوع هذا الفصل من الباب. ولا تتجاوز نظرته الفلسفية في قليل ولا كثير الرغبة في الإصلاح الشامل للجماعة الإنسانية، وهو يحمل استقلال الأفراد والبحث الحر واستقلال الاتجاه في الحياة، مسئولية ما ينتج عن "الاستقلال" و"الحرية" من فوضى الآراء وفوضى الأحوال العامة ... وهو إذن من أصحاب "الجبر" و"التقبيد". وإصلاح الجماعة في نظره، يراه في سيادة المعلم على كل شيء. وفي الدرجة الأولى يراه في وجوب إخضاع أعمال الحياة إلى مبدأ عام له اعتباره، إخضاعا يقترب في اتساع نطاقه مما كان لنظام العصر الوسيط والكاثوليكي, وإن اعتبر هذا النظام مضللا في نظره. كما يرى أنه يجب أن يحل "العلم الواقعي" محل "اللاهوت" ... هذا العلم الذي يتحمل حرية الإيمان تحملا قليلا وفي نطاق ضيق، على نحو ما تحمل اللاهوت وقت سيادة الكنيسة!! فاللاهوت المسيحي كان لا يطبق   1 ص 220 من هذا الكتاب "الفكر الإسلامي"، وإعادة الحديث عنه مرة أخرى هنا كالحديث عن الاتجاهات الفكرية في تاريخ الجماعة الأوروبية منذ الإصلاح الديني إلى القرن التاسع عشر، هو لتوضيح فلسفة كارل ماركس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 حرية الإيمان إلا قليلا، فكذلك العلم الواقعي -في نظر "كومت"- لا يصح أن يطيق ما يسمى بـ"حرية الإيمان"، إلا على هذا النحو من الضيق والقلة. وقد عنى "كومت" بهذه الغاية الإصلاحية للجماعة الإنسانية - كما يرينا هنا- ليس فقط فيما سماه "فلسفة التاريخ"، وليس فقط في المشروع الذي وضعه، وهو "دين الإنسانية"وما لهذا الدين من عبادة ... بل قبل كل شيء فيما طلبه من وضع القوة الروحية بجانب القوة المادية في نظام الجماعة الجديد، ولكن على أن لا تكون القوة الروحية مستمدة من تعاليم الكنيسة. والفلسفة الوضعية أو الواقعية، التي يجب أن يقام عليها نظام الجماعة الجديد ليست سوى النظام المنظم للعلم الواقعي نفسه، ونظام العلم الواقعي يقوم على أن "المعرفة الإنسانية" تستند إلى علاقات الظواهر بعضها ببعض، وأنه ليس هناك في دائرة المعرفة "مطلق" يجعل أساسا لمجهول. والمبدأ المطلق الوحيد الذي له اعتبار عام: هو أن كل شيء نسبي.. وإذن ليس هناك فائدة من الحديث عن الأصول والعلل الأولى للوجود، ولا عن أهدافها الأخيرة, وهي معرفة "الميتافيزيقا" و"الدين". و"فندلبند"1 يعلق على فلسفة "كومت" الوضعية بقوله: "إن تاريخ الفلسفة الذي سار به "كومت" كثير التعقيد ... هو جذاب في بعض نقطه، ولكنه في الأكثر يقوم على الهوى وعدم المعرفة والحكم المغرض! ويمكن أن يفهم كبناء فقط لغرضه الإصلاحي. وانتصار "النظرة الواقعية" مع انتصار تنظيم الحياة الصناعية في الوقت نفسه، هو غاية التطور التاريخي للشعوب الأوروبية، هذا الانتصار الذي سيزاوج فيه "الفكر العظيم" "وهو الفلسفة الواقعية"، و"القوة العظيمة" "وهي قوة العمال". "وقانون الدورة الثلاثية، أو قانون المراحل الثلاث التي تمر فيها المعرفة، وهي: الدين، والميتافيزيقا, الواقعية -وهو القانون الذي   1 في كتابه المشهور: تاريخ الفلسفة "Philosophie der Geschichte. ص552. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وضعه "كومت" تأييدا لمعرفة الحس- تأكد بالذات بالحال التي وصل إليها واضع هذا القانون، وهو "كومت" نفسه!! فكومت سقط في المرحلة الأخيرة من مراحل تفكيره في المجال اللاهوتي مرة ثانية, أي: إنه عاد إلى "الدين" مرة أخرى بعد ما تركه، وبعد ما ترك الميتافيزيقا، ليستقر من جديد في "الواقعية" أو "الوضعية"! إذ إنه جعل "الإنسانية" كإله أكبر موضوعا للتقديس الديني، حول فيه كل "جهاز للخدمة المقدسة" في صورة واقعية. و"فندلبند" يشير في تعليقه على فلسفة "كومت"، إلى أنه استخدم "التاريخ" في التدليل على أنه "المعرفة الواقعية" هي غاية التطور التاريخي للشعوب الأوروبية، بجانب تنظيم الحياة الصناعية، وبذلك تكون المعرفة الواقعية هي النوع الوحيد من المعرفة الذي تسعى إليه البشرية ويجب أن تسعى إليه، وهو الذي له اعتباره العام، وليس لغير هذا النوع اعتبار ما. و"التاريخ" الذي استخدمه "كومت" هو "تاريخ المعرفة": - فقد كانت معرفة الإنسان قبل تفلسف الإغريق: ذات طابع ديني. - ثم أصبحت على عهد سقراط وأفلاطون من فلاسفة اليونان عقلية. - ثم مالت بعد ذلك على عهد أرسطو: إلى "التجربة" والواقع. ثم ابتدأت دورة أخرى من جديد ... فاعتبر الدين في القرون الوسطى مصدرا للمعرفة، ثم جعل للعقل اعتباره -بدلا من الدين- في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، ثم قوي الميل إلى اعتبار المعرفة الحسية أو الوضعية وحدها -دون العقل والدين معا- في القرن التاسع عشر. هذه دورة ثلاثية لـ"اعتبار المعرفة" في تاريخ الإنسانية ... فإذا كانت هذه الدورة الثلاثية قانونا لا يتخلف "للمعرفة" أو بالأحرى "لاعتبار" مصدر المعرفة, فالمنتظر -بناء على سير "التاريخ"- أن يعود "الاعتبار" إلى الدين من جديد، بعد أن قويت موجة الواقعية أو الوضعية في القرن التاسع عشر ... فتنكسر حدتها فتضعف، فيقل اعتبارها وعندئذ يعود الاعتبار في المعرفة للدين وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ويلاحظ أن الإسلام -في تاريخ البشرية- أتى على إثر طغيان موجة "الإلحاد" وإنكار ما عدا "الحس" في المعرفة. يقص القرآن موقف الملحدين أرباب الحس من رسالة الإسلام، كمعرفة دينية موحى بها، وهو موقف إنكار لها، لاعتبارهم الحس وحده في المعرفة. يقول تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، إِنْ هُوَ "الرسول" إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} 1. و"كومت" -"ككارل ماركس" بعده، وككل الوضعيين "الحسيين" يعتمد على حركة "التاريخ" فهو في معالجته "المعرفة" اعتمد على تاريخها ... وكذلك "ماركس" في معالجته "الاقتصاد" اعتمد على تاريخ الاقتصاد ... وهكذا.. والنتيجة التي وصل إليها "كومت" في المعرفة وهي اعتبار المعرفة الواقعية وحدها، وكذلك النتيجة التي وصل إليها "ماركس" في الاقتصاد وهي: اعتبار الاشتراكية الجماعية وحدها، وكذلك كل نتيجة لبحث وضعي اعتمد على حركة التاريخ هي نتيجة إيمان بأحداث متعاقبة في تاريخ البشرية. فإذا كان تعاقب هذه الأحداث قانونا للحياة البشرية لا يختلف، فما وصل إليه "كومت" في المعرفة, وما وصل إليه "ماركس" في الاقتصاد -كما سيأتي- أمر مؤقت ينتظر أن يذهب، ليحل محله ما أعقبه في صورة الحياة البشرية الثلاثية ... وإذن هي نتائج ليس لها صفة الاستقرار والدوام، ومن يعتبرها من هؤلاء المفكرين أمرا دائما وطابعا للحياة لا يتغير، يكون مؤمنا بما وصل إليه، أكثر من كونه ملاحظا لأحداث التاريخ, تلك الأحداث التي تمر في سلسلتها المتعاقبة الحلقات، والتي تبتدئ من نقطة لتعود إليها من جديد بعد حين. وقد أنكر هؤلاء المفكرون "الإيمان" كمصدر للمعرفة, وقامت فلسفتهم الحسية على إنكاره. وهنا يسجل "فندلبند" في ملاحظته على "كومت"! أنه دار مع نفسه في البحث، بما يمثل المراحل الثلاث لقانون "الدورة الثلاثية" في تاريخ المعرفة: فأنكر الدين، ثم أنكر العقل، ليستقر بعد ذلك في الواقعية ثم رجع فعاد إلى الدين والإيمان، إذ جعل إلهه هواه الذي يتمثل في الإنسانية.   1 المؤمنون: 35-38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ولكن ما نلاحظه نحن هنا على "كومت" هو ما ينتظر من تطبيق قانون الدورة الثلاثية في المعرفة كقانون لا يتخلف، وما تحكم به من توقع سير حركة "المعرفة" من جديد نحو الدين والإيمان، هو نتيجة تطبيق هذا القانون، وليس نتيجة لرغبة خاصة وهوى معين. فيرباخ Feuerbach: وثاني الفلاسفة المقدمين في الفلسفة الوضعية "فيرباخ"1 الفيلسوف الألماني تلك الفلسفة التي سيطرت على تفكير القرن التاسع عشر، والتي اشتد جدلها الفكري ضد الدين "المسيحي" على وجه خاص، وإن أصابت كذلك "المثالية العقلية". "فيرباخ" يرى أن الفلسفة هي علم "الواقع" في حقيقته، وفي عمومه، وجوهر "الواقع" هو الطبيعة الشاملة، التي تدرك بطريق الحواس، وعنده أن الحقيقة، والواقع، والحس كلها سواء. وليست "الحقيقة" بل هي المادية، ولا هي المثالية النظرية، ولا هي علم الطبيعة، ولا علم النفس ... هي علم الإنسان فقط، وعن طريق علم الإنسان يعرف أن ما يسمى "بالجسمي" وما يسمى أيضا "بالنفسى" يكونان في الإنسان "وحدة الحياة" و"وحدة الواقع" تلك الوحدة التي لا تنفصل ولا تنقسم إلى جسمي ونفسي إلا في الاعتبار فقط. وفي نظره من جانب آخر: إن علم الإنسان أيضا هو الدين، والدين إذن محصول للعقل الإنساني، وليس موحي به من خارج الإنسان، والطبيعة الإلهية كذلك هي طبيعة الإنسان نفسه، التي تجردت من قيود الفردية والشخصية، أي: قيود الإنسان الواقعي الجسمي ... هي الإنسانية، هذه الطبيعة الإنسانية المتجردة ينظر إليها في احترام وخشية وقدسية، على أنها شيء آخر مقابل لطبيعة الإنسان الفردية، والله بالنسبة للإنسان، هو   1 عاش بين سنتي 1804-1872، وهو Ludwing Feurebach وفلسفته تعتبر من الأسس القوية في بناء الماركسية، التي جعلت شعارها "الدين مخدر"، وهو موضوع هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 كتاب جامع لإحساسات الإنسان العالية، وأفكاره وآماله1. الله هو: صاحب كل قوة، وهو الرحيم، وهو المحبة ... ومعنى ذلك: أنه في نظر "فيرباخ" ليس هناك شيء آخر غير القوة والرحمة والمحبة التي هي إلهية, والحكمة والعدالة والخيرية تسود الحياة الإنسانية فقط عندما يكون حكيما عدلا خيرًا. وأيضا في نظره الحياة الأخروية ليست شيئا آخر غير هذه الحياة الإنسانية -على اعتبار أن الله ليس شيئا آخر غير الإنسان، إذا كان حكيما عدلا خيرا. لكن بعد أن ينظر إليها نظرة مثالية، والفجوة القديمة -على نحو ما تصور الأديان- بين هذه الحياة والحياة الأخرى يجب أن تزول، كي تركز الإنسانية نفسها، بنفس غير مشتتة وقلب موحد، في عالمها المشاهد وفي حاضرها القائم، وعن طريق هذا التركيز غير الموزع، في العالم الواقعي فقط، تقوم حياة جديدة للإنسان، وتنتج أعمال وتأملات كبيرة، وينشأ عظماء من الناس. وإذا انقطع "إيماننا" وتصديقنا بحياة أفضل "في الآخرة"، وأردنا مع ذلك في غير تفرق إيجاد حياة أفضل، فسنخلق أيضا حياة أفضل، ولكن لكي نريد هذا، ونريد أن نحققه، يجب أن نضع مكان محبة الله محبة الإنسان كدين وحيد، حق، وأن نضع مكان الإيمان بالله، الإيمان بالإنسان نفسه وبإمكانياته الخاصة وبعظمته ... الإيمان بأن تقرير المصير للإنسانية ليس من طبيعة خارجة عنها أو فوقها, وإنما يرتبط بها نفسها تمام الارتباط. هذا مجمل ما تنطق به فلسفة "فيرباخ" وسنرى أن فكرة "التعويض" في الدين، التي احتلت منزلة كبيرة في فلسفة فيرباخ هذه -بعد أن تبنتها فلسفة "كومت" قبله- لا تقل تأثيرا في المذهب الماركسي وفي صراعه ضد الدين، عن الأفكار الرئيسية التي أقام عليها "كارل ماركس"   1 يردد هذا المعنى كثيرا في الكتب الشيوعية، وكنموذج في التأليف العربي للشيوعية يراجع كتاب "الله والإنسان"، ص100, 101 مصطفى محمود، من سلسلة: كتب للجميع، عدد مارس سنة 1957، صدر عن دار الجمهورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 دعائم فلسفته الخاصة، والتي استعارها من "هيجل"، و"كومت", بعد تعديل في فهم بعضها، وتوسع في تطبيق بعضها الآخر. اشتين تال Steinthal: وكان من الممكن أن لا يعنينا الحديث عن هذا الفيلسوف الألماني الآخر1 في هذا الفصل الذي نحاول فيه بيان الصلة بين دعوى أن "الدين مخدر" وتفكير القرن التاسع عشر في أوروبا، غير أنه لما مهد للماركسية باستخدام فكرة "العقل المجرد" المعروفة لـ"هيجل" على نحو آخر جعل به عقل الإنسان تابعا للمادة -آثرنا أن نذكر رأيه هنا في "العقل المجرد"، إذ إن تبعية العقل للمادة أساس رئيسي في تعاليم الماركسية- كما سنرى، وهو يلعب دورا قويا في الصراع بينها وبين الدين. و"أشتين تال" أعطى مبدأ "العقل المجرد" عند "هيجل" صورة أخرى حينما فهمه كمبدأ "نفسي وتجربي خالص"، وليس كمبدأ عقلي ومثالي- كما فهمه "هيجل" نفسه، وبناء على ما صور به "اشتين تال" هذه الفكرة، أصبح للأحداث الكثيرة دور رئيسي في حياة الفرد العقلية فـ"العقل المجرد" عنده هو ترابط وصلات نفسية, ينمو فيها الإنسان. وبواسطتها كان ويكون، وهو عضو فيها لا ينفصل عنها بحال. وهذا الترابط ينشأ من التحديد التاريخي للجماعة ثم من العقل العام الذي يوضع أساسا، للحياة الفردية، والعقل العام -كما يراه "اشتين تال"- يعبر عن نفسه تعبيرا غير شخصي، يعبر عن نفسه في اللغة، والعادات، والمنظمات العامة. والذي يكون تاريخ الجماعة ثم عقلها العام هو أحداث الحياة، وما يقع فيها من تطورات، والإنسان الفرد متأثر بهذا العقل العام ويتحدد به. وإذن "العقل المجرد": ليس فكرة عامة تعلو الكائنات المتفرقة، وتخرج عن نطاقها ثم تطلق هذه الكائنات مع تفرقها، كفكرة الدولة. والجماعة، والفن على نحو ما تصور "هيجل" وإنما هو بالأحرى جو   1 عاش بين سنتي؟ -1899, هو Heymann Steinthal فيلسوف يهودي وباحث لغوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 نفسي، تكون أولا من أحداث مادية، ومن جملة من العلاقات والروابط تجمعت كصورة لما يقع في تاريخ الجماعة، ولما يكون لها من تقاليد، ومنظمات، ولغة، وعندئذ يعيش العقل المجرد في صميم الحياة، ويعتبر مرآة لما يجري فيها، ومصدرا أيضا لتكوين عقول الأفراد. وعقول الأفراد إذن بالنسبة له صور له وأفراد منه، وحادثة عنه. ماركس Marx: والآن يكفي ما قدمنا من فلاسفة مؤيدين لسيادة "الطبيعة" على العقل والدين معا، لكي ننتقل إلى "ماركس"1. إنه الفيلسوف الذي أثر تأثيرا كبيرا في انتصار البحث الطبيعي الواقعي على الميتافيزيقا، وعلى طريقة التفكير الخاصة بعصر التنوير في القرن التاسع عشر. وآراؤه مع إنجلز Engles تعتبر دستور الماركسية فيما يسمى بالاشتراكية الجماعية، أو ما يسمى بالشيوعية، أو البلشفية. أ- الصراع بين الطبقات: وماركس له جدل "Dialektik" ومنطق، استخدم فيه "النقيض" Der Widerspruch Principium، الذي عرف للفيلسوفين الألمانيين قبله: "فيشته" و"هيجل" ... ولكنه استخدمه في مجال آخر، غير مجال "التصور الذهني" الذي وجدناه عند "فيشته"، وغير مجال "الفكرة" التي عرفناها لـ"هيجل" استخدامه في مجال "الاقتصاد"، واستند في هذا الاستخدام إلى تاريخ الجماعة. فكل "شيء" -في نظره- يتضمن نقيضه، بحيث إن كل "شيء" يهدم نفسه، وهذا هو التصوير العام لمبدأ النقيض، ولكن "ماركس" يستخدمه كي يدلل على وقوع انهيار "المجتمعات" وسقوطها، تلك   1 عاش بين سنتي 1818-1883، هو Karl Marx: فيلسوف يهودي ألماني، وعالم اجتماع، وصاحب المذهب المادي التاريخي، وصاحب فلسفة التاريخ المادية للمذهب الاجتماعي، بالاشتراك مع: Engles. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 المجتمعات التي قامت على أساس من "الرأسمالية"، فالمجتمعات السابقة على الرأسمالية، وهي: دول الملوك، والمجتمعات الإقطاعية "أصحاب المزارع الكبيرة" انهارات -بناء على تفكير "ماركس"- لأنها تضمنت عنصر المقابلة، أو النقيض. وعلى هذا النحو ستنهار هذه المجتمعات الحديثة الرأسمالية، وتتحول إلى المقابل والنقيض لها وهو المجتمع الشيوعي ذو الطبقة الواحدة من العمال. ومع أن مبدأ "النقيض" لا يقف بتحول الشيء إلى مقابله فقط، بل سيتحول الشيء ومقابله إلى "جامع" لهما، ثم هذا "الجامع" بدوره يصير إلى "شيء" يتحول هو أيضا إلى مقابلة، ثم إلى "جامع" ... وهكذا مع أن منطق هذا المبدأ هو الاستمرار في "التحول"، فالماركسية تقف تترقب تحول المجتمع الرأسمالي إلى النقيض والمقابل له وهو المجتمع الشيوعي، عند حد هذا المجتمع، ولا تذكر -فضلا عن أن تترقب- توقع انهيار المجتمع الشيوعي وسقوطه، وهدم نفسه في مجتمع مقابل له، بناء على أن كل شيء يتضمن نقيض نفسه، وأن فيه عامل الهدم لنفسه!! وهذا مما يؤخذ على التطبيق الفلسفي لمبدأ النقيض في الفلسفة الماركسية، كما سنذكره في شيء من التفصيل فيما بعد. ويرى "ماركس" أن انتقال الشيء وتغيره إلى نقيضه -تبيقا لمبدأ النقيض- يحدث بالتدريج، ولكن التدرج في التغير يصل إلى نقطة معينة، ثم يحصل انقلاب فجائي، وهذا التغير يحدث بسبب زيادة كمية الشيء أو نقصها، والتغيير في الكم يتبعه تغير في الكيف والطابع معا، "والشيء" بعد أن تتغير كميته يكون له طابع جديد، أو حال جديدة تختلف عن حاله الماضية1.   1 فإذا كان إنسان يسخن الماء، فإن سرعة الذرات ترتفع بالتدريج نحو أعلى إلى نقطة معينة، وبعد ذلك يأتي التغير المفاجئ الثوري، فليس عندنا ماء، إنما عندنا بخار. وفي بخار الماركسية، أن الزيادة في حرارة الماء تغير في الكم، ولكن عندما يحصل التغير المفاجئ يكون هناك بخار, الذي هو يختلف في الكيف والنوع عن الماء وبهذا المثل يثبت "ماركس" شيئين: أولا: أن تغير الكم يتبعه تغير الكيف، وثانيا: أن الانقلاب في التغير أمر ضروري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وعندما يقول "ماركس": إن كل "شيء" يتغير بالتدريج ولكن إلى نقطة معينة فقط، يقصد حرفيا كل شيء. وهذا معناه أن كل شيء في الطبيعة مدفوع لأن يطفر ويطفح في الوجود، ثم يختفي عن طريق الانقلاب المفاجئ والتغير الثوري، ومن الخطأ في نظر "ماركس": قبول مبدأ التغير بالتدريج كحادث مستمر، بدون انقلاب، ولا يهم أن نتحدث هنا عن الجماعة، أو الكائن العضوي الحيوي، فكل شيء بالنسبة إلى الماركسية، يجب في وقت خاص أن يمر بانقلاب فجائي ثوري، و"الانقلاب ظاهرة طبيعية -في نظره- لكل موجود أو لكل ما يوجد". ومعنى هذا القول أيضا أن كل شيء يوجد، هو في حال تغير دائم، كل شيء هو صيرورة، فلا شيء في الوجود يبقى على حال واحد. كل شيء جاء إلى الكينونة ينمو ويتطور، وفي النهاية يمضي ويذهب. وكنتيجة لهذا القول: تدعي الماركسية أن الذي يعتقد من الناس في القيم أنها أزلية أي: يعتقد بقيم خالدة, هو مصدق بأشياء لا توجد في هذه الطبيعة، حتى هؤلاء الذين يعتقدون أن بعض القيم يجب أن يحتفظ بها للوقت الحاضر أو للحال الراهن، هم مصدقون أيضا بما لا يقع. فإذا اعتقد شخص أن كل شيء يتغير، فمن السذاجة بعد ذلك أن يكون محافظًا!! وقسم من الراديكالية الماركسية يتفرع عن هذا المنطق. وهنا نجد أن الماركسية أدخلت على مبدأ النقيض -الذي يفرض الانتقال والتغير- ظاهرة أخرى هي ظاهرة "الانقلاب" و"الثورة" عندما يصل الأمر في انتقاله إلى مرحلة معينة، كما أنها تقيس انتقال المجتمع من طبقة إلى طبقة على الماء "الطبيعي" في انتقاله من حال إلى حال -أي: في انتقاله إلى بخار- وذلك أنه لا بد فيه من "انقلاب" و"ثورة". وبالإضافة إلى هذا وذاك نجدها وسعت دائرة "الشيء" فلم يعد الكائن الطبيعي، وإنما أيضا يشمل "القيم الأخلاقية"، ولم تصبح القيم الأخلاقية قابلة للتغير فحسب -في نظر الماركسية- بل واجبة التغير ... وتنتقل القيمة إلى نقيضها في تدرج، ثم يتم التغير أو الانقلاب فجأة ودفعة واحدة. وعلى نحو صنيع "هيجل" في صياغة "مبدأ النقيض"، وتوضح الماركسية أن كل شيء يتضمن قوتين رئيسيتين متقابلتين: واحدة تسمى "الدعوى" والأخرى تسمى "مقابل الدعوى"، هاتان القوتان تهدم إحداهما الأخرى، ولكن ينشأ من الهدم حالة جديدة تسمى "جامع الدعوى ومقابلها"، ثم يسقط هذا الجامع ويتحول إلى مقابله، وعندئذ نحصل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 دعوى أخرى وعلى مقابل الدعوى من جديد، ثم ينشأ من تقابلهما وتناقضهما جامع جديد، وهكذا ... في تسلسل لا نهاية له, وصياغة مبدأ النقيض في هذه العبارات، ربما ناسب تطبيقه في دائرة المجتمع التي اختارتها الماركسية مجالا للتطبيق، وربما ناسبه أيضا معنى "الصراع" بين الطبقات في الجماعة الذي حرصت هي أيضا على أن يكون مصطلحا خاصا بها، وذلك بدلا من "التقابل" بين "الشيء" و"مقابله" وهو ما اصطلح عليه "فيشته" و"هيجل" من قبل، عند شرح "مبدأ النقيض". وقد اختارات الماركسية مبدأ النقيض في دائرة "المجتمع"، واستخدمته لتحاول أن تبرهن به على أن الشيوعية مجتمع أسمى في القيمة من كل مجتمع وجد قبلها. - فالمجتمع ذو النظام الملكي سقط وتحول إلى الجانب المقابل له. - والجانب المقابل له طرفان، وهو حكام الملك من جانب والعبيد والفقراء في رعيته من جانب آخر. - ثم من الفريقين المتقابلين "حكام الملك ورعيته من العبيد والفقراء" تكون الجامع بين "الشيء"، و"مقابله"، وهو المجتمع الإقطاعي -إذ حكام الملك أصبحوا أصحاب الأراضي، والفقراء أصبحوا هم المستأجرون لها. - ومن الكفاح في المجتمع الإقطاعي بين الملاك والفلاحين نشأت الرأسمالية الصناعية، وبذلك سقط الإقطاع في القوة المقابلة له وهي الرأسمالية. - وتريد الماركسية أن تقول لك الآن: إن الرأسمالية -وفيها طرفان متقابلان: أصحاب مال وعمال- سيسقه أحد طرفيها في القوة المقابلة له وهي قوة العمال، والمجتمع الجديد، هو المجتمع الاشتراكي ذو الطبقة الواحدة. ولكن أيقف مبدأ "النقيض" عند هذا المجتمع الجديد ذي الطبقة الواحدة أم سيسقط هو بدوره في مقابل له كما هو منطق هذا المبدأ الذي يعد كضرورة حتمية في الوجود؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وترى الماركسية أن انتقال المجتمع من حال إلى حال يصحبه تطور في القيمة ... فالإقطاع أسمى من دولة الملك، والرأسمالية أسمى من الإقطاع، والشيوعية إذن أسمى من المجتمع الرأسمالي!! وادعاء أن كل مجتمع أسمى من سابقه مصدر براق للدعاية الشيوعية، وكثير من الناس يصيرون أتباعا للشيوعية؛ لأنهم يعتقدون أنهم يعملون من أجل عالم أحسن من أي عالم آخر وجد قبل ذلك. وبما أن مبدأ "النقيض" مبدأ ضروري في الوجود -وإن كانت ضرورته لا تتجاوز دائرة "التصور الإنساني" أو دائرة "الفكرة"، كما عرف الأمر عند "فيشته" و"هيجل"- فدعاة الشيوعية يذكرون أنهم لا يخلقون الكفاح بين الطبقات أي: لا يوجدون التناقض بينها، بل هم يلاحظون الوجود في سيره فقط. وهكذا استخدمت الماركسية مبدأ "النقيض" في دائرة الجماعة الإنسانية، وعدلت باستخدامه عن المجال الذي استخدم فيه من قبل، وطبقته على "القيم" الأخلاقية قياسا على تطبيقه في "الشيء" المحس، واستحدثت "الانقلاب" و"الثورة" في مجرى التغير، كظاهرة عامة له، يجب أن تخضع لها "الجماعة" الإنسانية و"القيمة" الأخلاقية، على نحو ما يشاهد في "الشيء" الطبيعي، وعلى الأخص على نحو ما يشاهد في تحول الماء إلى بخار. وكما سار "هيجل" في تطبيق هذا المبدأ في دائرة "الشيء" "Das Ding" أن "الشيء" متغير من حال إلى حال، ومن أن فهم هذا الشيء أو معرفته، من أجل ذلك، عبارة عن إدراكه في صلاته بغيره من الأشياء, تذكر الماركسية أيضا: أن كل شيء له علاقة بالآخر، وأن فهمه هو إدراكه في صلاته بغيره من الأشياء، وكل شيء هو كل شيء، وليس الشيء الطبيعي وحده. فالإنسان في نظرها، إذا أريد الوقوف على خصائصه، لا بد أن يدرس: ككائن حي، وككائن نفسي، وككائن عضوي، باعتبار وسطه الاجتماعي، متضمنا هذا الوسط أسرته وحياته، ومدينته، وبلده ونظامه السياسي والاقتصادي، وصلته بالعالم على نطاق واسع. ب- الدين مخدر: ولـ"ماركس" نظرية مادية، تأثر فيها بـ"كوميت" وهو لا ينكر وجود "العقل" كما ينكره المذهب المادي الميكانيكي، ولكنه لا يدعي فحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 إن المادة توجد قبل أن يوجد العقل. بل يدعي أيضا أن المادة أكثر أهمية وأكثر اعتبارا من العقل، إن العقل متوقف على المادة في وجوده ولا يمكن أن يوجد منفصلا عنها، ونتيجة ذلك: أن "ماركس" لا ينكر فقط أن يبقى العقل "أو الروح" بعد الجسم، بل يرفض الفكرة الأساسية في الدين، وهي الإيمان بالله، كموجود أزلي مستقل تماما، ومتجرد تماما عن المادة. وكحقيقة واضحة في الماركسية: كل دين بالنسبة لماركس -من حيث المبدأ- لعنة.. وماركس يحدثنا أن "كل دين مخدر للشعب". وتبعية العقل "للمادة" في الوجود، يصورها "ماركس" في صورة أن العقل انعكاس للمادة، وليس كما يصرح "هيجل" بأن المادة انعكاس للعقل. وهذا يعني أن العقل نوع من المرآة العاكسة للعالم المادي، وهذا التصور الماركسي للحقيقة المادية على أنها الأصل، يشمل في عموم منطق الماركسية كل الأحداث الطبيعية وما يحيط بها، ولكن في التطبيق لهذا المنطق الماركسي الأولي تعتبر المنظمات والأحداث الاقتصادية -من وجهات نظر متعددة- هي القوة المادية الرئيسية أيضا. أما الأحداث السياسية والاجتماعية, والأخلاقية فهي انعكاس للأحداث الاقتصادية الراهنة، و"ماركس" و"إنجلز" إن وجدا مغزى التاريخ في أحداث الحياة الاجتماعية بصفة عامة، لكنهما ينظران إلى الجانب الاقتصادي بالذات من بين أحداث هذه الحياة. والأحوال الاقتصادية تبعا لتقديرهما، هي العوامل المحددة في كل الحالات الاجتماعية وهي التي تكون البواعث النهائية لكل الأعمال الإنسانية في تاريخ الجماعة البشرية. وتغير الأحوال الاقتصادية وتطورها يؤثر وحده بذلك على حياة الدولة، وعلى سياستها، وكذلك على العلم، والدين، وهكذا: كل الإنتاج الثقافي والذهني فرع عن الحياة الاقتصادية، وكل التاريخ لهذا يجب أن يكون تاريخ اقتصاد. و"إنجلز" Engles1 على الخصوص يعبر عن هذا المعنى تعبيرا واضحا، فيذكر أن الإنتاج الاقتصادي في كل فترة من فترات التاريخ   1 عاش بين سنتي 1820-1895:وهو Freedrich Engels فيلسوف وعالم اجتماع، وزميل لماركس، والمخرج للجزأين: الثاني والثالث من كتاب "رأس المال" من تأليفه وتأليف "ماركس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 -الذي يتبعه بالضرورة عنده التقسيم الاجتماعي إلى طبقات- يصور أساسا التاريخ السياسي والعقلي معا لهذه الفترة، والتاريخ كله، بناء على ذلك، كان تاريخ الكفاح بين الطبقات: الكفاح بين المستغلين والمستغلين؛ بين الطبقات السائدة والمسودة على درجات مختلفة في التطور الاجتماعي، ويحكم مبدأ "النقيض" هنا "Der Widrspruch" متنبئا أن هذ الكفاح وصل الآن إلى درجة معينة عندما لم تستطع الطبقة المستغلة المستذلة -وهي الطبقة العاملة- أن تتخلص تماما من الطبقة المستغلة المذلة -وهي الطبقة المدنية البورجوازية Bourgeoisie- وتخلص الجماعة كلها من الاستغلال والاستذلال, وستحل محل الجماعة المدنية القديمة بطبقاتها المختلفة رابطة فيها التطور الحر لكل فرد، الذي هو التطور للجميع، ومن هذا التعبير جعل شعار الشيوعية: "التطور الحر لكل فرد، هو التطور الحر للجميع". والعقل الإنساني إذا كان تابعا للأحداث المادية بوجه عام، فإنه الآن يخضع خضوعا مباشرا وقويا للجانب الاقتصاي منها، و"فاعلية" العقل في نظر الماركسية، هي في تبادله العمل مع المادة، ولكن الأفكار لا تأتي من العمل الحر للعقل، ولكن تظهر كنتيجة للقوى المادية المؤثرة على الجهاز الإنساني، وكنتيجة لأفكارنا، نحن نعمل ونغير بناء العالم, ثم العالم المتغير يعطينا أفكارًا جديدة، وهكذا بدون نهاية. لأجل هذا الارتباط الوثيق بين العقل والمادة، في نظر الماركسية، ينكر "ماركس" أن يكون السؤال: "هل الحقيقة المجردة خصيصة من خصائص العقل البشري؟ " سؤالا نظريا يجيب عنه العقل وحده، دون الاختبار الواقعي والتجربة الحسية -كما يصنع أرباب الفلسفة "العقلية"، ويراه سؤالا عمليا، أي: تجيب عنه التجربة، كما يرى أن عزل "الحقيقة" وعزل "عدم الحقيقة" الفكرية عن الواقع العملي مسألة بيزنطية، وأن الفلاسفة في شرحهم للعالم، حتى الآن شروحا مختلفة قد تركوا النقطة الرئيسية، وهي تغير العالم. ثم إن كل شيء يمكن معرفته، ولكن الجواب الذي نبحث عنه -كما يرى ماركس- هو: طريقة البحث العلمي، والبحث العلمي كما يراه هو: الذي يؤسس على النظرة المادية في المنطق والجدل، أي: على ربط العقل بالمادة، وإخضاع كل شيء حتى القيم للتغير الذي هو ظاهرة مبدأ النقيض، كمبدأ ضرورة في شرح الوجود كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 جـ- المذهب المادي التاريخي: ولأن "ماركس" طبق مبدأ النقيض الذي تصحبه ظاهرة التغير في "المجتمع" وحاول أن يدلل على الانتقالات "إلى الضد" من تاريخه المادي، وبالأخص من الجانب الاقتصادي فيه, عرف مذهبه بالمذهب المادي التاريخي، وقد يذكر أيضا باسم "المذهب التاريخي الاقتصادي" وإذن هو: نوع من فلسفة التاريخ يحاول توضيح العادات التي تطورت فيها الجماعات. من الماضي البدائي إلى الوقت الحاضر، مع التنبؤ بما سيحدث في وقتنا الحاضر، وكذلك بما سيقع في المستقبل وليس من الممكن، في نظر "ماركس" أن تتطور الأحداث الاجتماعية وتتغير وبالتالي يتكون التاريخ للجماعة، في صورة عظماء من الزعماء أو المفكرين الذين يظهرون من وقت لآخر، ولكن نمو هذه الأحداث التاريخية وتطورها يكمن في القوى المادية وحدها، التي لها قيمتها في العمل في الجماعة، وهذه القوى -كما ذكرها- هي القوى الاقتصادية، وعلى الأخص نوع مخصوص منها، وهي التي بين المال والعمل، فالقوى الاقتصادية كلها تتبع العلاقة بين الملاك، والأجور التي تدفع للإنتاج من جانب، والعمال الذين يصنعون الإنتاج من جانب آخر. فإذا كانت هذه العلاقة متوازية توازيا سليما استقرت الجماعة، وإذا كانت خارجة عن هذا الضرب من التوازن تطلبت الجماعة التغيير: وتوضح الماركسية هذه العلاقة على النحو التالي: - في أثناء الجزء الأول من القرن التاسع عشر كانت الصناعة في الجملة إنتاجا لعمليات صغيرة، وكانت تباشر مباشرة متفرقة، إذ إن كثيرا من المحال التجارية كانت محال الأفراد، وكانت مملوكة ملكا خاصا، وكان المالك للمحل لا يملك الأجور والنفقات فحسب، بل كان هو نفسه يصنع الإنتاج، وكانت الصلة لذلك بين الملك الشخصي والإنتاج الشخصي تساوي واحد لواحد. وهذه العلاقة المتناسقة عبرت عن عدم الاستقرار -تبعا لمبدأ أن كل شيء ينطوي على نقيضه- الذي تطور كنتيجة لسقوط النظام الإقطاعي القديم، ووصل إلى الحال الجديدة وهي المباشرة الحرة للرأسمالية. - ولكن التقابل والتناقض المنطوي في الرأسمالية "أصحاب رءوس الأموال من جانب والعمال من جانب آخر" أنتج حالة جديدة، هي حالة عدم التوازن. فالصناعات والأجور بيد ملاك خصوصيين وهم قلة, بينما المصنوعات والمنتجات كانت تصنع بواسطة مجهودات متجمعة لعمال كثيرين, وهذا يعني أن العلاقة بين الملكية الخاصة للأجور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 والإنتاج من جانب، والطريقة الجماعية للإنتاج من جانب آخر، هي علاقة عدم الانسجام، وهذا يقضي بأن الانسجام في الجماعة لا يعود حتى تكون الصناعات جماعية أي: إن استقرار الجماعة لا يكون حتى تولد الجماعة الشيوعية. ولكن من جديد؛ إذا قامت الجماعة الشيوعية. هل سينتظر سقوطها في الجماعة المقابلة لها، تطبيقا لمبدأ النقيض الموجب للتغير المستمر وانتقال الشيء إلى نقيضه، أم تتوقف ضرورة هذا المبدأ عن قيام الدولة الشيوعية وحدها؟ هنا يصمت المبدأ, وتتحدث الرغبة. فالمذهب المادي التاريخي عبارة عن تحليل للحوادث التاريخية، بواسطة تطبيق مبادئ البحث الجدلي، القائم على "مبدأ النقيض". والنظرية الاقتصادية لماركس ليست نظرية اقتصادية للاقتصاد الجماعي، بل هي بالأحرى محاولة لفهم طبيعة الرأسمالية, فهو يدعي أن القيمة الحقيقية للمصنوعات تقاس بمقياس مبلغ قوة العمل الجماعي الضروري التي تنتج هذه المصنوعات، ولكن لا يدفع للعمال مقابل القيمة الكلية للمصنوعات؛ لأن ملاك الصناعات الرأسماليين يحتفظون بنصيب لأنفسهم, وهو النصيب الذي يمثل الفرق بين القيمة الحقيقية للمصنوعات المنتجة وجملة النقود التي دفعت للعمال، وطالما لا تدفع للعمال القيمة الحقيقية للمصنوعات فهناك فضلة في الإنتاج لا تباع، وبالتالي هناك "بطالة" بين العمال، وبالتالي هناك عدم استقرار. د- الماركسية كنظام سياسي للجماعة: وأخيرا ليس هناك في النظام الشيوعي مكان لأكثر من حزب واحد. هو الحزب الشيوعي، والاشتراكية يجب أن تحل محل الرأسمالية وكل الصناعات، والمزارع، ومصادر الثروة الطبيعية، والخدمات، يجب أن تملكها الدولة, وتشرف عليها. وهذه الجماعة الجديدة الاشتراكية أو الشيوعية، تبرز للوجود عن طريق الكفاح بين الطبقات كنتيجة لحرب أو ضغط، ويسقط النظام القديم السابق عليها وتنشأ دكتاتورية من العمال، والمعارضون القدامى يجب أن يتحولوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 و"ماركس" يعتقد أن جوهر الدولة هو في سيادتها وسيطرتها، وهذا يعني في الواقع القوة البوليسية، والقوة البوليسية تكون حيث توجد طبقات، وما دامت الجماعة الشيوعية طبقة واحد، فلا بد أن تختفي السيادة وتخفى معها القوة البوليسية وتبقى بالتالي الجماعة الشيوعية. وبذلك يريد "ماركس" أن يضفي على المجتمع الشيوعي طابعا خلقيا، وهو أنه لا يحتاج إلى حراسة خارجية عن ذوات الأفراد، طالما أصبح هناك استقرار نفسي بتحوله إلى مجتمع ذي طبقة واحدة، إذ بذلك يتوفر الإطمئنان، ويرتفع الحقد. وما يصنعه "ماركس" في هذا التبرير يشبه ما يتميز به المجتمع المؤمن بالله من عدم حاجته إلى حراسة خارجية؛ اكتفاء بأثر الضمير الديني الذي للأفراد. ويعتقد أيضا -تطبيقا لمبدأ النقيض في مجال الجماعة- أن الشيوعية آتية لا بد منها, وأن الشعب سيضطر لأن يأخذ جانبا في كفاح الطبقات، لإحداث الانقلاب، الذي لا بد منه في المرحلة الأخيرة من مراحل التغير. ودكتاتورية العمال التي يئول إليها الأمر في الجماعة يجب أن تكون منظمة تنظيما محكما، كما يجب أن تكون مختارة من العمال المهرة الذين يعيشون في المناطق التي تسودها الصناعات. قيمة الماركسية كمذهب فلسفي: يتضح الآن: أن الماركسية امتداد للصراع بين "الطبيعة والحس" من جانب، وبين "الدين" والميتافيزيقا" من جانب آخر ... إنها صراع فكري بين الله والعقل من جانب، والمادة من جانب آخر ... هي صراع بين قيمة الإنسان والحياة الإنسانية، وبين ما عدا الإنسان والحياة الإنسانية من العالم المحسوس، وقيمة الحياة الحسية ... هي صراع بين "حرية" الإنسان في أن يتصور، وفي أن يوجه الطبيعة ويرتفع بقوته البشرية فوق قوتها المادية، وبين "جبر" الطبيعة للإنسان وإملائها عليه تكوينه الخاص، وتوجيهه المعين، وهدفه الذي لا ينفك عنه في حياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 إن الصراع بين الدين والميتافيزيقا، وبين الماركسية، صراع قديم منذ وجد الدين، وقبل أن تتكون الميتافيزيقا كعلم، وقبل أن يوجد "كارل ماركس"، إنه قديم منذ أن عتقد الإنسان في الله، والشيطان معا!! ثم أخذ ألوانا شتى، وأسماء مختلفة إلى أن وصل إلى "ماركس" في القرن التاسع عشر. وصراع الدين والميتافيزيقا مع الماركسية صراع أوروبي، ومن إنتاج العقلية الأوروبية وحدها، وتحت ضغط الحياة الأوروبية وما فيها من قلق واضطراب، فهو يمثل حلقة من حلقات العقلية الأوروبية. وإن التفكير الأوروبي منذ النهضة الأوروبية -التي استغرقت القرنين الخامس عشر في فلورنس والسادس عشر في روما، حتى وقت هذا الصراع الماركسي العقلي- هو محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة: - ما قيمة "النص" أو الدين في التوجه والمعرفة؟ - ما قيمة "العقل" أو المثالية في التوجيه والمعرفة؟ - ما قيمة "الحس" أو الواقع في التوجيه والمعرفة؟ والماركسية، كمذهب فلسفي، يؤمن بالحس وقيمته في التوجيه، هو ضد الدين والعقل معا، وقد تكون من عدة مدارس فلسفية وجدت قبل الماركسية أما في القرن التاسع عشر نفسه، أو في القرن الثامن عشر الذي قبله: 1- فاستخدمت مبدأ "النقيض Der Widerspruch: Principium Contradiction" ضد العقل والوحي معا، ذلك المبدأ الذي قامت عليه فلسفة "فيشته" لتأييد العقل، وقامت عليه فلسفة "هيجل" لتأييد العقل والوحي على السواء، واستخدمت هذا المبدأ في "الأشياء"، وجعلت "القيم" و"الجماعة" من بين الأشياء. - وطبقا لاستخدامه في دائرة القيم: أصبحت القيم في نظرها تتغير، وأصبح الاعتقاد بثباتها وهما. - وطبقا لاستخدامه في دائرة الجماعة: أصبحت الجماعة غير مستقرة، وينتظر فيها التحول حتما، ثم الانقلاب من وقت لآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 - وإذ تدعو إلى تغير القيم: تكافح المثالية، والتقاليد، والمعاني الأخلاقية في نفوس الأفراد والجماعة. - وإذ تدعو أيضا إلى تغيير الجماعة وتحولها إلى جماعة ذات طبقة واحدة عمالية: تكافح أصحاب العمل الذهني، وأصحاب رءوس الأموال، وأصحاب المزارع الواسعة، والأرستقراطية المالية أو الوراثية على السواء. - وأصبح لديها الشيء الطبيعي يتغير إلى مقابله، والقيمة الخلقية تتغير إلى نقيضها، والجماعة تتحول على ضد نظامها، كما أصبح هذا التحول منتظرا وضروريا وما يتحول إليه الأمر هو "الأفضل" فالحال الجديدة للشيء والقيمة والجماعة، أفضل من الحال السابقة. 2- واستخدمت مبدأ: "تبعية العقل في وجوده لوجود المادة" الذي أسس عليه "كومت" فلسفته "الوضعية" وبناء على ذلك هي: لا ترى استقلالا للعقل، فضلا عن سيادته على غيره، وأصبح العقل في نظرها انعكاسا للمادة، أي: مظهرا لها، وعلى عكس ما ذكر "هيجل" من أن العالم المادي مظهر لعمل العقل الداخلي، وأصبحت الحياة المادية هي التي تكون العقل النظري للإنسان -وهو الفكر، والعقل العملي له- وهو المبادئ الخلقية في السلوك الإنساني، وأصبح الجانب الاقتصادي من الحياة المادية صاحب الأثر البالغ أو صاحب الأثر الأول في هذا التكوين العقلي النظري والخلقي معا، كما أصبح هو المقصود من الحياة المادية. ولأن وجود العقل غير مستقل عن المادة، وإنما وجوده كظاهرة لها فقط أصبح الله غير موجود إطلاقا في نظرها؛ لأنه معنى أو عقل، أو روح بدون مادة. هو ليس مشخصا؛ بل مجرد عن التشخيص الحسي. ومجرد عن التحديد الواقعي في هذه الطبيعة، ولذا فهو غير موجود عندها؛ لأن الموجود مادي فقط، أو ظاهرة للمادة، والمادة هي الموجودة وحدها وجودا أوليا أصيلا، وظاهرة المادة تابعة في الوجود لها. وعن تبعية العقل للمادة: أحلت "الجبر" محل "الاختيار" في توجيه الفرد وأصبح الفرد لذلك مجبورا لا اختيار له: مجبورا ببيئته، وبوراثته، وبحياته السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية على الخصوص، وهنا يبقى شعار الماركسية، "التطور الحر لكل فرد، الذي هو "أي: الفرد" التطور الحر للجميع" غير مفهوم!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 3- واستخدمت مبدأ "التعويض" في الدين، الذي اتجه إليه "فيرباخ" في فلسفته الإنسانية الطبيعية، وعلى نحو ما دعا "فيرباخ" إلى جعل "علم الإنسان" بدل الدين، وإلى جعل "الإنسانية" معبود الإنسان وإلهه الأكبر جعلت الماركسية "الجماعة" و"الدولة" "معبود" الإنسان، وجعلت "العلم المادي" مصدر التوجيه له في حياته، بدلا من الوحي, أو بدلا من العقل كمصدر للمعرفة وإذ تجعل الدولة "معبود" الإنسان، فالآخرة ليست وراء هذه الحياة التي نعيش فيها، والجزاء ليس في دار أخرى، بل هو في هذه الدار وحدها. و"القربى" التي كان يتقرب بها عابد الله إليه هي هنا في إنكار "الفردية"، وفي العمل من أجل الدولة. 4- وإذ تختار الماركسية التفسير المادي التاريخي في التدليل على صحة مبدأ "النقيض" -كمبدأ ضروري- في تحول الجماعة وانقلابها إلى دولة ذات طبقة واحدة عمالية، لا توافق "فيشته" على أن التاريخ يكونه عظماء الفكر والسياسية ... وإنما تقر عكس ذلك: تقر قوة واحدة مادية فيه كقوة مكونة له وموجهة لسيره، هي القوة الاقتصادية: فهي القوة الخالقة المحددة للمجتمع ولعظماء الفكر والسياسة. 5- واستخدمت فكرة "العقل المجرد"، التي عرفت لـ "هيجل" على نحو "نفسي" لا فكري، وذلك كي تشرح نمو الإنسان وتطوره وتفكيره، واتجاهه في حياته، متأثرة في ذلك بتصوير "اشتين تال"، وهو ترتب على ذلك وجوب العناية بكل ما هو "شعبي": من لغة عامية، وفن، وعادات، وتبالغ في تقديرها وتفضيلها. هذه هي الأسس الفكرية العامة للماركسية -كمذهب فلسفي- قبل أن يكون في صحبتها عمل "الدعاية" الشيوعية، وهي فلسفة أرادت أن تحل مشكلة "عدم التوازن" بين طبقات المجتمع الألماني، وبالأحرى تزيل التنافر هناك بين أصحاب الصناعات من جانب، وعمال المصانع من جانب آخر، ومن أجل ذلك أخذت الطابع الاقتصادي. هي علاج لحال قائمة إذ ذاك، أو هي "تبرير" لرغبة في وضع معين يسود علاقة خاصة في جو الحياة الأوروبية، والأسس الفكرية التي استعارتها من المدارس الفلسفية السابقة عليها، لم تعد لها -على نحو ما رأينا- لأنها في ذاتها تحتاج إلى تعديل من الوجهة الفكرية، وإنما لكي تتلاءم مع "الرغبة" المطلوبة، وتكون لها صفة "التبرير" لشيء، تكون قبلا في نفس المؤسس الأول لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ملاحظات على الفلسفة الماركسية: 1- تصف الماركسية الدين بأنه "مخدر" لأنه يدعو إلى تأليه غير المحدود في الوجود، وهي تقف عند المحدود الذي هو الحس، وبأنه يدعو إلى تقديس علة عامة للوجود وراء الحس والشاهد وهي تنكر وجود ما عدا الحس والشاهد، وبأنه يدعو إلى "القيم" الأخلاقية و"المثل العليا" الثابتة، وهي لا ترى ثباتا لشيء على الإطلاق! كما لا ترى قيما ولا مثلا فيما عدا ما يوحي به الحس وما يقدمه للإنسان من متع حسية، وما يسد به حاجة بدنه فقط، إذ المتع العقلية عندها ظواهر، أو صدى للمتع الحسية، ولعلاقات الإنسان الطبيعية التي يعيش فيها. تصف الدين عامة بأنه مخدر؛ لأنه يقف في طرف مقابل لما تؤمن هي به. وتصف المسيحية الأرثوذكسية على الخصوص بأنها "سلطة" تعوق "الانتقال" أو "التقدم" في سير العالم، كلازمة لمبدأ "النقيض" في الوجود؛ لأن لهذه الكنيسة نفوذا سياسيا وروحيا استخدمته في تأييد الوضع السابق على الثورة الحمراء ضد القيصرية، فكانت تؤيد "الرجعية" ولا تؤيد "التقدم" الذي يدعو إليه "التطور" بوجه خاص. وهي لا تعيب الدين عامة؛ لأنه يدعو إلى الاعتقاد والإيمان، ويحمل أتباعه على تقديس ما يراه أهلا للتقديس من الموجودات, لا تعيب الدين بذلك؛، لأنه نفسها تدعو إلى "الاعتقاد" و"الإيمان"، وتحمل في عنف وإصرار- لا عن اقتناع- على "تقديس" ما تراه أهلا "للتقديس" و"العبادة". هي نفسها تدعو إلى عبادة "الدولة" وتدعو إلى الصلاة في محراب "العلم" وتأخذ على الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية نظام "الكهنة"، و"المجمع المقدس" وعقيدة "عصمة" البابا، وهي ذاتها تضفي على "الحزب" الشيوعي، و"رياسة" هذا الحزب لونا سميكا من "القداسة" و"الاعتبار" لا يتردد في قيمته فضلا عن أن يناقش فيه!! هي تدعو إلى "عبادة" و"معبودها" هو الدولة، وتدعو لذلك عن طريق الفلسفة، فهي "وثنية" باسم الفكر!! ثم إذا هي تنكر إله الكنيسة؛ لأنه فيما وراء الطبيعية لا يحس، تدعو في الوقت نفسه إلى عبادة ما لا يحس ولا يشاهد، وهو الدولة، أو المجتمع. وإلا فإين مكان الدولة ومكان المجتمع فيما وراء التصور الذهني؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 2- وتعيب "ثبات" القيم الأخلاقية، وأن يكون هناك اعتبار عام للمقاييس الأخلاقية؛ لا لأن القيم الأخلاقية في نفسها ليست ثابتة وليس لها اعتبار عام؛ بل لأنها طبقت "مبدأ النقيض" في القيم، قياسا على تطبيقه في الأشياء المحسة، حتى تحفظ للأوضاع التي تطلبها في الجماعة -في دائرة الأسرة، وفي علاقة أحد الجنسين بالآخر، وفي علاقة الفرد بالدولة- والقيمة الخلقية، و"هيبة" المبدأ السلوكي. فتقاليد الأسرة في نظرها، وفضائل الجنس، وحرية الفرد -كما تريد أن تنظر إليها- ليس لها اعتبار ثابت قيمتها اليوم تتغير عن ذي قبل، ويجب أن تتغير، ويجب أن يكون الجديد أفضل من القديم في الوقت نفسه!! والدعوة إلى "الحيوانية" في علاقة الجنسين بعضهما ببعض، قد تكوم مبدأ أخلاقيا!! ونظام تبني الدولة للأولاد الشرعيين وغير الشرعيين على السواء، قد يكون نظاما أخلاقيا، بعد أن يعتبر نظاما اجتماعيا!! و"رق" الفرد قد يكون مبدأ أخلاقيا كذلك!! فإذا تم ووقع في المجتمع أحد هذه الأمور، فهو "أفضل" لأن الحال الجديدة التي ينتقل إليها الشيء -تحكم مبدأ النقيض- أدخل في القيمة والأفضلية!! و"التقدمية" التي تطلبها الماركسية دائما هي: الحال التي تلي الحال القائم لشيء ما، وهي التي تنطوي على اعتبار الأكثر والقيمة الفضلى!! أما ثبات القيم الأخلاقية -وبالتالي اعتبارها العام- فيتضح من تحديد القيم نفسها: فقيم السلوك في حياة الإنسان هي "النهايات العليا" في السلوك البشري، هي "آخر" ما يصل إليه تطور الإنسان في هذا الجانب، والإنسان في تطوره يبتدئ من نقطة الغريزة والأنانية -كالحيوان- ويغلب على تصرفه وسلوكه في طفولته مظهر الغريزة والأنانية، ثم يتدرج، فيدخل في سلوكه اعتبار "المشاركة الجماعية" وكلما تقدم الوعي الاجتماعي في تصرفه وسلوكه، كلما اقترب من مرحلة الرشد الإنساني، ومرحلة الرشد الإنساني تتميز بأن سلوك الإنسان فيها يقوم على يقظة قوية بالاعتراف بالغير ومشاركته في سرائه وضرائه، وليست القيم الإنسانية في السلوك إلا مظاهر هذا الرشد، وأخص هذه القيم: العدل والتعاون والمحبة، والإخاء. 3- تستخدم مبدأ النقيض -Der Widerspruch- في أوسع دائرة، ويكاد يكون هذ المبدأ هو الأساس الأول في فلسفتها "التبريرية" أو الجدلية المنطقية، واللازمة الواضحة لهذا المبدأ: استمرار التغير والانتقال من حال إلى حال آخر مقابل له تماما، وتطبيقه في دائرة "الجماعة" يستلزم ترقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ضياع "القوميات" وذهاب استقلال الشعوب فيما هو أعم منها؛ لأن انطواء الشيء على نقيضه، أو -بتعبير الماركسية- الصراع بين الشيء، ومقابله سينتهي بالجماعات الصغيرة، والدويلات، والشعوب، والدول، إلى الانصهار في العالمية، كجامع للدعوى ومقابل الدعوى Syu-thesis وتشجيع الشيوعية لاستقلال الشعوب، هو تمهيد لفصل هذه الشعوب وعزلها ثم الانقضاض عليها في صور شتى من صور الانقضاض، وهو -في الوقت نفسه- عمل دعاية أكثر منه نتيجة للفلسفة الماركسية، والإيمان بـ"الثورة والانقلاب". كما أن الصراع بين الرأسمالية والعمل، أو بين أصحاب رءوس الأموال والعمال -بناء على تطبيق مبدأ النقيض- سينتهي بالطرفين إلى تمليك الدولة؛ لأنها عندئذ الجامع بين الدعوى ومقابل الدعوى!! ولكن الدولة1 لا يمثلها ولا يباشر تنفيذ قوانينها إلا بعض من أفراد المجتمع، وهم "القادة" وقد اختارتهم "الطبيعة" -تطبيقا لمبدأ داروين- لأن يكونوا قادة! وشأن بقية أفراد المجتمع بعد ذلك مع هؤلاء القادة، شأن المساهمين في الشركات المساهمة مع مجلس الإدارة المنتدب، الذي تكون بحكم الكثرة العددية في حيازة الأسهم لدى أعضائه، فالشركات المساهمة وإن استوعبت جميع المساهمين، لكن مجلس الإدارة وحده هو الذي يمثلها ويدير شئونها، وموافقة الجمعية العمومية -التي تنعقد من المساهمين عامة على تصرفات مجلس الإدارة- موافقة شكلية. وبمقتضى مبدأ "النقيض" أيضا، سينتهي الصراع بين الطبقات في الجماعة وينحل في حكومة الدولة، أي: سينتهي إلى حفنة من "المحتكرين" ولكن في صورة مغايرة لحفنة الرأسمالية، وإذا كانت الرأسمالية تمثل "عصابة" في نظر الماركسية، فإن الدولة الشيوعية في حقيقة أمرها أيضا "عصابة" بمقتضى منطقها هي نفسها. فهل الفكر الفلسفي للماركسية هنا نوع من الخداع، قصد به إبعاد طرفي "الكفاح" -وهما أصحاب العمل والعمال معا- عن موضوع النزاع،   1 الدولة ليست هي المجتمع، فالمجتمع يشمل جميع الأفراد الذين يعيشون معا ضمن نطاق معين من الروابط, والدولة هي الجهازات المختلفة التي تصون الأمن الداخلي والخارجي لهؤلاء الأفراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 كي تتمكن فئة قليلة من هذا الموضوع "وهو المال أو الملك"؟؟ هل منطق الماركسية يمكن أن يصفها هي نفسها بأنها "مخدر"، كما وصفت هي الدين بأنه "مخدر" قبل ذلك؟؟ إن الماركسية تصر -في تطبيق مبدأ النقيض- على أن كل شيء ينتقل إلى مقابله، ثم ينتقل المقابل إلى جامع بين الشيء ومقابله: فرأس المال سينتقل من الرأسماليين إلى مقابلهم وهم العمال، ثم ينتقل إلى "الدولة" التي تجمع الطرفين معا. ثم إن الصراع بين الدول الصغيرة سينتقل بها إلى دولة كبرى، والدول الكبرى بمقتضى الصراع بينها ستتحول إلى "العالم الواحد"!! ترى هل سيقف مبدأ النقيض هنا عندما تتحقق وحدة العالم؟ أم أن هذه الوحدة العالمية ستتفتت من جديد "تبعا؛ لأن الشيء -وهو هنا وحدة العالم- ينطوي على نقيضه" إلى دويلات، وهكذا؟ إن الماركسية كما تؤمن بمبدأ "النقيض" وتلزم الناس بقبول نتائجه، تؤمن أيضا بالتخلف عن كثير من نتائجه، تؤمن بالوقوف به في سيره عند الوصول إلى الدولة ذات الطبقة الواحدة، وهي الدولة الشيوعية! وهذا مما يجعل الفلسفة الماركسية فلسفة "تبرير"، أكثر منها فلسفة تخدم الحقيقة بالكشف عنها ويجعلها فلسفة هوى ورغبة أكثر منها فلسفة فكرة لها اعتبار عام! 4- وأخيرا لم تكتف الماركسية في استخدام مبدأ النقيض في "الشيء" و"القيمة" و"الجماعة"، وفي أن تتوسع في هذا الاستخدام، حتى تصل إلى أن وقوع "الشيوعية" الدولية في الجماعة الإنسانية وفي مستقبل البشرية ليس حادثا مترقبا فحسب، بل هو ضروري الوقوع، وتصل كذلك إلى أن "الدولة الشيوعية" أفضل أنواع الدول السابقة عليها ... لم تكتف بأن تتوسع في استخدام هذا المبدأ لتبلغ هذه الغاية, وإنما هي تتدخل في سير "الانتقال" و"تحول" الشيء إلى نقيضه، فتعلن أن الانتقال يسير بالتدريج من الشيء إلى مقابله, حتى إذا وصل إلى درجة معينة وقع "انقلاب" وحصلت "ثورة" فجائية تعجل بإتمام الانتقال إلى الضد! وتمثل لذلك بتحول الماء وانتقاله إلى بخار عن طريق الحرارة! وتنادي من أجل هذا بـ"الانقلاب" وبـ"الثورة الحمراء" في الجماعات غير الشيوعية، لتستعجل الوصول بهذه الجماعات إلى جماعات شيوعية، فيكف هي بعد ذلك تدعو إلى "السلام" مع أنها تؤمن بالانقلاب؟؟ !! ثم هل "السلام" الذي تدعو إليه يتضمن في نفسه العنصر المقابل له وهو "الحرب"، ككل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 شيء -تطبيقا لمبدأ النقيض- يكمن فيه المقابل ونقيضه؟ حقيقة إن "السلام" معنى وليس "شيئا Ding"، ولكن الفكر الماركسي لا يفرق بين المادي والمعنوي في خضوعه لمبدأ النقيض، وفي الانطواء على المقابل والمضاد له. إن الفلسفة الماركسية -فوق أنها جملة من المتناقضات- دعوى إلى انتكاس البشرية، وليس إلى "تقدم" الإنسانية: هي عود بالإنسان إلى الرق، وعود بالفكر والإيمان إلى "الجبر" وعود بالإنسانية إلى "الوثنية" وبالأخلاق والقيم إلى الانطلاق في "الحيوانية"!! و"البطن" هي الهدف والوسيلة معا في حياة الإنسان، غاية الإنسان في حياته أن يعمل حتى يستطيع أن يأكل، والحرمان من الأكل هو الوسيلة إلى إخضاع الإنسان، وإلى اندماجه في الحلقة المفرغة التي أسمتها" العمل والإنتاج" من العمل إلى العمل ليأكل، لا ليعيش. والذي يجب أن يعيش وحده هو "الدولة" أية دولة؟! هي: "رابطة فيها التطور الحر لكل فرد، الذي هو التطور الحر للجميع"! كما يقول "إنجلز" والتطور الحر للجميع معناه تخليص الجماعة من الرأسمالية، والوصول بالجماعة إلى طبقة واحدة عمالية! لكن أي تطور حر لكل فرد؟! أفي تجنيده لتخليص الجماعة من الرأسمالية؟! أية حرية للفرد في تطوره؟ أفي حمله على الإيمان بأن "معدته" مصدر تفكيره؟! أفي حمله على الاعتقاد بأن جسمه عامل حريته، وقد جعل الإغريق فيما مضى الجسم سجن هذه الحرية؟! متى كان خلاء المعدة، أو متى كان الجوع مصدر خرق في تصرف الإنسان؟! ومتى كان امتلاء المعدة عاملا من عوامل حرية الرأي وسلامة التفكير؟! يتحدث عن "المعدة" عند الحيوان، ذلك الكائن الذي يساق ويدفع ليعمل ومن ثم ليأكل، ولكن الحديث عن الإنسان هو الحديث عن القوة "الخالقة" فيه، والقوة الخالقة فيه ليست شيئا آخر وراء "الحرية"! وحريته هي اختياره وموزانته، وتأمله، وترجيحه!! وليست حرية الإنسان هي "الانطلاق" ولا هي "الفوضى" ... حرية الإنسان مصدر بنائه للحضارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ومن أجل أن الفلسفة الماركسية فيها من هنات التفكير، ومن تحكم "الرغبة" والانحراف عن الطبيعة الإنسانية -بما يصدم المفكر فيها- كانت الجولة الرابعة من جولات التفكير الأوروبي: هي جولة "الخصومة العنيفة للفكر الماركسي"، قبيل بداية القرن العشرين ومنذ بدايته حتى الآن، وخصوم هذا الفكر ما بين مؤيد للعقل وقيمته، أو مؤكد لصحة الوحي وحاجة الإنسانية إلى الإيمان بالله، وليس إلى دين أي يدين! إذ الماركسية تمثل فكرة وعقيدة معا، تمثل فلسفة ودينا، ولكن فلسفتها تبرير، ودينها وثنية وإيمانها وهم. ومن الذين يشار إليهم في هذا الصراع الفكري ضد الماركسية: الفيلسوف الدانيماركي المعاصر لماركس "كير كجارد" Kier Kegaard 1 صاحب فلسفة "الصلة بين العلم والإيمان" والفيلسوف الفرنسي "برجسون" Henri Bergson2 زعيم المذهب الروحي في الفلسفة المعاصرة، والفيلسوف الألماني "هيدجر" Martin Heidegger3 صاحب فلسفة "الوجود الزماني". أما "شيلر" Max Scheler4 الفيلسوف الألماني في القرن العشرين، فيعتبر في قمة هؤلاء الفلاسفة الذين كشفوا عن تهافت الماركسية خاصة، والاتجاه الواقعي الوضعي في التفلسف على العموم، وفلسفته تقوم على الصلة بين الفكر الديني والميتافيزيقي والعلمي، وبين الحياة الاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية كما تقوم على توضيح أن "القيم الأخلاقية" هي حقائق ثابتة. وإذ نحن هنا في هذا الفصل، بصدد بيان أن "التجديد في الفكر الإسلامي الحديث" أثر للفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر -وهو الفكر   1 عاش بين سنتي 1813-1855، هو: Loeren Kire Keaggrd. 2 ولد سنة 1859. 3 ولد سنة 1889. 4 عاش بين سنتي 1874-1928. ونأمل أن نعرض لفلسفته في كتاب مستقل، نرجو أن يكون في القريب إن شاء الله، وهو فيلسوف ومن علماء النفس والاجتماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الوضعي، والماركسي معا- فإننا لم نشأ أن نتعرض الآن في هذا الكتاب للمرحلة الفكرية الرابعة والأخيرة في تاريخ الفكر العربي، وهي فلسفة القرن العشرين. الماركسية والدعاية الشيوعية: لو أن الثورة الروسية لم تقم في أعقاب الحرب الأولى، في سنة 1917، لما حفل الفكر المعاصر في القرن العشرين بالماركسية، ولطغت عليها اتجاهات المثالية، والأخلاق الدينية في هذا الفكر، ولكن حسن حظ الماركسية، أنها وجدت في الانقلاب الروسي قوة سياسية تؤازرها، وتجند لنشرها أقوى وأحدث أساليب النشر والدعاية. وجاءت الحرب العالمية الثانية، وحصل الاتحاد السوفييتي فيها على نصر عسكري وسياسي أضاف قوة جديدة إلى القوة السابقة التي آزرت الماركسية، ثم جاء ما وقعت فيه الدبلوماسية الغربية من مساندة الروس في هذه الحرب للقضاء على ما يسمى وقتذاك بـ"الدكتاتورية العسكرية" في برلين وروما، وذلك تحت ضغط اليهودية العالمية والكنيسة الكاثوليكية" فضاعف كذلك من قوة المؤازرة للماركسية في تثبيت دعائمها ونشرها. ومنذ نهاية هذه الحرب الآخيرة، وجهاز الدعاية الشيوعية الماركسية يزداد في تأثيره، وفي توسيع دائرة الفكر الماركسي بين الجماهير والشباب في مختلف الشعوب والقوميات. والدعاية الشيوعية لا يتضاعف أثرها بالاستناد إلى قيمة الماركسية كمذهب فلسفي، بل تستند -في أكثر ما تستند- إلى أخطاء الغرب في حل المشاكل التي تخلفت عن هذه الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمة هذه المشاكل: مشاكل البطالة، وتزايد السكان. مع عدم مواجهة زيادتهم المضطردة بالزيادة المناسبة في مصادر التغذية وكذا أثر الاستعمار الغربي في تخلف الشعوب المستعمرة والحيلولة بينها وبين حق تقرير المصير ... إلخ. وللشيوعية تفكير فلسفي، ودعاية في الرأي العام العالمي ... هي مذهب فكري، ودعاية شعبية معا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أما مذهبها الفكري -كما قدمنا- فيعتمد على المبادئ الآتية: - على "التغيير" وأن كل شيء يتغير، حتى القيم والمعاني؛ فالخير والجمال والحق وبالتالي الأخلاق والدين تتغير. فليست هناك قيم ثابتة، ولا معان عامة لها اعتبارها الدائم في كل وقت. و"الله" لذلك، ليس له معنى ثابت!! والشيوعية قامت في تلك المعاني والمقيم على الأشياء المحسوسة في الطبيعة، وآمنت بالطبيعة وبالقياس "الاختبار" و"التجربة" فيها لتعرف حقائق مظاهرها، واتخذته نفسه -دون أي مقياس آخر- مقياسا للمعرفة، وبذلك أنكرت "استقلال القيم والمعاني"، كـ"الروح" و"العقل" عن المادة، بعد أن أنكرت "ثباتها"وعدم تغيرها. وهذا "التغير" ينتقل من حال إلى حال بالتدريج حتى يصل إلى مرحلة معينة، تتدخل عندها "الثورة" و"الانقلاب"!! ولذلك كانت الدعوة إلى "الانقلاب" في الصراع بين طبقات الجماعة -كأمر يخضع للتغيير- نتيجة لازمة لمبدأ التغير وخطوات سيره. وكنتيجة لمبدأ التغير في الجماعة، والصراع بين طبقاتها، تنتقل الملكية للدولة دون الأفراد من الملوك، ثم من أصحاب المزارع، ثم من أصحاب رأس المال, ثم من عامة الرعايا، ويصبح المجتمع عندئذ جماعة من طبقة واحدة عمالية! وتسوق الشيوعية للتدليل على صحة هذه المبادئ ما تسميه بالتفكير المادي الاقتصادي للتاريخ، وما تحاول أن تفعله من قياس القيم الخلقية، والروحية والعقلية على الأشياء الحسية الطبيعية. وأما الدعاية الشيوعية فتسلك -هنا في هذا القطاع- طريق الاستخفاف والتحقير لما يقف أمام أفكار الفلسفة الماركسية من مبادئ وتعاليم وتقاليد، كانت في المجتمع السابق عليها: - فمبدأ كون القيم ثابتة -وهو ذلك المبدأ الذي يمثله الدين، وتمثله الفلسفة المثالية- عدو للشيوعية؛ لأنه يضاد عندها مبدأ التغير في كل شيء، في الشيء الطبيعي، والمجتمع الإنساني، والقيم الأخلاقية!! والأخلاق القائمة على المعاني والمثل الخالدة -التي لا تتغير في نظر علماء الأخلاق، وهي الفضائل والرذائل- يجب أن تحاربها الدعاية الشيوعية بأسلوب التهكم والاستهتار!! والدين -لأنه ينادي بالقيمة الثابتة لله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 كما جاءت في صفاته- يجب أيضا أن يحارب من الشيوعية, ولكن يجب أن تكون الحرب ضد الدين أعنف وأقسى، وأن يكون أسلوب الدعاية إزاءه أشد في البذاءة والسخرية؛ لأنه يسود عقلية الجماهير في أية جماعة لها دين، بعكس الأخلاق ومناهجها الفلسفية فهي قاصرة على خاصة الناس! وعندما تنزل الدعاية الشيوعية مجال المبادئ الدينية تستهتر بها استهتارا شنيعا، وعندما تنزل مجال رجال الدين تزدري بهم، وتسف في وصف رسالتهم!! وهي في مجال الدين عامة، لا تفرق بين الدين كمبادئ وبين أفهام التابعين له في الأجيال التي مرت عليه. ثم هي لا تفرق مع ذلك بين الأفهام المنحرفة في الدين على أنها الدين في واقع الأمر!! وهي لا تخلط في ذلك عن عدم فهم، وإنما تقصد إلى هذا الخلط قصدا, لتصل إلى الاستخفاف والازدراء بالدين وبرجاله معا! - ووضعية المرأة في الأسرة، وفي المجتمع القائم على القيم الثابتة في الأخلاق والدين أو على التقاليد المعروفة فيه -تنال نصيبا كبيرا من عناية الدعاية الشيوعية ضدها، وتهدف هذه الدعاية في محيط المرأة إلى "تحريرها"- أي: إلى "عزلها" عن كل "القيود" الماضية!! والقيود الماضية في نظرها هي: أوضاع المرأة في علاقتها بالرجل في الأسرة وفي مكانها فيها كأم، وفي مكانها في المجتمع الذي تعيش فيه كعضو من أعضائه، حسب القيم الأخلاقية والدينية والتقاليد المتبعة!! ثم تقصد بعد هذا التحرر إلى أن تضعها من جديد في مجتمع له نظرة إلى الحياة الجنسية، وإلى حياة الأسرة، وإلى القيم الاجتماعية!! وهذه النظرة أن تروض المرأة على أن تؤدي ما يطلب منها كامرأة في مقابل الرجل، وكعضو في المجتمع، دون قيد خاص، إلا قيد "الإنتاج" بما تستطيع من إنتاج كامرأة، وكعضو في المجتمع!! وهي كامرأة موضع لقاح الرجل، وعليها بعد أن يستوي هذا اللقاح عندها أن تقدمه وتقذف به للدولة بدون عنوان خاص يحمله!! وهي كعضو في المجتمع عليها أن تنتج ما يحدد لها إنتاجه من الدولة!! - والاستخفاف بالطبقة المفكرة، وأصحاب المزارع، وبأصحاب رءوس الأموال في الصناعة -من جانب، وتمجيد عمل "اليد" أو الأيدي والسواعد العاملة، أو تمجيد العمل البدني والجسمي من جانب آخر- مظهر آخر من مظاهر الدعاية الشيوعية؛ لأن أصحاب العمل البدني في كل جماعة إنسانية هم الكثرة، أو هم الجماهير بالقياس إلى من عداهم. والدعاية الشيوعية تعتمد على هذه الكثرة؛ لأنها كثرة في ذاتها، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لأنها لا تستطيع بعقليتها العامة المناقشة فيما توجه إليه من هدف وغاية!! وفي كل ذلك تسلك هذه الدعاية نفس المسلك الذي يسلكه الفكر الماركسي من قبل، وهو مسلك التدليل على ترويج هذه الدعاية بما يسمى بـ"التفسير المادي والاقتصادي للتاريخ" وبقياس القيم المعنوية: الروحية، والعقلية، والخلقية، على الأشياء المحسة الطبيعية!! وإلى هنا تجد أن لكل من الفكر الماركسي، والدعاية الشيوعية، معالم ومظاهر خاصة بهما، ونجد أن كليهما يبتغي نفس الغاية، ولكن الفرق بينهما هو: الفرق بين التحديد والدقة من جانب، والتهويل والتفخيم والجرأة المكشوفة من جانب آخر!! وإلى هنا أيضا، لنا أن نتساءل: هل لهذا الجدل الفكري في الغرب، وما نشأ عنه من مذاهب فلسفية، اعتبار عام في كل المجتمعات الإنسانية الأخرى، بحيث تصلح مذاهبه أو يصل بعض منها على الأقل، لأن يردد في بيئة أخرى وفي جماعة أخرى، تختلف كثيرا عن البيئة والجماعة التي ولد ونما فيها؟؟ - كان الدين في أوروبا محورا للجدل الفكري طوال هذه القرون الخمسة -من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر- ولم يزل حتى الآن في مركز هذا الجدل ... وما قام من مذاهب فكرية لتأييد اعتبار هذا الدين، حاول تبرير بعض معتقدات خاصة بدين معين هو المسيحية، وبفهم معين هو فهم الكثلكة المسيحية، وكانت هذه المعتقدات كعقيدة التثليث وعقيدة "النموذج الإلهي" على الأرض، وهو عيسى الإله الابن مثار النقد السلبي لقيمة المسيحية كدين موحى به من الله. ثم ما قام من مذاهب فلسفية لمناوأة الدين، وإبعاده عن التوجيه، قام ليوضح ضعف بعض العقائد، وبعض "الطقوس" في العبادة، وفي السلوك الديني, في دين معين -هو المسيحية أيضا- وبفهم خاص هو فهم الكثلكة في المسيحية كذلك، وهذه هي العقائد السابقة من التثليث، والطبيعة الإلهية الإنسانية لعيسى والوساطة الروحية في صلة الإنسان بالله، وأما الطقوس فمنها "رسوم" صكوك الغفران والمنح الأخروية، والاعتراف، والتعميد.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فهل نقل هذه المذاهب الفلسفية، المؤيدة أو المعارضة للدين على السواء، إلى بيئة أخرى -كالبيئة الإسلامية مثلًا- غير أوروبية في الطابع، والاتجاه، والتقاليد يعتبر ذا جدوى من الوجهة الفكرية؟! وهل القارئ المسلم يستطيع عندئذ أن يسير بتفكيره، ويتابع خطوات النقاش مع المؤيدين أو المعارضين، فيما ساقوه من آراء لترجيح كفة "الدين" أو ضد "الدين"؟! وهل ستوجد هناك "انفصالية" ذهنية بين المنقول من هذا الجدل الفكري الأوروبي، وبين واقع الحياة التي نقل إليها، وهي الحياة الإسلامية؟ وهل المؤيد للدين هناك باسم هذه المذاهب المؤيدة، وكذا المعارض له هناك أيضا باسم المذاهب المعارضة منها، يكون هنا في المجتمع الشرقي الإسلامي أكثر من "حاك" و"مردد" لشيء يبعد كثيرًا عن واقع الحياة التي يردد فيها ما ينقل ويحكى؟؟ 1. - وكانت السياسة في أوروبا عاملا أيضا من عوامل الجدل الفكري ... وكانت "الكنيسة"، وكانت "البابوية" تلعب دورا في الحياة السياسية، وكان لها أنصار ومؤيدون يبررون دورها في الحياة السياسية، وكان لها معارضون يشنون عليها حملة من الهجوم، وعلى ما تنتسب إليه وتستمد منه قيمتها وهو الدين. - وكانت الثقافة في أوروبا من عوامل الجدل الفكري ... وكانت الكنيسة ترسم دور الثقافة، وتحدد نطاقها، وموادها، وغاية التثقيف الإنساني، وكان لدور الكنيسة هذا في الثقافة الإنسانية معارضون، ومؤيدون. وجاءت "المثالية" الغربية لبعث قيمة العقل الإنساني، الذي قدره الإغريق في فلسفتهم، وجاء عصر "التنوير" في النصف الثاني من القرن   1 كمثال واضح لهذا ما عنون له بـ"الدين والكهانة" في كتاب "من هنا نبدأ" ص22-24، فهو منقول عن كتاب الغرب الماديين الاشتراكيين ضد الكنيسة الكاثوليكية، وما ورد فيه من عبارات تتصل بالمجتمع الإسلامي، بقيت في عزلة فكرية تامة عما تجاوره من المنقول! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الثامن عشر مختتمًا بـ"كانت" ليعارض تحكم الدين أي: الكثلكة، ويعارض استقلال الوحي المسيحي بالتوجيه، وتحديده "المعرفة" في دائرة الإنسان. وقامت الفلسفة "الوضعية" الغربية، وشد أزرها "أوجست كومت"، لتعارض دين الكنيسة، ولتضع بدلا منه دين "الطبيعة" قامت هذه الوضعية لتحرم "عبادة"، كي تحل محلها "عبادة" أخرى: آمنت بـ"الطبيعة"على أنها الله، وكفرت بـ"الكنيسة" على أنها تمثل الله!! فهل "مثالية" الغرب و"وضعيته" معا، تتفاعلان في البيئة الإسلامية؟ وهل يكونان هنا في المجتمع الشرقي الإسلامي ذا موضوع مع الإسلام؟؟ إن الماركسية -وهي مذهب وضعي- تصارع الدين، وتصارعها الكنيسة الكاثوليكية1 في المجال الدولي، وفي البلاد الأوروبية الغربية، وفي أمريكا اللاتينية، وأمريكا الشمالية، وقد قضت الثورة الشيوعية في بلاد الاتحاد السوفييتي، وفي بلاد شرق أوروبا الخاضعة للنظام الشيوعي، على اعتبار المسيحية وهيبة الكنيسة الكاثوليكية، بالدعاية ضد رجال الدين، وبإهمال شأن المؤسسات والقيم الدينية، وبالتراخي من الوجهة الرسمية في وقف الهجوم على الدين من الكتاب في الصحف والكتب، والمعلقين في الإذاعة, ذلك الهجوم الذي تثيره، بل تشجعه في الخفاء!! فهل للماركسية مكان في الصراع مع الإسلام؟؟ هل الإسلام -من تعاليمه- يعطي فرصة لقبول الماركسية، كعلاج لأزمة فكرية، أو أزمة ثقافية، أو أزمة علمية؟؟ أم أن نقل الفكر الماركسي إلى البيئة الإسلامية يعبر إما عن: "الاحتراف" من الناقل له، أو عن "سطحية" لفهم الماركسية نفسها، أو يعبر من جانب آخر عن سوء فهم للإسلام، بقياسه على المسيحية أو على الكثلكة بوجه خاص منه؟!   1 كل الأحزاب الديمقراطية المسيحية في السياسة الأوروبية الغربية تلعب دورا رئيسيا ضد الماركسية في البلاد الغربية، تحت توجيه الكنيسة الكاثوليكية في روما، فهي أحزاب كاثوليكية، والدولة ذات الحزب الواحد في الغرب، كأسبانيا، تقدم جزءا كبيرا من نشاطها السياسي في الداخل والخارج لمؤازرة الكثلكة، أو تحت تصرفها، ولا يخلو بلد غربي، حتى فرنسا من حزب ديمقراطي مسيحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 إن الماركسية نشأت وتطورت في ظل التطور الصناعي في ألمانيا البروسية، ومن ثم كان لها رأي في الاقتصاد القومي، وفي توجيه الجماعة وقيادتها هناك. فهل للبلاد الإسلامية الآن جو الصناعة البروسية، وعلاقة أرباب المصانع بالعمال، على نحو ما كان الأمر وقت "كارل ماركس" في ألمانيا مما يدعو لتطبيق الماركسية، كحل لإعادة التوازن بين الرأسمالية والعمال؟! هل هناك صراع بين طبقات الجماعة الإسلامية -سببه الإسلام- يدعو إلى "الانقلاب" في القيم الأخلاقية، وفي النظر إلى الحياة، حتى يتم تحول الأمر إلى ضده، تطبيقا لمبدأ النقيض؟! أم أن النداء الماركسي في الشرق الإسلامي مهنة وحرفة، أو تقليد، أو سوء فهم للإسلام؟! إن الماركسية في الشرق الإسلامي.. ليس لها موضوع فيه ... الماركسية في التجديد في الفكر الإسلامي: ولكن رغم المفارقات في كل ظروف الحياة بين الشرق الإسلامي وبروسيا الألمانية، وأوروبا بوجه عام في القرن التاسع عشر الذي قامت فيه الماركسية في البيئة الأوروبية الألمانية، ورغم أن الفكر الماركسي بني تعبيرًا عن الجو الخاص الذي ولد ونما فيه، سواء في منطقه وجدله، أو في أسلوبه في التبرير، أو في إلحاده، أو في ميله إلى الانطلاق الحيواني. ورغم هذا كله، فالأدب العربي المعاصر بوجه خاص يحمل عناصر الفكر الماركسي والدعاية الشيوعية، كظاهرة "تجديد" في الفكر الإسلامي الحديث، والمبادئ التي تقوم عليها فلسفة "ماركس": يعبر عنها الأدب العربي المعاصر، ولكن في غير وعي تام بها، ويمسها مسا ينم عن عدم عمق في فهمها، أما عناصر الدعاية الشيوعية: فيعكسها الأدب العربي المعاصر في جرأة أشد، وفي تهويل وتجسيم أكثر، أو في إغراء لامع!! وسنعرض هنا للدعاية الشيوعية، بقدر ما يوضح للقارئ مدى إفساح الأدب العربي -وهو نوع من الأدب الإسلامي- مكانا فيه لهذه النزعة الفكرية الماركسية، باسم التجديد في الفكر الإسلامي الحديث، وعلى وجه أخص: أدب "ما بعد الحرب العالمية الثانية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 سنعرض للدعاية الشيوعية؛ لأن ظهور الفكر الماركسي في الأدب العربي، وفي الفكر الإسلامي -بوجه عام- لا بد أن يظهر في صورة الدعاية الشيوعية قبل أن يعلن عن نفسه في فلسفة المذهب نفسه، وقد فرقنا بين النوعين من قبل: بأن أحدهما -وهو الفلسفة- يسير في دقة المصطلحات الفنية، وثانيهما -وهو الدعاية- يتحرك في أسلوب "التهويل" أو"الاستخفاف"!! لا بد أن يظهر الفكر الماركسي في الشرق الإسلامي في صورة الدعاية الشيوعية؛ لأن هذه الصورة أقرب إلى عقلية الجماهير من ذلك التحديد الفني الفلسفي الدقيق الجاف، الذي يتوقف فهمه من الوجهة الفكرية على ثقافة خاصة. والدعاية الشيوعية عامة كما سبق تركز قوتها في ثلاث نقاط: - معارضة ثبات القيم الروحية، والأخلاقية، والعقلية. - معارضة وضعية المرأة في المجتمع غير الشيوعي. - الاستخفاف بأصحاب المزارع، وأصحاب رءوس الأموال، وتمجيد أصحاب العمل البدني بعد ذلك كله. ونجد هنا في الشرق الإسلامي أن توهين أمر الدين، ورجال الدين، هو الهدف الأول للدعاية الشيوعية؛ لأن الإسلام في هذا الشرق يعتبر مصدر أنواع القيم الثلاث الثابتة: الروحية، والعقلية، والدينية، ثم هو مع ذلك مصدر تحديد وضعية المرأة في المجتمع الإسلامي كذلك، وأخيرًا هو مصدر حق "الملكية الفردية" سواء للأراضي الزراعية، أو للصناعات. يضاف إلى ذلك، أنه ليس في الشرق "رأسمالية" بالمعنى المفهوم في الفلسفة الماركسية، التي قامت هي لمقاومة نفوذها هناك في أوروبا، وتقاومها الدعاية الشيوعية اليوم في أوروبا وأمريكا، والخصومة بين الماركسية، ورأس المال هي التي طبعت الفكر الماركسي بالطابع الاقتصادي كما ذكرنا قبلا، وطالما لم تقم هنا في هذا الشرق الإسلامي صناعات كبيرة، وعديدة أيضا, وطالما يقترب عدد عمال المصانع من عدد عمال المزارع أو يزيد، فالحديث عندئذ عن الرأسمالية، في مهاجمتها، أو تأييدها، حديث سابق لأوانه، وتقليد هنا في غير ذي موضوع، كما أشرنا من قبل. ويلي أمر الدين ورجال الدين -في الدعاية الشيوعية- السخرية والاستخاف بأصحاب المزارع الكبيرة، ووضعهم في الرتبة الثانية بعد رجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الدين؛ لأنه ليس لهم من الاحترام والتقدير في نفوس "العامة" هنا في الشرق مثل ما لرجال الدين، لصلة هؤلاء بالدين، والدين له القداسة الأولى، والاحترام الكلي في نفوس الجماهير. ولأن الدعاية الشيوعية، كالفكر الماركسي، في التجديد في الفكر الإسلامي مستوردة من الخارج -ككل فكر له طابع التجديد في الشرق الإسلامي، وبخاصة في مصر- تحاول هذه الدعاية أن تأخذ صبغة محلية كي تسير في المجتمع الإسلامي، على أنها منتزعة من واقع البيئة الإسلامية، أو لكي تبدو في نظر العامة والجماهير "الجموع! " منسجمة مع خصائص الجماعة الإسلامية. لهذا نجد في الأدب العربي المعاصر، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعض نشرات الدعاية الشيوعية، التي تظهر في صورة كتيبات تنقل هجوم جهاز الدعاية للفكر الماركسي ضد رجال الدين، والكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، إلى علماء الدين في المجتمع الإسلامي في الشرق!! ولكي يبدو هذا الهجوم قريبا من البيئة الإسلامية، تصوغ هذه النشرات عبارت ومصطلحات متداولة في هذه البيئة بالنسبة لعلماء الإسلام، وللإسلام نفسه مع ترديد نفس العناصر الرئيسية التي قام بها هجوم الدعاية الشيوعية ضد الكنيسة، ورجال الكنيسة في أوروبا!! وسيكون حديثنا هنا عن ثلاثة من الكتيبات1 تمثل نشرات هذه الدعاية، التي تحمل في عناصرها الفكر الماركسي. فبعضها2: أضاف إلى عناصر الدعاية الشيوعية بعض أحاديث منسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم، وبعض آيات من القرآن الكريم، قصرها في التفسير والشرح قصرا على أن تلائم ما أضيفت إليه من عناصر الماركسية.   1 الكتيب الأول: "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد، والثاني "الله والإنسان" لمصطفى محمود، وهو من سلسلة "كتب للجميع"، رقم 113، عدد مارس سنة 1958، وقد نشر أولا في صورة مقالات في مجلة "روز اليوسف"، والثالث: "رجل في القاهرة" ابن خلدون" لرشدي صالح، وهو من السلسلة السابقة، عدد مايو سنة 1957 رقم 115. 2 "من هنا نبدأ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 والثاني1 تحدث عن "الله" وعن "مكة" وعن "الصوفية"، ونحو ذلك من مصطلحات الثقافة الإسلامية. والثالث:2 تضمن الحديث عن بعض "المجاورين في الأزهر"، وجعل حوار القصة يدور في القاهرة "في عهد المماليك" على لسان ابن خلدون! ومؤلف هذا الكتيب أمهر من المؤلفين الآخرين؛ لأنه سار بالعناصر الماركسية -وبالأخص تبعية القيمة المعنوية: الروحية والأخلاقية، والعقلية للمادة- في جو الثقافة الإسلامية، وإن كان في تعثر واضح. ولكن الشيء الذي يجعل هذه النشرات ترديدًا للدعاية الشيوعية في البيئة الأوروبية التي نشأت فيها الماركسية، ليس فقط ما يرى من وحدة "العناصر" فيها وفيما يوجد هناك، ولكن نفس المحاولة التي قامت عليها هذه الكتيبات لاصطناع جو شرقي إسلامي لهذه العناصر هنا تقدم لقارئ الفكر الماركسي في يسر الدليل على هذا "الترديد"!! فالحديث مثلا عن "الكهنة" و"السلطة الدينية" في أحدها3، وعن "النظام الصراعي بين رأس المال والعمل" في ثانيهما4، وعن "التفسير المادي الاقتصادي للتاريخ" في ثالثهما5.. مع أنه لا موضوع لكل ذلك في المجتمع الإسلامي، يكشف عن استيراد هذه العناصر الماركسية من بيئة غريبة عن البيئة الإسلامية: إذ متى كانت هنا "كهنة وكهان"، وكانت "سلطة دينية"؟ ومتى وجد "الصراع" في الشرق بين رأس المال والعمل، مع أنه لم تقم بعد صناعات يتحدث عن رأس مالها وعمالها، ومتى كان ابن خلدون منكرا لثبات القيم الإسلامية في الأخلاق، والمثالية، وفي الله، والروح، ومفسرا إياها من المعدة، والطعام، والاقتصاد؟! عناصر الدعاية الشيوعية في التجديد في الفكر الإسلامي: سوف نجد في أية نشرة، في أي كتيب، باللغة العربية عن الدعاية الشيوعية ما يوضح الهدف منها ... مثل هذه العبارات: "وإن هذا   1 "الله والإنسان". 2 "رجل في القاهرة" "ابن خلدون". 3 "من هنا نبدأ" ص124, 125. 4 "الله والإنسان": ص292. 5 "رجل في القاهرة" "ابن خلدون": ص66, 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الكتاب1، ليحاول محاولة صادقة أن يجيب على هذا السؤال، وهو يرسم الخطوط الرئيسية لتحول اجتماعي وديع، يفضي بنا إلى قومية شاملة لا تنافر فيها، وإلى اشتراكية عادلة لا استغلال ولا ظلم فيها ... وإلى وعي ناضح سليم، لا سلطان للرجعية ولا للكهانة عليه، وإلى سلام غامر يبدل حقد المجتمع حبا وتربصه ولاء وأمنا، وقلقه استقرارا وسكينة"2. ومثل: "الإصلاح الحقيقي يجب أن يبدأ في جيب الدولة، وحافظة نقودها وتوزيع ثرواتها، وتنمية مواردها ... إذ أردت أن تصنع الناس فاصنع المجتمع أولا، اصنع الدولة"3. أ- ثبات القيم المعنوية: ومن البديهي أن نرى الآن جهاز الدعاية الشيوعية في نشراتها في الأدب العربي، يحاول في عنف أن يحدث اهتزازا واضطرابا في القيم الروحية، والخلقية، والعقلية، في المجتمع الشرقي الإسلامي بدعوى خضوعها لمبدأ التغير، كما تخضع الأشياء له، وهنا نلمس الفكرة الماركسية في ثوب الدعاية الشيوعية، كما نلمس هنا أيضا الفكرة الأخرى من فكرها, وهي فكرة ربط كل الأمور والقيم المعنوية بالحياة المادية، وتبعيتها للجانب الاقتصادي منها على وجه أخص. - فعن الدين والقيم الدينية نقرأ: "فإن هذه الفكرة البلهاء التي تزعم أن "الروحانية"، هي علاج الشرق الوقائي، وأن "المادية" ستفسدنا كما أفسدت الغرب، وأن الروحانية شيء مستقل بذاته، وليست أثرا من آثار المادية المنظمة، المفعمة بالرغد والرفاهية ... إلخ4"، و"إن الكلمة الأخيرة التي سنقولها للشعب دائما، وهي: أن طاقته الروحية وليد   1 "من هنا نبدأ". 2 المصدر السابق: ص19. 3 المصدر السابق: ص30. 4 المصدر السابق: ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 طاقته الاقتصادية.. إن الروحانية التي تدعو إليها لا تبدأ من نفسها، بل هي تبدأ من المعدة"1. و"الدين يتفاعل مع الحياة والعلم.. ولقد وجدنا كيف أنه كان في العام الواحد، وأحيانا في اليوم الواحد "؟! " ينسخ حكما بحكم2، ويقيم مبدأ مكان آخر، متبعا في هذا قانون التطور, وهو التغير والانتقال من صالح إلى أصلح3. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] 4.   1 "الله والإنسان" ص 24. ومن مثل هذه العبارات يدرك القارئ الهدف من هذه النشرات، وهو بيان أن كل عيب يرجع إلى الاقتصاد، وكل حسن يعود أيضا إلى الاقتصاد، وكل شيء من شقاء أو سعادة هو في الاقتصاد! والحل لرفع العيب والشقاء هو: تمليك الدولة، هو صنع الدولة أولا، تكن السعاد، ويكن الإصلاح ... هو الشيوعية. 2 لا يفرق المؤلف بين الدين والفقه.. فالإسلام كدين: أصول عامة تضمنها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وهما خالدان ثابتان لا تغيير فيهما، والفقه، فهم المسلمين في هذه الأصول العامة، وهو متغير حسب الأجيال وعوامل الحياة، كما لا يفرق بين "النسخ" كظاهرة خاصة بتأييد الرسالات السماوية، وبين "التغير" كمبدأ ضروري للحياة الذي تستند إليه الماركسية، كظاهرة لمبدأ "النقيض"، فنسخ الآيات ليس معناه إبطال ما بالأمس من حكم بحكم جد اليوم، أو بحكم يجد غدا، فما وقع ذلك بحال على عهد نزول القرآن في فترة التشريع بالمدينة، وإنما معناه تغيير آيات الله كمعجزات، تلك الآيات التي تصاحب رسالة الرسل لتأييدها، ونسخ الآيات بهذا العنى موقوت، وقاصر على عهد الرسول، وهو إذن ليس ضرورة عامة تخضع لها الحياة في كل شيء فيها، وفي كل زمان. 3 يشير المؤلف بهذا القانون إلى المبدأ الضروري في الوجود عند الماركسية، وهو مبدأ "النقيض"، فهذا المبدأ -كما سبق- يقضي أولًا: بضرورة الانتقال والتغير، وثانيا: بأن الحال الجديدة أفضل من الحال التي كانت للشيء. 4 المصدر السابق: ص57. وقد فسر المؤلف الآية القرآنية على الفهم الماركسي قسرا على نحو ما تفسر الصوفية آية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} على "الاتحاد" و"الفناء" في الله! فقول القرآن في هذه الآية الكريمة: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} لا تحتم أن تكون الآية الأخرى التي هي بديل الأولى، أفضل وأصلح على الإطلاق، وبذلك لا تنسجم مع المبدأ الماركسي، على فرض أنه يقصد منها ما عناه المؤلف المفسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وكما نقرأ: إن "الله" عند جدي: يتمثل في شخص طيب رحيم غفور تواب، يداوي الروماتيزم، ويقوي المفاصل1 ... وعند أمي: مأذون يجمع رءوس بانتها على رءوس عرسان أغنياء في الحلال ... وعند الأطفال يشبه عروسة المولد ... وهو عند أينشتين معادلة رياضية، وقانون تخضع له الأشياء بالضرورة ... وهو عند عاشق مثلي: حب .... وعند مشايخ الطرق الصوفية ... وزير أوقاف يوزع الكساوى والمعاشات2 ... وعند الملحد: موضوع دراسة.. وعند المؤمن: موضوع عبادة ... وهو دائما شيء حتى عند الذي ينكره"3!! و"إن الله فكرة في تطور مستمر، كما تدل على ذلك قصة الأديان.. الله في العقل الحديث معناه الطاقة الخام التي في داخلنا، الله هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة، والعلم بهذا المعنى عبادة، والفن عبادة، والفلسفة عبادة؛ لأنها إدراك لهذا الإله بوسائل مختلفة. و"الآخرة لا ترعى مصلحة الملوك والكهنة وحدهم، بل هي سلطة خلقية يستمد منها الشعب خيره وشره.. يقول فولتير: إذا لم يكن الباب موجودا فينبغي أن نوجده! ويقول نابليون: لو لم يكن الباب موجودا لكنت اخترعته، ويقول بلوتارخ: إن مدينة بلا أرض تقوم عليها أسهل من قيام   1 يحاول المؤلف، بجانب أسلوب التهكم، أن يعبر عن فكرة "الإله" التي تعرف لـ"فيبراخ" وفكرته هي أن كتاب الله هو كتاب الآمال والأماني الإنسانية, وهي الفكرة التي تبنتها الماركسية، يراجع الحديث عن هذا الفيلسوف، في هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث" ص250. 2 مثل هذه العبارة: "وهو عند مشايخ الطرق الصوفية وزير أوقاف يوزع الكساوى والمعاشات" من العبارات التي تنتزعها الدعاية الشيوعية من المجتمع الشرقي الإسلامي كي تروج فكرة أن الدعوة المطلوبة تقوم على وحي المجتمع نفسه، ومنبثقة من داخله، ولذا هي تناسبه. 3 كتاب "الله والإنسان" ص100, 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 دولة بلا إله؟ لقد أدرك الثلاثة نشأة الروحية من الضرورة المادية، وأن العامل الآخر أرضي ناشيء من الأرض، ومن الحاجات الأرضية، ولا دخل للسماء فيه1. "إن الله ليس فوق الجدل، وليس فوق العقل، وليس فوق الواقع.. إن الله هو العقل، وهو الواقع، وهو مجموع القوة الكونية التي تعمل لخيرنا في كل وقت.. وهي قوى تقبل المراجعة، والبحث، والتطور"2. هذا نموذج من الحديث عن القيم الدينية والروحية في هذه النشرات.. أما أسلوب هذه الكتيبات عن علماء الدين، فإنه يضعهم موضع رجال الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، فيبعد كل البعد عن المناقشة المهذبة!! ... وهذا نمط منه: "وأما الأئمة: فرجال ضائعون، يترنحون على الطرق، يقولون للتتار والأكراد: إن أبواب الجنة مفتوحة للصديقين والشهداء، وهم يعلمون أن الجنة لم يوعد بها الفاسقون ولا القتلة"3. "رأينا الكهانة المصرية "علماء الأزهر! " تختط مذهبا عجيبا. إذ راحت تمطر الناس بخرافاتها، وسال جشاؤها، حاملا مبادئها الحزينة المدبرة، داعية الناس إلى القناعة المقدسة، بيد أن الكهنة أنفسهم ألد أعداء القناعة، وأسبق العالمين إلى اقتناص المغانم، والبحث عن المال والجاه!! وهذا خلق لها قديم كشف عنه العلامة" هـ. ج. ولز" في كتابه الجليل "معالم تاريخ الإنسانية"4.   1 المصدر السابق: ص111-119. 2 المصدر السابق: ص131. 3 كتاب "رجل في القاهرة": ص11. 4 "من هنا نبدأ": ص24, ونلاحظ أن المؤلف في حديثه عن "الكهنة" ينقل عن "ولز"!! هذا ولعله H.G. Wells من دعاة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الأولى في إنجلترا، ودعاة تنظيم العلاقة بين أصحاب العمل والعمال، عن طريق منظمة مشتركة يشترك فيها الطرفان بنصيب إيجابي على قدم المساواة، كما يلاحظ أنه ينقل هنا عن "فولتير" "Francots Maurie Voltaire" الكاتب الفرنسي في القرن الثامن عشر "1694-1775" وألد أعداء الكنيسة الكاثوليكية، من بين دعاة الثورة الفرنسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ونمط آخر: "هل رأيت الخوف والذهول في عين الكلب، وهو يتأمل ورقة طائرة في الهواء؟ إنه لا يرى الهواء، وأراهن أنه ينظر إلى الورقة كما ينظر إلى مخلوق حي، ويظن أن بها روحا تحركها ... إنه كلب متدين، وفي الماضي كان الإنسان أحمق "إذ كان متدينا" مثل هذا الكلب"1. ومثل هذا الحديث تتحدث به هذه النشرات عن المؤسسات الدينية، أو تصف به التنظيم أي تنظيم، إن قام في أساسه على ما يتصل بالدين من نحو: "فتنشئ جمعية الرحمة ... وجمعية لتحفيظ القرآن ... وجمعية لتربية القطط الضالة؟ "2, ومثل "أنفر من عهد حرية الفكر، وحرية القول، وحرية النقد -مهما يكن ذلك ضئيلا- إلى عهد من قال لأميره: لم؟ فقد حل دمه، وبرئت منه ذمة الله؟! أم نثبت هذا العهد، ونعاونه على النضوج والاستواء؟ "3؟   1 "الله والإنسان": ص103, ويلاحظ في هذه النشرة بصفة خاصة نبو الألفاظ وقسوتها، واستخدام الدعاية الشيوعية للألفاظ القاسية الشديدة نقطة مهمة في منهاج إثارة الطبقات ضد بعضها بعضا، وخلق الصراع بينها، أو التعجيل بنتائجه في الوصول إلى جماعة اشتراكية ذات طبقة واحدة. وهي تعتمد على "الاستفزاز" دائما في المناقشة والكتابة، وعلى إثارة روح "العصيان" في المصانع الكبيرة، وعلى "إضرار" العامل في المصنع الصغير أو في المحلات الصغيرة للمهن المختلفة للعميل "الزبون" فلا يقدم له عملا يساوي الأجر، كما تغلب عليه روح عدم الاكتراث. 2 المصدر السابق: ص52. 3 "من هنا نبدأ": ص135, ويلاحظ في حديث المؤلف هنا عن "السلطة الدينية" أنه ينقل عن "فولتير"، وعن كتاب: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق "كما يبدو في صفحات: 142، 167، 168"، وفولتير هو من أشير إليه من كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ترديد لعرض المستشرقين للإسلام، كما بدأ في مناقشة هذا الكتاب "الفكر الإسلامي الحديث" له، في فصل من فصوله الماضية تحت عنوان: "الإسلام دين لا دولة" وفي سنة 1952 نصح أحد كبار موظفي وزارة التربية والتعليم لممثل "مجلس الثقافة الأمريكي" بواشنطن، أثناء إقامة هذا الممثل بالقاهرة، في زيارة له اختيار بعض الكتب العربية لنقلها إلى اللغة الإنجليزية. ترجمة "من هنا نبدأ" وكتاب: "الإسلام وأصول الحكم" والمشير المصري راعى في مشورته ما يحس به من رغبة لدى ضيفه، وميله إلى الكتب الإسلامية التي تعرض الإسلام في صورة المسيحية، فكتاب "الإسلام وأصول الحكم" أنكر صلة الإسلام بالحكم والحكومة، و"من هنا نبدأ" ردد هذا الإنكار في فصل منه تحت عنوان: الحكومة القومية. فلما نقل هذا الكتاب الثاني إلى الإنجليزية، تبين لمجلس الثقافة الأمريكي ولقراء الإنجليزية أنه صورة من الدعاية الشيوعية! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 - وعن الأخلاق، والقيم الأخلاقية: تردد الفكرة الماركسية القائمة على "التغير" لكل شيء، على "تبعية كل شيء" للجانب الاقتصادي على وجه أخص في أسلوب مليء بالقسوة والنبو؛ لأن القسوة، والنبو جزء من تكتيك الدعاية الشيوعية لإثارة "حرب الطبقات"، والتعجيل بـ"الانقلاب" في الجماعة وتحويلها إلى دولة شيوعية، وتقرأ الفكرة الماركسية الأخلاقية في الأدب العربي المعاصر، في الأسلوب التالي: "هل يستطيع الإنسان الذي اختلت غدده، وأجدبت خلاياه، أن يكون ذا سلوك وديع؟.. لقد أثبت العلم بتجاربه التي لا ريب فيها، أن أخلاق الإنسان ليست شيئا بعيدًا عن ذاته، وتركيبه وأجهزته ... وليست شيئا يناله صاحبه بـ"دعوة صالحة" أو "موعظة حسنة"، وليست شيئا يهبط من السماء فيصيب أقواما ويخطئ آخرين1. ما السلوك البشري كله: خيره وشره, صالحه وفاسده، إلا وليد حالتنا الصحية، وحالتنا العقلية، وما هنالك ريب في أن هذا الذي ينطبق على الفرد، ينطبق على الجماعات والمجتمعات: فالمجتمع المتمتع بعافية اقتصادية هو الذي تزدهر فيه الفضائل!. أما المجتمع السغبان المضني فلا وجود فيه للفضيلة"2.   1 مثل هذه العبارات من أساليب الدعاية الشيوعية، التي تقوم على الاستخفاف بما يتصل بالدين من معان، وفي الوقت نفسه هي مثل للملاءمة بين الدعاية الشيوعية المستوردة من الخارج وبيئة المجتمع الإسلامي. 2 "من هنا نبدأ" ص30، 40. وهذا الذي يذكر هنا على أنه منطق، تناقضه تماما حياة المجتمع الأمريكي، فمما لا شك فيه أنه أرفع مستوى بين مجتمعات العالم في الناحية الاقتصادية, وفرق شاسع بينه وبين مستوى الحياة في الاتحاد السوفييتي على الأخص, ومع ذلك فلا يمثل المستوى الرفيع في الفضائل، لا الفردية ولا الجماعية منها، بل ربما كان يمثل نقصا خلقيا كبيرا, فجرائم السرقات، وجرائم القتل, فضلا عن الانطلاق الحيواني، توجد في المجتمع الأمريكي بصورة لا نظير لها في المجتمعات الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ومثل: "والأديان سبب من أسباب الخلط في معنى السعادة؟..لأنها قالت عن الزنا والخمر لذات وحرمتها، فتحولت هذه المحرمات إلى أهداف، يجري وراءها البسطاء والسذج على أنها سعادة، وهي ليست بسعادة على الإطلاق"1. ومثل: "كل ما هو خير، وما هو شر، موضوعات تتغير مع المواسم والأعياد، ويخرج من حاجات الناس وضروراتهم!! كل هذه المثل، والكلمات الطنانة الرنانة تخرج من الأرض، وتمر على المعدة أولا، فإذا هضمتها صعدت إلى العقل وعششت فيه ... الحق المطلق، والخير الصرف، والفضيلة المجردة، توجد في عقول المتصوفين والمجاذيب، والحالمين، ولكنها لا توجد في مجتمعنا الذي يأكل ويشرب, ويمرض ويموت، والطريقة العصرية في بلوغ الفضيلة ليست الصلاة، وإنما هي الطعام الجيد، والمسكن الجيد"2. "الإنسان ابن بيئته، والبيئة المادية هي صاحبة الأمر والنهي في تشكيل أخلاق الناس"3! "الإنسان عندي مجبر على ما يفعل، لا يترك له التاريخ مهربا، ولا مجال اختيار. والإنسان عندي ابن بيئته، وابن عصره، وابن مجتمعه"4. - وشأن العقل، والعمل العقلي -في نشرات الدعاية الشيوعية في الأدب العربي- شأن الدين والقيم الدينية، وشأن الأخلاق ومقاييس الفضيلة   1 الله والإنسان: ص54. 2 المصدر السابق: ص23, 24. 3 رجل في القاهرة: ص257. 4 الله والإنسان: ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 والرذيلة، في أنها تخضع لظاهرة التغير، وأنها تتبع دائما البيئة المادية الاقتصادية وحدها ... كما يرى مثل هذا النص: "إن الفهم العصري للنفس البشرية, يدل على أنها موقوته خاضعة للزمان والتغير والموت خضوع البدن, وأن العقل ليس شيئا سابحا في الهواء, وإنما هو مرتبط بالمخ كارتباط النور بالسلك الكهربائي ينبعث منه ... ليست هناك نفس منفصلة عن الجسم، إنها كالحرارة المنبعثة من الفرن, إذا انطفأ الفرن وتحول إلى رماد، انطفأت وضاعت ... إن العقل والجسم ينموان معا، ويفسدان معا"1. ب- تحرير المرأة: وعلى أساس من المبدأ الماركسي في التغير والانتقال من حال إلى حال، وعلى أساس من تبعية القيم المعنوية للمادة -وللجانب الاقتصادي في الحياة على وجه أخص- تقوم الدعاية الشيوعية في الأوساط غير الماركسية، بطلب رفع "الحواجز" وبتحرير المرأة في نفسها وفي وضعيتها في المجتمع، بحيث لا يبقى اعتبار للتفريق بين ما يسمى علاقة شرعية وما ليس بشرعي في صلة المرأة بالرجل، وفي النظرة إليها في ممارسة ما تنادي به طبيعتها كفرد، وفيما تنتجه للدولة كعضو في المجتمع ... هذا هو الأساس العام الذي تقوم عليه الدعاية الشيوعية فيما يتصل بالمرأة. ولكن صياغته تختلف باختلاف المجتمع الذي تتسرب إليه، كي تقبل هذا الأساس بادئي ذي بدء, ثم تتدرج إلى أن تصل في وضوح إليه مكشوفا غير مقنع!! وإذن يكفي بالنسبة للمجتمع الشرقي الإسلامي أن تكون البداية على النحو الآتي: "هل صحيح أن الغيرة على الفضيلة والتقاليد هي التي تحفزنا إلى مقاومة التطور، والكيد للمرأة؟؟ إن يكن ذلك، فما أحوجنا إذن إلى تحديد معنى الفضيلة والرذيلة ومعرفة مدى ما يجب على الأمم أن تقدمه للتقاليد من طاعة وولاء. إن الفضائل الاجتماعية والقيم العليا التي تنظم حولها حياة المجتمع وتناط بها وجهته، ليست التي يرتضيها فرد أو جماعة من الناس، وتلائم تفكيرهم وإحساسهم، بل هي التي تنسجم مع القاعدة،   1 الله والإنسان: ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وتسمو عن الشذوذ، والقاعدة هنا هي التطور، والشذوذ هو الرجعية والانتكاس.. فكل زحف إلى الوراء مهما يتسم بحسن النية وسذاجة القصد، ليس سوى رذيلة في ثوب تنكري خداع، وليس هناك إثم أشد، ولا خطيئة أفحش من مقاومة التطور, وإخضاع مستقبل الأمم لجهلها القديم"1. أي تطور تعنيه هذه النشرة؟ إنه التغير ... وإنه تغير الماركسية وحدها!! إنه "الانقلاب" في معنى الفضيلة والرذيلة، وإخضاع هذا المعنى للحياة المادية الاقتصادية وحدها.. أن التطور هنا هو تحكيم "الجسمية" و"المادية". وأي جهل قديم للأمم تعينه هذه النشرة أيضًا؟؟ هو طبعا ثبات القيم المعنوية واستقلالها عن التبعية للمادة، وهو تحديد وضع المرأة ووضع الرجل في الحياة، وتحديد العلاقة في الأسرة والعلاقة بين الجنسين على العموم ... هذا هو جهل الأمم، وذلك هو التطور المنشود. ولكن هذه الدعاية قد تفصح عن ذلك إفصاحا أكثر على نحو: "والخير والشر خضعا لناموس التطور، فتغيرت معاني الرذيلة، ومعاني الفضيلة، كانت المرأة رمزا للشيطان, وكانت الغريزة الجنسية خطيئة تحمل أوزارها المرأة وحدها، فأصبحت المرأة نصفا مكملا للرجل، وأصبحت الغريزة الجنسية حالة فسيولوجية تنظم لصالح المجتمع ومسرة أفراده"2. وهذا التطور الذي يعنيه النص السابق. ومعنى ذلك: ليس هناك خطيئة في صلة المرأة بالرجل على أي نحو.. فلقد أصبحت نصفا مكملا له، أي: متساوية معه في التصرف والفعل! ثم إن الاتصال الجنسي في ذاته لا ينظر إليه الآن على أنه مصدر تنفيس للمرأة والرجل سواء كأفراد, وكذا على أنه مصدر ثروة قومية تستغل وتنظم لصالح المجتمع، فهو فضيلة في المجتمع الحديث في أية صورة.   1 "من هنا نبدأ": ص186. 2 "الله والإنسان": ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 جـ- العمل البدني: وظاهرة ثالثة في نشرات الدعاية الشيوعية في الأدب المعاصر، وهي ظاهرة تمجيد العمل اليدوي وإبراز تفوقه على العمل الفكري، وبالتالي تفضيل الطبقة العاملة على الطبقات الأخرى، وهذه الظاهرة أثر للفكر الماركسي، الذي يرمي إلى تحويل الجماعة إلى دولة ذات طبقة واحدة، هي طبقة العمال، كما أنها مادة للدعاية الشيوعية، لكسب الأتباع في أوسع دائرة ممكنة ... ومن أمثلة ذلك: "والكدح الخصب المنتج يسعد صاحبه، أكثر من الراحة والتفكير المتراخي المفلس"1. وتقرأ أيضا: "أنا أعرف أن هذا القفطان يلزمه مقدار معين من القماش, وأنه ينبغي أن يفصل على هذا النحو، ويخاط من هنا، ويترك من هنا، ولكني لست خياطا.. لذلك يمتاز على الخياط بأنه منفذ، بأنه يضم أجزاء الثوب معا، سأضرب لكم "على لسان بان خلدون" 2 مثلا أقرب إليكم: تسمعون في الجامع خطيبا يقول: إن الرحمة بالبائسين واليتامى من واجبات المؤمنين، وإن هذه الرحمة تقتضي أن يخرج المسلم الزكاة، وأن يمد يد العون للآخرين، وقد يشرح لكم هذا الشيخ شرحا مستفيضا كل شيء عن التكافل والتعاون، ولكن ما إن يترك المنبر حتى لا يصنع شيئا مما يقول! ... إنه رجل ذو معرفة لا جدال، غير أن معرفته قليلة الجدوى. والمطلوب عندي هو المعرفة المقترنة بالتجربة والممارسة"3. وأيضا: "لقد قرأ المجاورون نسخة من مقدمة عبد الرحمن، وخيل إليهم أن الرجل الكبير يشاركهم التجربة، فهو يتكلم عن الزراعة والصناعة، وعن أن العمل هو الذي يعطي الأشياء قيمتها"4.   1 "الله والإنسان" ص: 56. 2 مؤلف: "رجل في القاهرة" يقص ما يقصه في مؤلفه كله على لسان ابن خلدون، محاولا إخضاع ما كتبه هذا "في مقدمته" للتفسير الماركسي، وبالأخص للتفسير المادي للتاريخ. 3 "رجل في القاهرة": ص82. 4 المصدر السابق: ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وكثيرا ما يتصل بتفضيل العمل البدني على العمل العقلي إثارة العمال ضد أصحاب المزارع والمصانع، أو تحميسهم لمعاونة الانقلاب نحو الجماعة ذات الطبقة الواحدة "الشيوعية" ... من نحو: "وكان "خادم ابن خلدون" أبو الحسن ثرثارا عظيما يحتقر الصناع ويحتقر أكثر من الصناع: العتالين، وأما تقديره للفلاحين فأسوأ ما يكون وكان الخادم ينتظر كلمة من مولاه ليصب احتقاره على الصناع، قال: "مولاي! هذا الصنف من الناس لا يمكن أن يعود إلى الشغب بعد أن تكلمت السياط! وكان أبو الحسن عبدا اشترته عائلة عبد الرحمن "ابن خلدون" وهو طفل، وعلموه أن الدنيا هرم: في القاعدة أرض، وفلاحون، وصناع، وفي أعلى سادة، وما دام أنه عبد عائلة كبيرة فهو فوق! "1. والمؤلف لم يفرق هنا بين عادة تكونت -إن كان على نحو ما يصف من المبالغة- وبين رأي الإسلام، وللرسول -صلى الله عليه وسلم- حديثه الصحيح: "إخوانكم خولكم ... " فهو قد أوصى برعاية الخدم، بأن جعلهم إخوانا لمخدوميهم في الإحساس والشعور، قبل المعاملة والرعاية. وكذلك من نحو: "لقد اكتشفت حقائق مؤلمة ومخجلة!! ففي بعض التفاتيش وجد الرجل يستأجر بخمسة قروش في اليوم، بينما يستأجر الحمار بعشرة قروش ... ومعنى هذا: أن المساواة لم تتحقق بعد، بين الإنسان المصري والحمار المصري2. وإذا أقيمت الجسور، فالفلاحون هم الذين يقيمونها، وإذا شقوا الترع فالفلاحون هم الذين يحفرونها، ويرفعون ترابها، ويطهرونها، وإذا جاء الفيضان وغرقت القرى، فالفلاحون هم الذين يغرقون أو يفرون إلى سفوح الجبال الشرقية وأطراف الصحراء الغربية، وإذا جاء القحط فعلى الفلاحين أن يموتوا، وإذا انتزع مملوك إقطاعية مملوك آخر، انتقل   1 المصدر السابق: ص22، 24. 2 "رجل في القاهرة": ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الفلاحون مع الأرض تابعين لها؟ فالسيد هو سيد، وأما هم فيلحقون بالأرض"1. والحديث عن تمجيد العامل وإثارته هو حديث في الجملة عن الجماهير ... وتتصل بالجماهير لغتهم، وفنهم، ولذا ترى الدعاية الشيوعية تعنى بتمجيد اللغة العامية، وبالفن الشعبي، على نحو ما نقرأ هنا: "وما رأيك في أني سمعت بلسان عامة الأندلس، وبلسان عامة البربر في المغرب، أعذب الأشعار وأصدقها؟؟ أتريدني أن أنكر ما سمعت أذناي، أم أنك أصبحت متعصبا للنحو والصرف؟؟ إني لا أعتقد بأنك وأصحابك هؤلاء الذين أسمعوني أخبارا متصلة بالحياة، يمكن أن تموت فيكم حاسة الذوق, فتقولون -كالذين ماتت أذواقهم- ليس للعامية لغة وللعامية شعر أو بلاغة2. "وطرب لقصائد الهلالية، ورأى في هذا الشعر العامي خطا من نور، كان هو البادئ في التقاطه وتسجيله في ذلك السفر العظيم، الذي أسماه "المقدمة"، والذي لم يكن متكبرا حين قال عنه: إنه لا يعرف له سابقة في التفكير الإسلامي ولم يقع على شيء قريب منه وإنما هو إلهام خلق جديد! "3. التفسير المادي الاقتصادي للتاريخ: ومكافحة القيم المعنوية، وتغير الأخلاق, تبعيتها للحياة الاقتصادية، وتحرير المرأة في غير حد إلا حد "الإنتاج"، وتمجيد العمل البدني وإبراز تفوقه في القيمة على العمل العقلي. تلك هي عناصر الدعاية الشيوعية في الأدب العربي المعاصر، وهي نفسها قوام الدعاية الشيوعية في كل أدب إنساني قائم في عصرنا الحاضر.   1 "من هنا نبدأ": ص98. 2 المصدر السابق: ص61. 3 المصدر السابق: ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ولكن يستخدم في تروجيها التفسير المادي الاقتصادي للتاريخ: إما بصفة عامة، وإما في صورة تقترب من طبيعة المجتمع الذي تروج فيه، وفيما يلي بعض النماذج لهذا التفسير. "لقد كان الطغاة يكتسحون الأرض بسكانها، ويحولون الكل إلى عبيد أرقاء، ثم تطور الطغيان "دولة الملوك" فأصبح الغازي يكتفي بأن ينهب الأرض ويترك سكانها أحرارا ليعتصر دماءهم في الضرائب "دولة الإقطاع" ثم تطور أخيرًا إلى شيطان عطوف دائم الابتسام، لا يمس الأرض ولا يمس سكانها، وإنما فقط يستولي على ثروتهم "دولة الرأسمالية".. لقد بدأنا عبيدا للأرض، وانتهينا عبيدا للأجر1. "والآن ليس هنا إلا طريق واحد، هو أن يتحرر العقل من النظام الصراعي "بين رأس المال والعمال" الذي يعيش فيه، ويحتم عليه الحرب! عليه أن يقضي على الاستعمار أولا، ثم يفرغ لتنظيم اقتصادي جديد، يسلم فيه مفتاح المصنع ومفتاح الدكان للدولة، ويقضي على الحرب الصامتة بين صاحب المصنع والعامل، ويحول المجتمع إلى أسرة واحدة "إلى مجتمع ذي طبقة واحدة، هي طبقة العمال" والحكومة إلى أب، والعالم إلى دول متآخية, وبهذا يصبح سوق الشرف هو العمل والإنتاج، لا الكسب والاستغلال ويتحول الإنسان مرة أخرى إلى جده البدائي المسالم الذي كان يحارب الطبيعة القاسية"2. وذلك الجد البدائي إنسان الغابة.. الإنسان الحيوان الذي لا يعرف الملك والقيم!! هذا نموذج من التفسير المادي لتاريخ الاقتصاد، وقد يستخدم التفسير المادي لتاريخ الكائنات، للتدليل أيضا على الانتقال والتغير، الذي يعم كل شيء حتى الجماعة، وحتى الاقتصاد ... كما في النموذج التالي: "إن التاريخ في رأي هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو بجيل. أتدرون "الخطاب على لسان ابن خلدون موجه إلى طلابه المجاورين الخمسة   1 "الله والإنسان": ص7. 2 المصدر السابق: ص92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 في الأزهر" أنه قد خطر لي خاطر غريب، لم أحب لنفسي الخوض فيه كثيرا ... ذلك أن بين الإنسان، والجماد، والحيوان قرابة!! اسمعوا هذه الفقرات "في المقدمة" "ثم نظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن، ثم الحيوان، على هيئة بديعة من التدريج، إني لأرى "المتحدث على لسان ابن خلدون، والمؤلف يشرح" الكائنات في هذا العالم سلسلة تتدرج من الأدنى إلى الأعلى: أرى آخر مراتب المعادن وأرقاها متصلة بأول أنواع النبات، وأرى آخر أفاق النبات وأعلاها متصلة بأدنى آفاق الحيوان ... إني لأرى أنه من المعادن، أو قولوا: من الجماد حدث نبات. ثم حدث حيوان، وقد شرحت قدر استطاعتي الفكرة -فكرة الانتقال من طور إلى طور- بأن قلت: "ومعنى الاتصال في هذا الملكوتات: أن آخر أفق منها مستعد لأن يصير إلى الأفق بعده ... "وتصورت عالم الحيوان على هذا النحو: تصورته في البداية قريب الصلة بالنبات، ثم تطور واتسع وتعددت أنواع الحيوان، وانتهيت إلى الإنسان، ولا أملك نفسي، حين أرى قردا ذكيا يشعر ويكاد ينطق، أن أقول لنفسي: يا عبد الرحمن، هذا ابن عمك! أنا أؤمن بأن حالة ما تستمر إلى الأبد، لا في الحيوان، ولا في النبات، ولا في الإنسان، وأؤمن أن كل شيء قابل بطبيعته للتطور، وأرى أن التطور التدريجي هو أوسع قاعدة تحكم ما أعرف، وإن كنت لا أنكر أنه قد تتبدل أحوال الأمم أحيانا تبدلا كليا، فكأنها تخلق من جديد، وتدخل عالما محدثا"1. وبهذا أوصل المؤلف، صاحب هذا النص "ابن خلدون"، إلى أنه بشر" بالتفسير المادي للتاريخ، وآمن بتطور كل شيء وانتقاله إلى حالة أخرى، حتى الأمم "كأنها تخلق من جديد، وتدخل عالما محدثا"، وهي حال المقابل والنقيض. كما أوصله إلى أنه يرى كما يرى "ماركس" لا كما رأى "فيشته" و"هيجل" في انتقال الشيء إلى نقيضه -أن الانتقال أو التطور يكون تدريجيا، ثم إنه قد تتبدل أحوال الأمم أحيانا تبدلا كليا" أي: يكون فجأة انقلابا وثورة.   1 "رجل في القاهرة" ص 69, 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 إيمان بحيوانية الجسد.. وكفر بإنسانية الإنسان، وبخالقه: وبعد، فالماركسية مذهب فلسفي قصد إلى إيجاد توازن في العلاقة بين أصحاب رءوس الأموال والعمال، فحرم كلا الطرفين من الملكية، وفرض قيام "وصاية" عليهما سماها "الدولة" ووكل أمر مباشرة هذه الدولة والتصرف في شئون الوصاية إلى حراس هذا المذهب وهم المريدون له. وبذلك نزع من صاحب رأس المال ماله, ومن العامل حريته في العمل، ووضع المال كله كما وضع التوجيه في العمل بيد الدولة وحدها. وأصبح كل من صاحب رأس المال "سابقا" ومن العامل عنده "سابقا أيضا" في حاجة إلى أن يعيش لأن يأكل!! واتخذت الفلسفة الماركسية من هذا الوضع -وهو الحاجة إلى الأكل وملء "المعدة"- فرصة إلى أن ترى هدف الحياة الإنسانية في الأكل وملء المعدة وحده، دون هدف آخر وراءه، وبذلك بالغت في قيمة هذا الهدف الأرضي الحيواني، كما شددت في إنكار ما وراءه من هدف آخر فوق الحيوانية. وتبع ذلك إنكار الدين وإنكار الفلسفة المثالية ... وأصبحت التضحية وإنكار الذات، وأصبح الصبر على الشدائد والرضا بالقدر عند العجز عن الدفع، وأصبحت الأخوة في الوطن أو في الإنسانية معان جوفاء لا مدلول لها.. وأصبحت الدعوة إلى الله والقيم الذاتية -كمصدر لإشعاع التوجيه للبشرية عامة- دعوة إلى التخدير. شجعت الفلسفة الماركسية الحيوانية في جميع جوانبها ... شجعتها في امتلاء المعدة، وفي إشباع الرغبة الجنسية في أية صورة، وفي احتقار العقل، وازدراء الطبقة المثقفة، وأغرقت الطبقة العاملة بأن "الدولة" دولتهم، حتى تضمن ولاء الكثرة العددية في الجماعة الإنسانية لنظامها. وواقع الأمر: إن جميع الأفراد في النظام الشيوعي أجراء, ولكن لا حرية لهم في قبول العمل أو في اختياره!! هم جنود محاربون، ولكن لا في سبيل الوطن أو في سبيل الله، أو بدافع التضحية لذات التضحية, وإنما هم مساقون من الخلف، والسوط في هذا الدفع الخلفي هو الذي ينطق، دون التذكير بمعاني المجد، والحرص على سلامة الوطن!! وجميعهم في ظل هذا النظام أيضا "منتجون" ولكن إنتاجهم إنتاج "كم"، أكثر منه إنتاج "كيف"، إذ تنقصهم الرغبة في العلم، ويدفعهم إلى قبوله "خلاء المعدة" والرغبة في ملئها فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 هذه هي الماركسية: عدوة الحياة الإنسانية ... وعدوة الدين والإيمان بالله، وعدوة الملكية الفردية.. وعدوة الحرية في الرأي، وفي التعبير، وفي العمل وفي نظام الحياة، وفي بناء الأسرة!! التمليك الجماعي خداع، والدولة ذات الطبقة الواحدة خداع.. الكل مسوقون، والسيد حفنة من القادة، واتجاه السير في الحياة إلى: "المعدة" "المعدة"، و"المعدة".. وبدل أن تعين أتباعها على أن يرفعوا رءوسهم لينظر بعضهم بعضا تحملهم على أن يخفوا وجوههم حتى لا يرى الواحد منهم الآخر على حقيقته.. ثم عليهم، ولهم أيضا، أن يتحسسوا بطونهم، ويسمعوا إلى ندائها وحده. الأفراد الشيوعيون مقضي عليهم بالفناء في صور ما، والدولة هي الباقية.. هذا هو شعار الماركسية في حياة الإنسان ... الدولة هي الخالقة للأفراد، وليس الأفراد هم صانعو الدولة. "إن كل واحد منها كالخلية في جسد المجتمع، مثل كرة الدم البيضاء في الجسم، تخرج لتموت في معركة مع الملاريا، ليعيش الجسم ويتغلب على المرض. إننا في اندفاعنا في عمرنا القصير لنحقق إرادة مجتمعنا، نحس بإرادة "الكل" نحس بأننا نساهم في صحة الجميع وبقائه، ومن هنا كان أحساسنا بالخلود؛ لأن الكل "الدولة" خالد فعلا, باق فعلا، والذي يموت هو نحن الأجزاء الصغيرة، كرات الدم التي يدافع بها جسم المجتمع عن نفسه"1. هذا هو تعبير الماركسية في نشراتها في الأدب العربي ... وهو تعبيرها عن هدفها الأصيل: تموت الأفراد، ويحيا المجتمع. أي مجتمع يحيا إذا ماتت أفراده ... في حياتهم، وفي قبورهم على السواء! أهو مجتمع العبيد، أم مجتمع الإنسان الحر الكريم؟!   1 "الله والإنسان": ص122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 مع الأسف إنها لا تؤمن بالحرية، ولا بالكرامة، ولا بأمثال هذه "المثاليات" إنها لا تؤمن إلا بالجسد، وبحيوانية الجسد.. وتكفر بإنسانية الإنسان وبخالق الإنسان معا، وهو الله جل شأنه. الشيوعية إفلاس في الجماعة.. وأمار يأس في التفكير الماركسي: الدين يطلب "التوازن" إذ تطلب العدالة.. والماركسية ترى أنها تطلب "التوازن" إذ تطلب تمليك الدولة دون الأفراد. ولكن الفرق بين الماركسية من جانب، وبين الدين والفلسفة من جانب آخر هو: - أن التوازن الذي تطلبه الماركسية هو "سلب الجميع" لما يملك الجميع، من كل شيء, من مال وإنسانية على السواء. - بينما التوازن الذي يطلبه الدين هو: التوازن في الفرد بين ثنائيته1. وفي المجتمع بين طبقاته، بحيث يكون للفرد الحرية ولكن في نطاق الإنسانية ويكون في المجتمع تفاضل ولكن في غير طغيان.   1 هناك ثلاث عبارات وردت في تاريخ الفلسفة، تعبر عن "التقابل" هي: "التضاد" و"الثنائية" و"النقيض". - وقد عرف التعبير بالتضاد: في الفلسفة الطبيعية القديمة واستخدمه "النظام" المفكر الأديب المعتزلي في الإسلام, في الاستدلال على وجود الله فهو يقول: إن في هذا العالم أشياء متضادة بالطبع، كالحار والبارد واليابس والسائل، والمظلم والمضيء، وهكذا ولكنها مع ذلك مجتمعة ومقهورة على غير طباعها، فإذا كان الامر كذلك فلا بد وأن يكون هناك قاهر لها، قاهر لتلك الأشياء المتضادة، وجامع بينها لتؤدي غاية سامية، وإذن تكون تلك المتضادات قد جرى عليها القهر، وما كان كذلك فهو ضعيف وقاهره قوي، وضعفه دليل حدوثه فإذا كان المقهور حادثا فالقاهر هو القديم. - وعرف مبدأ "الثنائية" في الفلسفة الأرسطية، بين الصورة والمادة، وإن كان عرف قبله عند أستاذه "أفلاطون" بين المثال وظل المثال، ولكن أمر هذه الثنائية كان أوضح عند "أرسطو" منه عند "أفلاطون".= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 والتوازن الذي تطلبه الفلسفة المثالية أن تكون للدولة قيمة عليا، ولكن يكون الفرد مع ذلك هو صانع الدولة والمجتمع معا, ولذا يجب على الفرد أن يكون عضوا حرا في المجتمع, وعلى المجتمع أن يصون حريته ويرعى مصالحه. فتوازن الدين والفلسفة ... توازن "توزيع" و"تقابل" لا توازن "سلب" ثم "تسخير"!!   = - ومبدأ "النقيض" أعمق لمبدأ الثنائية ومبدأ التضاد فالتضاد استخدم كمبدأ للتقابل بين الأشياء, أي: إن شيئا من الأشياء يقابل شيئا آخر منها، وهكذا أشياء هذا العالم متقابلة في ذواتها، ومبدأ الثنائية لم يقف بالتقابل عند علاقة الأشياء بعضها ببعض، كمبدأ التضاد، بل تجاوز ذلك إلى أجزاء الشيء الواحد، وأصبح هناك في الشيء الواحد تقابل بين أجزائه، كالتقابل بين النفس والجسم في الإنسان، وهناك فرق آخر بين التضاد والثنائية، هو أن التضاد "جامد"، يكشف فقط عن وجود تقابل بين شيئين لا يصير أحدهما ولا يتحرك نحو الآخر والثنائية كما تكون على هذا النحو، تكون بين أمرين متقابلين في ذاتهما، ولكن يسعى ويتحرك أحدهما نحو الآخر، كالممكن والواجب، أما النقيض فهو ليس بين أجزاء الشيء الواحد، وإنما في طبيعته الواحدة، على أن يكون أحد طرفيه قائما بالفعل والآخر يتحول إليه الشيء كلية, بعد أن يذهب هذا القائم بالفعل ويفنى، ومن هنا كان النقيض مبدأ يقوم على "الحركة"، ويستلزم الصيرورة في الشيء الواحد صاحب الطبيعة الواحدة، وهو لهذا تطور في مبدأ الثنائية, الذي هو بدوره تطور لمبدأ التضاد. - والمبادئ الثلاثة: التضاد، والثنائية، والنقيض، استخدمت في بحث الميتافيزيقا للاستدلال على وجود العلة العامة للكون، وفي بحث الدين للاستدلال على وجود الله، وانفرد مبدأ النقيض بأن استخدم النقيض أولا في الاستدلال على سابقيه في وجود العقل، وعلى استقلاله في الوجود عن الحسن, ثم وقف الاستدلال به عند الحس، دون العلة العامة في الميتافيزيقا، ودون الله في الدين، ودون العقل في الفلسفة العقلية، وانتهى أمره لبيان أن الأشياء المحسة تصير إلى نقيضها في استمرار، وأن طابع العالم التغير والتحول من طرف إلى مقابله تماما، وأن ما فيه لا يخضع للثبات بحال، سواء كان شيئا، أو قيمة، أو جماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 إن الثنائية أو "النقيض" موجود مع الإنسان نفسه.. وأحد طرفي "الثنائية" هو أحد طرفي "النقيض" فيه، و"الاستمرار" في البقاء في أحد الطرفين "خروج" عن طبيعة الشيء صاحب الثنائية، للإنسان نفس وجسم, وفيه الاستعداد للحياة والفناء، وعنده "الإمكان" لأن "ينتقل" من أحد الطرفين إلى آخر, ولكن الحكم عليه بأن يبقى في طرف الجسمية وحدها كالحكم عليه بأن يبقى في طرف الحياة وحدها، فلا يجوز عليه الموت، أو بأن يبقى في طرف "العدم" وحده فلا يرى الوجود وحياة الموجودين. والمجتمع كالفرد له ثنائية، وثنائيته من خصائص طبيعته ... فليس أفراده متساوين في "قيمة" ما جسمية، أو نفسية, أو إنتاجية، وكذا في القيم العرضية كالفن والمعرفة، وإذا كان أفراده مختلفين، فهناك تقابل فيه, والتقابل هو الثنائية، هذه هي طبيعة المجتمع، فمن الانحراف عن طبيعة المجتمع إذن، أن يلغى فيه التقابل أو الثنائية؛ لأنها من طبيعته أن يترك في أحد طرفي التقابل يطغى في المقابل، ووجود التقابل في المجتمع إذن خاصة من خواص طبيعته، وطغيان طرف فيه يعبر عن انحراف طبيعة أيضا. فحكم الماركسية على بقاء المجتمع في طرف واحد من طرفي ثنائية وعلى أن هذا البقاء خيره الدائم ... مخالف لطبيعة الشيء صاحب الثنائية وبالتالي مخالف لمبدأ "النقيض" الذي قامت عليه. إن استقامت الثنائية في تعادل طرفيها، لا في إلغاء طرف منهما. و"النقيض" ولا يكون نقيضا إلا إذا بقي له "إمكان" أن يدور بين شيئين متقابلين، وليس في تجميده في طرف واحد، وإلا لألغى نفسه ولم يصبح نقيضا. وإذن "التوازن" هو علاج الانحراف، والعدل هو وسيلة عدم الانحراف.. إما "الإلغاء" فهو انحراف آخر في المجتمع، وسيلغي المجتمع الإنساني حتما ما طرأ عليه من انحراف، ولو بعد حين؛ لأنه ليس من طبيعته، وستزول الشيوعية، صاحبة نظم الطبقة الواحدة، من حياة المجتمع الإنساني؛ لأنها انحراف فيه وخروج عن طبيعته. وطبيعة أي شيء لا بد أن تكافح ما يتنافر معها. وجعل الجماعة الإنسانية إذن ذات طبقة واحدة -كما يدعو النظام الشيوعي- يدل على إفلاس في سياسة الجماعة، وهو كذلك أمارة يأس في التفكير الماركسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الماركسية تنتظر الشيوعية: الماركسية تؤمن بمبدأي "النقيض" و"التغير" وتستعين بأحداث التاريخ الاقتصادية في التنبؤ بصيرورة العالم كله إلى الشيوعية، فإذا صار العالم إلى الشيوعية، أي إذا تم انتقال الثرورة من: المالك ... إلى الإقطاع ... إلى الرأسمالية ... إلى الدولة, عندئذ تكون قد تمت دورة "الانتقال في التمليك. وبما أن طبيعة كل شيء له ثنائية، أو هو يحمل في نفسه نقيض نفسه، أي: له إمكان الانتقال من حال وصل إليها إلى حال آخر معارضة ومقابلة له -فـ"إمكان" استئناف الانتقال من "تمليك الدولة"، أي: من النظام الشيوعي، إلى تمليك الأفراد، قائم ومحتمل، والماركسية التي أقامت الشيوعية بناء على ذلك- عليها أن تترقب هي نفسها زوال الشيوعية، وفناؤها فيما يقابلها، وهو تمليك الأفراد. وعندئذ لا بد للعالم من أن يستأنف "دورة" أخرى في اقتناء الثرورة وتمليكها، ولكنها عندئذ دورة عكسية، أي: تبتدئ من "الدولة" المالكة، إلى الأفراد من جديد. واستئناف العالم لدورة أخرى أمر حتمي, إلا إذا كانت الماركسية تؤمن بنهاية العالم كله، وعندئذ يبقى النظام الشيوعي إلى فناء العالم، لكنها تؤمن بالخلود للطبيعة المحسة، لأرض هذا العالم وما عليه من موجودات، وليس لله ولا للمثل العليا، فإيمانها بخلود الطبيعة من جانب، وبـ"الانتقال" المستمر من حال إلى حال فيها من جانب آخر يؤذن حتما بهزيمة الشيوعية في كفاح الطبيعة، وكفاح الوجود صاحب الثنائية. الإسلام: أما موقف الإسلام -من الأديان السماوية خاصة- في"توازن الجماعة" في الجانب الاقتصادي وفي تمليك الثروة، فقد وضع مبدأ "الميراث" بين جملة من المبادئ لضمان التوازن، إذ الميراث تفتيت لرأس المال، وهو بذلك يحول دون وقوعه في يد قلة تحتكره، وبالتالي يحول دون طغيان الرأسمالية، ومن جانب آخر هو تمليك لـ"الأفراد" لا للدولة ... وبذلك يحول دون حرمان الأفراد من التملك، كما يحول دون إذلال الأفراد لما يسمى "الدولة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ولم يعرف لمبدأ من مبادئ الإسلام أن له هذا التحديد "الرياضي" في الدقة التي لا تقبل الاحتمال بحال، مثل ما عرف لمبدأ الميراث فقد جاء في سورة واحدة هي سورة النساء، وجاء في جملة من الآيات هي ثلاث1، وجاء في صيغة تحديد الحساب "علم العدد"، هذا التحديد في السورة، وفي الكمية والعدد، وفي الصيغة يؤذن بأهمية مبدأ الميراث وبأثره في المجتمع الإنساني. وكما أن الميراث عامل في "التقليل" بسب توزيع الأنصبة، فهو قد يكون عاملا في "التكثير" والزيادة بسب ضم نصيب جديد إلى نصيب قائم فعلا، ولكن بحيث تعود هذه الزيادة من جديد عن طريقه نفسه "أي: الميراث" أيضا إلى "التقليل". فإذا وصل الحال في "التقليل" إلى درجة دنيا لا ينتفع فيها بالمال الموزع يتدخل مبدأ آخر جاء به الإسلام وهو: مبدأ "التخارج" أو "الاستبدال". وأما موقف الإسلام من "القيم" في حياة الإنسان فآخر "قيمة" في نظره، هي "شهوة البطن" وشهوة الفرج ... إن كانت شهوة البطن والفرج تعتبر قيمة. الإسلام يؤكد إنسانية الإنسان، ويرتفع بها فوق حيوانيته ... ويؤكد بالتالي القيمة العليا في الوجود كله، وهي "خالق" هذه الإنسانية؟ الإسلام لا يرى أن الإنسان تخلقه الأرض، أو يخلقه المجتمع، وإنما خالقه هو خالق الأرض والمجتمع، وهو الله ... والإسلام بهذا يقابل الماركسية تماما. والتحول المقبل للماركسية، في جانب القيم -تطبيقا لمبدأ النقيض"- سيكون إلا الإسلام، دين الإنسان الفرد ودين المجتمع، ودين القيم. إن الانحراف عن "التوازن" في الجماعة ذات الإيمان بالله، أو صاحبة الفلسفة المثالية، لا يرجع إلى ضعف ذاتي في قيمة الدين كدين، أو في قيمة   1 آيات: 11، 12، 176 من سورة النساء، وهذه ملاحظة يشكر عليها فضيلة أستاذنا الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 التفكير المثالي ... وإنما يرجع إلى ضعف في قوة الإنسان التي تصاحبه، سواء أكانت قوة السلطة التنفيذية، أو تلك القوة التي تتمرس على فهمه وعرضه، كما أن بقاء النظام الشيوعي حتى اليوم -مدة لا تبلغ نصف القرن- وهي مدة قصيرة في تاريخ أية جماعة إنسانية، لا يعود إلى القيمة الذاتية لـ"السلب" و"التسخير" فيه، أي: سلب ملكية الأفراد جميعا وتسخير الأفراد جميعا وجعلهم أجزاء من أجل لقمة العيش ... وإنما يعود بقاء هذا النظام حتى هذه اللحظة إلى القوة الحارسة التي تصون هذا النظام وتسنده، وإلى اليقظة، الممثلة في نظام المخابرات والجهاز السري الدقيق، ذلك الجهاز الذي تعددت درجاته، وتنوع إلى أنواع مختلفة. أما تقدم الصناعة "الثقيلة" والبحث العلمي في "الذرة" في روسيا السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية -فجأة وفي غير انتظار- فيرجع إلى "استغلال" العقلية الألمانية العلمية، التي وقعت في الأسر بعد هزيمة الألمان" والتي تمت من قبل في ظل نظام البحث الألماني, وهو نظام يقوم على الحرية, وعلى احترام الإنسان، وتقدير الفرد، هو نظام "المثالية" الألمانية، وعقلية "الواجب" في السلوك العملي للألمان, ولا يرجع هذا التقدم بحال في بادئ الأمر إلى وجود "العقلية الخالقة" وتطور هذه العقلية بين أتباع النظام الشيوعي!! إذ هو نظام يدفع إلى كمية الإنتاج دون كيفيته، ونظام يمجد العمل بالساعد على العمل عن طريق الفكر، على أن التقدم العلمي المادي يتوقف قبل كل شيء على "المعمل" وأجهزته، ولا يدل بحال على أن العقلية التي ترصد حركات "الاختبار" في المعمل قد بلغت مستوى الإنسانية في خصائصها، في حبها للسلم والخير، وأنه قد توفرت لها الحرية الفردية في الرأي والقول والاعتقاد، وتوفرت لها الكرامة في النفس، والملك، والعرض، والبشرية، بحيث لا تنتهك حرمتها. والآن نرى أن التجديد في الفكر الإسلامي في الوقت الحاضر، يعيش في التفكير الغربي الذي خلقه القرن التاسع عشر، وينقل منه ما لا يفيد التوجيه في الشرق الإسلامي. - ينقل منه آراء المستشرقين الصليبيين فيما يصور الإسلام على أنه رسالة بشرية لمصلح إنساني، أو قائد ناجح، يرتبط اعتبارها بوقت حياة هذا المصلح. - أو ينقل منه آراء بعض المدارس اليسارية والإلحادية ضد الدين عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ونرى أن "المجددين" في الفكر الإسلامي الحديث في الشرق، أتباع مرددون، وليسوا أصحاب حكم ونقد ... تدفعهم رغبة الترديد وسطحية الفهم، أو يدفعهم الاحترام، إلى ترديد ما يرددون! وهم -لأي واحد من هذه الأسباب- ليسوا أصحاب فلسفة، ولا أتباع مدرسة فلسفية خاصة؛ لأنه تنقصهم "الذاتية" في بناء الفكر، و"نقده". والأدب العربي المعاصر -بوجه خاص- يعاني أزمة "انفصالية" في التعبير عن الحياة المعاصرة، وعن الفكر والتوجيه القائم فيها، وذلك لفقد هؤلاء المجددين استطاعة "الهضم" للغريب، وبجانب كونهم يعيشون في ماضي الآخرين وهم يوهموننا دوما أنهم يعيشون في حاضر الحياة، وبجانب كونهم يعيشون على "البقايا" التي فقدت اعتبارها في الاتجاهات الإنسانية المعاصرة لدى هؤلاء الآخرين، رغم أنهم يطلبون منا أن نعترف لما يقولون بأنه: "جديد" وبأنه صاحب قيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الباب الرابع: الإصلاح الديني حقيقة الإصلاح الديني في الإسلام: نعني بـ"الإصلاح الديني" في مجال الإسلام. - محاولة رد الاعتبار للقيم الدينية، ورفع ما أثير حولها من شبه وشكوك قصد التخفيف من وزنها في نفوس المسلمين. - ونعني به كذلك محاولة السير بالمبادئ الإسلامية. من نقطة الركود التي وقفت عندها في حياة المسلمين، إلى حياة المسلم المعاصر، حتى لا يقف مسلم اليوم موقف المتردد بين أمسه وحاضره؛ عندما يصبح في غده. ويخرج عن نطاق هذا الفصل -"الإصلاح الديني"- في البحث، تلك المحاولات الفكرية التي يدعي القائمون بها إصلاحا أو تجديدا في الإسلام، وهي في واقع أمرها "إخضاع" الإسلام للون معين من التفكير، أجنبي عنه، سواء في هدفه أو فيما يصدر عنه. فالكشف عن القيم الذاتية للإسلام، هو الأمارة التي اتخذناها طابعا لما سميناه "الإصلاح الديني". ولا نقصد بهذا الكشف "الدفاع" عن الإسلام؛ لأن هذا الدفاع قد يشتبك مع حماس العاطفة، فيؤثر على القيمة الذاتية للإسلام ... وإنما نبغي فحسب: مدلول هذا "الكشف" من فصل ما يتصل بالإسلام، من تحريف في التأويل، أو غموض في التفسير، أو ركود في الفهم. والإصلاح الديني في مجال الإسلام بهذا المعنى ... ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه, وبالفكر الذي يقوم بمحاولته, وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا الفكر. والإصلاح الديني بالمعنى السابق -كمحاولة فكرية، وفي صلاته هذه- يغاير الحركات الدينية الأخرى التي تعتمد على "تبسيط" تعاليم الإسلام وتقريبها من العقلية العامة، كما يغاير تلك المحاولات التي تسير في دائرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 تفسير خاص لتعاليم الدين، أو تلتزم منهاج مدرسة خاصة من مدارس الفقه، أو مذاهب الكلام في العقيدة. - والإصلاح الديني -بعد هذا- تفكير ومنهج، يقوم على نقد وبناء، ويخلص إلى "اعتبار" قيمة واحدة، هي قيمة الإسلام في التوجيه الإنساني. ونحن في عرضنا للفكر الإسلامي الحديث، نعرض له في فترة تمتد قرابة قرن كامل, من منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وبهذا التحديد، سوف نقصر البحث في الإصلاح الديني على هذه المرحلة، وبالطابع الذي وضحناه من قبل ... وهذا وذاك يدعونا إلى استعادة ما كان عليه تفكير القرن التاسع عشر في الغرب والشرق وما ساد فيه من اختلال توازن القوى الفكري، والمادية، والسياسية والاجتماعية بين الشرق والغرب. لقد كانت ظروف القرن التاسع عشر، بما تم فيه من استعمار الغرب للشرق الإسلامي، وبما ساد فيه من التفكير الوضعي الواقعي لدى الغربيين من جانب، وبما ظهر من ضعف الشرق اجتماعيا، وسياسيا، ومن سيطرة "التواكل" على حياة الإنسان فيه من جانب آخر داعية إلى إيقاظ بعض المفكرين المسلمين، وحافزة لهم على دراسة ما يجب أن يكون عليه موقف الشرق الإسلامي إزاء: - السلطة الاستعمارية الصليبية في بلاد الشرق. - وإزاء هذا التفكير الغربي المادي الإلحادي، وما عساه أن يحدثه من أثر سلبي يزيد في ضعف المسلمين. - وأخيرًا إزاء الضعف المتعدد الجوانب، والذي طال عليه الأمد، واستحوذ على نفس الفرد والجماعة، في الشعوب الإسلامية. والإسلام في نظر هؤلاء المفكرين المسلمين، أداة الربط القوية بين الجماعات الإسلامية، كما أنه المصدر الأول لاستعادتهم من جديد قوتهم، على نحو ما كانت لهم هذه القوة يوم أن سادوا، ولم يخضعوا لغير الله وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أيقظ الاستعمار الغربي الصليبي بعض المفكرين المسلمين. ووجههم لأن يكونوا دعاة ضد سلطته في أية بقعة من بقاع العالم الإسلامي. ودعتهم دعوتهم لأن يعمدوا على "الإسلام" كوسيلة أولى في إيقاظ شعوب منطقة الشرق الإسلامي ضد هذه السلطة الدخيلة، التي تصحبها روح "الانتقام" من المسلمين، منذ أن انتصروا على الصليبيين في القرن الثالث عشر، وفي تجميع قوى هذه الشعوب على العمل على تطهير البلاد الإسلامية منها. ودعاهم اعتمادهم على الإسلام إلى أن يغيروا في صورة عرضهم إياه، أو إلى أن يقربوا ويلائموا بين تعاليمه وبين أهداف الحياة القائمة إذ ذاك ... دعاهم ذلك إلى أن يكشفوا عن الإسلام: مصدر قوة، وغاية في نفسها مصدر قوة في الحياة، وغاية للحياة كذلك. والمسلمون إذا عاشوا به عاشوا أقوياء، وإذا عاشوا من أجل هدف ما، عاشوا من أجل الإسلام وحده؛ لأنه رسالة الإنسان في الحياة وفي العالم الواقعي. وظهرت في هذه الفترة، على مسرح "الإصلاح الديني" بالمعنى السابق شخصيتان إسلاميتان: - أحدهما عربية سامية هي شخصية الشيخ محمد عبده. - والأخرى آرية هندية هي شخصية محمد إقبال. وكلاهما عاش في القرن التاسع عشر، وأدرك القرن العشرين. وكلاهما حفظ القرآن الكريم، ووقف على حياة الشرق بسبب ميلاده وتوطنه فيه ورأى حياة الغرب بالارتحال إليه وبالإقامة فيه فترة من الزمن، وكلاهما مال إلى التصوف، ورأى في التصوف رفعة النفس الإنسانية وصفاءها، وقوة احتمالها إزاء الأزمات والأحداث. إلا أن أولهما كان يعي من الثقافة الإسلامية, بقدر ما كان الثاني يعي من التفكير الغربي، ومارس أولهما أيضا الفكر الإسلامي في دراسته وتدريسه وبحثه، بقدر ما مارس الثاني دراسة الفكر الغربي وبحثه, وأولهما أدرك مطلع القرن العشرين, والثاني عاش إلى ما يقرب من نهاية نصفه الأول. دفع الشيخ محمد عبده -عن طريق جمال الدين الأفغاني- إلى مواجهة الاستعمار الغربي وما صحبه من صليبية الغرب في تشويه الإسلام وتحريفه, ومن نشر هذا التحريف والتشويه بين قادة الغد من المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ودفع محمد إقبال -عن طريق التثقيف والمخالطة للغربيين- إلى مواجهة الفكر المادي الغربي، وما قام عليه من إلحاد، وما له من أثر على المسلم المعاصر في توجيهه وفي علاقته بإسلامه. واضطر كلاهما إلى أن يكشف عن "قيمة" الإسلام في دفع المؤمنين به إلى الحياة والعمل فيها وقيمته في نظرته وتصويره للحياة الإنسانية، في مواجهة الصليبية الغربية وأهدافها تارة، أو في مواجهة الفكر المادي الغربي الإلحادي تارة أخرى. محمد عبده، ومحمد إقبال، كلاهما قام إذن بمحاولة فكرية إسلامية أو بحركة إصلاحية في تعديل المفاهيم الإسلامية، قصد منها بيان القيمة الإيجابية في توجيه الإسلام، وكلاهما دفع إذن إلى هذه المحاولة تحت ضغط عامل خارجي: أحدهما -وهو الشيخ عبده- تحت ضغط الاستعمار الصليبي وسلطته، والثاني -وهو محمد إقبال- تحت ضغط الفكر المادي الطبيعي وسيادته في أوروبا، وانتشار الدعوة إليه في الهند خاصة في ذلك الوقت، عن طريق السيد أحمد خان والشاعر التركي توفيق فكرت -من دعاة مذهب "أوجست كومت" في حركة التجديد الإسلامي في تركيا- وكلاهما أخلص في محاولته، وبذل مجهودا مشكورا فيها. إلا أن محاولة محمد عبده تعتبر قريبة من منطق الثقافة الإسلامية، بينما محاولة إقبال تعتبر قريبة من منطق التفكير الغربي، وليس معنى ذلك أن أحدهما أقرب إلى روح الإسلام والثاني إلى روح الغرب، ولكن معناه أن طريقة التفكير يغلب عليها الطابع الغربي في الجدل، وفي تحديد الألفاظ والعبارات وإثارة السؤال والإجابة عنه عند واحد. بينما طابع التفكير في الشرق، واستخدام أسلوب اللغة، وأسلوب المناقشة فيه يسيطر عند الآخر. وقد عجلنا في فصل من فصول هذا الكتاب، بعرض المحاولة الفكرية الإصلاحية التي قام بها الشيخ عبده، بعد الحديث عن جمال الدين الأفغاني، للصلة الوثيقة بينهما: إذ تكاد تعتبر حركة كل منهما مكملة لحركة الآخر، فوق أنه يربطهما رباط واحد، هو مواجهة الاستعمار الغربي، مباشرة في سلطته وفي تحريفه للإسلام عن طريق الاستشراق، وهذا الرباط يعتبر بمثابة الدافع والغاية معا، فيما ينسب إليهما من تفكير ومحاولة إصلاحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أما حركة إقبال الفكرية فقد جاءت متأخرة في الميلاد، بعد قيام الاستعمار الغربي الصليبي في الشرق الإسلامي وتمكنه منه، وبالأخص في الهند وفي مصر بزمن طويل، وهي بالأحرى حركة واجهت اتصال الغرب الفكري بالشرق، عن طريق الاستعمار، دون أن تواجه هذا الاستعمار مباشرة، ولهذا لا تعتبر استمرارا لحركة الشيخ عبده، وإن اعتبرت مشاركة لها في الهدف. محمد إقبال: أبرز ما لإقبال1 من إنتاج يصور محاولته الفكرية الإصلاحية محاضراته الست التي دعي لإلقائها في مدارس سنة 1928، وأكملها من بعد ذلك في إله آباد، وعليكره، وعنون لها بـ"تجديد الفكر الديني في الإسلام" The Reconstruction of Religious Thought in Islam وفي هذهالماحضرات يمكن للقارئ أن يقف على الدوافع التي دفعت إقبال لمحاولته الفكرية الإصلاحية، وعلى العوامل التي أثرت عليه في صياغة تفكيره ... وأخيرا على الفكر الرئيسية التي تتكون منها فلسفته الإصلاحية.   1 ولد في سيالكوت بالنجاب عام 1873، في عائلة تعيش على الزراعة، نزح جدها الأكبر عن كشمير. تلقى إقبال تعليمه في طفولته على أبيه، ثم أدخل مكتبا ليتعلم القرآن ثم التحق الصبي بمدرسة البعثة الاسكتلندية في سيالكوت في رعاية صديق لأبيه يدرس فيها، هو مولانا مير حسن وكان أستاذا أديبا متضلعا في الآداب الفارسية والعربية، وبعد أن حصل على شهادة الكلية الاسكتلندية بدرجة ممتاز، التحق بكلية الحكومة "بلاهور" حيث أتم دراسته. وهناك تتلمذ على المستشرق الكبير "سير توماس أرنولد"، ومن هذه الكلية حصل على درجتين علميتين كبيرتين. وبعد أن أتم علومه في هذه الكلية: اختير لتدريس التاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور، ثم نصب لتدريس الفلسفة واللغة الإنجليزية بكلية الحكومة التي تخرج فيها. وفي عام 1905 التحق إقبال بكمبردج "في إنجلترا" ثم بهيدلبرج، ثم بميونيخ "في ألمانيا" حيث حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة بعد= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 دوافع الإصلاح: هناك شيء واحد في جملته دفع "إقبال" إلى تفكيره الإصلاحي هناك تخلف المسلمين عن المشاركة في السيطرة على الطبيعة والواقع، وفي القوة المادية والاقتصادية، بجانب القوة الروحية الدافعة التي في الإسلام ... هناك الفهم الخاطئ من المسلمين للإسلام، نفذ إليهم بمخالطتهم لغيرهم، وتمكن منهم بسبب ركودهم وتوقفهم في تدبر معنى الإسلام ... هو فهمهم أن هذا العالم الطبيعي الذي نعيش فيه يجب أن ننصرف عنه، وأن "المادة" شر يجب تجنبها.. هناك الصوفية الإيرانية -كما يقول إقبال- "المادة" شر يجب تجنبها ... هناك الصوفية الإيرانية -كما يقول إقبال- هي التي أبعدت المسلمين عن حياة الإنسان المسيطر على الطبيعة والواقع!!   = أن قدم رسالته عن "تطور الفكرة العقلية بإيران"، وفي سنة 1908 حصل على درجة القانون، وفي هذه السنة عاد إقبال إلى وطنه. ومع أن إقبال كان شاعرا وفيلسوفا، إلا أنه لم يقطع صلته بالسياسة فكان عضوا بالمجلس التشريعي بالبنجاب، وذهب إلى لندن ليشترك في عامي 1931، 1932 في مؤتمر الدائرة المستديرة، وكان رئيسا لحزب مسلمي الهند, كما كان مراقبا لمؤتمر "إله أباد" التاريخي, ورئيسا لجمعية حماية السلام، التي كانت تشرف على عدد من المؤسسات، ومات إقبال في 21 إبريل سنة 1938، ودفن بلاهور. وإقبال هو أول من نادى بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس، وبوجوب تكوين دولة خاصة بهم يستطيعون فيها أن يظهروا روعة الإسلام، وأن يحيوا الحياة التي تتمشى مع الدين الحنيف. ومنذ أن أعلن إقبال هذه الفكرة في عام 1930 أصبحت الهدف الرئيسي الذي جاهد مسلمو شبه القارة لتحقيقه، إلى أن تم ذلك في أغسطس 1947، بعد نضال مرير متواصل اشتراك فيه جميع المسلمين تحت قيادة القائد الأعظم محمد علي جناح، "منقولة من كتاب: محمد اقبال. نشر سفارة الباكستان في القاهرة سنة 1956". ويذكر الأستاذ السيد أبو النصر أحمد الحسيني أن أجداد إقبال كانوا من البراهمة. وأسلم أحدهم عند اتصاله بصوفي مسلم صادق, ص2، هامش "تجديد الفكر الديني في الإسلام" الترجمة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 و"إقبال" من أجل هذا، يريد أن يدفع المسلم من جديد إلى العمل وعدم التواكل.. يريد أن يدفعه عن طريق الإسلام نفسه إلى فهم أن العالم الذي نعيش فيه ليس أمرا مغايرا تماما للإنسان نفسه, ولا بعيدا كل البعد عن روح الله ووجود ذاته المقدسة.. يريد أن يدفعه إلى القوة، وإلى الاحتفاظ بالذات والشخصية. هذا هو العنصر الأساسي الذي دفع "إقبال" إلى تفكيره الإصلاحي، وهو العنصر الذي يتجل كثيرا فيما يتحدث عنه من دوافع عديدة دفعته إلى هذا التفكير، أو العنصر الذي يتضح فيما يجده القارئ منثورا في كتاباته وشعره، وهذه الدوافع هي: - المسلم المعاصر: يتحدث "إقبال" عن ظروف المسلم المعاصر، كدافع من الدوافع التي حملته على الإصلاح وهي ظروف الإنسان الذي يعيش مترددا بين قديم أصيل خصب، لم يستطع بوضعه الحالي أن ينقله إلى الحياة كما يحيا غيره، وبين جديد براق، لبريقه خداع يخشى منه عليه. يقول: "ظل التفكير الديني في الإسلام راكدا خلال القرون الخمسة الأخيرة وقد أتى على الفكر الأوروبي زمن تلقى فيه وحي النهضة الإسلامية، ومع هذا فإن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب! ولا غبار على هذا المنزع، فإن الثقافة الأوروبية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارا لبعض الجوانب الهامة في الإسلام، وكل الذي نخشاه هو أن المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية قد يشل تقدمنا فنعجز عن بلوغ كنهها1، وهو يشير بهذا المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية إلى الاتجاه العلمي الجديد، وهو الاتجاه التجريبي المادي الذي ساد تفكير القرن التاسع عشر: فله خطره -في نظره- على المسلم المعاصر، إذا لم يعرف هذا المسلم أن الإسلام يطلب "التجربة" في المعرفة، وإذا لم يعرف أن التاريخ الفكري لأسلافه الأولين أفاد البشرية عامة باستخدام التجربة في نطاق واسع للمعارف الإنسانية.   1 "تجديد الفكر الديني في الإسلام" ترجمة عباس محمود ... طبع دار التأليف والترجمة والنشر 1955, ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وهذا الخطر يكمن فيما ينطوي عليه هذا الفكر الجديد من إلحاد ومن السهل أن ينخدع به كثيرون، كما انخدع بالفعل به بعض الدعاة له في الهند، والأحوط إذن -هكذا يرى إقبال- أن نعيد النظر في تفكيرنا الإسلامي من جانب، ونمحص هذا الفكر الجديد بروح مستقلة يقظة من جانب آخر. "ومنذ العصور الوسطى، وعندما كانت مدارس المتكلمين في الإسلام قد اكتملت، حدث تقدم لا حد له في مجال الفكر، وكان من نتائج امتداد سلطان الإنسان على الطبيعة، أن بعث فيه ذلك إيمانا وإحساسا جديدين بتفوقه على القوى التي تتألف منها بيئته، فظهرت وجهات نظر جديدة، وحررت مرة ثانية المشكلات القديمة في ضوء التجربة الحديثة، وظهرت مشكلات من نوع جديد، ويبدو أن عقل الإنسان أخذ يشب عن طوق ما يحيط به من زمان ومكان، وعليه -وهي أخص المقولات الجوهرية- إن تصورنا التعقل نفسه بسبيل التغيير، نتيجة لتقدم التفكير العلمي، فنظرية "أينشتين" جاءتنا بنظةر جديدة إلى الكون، وقد فتحت أفاقا جديدة من النظر إلى المشكلات المشتركة بين الدين والفلسفة. "فلا عجب إذن، أن نجد شباب المسلمين في آسيا وفي إفريقيا يتطلبون توجيها جديدا بعقيدتهم، ولهذا لا بد من أن يصاحب يقظة الإسلام تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكرالأوروبي، وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا، أن تعيننا في إعادة النظر في التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر، وأضف إلى هذا أنه لا سبيل إلى تجاهل الدعوة القائمة في أواسط آسيا -ضد الدين على وجه عام وضد الإسلام على وجه خاص- تلك الدعوة التي عبرت حدود الهند بالفعل، وبعض دعاة هذه الدعوة من أبناء المسلمين, وأحدهم هو الشاعر التركي توفيق فكرت، وإني لأعتزم في هذه المحاضرات أن أناقش مناقشة فلسفية بعض الأفكار الأساسية في الإسلام، على أمل أن يتيح لنا ذلك على أقل تقدير, فهم معنى الإسلام فهما صحيحا بوصفه رسالة للإنسانية كافة"1.   1 المصدر السابق: 14، 15: والأستاذ السيد أبو النصر الحسيني يؤرخ في هامش المصدر لهذا الشاعر: بأنه كان إلحادي النزعة، وأنه يعد ركنا من أركان الانقلاب التركي اللاديني الأخير، وقد توفي سنة 1912، ولد سنة 1867"، وتنصر ابنه في جلاسجو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وبهذه المحاولة، التي يريد "إقبال" أن يحاولها، يستطيع الإسلام من وجهة نظره أن يكون له اعتبار عام، بوصف كونه رسالة للإنسانية كافة، وعلى الأخص للمسلم، في الوقت الذي يسيطر فيه الطابع التجربي على المعرفة الإنسانية فهذه المحاولة ليست محاولة لإعطاء الإسلام قيمة عامة، وإنما هي لكشف قيمته في نظر الإنسان التجريبي، وهو الإنسان الغربي المعاصر, وفي نظر المسلم الذي يعيش معه في وقته. - الإنسان الأوروبي المعاصر: ولم يرض "إقبال" للمسلم المعاصر -بعد أن وضح حاجته إلى تغيير وضعيته في الحياة- أن يكون صورة للأوروبي المعاصر، كما رضي من قبل صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" أن يكون المسلم في مصر صورة للأوروبي في السلوك والتفكير: بل وألح فيه إلحاحًا. لم يرض "إقبال" ذلك؛ لأن "الرجل العصري بما له من فلسفات نقدية، وتخصص علمي، يجد نفسه في ورطة: فمذهبه الطبيعي قد جعل له سلطانا على قوى الطبيعة لم يسبق إليه، لكنه قد سلبه إيمانه في مصيره هو"1. "والإنسان العصري وقد أعشاه نشاطه العقلي، كف عن توجيه روحه إلى الحياة الروحانية الكاملة، أي: إلى حياة روحية تتغلغل في أعماق النفس، فهو في حلبة الفكر في صراع صريح مع نفسه.. وهو في مضمار الحياة الاقتصادية والسياسية في كفاح صريح مع غيره. وهو يجد نفسه غير قادر على كبح أثرته الجارفة، وحبه للمال حبا طاغيا يقتل كل ما فيه من نضال سام شيئا فشيئا، ولا يعود عليه منه إلا تعب الحياة، وقد استغرق في "الواقع" أي: في مصدر الحس الظاهر للعيان، فأصبح مقطوع الصلات بأعماق وجوده، تلك الأعماق التي لم يسبر غورها بعد، وأخف الأضرار التي أعقبت فلسفته المادية هي ذلك الشلل الذي اعترى نشاطه، والذي أدركه "هكسلي" Hixley وأعلن سخطه عليه"2.   1 المصدر السابق: ص214. 2 المصدر السابق: ص215، 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 والاشتراكية الملحدة الحديثة -ولها كل ما للدين الجديد من حمية وحرارة- لها نظرة أوسع أفقا، لكنها وقد استعدت أساسها الفلسفي من المتطرفين من أصحاب مذهب "هيجل" Hegel، قد أعلنت العصيان على ذات المصدر الذي كان يمكن أن يمدها بالقوة والهدف ... وهي "إذن ليست" بقادرة على أن تشفي علل الإنسانية"1. فالأوروبي المعاصر إذن -سواء أكان من أصحاب الفلسفة العقلية، أم من أصحاب فلسفة الحس والواقع، أم من أنصار الاشتراكية الماركسية الملحدة- لا يجد لنفسه، استقرارا ولا اطمئنانا، وهو في قلق مستمر واضطراب، أما مع نفسه أو مع غيره. ومن أجل ذلك لا يريد "إقبال" للمسلم المعاصر أن يكون في وضع الأوروبي المعاصر. وإنما يريد له أن يبقى مؤمنا بإسلامه، على أن يلائم نفسه مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها وأن يكون يقظا لتلك "التجربة الاقتصادية الجديدة "الاشتراكية الشيوعية" التي تجرب على مقربة من آسيا الإسلامية, وأن نفتح أعيننا على ما ينطوي عليه الإسلام من معنى، وعلى مصيره"2. - طبيعة الإسلام: و"إقبال" -إذ لا يرضيه وضع المسلم المعاصر في الحياة، ولا يريد له أن يكون كالأوروبي في توجيهاته- يجد أن الإسلام، كدين، له من المزايا ما يدفع المصلح المفكر لتخيره كمصدر توجيه وإيمان، ولو أن الإسلام كان على خلاف ما سيبينه، لما قام "إقبال" بحركته الفكرية فيما سماه: "تجديد الفكر الديني في الإسلام". وهناك إذن حاجة ملحة لتغيير وضعية المسلم في حياته الحاضرة، وليس هناك ما يدفع هذه الحاجة إلى الإسلام نفسه. ليس هناك عوض عنه في أداء مهمته. والإسلام له جانب الدين، وجانب آخر من العقائد والمبادئ الفردية: فأما في جانب الدين فيرى "إقبال" أن العالم اليوم قد أصبح مفتقرا إلى تجديد سيكلوجي والدين هو في أسمى مظاهره "وهو المظهر الصوفي" ليس عقيدة فحسب، أو كهنوتا، أو شعيرة من شعائر، بل هو وحده   1 المصدر السابق: ص216, 217. 2 المصدر السابق: ص207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 القادر على إعداد الإنسان العصري إعدادا خلقيا يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لا بد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث وأن يرد إليه تلك النزعة من الإيمان التي تجعله قادرا على الفوز العظيم بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بها في دار البقاء، إن السمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ومستقبله -من أين جاء، وإلى أين المصير- هو وحده الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية. بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية، والدين -كما بينت من قبل- من حيث هو سعي المرء سعيا مقصودا للوصول على الغاية النهائية للقيم, فيمكنه بذلك أن يعيد تفسير قوى شخصيته هو حقيقة لا يمكن إنكارها"1. والإسلام -بما له من جانب آخر من العقائد انفرد به دون ما سواه- يذكر "إقبال" أنه وحده هو الذي يستطيع أن يقدم للمسلمين اليوم تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غايته ومقصده. "إن الإنسانية اليوم تحتاج إلى ثلاثة أمور: - تأويل الكون تأويلا روحيا. - وتحرير روح الفرد. - ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي". ولا شك أن أوروبا في العصر الحديث قد أقامت نظما مثالية على هذه الأسس ولكن التجربة بينت أن الحقيقة التي يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يشعلها وهذا هو السبب في أن التفكير المجرد لم يؤثر في الناس إلا قليلا، في حين أن الدين استطاع دائما أن ينهض بالأفراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها, وينقلهم من حال إلى حال. "إن مثالية أوروبا لم تكن أبدا من العوامل الحية المؤثرة في وجودها، ولهذا أنتجت ذاتا ضالة أخذت تبحث عن نفسها بين ديمقراطيات لا تعرف   1 المصدر السابق: ص217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 التسامح، وكل همها استغلال الفقير لصالح الغني، وصدقوني إن أوروبا هي أكبر عائق في سبيل الرقي الأخلاقي للإنسان. "أما المسلم فإن له هذه الآراء النهائية القائمة على أساس من "تنزيل" يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود، وما تعني به هذه الآراء من أمور خارجية في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس، والأساس الروحي للحياة عند المسلم هو إيمان يستطيع أقلنا استنارة أن يسترخص الحياة في سبيله، وبما أن القاعدة الأساسية في الإسلام تقول: إن محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه ينبغي أن تكون من أكثر شعوب الأرض في الحرية الروحانية، والمسلمون الأول الذين تخلصوا من الرق الروحي في آسيا الجاهلية، لم يكونوا في وضع بحيث يستطيعون إدراك المعنى الصادق لهذا المبدأ الأساسي، فعلى المسلم اليوم أن يقدر وضعه، وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ القاطعة "في الإسلام كمبدأ التوحيد، وختم الرسالة ... " وأن يستنبط من أهداف الإسلام، التي لم تتكشف إلى الآن إلا تكشفا جزئيا، تلك الديمقراطية الروحية التي هي الغاية الأخيرة للإسلام، ومقصده"1. وفي وصية "إقبال" لمسلم اليوم: "فعلى المسلم اليوم أن يقدر موقفه ... " في آخر هذا النص تكمن فكرته الإصلاحية. فليست فكرته الإصلاحية شيئا أكثر من محاولة لإعادة بناء الحياة الاجتماعية الإسلامية على مبادئ الإسلام نفسه, ما كان معروفا منها بالضرورة, وما يصح أن يتفقه فيه. كما تكمن الغاية من هذه الفكرة الإصلاحية, وهي تلك الديمقراطية الروحية التي تقوم على الاعتداد بذات الفرد، وسيطرته على الطبيعة والواقع، وإدراكه لحقيقة أصل وجوده، وهو الله جل شأنه. إصلاح الفكر الديني: كان "إقبال" دقيقا عندما عبر عن حركته الفكرية بـ"إعادة بناء الفكر الديني" في الإسلام، دون التعبير بـ"الإصلاح الديني" لأن أية محاولة إنسانية تدور في محيط الإسلام، لا تتعلق بتعديل مبادئه، طالما أن   1 المصدرالسابق: ص207, 208، "مع الرجوع إلى النص باللغة الإنجليزية وتصحيح الترجمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 مصدره وهو القرآن له صفة الجزم والتأكيد والأبدية، وأية حركة "إصلاحية" في الإسلام بعد ذلك هي إذن في دائرة الفكر الإسلامي حوله، وفي دائرة أفهام المسلمين لمبادئه، وأي "تطور" للإسلام يجب أن يكون بهذا المعنى في دائرة أفهام المسلمين وتفسيرهم لتعاليمه، وليس هناك تطور للإسلام نفسه؛ لأن الوحي به قد انتهى على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم، كما ختمت برسالته الرسالة الإلهية, ولا يترقب إذن أن يكون هناك إصلاح ديني في الإسلام، على نحو الذي قام بصنعه "مارتن لوثر" في المسيحية, لعدم التثبت في رواية الإنجيل، وعدم الاتفاق على رواية واحدة مؤكدة له، مما أتاح فتح منافذ عديدة، دخل منها إلى رسالة المسيح عادات وأفهام أصبحت على مر الزمن جزءا لا يتجزأ من المسيحية، وبالتالي أتاح فرصة لإصلاح "لوثر" ومن على شاكلته. وإصلاح الفكر الديني في الإسلام -عند "إقبال"- يقوم على طلب تغيير الوضع الذي وصل إليه المسلم الآن، ووصلت إليه الجماعة الإسلامية, وهو وضع الضعيف المتهيب الحياة، النافر من الواقع ... يقوم على مكافحة الهرب من الحياة، وعدم استطاعة السيطرة على المادة أو الطبيعة ... يقوم على مكافحة "وحدة الوجود" التي تدعو إلى فناء الإنسان في "الحقيقة المطلقة" كما تدعو إلى السلبية في الحياة ... يقوم على تأكيد "أنا" وذات الإنسان، كي يحول دون فنائها أو قهرها ... يقوم على طلب "الذاتية" بهذا المعنى، كما يقوم على طلب "الواقعية" بمعنى عدم الفرار من الحياة!!! والواقعية التي يطلبها ليست "إلحاد" المادية الوضعية، وإنما هي تفادي "البرهمية" و"الصوفية الإشراقية" أو التصوف العجمي، كما يسميه. يصف "إقبال" وضع المسلم الذي صار وتحول إليه الآن بقوله: إن المسلم القوي الذي نشأته الصحراء, وأحكمته رياحها الهوجاء، أضعفته رياح "العجم" فصار فيها كالناي نحولا ونواحا!! وإن الذي كان يذبح الليث كالشاة, تهاب وطء النملة رجلاه!! والذي كان تكبيره يذيب الأحجار, انقلب رجلا من صفير الأطيار!! والذي هزأ عزمه من شم الجبال، غل يديه ورجليه بأوهام "الاتكال"!! والذي كان ضربه في رقاب الأعداء، صار يضرب صدره في اللأواء!! والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة، كسرت رجلاه عكوفا في "الخلوة"!! والذي كان يمضي على الدهر حكمه، ويقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الملوك على بابه، رضي من السعي بالقنوع، ولذا له الاستجداء والخشوع!! "1. نظرة الإسلام إلى العالم الواقعي: وتقوم فكرته الإصلاحية -بعد أن ذكر الدوافع الثلاثة السابقة -على عنصرين أساسيين: - تغيير مفهنم عالم الطبيعة أو الواقع، أو بعبارة أخرى رد هذا المفهوم إلى ما اعتبره المسلمون الأول من كون عالم الطبيعة مجالا لحركة الإنسان وسعيه ومعرفته، وبالتالي تنحية ما صار إليه مفهومه من كونه "مخيفا" أو "شرا". - شرح بعض المبادئ الإسلامية: كختم الرسالة و"التوحيد" و"الاجتهاد" على أنها عوامل تدفع الإنسان إلى الحركة والسعي في هذا العالم الواقعي. وإذن يبغي "إقبال" من إصلاح الفكر الديني في الإسلام، أن تعود القوة للمسلم وأن يرى قوته هذه ليست في اتباع فلسفة من فلسفات الغرب، بل في فهم الإسلام فهما صحيحا، على نحو ما فهمه الأوائل، لا على ما صار إليه الأمر في عهد الركود. وفهم الإسلام فهما صحيحا سيمكن المسلم من السيطرة على "الواقع" والطبيعة -كما تمكن الغربي منها- وفي الوقت نفسه سيبعد عنه جفاف حياة الغربي وقلقه النفسي فيها، وسيجعله أكثر إلماما بـ"الحقيقة". فالغربي بمذهبه المادي سخر الطبيعة وسيطر عليها، ولكنه أدرك من "الحقيقة" نوعا منها فقط، وهو نوع الحقائق الجزئية، أما "الحقيقة الكلية" وهي حقيقة "الذات المطلقة" فلم يصل إليها؛ بل أنكرها. وكان إنكاره إياها سبب شقوته وقلقه واضطرابه؛ وهو أنكرها لأنه أراد أن   1 الدكتور عبد الوهاب عزام: كتاب "محمد إقبال: سيرته، وفلسفته، وشعوره" ص100 من "منظومة أسرار خودي" مطبوعات الباكستان سنة 1954. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يستخدم ذات الوسيلة التجريبية -التي يستخدمها في كشف الحقائق الجزئية، وهي الواقع أو الطبيعة- في كشف تلك "الحقيقة الكلية" فأخفق في الوصول إليها، ثم أنكرها عندما عجز عن بلوغها. الحرية الفردية: فهم الإسلام فهما صحيحا -في نظر "إقبال"- يجعل عالم المادة أو عالم الواقع ليس شرا؛ بل يجعله مجال كفاح لـ"الذات" أو لـ"أنا"، وعن طريق هذا الواقع تقوى الذات، وعن طريق الكفاح فيه، تكون "ديمومتها" وخلودها!! فداوم الذات أو دوام الشخصية يراها "إقبال" في الكفاح لا في الاسترخاء، ويرى رقيها في تخطي العقبات لا في تفاديها. "الحياة رقي "وتطور" مستمر، تسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها، وحقيقتها أن تخلق دائما مطالب ومثلا جديدة، وقد خلقت من أجل اتساعها وترقيها آلات كالحواس الخمس، والقوة المدركة، لتقهر بها العقبات. "وأشد العقبات في سبيل الحياة: المادة أو الطبيعة، ولكن المادة ليست شرا كما يقول "حكماء الإشراق" بل هي تعين الذات على الرقي. فإن قوى الذات الخفية تتجلى في مصادمة هذه العقبات، وإذ قهرت كل الصعاب في طريقها بلغت منزلة "الاختيار" والذات في نفسها فيها "اختيار" و"جبر"، ولكنها إذا قاربت الذات المطلقة "وهي الله" نالت الحرية الكاملة والحياة جهاد لتحصيل "الاختيار" ومقصد الذات أن تبلغ "الاختيار" بجهادها1. إدراك الوجود: فهم الإسلام فهما صحيحا -في نظر "إقبال"- يجعل الوجود "وحدات" ولكن كون هذه الوحدات حلقات في سلسلة واحدة -هي: الله؛   1 المصدر السابق: ص56، 57. والتعبير بـ"الجهاد" هنا يشير إلى جهاد النفس الذي جاء في الحديث الشريف: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". قيل: وما الجهاد الأكبر؟ فقال: "جهاد النفس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والإنسان، والعالم- يجعل الواقع ليس مغايرا لـ"أنا" كل المغايرة، وليس مغايرا أيضا للذات المطلقة "الله" كل المغايرة.. إن هذا العالم هو تجلي الله، وإن الوجود كله هو "الأول" والآخر" و"الظاهر" و"الباطن"، والله والعالم. "فكرة هيجل". إنه حقيقة واحدة، لها أصل ومظهر، ولكنه لا يقوم على الاتحاد، ولا تصير فيه "وحدة" من وحداته "إلى الفناء" في وحدة أخرى ... لا يصير العالم في الإنسان، ولا يصير في الله, كما لا يصير الإنسان إلى الذهاب في الله ... في الوجود وحدات ثلاث وهي حقائق، لها شخصيتها وفرديتها. وهي تدرك جميعها بـ"التجربة"، ولكن "التجربة" لإدراك الواقع والعالم المادي غير "التجربة" لإدراك أعلى هذه الحقائق، وهي "الحقيقة الكلية". إن هناك نوعين من التجربة: التجربة الواقعية، والتجربة الدينية "الروحية الصوفية" ... ولا تضارب بين التجربتين، ولا بين ما توصل إليهما من حقائق، والصلة بين هاتين التجربتين، أو بين الحقيقة الواقعية والحقيقة الأخرى الروحية الكلية، هي مركز المحاولة الفكرية لإقبال. وإذا تضاءل أو تلاشى اعتراض العلم التجريبي المادي على الإسلام كدين لم يكن بينهما موضوع للكفاح والخصومة، وكان المسلم -بتوجيه من دينه- واقعيا يجب عليه أن يدرك الواقع والطبيعة ليسود عليها، ولكن لا ليشقى بها؛ لأنه لا يصح له أن ينسى روحانيته، وهي إدراكه للذات المطلقة "الله". إن المشكلة التي يواجهها الإسلام، كانت في الواقع ما بين "الدين والحضارة" من صراع متبادل، وما بينهما في الوقت نفسه من تجاذب متبادل. ولقد واجهت النصرانية في أول عهدها المعضلة نفسها, فكان أعظم ما عنيت به أن تبحث عن مستقر للحياة الروحية قائم بنفسه، "مستقل تماما عن غيره" تلك الحياة التي رأى منشئها ببصيرته أنه يمكن السير بها, لا عن طريق قوى عالم خارجي عن نفس الإنسان، وإنما بتجلي عالم جديد في داخل النفس ذاتها. الإسلام يقر هذه النظرية تماما .... ويكملها بنظرية أخرى، هي أن النور الذي يضيء هذا العالم الجديد المتجلي على هذا النحو "في نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الإنسان وداخلها" ليس غريبا عن عالم المادة؛ بل هو متغلغل فيها، وعلى هذا فإن توكيد الروح التي سعت إليه النصرانية، يتحقق -لا باستبعاد القوى الخارجية التي تخترقها أنوار الروح بالفعل- وإنما يتحقق بتنظيم علاقة الإنسان بهذه القوى، على هدي النور المنبعث من العالم الموجود في أعماق نفسه1. لا انفصالية ولا اتحاد في الوجود: وبهذا النص الأخير: يحدد إقبال المشكل -الذي يواجه الدين كدين في العصر الحديث- بأنه "ما بين الدين والحضارة من صراع وتجاذب". ثم يحدد موقف المسيحية من هذا الشكل: بأنها تكتفي بالبحث عن عالم مستقل للروحية، منفصل تماما عن العالم الخارجي، فعنيت ببحث النفس الإنسانية كمستودع لهذه الروحية، ووقفت عند حد الطريق أو المنهج الذي تكشف به هذا المستودع، وتركت العالم الخارجي، وتركت أمر الكشف عنه لمنهج آخر وطريقة آخرى، دون أن يكون هناك ربط بين المنهجين في الكشف والمعرفة، وبين الحقيقة "الداخلية" والحقيقة "الخارجية". - أما الإسلام: فيرى "إقبال" أن موقفه من هذا الشكل هو في عدم "الانفصالية"، وفي عدم "الاتحاد" في الوجود على السواء ... عدم الانفصالية بين "أنا" و"الواقع"، وعدم الاتحاد بين "أنا" وبين "الذات المطلقة" وهي الله. فليس العالم الواقعي مغايرا لـ"أنا"، حتى هذا الـ"أنا" ينفر منه ويهرب منه، على أنه شر يجب أن يتجنب، ومن جهة أخرى مهما سما "أنا" وروض روحه، وصفى نفسه، فلن يبلغ درجة "الإفناء" في "الذات" المقدسة. وإذن موقف الإسلام من الوجود: هو حمل الإنسان، أو حمل "أنا" على إيجاد الصلة بين الحقيقتين -حقيقة الذات الكلية وهي الله التي هي أصل الوجود وحقيقة العالم الخارجي التي تعتبر التجلي لهذا الأصل- وذلك   1 كتاب "تجديد الفكر الديني في الإسلام": ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 عن طريق استخدام منهج واحد هو المنهج التجريبي، وعن طريق أن الحقيقة الداخلية في نفس الإنسان -وهي التي يصل إليها الصوفي عن طريق الرياضة الروحية- تعين على كشف الحقيقة الأخرى الخارجية، وأن المعرفة السليمة هي: "تنظيم علاقة الإنسان بالعالم الخارجي, على هدى النور المنبعث من العالم الموجود في أعماق نفسه". التجربة في مجال الدين والعلم: وربما يفهم أن "إقبال" بتعبيره هنا: "على هدى النور المنبعث من العالم الموجود في أعماق نفسه" يميل إلى سيادة الحقيقة الروحية أو الدينية، وجعلها ذات أثر في معرفة الحقيقة الخارجية ... ربما يفهم أن معنى ذلك: الحرص على استقلال تلك الحياة، مع أن المنهج التجربي في البحث، عند الوضعيين أو الواقعيين، ليس "اختيارًا" فحسب للحقيقة من حيث هي حقيقة, وإنما هو مع ذلك ينطوي على إنكار ما عدا الحقيقة الخارجية، وهي الحقيقة الدينية أو الروحية هنا، وأن الفجوة بين المحاولة التي يقوم بها "إقبال" للتوفيق بين الإسلام كمصدر للحقيقة الدينية وبين اتجاه المذهب التجريبي باقية, طالما تفهم "التجربة" في الحدود التي رسمها "أوجست كومت" مؤسس المذهب الوضعي في القرن التاسع عشر. ولذلك يوضح "إقبال" أن "تجربة" المذهب الوضعي ليست هي الوسيلة المتعينة في اختيار كل الحقائق, إذ هناك فرق بين الحقيقة الخارجية التي هي موضوع تجربة المذهب الوضعي، والحقيقة الأخرى -وهي الحقيقة الدينية- التي لا تخضع لهذه الوسيلة بذاتها، وهذا الفرق يرجع إلى اختلاف مجال الدين عن مجال العلوم التي تشتغل بـ"الطبيعة" كعلم الطبيعة، وعلم الكيمياء مثلا. ويوضح "إقبال" هذا الفرق، بعد أن يشير أيضا إلى اعتراض آخر يتصل باعتراض التجريبيين على "الحققة الدينية" وهو الاعتراض الكامن في شرح "فرويد" لنشأة الأديان كتعبير عن "اللاشعور" المكبوت عند الإنسان. وبناء على ما يراه "فرويد": تكون الأديان كلها خيالات أو رغبات، أكثر منها حقائق تخضع للتجربة! والدين في رأي أصحاب هذا المذهب -ومذهب "فرويد"- اختراع محض خلقته الرغبات المرفوضة، لكي تجد "جنة" خيالية لحركة حرة من غير عائق!! وهم يقولون: إن العقائد والآراء الدينية ليست شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أكثر من نظريات بدائية عن الطبيعة، حاول البشر استخدامها في تخليص الحقيقة من بشاعتها الأصلية، وإظهارها في صورة أقرب إلى هوى القلب مما تسمح به حقائق الحياة. أما أن هناك أديانا، وصورا من الفن تهيئ لنا نوعا من الفرار المزري من حقائق الحياة، فأمر لا أنكره، وكل الذي أجادل فيه هو أن هذا الحكم لا يصدق على الأديان كلها: فالعقائد والآراء الدينية لها من غير شك أمارة ميتافيزيقية. "ولكن من الواضح كذلك أنها -الأديان- ليست تفسيرات لوقائع التجربة، التي هي موضوع العلوم التي تشتغل بالطبيعة: فالدين ليس علم الطبيعة أو علم الكيمياء. لا يبحث عن تفسير للطبيعة، وفقا لقوانين العلية ... بل هو في الواقع يقصد إلى تفسير مجال مختلف اختلافا كليا، هو مجال التجربة الإنسانية: التجربة الدينية، مجال وقائع، مما لا يمكن أن ترجع إلى وقائع أي علم آخر. وفي الواقع يجب أن يقال -إنصافا للدين- إن الدين يتمسك بضرورة التجربة الواقعية في الحياة الدينية، قبل أن يتعلم "العلم" أن يصنع ذلك بزمن طويل، والخلاف بين الاثنين: "الدين والعلم" ليس بسبب أن أحدهما يقوم على التجربة الواقعية والآخر لا يقوم عليها, فهما يبحثان تجربة واقعية كنقطة للبدء والخروج "في البحث" وإنما خلافهما بسبب الخطأ في إدارك أن الاثنين يشرحان نفس "الواقعية" التي هي موضوع التجربة، ونحن ننسى أن الدين يقصد إلى الوصول إلى المعنى الحقيقي لنوع من التجربة"1. "وليس من شك في أن البحث في الرياضة الدينية "على نحو ما في الصوفية" بوصفها مصدرا للعلم للإلهي، أسبق في التاريخ من تناول غيرها من ضروب التجربة الإنسانية للغاية نفسها"2. ومن التحكم إذن في نظر "إقبال" أن يؤخذ بمنطق التجربة في مجال العلوم الطبيعية، ولا يؤخذ به في مجال الدين، وإن اختلاف موضوع التجربة، لا يسوغ التفرقة في اعتبار نتائجها ... ويزيد "إقبال" ذلك توضيحا في نص آخر يقول فيه: "والواقع أن الدين أشد حرصا من العلم "Seience" على الوصول إلى ما هو في النهاية حق، لأسباب ذكرتها من قبل. والسبيل لإدراك الحق   1, 2 المصدر السابق: ص234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 المجرد في الدين أو في العلم تقع فيما يسمى: "تصفية التجربة"، ولكي نفهم هذا ينبغي أن نفرق بين التجربة بوصفها أمرا طبيعيا يدل على ما للحقيقة من سلوك يمكن ملاحظته بالوسائل العادية، وبين التجربة بوصفها دالة على جوهر الحقيقة وطبيعتها الذاتية، فالتجربة بوصفها أمرا طبيعيا، تفسر في ضوء سوالفها السيكولوجية والفسيولوجية أما بوصفها دالة على جوهر الحقيقة، فينبغي أن نستعمل في بيان معناها معايير من نوع آخر: ففي ميدان العلم "Seience": نحاول فهم معنى التجربة، فيما يتعلق بالمسلك الخارجي للحقيقة، أما في حلبة الدين: فإنا نعتبرها ممثلة لنوع من الحقيقة ثم نحاول كشف معناها فيما يتعلق أساسيا بطبيعة تلك الحقيقة، والخطط الدينية والعلمية متشابهة بوجه ما، فهما يتناولان في الحقيقة وصف عالم واحد، مع هذا الفرق الوحيد وهو: أن وجهة نظر "الذات" "العواطف والانفعالات" تستبعد بالضرورة من خطة العلم، أما في خطة الدين فإن "الذات" تؤلف بين ميولها المتضادة، وتحدث نزوعا شاملا مفردا ينتهي إلى نوع من تحويل التجارب تحويلا تركيبيا، والدرس الدقيق لهذه الخطط المتكاملة في الحقيقة، في طبيعتها وغايتها يبين أن كلا منها موجه إلى تطهير التجربة في ميدانه الخاص. بل إن خطة التصوف الإسلامي -على الأقل- في سبيل حرصها على أن تكفل رياضة بريئة تماما من الانفعالات، قد حرصت على تحريم استخدام الموسيقى في العبادة، وأن تؤكد ضرورة صلاة الجماعة اليومية لكي تقاوم ما قد ينشأ من آثار ضارة بروح الجماعة، نتيجة للتأمل في أثناء العزلة. فالرياضة الصوفية رياضة طبيعية تماما، ولها معنى بيولوجي على أعظم أهمية، بالنسبة للذات "أنا" إنها الذات الإنسانية تسمو فوق مجرد التأمل, وتصلح من زوالها بالوصول إلى الأبد السرمدي "الحقيقة الكلية". "فمنتهى غاية الذات "أنا" ليس أن ترى شيئا، بل أن تصير شيئا. والجهد الذي تبذله الذات، لكي تكون شيئا، هو الذي يكشف لها فرصتها الأخيرة لشحذ موضوعيتها، وتحصيل ذاتية أكثر عمقا ... ترى الدليل على حقيقتها في قول "كانت": "أنا أقدر"، لا في قول "ديكارت": "أنا أفكر"!! وليست غاية مطلب الذات التحرر من حدود الفردية, بل هي على العكس من هذا تحديدها تحديدا أدق وأوفى، والعمل الأخير ليس عملا عقليا وإنما هو عمل حيوي يعمق من كيان الذات كله، ويشحذ إرادتها بتأكيد مبدع: بأن العالم ليس شيئا لمجرد الرؤية أو أنه شيء يعرف بالتصور, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وإنما هو شيء يبدأ ويعاد بالعمل المستمر, واللحظة التي تعرف فيها بالذات ذلك، هي اللحظة التي تستشعر فيها بالسعادة العظمى، وتجتاز فيها أكبر امتحان"1. - وإذن هناك صلة بين الإنسان والعالم الواقعي. - وهناك صلة أخرى بين حقيقة هذا العالم الواقعي، وحقيقة أصل الوجود وهي الحقيقة المطلقة "الله". - وهناك أخيرا اشتراك عن طريق "التجربة" في إدراك الحقيقة، وإن كان نوع التجربة يختلف تبعا للمجال الذي تستخدم فيه. وهذا الذي يذكره "إقبال": هنا -على هذا النحو- يحاول أن ينتزعه من القرآن، المصدر الأصيل للإسلام، فيقول: "وبما أن القرآن يسلم بأن الاتجاه التجريبي مرحلة لا غنى عنها في حياة الإنسان الروحية، فإنه يسوي في الأهمية بين جميع ضروب التجربة الإنسانية، باعتبارها مؤدية إلى العلم بالحقيقة النهائية، التي تكشف عن الآيات الدالة عليها، في نفس الإنسان، وفي خارج النفس على السواء. فالملاحظة التأملية هي إحدى الطرق غير المباشرة لإيجاد الصلات بيننا وبين الحقيقة التي تواجهنا "في الخارج وفي الحس". ووظيفتها مراقبة هذه الصلات، كما تنبئ هي عن نفسها في الإدراك الحسي. وهناك طريقة آخر للمعرفة: هو الاتصال المباشر مع الحقيقة الكلية، "وهي الحقيقة الإلهية" كما تعلن هي عن نفسها في هذا الاتصال. "وطبيعة القرآن" هي فقط اعتبار الواقع: من أن الإنسان على صلة بالطبيعة ومن أن هذه الصلة -في بعض حالاتها كوسيلة للتمكن من قوى الطبيعة- يجب ألا تستخدم في غرض السيطرة غير المشروعة، بل في غرض آخر نبيل، يؤدي إلى تخليص حركة الحياة الروحية في رقيها وتسامحها.   1 المصدر السابق: ص224-226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 "ولكي نكفل إدراك الحقيقة إدراكا كاملا، ينبغي أن يكمل الإدراك الحسي بإدراك آخر هو ما يصفه القرآن بإدراك الفؤاد أوالقلب في قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} 1. و"إقبال" يرى الآن بهذا أن القرآن لا يدعو فحسب إلى أن يمارس الإنسان التجربة في صلته بالعلم الطبيعي الواقعي، وفي كشف هذا العلم والوقوف عليه، بل لا يمانع في أن يكون هناك في الدين نفسه مجال تجربة، هو "القلب" وأن الرياضة الدينية لذلك ضرب من ضروب التجربة، التي توصل إلى العلم، ولا تقل اعتبارا عن البقية من ضروب التجربة الأخرى في مجال الواقع والطبيعة. والإنسان -من وجهة نظر الإسلام، كما يرى "إقبال"- ليس منقطعا عن الطبيعة، بل هو جزء منها، وعلى صلة ببقية أجزائها، ومعرفة الإنسان لله كمعرفته للطبيعة سواء، هي ركون الإنسان في النوعين إلى التجربة. ومجال التجربة هنا وهناك هو: "الواقع" ولا خلاف بين العلم والدين في ذلك، وإذن صلة العلم بالدين صلة متوازية ومتوازنة, كلاهما يبحث الواقع، وكلاهما يسلك طريق التجربة في بحثه إياه، وكلاهما يكمل الآخر في المعرفة والكشف عن الحقيقة. "وكما أن نواحي التجربة العادية تخضع لتأويل موضوعات الحس لتحصيل لعلم بالعالم الخارجي، فكذلك مجال التجربة الصوفية يخضع للتأويل لتحصيل العلم بالله"2. والفرق بين النوعين من المعرفة كما يرى "إقبال" هو: "أن المعرفة الصوفية معرفة مباشرة, فمن الواضح أنه لا يمكن أن يطلع عليها، أي: نقلها لإنسان آخر؛ وذلك لأن الحالات الصوفية أشبه بالإحساس منها بالتعقل، وما يعلنه الصوفي من تفسير لفحوى محتويات شعوره الديني يمكن أن يبلغ للناس على صورة قضايا، ولكن محتويات الشعور الديني نفسها لا يمكن الاطلاع عليها، أي: "لا يمكن" نقلها".   1 المصدر السابق: ص22-33. والآية من سورة السجدة 7-9. 2 المصدر السابق: ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أما أن القرآن يبحث على العلم التجريبي، وعلى أن يمارس الإنسان التجربة في تحصيل المعرفة، فيرى ذلك "إقبال"، من دلالة مثل هذه الآيات الكريمة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 1. {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 2. ويعلق "إقبال" على هذه الآيات بقوله: "ولا شك أن أول ما يستهدفه القرآن من هذه الملاحظة التأملية للطبيعة هو أنها تبعث في نفس الإنسان الشعور بمن تعد هذه الطبيعة آية عليه "وهو الله" ولكن الذي ينبغي التفات إليه هو الاتجاه التجريبي العام في القرآن، مما كون في أتباعه شعورا بتقدير الواقع، وجعل منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث، وأنه لأمر عظيم حقا أن يوقظ القرآن تلك الروح التجريبية في عصر كان يرفض عالم المرئيات، بوصفه قليل الغناء في بحث الإنسان وراء الخالق، وكما أشرنا فيما سبق، يرى القرآن أن العالم له غايات جدية: فتطوراته المتغيرة تحمل حياتنا على التشكل بصورة جدية، والجهد العقلي الذي نبذله للتغلب على ما يقيمه العالم من عقبات في سبيلنا، يشحذ بصيرتنا فيهيؤنا للتعمق فيما دق من نواحي التجربة الإنسانية الأخرى، فضلا عن أنه يمد في آفاق الحياة، ويزيدها خصبا وغنى. واتصال عقولنا بثمرة الأشياء الحادثة هو الذي يدربنا على النظر العقلي في عالم المجريات أن الحقيقة تثوى في نفس مظاهرها، وإن كان الإنسان يعيش في بيئة كئود لا يسعه أن يتجاهل عالم المرئيات. "والقرآن يبصرنا بحقيقة التغير العظيمة، التي لا يتسنى لنا بغير تقديرها والسيطرة عليها، بناء حضارة قوية الدعائم، ولقد أخفقت ثقافات آسيا، بل ثقافات العالم القديم كله؛ لأنها تناولت الحقيقة بالنظر العقلي ثم اتجهت منه إلى العالم الخارجي فأمدها هذا المسلك بالتفكير النظري المجرد   1 الفرقان: 45, 46. 2 الغاشية: 17-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 من القوة، وليس من الممكن أن تقام على النظر المجرد وحده، حضارة يكتب لها البقاء"1. - وإلى هنا أفاض "إقبال" فيما يجب أن يكون عليه موقف الإنسان المسلم إزاء العالم الواقعي، من إسلامه وكتاب دينه وهو القرآن. - كما وضح أن وسيلة التجربة هي الوسيلة النافعة لتحصيل المعرفة الحقة، وأن التجربة كما يمكن أن تستخدم في الطبيعة والواقع، يمكن أيضا أن تستخدم في مجال الدين، أي: في معرفة الله، وهو الحقيقة الكلية. - وأبان أن الإسلام يدعو إلى التجربة بوجه عام ولا يحظر استخدامها في مجال الدين. - وأخيرا لم يغب عنه أن يكشف عن أن الرياضة الصوفية نوع من التجربة الدينية يوصل إلى المعرفة، كما توصل التجربة في الطبيعة إلى إدراك أجزائها العديدة. - وبعد هذا وذاك، فرق "إقبال" بين الإسلام والمسيحية: فبينما يرى أن المسيحية لها طابع الميتافيزيقا، وطابع الوقوف بالمعرفة فيها عند حد مجال الروح, غير معنية بالعالم الخارجي, إذا بالإسلام يتجاوز هذا المجال إلى الطبيعة نفسها. وذلك عندما نظر إلى الإنسان على أنه كائن ذو صلة بالعالم ما يحيط به، وهو العالم المادي الحسي. - وقصر دائرة الخلاف بين الدين والعلم على نوع التجربة -دون أصلها- التي تستخدم في كليهما. - كما أنه سلم بمبدأ "التغير" في العالم، كأساس لبناء حضارة إنسانية قوية تبنى عليه في هذا العالم، ولكنه حدد دائرة هذا التغير بـ"الطبيعة" دون "القيم" الأخلاقية، ودون مجال الألوهية. وكشف فيما مضى عن الخطأ الذي وقع فيه مذهب "الوضعية" من إنكاره الألوهية الدينية، ومن إخضاعه القيم الدينية لمبدأ "التغير"، وأبان   1 المصدر السابق: ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 إن هذا الخطأ هو أن تجعل "التجربة" التي تستخدم في الطبيعة وسيلة عامة لكل أنواع المعرفة التي يمكن أن يحصلها الإنسان. ورأى أن يحصلها الإنسان، ورأى أن ما يجب أن يتبع حتما في تحصيل المعرفة هو "التجربة" ولكنه تختلف باختلاف مجالات "الواقع". وأن إدراك القلب وسيلة من وسائل التجربة لا تقل في تحصيل اليقين والكشف عن الحقيقة عن الإدراك الحسي، الذي هو الوسيلة المفضلة عند "الوضعيين". - والإسلام -إذن- في نظر "إقبال" يتميز عن الأديان كلها، وفي مقدمتها المسيحية ... كما يتميز عن المتيافيزيقا والفلسفة العقلية، وهو بتميزه هذا لا يقف في الخصومة مقابل المعرفة التجريبية، أو مقابل "الوضعية" التي سادت القرن التاسع عشر، وخاصمت الدين، والميتافيزيقا، والمثالية العقلية، هو خارج عن هذا النزاع، ولذا لا يوجه إليه نقد، ولا يرمى بالعجز الذي وجهته "الوضعية" ورمت به ما عداها من مذاهب المعرفة، ومصادر العلم والحقيقة، فلسفة ودينا على السواء. وهذا مما يجعل للموافق لإقبال على فلسفته هذه أن يعيد القول هنا مرة أخرى بأن "التجديد" في الفكر الإسلامي بنقل بعض مذاهب التفكير الأوروبي في القرن التاسع عشر، واستخدامها في التقليل من قيمة الإسلام, ترديد لأمر ليس له موضوع في المجتمع الإسلامي، وليس له صلة بالإسلام كمصدر توجيه في هذا المجتمع. وحدة الذات الإنسانية وخلودها: وضح "إقبال" حتى الآن، قيمة العالم الواقعي -هو عالم الطبيعة والمادة- بالنسبة للإنسان المسلم، كما وضح أنه مطلوب من جهة المسلم أن يتصل به اتصال المكتشف المجرب، كي يسيطر على قواه، ولكن لتنمية روحانيته لا لهدف آخر غير نبيل، وأكد هذه القيمة في غير نص من النصوص الكثيرة، التي اضطررنا لنقلها هنا، ليخلص إلى: - أن المسلم "واقعي" بحكم دينه. - وأنه ليس برهباني مسيحي، ولا بصوفي من أصحاب فكرة "الفناء". - وإلى أن فهمه الابتعاد عن هذا العالم لما فيه من "شر"، يجب أن يتغير إلى النقيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وهذا التغير في فهم العالم المادي، إحدى الفكر التي طلب إقبال إعادة بنائها وتجديدها على أساس إسلامي خالص فيما سماه، "تجديد الفكر الديني في الإسلام". وضح إقبال هذا كله ليدفع المسلم إلى الحركة نحو واقع الحياة، وإلى أن يشارك الغربي في هذه الحركة "لا تقليدا له، ولكن بوحي داخلي من ثقافته الإسلامية. وهنا نجد إقبال فيما يصور عليه "ذات" الإنسان، وفيما يمنحها من استقلال وفيما يراه فيها من حركة مستمرة وإبداع يتجدد، يشبه "الخلود" في الدوام وعدم الانقطاع بما يسمى "الموت" يدفع المسلم إلى الحركة في العالم الواقعي مرة أخرى، وإلى العمل في قوة. وفيما يذكره -بعد ذلك- من الحديث عن "الحقيقة" الكلية" "الله"، وعن الرياضة الصوفية كطريق لكسبها وتحصيلها -يبغي به "التوازن"، أو يقصد إلى دفع أضرار الواقعية البحتة، وأخطار نتائجها التي تتمثل في عدم الاستقرار وصفاء النفس، وكفاحها المرير من أجل المال. "الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي، حيثما تجلت الحياة تجلت في شخص، أو فرد، أو شيء.. والخالق كذلك فرد, ولكنه أوحد لا مثيل له"1. "إن لذة الحياة مرتبطة باستقلال "أنا" وبإثباتها، وإحكامها، وتوسيعها، وهذه الحقيقة تمهد إلى فهم حقيقة الحياة بعد الموت"2. وبهذين النصين -مع نصوص أخرى ستأتي- يشير "إقبال" إلى رأيه في الإنسان: يراه فردا لا جماعة, أي: إن الجماعة تتكون منه ولا تخلقه هي.. هو أصلها وليست هي أصلا له.. يراه مستقلا لا يفنى في غيره، حتى في ذات الله لا يفنى فيها عن طريق الرياضة الصوفية، كما فهم خطأ من يفسر قول الحلاج: "أنا الحق" على أنه الإفناء في الله.. يرى ذات الإنسان   1 كتاب: إقبال, سيرته وفلسفته، وشعره: "منظومة أسرار خودي" ص56. 2 المصدر السابق: 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أبدية خالدة، ولها ديمومة وخلود في العمل، وأن "الموت" حالة "استرخاء" و"البعث" بمثابة "جرد البضائع" و"النار" إدراك لألم الإخفاق في السعي، و"الجنة" إدراك لسعادة الفوز على قوى الانحلال. أراد "إقبال" أن يشعر المسلم بنفسه، وبقيمته في الحياة، وأن يحمله على أن يعتد بنفسه كقوة "خالقة" على نحو ما تصور "نيتشه": "الإنسان المتفوق" ويتكون هذا الشعور عنده، يندفع في الحياة وإلى الحركة في "الواقع" الذي أصبح معبدا له الآن، بعد أن أعيد النظر إليه من الوجهة الإسلامية, وأصبح في نظر "إقبال" يرى أنه ليس شرا, وأنه المجال الطبيعي لحركة الإنسان وتنمية ذاتيته. ولكن ما أراده "إقبال" للإنسان المسلم، كي يقوى ويندفع في الحياة, وفي بحث الواقع -خرج به تفسير الإسلام أحيانا على نحو لا يخالف فيه الجمهرة الكثيرة من مفسري القرآن فحسب، بل على نحو يجعله متكلفا في تخريج نصوصه على حسب أساليب اللغة العربية، وربما ينزلق به تكلفه في التخريج، إلى باب "التحريف" في التأويل. فعن وحدة الذات يذكر أيضا: "أرى أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي إثبات ذاته لا نفيها. وعلى قدر تحقيق إنفراده أو وحدته يقرب من هذا الهدف، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: $"تخلقوا بأخلاق الله", فكما شابه الإنسان هذه الذات الوحيدة، كان هو كذلك فردا بغير مثيل ... إنا نسأله: ما الحياة؟ وواضح أن الحياة أمر فردي، وأعلى أشكاله التي ظهرت حتى اليوم "أنا" وبها يصير الفرد مركز حياة، مستقلا قائما بنفسه، فالإنسان من الجانبين الجثماني والروحي، مركز حياة قائم بنفسه، ولكنه لما يبلغ مرتبة الفرد الكامل هو الأقرب إلى الله، ولكن ليس القصد من هذا القرب أن يفنى وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الإشراق، بل هو عكس هذا، يمثل الخالق نفسه"1. كما يقول: "يؤكد القرآن للنفس الإنسانية بأسلوبه البسيط، حريتها وخلودها المفعم بالقوة، كما يؤكد شخصية الإنسان وفرديته، وله -في نظري- رأي   1 المصدر السابق: ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 معين محدد في مصير الإنسان بوصفه وحدة من وحدات الوجود، وهذا الرأي في شخصية الإنسان وفرديته -وهو رأي يستحيل معه أن تزر وازرة وزر أخرى؛ بل يقتضي أن كل امرئ بما كسب رهين- هو الذي أدى بالقرآن إلى رفض فكرة الفداء"1. والإنسان محتفظ بفرديته واستقلاله، لا تسلبه الرياضة الصوفية هذا الاستقلال بحال. وتاريخ "الرياضة" في الإسلام يؤكد أنها تجعل الإنسان كما قال الرسول: $"يتخلق بأخلاق الله". وقد عبر عنها بعبارات مثل: "أنا الحق" الحلاج و"أنا الدهر" "النبي محمد"، و"أنا القرآن الناطق" "علي"، و"سبحاني" "بايزيد". "وفي التصوف الإسلامي الرفيع ليس معنى أن: إرادة الإنسان هي عين إرادة الله، أن النفس الإنسانية تمحو شخصيتها هي بنوع من الاستغراق في الذات غير المتناهية، بل الأحرى أن الذات غير المتناهية تدخل بين أحضان محبها المتناهي"2. وفي خلود هذه الذات الإنسانية المستقلة أبدا، يقول "إقبال": "إن خلود الذات أمل، ومن أراد أن يظفر به فليجد ويدأب لبلوغه، والظفر به موقوف على أن نسلك طريقا للفكر والعمل في هذه الحياة، يعيننا على حفظ التوازن، ولا يستطيع إبلاغنا هذا الأمل دين "بوذا"، ولا التصوف العجمي، ولا ما إلى هذين من نظم الأخلاق الأخرى، ولقد أضرت بنا هذه الطرق فأضاعتنا وأنامتنا، إن هذه المذاهب هي الليالي في أيام حياتنا. "وإن قصدنا بأفكارنا وأعمالنا إلى حفظ حالة التوازن في ذواتنا. فأغلب الظن أن صدمة الموت لا تستطيع أن تؤثر فيها ... تعرض بعد الموت حال من "الاسترخاء" يسميها القرآن الحكيم: "البرزخ" وتدوم هذه الحال حتى الحشر. ولا تبقى بعد الاسترخاء إلا النفوس التي أحكمت ذواتها أيام الحياة"3.   1 تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص109. 2 المصدر السابق: ص126. 3 محمد إقبال: سيرته، وفلسفته، وشعره: "أسرار خودي" ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 إن "إقبال" هنا شاعر في تصويره خلود النفس ... إنه لا ينكر البعث ولا الحشر، كما لا ينكر موت النفس من قبل ... إنه يحرص على فردية الإنسان ليجعلها مصدر قوة، ويحرص على أن تعمل وتفكر، لا أن تتواكل وتستجدي. النفس العاملة القوية هي النفس التي تحيا في هذه الحياة, وهي النفس التي تستمر لها الحياة في دار الجزاء، وعندئذ يكون "الموت" بمثابة مرحلة انتقال، فهي في عملها مستمرة، وفي حياتها مستمرة كذلك، فهي خالدة بهذا المعنى. هو يريد أن يحرض الإنسان المسلم على القوة والعمل، يريد أن يدفعه دفعا، ولكن من ذاته لا من خارج ذاته. إنه يعشق القوة، ويعشق العمل, أو أنه يتوق إلى أن يرى المسلم قويا عاملا، غير مستذل وغير متواكل، إن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. "حياة العلم من قوة الذات ... فالحياة على قدر ما فيها من هذه القوة، فالقطرة حين تقوى ذاتها تصير درة، والجبل إذا غفل عن ذاته انقلب سهلا وطغى عليه البحر"1. "لا بتغ رزقك من نعمة غيرك، ولا تستجد ماء ولو من عين الشمس، واستعن بالله وجاهد الأيام، لا ترق ماء وجه الملة البيضاء، طوبى لمن يحتمل الضر من الحرور والظمأ، ولا يسأل الخضر كاسا من ماء الحياة"2. والخلود بهذا المعنى -لا بمعنى إنكار الموت، أو إنكاء فناء العالم وعدم البعث- يزيد في شرحه "إقبال" مرة أخرى. إذ يقول أيضا. "إن النهاية، أي: انقضاء الأجل ليس بلاء ... {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 3، وهذا أمر بالغ الأهمية ينبغي أن يفهم على وجهه صحيح، حتى نضمن فهم رأي الإسلام في "الخلاص" فهما واضحا فالإنسان -أو الذات المتناهية- بشخصيته المفردة، التي لا يمكن أن يستعاض عنها بغيرها، سيق بين يدي الذات غير المتناهية، ليرى عواقب   1 المصدر السابق: ص74. 2 المصدر السابق: ص78. 3 مريم: 93-95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ما أسلف من عمل، وليحكم بنفسه على إمكانيات مصيره {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 1. "فأيا كان المصير النهائي للإنسان، فإنه لا يعني فقدان فرديته، والقرآن لا يعد التحرير التام من التناهي أعلى مراتب السعادة الإنسانية، بل "جزاؤه الأوفى" هو في تدرجه في السيطرة على نفسه، وفي تفرده، وقوة نشاطه بوصفه روحا, حتى إن منظر "الفناء الكلي" الذي يتحدث عنه القرآن في قوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} 2 الذي يسبق يوم الحساب مباشرة، لا يمكن أن يؤثر في كمال الروح التي اكتملت نموا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} 3. ومن يكون أولئك الذي ينطبق عليهم هذا الاستثناء، إلا الذين بلغت أرواحهم منتهى القوة؟! وتصل الروح إلى أسمى مرتبة في هذا النمو، عندما تكون قادرة على تملك النفس تملكا تاما، حتى في مقام الاتصال بالذات المحيطة بكل شيء، فتكون الروح كما جاء في القرآن في وصفه لرؤية النبي للذات الأولى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 4. وهذا هو المثل الأعلى للإنسانية الكاملة في الإسلام"5. "فالإنسان في نظر القرآن، متاح له أن ينتسب إلى معنى الكون وأن يكون خالدا ... إن كائنا اقتضى تطوره ملايين السنين, ليس من المحتمل إطلاقا أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع. وليس إلا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار، إذ يمكن أن ينتسب إلى معنى الكون: " {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 6، وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 7. "فالحياة تهيئ مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب، وليست هناك أعمال تورث اللذة, وأعمال تورث الألم، بل هناك   1 الإسراء: 13، 14. 2 الأنعام: 73. 3 الزمر: 68. 4 النجم: 10. 5 كتاب: تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص124, 125. 6 الشمس: 7-10. الملك: 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أعمال تكتب للنفس البقاء، أو تكتب لها الفناء، فالعمل هو الذي يعد النفس للفناء, أو يكفيها لحياة مستقبلة, ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو: احترامي للنفس في وفي غيري من الناس، وعلى هذا فالخلود لا نناله بصفته حقا لنا، وإنما نبلغه بما نبذل من جهد شخصي. "وأكبر ما وقعت فيه المادية من خطأ يبعث على الأسف، هو القول بأن الشعور المتناهي يستنفذ موضوعه. والفلسفة والعلم ليسا إلا طريقة واحدة من طرق البحث في هذا الموضوع. ولكن هناك طرائق أخرى متاحة لنا. وإذا كان العمل قد أمد الروح من القوة بما يكفل لها مواجهة الصدمة التي يحدثها فناء البدن، فإن الموت يكون مجازًا لا غير إلى البرزخ الذي جاء وصفه في القرآن"1. والخلود، كما يقول "إقبال"، ليس حقا للإنسان، إنما هو غاية وهدف، ووسيلته العمل وحده ... وهو استمرار للحياة، والموت فقط فقط ابتلاء. "والبحث إذن ليس حادثا يأتينا من خارج، بل هو كمال لحركة الحياة في داخل النفس، وسواء أكان البعث للفرد أم للكون، فإنه لا يعدو أن يكون نوعا من "جرد البضائع" أو الإحصاء لما أسلفت النفس من عمل وما بقي أمامها من إمكانيات ... على أن القرآن يرى أن البعث يكسب الإنسان حدة في البصر - {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 2- يرى به مصيره الذي كسبه لنفسه معلقا بعنقه {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} 3. أما الجنة والنار فهما حالتان، لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني، أو لصفة أو حال, فالنار في تعبير القرآن: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} 4 هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنسانا، أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال.   1 المصدر السابق: ص126, 127. 2 سورة ق: 22. 3 المصدر السابق: ص141, والآية من سورة الإسراء: 13. 4 الهمزة: 6, 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وليس في الإسلام لعنة أبدية.. ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفا للنار، يفسره القرآن بأنه حقبة من الزمان {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} 1 والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعا تاما. فالخلق ينزع إلى الاستدامة، وتكييفه من جديد يقتضي زمانا. وعلى هذا فالنار كما يصورها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم، بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله؛ وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة ومتصلة، والإنسان دائما قدما، فيتلقى على الدوام نورا جديدا من الحق غير المتناهي الذي هو: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 2. ومن يتلقى نور الهداية الإلهية ليس متلقيا سلبيا فحسب؛ لأن كل فعل لنفس حرة يخلق موقفا جديدا، وبذلك يتيح فرصا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد"3. وبهذا الاتصال في الحياة الإنسانية، رفع "إقبال" الفجوة بين "الدنيا" و"الآخرة" وجعل الحياة الإنسانية خط سير لا ينهيه الزمان، ومجال عمل مستمر متجدد. وما أتى به الإسلام من عقائد البعث، والحشر، والبرزخ، مما يفهم منها أنها تصور حلقة في تاريخ الوجود، تنتهي بها حياة وتبتدئ بها حياة ثانية, ليس إلا تصويرا لمرحلة ابتلاء، وليس إلا إحصاء لأعمال الإنسان السابقة يعقبها استئناف سير الحياة وحركة العمل الإنساني من جديد. وما أتى به أيضا من عقائد مثل الجنة والنار، مما يفهم منها أنها تحدد مكان حياة أخرى مستقلة تماما عما مضى في حياة الإنسان الدنيا, ليست أيضا إلا تصويرا لذلك الشعور الإنساني الذي يصحب نوع النتيجة التي أتى بها الإحصاء في مرحلة ما قبل استئناف السير وحركة العمل في دائرة الإنسان، والجنة ليست إلا شعور الإنسان بالبقاء، والفوز في الكفاح الماضي، والنار ليست أيضا إلا شعور الإنسان بخيبة أمله وفشله في هذا الكفاح السابق ... ومعنى ذلك أنه يجوز للإنسان الذي فشل فيما مضى أن يفوز في كفاحه المستأنف، فيشعر بالبقاء والخلود، أو تكون له "الجنة" من جديد، وخيبة الأمل إذن موقوتة، والنار إذن ليست أبدية، إذ هي لمدة ما.   1 النبأ: 23. 2 الرحمن: 29. 3 المصدر السابق: ص141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حياة دائمة متجددة، وعمل مستمر، وكفاح متواصل, ليس هناك تكرار وليس هناك مدار دائري للحركة، إنما هناك خيط مستقيم لا نهائي, ذلك كله يصور مجال الإنسان في الوجود. فردية ذاته لا تمحى، ووجوده لا يبلى، وقربه من "اللانهائي" هو غاية حركته في سيره وفي عمله ... ليس بعد هذا القرب نهاية؛ لأن ذات "اللانهائي" دائمة في وجودها، وفي خلقها. هذا التصوير كله يصور به "إقبال" وجود الإنسان وحياته، كي يعمل الإنسان طالما ليست لحياته نهاية، وليدفع اليأس عن نفسه طالما تتجدد فرص الكفاح والنجاح فيه، وطالما تختفي "الأبدية" -كصفة- لخيبة أمله وإخفاقه. أما كيف أن "إقبال" حمل النصوص القرآنية التي أوردها على المعنى الذي أراده -وربما خالف فيما أراده من معنى كثيرين من علماء المسلمين قبله- فذلك شيء سنشير إليه عند "التعليق" على تفكيره التجديدي الإصلاحي، عقب الفراغ من عرضه، تحت عنوان: "إقبال، فيما أرى". الذات الكلية: يريد "إقبال" فيما يتحدث به عن "الذات الكلية" أن يوضح أن الله هو حقيقة الوجود، أو وحدة الوجود، وأن دليل وجوده هو التجربة، ولكنها تجربة الدين, وليست تجربة الطبيعة، كما يوضح أنه لا ينفصل عن العالم الطبيعي أو الواقعي، لا على معنى أنه حال فيه، ولكن على معنى أن ذات الله تجلت فيه. والعالم الطبيعي أو الواقعي باق طالما هو تجلي الله ... "نظرية هيجل". "والذات الأولى توجد في "ديمومة" بحتة، ينقطع فيها التغير عن أن يكون تعاقبا لأحوال متخالفة, وتكشف الذات عن صفتها الحقة باعتبارها خلقا مستمرا {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 1، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 2. و"وجود الله" هو تجلي ذاته, لا السعي وراء مثل أعلى يراد الوصول   1 سورة ق: 38. 2 البقرة: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 إليه. "وما لم يقع بعد" معناه بالنسبة للإنسان: السعي والطلب, وقد يعني الإخفاق، أما "ما لم يقع بعد" بالنسبة لله فيعني تحققا لا يخفق لإمكانيات وجوده، تلك الإمكانيات الخالقة غير المتناهية، التي تحتفظ بوحدتها التامة الكاملة خلال تجليه في الوجود"1. "ولعلنا الآن في موقف يدعلنا ندرك معنى الآية": {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} 2. فقد أدى بنا التفسير الدقيق لتعاقب الزمان -كما يتجلى في أنفسنا- إلى فكرة عن الحقيقة القصوى، هي أنها "ديمومة" بحتة يتداخل فيها الفكر، والوجود، والغاية، لتؤلف جميعا وحدة متكاملة، ولا نستطيع إدراك هذه الوحدة إلا من حيث هي وحدة نفس متحققة الوجود محيطة بكل شيء, هي الينبوع الأول لكل حياة فردية، وكل فكر فردي"3. والذات الكلية ليست ذاتا منعزلة عن هذا العالم، وليس هذا العالم "غيرا" لها. و"الذات الأولى" في تعبير القرآن، غنية عن العالمين: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 4. أما ما عداها فلا يستطيع أن يدعي أنه ذات أخرى مقابلة لها، وإلا وجب أن تكون الذات الأولى كذواتنا المتناهية، بينها وبين الغير المقابل لها نسبة مكانية. وما نسميه "الطبيعة" أو "غير الذات"، وليس إلا لحظة عابرة في وجود الله، ووجود الله من ذاته لا من غيره, وهو وجود أزلي مطلق ويستحيل علينا أن نتصور في عقولنا هذه الذات تصورا كاملا، فهو كما يقول القرآن الكريم: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5. "وبعد: فإن العقل لا يمكن أن يتصور نفسا من غير أن تلحقها صفة، أي: من غير منهج مطرد من السلوك، والطبيعة -كما رأينا6- ليست   1 المصدر السابق: ص272. 2 الفرقان: 2. 3 المصدر السابق: ص66, 67. 4 آل عمران: 97. 5 الشورى: 11. 6 يشير إلى ما ذكره في ص243 من كتاب "تجديد الفكر الديني في الإسلام" عن نظرية "أينشتين" Albert Einstein "المولود في سنة 1879"، وهي نظرية النسبية The theory of relativity وما ذكره هو:= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ركاما من مادية بحتة شاغلة للفراغ، بل هي بناء من حوادث أو منهج منتظم من السلوك وهي بوصفها هذا، أساسية بالنسبة للذات الأولى، فالطبيعة بالنسبة للذات الإلهية كالصفة بالنسبة للنفس الإنسانية، وهي في التعبير القرآني الرائع: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 1. وعلى هذا، فإن الرأي الذي اصطنعناه يضفي على علوم الطبيعة معنى روحيا جديدًا: فالعلم بالطبيعة هو العلم بسنة الله، ونحن في ملاحظتنا للطبيعة إنما نسعى في الحقيقة وراء نوع من الاتصال الوثيق بالذات المطلقة ... وما هذا إلا صورة أخرى من صور العبادة"2. ويزيد "إقبال" توضيحا عدم "غيرية" العالم الطبيعي لذات الله، فيما يقوله هنا: "والسؤال الذي يطلب منا أن نجيب عنه حقا هو: هل العالم يواجه الذات الإلهية بوصفه "غيرا" لها، وبينهما فراغ مكاني يتوسط بين الذات وبين هذا "الغير"؟؟ والجواب عن هذا: هو أنه بالنسبة للذات الإلهية، لا يوجد خلق بمعنى حادث معين له "قبل" وله "بعد"، فالعالم لا يمكن أن يعد حقيقة مستقلة الوجود مقابلة للذات الإلهية, ولو أننا نظرنا إلى الأمر كذلك. لأصبحت الذات الإلهية والكون منفصلتين، تقابل إحداهما الأخرى   = إن نظرية النسبية التي أدمجت الزمان في "الزمان المكاني" قد زعزعت معنى "الجوهر" كما اصطلح عليه السلف، أكثر مما زعزعه جدل الفلاسفة كله، فالمادة للإدراك العادي "هو الإدراك الفلسفي القديم" شيء يلبث في زمان ويتحرك في مكان، ولكن النسبية في الطبيعيات الحديثة لا تقر هذا الرأي، فالقطعة من المادة ليست شيئا ثابتا له أحوال متغايرة، بل أصبحت مجموعة حوادث مرتبطة بعضها ببعض وبهذا ذهبت صلابة المادة التي قيل بها قديما، وذهبت معنى الخصائص التي كانت تجعلها تبدو في نظر المادي شيئا أقوى في حقيقته من الأفكار التي تجول في العقل، وعلى هذا، فالطبيعة -طبقا لرأي الأستاذ Whitehad- ليست شيئا قارًا، يقوم في خلاء لا حركة فيه، بل هي تركيب من حوادث، لها خصيصة التدفق والإيجاد الدائمين، غير أن الفكر يقطع هذا التكريب إلى أشياء ساكنة، منعزلة بعضها عن بعض، وينشأ عن علاقة بعضها ببعض تصور المكان والزمان. 1 الفتح: 23. 2 المصدر السابق: ص267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 في ظرف فارغ من حيز غير متناه، وقد رأينا -فيما سبق- أن المكان والزمان، والمادة، تفسيرات يضعها الفكر لقدرة الذات الإلهية الخالقة الحرة، وهي لست حقائق لها وجودها في ذاتها وإنما هي أحوال للعقل في تصوره لوجود الله. "وقد أثير البحث مرة في موضوع الخلق بين مريدي "بايزيد البسطامي" الصوفي المشهور، فأدلى أحدهم في صراحة بالرأي الذي تقبله الفطرة السليمة: "كان الله، ولا شيء معه" فأجاب الولي جوابا قاطعا، فقال: "الآن كما كان" فعالم المادة إذن ليس شيئا يشارك الله في الأزل، ويحدث فيه الله ما يشاء، وهو كأنه على مسافة منه ... بل هو في طبيعته الحقيقية، فعل واحد متصل، يجزئه الفكر إلى كثرة من أشياء، منفصل بعضها عن بعض"1. و"جاء في القرآن الكريم {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} 2. وماهية الجوهر غير وجوده، ومعنى هذا أن الوجود عرض يلحقه الله بالجوهر. وقبل أن يلحقه الوجود، يظل كما لو كان كامنا في قدرة الله الخالقة, وليس يعني وجوده، أكثر من تجلي القدرة الإلهية للعيان"3. وإذا كانت "الذات الكلية" لا انفصال لها عن العالم الواقعي، وإذا كان العالم الواقعي ليس مادة جامدة، بل هو تركيب من أحداث متتالية تصور خلق الله، أو تصور تجليه للعيان, "فالسمو إلى مستوى جديد في فهم الإنسان لأصله ولمستقبله وحده، هو الذي يكفل له آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية، بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية. هذا من جانب ... ومن جانب آخر، إذا كان الانفصال بين الله وبين هذا العالم المادي, فليس هناك اتحاد بينهما، وبالتالي لا يصير الإنسان الفرد يوما ما في الذات الإلهية، مهما أدرك هذه الذات، وإدراكه لهذه الذات إدراكا قريبا   1 المصدر السابق: ص278، 279. 2 فاطر: 1. 3 المصدر السابق: ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 يجب أن يبعده فقط عن أن يستغرق في "الواقع" أي: في مصدر الحس الظاهر للعيان، لا أن يحول بينه وبين أن يتحرك فيه ويسيطر على قواه. - إن "إقبال" يعقد الصلة بين: الذات الإلهية من جانب ... والإنسان والعالم الواقعي من جانب آخر ... يريد أن يزاوج بين "الواقعية" "والروحية". - يريد أن يحول "الصوفية" الإشراقية في الإسلام إلى "زهد" فجر الإسلام، فيبعد منها "الفرار" من الدنيا، وينحي منها "الاتحاد" بالله. - ويريد أيضا أن يحول "الواقعية" الحديثة التي جعلت للإنسان سلطانا على قوى الطبيعة لم يسبق إليه -ولكنها سجلت إيمانه هو بمصيره- إلى "واقعية" تصل الإنسان بأعماق وجوده إلى "الله" حتى لا يكون حبه للمال حبا طاغيا، يقتل كل ما فيه من نضال سام شيئا فشيئا، ولا يعود عليه منه إلا تعب الحياة. والسبيل إلى إدراك الذات الإلهية -في نظر "إقبال" وهي وحدة الوجود، أو الحقيقة الكلية- الدين وحده ... وليس العلم Science؛ لأن العلم يبحث عن جزئيات الطبيعة، ولكل جزئية منها علم خاص. وإذا سألنا عن تناسق بين علوم الطبيعة، أو علوم جزئياتها فلا نجده، وإذن لا مناص من اعتبار الدين بما فيه من عبادة "الصلاة"، وسيلة لإدراك الحقيقة باعتبارها كلا. فالمسألة التي نبحثها إذن هي: هل المدخل إلى الحقيقة عن طريق ما يكشفه الإدراك الحسي، يؤدي بالضرورة إلى رأي فيها يتعارض معارضة جوهرية مع رأي الدين في طبيعتها القصوى, الذات الكلية، "الله"؟؟ وهل العلوم التي تبحث في الموجودات الطبيعية قد خضعت نهائيا للمادية؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وليس من شك في أن نظريات العلوم الطبيعية تفيد معرفة موثوقا بها؛ لأنه يمكن التحقق من صدقها؛ ولأنها تمكننا من التنبوء بالحوادث الطبيعية، ومن التحكم فيها، ولكن ينبغي أن لا ننسى أن ما نسميه: "العلم" Science ليس نظرة واحدة منسقة للحقيقة، بل هو مجموعة من النظرات الجزئية للحقيقة ... هو شتات من تجربة كلية لا تظهر منسجمة بعضها مع بعض. فالعلوم الطبيعية تبحث في المادة, وفي الحياة، وفي العقل؛ ولكنك إذا سألت عن كيفية العلاقة المتبادلة بين المادة, والحياة, والعقل, أخذت تتجلى لك عند ذلك جزئية العلوم المختلفة، التي تتناول البحث فيها، وتبين لك عجز كل واحد منها عن أن يجيب وحده عن سؤالك هذا إجابة شافية. والواقع، أن العلوم الطبيعية المختلفة, مثلها مثل الجوارح العديدة تنقض على جسم الطبيعة الميت، فيذهب كل منها بقطعة منه، والطبيعة من حيث هي موضوع للعلم أمر عملت فيه الصنعة إلى حد بعيد، صنعة نشأت عن عملية الانتقاء التي لا بد للعلم من أن يخضع الطبيعة لها. حتى تتحقق له الإجادة والتدقيق. "وعندما نضع موضوع "العلم" في مجموع التجربة الإنسانية، يشرع يتكشف لك عن طبيعة مختلفة، ومن ثم، فإن الدين -وهو ينشد الحقيقة بوصفها كلا لا يتجزأ لهذا- يجب أن يتخذ له مكانا مركزيا في أي تركيب من موضوعات التجارب الإنسانية جمعاء لم يكن ليخشى أي رأي من الآراء الجزئية عن الحقيقة ... والعلوم الطبيعية جزئية بطبيعتها، فإذا كان لها أن تظل أمينة لطبيعتها ووظيفتها، فإنها لا تستطيع أن تقيم نظريتها على اعتبار أنها رأي كامل عن الحقيقة، وعلى هذا فإن الأفكار التي تستخدمها في تنظيم المعرفة, جزئية بطبعها، وتطبيقها اعتباري بالنسبة لمستوى التجربة التي تستخدمها فيه"1. وإذا كان الدين هو السبيل إلى معرفة "الذات الكلية"، فالعبادة فيه -وعلى وجه أخص "الصلاة"- هي المدخل، في نظر "إقبال" إلى إدراك تلك الذات الكلية إدراكا قريبا ... - فالدين لا يقنع بمجرد الإدراك، بل يبحث عن علم أوثق، وعن اتصال أكد بموضوع علمه ...   1 المصدر السابق: ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 - والعبادة، أو الصلاة، التي تختم بالهداية الروحانية -وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر- هي الوسيلة لتحقيق هذا الاتصال"1. فالصلاة التي تستهدف المعرفة تشبه التأمل؛ ومع ذلك فالصلاة في أسمى مراتبها تزيد كثيرا على التأمل المجرد. وهي كالتأمل أيضا في أنها فعل من أفعال التمثيل، ولكن التمثيل في حالة الصلاة يتجمع مترابطا، فيحصل بذلك على قوة، لا يعرفها التفكير المجرد. فالعقل في تفكيره يلاحظ فعل الحقيقة، ويتقصى آثاره، لكنه في الصلاة يتخلى عن سيرته بوصفه باحثا عن العموميات البطيئة الخطوة، ويسمو فوق التفكير ليحصل الحقيقة ذاتها، لكي يصبح شريكا في حياتها شاعرا بها.. وليس في هذا شيء من الخفاء، فالصلاة من حيث هي وسيلة للهداية الروحانية فعل حيوي عادي، تكشف به فجأة شخصيتنا، التي تشبه جزيرة صغيرة، مكانها في الوجود الخضم الأكبر للحياة ... والواقع، هو: أن الصلاة يجب أن ينظر إليها على أنها تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمل في الطبيعة، وملاحظة الطبيعة ملاحظة علمية تجعلنا على اتصال وثيق بسلوك الحقيقة، فنشحذ بذلك إدراكنا الباطني لشهود الحقيقة شهودا أوفى وأعمق2. "فالصلاة إذن، سواء في ذلك صلاة الفرد أو صلاة الجماعة, هي تعبير عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف ... وهي فعل فريد من أفعال الاستكشاف، تؤكد به الذات الباحثة وجودها في نفس اللحظة التي تنكر فيها ذاتها، فتتبين قدر نفسها ومبررات وجودها بوصفها عاملا محركا في حياة الكون، وصور العبادة في الإسلام، في صدق انطباقها على سيكلوجية المنزع العقلي، ترمز إلى إثبات الذات وإنكارها معا"3. - والدين إذن -والعبادة منه بوجه خاص، ورياضة الصوفي في صلاته على وجه أخص- مصدر ضروري لمعرفة الإنسان، ولوقوفه على   1 المصدر السابق: ص103. 2 المصدر السابق: ص104، 105. 3 المصدر السابق: ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الوجود؛ على ما فيه من جزئيات، وعلى ما له من أصل عام وهو "الحقيقة الكلية". - والدين إذن مكمل لتجربة الحس ... ولمصدر آخر ثالث من مصادر المعرفة الإنسانية، وهو التاريخ. - وكل هذه المصادر الثلاثة جاء بها القرآن الكريم. فما يذكره القرآن ... من الشمس، والقمر، وامتداد الظل واختلاف الليل والنهار، إمارة على طلب التجربة الحسية. وما يذكره من اختلاف الألسنة والألوان، وتداول الأيام بين الناس هو طلب استخدام التاريخ في الكشف عن الحقيقة. والآن -فيما أرى- قد اكتملت عناصر النظرة إلى "الوجود" عند "إقبال". وبضم بعض هذه العناصر إلى بعض، تحس أنه يقصد إلى تعديل مفاهيم الفكر الصوفي الإسلامي، أو إلى تعديل المذهب الواقعي الغربي. ولنا أن نعتبر نظرته هذه نوعا من المكافحة لسلبية التواكل في الجماعة الإسلامية، التي تسربت إثر خطأ في تصور بعض المبادئ الإسلامية. وكذلك مكافحة لنزعة المذاهب الواقعية الغربية الإلحادية، التي جاءت إثر الغلو في تقدير الحس والحواس، والتجارب المشاهدة. 2- الإسلام في توجيه الإنسان: يرى "إقبال" أن الوجود كله عبارة عن ثلاث وحدات: - "الذات الكلية" وهي "الله". - و"الذات الفردية" وهي الإنسان. - وعالم الواقع، وهو عالم الطبيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 أما الذات الكلية فتتجلى فيها عداها، وما عداها ليس غيرها ولا منفصلا عنها، وإنما هو مظهرها. وأما الذات الفردية، فلا تلغي نفسها فيما عداها من الذات الكلية ولا تنتهي حركتها في هذا العالم الطبيعي. وأما هذا العالم الطبيعي: فهو دائم التجدد، وهو ليس مادة جامدة وإنما هو تركيب من أحداث متتالية مستمرة في تتابعها، ومعنى هذا كله أنه ليس هناك شيء ثابت في الوجود: هناك حركة، وتجدد واستمرار. وإذا كان الإنسان كذات فردية، مع العالم الطبيعي كتركيب من أحداث متعاقبة -هما مظهرا التجلي للذات الكلية- فالصلة بين الذات الفردية والعالم الطبيعي، هي الصلة بين شيئين متناسقين: عالم ينتقل من حادث إلى حادث، ومن حال إلى حال ... عالم متغير ومتطور، وفيه إنسان يتابع بحركته وبسيره تغير العالم وتطوره. مبدآن أو ظاهرتان: - تغير العالم ... - وحركة الإنسان ... هاتان هما الخصيصتان اللتان يستدل منهما على تجلي الذات الكلية في عالم الطبيعة أو في العالم الواقعي.. وهما الأمارتان على استمرار الخلق لهذه الذات الكلية. هذا ما وصل إليه "إقبال" في نظرته إلى الوجود ... وهو في نظرته إليه لا يدعي أنه حر فيها.. وإنما ذكر أنه يستوحيها من الإسلام، ولذا هو يريد الآن أن يوضح من الإسلام هذين المبدأين: مبدأ تغير العالم، ومبدأ حركة الإنسان ومتابعته لهذا التغير في العالم. وبذلك يكون الإسلام مصدر "معرفة" وتوجيه" معا ... يضع أمام الإنسان خطوط الوجود أو خطوط الحياة، ويقدم له في الوقت نفسه المنهج الذي يلتئم مع هذه الخطوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وما في حياة الإنسان من "دين" و"علم" وما للإنسان من "حواس" و"إدراك" وما لجماعته من "تاريخ" ... هو مجموعة متناسقة من طرق المعرفة تنتهي إلى غاية واحدة هي سعادة الإنسان. مبدأ التغير في العالم الطبيعي: وتغير العالم في نظر "إقبال" هو وسيلة زيادته ونموه: إذ العالم حقيقة لم تقع كلها، بل في سبيل وقوعها ... "والرأي عندي، أنه ليس أكثر بعدا عن نظرة القرآن من القول بأن العالم تنفيذ في سياق الزمان لخطة سبق وضعها ... فالعالم في نظر القرآن -كما بينت من قبل- قابل للزيادة ... هو عالم ينمو، وليس صنعا مكتملا خرج من يد صانعه منذ حقب بعيدة، وهو الآن ممتد في الفضاء أشبه ما يكون بكتلة ميتة من المادة لا يفعل فيها الزمان شيئا، من أجل ذلك ليست شيئا"1. وهذا التغير نفسه، يحملنا على أن نلائم بين أنفسنا وبين مقتضيات هذا التغير، ويثير فينا قوة الدفع للتغلب على ما يجد من ظروف جديدة. "ويرى القرآن أن العالم له غايات جدية: فتطوراته المتغيرة تحمل حياتنا على التشكل بصور جديدة، والجهد العقلي الذي نبذله للتغلب على ما يقيمه العالم من عقبات في سبيلنا، يشحذ بصيرتنا، فيهيؤنا للتعمق فيما دق من نواحي التجربة الإنسانية الأخرى فضلا عن أن يمد في آفاق الحياة ويزيدها خصبا وغنى"2. ويستند "إقبال" في الحكم على تغير العالم الطبيعي من وجهة نظر الإسلام إلى مثل هذه الآيات القرآنية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 3، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 4.   1 المصدر السابق: ص66. 2 المصدر السابق: ص21، 22. 3 الفرقان: 45، 46. 4 الغاشية: 17-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 المجتمع الإنساني: أما المجتمع الإنساني، فلا يسير على التغير المطلق، وإنما يستند إلى بعض المبادئ العامة التي توازن ما يحدث فيه من تغيرات. فعقدة "التوحيد" في الإسلام، مع أنها ترمي إلى صيرورة المجتمعات المختلفة في الهدف إلى عالم واحد يتخذ شعاره: عبادة الحق، والولاء للذات الإلهية. ومع إن كتاب الإسلام المقدس بما له من نظرة يعتبر بها الكون متغيرا ولا يكون خصما لفكرة التطور. مع هذا كله ... فإنه ينبغي أن لا ننسى أن الوجود ليس تغيرا صرفا فحسب ولكنه أيضا ينطوي على عناصر تنزع إلى الإبقاء على القديم, فالإنسان في الوقت الذي يستمتع فيه بنشاط الخالق، ويركز جهوده باستمرار في كشف مسالك جديدة للحياة، يحس بالقلق عندما ينكشف له ما في ذات نفسه، ولا مفر له في خطوه إلى الأمام من أن يرجع البصر إلى ماضيه، وهو يواجه نماءه الروحي في شيء من الخوف، وروح الإنسان يعوقها في سيرها قدما قوى يظهر أنها تعمل في الاتجاه المضاد. وما هذا إلا ضرب من القول بأن الحياة تتحرك وهي تحمل على عاتقها أثقال ماضيها، وأنه في أي تغير اجتماعي لا يمكن أن يغيب عن النظر ما لقوى التمسك بالقديم من قيمة وعمل. وبهذه النظرة الجوهرية في التعاليم الأساسية للقرآن، ينبغي للمذهب العقلي الحديث أن يتناول بالبحث نظمنا القائمة, فليس في استطاعة أمة أن تتنكر لماضيها تنكرا تمام؛ لأن الماضي هو الذي كيف شخصيتها الحاضرة، وفيما يتعلق بمجتمع كالمجتمع الإسلامي، تصبح إعادة النظر في النظم القديمة أكثر دقة وحرجا، كما تصبح التبعات التي يضطلع بها المصلح موجبة عليه أن ينظر إلى الأمور نظرة جدية، وأن يزن ما لها من خطر1. وذلك لأن المجتمع -في نظر "إقبال"- ليس ماديا كما تراه الماركسية فتخضعه للتغير المطلق، وتخضع ما فيه من قيم لمبدأ التطور الانقلابي. وإنما أساسه "الروح" وليس "الاقتصاد" والورح تنمو دون أن تنسى   1 المصدر السابق: 191, 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ماضيها أو في ظل ماضيها والاقتصاد يتطور على حساب الانقلاب في مباشرة الإشراف عليه. "والإسلام بوصفه نظاما وجدانيا يقول بوحدة الكلمة، ويدرك قيمة الفرد من حيث هو فرد. ويرفض اعتبار قرابة الدم أساسا لوحدة الإنسانية فقرابة الدم أصلها مادي مرتبط بالأرض، ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة الإنسانية إلا إذا أدركنا أن الحياة الإنسانية جميعا روحية في أصلها ومنشئها ... ومثل هذا ينشيء صنوفا جديدة من الولاء من عبر شعائر تحفظ عليها الحياة، كما أنه ييسر للإنسان أن يحرر نفسه من أسر الروابط المادية، والمسيحية التي ظهرت في الأرض في صورة نظام من الترهب، حاول "قسطنطين"1 أن يتخذ منها نظاما لتوحيد الكلمة بين الناس، وقد حمل إخفاقها في تحقيق هذه الغاية، جوليان"2 على الارتداد إلى عبادة روما القديمة، محاولا أن يضع لها تأويلات فلسفية ... وتجد الثقافة الجديدة في مبدأ التوحيد "في الوحي النبوي المحمدي" أساسا لوحدة العالم كله. "والإسلام بوصفه دستورا سياسيا، ليس إلا أداة علمية لجعل هذا المبدأ عاملا حيا في حياة البشر العقلية والوجدانية، فهو يتطلب الطاعة والإخلاص لله لا للعروش والتيجان. وإذا كانت الذات الإلهية هي الأصل الروحي الأول لكل حياة فإخلاص الإنسان لله إنما يكون بمثابة إخلاصه لطبيعته المثالية الخاصة. والمبدأ الروحي الأول لكل حياة "وهو الذات الإلهية" كما يصوره الإسلام, هو مبدأ أبدي, يرينا الآيات الدالة عليه في التنوع والتغير، والمجتمع الذي يقوم على تصور الحق على مثل هذا الوجه، لا بد له من أن يوفق في وجوده بين مراتب الدوام والتغير. - فلا بد أن يكون له مبادئ أبدية تنظم حياته الجماعية وتضبط أموره؛ وذلك لأن الأبدي الخالد يثبت أقدامنا في عالم التغير المستمر. - ولكن إذا فهمنا أن المبادئ الأبدية تستبعد كل إمكان للتغير -والتغير في نظر القرآن آية من الآيات الكبرى على الذات الإلهية- فإن هذا الفهم يجعلنا ننزع إلى تثبيت ما هو -أساسيا- متغير في طبيعته.   1 قسطنطين الأول عام 337م. 2 عام 361: 362م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وإخفاق أوروبا في علم السياسة والاجتماع، مثل يوضح المبدأ الأول: "وهو عدم اتخاذ مبادئ ثابتة لتنظيم الجماعة". وركود المسلمين في القرون الأخيرة مثل يوضح المبدأ الثاني: "وهو الميل بالمبادئ الثابتة في الجماعة إلى تثبيت ما هو بطبيعته متغير"1. مبدأ الحركة في الإسلام: ويقصد "إقبال" بمبدأ الحركة في الإسلام، ما في الإسلام من عوامل يواجه بها الإنسان تغير العالم وتطوره، وهي في ذاتها مبادئ ثابتة، ولكن يتخذ منها الإنسان عدته لملاءمة نفسه وأحوال التغيرات المتتابعة في عالمه المادي الواقعي، والإنسان هنا: هو الفرد والجماعة على السواء، والإسلام بالنسبة لهما حقيقة واحدة، وليس هنا إذن في الإسلام دين ودولة. "والحقيقة في نظر الإسلام هي بعينها، تبدو دينا إذا نظرنا إليها من ناحية، وتبدو دولة إذا نظرنا إليها من ناحية أخرى، وليس صحيحا أن يقال: إن الدين والدولة جانبان أو وجهان لشيء واحد، فالإسلام حقيقة مفردة "غير مركبة" لا تقبل التحليل، وهو يبدو في صورة أخرى بحسب اختلاف نظرك إليه. وهذا الأمر بعيد الأثر، وتوضيحه توضيحها وافيا يزج بنا في بحث فلسفي عميق، وحسبنا أن نقول: إن هذا الخطأ القديم "وهو الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية" نشأ عن تفريع وحدة الإنسان إلى حقيقتين منفصلتين متمايزتين، تتصل إحداهما بالأخرى على وجه ما، ولكنهما أساسيا متضادان، والحق هو: - أن المادة: هي الروح, مضافة إلى الزمان المكاني.   1 المصدر السابق: ملخص من صفحات 168, 169، 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 - والوحدة التي نسميها الإنسان هي: جسم إذا نظرت إلى عملها بالنسبة لما نسميه العالم الخارجي. وهي عقل أو نفس إذا نظرت إلى عملها باعتبار ما له من غاية، وإلى المثل الأعلى الذي يستهدفه هذا العمل1. ويزيد إقبال في شرح "وحدة" الحقيقة الإسلامية في جوهرها وحقيقتها. وفي أن النظر الإنساني هو الذي يجعلها ذات اعتبارين فيقول: "وروح "التوحيد" بوصفه فكرة قابلة للتنفيذ هو. المساواة. والاتحاد. والحرية. والدولة في نظر الإسلام هي: محاولة تبذل بقصد تمويل هذه المبادئ المثالية إلى قوى مكانية زمانية؛ هي إلهام لتحقيق هذه المبادئ في نظام إنساني معين. والدولة في الإسلام، ليست ثيوقراطية -أي: دينية- إلا بهذا المعنى وحده، لا بمعنى: أن على رأسها خليفة لله على الأرض، يستطيع دائما أن يستر إرادته المستبدة وراء عصمته المزعومة. وقد غاب هذا الاعتبار عن أنظار نقاد المسلمين. "فالحقيقة القصوى في نظر القرآن روحية، ووجودها يتحقق في نظامها الدنيوي، والروح تجد فرصتها في الطبيعي، والمادي، والدنيوي. فكل ما هو دنيوي إذن هو طاهر وديني في جذور وجوده. وأعظم خدمة أداها التفكير العصري إلى الإسلام، بل في حقيقة الأمر إلى كل دين، هي تمحيص ما نسميه ماديا أو طبيعيا تمحيصا أظهر أن المادي فحسب لا يكون له حقيقة، إلى أن نكشف عن أصلها متأصلا فيما هو روحاني، فليس ثمة دنيا دنسة، وكل هذه الكثرة من الكائنات المادية إنما هي مجال تحقق الروح وجودها فيه فالكل أرض طهور ... فالدولة في نظر الإسلام، ليست إلا محاولة لتحقيق الروحانية في بناء المجتمع الإنساني، وإلا بهذا المعنى تكون كل دولة ليست مؤسسة على مجرد السيادة والسلطان، بل تهدف إلى تحقيق المبادئ المثالية، دولة ثيوقراطية"2. ويرجع إقبال فكرة الفصل بين الدين والدولة، التي شاعت في المجتمع الإسلامي، إلى تاريخ النظريات السياسية الأوروبية.   1 المصدر السابق: ص277. 2 المصدر السابق: ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 "فالمسيحية البدائية لم تقم كوحدة سياسية أو مدنية، وإنما كانت نظاما من الرهبنة في عالم غير طهور، لا تحفل بأمور الدنيا، وتدين للسلطة الرومانية بالطاعة في كل أمر تقريبا، وكان من نتيجة هذا أن الدولة عندما أصبحت مسيحية وقفت هي والكنيسة موقف التعارض، بوصفهما قوتين متمايزتين، شجر بينهما الخلاف على تنازع الاختصاص، ودبت لذلك خصومات لا حد لها. ومثل هذا لم يكن من الممكن أن يقع في الإسلام؛ لأن الإسلام كان من أول الأمر مجتمعا مدنيا عني بشئون االدنيا، وأخذ عن القرآن طائفة من المبادئ التشريعية البسيطة -كالألواح الاثنى عشر في التشريع الروماني- انطوت كما أسفرت التجارب، على إمكانيات عظيمة للتوسع والتطور، عن طريق التأويل والتفسير. وعلى هذا، فالنظرية التي تقول بقومية الدولة، تجرنا إلى الخطأ من حيث إنها تفرض "ثنائية" لا وجود لها في الإسلام"1. ويذكر إقبال: أن "ناومان" "Naumann" -في كتابه: "رسائل عن الدين" Briefe uber Religion- يشاركه في هذا الرأي في المسيحية، ويعلل إذا كان هناك في الحياة الأوروبية المسيحية فصل بين الدين والدولة على هذا النحو: "إن المسيحية البدائية لم تجعل قيمة ما لحفظ كيان الدولة، ولم تحفل بالتشريع والإنتاج؛ بل إنها لم تفكر في أحوال المجتمع الإنساني قط ... ومن ثم فإما أن نتجه إلى أن نكون من غير حكومة، فنلقي بأنفسنا بين براثن الفوضى معتمدين، وإما أن نقرر أن تكون لنا عقيدة سياسية إلى جانب عقيدتنا الدينية"2. والإسلام كوحدة روحية مثالية لها مظهر خارجي واقعي أو مادي، يتضمن -في نظر "إقبال"- مبدأين أساسيين في معاونة الفرد والمجتمع على مسايرة التغير الحادث في العالم الواقعي، وهما: - ختم الرسالة الإلهية. - والاجتهاد في الأحكام.   1 المصدر السابق: ص179. 2 المصدر السابق: ص191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ختم الرسالة المحمدية: أما عقيدة أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، فتحمل معها أمرين: - انتهاء الوصاية على الإنسان في قيادته ... وليس معنى ذلك إحلال العقل محل الرسالة، بل معناه أن وقت خوارق العادات قد انتهى أمره، وأن على الإنسان أن يحصل كمال معرفته بوسائله الخاصة. - والأمر الثاني: إبعاد ظهور الفكرة المجوسية، وهي فكرة الترقب لظهور أبناء "زرادشت" الذين لم يولدوا بعد، والحيلولة دون ظهورها في المجتمع الإسلامي، وقد تأثرت المسيحية بهذه الفكرة، عندما اعتقدت بـ"ظهور المسيح". وشأن الإيمان بهذين الأمرين: ترك الحرية للإنسان في سيطرته على الطبيعة ومعرفته بها، وإبعاده عن مجال التبعية لغيره، أو دفعه إلى العمل دون انتظار مخلص له، أو معين آخر يعينه. "إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه. وأن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو. وأن إبطال الإسلام للرهبنة، ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام، وإصراره على أن النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية ... كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة"1. "وفي هذا المقام يخفق "اشبنجلر" -كما يقول: "إقبال"- في تقدير ما لفكرة ختم النبوة في الإسلام من قيمة ثقافية ... هذا إلى أنه مما لا شك فيه أن أهم خصائص الثقافة المجوسية "تبدو" في نزعة الترقب الدائم، والتطلع الدائب لظهور أبناء "زرادشت" الذين لم يولدوا بعد، أو ظهور المسيح المنتظر، أو المعزى الذي قال به الإنجيل الرابع2 ... ولقد   1 المصدر السابق: ص144. 2 إنجيل يوحنا، الفصل الرابع عشر آية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 سار ابن خلدون على هدى من نظرته إلى التاريخ، فأفاض في نقده، وقضى -فيما اعتقد- قضاء نهائيا، على الأساس المزعوم لفكرة ظهور مخلص في الإسلام، وهي فكرة شبيهة في آثارها السيكولوجية بالفكرة المجوسية الأصلية، التي كانت قد ظهرت في الإسلام، تحت تأثير الفكر المجوسي"1. الاجتهاد: والمبدأ الثاني: في معاونة المسلم -من إسلامه، لا من مصدر أجنبي عنه- ليتابع تطور العالم وتغييره هو: مبدأ الاجتهاد، وفي حديث "إقبال" عن الاجتهاد يوضح إمكان وقوعه الآن، أكثر من التدليل على وجوده أو غايته، فذلك أمر بدهي. "ولا ريب عندي في أن التعمق في درس كتب الفقه والتشريع الهائلة العدد لا بد أن يجعل الناقد بمنجاة من الرأي السطحي الذي يقول بأن شريعة الإسلام شريعة جامدة غير قابلة للتطور. ومن سوء الحظ أن جمهور المسلمين المتمسكين بالقديم في بلدنا هذا، لم يستكملوا الأهلية بعد لدرس الفقه دراسة نقدية. ومن المرجح أن مثل هذه الدراسة إذا حدثت، تسيء معظم الناس وتثير خلافات مذهبية، على أنني سأغامر بإبداء بعض الملاحظات عن النقطة التي نبحثها الآن: - فأولا: ينبغي أن نذكر منذ ظهور الإسلام إلى قيام الدولة العباسية تقريبا، لم يكن قد دون من شرائع الإسلام سوى القرآن. - ثانيا: مما هو جدير بالملاحظة أنه منذ حوالي منتصف القرن الرابع الهجري ظهر ما لا يقل عن تسع عشرة مدرسة من مدارس الفقه والرأي الشرعي في الإسلام، وهذه الحقيقة وحدها كافية في بيان مقدار ما بذل فقهاؤنا المتقدمون من جهد موصول لمواجهة ما تستلزمه حضارة نامية. وكان لا بد لهؤلاء الأصوليين -مع امتداد الفتح، وما نشأ عنه من اتساع نظرة الإسلام- من أن يصطنعوا رأيا في الأمور أكثر رحابة، وأن يدرسوا الظروف المحلية للحياة وعادات الشعوب الجديدة التي   1 المصدر السابق: ص166, 167، والفكرة التي ظهرت في الإسلام تحت تأثير المجوسية، ويشير إليها ابن خلدون، فكرة "المهدي" المنتظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 دخلت في حظيرة الإسلام. والدرس الدقيق لمدارس الرأي الفقهي على اختلافها، في ضوء التاريخ السياسي والاجتماعي المعاصرين، يكشف عن أن المشرعين تحولوا شيئا فشيئا عن طريقة الاستنباط في تأويلهم إلى طريقة الاستقراء. - ثالثا: عندما ندرس أصول الفقه الإسلامي الأربعة المتفق عليها، وما ثار حولها من خلاف، فإن ذلك الجمود المزعوم عن مذاهبنا المعترف بها يتبخر، ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد"1. والآن .... إذا كانت عقيدة ختم الرسالة حافزة للإنسان المعتقد بها على "عدم الانتظار" والترقب، والبدء بعمل الإنسان كإنسان -وهو العمل الفكري- فإن مبدأ الاجتهاد يدفع الإنسان للتفكير، خاصة في مجال التعاليم الدينية، وإخضاع أحداث الحياة المتجددة، المستمرة في التجدد، وتكييفها بكيفية إسلامية. محمد إقبال ... فيما أرى: لم تكن لنا حرية التصرف، عند عرض آراء "إقبال" فيما وضعه في دائرة ما سماه: بـ"تجديد الفكر الديني في الإسلام" في التعليق على هذه الآراء، سوى شرح ما غمض منها، والربط بين بعضها بعضا، وتمايز الفكر الرئيسية منها، وقد وجدنا هذه الفكرة الرئيسية تكاد تنحصر في: - تقدير العالم الطبيعي. - والاعتداد بالفرد الإنساني. - وتأكيد عنصر الروحانية في حياة الإنسان. أ- قد يقال: إن "إقبال" قرأ لـ"أوجست كومت" وتأثر بمذهبه الوضعي، فعنى بالعالم الواقعي، وبتخريج الإسلام على أنه يدعو إلى "التجربة" الحسية والتجربة في خصائصها العامة، وعلى أنه يحض المسلم على التماس السيطرة وتسخير الطبيعة عن طريق التجربة، فهي تجربي واقعي.   1 المصدر السابق: ص129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وقد يقال: إن قرأ لـ"هيجل" وتأثر برأيه في: "أنا" وقرأ لـ"نيتشه" ومال إلى مذهبه في "السوبرمان" وهو رمز القوة والاعتداد بها، فنادى بالفردية، وقوم الإنسان كفرد، وجعله وحدة الحياة الإنسانية وأصل الجماعة وخالقها. ثم قرأ لـ"فيشته" ما يراه في "التاريخ البشري" من أن عظماء الأفراد هم الذين يكونون التاريخ وليست أحداث الحياة، وبالأخص المادي منها، فقال بما يقول به "فيشته" في تاريخ الجماعة ودور الفرد في تكوين هذا التاريخ. وقد يقال: إنه صوفي ينزع إلى "وحدة الوجود" ويفضل الرياضة الصوفية كطريق لصفاء النفس، أو كوسيلة للوصول إلى الذات العليا والقرب منها فقال هنا بعدم "التغاير" المطلق، أو عدم "الانفصالية" الواضحة في الوجود فليس الله "غيرا" لما عداه على الإطلاق، وليس الإنسان "غيرا" لعالمه الخارجي على الإطلاق، وليست الروحية في الحقيقة الإسلامية غيرا لمظهرها الدنيوي على الإطلاق، وبالتالي ليس الإيمان مغايرا للإسلام. قد يقال هذا كله، أو بعضه ... والذي لا شك فيه أن "إقبال" درس الفكر الغربي دراسة واسعة، وهضمه واستفاد من منهجه، وتعبيراته، ومصطلحاته ... والذي لا شك فيه أيضا أن "إقبال" كان صوفيا، وكان يقدر الرياضة الصوفية ... ليس فقط لصفاء النفس والروح، وإنما أيضا للوصول إلى المعرفة "الكلية" ... ولكن مع ذلك ليس ما يذكره "إقبال" هنا، هو ترديدا للفكر الغربي ... أو أثرا للصوفية.. أو مزاوجة بين الفكر الغربي والصوفية في الإسلام معا. إن "إقبال" بالأحرى رأى ضعفا في المسلمين كأفراد وكجماعة، ورأى ركودا في أفهام المسلمين للإسلام، ورأى عزوفا من المسلمين -وبالأخص في الهند- عن حياة الواقع والحس ... رأى إنسان سلبيا في كل جانب. ورأى مع في إسلامه دينا إيجابيا في كل جانب ... رأى من جانب إنسانا لا يصلح لهذه الحياة، ورأى من جانب آخر دينا هو لهذه الحياة والحياة الأخرى معا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فإن دفع "إقبال" هذا الإنسان السلبي الضعيف للعمل في الحياة، فليدفعه بقوة، وليجعل الدافع له قوته الذاتية ... قوته الفردية التي يستمدها من ذاته هو، فهي قوة بنائية، قوة خالقة دافعة ... لا يضعف هذه القوة الذاتية فيه أثر من آثار الجماعة؛ إذ هو منشئ الجماعة. وعندئذ يبدو "إقبال" في جانب الفرد -أو في جانب الذاتية الفردية- أنه تأثر بـ"هيجل" في فكرته التي تقوم على "أنا" وبـ"نيتشه" في فكرته التي تقوم على تمجيد القوة, وقوة الفرد وحدها، وبـ"فيشته" في فكرته في استناد الجماعة إلى الفرد وعمله". - ولكن "إقبال" في ذلك كله لم يكن إلا مسلما أولا ... - ومفكرا غربيا في الصياغة والمنهج ثانيا. إن الذاتية الفردية في الإسلام لها قيمتها ولها استقلالها، ولم تذهب في علاقة ما، ولا تفنى بحال فيما سوها: فلا الأسرة، ولا الجماعة، ولا الدولة بطاغية -في نظر الإسلام- على هذه الذاتية ولا على استقلالها، بل إن علاقة ذات بأخرى في نظر الإسلام، هي تنظيم للصلة بينهما، وليست لمحو الفوارق والخصائص والحقوق الفردية التي لكل واحد منهما، ولا يمحو قيام الأسر ملكية الذات الفردية، ولا حقها في التعبير عن الرأي، وحقها في الاعتقاد، ولا يمحو قيام الدولة حق نقد الفرد للدولة وحق مخالفتها، إن كانت هناك الملابسات التي حددها الإسلام لنقد الجماعة ومخالفتها. إن الجماعة في الإسلام، هي في واقع أمرها وحدات ذات صلة بعضها ببعض وقوة الجماعة في قوة وحداتها وأفرادها، والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. إن القرآن إن تحدث عن الجماعة، تحدث عن المؤمنين كأفراج تربطهم رابطة الإيمان بالإسلام ... فـ"أنا" الذي يبدو عند "إقبال" هو في الإسلام أولا، و"قوة" الفرد وقوة ذاتيته التي يؤكدها "إقبال" هي قوة المؤمن في الإسلام أولا، وتكوين الفرد للجماعة وللتاريخ معا، هو نظرة الإسلام إلى الفرد أولا. ثم صحبت كل هذه الآراء الإسلامية الصياغة الفلسفية الغربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ب- وإن تحدث "إقبال" عن عالم الطبيعة، وخفف من "شريته" و"نجسه" أو حاول أن يرفع منه الشر والنجس، ويجعله مجالا طاهرا للحركة والسير ... ويطلب إلى المسلم، أن يسيطر عليه في كشفه والوقوف عليه والإفادة منه, فإنه يفعل ذلك ليقضى على تهيب هذا المسلم وخوفه من الحياة؛ ليزيل من نفسه صورة "الفرار" التي تركتها الصوفية الإشراقية أو العجمية في الفكر الإسلامي، كما يقول "إقبال". إنه لا يطلب من المسلم أن يقتحم الطبيعة في كشفها ويسيطر عليها ويفيد منها إلا بدافع من الإسهام، لا بدافع من فلسفة "كومت" ... إنه إذ يصور الطبيعة للإنسان المسلم على أنها "تجلي الله" أي: على أنها ليست مادة ميتة، بل هي تتابع من أحداث الخلق, يستوحى في هذا التصوير كتاب الإسلام قبل كل شيء. فإنه لا يطلب من المسلم عن طريق "التجربة" أن يفر ويسكن في جزئيات الطبيعة ... إنه يطلب منه عن طريق التجربة أيضا، أن يصعد إلى "الذات الكلية". وبذلك يربط بين أصل الوجود من جانب، ومظهره من جانب آخر، أو يربط بين الحقيقة الكلية وتجليها ... إنه في ذلك يتبع كتاب الإسلام إذ يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1. فالقرآن إذ ينهى الإنسان عن قصد الفساد في الأرض، يعتبر الطبيعة ليست فسادا في ذاتها. وإذا ينصحه بالمشاركة في الدنيا وأخذ حظه منها، يعتبرها مجالا لنشاطه وحيويته ... وإذ يذكره في الوقت نفسه بالدار الآخرة، وبأن هذا التوجيه جميعه من الله جل شأنه: فذلك لكي يكون على علم بحقيقة الوجود كله، حتى لا تقلق نفسه من أجل المال وحده، وتكافح في سبيله خاصة. جـ- وإن لجأ "إقبال" إلى "وحدة" الوجود، فلا يلجأ إلى فكرة "اتحاد" الوجود القائمة على "فناء" وذهاب الفردية والذاتية للإنسان في "الحقيقة الكلية":   1 القصص: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 يلجأ لوحدة الوجود ليدفع فقط المسلم السلبي المعاصر إلى أن يمارس نشاطه في الحياة في قوة واطمئنان، إذ إن وحدة الوجود في نظره هي "عدم المغايرة" التامة بين الله والعالم الطبيعي؛ وبذلك يرفع في تصور المسلم "ثنائية" الاعتبار في الوجود، التي ترتبت عليها نظرية الكراهية والتوجس إلى عالم الواقع والطبيعة؛ أي: إلى عالم الدنيا ... لقد أراد "إقبال" بوحدة الوجود المزاوجة بين الروحية والواقعية، وأرا بها في عالم الإنسان المزاوجة بين الدين والدولة، فالفصل -في نظره- بين الله وعالم الطبيعة هو الفصل بعينه بين الدين والدولة في عالم الإنسان، والفصل هنا وهناك بعيد عن الإسلام؛ لأن الحقيقة في الإسلام واحدة, إن نظرت إلى أصلها كانت الله والروحانية، وإن نظرت إلى مظهرها كانت العالم المادي الواقعي، وتحقق الروحانية هو تحقق العالم ووقوعه. وكذلك تعاليم الإسلام، هي روحانية ودين طالما لم تخرج إلى نطاق التنفيذ العملي في الحياة، وهي دولة وحكومة في تنفيذها فالدولة في الإسلام هي الصورة التنفيذية للروحانية الدينية فيه. وإقبال أراد بتجديد الفكر الديني في الإسلام، أن يعيد "التوازن" الذي هو رسالة الإسلام ... كانت هناك -فيما صور به الإسلام- نفرة بين الحياة الطبيعية والعمل فيها. وكان بجانب النفرة تواكل وتراخ من الإنسان، فعلى الإنسان المسلم الآن أن يعتبر الحياة متنفس نشاطه، وعلى الإنسان المسلم الآن أن يعمل فيها. وسعادته في اعتبار الحياة متنفس نشاطه والعمل فيها تبعا لذلك.. ولكن لا على أن ينتقل مما هو فيه ليقر فيما يطلب إليه وحده، فلا يتحرك بمعرفته وراء حدود الطبيعة التي يمارس الآن نشاطه فيها، بل يجب عليه -كما يعرف هذه الطبيعة- أن يعرف أصلها الذي خرجت عنه، وهو الله أو الذات الكلية. ... نعم، يلاحظ على تفكير "إقبال": - أنه في محاولته شرح استمرار العالم، أو شرح خلوده وبقائه، يرتفع في هذا الشرح عن المستوى الديني الذي يصوره الإسلام نفسه، وبذلك يبعد في تفسير النصوص التي استعان بها عن مدلولاتها الطبيعية التي تلائم هذا المستوى ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فإذا جعل "البعث" فترة "لجرد البضائع" وربط "الدار الآخرة" بـ"الدار الدنيا" في حياة الإنسان، على أن "الآخرة" مرحلة استئناف لنشاط الإنسان في "الدنيا" فإنه يثير تساؤلا عن "التكليف" من قبل الشرع ومدته أهو في الدنيا والآخرة معا؟ وتفسيره الخلود في النار عندئذ في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} 1 بأن حقبة وفترة ما، يعطي بعدها الإنسان فترة أخرى "للبقاء" أي: للعمل الذي يدعو لبقاء الإنسان وخلوده, يرشح أن الإنسان في نظر "إقبال" مكلف في الدارين معا، وأن تكليفه من قبل الشرع مستمر هنا وهناك ... وبهذا تكون "الدنيا" والآخرة سواء في طبيعتهما وفي الهدف منهما. ولكن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها دار ابتلاء وامتحان، وينظر إلى الآخرة على أنها دار قرار وسكون، أي: دار ينقطع فيها الامتحان والاختبار، يقول الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 2 ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 3.. فالدنيا وحدها هي دار "الفرصة" للعمل، وبموت الإنسان تذهب منه هذه الفرصة، كما يوحي ظاهر هذا النص، وهذا الظاهر هو الذي يلائم المستوى الديني، أو هو الذي يلائم طبيعة الدين كرسالة سماوية، جاءت محددة وقت العمل للإنسان. ومحددة أيضا اختيار اتجاه الإنسان في الحياة. - كما يلاحظ على "إقبال" أنه يقف في تفسيره لبعض آيات القرآن، عند الحد العلمي لمدلول اللفظ ... على نحو ما يرى في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 4، فهو يفسر "الروح" هنا بالنفس الإنسانية، وبأن وظيفتها للتدبير، أخذا من قوله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 5 ... مع أن المقصود بالورح كتاب الهداية وهو القرآن؛ إذ القرآن كان موضوع الحديث قبل هذه، على نحو ما يقول جل شأنه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} 6.   1 البقرة: 162 وسور أخرى. 2 آل عمران: 179. 3 آل عمران: 91. 4 الإسراء: 85. 5 المصدر السابق: ص118. 6 الإسراء: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 كما كان هو نفسه موضوع الحديث بعدها أيضا كما تذكر هذه الآية: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} 1. وكما يستدل على أصل "الاجتهاد" الفقهي من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 2. مع أن هذه الآية في سورة العنكبوت، وهي تشير إلى "الجهاد" في سبيل الله لا إلى الاجتهاد في الفقه, وفرق واسع بين الاجتهاد والجهاد ... أما الأصل القرآن للاجتهاد في نظر الفقهاء فهو في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 3. - وقد يذهب "إقبال" في تفسير بعض آيات أخرى مذهبا علميا أو فلسفيا ويبعد المعنى عن أن يكون في مستوى توجه الإنسان المتوسط ... كما يفسر قوله تعالى: {أُمُّ الْكِتَابِ} في آية {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 4. بـ"الزمان الإلهي" وهو يشرحه على هذا النحو التالي: "وإذا ارتقينا درجة فدرجة في سلم المفارقات، فإنا نبلغ الزمان الإلهي، وهو زمان مجرد تجردا تاما عن صفة المرور والانصرام، ومن ثم فهو لا يقبل التجزؤ، والتوالي والتغير، وهو فوق القدم، لا أول له ولا آخر له, فعين الله ترى جميع المرئيات، وأذنه تسمع جميع المسموعات بفعل واحد من أفعال الإدراك غير منقسم، وقبلية الذات الإلهية لا تستند إلى قبلية الزمان بل الأمر بالعكس: إذ إن قبلية الزمان هي التي تستند إلى قبلية الذات الإلهية، وهكذا فالزمان الإلهي هو الذي يصفه القرآن بأنه: {أُمُّ الْكِتَابِ} 5. وكما يفسر قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 6: بقرب كمال الذات الإلهية إلى كمال الوجود في ذات الإنسان. إذ يقول: "على أن هناك درجات في تجلي الروحية أو الذاتية، وتجلي هذه   1 الإسراء: 88، 89. 2 المصدر السابق: ص170, والآية من سورة العنكبوت: 69. 3 المصدر السابق: ص170, والآية من سورة النساء 83. 4 الرعد: 39. 5 المصدر السابق: ص89. 6 سورة ق: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 الروحية يرتقي في سلم الوجود درجة درجة إلى أن يبلغ كماله في الإنسان ... وهذا هو السر في تصريح القرآن: أن الله، أو الذات القصوى، أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد"1. كما قد يندفع في هذا التفسير إلى رأي لا يرضى هو عنه بعد ذلك، فيقول: "والذات الأولى التي تجعل المولود يتولد، حاضرة في الطبيعة حالة فيها، يصفها القرآن بأنها: {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 2 ... فتفسيره الأول والآخر، والظاهر والباطن على هذا النحو، يختلط على الأقل بفكرة "الحلول" التي تعرف للصوفية الإشراقية أو العجمية، والتي استبعدها "إقبال" نفسه, عند شرحه لـ"وحدة الوجود"، كما رأينا فيما سبق. ولعل "إقبال" بشرحه الفلسفي أو العلمي لبعض آيات القرآن، يحاول فقط أن يوضح حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة، كما يعبر عن ذلك بقوله: "القرآن المجيد ليس كتاب فلسفة أو إلهيات، ولكن فيه هدى إلى مقاصد الحياة ورقيها، وفيه أصول فلسفة يقينية، ولو أن مسلما متفلسفا بَيّن المسائل القرآنية في ضوء الأفكار والتجارب الحديثة, ما صح اتهامه بأنه يقدم شرابا جديدا في زجاجة قديمة, كما يقول "مستر دكسن": "أنا لا أعرض أفكارا جديدة في ثياب قديمة، ولكن أبين حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة"3 ... وهو رأيه الذي أعتقد أنه عن طريقه يستطيع أن يبقى المسلم في دائرة إسلامية، ويسهم في الحقائق الواقعية، لا بتوجيه مدرسة فكرية غربية بل بتوجيه الإسلام وحده. - على أن الشيء الذي يبدو فيه ضعف "إقبال" ثقته ببعض الحركات الإسلامية الحديثة, على أنها تمثل التجديد الفكري في الإسلام, وعلى أنها تمثل الوثبة المطلوبة للعالم الإسلامي أن يقتدي بها، وربما لم يدرس "إقبال" نفسه هذه الحركة من مصدارها، بل قرأ عنها من وصف المستشرقين إياها، فصدق ما وصفوا. والمستشرقون إن وصفوا شيئا في الإسلام أو في الحركات الإسلامية على أنه حسن؛ فلأنه يصادف غرضا خاصا، يتصل بإضعاف الإسلام والجماعة الإسلامية ...   1 المصدر السابق: ص85. 2 المصدر السابق: ص122, والآية من سورة الحديد: 3. 3 محمد إقبال: سيرته، وفلسفته، وشعره: ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ويصف "إقبال" الحركة البهائية، أو البابية1: بأنها من الحركات الإسلامية التي تأثرت بالحركة الوهابية، "وليست سوى صدى   1 البابية: نسبة إلى "الباب" وهو علي محمد الشيرازي "ولد في المحرم سنة 1236هـ -26 مارس سنة 1821م"، وأعلن نفسه في 11 يونية سنة 1845م، باب المعرفة إلى الحق الإلهي، ومن أجل هذا لقب بـ"الباب". والبهائية: نسبة إلى "بهاء الله" وهو ميرزا حسين علي نوري بقزوين، وهو خليفة "الباب" على حركته، التي يعتبرها أتباعه" إصلاحا إسلاميا"، وتعاليمه كما يلي: - الله واحد، و"على مرآته التي ينعكس عليها، والتي يمكن لكل واحد أن يراه". - الله خلق الخلق بسبع صفات تسمى حروف الصدق والحق، وهي: القدر، القضاء، الإرادة، المشيئة، الإذن، الأجل، الكتاب. - السنة تنقسم إلى تسعة عشرة شهرا، وكل شهر ينقسم إلى تسعة عشر يوما، والسنة إلى ثلاثمائة وواحد وستين يوما. -الحدود ألغيت، عدا حد السرقة، وحد الزنا. - الحرية المطلقة في التجارة والعقد. - دفع "الفائدة" مباح، سواء على البضائع المباعة, أو على الحسابات المصرفية. - فريضة الصوم لمدة شهر بهائي، أي: تسعة عشر يوما من طلوع الشمس إلى غروبها، وهي على من بلغ الحادية عشرة إلى الثانية والأربعين. - ينصح بالطهارة بالماء، ولكنها ليست فريضة مكتوبة. - يجوز للمرأة السفور، وأن يتحدث إليها من غير إذن من أحد، ولكن لا تزاحم. - صلاة الجماعة أبطلت، عدا الصلاة على الميت، ومع ذلك فالاجتماع للوعظ أمر لا بأس به وقد تحول البهائيون من فرقة دينية إلى حزب سياسي، ومن دعاتهم ميرزا فضل الله، وقد اتخذت هذه الحركة مدينة "عكا" مقرا لها، وهدفها توحيد الأديان، والخطوة الأولى: ادعاء حاجة المسلمين إلى الإصلاح، أما الخطوة الثانية فهي: الحاجة إلى شريعة جديدة.= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فارسي للإصلاح الديني العربي ... فهو يراها حركة إسلامية، وإصلاحا دينيا1. مع أن البهائية مزيج عجيب من الثقافات الدينية والفلسفة، فلا يقال مطلقا: إنها تأثرت بحركة محمد بن عبد الوهاب؛ لأنها نشأت بعدها في القرن التاسع عشر. ويصف حركة التجديد التي قام بها بعض الأتراك المحدثين -وفي مقدمة الدعاة لها الشاعر "ضياء كوك آلب" بأنها حركة مثالية في إصلاح الفكر الديني في الإسلام، يصح أن تسير في طريقها بقية الحركات الإسلامية الأخرى المعاصرة, ويقول في هذا الوصف: وإذا كانت نهضة الإسلام أمرا   = وتطور أمر التعاليم البهائية، في هذه الحركة: فأصبح تعدد الزوجات مقصورا على اثنتين فقط. وأصبحت ترى صحة جميع الأديان، والكتب الدينية، وتدعو جميع أهل الملل إلى دينها دعوة واحدة لأجل توحيد كلمة البشرية، وتستدل عند دعوة كل دين بشيء مما في كتبهم، ولا سيما التوراة والإنجيل والقرآن. وكل دين نفسه صحيح، وكل دين ناسخ لما قبله، كما أصبحت تعتقد بألوهية "البهاء" -بهاء الله- "ميرزا حسين علي نوري" على نحو ما تعتقد بعض فرق الشيعة الغلاة بحلول الجزء الإلهي في الإمام. وللباب "علي محمد الشيرازي" كتاب: "البيان" وهو الذي تأول فيه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] . وقد أخرجه الشيخ عبد الرحمن تاج، كبحث للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة السربون بباريس، تحت إشراف القس المستشرق الفرنسي "ماسينيون". والبهائية أربع فرق: البابية الخلص: أتباع "الباب" على محمد الشيرازي، مؤسس البهائية. - البابية الأزلية: أتباع صبح أزل: الذي كان في قبرص. - البابية البهائية: أتباع بهاء الله ميرازا حسين علي نوري. - البابية العباسية: أتباع عباس أفندي، أحد الدعاة لهذا الدين الجديد، وكان يقيم في بيروت. 1 تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 واقعا، وأنا أعتقد أنها أمر واقع، فلا بد من أن نفعل يوما ما فعله الترك؛ فنعيد النظر في تراثنا العقلي. فإذا لم نستطع أن نضيف جديدا إلى التفكير الإسلامي العام فقد نوفق -عن طريق النقد المحافظ السديد- في كبح جماح حركة التحلل الديني، التي تنتشر بسرعة في العالم الإسلامي1. و"إقبال" نفسه، بعد ذلك، ينقل رأي الشاعر "ضياء كوك ألب" في خطوط الإصلاح للفكر الإسلامي. فيما يلي: "وللشاعر السابق -ضياء- قصيدة عنوانها: "الدين والعلم" تلقي المقطوعة الآتية منها بصيصا آخر من الضوء على الرأي الديني، الذي يتكيف اليوم في العالم الإسلامي شيئا فشيئا، يقول الشاعر: من هم أول من طالع الناس بالهداية الروحانية؟ لا ريب أنهم الأنبياء والقديسون ... فلقد أخذ الدين بيد الفلسفة في كل عقد وقاد خطاها، وبنوره وحده استضاءت الأخلاق والفنون. غير أن الدين يضعف ويفقد حماسته الأولى، ويختفي القديسون وتصبح الزعامة الروحية تراثا اسميا يرثه فقهاء الشريعة, ونجم الهدى الذي يهتدي به فقهاء الشريعة هو السنن، ويكرهون الدين على سلوك هذا المسلك. أما الفلسفة فتقول: إن النجم الذي اهتدي بنوره هو العقل، فاذهبوا أنتم إلى اليمين، وسأذهب أنا إلى الشمال ... والدين والفلسفة كلاهما يدعي "الروح"، وكلاهما يجذبها إلى ناحيته. وبينما يكون هذا الصراع محتدما، تضع التجربة حملها، فتلد مولودها وهو "العلم الواقعي" ... ويصبح هذا الزعيم الصغير الذي يقود العقل, فيقول: إن سنن الأوائل هي التاريخ، والعقل هو منهج   1 المصدر السابق: ص176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 التاريخ، كلاهما يفسر ويؤول، ويرغب في بلوغ ذلك الشيء الذي لا يمكن تحديده. ولكن ما ذلك الشي؟ أهو قلب هذبته الروح. وإذا كان الأمر كذلك فاستمع إلى كلمة البهائية: الدين هو "العلم الواقعي"، وهدفه هو تهذيب قلب الإنسان!! 1. وما ينقله إقبال عن الشاعر التركي الداعية لحركة "التجديد" الآخيرة في تركيا هو ترديد لفكرة "أوجست كومت" في الدورة الثلاثية للمعرفة من أنها تمر بالدين، ثم بالفلسفة، ثم بالعلم التجريبي، و"إقبال" ذاته يؤكد هذا الاستنتاج بقوله: "هذه هي النزعة التي ينزع إليها التركي في العصر الحديث مستوحيا -على النحو الذي يفعله- حقائق التجربة، لا تفكير الفقهاء المتفلسفين الذين عاشوا وفكروا تحت ظلال أحوال من الحياة متباينة.. ويتجلى هذا المثال الجديد على أوضح ما يكون في قصائد "ضياء" الشاعر الوطني العظيم، الذي كان لقصائده، التي استلهمها من فلسفة "أوجست كومت" أثر عظيم في تشكيل الفكر التركي الحديث2. أي فكر تركي حديث؟! أهو ترديد الفكر المادي الإلحادي للمذهب الوضعي الغربي لـ"أوجست كومت"؟! وإذا كان الشاعر التركي العظيم يعبر عن التجديد في النهضة التركية الحديثة, وما يعبر عنه هو مذهب "أوجست كومت" كيف يصح لـ"إقبال" أن يسمي "الترديد" و"التبعية" تجديدًا؟! وكيف يسمي مذهب الفكر الإلحادي المادي "لأوجست كومت" تجديدا في الفكر الإسلامي؟!   1 المصدر السابق: ص183, 184. 2 المصدر السابق: ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وكيف ينعت تركيا -لقيام الحركة التجديدية فيها على تقليد الفكر الغربي في هذا- بأنها الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة؟! إنه يقول: "إن تركيا في الحق، هي الأمة الإسلامية الوحيدة التي نفضت عن نفسها سبات العقائد الجامدة، واستيقظت من الرقاد الفكري, وهي وحدها التي نادت بحقها في الحرية العقلية، وهي وحدها التي انتقلت من العالم المثالي إلى العالم الواقعي، تلك النقلة التي تستتبع كفاحا مريرا في ميدان العقل والأخلاق"1. أي: فارق بين موقف "محمد إقبال" الآن من الفكر الغربي المادي الذي ساد القرن التاسع عشر، وموقف السيد "أحمد خان" من هذا الفكر. يوم نادى في محاولاته، الإصلاحية" بقبول هذا الفكر، ونصح شباب المسلمين في الهند بفهم القرآن في ضوئه، وبإخضاع الحياة الدينية لقوانين الطبيعة. الأمر الذي دعا جمال الدين الأفغاني، في كتابه الرد على الدهريين إلى بيان ممالأة السيد "أحمد خان" وخضوعه في ذلك للسياسة الاستعمارية في الهند؟! إن "إقبال" تأثر بالمذهب الوضعي لـ"أوجست كومت" من غير شك، ولكن لم يرض عما فيه من إلحاد، كما يبدو في كتابه. والذات الإلهية الكلية كأصل للوجود ... كيف يوفق "إقبال" الآن بين هذه النزعة الإلحادية عنده، وبين الحكم على دعوة "المساواة" التي ينادي بها الشاعر التركي "ضياء" بين الرجل والمرأة، أي: المساواة في الزواج والطلاق والمواريث: بأنها حركة إسلامية تجديدية2؟! هل إلغاء الأحكام القاطعة في الإسلام، وهي أحكام الطلاق والإرث، ثم الاستعاضة عنها بأحكام الأسرة في القانون المدني الغربي، يعتبر نموذجا للحركات الإسلامية المقبلة في البلاد الإسلامية؟!   1 المصدر السابق: ص186. 2 المصدر السابق: ص194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 إن "إقبال" نفسه استشعر ضعفه عندما وصف الحركة التجديدية في تركيا بما وصفها به، فعاد إلى المطالبة بالتحفظ في الإسلام وعدم التهور فيه، فيقول: "إنا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر الحديث في الإسلام ... ولكن ينبغي لنا أن نقرر أيضا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه: فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية -التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عرف عنها من قبل- قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرية الإنسانية العاملة الشاملة التي تشربتها نفوس المسلمين من دين الإسلام، أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح، وإذا انعدم ما يكبح جماح حميتهم الفتية، ونحن نمر الآن بعهد شبيه بعهد ثورة الإصلاح "البروتستنتي" في أوروبا، فينبغي أن لا يضيع سدى ما تعلمناه من قيام حركة "لوثر" ونتائجها، فدرس التاريخ في تعمق وعناية يظهر لنا: أن حركة الإصلاح كانت سياسية في جوهرها، وأن نتيجتها الخالصة في أوروبا أسفرت عن إحلال تدريجي لنظم أخلاقية قومية محل الأخلاق المسيحية العالمية، ولقد رأينا بأعيننا ما أسفر عنه هذا الاتجاه في الحرب العالمية الأوروبية "الأولى" التي عجزت عن التوفيق بين المذهبين الأخلاقيين المتضادين؛ بل جعلت الموقف الأوروبي أكثر شناعة مما كان عليه من قبل. والواجب على قادة الرأي في العالم الإسلامي اليوم، هو أن يفهموا المعنى الحقيقي لما حدث في أوروبا وأن يسيروا قدما نحو غايات الإسلام ومراميه مع ضبط النفس والبصيرة الثاقبة"1. إن "إقبال" يبعد عليه في نظري أن يكون متناقضا؛ إذ يعد الحركة التجديدية في تركيا التي قادها الشاعر "ضياء كوك ألب" نموذجا للحركات الإسلامية الحديثة مرة، ثم يطلب الحيطة والتحفظ في التجديد وفي قبول الفكر الحر "المادي" مرة أخرى ... إنه يأخذ من جديد على هذا الشاعر العظيم "كما وصفه من قبل" أخطاءه في فهم الإسلام كنظام للمجتمع، وبالأخص ما يتعلق بأمر الأسرة، فيقول: "أما فيما يتعلق بما ينادي به الشاعر التركي "ضياء كوك ألب" فإني أخشى أنه يبدو قليل العلم بقانون   1 المصدر السابق: ص187، 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الأسرة في الإسلام كما يظهر أنه لا يفهم المعنى الاقتصادي لقاعدة التوريث كما جاءت في القرآن، فالزواج في اعتبار الشريعة المحمدية عقد مدني. وللمرأة أن تشترط عند الزواج أن تكون عصمتها بيدها. فيكتمل لها بهذا حق المساواة في الطلاق، والإصلاح الذي يقترحه الشاعر لنظام التوريث1 يقوم على فهم خاطئ، وينبغي أن لا يستنتج من اختلاف الأنصبة الشرعية, أن القاعدة تفترض تفوق الرجل على المرأة، فمثل هذا الافتراض يكون منافيا لروح الإسلام إذ يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} 2. "والحقيقة هي: أن المبادئ التي قام عليها نظام التوريث في القرآن، ذلك الفرع من التشريع الإسلامي الذي يصفه "فون كريمر" بأنه بالغ الحد في أصالته وابتكاره، لم تلق بعد من مشرعي الإسلامي ما تستحقه من عناية. فالمجتمع العصري، بما فيه من كفاح مرير بين الطبقات، يجب أن يحملنا على التفكير, ولو أننا درسنا شريعتنا بالنسبة للانقلاب المنتظر في الحياة الاقتصادية الحديثة، فإن من المرجح أن نكشف في أصول التشريع، عن نواح جديدة لم تنكشف لنا بعد مما يمكننا أن نطبقه بإيمان متجدد بحكمة هذه المبادئ"3. يبعد على "إقبال" إذن أن يكون متناقضا في الرأي، ... وهو رجل مؤمن إيمانا عميقا بالرياضة الصوفية السليمة، ومؤمن بإسلامه إيمانا حقا، وبصلاحيته للتوجيه في الحياة المتجددة، ومؤمن في الوقت نفسه بعدم التخلي عن الحياة الواقعية ...   1 يرى الشاعر: "أن تنشئة الأسرة يجب أن تجري على أساس العدالة ... ولهذا لا بد من مساواة المرأة والرجل في ثلاثة أمور: في الزواج، والطلاق، والميراث، وما دامت المرأة تعد نصف الرجل في الميراث، وربعه في عدد الأزواج، فلن ترقى الأسرة، ولن ترقى البلاد, لقد فتحنا للقضاء محاكم وطنية تقضي في الحقوق الأخرى، وتركنا الأسرة في أيدي مذاهب الفقهاء ولا أدري لماذا تخلينا عن نصرة المرأة؟ أليست المرأة تعمل في سبيل البلاد؟ أم يجب عليها أن تثور، وتتخذ من إبرتها سلاحا فاتكا تنزع به حقوقها من أيدينا؟ "، كتاب تجديد الفكر الديني في الإسلام: ص186. 2 البقرة: ص228. 3 المصدر السابق: ص195، 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 إن السبب في تمجيد "إقبال" للحركة التجديدة في تركيا، اتباعه للمستشرقين في ذلك.. هو تقليد لهم في الرأي، وليس نتيجة مباشرة لدراسته هذه الحركة. وإن أي مفكر يقدر قيمة الفكر، لا يصف هذه الحركة التركية إلا بأنها تقليد في غير وعي للغربيين، وأنا أقصد "في غير وعي" لأن الباعث عليها الرغبة في أن تكون تركيا من "أوروبا" لا من آسيا، وأن يكون للأتراك طابع الغربيين لا طابع الشرقيين، فيما هو ممدوح ومذموم، كما طلب لمصر يوما ما صاحب "مستقبل الثقافة في مصر"، فهي حركة اندفاعية لا حركة متئدة تتخير وتقدر في تخيرها الاحتفاظ بشخصية "الأمة" أو الجماعة. اليابان جددت حقا؛ لأن حركتها التجديدية قامت على التخير، دون "الاندفاع" اليابان ظلت شرقية، ومع ذلك تفوقت على الغرب في مجال الصناعة، وفي المجتمع وتماسكه قبل ذلك، كمجتمع له شخصية بارزة. أما تركيا فليس لحركتها طابع معروف حتى اليوم، فلا هي بالشرقية ولا هي بالغربية ... يجعلها الغرب "غربية" في اللحظة التي يريد أن يحرضها على الإمعان في البعد عن الإسلام والجماعات الإسلامية, وفي مقدمة هذه الجماعات الشعوب العربية؛ لأنه نزل بلغتها القرآن، ويجعلها "شرقية" يوم يتحدث عن حضارتها المعاصرة بأنها حضارة مستعارة من الغرب ليس لها فيها إلا التقليد الأعمى!!! من السهل على الفرد، وكذا على الجماعة، أن يهدم ويلغي، ولكن ليس من السهل أن يبني ... وأشد عسرا أن يكون أصيلا في البناء! إن تركيا الحديثة، مظهر تجديدها إلغاء الدين، وفقدان شخصيتها، وتبعيتها تبعية مطلقة في السياسة والتوجيه، والاقتصاد، للغرب الصليبي!. ولأن "إقبال" يمجد نهضة تركيا الحديثة من جانب، ويشجع الرياضة الصوفية من جانب آخر, يمتدحه المستشرقون في حديثهم عند تعرضهم للحركات الإسلامية المعاصرة، ويذكرون له من حسناته فقط هذين الأمرين بينما يعيبون عليه في الوقت نفسه رأيه في أن الإسلام دين ودولة معا، وفي أن الحقيقة الإسلامية أمر واحد لها اعتباران فقط. يعيبون عليه أكثر من تشجيعه قيام دولة إسلامية على أساس إسلامي, مع عنايته تمام العناية بنفس الطابع الثيوقراطي عن الدولة التي تقوم على هذا الأساس الإسلامي. - وحسن ظنه بالمستشرقين جعل فيه نقطة ضعف أخرى, وهي ثقته فيما يكتبون، وتقبله له دون امتحان لم يكتبونه، فهو مثل يستحسن ما كتبه "هورتن" Horten الذي كان يوما ما أستاذا للغات السامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 بجامعة بون, عن الإسلام في مجال الفقه، أو مجال الفلسفة والكلام، و"هورتن" ليس العالم الذي يكتب عن بحث ودراسة، أو فهم ودقة في الفهم، فضلا عن أن يكون له طابع الباحث العلمي، وهذا هو تقديره في ميدان الاستشراق الألماني. كما أن حسن ظنه بالمستشرقين قد يجعله يوافق على حل لمشكلة، قام على أساس عقيدة مسيحية، تتنافى هذه العقيدة مع العقائد الأساسية في القرآن؛ لأنه ردد هذا المحل بعض علماء اللاهوت المسيحيين المشتغلين بالدراسات الإسلامية فيذكر مثلا مشكلة "الشر" في العالم، ثم يطلب حلها في رأي بعض هؤلاء ويوافق عليه، ويقول في ذلك: "وإذا كانت الإرادة الإلهية التي يحددها العقل إرادة خيرة، فإن معضلة جديدة تعترض سبيلنا، تلك هي: أن سير التطور كما أظهره العلم الحديث, يتضمن آلاما وظلما تكاد تشمل العالم كله، ولا شك أن الظلم مقصور على البشر وحدهم، ولكن ظاهرة الألم تكاد تكون عامة، وإن كان من الحق أيضا، أن البشر في مقدورهم احتمال الألم، وقد احتملوا المرير منه في سبيل ما اعتقدوا أنه خير. وهكذا، فإن حقيقتي الشر الأخلاقي، والشر المادي, تبرزان في الوجود الطبيعي, وليست نسبية الشر, ووجود قوى تعمل على تبديله، بمصدر عزاء لنا؛ لأنه على الرغم من كل هذه "النسبية" وهذا "التبديل". فإنه فيه ناحية إيجابية رهيبة، فكيف يمكن إذن التوفيق بين قدرة الله المطلقة واتصاله بالخير، وبين شيوع الشر في خلقه؟؟ "وهذه المعضلة هي في الواقع مشكلة الألوهية ... ولم يتناول واحد من الكتاب المحدثين تقرير هذه المعضلة تقريرا أدق وأوفى، مما كتبه "نومان" Naumann في كتابه: "رسائل في الدين" إذ قال: إن لنا معرفة بالكون ترينا إله قوة وقدرة، يبعث الحياة والموت متلازمين تلازم الظل والنور، وتعلمنا كذلك عقيدة "النجاة والخلاص" إذ تقرر: أن هذا الإله نفسه هو أب البشر, فالتأسي بإله العالم يولد خلق الكفاح في سبيل الوجود. وعبادة أبي: "يسوع المسيح" تبعث خلق الرحمة، ومع هذا فهما ليسا إلهين، بل هما إلها واحد تتشابك ذراعاهما بطريقة ما، غير أنه لا يستطيع مخلوق أن يقول: وأين؟؟ وكيف يحدث؟؟ ". إن "إقبال" في تجديد الفكر الديني في الإسلام, كان جامعيا في محاولته ... في عمله الفكري للخاصة، وفي اعتبار هذا العمل لجيل معين, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وهو جيل التفكير الوضعي، أو التفكير المادي الإلحادي، وهو لهذا يعتبر عملا فكريا مضادا لحركة "التجديد" في الفكر الإسلامي في مصر، التي يتزعمها بعض التابعين للفكر الاستشراقي، أو بعض المرددين للفكر الآخر المادي الإلحادي، الممثل في وضعية "كومت" وماركسية "ماركس". و"إقبال" بهذا، يعتبر المصلح الفكري في الإسلام في الوقت الحاضر، ويتميز بذلك عن الشيخ محمد عبده في اتجاهه الإصلاحي؛ ولكن لأن محاولة "إقبال" الفكرية هي محاولة للخاصة، فهي في حاجة إلى حركة الشيخ عبده؛ كي تكون حركة إصلاحية فكرية عامة للجماعة الإسلامية في كل طبقاتها. والعصر الحاضر يتطلب، بالإضافة إلى هاتين الحركتين، حركة أخرى فكرية تقوم على بيان "التوازن" في رسالة الإسلام، الفرد والجماعة على السواء. إن لكل من حركتي "محمد عبده" و"إقبال" اعتبارها في مواجهة ما سيطر على وقتهما من فكر وتوجيه أجنبي ... - كان "الاستعمار" فكانت حركة الشيخ عبده بعد جمال الدين الأفغاني. - وكانت "الوضعية" و"الماركسية" فكانت حركة "إقبال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الباب الخامس: الإسلام غدا مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية : رأينا الآن، أن الإسلام منذ الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية في آسيا وإفريقيا، من منتصف القرن التاسع عشر حتى اللحظة القائمة، يواجه صليبية هذا الاستعمار جنبا إلى جنب مع مواجهة سلطانه السياسي والاقتصادي ... وهذه الصليبية ليست المسيحية السمحة، وإنما هي "روح الانتقام" من الإسلام: تلك الروح التي بعثت فيما مضى على الحروب الدامية في القرون الميلادية الثلاثة: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، محاولة الاستيلاء على بيت المقدس، وبقيت منذ هزيمتها الكبرى على يد "الناصر صلاح الدين" مصاحبة لعقلية الغرب في عرضه للإسلام، وفي تصرفاته مع المسلمين على السواء، ولم تزل فيه باقية صحبة هذه العقلية حتى اليوم. وبعد انتشار الفكر المادي الإلحادي الغربي في بلاد الشرق الإسلامي منذ أعقاب الحرب العالمية الأولى، واجه الإسلام -بالإضافة إلى مواجهته الصليبية السابقة- حملة هذا الفكر ومذاهبه، ولم يزل يواجهه في وقتنا الحاضر، وبالأخص "الماركسية" الإلحادية. ورأينا أيضا، أن هذه المواجهة كانت على حساب الإسلام مرة، وفي جانبه مرة أخرى. أما في المرأة التي كانت على حسابه: فكانت إصابته من هذه المواجهة إصابة عنيفة: إذ حلت العصبيات الشعوبية محل الرباط الإسلامي العام، وبرزت الحدود والفواصل وخلقت خلقا في الوطن الإسلامي، دون أن تعتمد اعتمادا دقيقا على المكان الجغرافي أو خصائص الجنس، وإنما تعتمد أولا وبالذات على الحدود، "المفترضة" التي وضعها المستعمر وقواها، حتى يحول دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الترابط النفسي بين الشعوب الإسلامية في الآمال والكفاح قبل أن يحول دون الاختلاط المكاني أو الزماني. كما تأثرت عقليات بعض الكتاب من الأدباء، والساسة، في الشرق الإسلامي بتفكير الغرب المادي وبحضارته الصناعية، وحملت هذه العقليات لواء الدعوة إليه، ونجحت هذه الدعوة في تركيا، بالحركة الانقلابية التي قادها "كمال أتاتورك" بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن ما كان لها أن تنجح هذا النجاح الظاهر، وتسير حتى الآن، دون عون سياسي وثقافي من "الخارج"!! وقد تبادل النظام الشيوعي هذا العون من تركيا أولا، ثم حل محله في المعاونة النظام الديمقراطي الغربي الذي تتزعمه أمريكا في الوقت الحاضر؛ فجزء واضح من نشاط السياسية الأمريكية -على الأقل النشاط الجامعي، ونشاط المؤسسات الاجتماعية- في خدمة استقرار "الانقلاب أو التجديد التركي" داخل تركيا، وفي خدمة الدعاية له خارج ديارها، بين الشعوب الإسلامية الأخرى، وهناك مبالغ لا يستهان بها من المؤسسات الأمريكية الرأسمالية، تزاد من عام إلى عام، تحت عنوان "الخدمات الإنسانية" لهذا الغرض، ينفق جزء منها على الدراسات الإسلامية الموجهة في أقسام ملحقة بالجماعات الأمريكية المشهورة، بينما الجزء الآخر ينفق على مؤسسات الطباعة والنشر، ومكاتب الخبرة أو البحوث الموزعة توزيعا منظما في عواصم بلدان الشرق الأوسط، والتي تعنى أو تتصل بالدراسات الإسلامية أو بدراسات الشرق الأوسط. ويضاف إلى حساب خسائر الإسلام في مواجهته للصليبية والماركسية "الفراغ" الذي خلفه ركود الفكر الإسلامي في نفوس المعاصرين من المسلمين, والذي هيأ فرصة لقبولهم تحريف الصليبية للإسلام باسم دراسات الاستشراق ثم بقبولهم إلحاد الماركسية باسم العلم "Seince" وهذا الفراغ في نظري أشد خطرا على الإسلام، من الهجوم المباشر الصليبي أو الماركسي عليه. أما ما أفاد الإسلام من مواجهة الصليبية والماركسية أو من الاحتكاك بهما فهو: - إيقاظ الوعي الإسلامي الذي صاحب الحركات التحريرية التي قامت بها الشعوب الإسلامية ضد الاستعمار الغربي، وذلك بفضل جمال الدين الأفغاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الذي تزعم إيقاظ هذا الوعي, والذي ركز نشاطه في رحلاته إلى مصر، والهند وتركيا، وأفغانستان، وبقية البلاد الإسلامية، لإثارة المسلمين بدافع من دينهم لمقاومة المستعمر وعدم التعاون معه من جانب، وتأكيد أواصر الأخوة بينهم بطرح الفوارق المذهبية، وعلى الأخص ما بين السنة والشيعة، والاحتفاظ بوحدتهم في دفع الخطر الصليبي عنهم، من جانب آخر. وجمال الدين الأفغاني -يعتبر من غير شك- الزعيم الشرقي المسلم لجميع الحركات الثورية ضد الاستعمار الغربي في الشرق الإسلامي. ولم يكن لجمال الدين بقية من نشاط، فوق ما بذل وعانى فيما بذل منه يصرفها فيما وراء إيقاظ الوعي الإسلامي في مجالسه الخاصة والعامة. - المحاولات الفكرية الإسلامية التي قام بها محمد عبده قبيل آخر القرن التاسع عشر، ثم قام بها "إقبال" في النصف الأول من القرن العشرين ... وما قام به محمد عبده أثمر سلسلة من المفكرين المستنيرين في فهم الإسلام، بمصر وشمال إفريقيا، وسوريا ولبنان، كان لهم نشاط منهجي، وآخر موضوعي في الفكر الإسلامي، وإن لم يصل إلى درجة أن يكون مدارس مستقلة في الإصلاح الإسلامي ولكنه رغم ذلك، كان له أثره حتى اليوم في الكتابات الإسلامية المتسمة بطابع الفهم السليم لمبادئ الإسلام، وظروف المجتمع الحديث، وما قام به "إقبال" بعده أثمر تأسيس دولة الباكستان، ووضع دستور إسلامي لها على أساس من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الإسلام فوق الزمان والمكان : نعم، الإسلام من حيث هو مبادئ، لا يتوقف اعتباره على مكان معين، ولا على جيل من البشر.. وكما ذكر "إقبال": الإسلام بما اشتمل عليه من مبدأ "الحركة" يعيش مع الإنسان المتحرك، وفي العالم المتغير المتطور. فهو لا يؤرم بالصليبية ولا بالماركسية، إذ طالما كانت له طبيعة الموجود الخالد، ولا يضار بالهجوم عليه من هنا أو هناك؛ لأنه عندئذ لا يقبل الفناء ... فخلود الإسلام في رسالته، ورسالته "التوازن": التوازن في قيادة الفرد لنفسه، والتوازن في علاقة أفراد الأسرة الواحدة بعضهم ببعض، والتوازن في علاقة الأفراد جميعا، ما بين جار قريب وبعيد، وما بين حكام ومحكومين. ولكن الذي يجوز أن يؤرم -ولا أدري إذا كان يمكن أن يصرع في يسر أيضا- هو المسلم.. والمسلم هو إذن، موضوع الهجوم في حملات الصليبيين والماركسيين، والآثار السلبية لهذا الهجوم تنال منه، إن قدر لها أن تصيب، أكثر مما تنال من الإسلام. والسؤال الذي يجب أن يلقى الآن، هو: إذا كانت حملات الغرب الاستعماري -سواء من الجانب الصليبي أو الجانب الماركسي- تجد "فراغا" عند المسلمين حال دون ملئه حتى الآن ركود الفكر الإسلامي، وعدم قيامه بالدور الإيجابي في حياتهم المعاصرة، فما هي النسبة التي يملأها "الإصلاح الديني" الحديث من هذا الفراغ؟؟.. إن مستقبل الإسلام في الجماعة الإسلامية يتحدد بناء على جواب هذا السؤال، وهذا الجواب يرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع "الثقافة" الذي يتثقف بها المسلم في الشرق الإسلامي. والثقافة في هذا الشرق الإسلامي, لم تساير الحركات التحريرية التي قامت فيه أول الأمر لمنازلة المستعمر، ولا ما صاحبها من وعي إسلامي عام. وتخلت الثقافة عن هذه الحركات، ولم تعن بتوضيح الوعي الإسلامي الذي صاحبها، ولذا بقي هذا الوعي"شعارا" و"نسبة" فقط؛ يحمله المسلم كعنوان له، ولا يدرك من إسلامه إلا أنه ينتسب إلى الجماعة الإسلامية فحسب. ونتج عن هذا التخلف: تلك "الانفصالية" التي أرادها المستعمر الغربي منذ أن وضع قدمه في بلاد المسلمين، وهي الانفصالية في توجيه المسلم، وبعبارة أخرى هي"دفع" الإسلام عن أن يكون ضمن موضوع ثقافة المسلم المعاصر، ونشأ عن هذه الانفصالية، ذلك "الفراغ" عند المثقفين من المسلمين، ولم يستطع نمو الحركات التحريرية التي أخذت بعد جمال الدين الأفغاني الطابع السياسي القومي، أن ينال من هذه الانفصالية، بل بالعكس كلما تقدمت هذه الحركات خطوة نحو "الاستقلال السياسي" كلما اتسع البعد في هذه الانفصالية؛ لأن الاستعمار الغربي الصليبي كان يضع شروطا للموافقة على الخطوات الاستقلالية في البلاد الإسلامية، من شأنها أن تزيد في عمق هذه الانفصالية، كشرط "حماية الأقليات" في معاهدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 1925 بمصر. وشرط تعهد الحكومة المصرية باتباع "روح" التشريع الغربي في معاهدة "مونترو" سنة 1938، وأمثال هذين الشرطين فيما عقد من اتفاقيات بين المستعمرين الغربيين، وبين دعاة "الاستقلال" في البلاد الإسلامية الأخرى، وهدف هذين الشرطين واضح، وهو عدم احتضان الإسلام والأخذ بتعاليمه في حياة الجماعة الإسلامية، سواء في توجيه المسلمين عن طريق الثقافة المدرسية أو الجامعية أو ممارسة الفصل والقضاء في الخلافات التي تقع بينهم. وتحولت بذلك الحركات التحريرية إلى حركات "عزل" الإسلام عن الحياة العلمية العامة للجماعات المسلمة، بعد ما أصبحت حركات "استقلال سياسية" ثم نفذ الفكر الغربي الاستشراقي الإلحادي المادي منه، إلى "البعد" الذي أوجدته الانفصالية السابقة، وكلما بعد الطرف الإسلامي في هذه الانفصالية، كلما نفذ الفكر الغربي السابق، وكلما قرب إلى دائرة "الفراغ" المتخلف؛ بل كلما اقتحمه وملأ منه جزءا بعد جزء. وفي وقت بلغت فيه الحركة الاستقلالية السياسية حدا فاصلا في تاريخ الاحتلال الغربي لمصر -وهو وقت معاهدة سنة 1936، بما لها من ظروفها إذ ذاك- ظن أحد الكتاب المعاصرين أن الوقت قد آن لإعلان التخلص نهائيا من الإسلام واللغة العربية، فنادى في عام 1938 بتقليد الغربيين في ثقافتهم وفي تفكيرهم وفي تعلم لغتهم قديمها وحديثها حرفا بحرف، بما في ذلك من خير وشر، وممدوح ومذموم!! أو بعبارة أخرى طلب هذا الكاتب من الحكومة وقتئذ، إعلان هذه "الانفصالية" بصفة قاطعة حتى لا يكون هناك كفاح بين القديم والجديد، وحتى يشعر المصريون بالاطمئنان إذا ما مضوا ثقافيا وروحيا إلى مجموعة شعوب البحر الأبيض المتوسط, وهي الشعوب الإيطالية، والفرنسية، واليونانية، ولاقى هذا النداء ترحيبا في بعض الطبقات، كما شجع كثيرين من الشبان في كتاباتهم ضد "القديم" بناء عن تقليد وتبعية فحسب، ولحق معنى "القديم" عندئذ معنى آخر هو التخلف أو البدائية، كما لحق معنى "التجديد" معنى التقدم والحضارة!! واستمر هذا الوضع، على عهد دعاة الاستقلال السياسي، طوال النصف الأول من قرننا الحاضر، إلى أن جاء التحول الأخير في السياسة التحريرية سنة 1952، وتبعته محاولة "تصفية" ماضي الاستعمار في الثقافة والتوجيه، وفي مقدمة بقايا هذا الماضي: تلك "الانفصالية" التي أشرنا إليها، في موضوع الثقافة المدرسية والجامعية، ولكن هذه التصفية -فيما أعتقد- تحتاج إلى وقت، حتى يضعف أثرها السلبي في التوجيه، وتحتاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 قبل الوقت إلى "تربويين" من صنف آخر، لا يعيشون على آثار مدرسة "ديوي"1. وإنما يفهمون معنى "المواطن" فهما صحيحا، وأنه يعيش على ماض، بروح الحاضر, متطلعا إلى المستقبل، وماضيه هو الذي يكيف شخصيته الخاصة، التي يتميز بها عن معاصر معه في وطن آخر، والتي يقوم عليها مستقبل "وطنه" ذلك الوطن الذي يعيش هو فيه، ومن أجله. ولكن محاولة تصفية ماضي الاستعمار في الثقافة والتوجيه، وقفت -حينا- عند برامج المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم، ولم تتخطاها حتى الآن إلى مؤسسة أكثر أهمية وأبلغ أثرا في الحياة العامة، والحياة الجامعية الخاصة في مجال الدراسات الإسلامية، وهي "الأزهر" حتى صدر القانون بتنظيمه الجديد في صيف عام 1961.   1 هو الفيلسوف الأمريكي John Dewey "ولد سنة 1859"، ومؤلفاته "تأثير داروين على الفلسفة" سنة1910، و"الديمقراطية والتربية" سنة 1913، و"الطبيعة والتجربة" سنة 1925. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الفراغ في الحياة التوجيهية العامة : وبجانب انفصال موضوع الثقافة، وعزله عزلا تاما عن الإسلام، ذلك الانفصال الذي هيأ للفكر الغربي الاستشراقي والمادي فرصة قبول المثقفين له، دون أن يجدوا في ثقافتهم التي يحملونها وفي أنفسهم ما يناقش هذا الفكر, حتى يكون قبولهم إياها نتيجة اقتناع وتأمل, وجد فراغ آخر في الحياة التوجيهية العامة، وهي حياة الجماهير من العمال والفلاحين. وهذا الفراغ سببه عزلة الأزهر عن الحياة الجارية، وهي عزلة رسمت له في ظل الاستعمار، أو عاون على بقائها الاستعمار، وأصبحت حياة العمال والفلاحين خالية من توجيه صالح يعالج لهم مشاكلهم اليومية، والمشاكل الأخرى التي تأتي بها الحضارة الحديثة، وخضعوا للأنانية في حل هذه المشاكل وللتيارات السطحية التي تحملها الدعاية المغرضة لمذهب من المذاهب الإنسانية المعاصرة, وتقلص الإسلام من جديد في حياة العامة كما تقلص من قبل في ثقافة المثقفين، وسارت حياة الطرفين تحت تأثير "الصدفة" وتحت ما يجد من نزعات فكرية توجيهية، من وقت لآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وتعقدت حياة الفلاح والعامل ... - وزادت مشاكلهما في الأسرة بسبب فهم تعدد الزوجات، والطلاق، وفهم "التوكل على الله". وأثر ذلك على مستقبل الأسرة. - واضطراب رأي الفلاح في "التعاون" الاقتصادي، والتأمين على الثروة الحيوانية، وفي استخدام وسائل الحضارة الحديثة في الزراعة لتقليل نفقات الإنتاج مع الزيادة في كمه ونوعه. - واضطراب رأي العامل في الصلة التي بينه وبين صاحب العمل، وفي تقدير رأس المال الدائر في تشغيل العمل. - وحجز الثري مدخراته من المال عن تشغيلها في سوق الصناعة، أو عن التعامل بها في السوق المالية بوجه من الوجوه. وسبب هذا كله "سوء فهم" لهذه المشاكل ... ولا يرفع سوء الفهم هذا في حياة الجماهير إلا توضيح موقف الإسلام من كل مشكلة من هذه المشاكل. ولقد أراد الاتجاه الحديث في الإدارة الحكومية بعد الحرب العالمية الثانية، أن يعمل على حل هذه المشاكل في حياة الفلاح والعامل، وحياة الجماهير على العموم باسم "الإرشاد الاجتماعي"، و"الخدمة الاجتماعية" و"التوجيه الريفي"، وما شاكل ذلك من منظمات، ومع هذا لم تصل هذه المنظمات -رغم ما توفر لها من إمكانيات- إلى جذور هذه المشاكل في نفس الفلاح والعامل؛ لأن هذه الجذور مشتبكة اشتباكا قويا مع نوع "الإيمان" الذي يسكن نفس كل منهما من قبل، وهو إيمان اختلط فيه التسليم بالخرافة وغشي عناصره سوء الفهم، أو سوء التبصير، وكان ذلك نتيجة "للفراغ" الذي ذكرناه وهو أمر ترتب بدوره على عزلة الأزهر عن الحياة الجارية. وكلا النوعين من "الفراغ": في حياة المثقفين، أو في حياة الفلاحين والعمال، أتاح الفرصة لغير الإسلام في التوجيه، وفي التطبيق العملي في الحياة. واتجاه الصليبية في الدراسات الاستشراقية للإسلام، إن اتخذ -بحكم طبيعته- من المثقفين أو من الذين يباشرون شئون التثقيف مجالا لنشاطه، فالفكر المادي الإلحادي في صحبة الدعوة الماركسية يستطيع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يكون له مجال أوسع، يتناول المثقفين وغيرهم من طبقات الجماعة؛ لأنه كما ذكرنا له جانب أكاديمي وجانب آخر شعبي ولو أن الإصلاح الديني، في مقابل ذلك كان متتابعا، وله دعاة يزداد عددهم بانقضاء الزمن، وكان متنوعا في مجال الفكر الأكاديمي، وفي مجال الدعوة الدينية، لرجح جانب الإسلام في الاحتكاك مع الصليبية والماركسية، ولاستطاع -بعد فترة قصيرة في حياة الأمم- أن يملأ ذلك "الفراغ" سواء في حياة العامة أو حياة الخاصة، ولكن انقطاع الإصلاح في الفكر الإسلامي، وظهوره من فترة إلى أخرى, مضافا إلى قلة أعوانه، وضيق نطاقه، يجعل من الصعب التنبؤ بالنتيجة الأخيرة لهذا الاحتكاك، وإن كان يجعل من السهل تصور طول الزمن الذي سيمر به كفاح الإسلام, وكذا تصور المرارة التي يحملها هذا الكفاح إليه. أما أنه من الصعب التنبؤ بالنتيجة الأخيرة لهذا الاحتكاك، فإن يقظة الوعي الإسلامي -وإن كانت لا تقوم على فهم سليم للإسلام أو على قوة الإيمان به إلى حد التضحية في سبيله، بل تقوم أكثر على تعصب المسلمين له، كمصدر ينتسبون إليه- وتزايده، كلما اشتدت صليبية الغرب أو ماركسية الشرق ضغطا على المسلمين، ولا يسهل احتمال "سقوط" الإسلام في ميدان هذا الاحتكاك. أما طول الزمن الذي يجب أن يمر به كفاح الإسلام، وأما شدة المرارة التي ينتظر له أن يذوقها في صراعه مع الصليبية والماركسية, فذلك مرتبط بوضع الإصلاح في الفكر الإسلامي قوة وضعفا، وهذا الإصلاح نفسه مرتبط في حاله، بالقائمين بشأنه، وبالمؤسسات الإسلامية، التي لها طابع البحث أو الدعوة في مجال التعاليم الإسلامية. وفي مقدمة هذه المؤسسات: الأزهر. هناك ضعف لا شك فيه: - إن قبول بعض الكتاب المسلمين -هنا في الشرق الإسلامي- تفكير القرن التاسع عشر الاستشراقي والمادي الإلحادي، وقبولهم أيضا هجوم بعض كتاب الغرب في القرن السابق على الكنيسة الكاثوليكية هناك، ومحاولتهم تطبيق ذاك الهجوم هنا على الإسلام والعلماء، وتأثر كثيرين بهذه المحاولة، ليس آية فحسب على وجود "الانفصالية" في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الأزهر : وفي مقدمة هذه المؤسسات: الأزهر. هناك ضعف لا شك فيه: - إن قبول بعض الكتاب المسلمين -هنا في الشرق الإسلامي- تفكير القرن التاسع عشر الاستشراقي والمادي الإلحادي، وقبولهم أيضا هجوم بعض كتاب الغرب في القرن السابق على الكنيسة الكاثوليكية هناك، ومحاولتهم تطبيق ذاك الهجوم هنا على الإسلام والعلماء، وتأثر كثيرين بهذه المحاولة، ليس آية فحسب على وجود "الانفصالية" في التعليم، التي عاون عليها الاستعمار الغربي والتي لم تزل رواسبها باقية، وربما تبقى قوية فترة أخرى من الزمن, بل آية أيضا من جانب آخر على أن الأزهر لم يؤد رسالته، أو لم يتمكن فيما مضى من أداء رسالته كما يجب، وإلا لقضى على هذه الانفصالية منذ زمن طويل، أو على الأقل لاستطاع أن ينفذ بتعاليم الإسلم إلى نفوس المثقفين المدنيين!! وهناك إذن لا شك "ضعف" في الأزهر. - وآية أخرى على هذا الضعف، بقاؤه في عزلة عن مواجهة المذاهب الاقتصادية الاشتراكية، ببيان "توازن" الإسلام من الجانب الاقتصادي في حياة الجماعة, وكذلك بقاؤه في عزلة أيضا عن أن يبدي الرأي في حل المشاكل الاجتماعية التي تعانيها اليوم الشعوب الإسلامية من وجهة نظر الإسلام، ولعلنا نذكر كيف أن "إقبال" تطلع فيما سبق إلى جود بحوث فقهية اقتصادية اجتماية إسلامية، يتغلب بها على الأزمات الحالية في الجماعة الإسلامية, ويقابل بها نظم الغرب الاشتراكية. - وآية ثالثة على هذا الضعف: أن تفكير الشيخ محمد عبده الإصلاحي قُبل وإنما خارج الأزهر، بينما عورض معارضة قوية داخل الأزهر، ولم تزل هذه المعارضة تظهر من وقت لآخر في صورة فتاوى رسمية حتى الآن.. فالفتوى بتمجيد تعدد الزوجات، وبتحريم ترجمة القرآن، وبصلاحية الإسلام للشعوب البدائية فحسب، تمثل معارضة واضحة لتفكير الشيخ عبده الإصلاحي في داخل الأزهر، كما تمثل في الوقت نفسه جمودا في فهم الإسلام. هناك ضعف لا شك فيه ... وسببه أن الأزهر دار بتفكيره في صورة معينة، انقطع بها عن صورة الحياة التي تمر عليه، ولكنها لم تستطع أن تنفذ إلى داخله فتلتقي بالصورة التي يحتفظ بها، وتتفاعل معها، وما سمي بإصلاح للأزهر في فترات متكررة يشبه مرور صورة الحياة القائمة عليه، دون أن تنفذ إلى داخله فتتفاعل مع ما له من صورة أصيلة، وإصلاح الأزهر لذلك كان "إضافات" ملحقة، وظلت إضافات تابعة، لم تتكون منها ومما كان يعنى به الأزهر من قبل ... "ذاتية" واحدة. طلب "إقبال" في "تجديد الفكر الديني في الإسلام" تأكيد صلة المسلم بالعالم المادي الواقعي، وتنحية نظرة التصوف العجمي من حياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 المسلم، وهي النظرة إلى هذا العالم على أنه "شر" يجب الهرب منه، وعلى هذا النحو ظلت "الإضافات" التي أضيفت إلى الفكر الأزهري التقليدي، بمثابة هذا العالم الواقعي في نظر التصوف العجمي. هذا "الانقطاع" عن الحياة "كان واضحا في حياة الأزهر في القرن التاسع عشر" وكان هو نفسه مركز إصلاح الشيخ عبده إذ ذاك، فيما سماه: إصلاح الأزهر، وإصلاح المحاكم الشرعية، وإصلاح الوعظ والتدريس، وإصلاح اللغة العربية، وأحس المستعمر الغربي بهذا الانقطاع فساعد على تقويته، عندما تولى الإشراف على التعليم، وحال دون مباشرة المتخرجين في الأزهر التعليم الرسمي في أية مرحلة من مراحلة، إلا إذا اعدوا إعداد خاصا رسمه هو، بدعوى عدم ملاءمتهم للعصر وروحه!! لم يعن الأزهر عناية جدية بتعليم اللغات الأوروبية1، ولا بمنهج البحث الأوروبي في دراساته ... ومن ثم كانت استطاعة المتخرجين فيه لمواجهة الصليبية الاستعمارية، والماركسية الإلحادية، محدودة للغاية كما ظل عرضهم للفكر الإسلامي في الدائرة التي هي أقرب لدائرة التفكير في العصور الوسطى، منها إلى دائرة التفكير المعاصر، وقد أصيب الأزهر بنكسة في السنوات الأخيرة2 وعاد إلى الجمود وحارب اتصال علمائه بالفكر الغربي المعاصر، ووقوفهم على منهاج البحث في الجامعات الأوروبية، كما نزل بمستوى رسالة الأزهر إلى تعلم اللغة العربية وتعليمها وحدها، مهملا شأن الدراسات الإسلامية، أو واضعا إياها في منزلة ثانوية، وبذلك ضعف الأمل في استعانة الفكر الإسلامي الإصلاحي على تقوية شأن نفسه بمؤسسة إسلامية عالية مثل الأزهر. الأزهر في رأيي، هو قمة المؤسسات الإسلامية في العالم الإسلامي، التي كانت تستطيع مواجهة الصليبية الاستعمارية والماركسية الإلحادية، وكانت تستطيع أيضا أن تقدم للحياة الإسلامية في مصر، ووراء مصر،   1 أدخل الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت بعد توليه المشيخة في أكتوبر سنة 1958 تعلم اللغة الإنجليزية إجباريا في المعاهد الثانوية، وأنشأ معهد "الإعداد والتوجيه" كمعهد عال تدرس فيه ست لغات: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والأندولسية، والأردية، والسواحلية. 2 من سنة 1954 إلى 1958. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 أكبر العون في حل المشكلات التي تدور في حياة الأسر الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي والتوجيه الإسلامية، وبذلك كان يمكن أن تكون هناك قوة فكرية روحية ثالثة في الشعوب الإسلامية، تواجه القوتين العالميتين الرئيسيتين اليوم: الصليبية الغربية، والشيوعية الدولية، ولا عوض عن الأزهر، وكل يوم يمر عليه في أزمته يزيد في ضعف قيمته، ويقلل من الانتفاع به في تكوين تلك القوة الثالثة التي كان يجب أن يكون لها شأن اليوم. وإصلاح الأزهر ليس رفع مرتبات، ولا إعادة طبع الكتب المتأخرة، ولا اقتباس نظام وزارة التربية والتعليم، ولا ملاحقة هذه الوزارة بطلب مشورتها والإفادة من خبر رجالها، ولا بزيادة كم العلماء والطلاب ... إصلاح الأزهر فكرة، وتنفيذ رسالة، هي فهم الإسلام، وحسن عرضه، والملاقاة به لما يواجه المسلم من مشاكل، وهي رسالة فريدة، لا يمكن لمؤسسة تعليمية أخرى أن تنهض بها، ولذلك لا تجدي مشورة وزارة التربية والتعليم في شأنها. ومشيخة الأزهر ليست وظيفة يذل أو يستخدم القائم بأمرها لهدف سياسي وليست إدارة لجامعة على نحو أية جامعة أخرى في الشرق ... هي إيمان وإدراك للقيم، وفهم صادق للحياة والإيمان، هو الإيمان بالله أولا، والإدراك للقيم هو الإدراك أولا للكرامة الإنسانية، والفهم الصادق للحياة هو الفهم أولا لوضعية الشعوب الإسلامية في خضم المجال الدولي المعاصر، وفي التنافس الغربي والشرقي على جعلها تابعة تسير في فلك هذا أو ذاك. إن حركة التحرير في مصر -بعد النصف الأول من قرننا الحاضر- تحاول "تصفية" رواسب الاستعمار في السياسة التعليمية، ومن هنا كان عليها أن تضع الأزهر وضعه الصحيح، فتباشر فيه تصفية رواسب الماضي الضعيف، وتجعله ذا رسالة إيجابية في تهيئة المجال الحيوي لمصر في إفريقيا الإسلامية، وفي مقابلة الاستعمار الغربي، في أية صورة من صوره في قوة، وفي الإسهام في حل مشاكل الشعوب الإسلامية، والاجتماعية والاقتصادية, وهي كثيرة معقدة، وفي مقدمتها شعب مصر. إن "السراي" على عهد الخديوية والملكية على السواء، كان لها هدف خاص من الأزهر يبعده عن رسالته الأصلية، وإن الأحزاب السياسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 المصرية على اختلافها، منذ تصريح 28 فبراير سنة 1922 زادت من ضعف الأزهر بإدخال الاتجاه الحزبي في تصريف شئونه. إن الإسلام في غده يتأثر قوة وضعفا، بقوة الأزهر وضعفه، اليوم وبعد اليوم! وقد جاء صدور القانون رقم 103 لسنة 1961 ... إيذانا بتطور جديد في تاريخ الأزهر ... فما هو دور الأزهر التعليمي والثقافي والاجتماعي في ظل القانون الجديد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الأزهر ... في تنظيمه الجديد: صدر القانون رقم 103 لسنة 1961 بإعادة تنظيم الأزهر، وهذا الكتاب في إعداد طبعه للمرة الثالثة ... وبصدور هذا القانون، أعلنت الثورة المصرية عن اتجاهها في حزم وفي قوة لتصفية رواسب الاستعمار في الأزهر!! وهي تلك الرواسب التي تتمثل: - أولا: في "عزلة" المتخرج في الأزهر عن المجتمع الذي يعيش فيه. - كما تتمثل مرة أخرى في "احتراف" هذا المتخرج بالدعوة إلى الإسلام وبالرسالة الإسلامية، واتخاذها مهنة يكسب منها قوت قومه، ويسعى عن طريقها لتحصيل أمور معيشته. و"العزلة" وكذلك "الاحتراف" بالدعوة الإسلامية وبرسالة الإسلام يشكلان خطرا على القيم الإسلامية نفسها، وعلى تعاليم الإسلام، وهو ذلك الخطر الذي يحول دون أن يكون هناك تفاعل بين الحياة الإنسانية في المجتمع الإسلامي والتعاليم الإسلامية، وأيضا يحول دون أن يقف العالم الأزهري من التعاليم الإسلامية موقف المتجرد عن غاية شخصية في فهمها، وفي استلهام النصوص القرآنية ونصوص السنة الدالة عليها، من غير أن يتأثر في موقفه هذا برأي سابق مبيت في نفسه لسبب أو لآخر. فأوجب هذا القانون إقامة جامعة الأزهر على أساس أن تكون هيئة تعنى بدراسة ألوان المعرفة المختلفة التي تعين على ممارسة النشاط الإنساني في شتى جوانب حياة المجتمع، كي يتزود بها الطالب الذي يتخرج في المعاهد الأزهرية الثانوية، بجانب ما يتزود به من معرفة ذات مستوى خاص لتعاليم الإسلام ولقيمه، وكذلك بالدراسات العربية الخاصة التي تعينه على فهم تعاليم الإسلامية، وأهداف رسالة الإسلام فهما قويا واضحا، يكون مصدر إشعاع سلوكي في حياة الفرد والمجتمع معا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وعن طريق الكليات المختلفة -في دائرة ما يسمى بالكليات النظرية والعملية- التي تتكون منها جامعة الأزهر بناء على هذا القانون، يستطيع الطالب المتخرج فيها أن يمارس نشاطه الإنساني والإسلامي معا، بحيث يكون ذا مهنة يؤديها في المجتمع، وفي الوقت نفسه صاحب دعوة إلى الإسلام بسلوكه الشخصي وبسلوكه في مهنته، وبدعوته بالقول كذلك. وهو في دعوته عندئذ لا يكون محترفا بها، وإنما يدفعه إليها إيمانه بقيمة الرسالة الإسلامية التي كشفت له عنها جوانب المعرفة التي درسها في كلية من كليات هذه الجامعة، وهو عندئذ أقرب إلى أن تكون دعوته إلى الله وفي سبيل الله, لله خالصة، دون أن يشرك في إخلاصه لله في دعوته غاية أخرى هي تحصيل الدنيا, وتحصيل متعتها عن طريق هذه الدعوة نفسها. وإذا استطاعت جامعة الأزهر بوضعها الذي قصد إليه القانون أن تحقق الغاية المرجوة منها, فسيكون هناك طراز آخر من المتخرجين في الأزهر، يعرف المجتمع الذي يعيش فيه كما يعرف المجتمع المعاصر، وما يسيطر عليه من اتجاهات مذهبية إنسانية عديدة، كما يشعر في نفسه بحرارة الإيمان برسالة الإسلام بعد أن وضحت له جوانبها وقيمتها أثر الموازنة التي تتكون حتما في نفسه، بعد وقوفه على ما للإنسان من معرفة متغيرة، وما لله من رسالة خالدة، وفي هذا الوقت يكون الإيمان بالله وبرسالته هدفه الأعلى في الحياة الذي يجب أن يسعى إليه دون أن تشوبه شائبة أخرى تضعف من شأنه، أو تعوق فاعليته على الإنسان في سلوكه وفي تفكيره. وإذا وصل أمر المتخرج في جامعة الأزهر إلى هذا الوضع، فالأمل كبير في أن يعيد الداعية إلى الله وإلى الإسلام وضع أصحاب الدعوة الأولين، الذين قادوا الإنسانية وأخرجوها من الظلمات إلى النور، وساد مجتمعهم بالرسالة، كما سادوا هم على أنفسهم وفي مجتمعهم بالتقوى وبالإيمان. ومجتمعاتنا الإسلامية كي تتم نهضتها، وكي يتم بعثها، في حاجة ماسة إلى ريادة قوية، تستمد قوتها من الفهم الصحيح ومن الإيمان، وهي إذا احتاجت إلى "العلم" واحتاجت أيضا إلى "الصناعة" لتوفير وسائل العيش ولدفع حاجة المحتاج ومرض المريض، فإنها أكثر احتياجا إلى ما يرفع ذلة المستضعف، ويدفع عنه خوف الإقدام في الحياة ليحقق السيادة الذاتية، وسيادة المثل الإنسانية والقيم في الحياة البشرية، والريادة السليمة -كما أشرنا- التي تقوم على وعي قوي وفهم سليم لرسالة الإسلام، هي ذلك العامل الذي يرفع وحده ذلة المستضعف وخوف الخائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 في المجتمع وليس"العلم" وليست "الصناعة" هي التي تحول ذلة الضعيف إلى قوة، وخوف الخائف إلى الإقدام. وأثر هذا القانون -على نحو ما شرحنا- سوف لا ينعكس على المتخرج في هذه الجامعة من أبناء الجمهورية العربية المتحدة وحده، وإنما ينعكس على كل مبعوث وافد استطاع أن يكون واحدا من المتخرجين فيها. وبذلك يكون أثر هذا التنظيم الجديد في إحياء الأمل المنشود, ليس في مصر وحدها، وإنما في كل بلد إسلامي، وليس في مجتمع الجمهورية العربية المتحدة وحدها. وإنما في كل مجتمع إسلامي في الشرق وفي الغرب على السواء. وبهذا القانون ازداد الأمل في غد الأزهر وفي غد الإسلام معا، وفق الله القائمين على الأمر هنا وهناك إلى أن تكون خطواتهم مسددة. فهل يؤمل كذلك في أن تكون ريادة علماء الأزهر في الجامعة ريادة إيجابية يفهمون ظروف الحياة التي يعيشون فيها كما يفهمون رسالة الإسلام في حياة المسلمين؟ هل ستصبح الدراسة في الكليات العلمية، والعملية, والنظرية ذات صبغة إيمانية وإسلامية بفضل توجيه الريادة العليا في الأزهر؟ نرجو أن يتغلب طابع الإيمان على طابع السياسة في توجيه الجامعة وما يلحق بها من معاهد!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام مدخل ... الباب السادس: ملحقات المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام مقدمة: إذا كان من دواعي استقرار الحكم الوطني في مصر الحديثة الثائرة عزل عملاء السياسة وإبعادهم عن الحياة السياسية، فإن من صالح قيادة الأمة -كشعب موحد الاتجاه، قوي في أحاسيسه المشتركة- أن ينحي عملاء التبشير والاستشراق من جوانب التوجيه العام سواء في التثقيف أو النشر، أو الصحافة أو الإذاعة. إن عملاء التبشير والاستشراق -وهم عملاء الاستعمار في مصر والشرق الإسلامي- هم الذين دربتهم دعوة التبشير على إنكار المقومات التاريخية والثقافية والروحية في ماضي هذه الأمة وعلى التنديد والاستخفاف بها، وهم الذين وجههم كتاب الاستشراق إلى أن يصوغوا هذا الإنكار والتنديد والاستخفاف في صورة البحث، وعلى أساس من أسلوب الجدل والنقاش في الكتابة أو الإلقاء عن طريق المحاضرة أو الإذاعة. إن التبشير والاستشراق كلاهما دعامة الاستعمار في مصر والشرق الإسلامي، فكلاهما دعوة إلى توهين القيم الإسلامية، والغض من اللغة العربية الفصحى، وتقطيع أواصر القربى بين الشعوب العربية، وكذا بين الشعوب الإسلامية، والتنديد بحال الشعوب الإسلامية الحاضرة، والازدراء بها في المجالات الدولية العالمية: - فهناك الدعوة إلى أن القرآن: - كتاب مسيحي يهودي نسخه محمد! - وأن الإسلام دين مادي لا روحية فيه، يدعو إلى الدنيا وليس إلى صفاء النفوس والمحبة! - وأنه -أي: الإسلام- يميل إلى الاعتداء والاغتيال، ويحرض أتباعه على القسوة على غير المسلمين عامة! - كما أنه يدعو إلى الحيوانية والاستغراق في الملذات الدنيا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وهناك الدعوة إلى: -أن الفلسفة العربية فكر يوناني، كتب بأحرف عربية. - وأن اللغة العربية الفصحى لم تعد صالحة اليوم، بدلا منها يجب أن تستخدم العامية واللهجات الدارجة، كما يجب أن تستخدم الحروف اللاتينية عوضا عن الأحرف العربية! - وهناك الدعوة إلى: - إحياء الفرعونية في مصر. - والآشورية في العراق. - البربرية في شمال إفريقيا. - والفنيقية على ساحل فلسطين ولبنان. وإلى تفضيل الفارسية -كلغة آرية - على العربية كلغة سامية. - وإلى أن الذي حمل أمارات الحياة الأدبية الجديدة في الشرق العربي في نهاية القرن التاسع عشر، وكذا في الشرق الإسلامي، وحمل مظاهر الحضارة عامة هم نصارى لبنان الذين تعلموا واستوحوا من جهود المبشرين الأمريكيين في سوريا. - وإلى أن البربر وحدهم هم أصحاب المدنية في شمال إفريقيا والأندلس. - التنفير من حياة المسلمين الحاضرة؛ لأنها حياة بدائية ذليلة. - وإلى أن السبب في ذلك هو تعاليم الإسلام والتمسك بها. - والتبشير والاستشراق في ذلك سواء والفرق بينهما هو: أن الاستشراق أخذ صورة "البحث" وادعى لبحثه "الطابع العلمي الأكاديمي" بينما بقيت دعوة التبشير في حدود مظاهر "العقلية العامة" وهي العقلية الشعبية. استخدم الاستشراق: الكتاب والمقال في المجالات العلمية، وكرسي التدريس في الجامعة، والمناقشة في المؤتمرات "العلمية" العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 أما التبشير فقد سلك طريق التعليم المدرسي في دور الحضانة ورياض الأطفال والمراحل الابتدائية والثانوية للذكور والإناث على السواء، كما سلك سبيل العمل "الخيري" الظاهري في المستشفيات، ودور الضيافة والملاجئ للكبار، ودور اليتامى واللقطاء، ولم يقصر التبشير في استخدام "النشر والطباعة" وعمل "الصحافة" في الوصول إلى غايته. إن البلاد العربية والإسلامية في يقظتها الحالية تتعثر في خطاها نحو التماسك الداخلي، ونحو تقوية العلاقات بينها، بسبب الرواسب التي تخلفت عن التبشير والاستشراق، وبسبب آخر له وزنه في هذا التعثر وهو ضعف المواجهة التي يلقاها في البلاد الإسلامية هذان العاملان القويان في تركيز الاستعمار، وبعثرة القوى الوطنية في كل بلد عربي وإسلامي. والمؤسسات الإسلامية -على تعددها وتنوعها- لم تعرف تماما حتى الآن "وضعية" التبشير والاستشراق في توجيه الشعوب العربية والإسلامية، حتى تحاول أن تلقاها، فضلا عن أن يكون لقاؤها إياها قويا أو ضعيفا. 1- فالأزهر وهو أكبر المؤسسات الإسلامية في الشرق العربي والإسلامي, لم يخرج برسالته كثيرا حتى الآن عن أن يكون ترديدا لتفكير القرون الوسطى في مواجهة بعضهم بعضا كأحزاب وأصحاب مذاهب فقهية وكلامية أو شعوبية "سنة وشيعة" أو ترديدا لتفكير المتأخرين الذين سلبوا الإنسان أخص مقوماته في الدنيا وهي ميزة الحياة. ولكن الأمل كبير الآن في إصلاح الأزهر. 2- وجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، هي تقليد لجمعيات الشباب المعروفة من قبل عند غيرنا في جانب، وابتعاد عنها في أهم جانب من جوانب رسالتها، تقلدها في ممارسة الرياضة، ولكنها لا تقلدها في جعل الرياضة وسيلة من وسائل التربية والإيمان، كما تفعل جمعيات الشباب الأخرى. أما ما يلقى فيها من محاضرات، أو يعقد فيها من ندوات، فينقص هذه وتلك عنصر الجدية وحرارة الإيمان ... 3- وجمعية التعريف بالدولي بالإسلام "التي تعقد اجتماعاتها بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة" هي جمعية طابعها شخصي، أكثر من أن يكون حملا لرسالة وبعثا لها، أو نشرا لمبادئها في بلاد العالم، كما هو المفهوم من اسمها وصفاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 4- ومعهد الدراسات الإسلامية "بالروضة بالقاهرة" معهد حديث النشأة لم يتميز اتجاهه بعد، هل هو علماني على نحو أسلوب الدراسة العلمانية في التراث الإسلامي التي أدخلها علماء التبشير والاستشراق في الجامعات المصرية؟ أم هو تقليدي على نحو ما يفعل الأزهر في طريقته؟ إن رواسب التبشير والاستشراق التي أشرنا إليها فيما مضى لا تتمثل فقط في المؤسسات التبشيرية المختلفة الظاهرة في مصر والبلاد العربية والإسلامية، بل هناك أيضا مؤسسات أخرى في مصر لا يرى منها التبشير وإن كانت لا تخفي هدف هذا الاستشراق، ونذكر -على سبيل المثال لا الحصر- المؤسسات الآتية: 1- المعهد الشرقي بدير الدومينكان، بشارع مصنع الطرابيش. 2- ندوة الكتاب، بشارع سليمان باشا. 3- دار السلام، بكنيسة دار السلام بمصر القديمة. 4- المعهد الفرنسي بالمنيرة. فكل هذه المؤسسات تخضع للاتجاه الكاثوليكي في بحث الإسلام وتراثه وتخضع كذلك للنفوذ الفرنسي, والذين يعاونونها من المصريين هم أصحاب الثقافة الفرنسية ممن درسوا في فرنسا الآداب الشرقية والثقافية الإسلامية، ويرعاها كأب روحي، المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال إفريقيا. والذين يعاونون هذه المؤسسات من المصريين المثقفين في فرنسا والدارسين للآداب الشرقية العربية أو للتراث الإسلامي الثقافي، يزداد أثرهم كلما اتصل شأنهم واتصلت مشورتهم بتوجيه الآداب، أو الثقافة في مصر. وتحت عنوان "إصدار سلسلة كتب عن تاريخ الدين الإسلامي" وتحت هذا العنوان كتبت جريدة الأخبار بتاريخ 15 أكتوبر من عام 1957: عن وضع مشروع لإصدار سلسلة من الكتب, بعضها مترجم عن كتب المستشرقين, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 والبعض الآخر يؤلفه كتاب مصريون عن تاريخ الدين الإسلامي، والأطوار التي مر بها في عهد الاستعمار. من غير شك هناك من له نفوذ بين الذين يعتزمون إصدار هذه السلسلة وهو من أنصار اتجاه التبشير والاستشراق ويروج لرسالة التبشير والاستشراق وهي رسالة الاستعمار دون أن يكون في نفسه أي أثر للشعور بخطورة هذا الاتجاه. فنحن سنرى في الكلام عن الاستشراق، في هذا البحث، ما يؤكد أن هدف المستشرقين في كتبهم عامة وقاطبة هو التوهين للقيم الإسلامية، وتفتيت الشعوب العربية والإسلامية في علاقاتها وصلات بعضها ببعض. أجهزة الدعوة والدراسات الإسلامية عليها إزاء التبشير والاستشراق: أولا: أن تساهم في تنقية الحياة المصرية والعربية والإسلامية من رواسب هذين العاملين فتقعد عملاءهما من حياة التوجيه في مصر في جوانبها المتعددة وتكون ذات صلة وثيقة بوزارة التربية والتعليم في الإشراف على حياة مصرية إسلامية أفضل في مدارس المبشرين, وهي المدارس الدينية التابعة للفاتيكان في طوابعها المختلفة، من فرنسية وإيطالية, وإسبانية وألمانية وهلم جرا.. وعلى صلة وثيقة بالصحافة ووزارة الثقافة والإرشاد القومي في توجيه القلم والكتاب. ثم عليها ثانيا: أن تكون من المؤسسات التعليمية الإسلامية -كالأزهر- جهازا قويا يلقى به كتب المستشرقين, وبحوثهم في مجلاتهم ومؤتمراتهم، في الرد عليهم وشرح القيم الإسلامية، وتقوية أواصر القربى بين الشعوب العربية والإسلامية. ثم عليها ثالثا: أن تخرج للمسلمين عاجلا في مشارق الأرض ومغاربها: 1- "دائرة معارف إسلامية" يكتبها علماء مسلمون متمكنون في فهم التراث الإسلامي من جميع بلاد العالم الإسلامي، وتكون مرجعا للجوانب الثقافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 2- وأن تقرأ "ترجمة" في كل لغة من اللغات التي ترجم إليها القرآن فعلا بعد مراجعتها مراجعة دقيقة، من علماء لهم سعة اطلاع في التفسير والعلوم الإسلامية. 3- وأن تخرج "قاموسا" للفقه الإسلامي، على نمط القواميس العلمية الحديثة في الاجتماع والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد ... يكون مرجعا سريعا لمعرفة المصطلحات الفقهية ومدلولاتها، في المذاهب الفقهية المختلفة. والفرق بينه وبين "دائرة المعارف الإسلامية" أن هذه لا تقصر موضوعاتها على الفقه، بل تعالج جوانب التراث الإسلامي كلها كموسوعة علمية عصرية، أما القاموس فمهمته التعريف في صورة مجملة سريعة علمية منظمة بالفقه الإسلامي، والمسلم المعاصر -وبالأخص في البلاد التي تعرف اللغة العربية- في حاجة ماسة إلى مثل هذا القاموس. 4- وأن تصدر "مجلة" تتبع بحوث الاستشراق التي يوردها الغرب الصليبي للشرق الإسلامي في الوقت الحاضر، سواء في كتبه عن التراث الإسلامي أو في بحوث مجلاته العديدة التي تعنى بهذا التراث، وبوضعية المسلمين وتوجيههم، وحركة الغرب في توريده لهذه البحوث حركة ضخمة وسريعة، كما يرى من الدوريات التي تنشرها الجمعيات الاستشراقية في مختلف بقاع العالم بلغات مختلفة، ومن الكتب التي تصدرها دور الطباعة الكبيرة في عواصم أمريكا الشمالية وإنجلترا وفرنسا. والبيان المرافق في هذا البحث يعطي صورة تقريبية، ولكنها صورة مزعجة للموجهين في العالم الإسلامي. وإذا ابتدأت أجهزة الدعوة والدراسات الإسلامية في مواجهة "الاستشراق" مواجهة سافرة -وليس هناك حتى اليوم أية مؤسسة إسلامية في العالم الإسلامي تقوم بهذا الدور- لأكثر من سبب، فستظهر له سبل أخرى يرى لزاما عليه أن يسلكها كي يصل إلى هدفه، وهو: إعادة تقييم القيم الإسلامية في نفوس المسلمين، وفي نفوس الرأي العام العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 هدف التبشير: سنرى فيما بعد أن الاستشراق لون من ألوان التبشير لاءم نفسه مع ظروف الحياة، وإذا كان الاستشراق نوعا من أنواع التبشير فتعرف هدف التبشير نفسه يعطينا بالتالي صورة عن هدف الاستشراق، ولن نحاول هنا أن نذكر شيئا مستنتجا من قراءة أو دراسة لهذا الموضوع، وإنما سندع النصوص الثابتة لزعماء المبشرين تعبر عن هذا الهدف. يقول لورانس براون Lawrance brown "إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرا، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضا. أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير"1. ويفصح القس "كالهون سيمون" عن رغبة التبشير القوية في تفريق المسلمين التي عبر عنها "براون" فيما قبل، بقوله: "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السود، وتساعدهم على التملص من السيطرة الأوروبية. ولذلك كان التبشير عاملا مهما في كسر شوكة هذه الحركات؛ ذلك لأن التبشير يعمل على إظهار الأوروبيين في نور جديد جذاب، وعلى سلب الحركة الإسلامية من عنصر القوة والتمركز فيها"2. فوحدة المسلمين إذن في نظر التبشير يجب أن تفتت وأن توهن، ويجب أن يكون هدف التبشير هو التفرقة في توجيه المسلمين واتجاهاتهم، والتبشير، إذ يرى هدفه المباشر تفكيك المسلمين. يرى بالتالي درء خطر وحدتهم على استعمار الشعوب الأوروبية وعلى استغلالها واستنزافها لثروات المسلمين، وفي هذا المعنى يقول لورانس براون: "الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع وفي حيويته: إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي"3. وتقول مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية The Muslim World: "إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي، ولهذا الخوف   1- في كتابه "الإسلام والإرساليات" Islam and Missions. 2 كتاب "التبشير والاستعمار" ص32. 3 في كتاب أصدره في عام 1944. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 أسباب منها: أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عدديا، بل دائما في ازدياد واتساع ثم إن الإسلام ليس دينا فحسب، بل أن من أركانه الجهاد. ولم يتفق قط أن شعبا داخل في الإسلام ثم عاد نصرانيا"1. وهناك بجانب تفتيت وحدة المسلمين -كهدف للمبشرين- هدف آخر هو التنفيس عن الصليبية وعن الانهزامات التي مني بها الصليبيون طوال قرنين من الزمان، أنفقوهما في محاولة الاستيلاء على بيت المقدس وانتزاعه من أيدي المسلمين الهمجيين!! يقول اليسوعيون: "ألم نكن نحن ورثة الصليبيين؟ أولم نرجع تحت راية الصليب لنستأنف التسرب التبشيري والتمدين المسيحي ولنعيد في ظل العلم الفرنسي وباسم الكنيسة مملكة المسيح"2. - وبجانب هذا وذاك يرى المستشرق الألماني بيكر Becker: "أن هناك عداء من النصرانية للإسلام بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدا منيعا في وجه انتشار النصرانية ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها"3. وإذن هدف التبشير هو تمكين الأوروبي المسيحي من البلاد الإسلامية، والأسباب التي ذكرها هؤلاء المبشرون هنا توصل جميعها إلى هذا هداف، فسواء أكانت التنفيس عن هزيمة الصليبية، أم الرغبة في الانتقام من الإسلام؛ لأنه قام في القرون الوسطى في وجه المسيحية، أم توهين المسلمين وتمزيقهم في التوجيه والاتجاه, هو السبب المباشر في التبشير فإن نتيجته حتما وعلى أي وضع هي ما ذكرنا من تمكين الأوروبي المسيحي من المسلم الشرقي ومن وطنه. وهنا يبدو واضحا أن التبشير مقدمة أساسية للاستعمار الأوروبي، كما أنه سبب مباشر لتوهين قوة المسلمين، "ولقد كانت الدول الأجنبية تبسط   1 عدد يونية سنة 1930 تحت عنوان "الجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي". The Political grography of the Mohammadan world. 2 التبشير والاستعمار ص117. 3 المصدر السابق: ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الحماية على مبشريها في بلاد الشرق؛ لأنها تعدهم حملة لتجارتها وآرائها ولثقافتها إلى تلك البلاد، بل لقد كانت ثمة ما هو أعظم من هذا عندها, لقد كان المبشرون يعملون بطرق مختلفة كالتعليم مثلا على تهيئة شخصيات شرقية لا تقاوم التسلط الأجنبي"1. تصوير المبشرين للإسلام والمسلمين: وطريق التبشير لتوهين المسلمين لم يكن الدعوة إلى المسيحية والعمل على ارتداد المسلمين إلى النصرانية مباشرة، وإنما كانت طريقه تشويه الإسلام، ومحاولة إضعاف قيمة، ثم تصوير المسلمين في وضعهم الحالي بصورة مزرية بعيدة عن المستوى الحضاري في عصرنا الحاضر. "فالمونيسنيور كولي" في كتابه "البحث عن الدين الحق" يصور الإسلام على هذا النحو: "الإسلام في القرن السابع للميلاد برز في الشرق عدو جديد، ذلك هو الإسلام الذي أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب. لقد وضع محمد السيف في أيدي الذين اتبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق. ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب!! ووعد الذين يهلكون "يستشهدون في سبيل الله" في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات "الجنة"! وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وإفريقيا وإسبانيا فريسة له، حتى إيطاليا هددها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسا. لقد أصيبت المدنية!! ولكن هياج هؤلاء الأشياع "المسلمين" تناول في الأكثر كلاب النصارى.   1 المصدر السابق: ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ولكن انظر! ها هي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سدا في وجه سير الإسلام المنتصر عند يوانيه "752م" ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى قرنين تقريبا "1099-1254م" في سبيل الدين، فتدجج أوروبا بالسلاح، وتنجى النصرانية، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن، وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة"1! ويقول و. س. نلسون V.S. Nelson "وأخضع سيف الإسلام شعوب إفريقيا وآسيا شعبا بعد شعب"2. هذا في وصف الإسلام ووصف مبادئه، أما محمد رسوله فيقول عنه أديسون Addison: "محمد لم يستطع فهم النصرانية، ولذلك لم يكن في خياله منها إلا صورة مشوهة بنى عليها دينه الذي جاء به للعرب"3. وفي وصف المسلمين يقول هنري جيسب Henry Jesups المبشر الأمريكي: "المسلمون لا يفهمون الأديان ولا يقدرونها قدرها ... إنهم لصوص، وقتلة ومتأخرون، وأن التبشير سيعمل على تمدينهم"4! كما يقول في وصفهم جوليمين Guillimain في كتابه "تاريخ فرنسا": "إن محمدا، مؤسس دين المسلمين قد أمر أتابعه أن يخضعوا العالم وأن يبدلوا جميع الأديان بدينه هو. ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيين "المسلمين" وبين النصارى! إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح ربحوا النفوس ببرهم وإحسانهم. ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنا مسلمين كالجزائريين والمراكشيين"5.   1 ص220 طبع 1928، وقد نال هذا الكتاب رضا البابا ليون الثالث عشر في سنة 1887 وعاش في المدارس المسيحية في الشرق والغرب إلى اليوم. 2 التبشير والاستعمار ص36. 3 المصدر السابق: ص37. 4 المصدر السابق في نفس الصفحة. 5 الصفحات من: 8-81 من كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وهكذا: المسلمون متأخرون، ولصوص وقتلة!! وهكذا: رسولهم سارق ومحرف فيما سرق!! وهكذا: الإسلام دين السيف وليس دين الإيمان، هو دين مادي وليس دينا روحيا؛ لأنه يسمح لأتباعه بالفجور والسلب والقتل!! هذا ما يصور به التبشير الإسلام والمؤمنين به والتابعين لرسوله، على أنه لم يفت المبشرين كذلك بجانب تشويه الإسلام والمسلمين بغية توهينهم وإضعاف وحدتهم أن يثيروا للغاية نفسها النزعات الشعوبية، مثل الفرعونية في مصر، والفينيقية على ساحل فلسطين ولبنان، والآشورية في العراق، والبربرية في شمال إفريقيا وهكذا ... سبل المبشرين إلى بلوغ غاياتهم: وتنوعت أساليب التبشير في توصيل هذا التصوير المشوه للإسلام ورسوله والمسلمين، إلى أجيال المسلمين جيلا بعد جيل، منذ أن استقر في الشرق العربي والإسلامي، فكانت: - المدرسة, والكلية, والجامعة. - الندوة, والرياضة. - المنزل. - الكتاب. - الصحافة. - المخيم. - المستشفى. - دار النشر والطباعة. وإن من أشهر المؤسسات التعليمية في الشرق العربي جامعة القديس يوسف في لبنان، وهو جامعة بابوية كاثوليكية "وتعرف الآن بالجامعة اليسوعية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 والجامعة الأمريكية ببيروت التي كانت من قبل تسمى "الكلية السورية الإنجيلية" ثم كلية بيروت، وقد أنشئت في عام 1865، وهي جامعة بروتستانتية. والكلية الأمريكية بالقاهرة التي أصبحت فيما بعد "الجامعة الأمريكية" وقد كان القصد من إنشائها: أن تكون قريبة من المركز الإسلامي الكبير، وهو الجامع الأزهر. وكلية روبرت في استنبول التي أصبحت تسمى "بالجامعة الأمريكية" هناك. والكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد يكون البلد الإسلامي الفريد في تكوينه في شبه القارة الهندية، ومن المنشور الذي أصدرته الجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1909، ردا على احتجاج الطلاب المسلمين لإجبارهم على الدخول يوميا إلى الكنيسة, يتضح من المادة الرابعة منه طابع هذه المؤسسة وأمثالها، ونص هذه المادة ما يلي: "أن هذه كلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي، هم اشتروا الأرض وأقاموا الأبنية، وهم أنشئوا المستشفى وجهزوه ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء؛ ليوجدوا تعليما يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ.. وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف سابقا ماذا يطلب منه"1. كما أعلن مجلس أمناء الكلية في هذه المناسبة: "أن الكلية لم تؤسس للتعليم العلماني، ولا لبث الأخلاق الحميدة، ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة، وأن تكون مركزا للنور المسيحي، وللتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك الناس وتوصيهم به"2. وكما يستخدم المبشرون دور التعليم, بعد أن يموهوا بأسمائها على الرأي العام للتبشير, يستخدمون كذلك الوسائل الأخرى التي أشرنا إليها   1 "التبشير والاستعمار" ص108. 2 المصدر السابق: ص109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 هنا سابقا، للغاية نفسها، وبالأخص الصحافة، فكتاب "التبشير والاستعمار" يذكر نقلا عن مصادر للتبشير ما يلي: "يعلن المبشرون أنهم استغلوا الصحافة المصرية على الأخص، للتعبير عن الآراء المسيحية أكثر مما استطاعو في أي بلد إسلامي آخر، لقد ظهرت مقالات كثيرة في عدد من الصحف المصرية، إما مأجورة في أكثر الأحيان أو بلا أجر في أحوال نادرة"1. والمبشرون يسيرون في تحقيق هدفهم وفق خطط معينة مدروسة يجتمعون من أجلها بين الحين والحين، ولذلك ترى أنهم عقدوا عدة مؤتمرات لهذه الغاية: - مؤتمر القاهرة في عام 1906. - ومؤتمر بيروت في عام 1911. - ومؤتمر القدس في عام 1924. - ومؤتمر القدس في عام 1935. وفي كل مؤتمر من هذه المؤتمرات تدرس المشروعات وتوضع الخطط ثم يجري تنفيذها في سرية تامة وبهمة دائبة. نشأة الاستشراق: يرجع تاريخ الاستشراق في بعض البلدان الأوروبية إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وربما كانت هناك محاولات فردية قبل ذلك، غير أن المصادر التي بين أيدينا لا تلقي الضوء الكافي على الموضوع، وإن أشارت إلى بعض المستشرقين كأفراد، ويكاد المؤرخون يجمعون على أن الاستشراق انتشر في أوروبا بصفة جدية بعد فترة "عهد الإصلاح الديني" كما يشهد بذلك التاريخ في هولندا والدانيمارك وغيرهما2.   1 المصدر السابق: ص207. 2 راجع الصفحات 3، 54، 86، 257، 268 من المجلد الثالث الصادر في عام 1923 من مجلة "المجمع العلمي العربي" والصفحات 64، 170، 204، 264، 416، 442 من المجلد الرابع الصادر في عام 1924 من المجلة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 أسباب الاستشراق: والسبب الرئيسي المباشرة الذي دعا الأوروبيين إلى الاستشراق هو سبب ديني في الدرجة الأولى؛ فقد تركت الحرب الصليبية في نفوس الأوروبيين ما تركت من آثار مرة عميقة، وجاءت حركة الإصلاح الديني المسيحي فشعر المسيحيون: بروتستانت وكاثوليك، بحاجات ضاغطة لإعادة النظر في شروح كتبهم الدينية، ولمحاولة تفهمها على أساس التطورات الجديدة التي تمخضت عنها حركة الإصلاح, ومن هنا اتجهوا إلى الدراسات العبرانية، وهذه أدت بهم إلى الدراسات العربية فالإسلامية؛ لأن الأخيرة كانت ضرورية لفهم الأولى وخاصة ما كان منها متعلقا بالجانب اللغوي، وبمرور الزمن اتسع نطاق الدراسات الشرقية حتى شملت أديانا ولغات وثقافات غير الإسلام وغير العربية1. ومن جهة أخرى رغب المسيحيون في التبشير بدينهم بين المسلمين، فأقبلوا على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز الدعاة وإرسالهم للعالم الإسلامي، والتقت مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار فمكن لهم، واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق، وأقنع المبشرون زعماء الاستعمار بأن "المسيحية" ستكون قاعدة الاستعمار الغربي في الشرق، وبذلك سهل الاستعمار للمبشرين مهمتهم وبسط عليهم حمايته، وزودهم بالمال والسلطان، وهذا هو السبب في أن الاستشراق قام في أول أمره على أكتاف المبشرين والرهبان ثم اتصل بالاستعمار. وبجانب هذا وذاك, كانت هناك أسباب أخرى فرعية لنشأة الاستشراق: أسباب تجارية، وأسباب سياسية ديبلوماسية، وأسباب شخصية مزاجية عند بعض الناس الذين تهيأ لهم الفراغ والمال، واتخذو الاستشراق وسيلة لإشباع رغباتهم الخاصة في السفر, أو في الاطلاع على ثقافات العالم القديم، ويبدو أن فريقا من الناس دخلوا ميدان الاستشراق من باب البحث عن الرزق عندما ضاقت بهم سبل العيش العادية، أو دخلوه هاربين عندما قعدت بهم إمكانياتهم الفكرية عن الوصول إلى مستوى العلماء في العلوم   1 راجع المصدر السابق، وكتاب "المستشرقون" لنجيب العفيفي ومجلة الإسلام بالإنجليزية Al-Islam ص112 من عدد 15 فبراير سنة 1958. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الأخرى. أو دخلوه تخلصا من مسئولياتهم الدينية المباشرة في مجتمعاتهم المسيحية، أقبل هؤلاء على الاستشراق تبرئة لذمتهم الدينية أمام إخوانهم في الدين،، وتغطية لعجزهم الفكري، وأخيرا بحثا عن لقمة العيش إذ إن التنافس في هذا المجال أقل منه في غيره من أبواب الرزق1. وهناك ملاحظة لبعض الباحثين تتعلق بالمستشرقين اليهود خاصة. فالظاهر أن هؤلاء أقبلوا على الاستشراق لأسباب دينية, وهي محاولة إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمه بإثبات فضل اليهودية على الإسلام؛ بادعاء أن اليهودية في نظرهم هي مصدر الإسلام الأول، ولأسباب سياسية تتصل بخدمة الصهيونية: فكرة أولا ثم دولة ثانيا، هذه وجهة نظر ربما لا تجد مرجعا مكتوبا يؤيدها غير أن الظروف العامة، والظواهر المترادفة في كتابات هؤلاء المستشرقين تعزز وجهة النظر هذه، وتخلع عليها بعض خصائص الاستنتاج العلمي. وقد تركزت أهداف الاستشراق -مع تنوعها- أخيرا في خلق التخاذل الروحي، وإيجاد الشعور بالنقص في نفوس المسلمين والشرقيين عامة، وحملهم من هذا الطريق على الرضا والخضوع للتوجيهات الغربية. "ومن المبشرين نفر يشتغلون بالآداب العربية والعلوم الإسلامية أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثم يرمون كلهم مما يكتبون إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية، أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية "التي يعدونها نصرانية؛ لأن أمم الغرب تدين بالنصرانية" ليخرجوا دائما بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية والإسلامية، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام، وما غايتهم من ذلك إلا تخاذل روحي وشعور بالنقص في نفوس الشرقيين وحملهم من هذا الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية"2.   1 راجع الصفحات 19 وما بعدها، 28 وما بعدها، 40 وما بعدها. من كتاب "المستشرقون" وراجع المجلدين الثالث والرابع من مجلة المجمع العلمي العربي لعامي 1923, 1924 وراجع مجلة الإسلام بالإنجليزية Al-Islam في أعدادها الصادرة في فبراير وأبريل ومارس ومايو، من عام 1958. 2 التبشير والاستعمار: ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 من مظاهر المستشرقين: حاول المستشرقون أن يحققوا أهدافهم بكل الوسائل: ألفوا الكتب, وألقوا المحاضرات والدروس، و"بشروا" بالمسيحية بين المسلمين، وجمعوا الأموال وأنشئوا الجمعيات وعقدوا المؤتمرات، وأصدروا الصحف، وسلكوا كل مسلك ظنوه محققا لأهدافهم. وهذه نماذج من صور نشاطهم المتعدد الجوانب: - في عام 1787 أنشأ الفرنسيون جمعية المستشرقين، وألحقوا بها أخرى في عام 1820، وأصدروا "المجلة الأسيوية". - وفي لندن تألفت جمعية لتشجيع الدراسات الشرقية في عام 1823، وقبل أن يكون الملك ولي أمرها، وأصدرت "مجلة الجمعية الآسيوية الملكية". - وفي عام 1842 أنشأ الأمريكيون جمعية ومجلة باسم "الجمعية الشرقية الأمريكية" وفي العام نفسه أصدر المستشرقون الآلمان مجلة خاصة بهم, كذلك فعل المستشرقون في كل من النمسا وإيطاليا وروسيا. - ومن المجلات التي أصدرها المستشرقون الأمريكيون في هذا القرن "مجلة جمعية الدراسات الشرقية", وكانت تصدر في مدينة جامبير Cambier بولاية أوهايو Ohio ولها فروع في لندن وباريس وليبزج، وتورنتو في كندا، ولا يعرف إن كانت تصدر الآن أم لا، طابعها العام على كل حال طابع الاستشراق السياسي وإن كانت تعرض من وقت لآخر لبعض المشكلات الدينية، وخاصة في باب الكتب. - ويصدر المستشرقون الأمريكيون في الوقت الحاضر "مجلة شئون الشرق الأوسط" وكذلك "مجلة الشرق الأوسط" وطابعها على العموم طابع الاستشراق السياسي كذلك. وأخطر المجلات التي يصدرها المستشرقون الأمريكيون في الوقت الحاضر هي مجلة "العالم الإسلامي" The Muslim World أنشأها صموئيل زويمر Zweimer في سنة 1911، وتصدر الآن من هارتيفورد Hartford بأمريكا ورئيس تحريرها كنث كراج K. Cragg وطابع هذه المجلة تبشيري سافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وللمستشرقين الفرنسيين مجلة شبيهة بمجلة "العالم الإسلامي" في روحها واتجاهها العدائي التبشيري واسمها أيضا "Le Monde Musulman". ولعل أخطر ما قام به المستشرقون حتى الآن هو إصدار "دائرة المعارف الإسلامية" بعدة لغات، وكذلك إصدار موجز لها بنفس اللغات الحية التي صدرت بها الدائرة، وقد بدءوا في الوقت الحاضر في إصدار طبعة جديدة تظهر في أجزاء، ومصدر الخطورة في هذا العمل هو أن المستشرقين عبئوا كل قواهم وأقلامهم لإصدار هذه الدائرة، وهي مرجع لكثير من المسلمين في دراساتهم، على ما فيها من خلط وتحريف وتعصب سافر ضد الإسلام والمسلمين. واستطاع المستشرقون أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي في مصر، والمجمع العلمي في دمشق، والمجمع العلمي في بغداد. ويعمد المستشرقون -فيما يعتمدون- على عقد المؤتمرات العامة من وقت لآخر لتنظيم نشاطهم، وأول مؤتمر عقدوه كان في سنة 1873، وما زالت مؤتمراتهم تتكرر حتى اليوم. وفي العصر الحديث تقوم المؤسسات الدينية والسياسة والاقتصادية في الغرب بما كان يقوم به الملوك والأمراء في الماضي: من الإغداق على المستشرقين وحبس الأوقاف والمنح على من يعملون في حقل الاستشراق. واتجه المستشرقون والمبشرون بمعاونة الاستعمار إلى مجال التربية، محاولين غرس مبادئ التربية الغربية في نفوس المسلمين؛ حتى يشبوا "مستغربين" في حياتهم وتفكيرهم، وحتى تخف في نفوسهم موازين القيم الإسلامية "انظر ص114 من مجلة "الإسلام" Al-Islam الصادرة في 16 مارس سنة 1958". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 جدول رقم "1": المستشرقون المعاصرون : - إبراهام كاش: عرف من نشاطه أنه مؤلف كتاب "اليهودية في الإسلام". - س. س. أدامز C.C Adams: إنجليزي باشر التدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لفترة من الزمن، ومؤلف كتاب "الإسلام والتجديد في مصر" المترجم من الإنجليزية إلى العربية تحت العنوان المذكور. - إداورد أبر: أستاذ في الجامعة الكاثوليكية في واشنطن. - إدوارد فرمان E. Ferman: من ألد أعداء الإسلام وأكثر المستشرقين طعنا فيه، له كتاب بالإنجليزية عن "تاريخ المسلمين وفتوحاتهم". - أدوين كالفرلي E. Calverley: أمريكي متعصب. رئيس تحرير مجلة "العالم الإسلام" The Muslim World الأمريكية لفترة من الزمن، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية"، ومن الذين باشروا التدريس في الجامعة الأمريكية في القاهرة عدة مرات، معروف باتجاهات تبشيرية سافرة. - إريك شرودر: مؤلف كتاب "أمة محمد" الذي صدر بالإنجليزية سنة 1955. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 - ج. س. آرثر Arthur: مؤلف "العناصر الصوفية في محمد" الذي صدر بالإنجليزية في سنة 1954. - آرثر جيفري Arthur Jeffry: معروف بتعصبه السافر ضد الإسلام والمسلمين، ومن كتبه: - "مصادر تاريخ القرآن"، صدر بالإنجليزية في سنة 1937. - "الكلمات الدخيلة في القرآن" بالإنجليزية. - "القرآن ككتاب ديني" صدر بالإنجليزية في سنة 1952. - ت. و. آرنولد T.W. Arnold: إنجليزي اشترك في تحرير "دائرة المعارف الإسلامية" ومن كتبه: - "الدعوة إلى الإسلام" ترجم من الإنجليزية إلى العربية تحت العنوان المذكور. - "الخلافة"، صدر بالإنجليزية في سنة 1924. - "تراث الإسلام" صدر بالإنجليزية في سنة 1931. - أرنولد توينبي Arnold Toynbee: إنجليزي له أخطاء فيما كتب عن الإسلام والرسول في كتابه العالمي "دراسة في التاريخ" وخطؤه هنا شديد الخطورة؛ لأن الكتاب يعتبر أحسن دراسة موضوعية للتاريخ في العصر الحديث في نظر كثير من الناس، وخاصة الشرقيين والعرب منهم بوجه أخص. - أ. أ. إلدر Elder: قسيس يساهم في تحرير "مجلة العالم الإسلامي" التي تصدر بالإنجليزية في أمريكا. - ألفرد كارلتون A. Karlton: أمريكي كان مديرا لكلية حلب، ثم عين نائبا لرئيس جمعية البعثات الأمريكية التبشيرية في الخارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 - ج. أ. أ. إيزنبرج J. Eisenberg: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية": - و. إيفانو W. Ivanow: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ف. بابنجر F. Babinger: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. باجليارو A. Bagliaro: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ج. باريت J. Barth من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ر. باريت R. Paret: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ر. باست R. Passet: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. بشوب Bishop: قسيس يساهم في تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية. - براون Browne: إنجليزي كان عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق. - ل. ل. براون L. L. Brown: قسيس أمريكي يساهم في تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 - س. س. برج. من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - هـ. هـ. برو H. H. Brau: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. ل. بروفنسال E. L. Provensal: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ر. بل. R. Bell. إنجليزي كثير الخطأ في حديثه عن الإسلام والقرآن، ومن كتبه: - "أصول الإسلام في بيئته المسيحية" صدر في سنة 1926. - "القرآن" صدر في سنة 1937. - "مقدمة القرآن" صدر في عام 1954. - ر. بلاشير: R. Blacher: فرنسي ومؤلف كتاب "مقدمة القرآن" صدر في 1947. - م. بلسنر M. Plessner: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ف. بول: F. Buhl: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ت. ف. بوتشنر T. V. Buchner: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ج. بيدرسن J. Podersen: دانيمركي ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية" وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق، والآن أستاذ في جامعة كوبنهاجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 - ك. بيكنز: قسيس يساهم في تحرير، "مجلة العالم الإسلامي" الأمريكية. - أ. س. بيفريدج A. S. Beveridge: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - س. هـ. بيكر S. H. Becker: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. س. تريتون A. S. Tritton: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ر. تشودي R. Chudi: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - توماس جوينبول Th. Juyboll: من كبار محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - تيودري نولدكه T. Noeldeke: ألماني معروف بعدائه للإسلام، له كتاب عن القرآن، وكتاب آخر عن التاريخ الإسلامي ظهر بالإنجليزية في "مسلسلة تاريخ العالم". - جايتاني Gaetani: إيطالي، وكان عضوا بالمجمع العلمي في دمشق. - أ. جروهمان A. Grohman: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - جريفني Griffni: إيطالي، وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 - جوتهيل Gottheil: كولومبي، وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق. - ل. جوثير L. Gauthier: فرنسي، متعصب دينيا وجنسيا، وكثير التشهير بالإسلام والحقد عليه، من أتباع رينان في فكرة تمييز الآريين في السيادة على غيرهم "انظر ص25 وما بعدها من العدد 1 من المجلد 9، يناير سنة 1925" من "مجلة جمعية الدراسات الشرقية". - جودفروي ديمومبنز Gaudefroy Demombynes: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". له كتاب عن "الحج" فيه كثير من الخلط والتشويه "انظر ص13 من العدد 16، من المجلد 9، يناير سنة 1925 من "مجلة جمعية الدراسات الشرقية". - و. جوركمان W. Jhorkman: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - جويدي Guidi: إيطالي، وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق. - ب. جويل B. Goel: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - دي دوسو Guy Dussaud: فرنسي، وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق. - جيمس هنري بريستيد J. H. Brestead: أمريكي, يدير معهد الشرق الأوسط بجامعة شيكاغو في أمريكا. - ج. ل. دلا فيدا G. L. Della Vida: من كبار محرري "دائرة المعارف الإسلامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 - أ. هـ. دوجلاس A. H. Dauglas: من محرري مجلة "دائرة المعارف الإسلامية". - د. م. دونالدسون D. M. Donaldson: قسيس أمريكي، يساهم في تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية ومن كتبه: - "دين الشيعة" صدر في عام 1937. - "دراسات في علم الأخلاق الإسلامية" صدر عام 1953. - دي بور De Boer: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". وله كتب عن الفلسفة والإسلام, ترجم بعضها إلى العربية. - ديتريش Dietrich من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. دينيه E. Dinet: فرنسي، شديد التعصب ضد الإسلام، له كتاب بالفرنسية "الشرق والغرب". - ر. روبرتز R. Roberts: إنجليزي ومؤلف "القوانين الاجتماعية في القرآن" وله دراسة مقارنة بين القرآن والتوراة في القوانين الاجتماعية صدر في عام 1925. - هـ. ريكندروف H. Rekendeof: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية" وله بعض الكتب. - ك. ف. زيترستين K. V. Zettersteen من كبار محرري "دائرة المعارف الإسلامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 - و. سبايز O. Spies: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". هـ. سبير H. Speyer من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - هـ. سترك M. Strech: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ستيفن رونسمان: مؤلف "تاريخ الحروب الصليبية"، صدر الجزء الثالث منه عام 1954. - م. سميث M. Smith: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - سنوك هورج رونجه Snouk Horgronje: هولندي ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية" حارب الإسلام والمسلمين بكتبه، وكان مستشارا لحكومته في شئون أندونسيا له كتاب "الإسلام". - ر. شتروتمان R. Strotman: ألماني الأصل، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ب. شريك B. Schrieke: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ج. شليفر J. Shlaifer: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 - صمويل مرسر S. Mercer: أمريكي، وكان رئيسا لجمعية الدراسات الشرقية الأمريكية، التي تأسست في مدينة جامبير بولاية أوهايو، وكان لها فروع في أوروبا وكندا، كما كان رئيسا لتحرير مجلة هذه الجمعية. - سي. فان أريندونك C. Van Arendonk من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - هـ. فوخس H. Fuchs: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ك. فوللرز K. Vollers: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". -ف. فوكا V. Vocca: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. فيشر A. Fisher: ألماني الأصل، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - كارل بروكلمان Karl Brockelmann: ألماني الأصلي ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية"، صاحب أكبر موسوعة في تاريخ الآداب العربية باللغة الألمانية، ومن مؤلفاته الهامة "تاريخ الشعوب الإسلامية" المترجم من الإلمانية إلى الإنجليزية، كان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق، "انظر الإشارة إلى بعض أخطائه التاريخية والعلمية في مجلة الإسلام Al-Islam التي تصدر بالإنجليزية في كراتشي - باكستان ص141 من عدد أول مايو سنة 1958". - ر. أ. كرن R. A. Kern: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 - أ. كور A. Cour: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - كوستي ولسون K. Willson: يساهم في تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية. - ج. هـ. كريمرز J. H. Kramers: هولندي من محرري "دائرة المعارف الإسلامية" كثير الطعن في الإسلام وصاحب ميول تبشيرية سافرة. - لونجوورث دايمز Longworth Dames: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ت. لويشي T. Luwichi: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ب. لويس: Bernard Lewis: إنجليزي له مقالات كثيرة وبعض الكتب منها: "العرب في التاريخ" صدر في عام 1950، والآن أستاذ بجامعة لندن. - ر. ليفي R. Levy: متخصص في الدراسات الاجتماعية في الإسلام، ومن كتبه: - مقدمة لدراسة علم الاجتماع الإسلامي، صدر في عام 1933. - "الهيكل الاجتماعي للإسلام" ظهر في عام 1957، ويصدر في أجزء متتالية. - ج. مارسايز G. Marsais: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - هـ. ماسي H. Massey: فرنسي ويعرف من مؤلفاته كتاب "الإسلام" صدر في عام 1930. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 - ل. أ. مرل أمريكي يساهم في تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية. ت. منتزل: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - س. موريسون C. Morrison: أمريكي ومؤلف كتاب "التوتر السياسي والاجتماعي والديني في الشرق الأوسط" عام 1954. - ف. مينورسكي V Minorski: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية" والآن أستاذ بجامعة كمبردج. - نالينو Nalino: إيطالي، وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق، معروف بكتاباته ضد الإسلام. - هـ. سي. نيبرج H. S. Nyberg: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - م. نيتس: كان محررا في مجلة العالم الإسلامي "الأمريكية". - و. هارنتر Hartner: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". هارتمان Hartman ألماني الأصل، وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق، ويعرف من مؤلفاته "الإسلام والقومية" ظهر في عام 1948. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 - هاورث دين H. Dunne: من أصل ألماني، ويعيش في أمريكا الآن، يسمي نفسه جمال الدين، ويعرف من مؤلفاته "مقدمة لدراسة التربية في مصر" بالإنجليزية. - هاورد ريد H. Reed: أمريكي, نشأ في بيئة تبشيرية في تركيا، وتخصص في التاريخ الإسلامي والشئون التركية. كان أستاذا ببعض الجامعات الأمريكية، ثم ممثلا لمؤسسة فورد في بيروت، له بعض المقالات, ولا تعرف له كتب تذكر. - م. هوتسما H. Hautsma: هولندي، وكان عضوا بالمجمع العلمي العربي في دمشق، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية". -هورفيتس J. Horovits: ألماني الأصل, ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. هونجمان A. Hongman: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - أ. ج. هويسمان A. J. Huisman: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". ب- هلر B. Heller: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - و. هيفننج W. Heffening: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - هيورت Huart: من المستشرقين المشهورين بالتخبط في عرض الإسلام، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 - م. وات M. Watt: إنجليزي له بعض المقالات ومن كتبه: - "الجبر والاختيار في الإسلام" صدر في عام 1948. - "محمد في مكة" صدر في عام 1953. - ج. ووكر J. Walker: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية"، ومؤلف كتاب: "ملامح من التوراة في القرآن"، صدر في عام 1936. - ب. ويتك P. Wittek: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ت. هـ. وير T. H. Weir: من محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - ك. يانج C. Young: أمريكي مارس التبشير في إيران، كان أستاذا في قسم الدراسات الشرقية بجامعة برنستون في أمريكا، والآن مدير هذا القسم، ومستشار وزارة الخارجية الأمريكية في شئون الشرق الأوسط، وخاصة في شئون إيران، له مقالات متفرقة ولا يعرف له كتب تذكر. - يوليوس ولهاوزن J. Welhausen: ألماني الأصل "1844-1919" اشتهر بتعصبه ضد الإسلام وتشويه مبادئه، يعرف من كتبه "تاريخ اليهود". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 جدول رقم "2": المتطرفون من المستشرقين الذين تعد كتاباتهم حجة بين الغربيين، أو لآرائهم شبه حجية بين المسلمين. - أ. ج. أربري A. J. Arberry: إنجليزي معروف بالتعصب ضد الإسلام والمسلمين، من محرري "دائرة المعارف الإسلامية" والآن أستاذ بجامعة كمبردج، ومن المؤسف أنه أستاذ لكثير من المصريين الذين تخرجوا في الدراسات الإسلامية واللغوية في إنجلترا، ومن كتبه: - "الإسلام اليوم" صدر في عام 1943. - "مقدمة لتاريخ التصوف" صدر في عام 1947. - "التصوف" صدر في عام 1950. - "ترجمة القرآن" صدر في عام 1950. - ألفرد جيوم A. Geom: إنجليزي معاصر، اشتهر بالتعصب ضد الإسلام، حاضر في جامعات إنجلترا وأمريكا، وتغلب على كتاباته وآرائه الروح التبشيرية، ومن كتبه "الإسلام" ومن المؤسف أنه تخرج عليه كثير ممن أرسلتهم الحكومة المصرية في بعثات رسمية للخارج لدراسة اللغات الشرقية. - بارون كارادي فو Baron Carrade Vaux: فرنسي متعصب جدا ضد الإسلام والمسلمين، ساهم بنصيب بارز في تحرير "دائرة المعارف الإسلامية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 - هـ. ا. ر. جب H. A. R. Gibb: أكبر مستشرقي إنجلترا المعاصرين، كان عضوا بالمجمع اللغوي في مصر والآن أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة هارفرد الأمريكية. من كبار محرري وناشري "دائرة المعارف الإسلامية" له كتابات كثيرة فيها عمق وخطورة، وهذا هو سر خطورته، ومن كتبه: - "طريق الإسلام" ألفه بالاشتراك مع آخرين، وترجم من الإنجليزية إلى العربية تحت العنوان المذكور. - "الاتجاهات الحديثة في الإسلام". - صدر في عام 1947 وأعيد طبعه وترجم إلى العربية تحت العنوان المذكور. - "المذهب المحمدي" صدر عام 1947 وأعيد طبعه. - "الإسلام والمجتمع الغربي" يصدر في أجزاء، وقد اشترك معه آخرون في التأليف، وله مقالات أخرى متفرقة. - جولدزيهير Goldziher: مجري، عرف بعدائه للإسلام، وبخطورة كتاباته عنه، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية" كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه "تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي" المترجم إلى العربية تحت العنوان السابق. - جون ماينارد J. Maynard: أمريكي متعصب، كان يساهم في تحرير "مجلة جمعية الدراسات الشرقية" الأمريكية، وخاصة باب الكتب الجديدة التي لها صلة بالإسلام وبالشرق على العموم، "انظر -مثلا- ص22 وما بعدها من العدد 2، من المجلد 8، أبريل سنة 1924 من المجلة المذكورة". - س. م. زويمر S.M. Zweimer: مستشرق مبشر، اشتهر بعدائه الشديد للإسلام، مؤسس مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية التبشيرية, ومؤلف كتاب "الإسلام تحد لعقيدة" صدر في سنة 1908، وناشر كتاب "الإسلام" وهو مجموعة مقالات قدمت للمؤتمر التبشيري الثاني في سنة 1911 بلكنو في الهند، وتقديرا لجهوده التبشيرية أنشأ الأمريكيون وقفا باسمه على دراسة اللاهوت وإعداد المبشرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 - عزيز عطية سوريال: مصري مسيحي، كان أستاذا بجامعة الإسكندرية، والآن يدرس بإحدى جامعات أمريكا، شديد الحقد على الإسلام والمسلمين، وكثير التحريف للتعاليم الإسلامية، يستعين على الحقد والتحريف بكونه بعيدا عن مصر والمسلمين, له بعض الكتب عن الحروب الصليبية. - غ. فون جرونباوم G. von Grunbaum: من أصل ألماني يهودي، مستورد إلى أمريكا للتدريس بجامعاتها، وكان أستاذا بجامعة شيكاغو، من ألد أعداء الإسلام، وفي جميع كتاباته تخبط واعتداء على القيم الإسلامية والمسلمين، كثير الكتابة، وله معجبون من المستشرقين. ومن كتبه: - "إسلام العصور الوسطى" صدر في عام 1946. - "الأعياد المحمدية" صدر في عام 1951. - "محاولات في شرح الإسلام المعاصر" صدر في عام 1947. - "دراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية" صدر في عام 1954. - "الإسلام" مجموعة من المقالات المتفرقة، صدر في عام 1957. - "الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية" صدر في عام 1955. - فيليب حتِّي P. H. Hitti: لبناني مسيحي تأمرك، كان أستاذا بقسم الدراسات الشرقية بجامعة برنستون بأمريكا ثم رئيسا لهذا القسم، وهو الآن بالمعاش، من ألد أعداء الإسلام، ويتظاهر بالدفاع عن القضايا العربية في أمريكا، وهو مستشار غير رسمي لوزارة الخارجية الأمريكية في شئون الشرق الأوسط، يحاول دائما أن ينتقص دور الإسلام في بناء الثقافة الإنسانية، ويكره أن ينسب للمسلمين أي فضل؛ فقد كتب -على سبيل المثال- في "دائرة المعارف الأمريكية" طبع سنة 1948 تحت عنوان "الأدب العربي" ص129 يقول: "ولم تبدأ أمارات الحياة الأدبية الجديدة بالظهور إلا في القسم الأخير من القرن التاسع عشر، وكان الكثرة من قادة هذه الحركة الجديدة نصارى من لبنان، تعلموا واستوحوا من جهود المبشرين الأمريكيين"، ومحاولات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 "حتي" انتقاص فضل الإسلام والمسلمين ليست فقط قاصرة على العصر الحديث، ولكنها تنطبق على جميع مراحل التاريخ الإسلامي كما هو موضح في كتبه نذكر منها: - "تاريخ العرب" ظهر بالإنجليزية وأعيد طبعه عدة مرات، وهو مليء بالطعن في الإسلام والسخرية من نبيه، وكله حقد وسم وكراهية، انظر مثلا مجلة "الإسلام" بالإنجليزية Al-Islam التي تصدر في كراتشي - باكستان ص138 من عدد أبريل سنة 1958 ص146 من عدد أول مايو سنة 1959. - "تاريخ سوريا". - "أصل الدروز وديانتهم" صدر في سنة 1928. - أ. ج. فينسينك: عدو لدود للإسلام ونبيه، كان عضوا بالمجمع اللغوي المصري، ثم أخرج منه على أثر أزمة أثارها الدكتور الطبيب حسين الهواري مؤلف كتاب "المستشروق والإسلام" صدر في سنة 1936. وحدث ذلك بعد أن نشر فنيسينك رأيه في القرآن والرسول، مدعيا أن الرسول ألف القرآن من خلاصة الكتب الدينية والفلسفية التي سبقته، انظر "المستشرقون والإسلام" ص710 وما بعدها، هذا والمعروف لفينسينك، كتاب تحت عنوان "عقيدة الإسلام" صدر في سنة 1932. - كينيت كراخ: أمريكي شديد التعصب ضد الإسلام، قام بالتدريس في الجامعة الأمريكية، بالقاهرة لفترة من الوقت، والآن رئيس تحرير مجلة "العالم الإسلامي" الأمريكية التبشيرية، ورئيس قسم اللاهوت المسيحي في هارتفورد "ومعهد" مبشرين, ومن كتبه "دعوة المئذنة" صدر في عام 1956. - لوي ماسينيون L. Massignon: أكبر مستشرقي فرنسا المعاصرين، ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال إفريقيا، والراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، زار العالم الإسلامي أكثر من مرة، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى، وكان عضوا بالمجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 اللغوي المصري، والمجمع العلمي العربي في دمشق، متخصص في الفلسفة والتصوف الإسلامي، ومن كتبه: "الحلاج الصوفي الشهيد في الإسلام"، صدر في سنة 1922 وله كتب وأبحاث أخرى عن الفلسفة والتصوف، وهو من كبار محرري "دائرة المعارف الإسلامية". - د. ب. ماكدونالد D. B. Macdonald: أمريكي من أشد المتعصبين ضد الإسلام والمسلمين، يصدر في كتاباته عن روح تبشيرية متأصلة، من كبار محرري "دائرة المعارف الإسلامية" ومن كتبه: - "تطور علم الكلام والفقه والنظرية الدستورية في الإسلام" صدر سنة 1903. - "الموقف الديني والحياة في الإسلام" صدر سنة 1908. - مايلز جرين M. Green: سكرتير تحرير مجلة "الشرق الأوسط". - مجيد قدوري: مسيحي عراقي، رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة جون هوبكنز في واشنطن، ومدير معهد الشرق الأوسط للأبحاث والتربية بواشنطن متعصب حقود على الإسلام وأبنائه، ومن كتبه المشحونة بالطعون والأخطاء: "الحرب والسلام في الإسلام" صدر في سنة 1955، وله مقالات أخرى. - د. س. مرجوليوث D. S. Margoliouth: إنجليزي متعصب ضد الإسلام، ومن محرري "دائرة المعارف الإسلامية". كان عضوا بالمجمع اللغوي المصري والمجمع العلمي في دمشق، ومن كتبه: - "التطورات المبكرة في الإسلام" صدر في سنة 1913. - "محمد ومطلع الإسلام"، صدر في سنة 1905. - "الجامعة الإسلامية"، صدر في سنة 1912. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 - ر. ل. نيكولسون R. L. Nicholson: كان من أكبر مستشرقي إنجلترا المعاصرين، ومن محرري "دائرة المعارف" تخصص في التصوف الإسلامي والفلسفة, وكان عضوا بالمجمع اللغوي المصري، وهو من المنكرين على الإسلام أنه دين روحي, ويصفه بالمادية وعدم السمو الإنساني، ومن كتبه: - "متصوفو الإسلام" صدر في سنة 1910. - "التاريخ الأدبي للعرب" صدر في سنة 1930. - هارفلي هول: رئيس تحرير "مجلة الشرق الأوسط" الأمريكية، وخطورته أنه يوجه سياسة مجلة من أهم المجلات المعنية بشئون الشرق الأوسط السياسية والثقافية في العصر الحديث. - هنري لامنس اليسوعي H. Lammens: فرنسي 1872-1937: من محرري "دائرة المعارف" شديد التعصب ضد الإسلام والحقد عليه، مفرط في عدائه وافتراءاته لدرجة أقلقت بعض المستشرقين أنفسهم!! "انظر ص15, 16 من1، من المجلد 6 يناير سنة 1925 من "مجلة جمعية الدراسات الشرقية" الأمريكية ومن كتبه: - "الإسلام". - "الطائف". - يوسف شاخت J. Shacht: ألماني متعصب ضد الإسلام والمسلمين، له كتب كثيرة عن الفقه الإسلامي وأصوله، من محرري "دائرة المعارف الإسلامية, ودائرة معارف العلوم الاجتماعية"، وأشهر كتبه "أصول الفقه الإسلامي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 جدول رقم "3": بعض الكتب المتطرفة المشوهة للإسلام، والشائعة الانتشار أو لها شبه حجية عند المسلمين: -موسوعات: - "دائرة المعارف الإسلامية" The Encyclopaedia of Islam. صدرت بعدة لغات حية، ويعاد طبعها في الوقت الحاضر، وقد ظهر بعض أجزاء الطبعة الجديدة بالفعل. - "موجز دائرة المعارف الإسلامية" Shorter Encyclopaedia Of Islam. - "دائرة معارف الدين والأخلاق" Encyclopaedia Of Religion and Ethics. "المقالات المتعلقة بموضوعات إسلامية". - "دائرة معارف العلوم الاجتماعية" Encyclopaedia Of Social Sciences. "الموضوعات المتصلة بالإسلام والعرب". - "دراسة في التاريخ". "القسم المتصل بالإسلام ورسوله" من تأليف أرنولد توينبي A. Toynbee. الكتب: - "حياة محمد" من تأليف سير وليام موير W. Muir - "الإسلام" من تأليف ألفرد جيوم A. Geom - "دين الشيعة" من تأليف د. م. دونالدسون D. M. Donaldson. - "تاريخ شارل الكبير" من تأليف القس تربين Bishop Turpin. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 - "الإسلام"، "تحد لعقيدة" ظهر بالإنجليزية من تأليف المبشر زويمر.S. M. Zweimer. - "دعوة المئذنة" ظهر بالإنجليزية من تأليف كينيت كراج K. Cragg. - "الإسلام اليوم" بالإنجليزية من تأليف أ. ج. أبري A. J. Arbrry. - الترجمة الإنجليزية من وضع أ. ح. أبري. - "تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي" ظهر بالألمانية وترجم إلى العربية من تأليف جولدزيهر Goldziher. - "تاريخ العرب" ظهر بالإنجليزية والعربية، وطبع عدة طبعات، من تأليف فيليب حتي. - "اليهودية في الإسلام" ظهر بالإنجليزية من تأليف إبراهام كاش. - "عقيدة الإسلام" ظهر بالإنجليزية من تأليف ا. ج. فينسينك Wensink - "الحلاج الصوفي الشهيد في الإسلام" ظهر بالفرنسية من تأليف لوي ماسينيون L. Massingon - "الحرب والسلام في الإسلام، ظهر بالإنجليزية من تأليف مجيدي قدوري. - "تطور علم الكلام والفقه والنظرية الدستورية في الإسلام". ظهر بالإنجليزية من تأليف د. ب. ماكدونالد O. B. Macdonald. - الاتجاهات الحديثة في الإسلام, ظهر بالإنجليزية وترجم إلى العربية. من تأليف هـ. ا. ر. جب Gibb. - "طريق الإسلام" ظهر بالإنجليزية وترجم إلى العربية, من تأليف جماعة من المستشرقين اشترك في تأليفه ونشره هـ. ا. ر. جب. - "التصوف في الإسلام" ظهر بالإنجليزية. وترجم إلى العربية من تأليف ر. ا. نيكلسون Nicholson. - "مصادر تاريخ القرآن" بالإنجليزية من تأليف آرثر جيفري Arthur Jeffry. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 - مقدمة القرآن "بالإنجليزية من تأليف ر. بل. - "التطورات المبكرة في الإسلام" بالإنجليزية من تأليف د. س. مرجوليوث D.S. Margoliouth. - "محمد ومطلع الإسلام" بالإنجليزية ولنفس المؤلف. - "الإسلام" بالإنجليزية ولنفس المؤلف. - "الجامعة الإسلامية" بالإنجليزية ولنفس المؤلف. - "قنطرة إلى الإسلام" ظهر بالإنجليزية من تأليف أريك بيتمان. - "إسلام العصور الوسطى" ظهر بالإنجليزية من تأليف ج. فون جرونباوم G. Von Grunebaum. - "الإسلام" مجموعة مقالات متفرقة ظهرت بالإنجليزية للمؤلف السابق. -" الأعياد المحمدية" بالإنجليزية ولنفس المؤلف. - "الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية" بالإنجليزية ولنفس المؤلف. - "دراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية" بالإنجليزية ولنفس المؤلف. - "محاولات.. في شرح الإسلام المعاصر" مجموعة مقالات ظهرت بالإنجليزية لنفس المؤلف. الدوريات: - "مجلة العالم الإسلامي" The Muslim World مجلة تبشيرية تصدر بالإنجليزية في هارتسورد بأمريكا، وتوزع في جميع أنحاء العالم. - "مجلة العالم الإسلامي" Le Monde Musalman مجلة تبشيرية تصدر بالفرنسية في فرنسا، وتوزع في جميع أنحاء العالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 - "مجلة جمعية الدراسات الشرقية" أنشأها المستشرقون الأمريكيون في جامبير Gombier بولاية أوهايو Ohio وكان لها بعض فروع في أوروبا وكندا. - "مجلة شئون الشرق الأوسط" تصدر بالإنجليزية في أمريكا، ويحررها عدد من المستشرقين المعادين للعرب والمسلمين, واهتمامها موجه في الدرجة الأولى إلى الجوانب السياسية. - "مجلة الشرق الأوسط" مجلة أمريكية سياسية تتعرض للإسلام من وقت لآخر في بعض المقالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 كتاب "مجد الإسلام": لجاستون فييت 1   1 دراسة للأستاذ الدكتور حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، نشرت بالملحق الأدبي لجريدة الأهرام "أهرام الجمعة" وتتضمن عرضا وتحليلا ومناقشة للفكر الاستشراقي من واقع إنتاجه العلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 "هذا "الكلام الفارغ" هو الحديد والنار اللذان يحاربنا بهما أعداؤنا.. والحديد والنار لا يقابلان إلا الحديد والنار، وفي ميدان العلم الحديد والنار هما العمل والعمل الطويل". هذا واحد من عشرات الكتب التي تنشر هنا كل شهر ... كتب كثيرة يكتبها الأعداء والخصوم. مهما كان رأينا فيها، فإنها تمثل خطة وجهدا وسنوات من العمر ... إنها أسلحة يحاربوننا بها, أسلحة تنفعهم في المعركة، لا مجرد فقاقيع يلعب بها الهواء ثم تتلاشى. إننا قد نسخر منها، ولكنها في النهاية تؤذينا، ... إنها سم يستقر في الجسد. وماذا نفعل نحن لنتقي هذا السم؟ هل نتجاهله ونقول: كلام فراغ؟ هل نكتفي بمقال ننشره في صحفنا نطمئن به أنفاسنا على أن كل شيء بخير!! إن هذه الكتب تنشر في الدنيا كلها على نطاق واسع ... - والرد عليها لا يكون إلا في الدنيا كلها وعلى نطاق أوسع ... وذلك يتطلب عملا شاقا ... وهذا بالضبط هو واجبنا اليوم: العمل الشاق. إن الدنيا لا تحترم كتابا يكتبه صاحبه وكأنه يتسلى, كلمتان من هنا وكلمتان من هناك، وعنوان ... وهذا هو الكتاب. ولكن الدنيا كلها تحترم أي مؤلف جاد. مهما كان موقف القارئ منك، فهو يشعر أنه مرغم على احترامك ... وليس في الدنيا شيء أدعى للاحترام من العمل الجاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 إنني لا أعرض هذا الكتاب لأسلي القارئ، أو لأهون عليه أمر خصومنا: إنني أعرضه لأهيب بأهل العلم: قوموا واعملوا، إذا كنتم تريدون أن يزيد احترامنا في قلوب الناس. - المؤلف: لم يفهمنا ولم نفهمه: هذه محاولة لإنجاز تاريخنا الطويل في نيف و350 صفحة، حاول "جاستون فييت" أن يقدم "بانوراما" لتاريخ الإسلام. والطريقة التي سار عليها طريقة معروفة اتبعها غيره في تلخيص تواريخ غيرنا من الإمم، وهي عرض التاريخ عن طريق صفحات مختارة من أقوال المؤرخين والكتاب المعاصرين لكل فترة من فترات هذا التاريخ إذا أمكن. ومهمة المؤلف في أمثال هذه الكتب هي تحديد الاتجاه الذي سيسير عليه الكتاب، ثم في اختيار الصفحات بناء على ذلك الاتجاه، وأخيرا الربط بينها بعبارات مختصرة قدر الإمكان. وهنا خطورة هذا الطراز من التأليف؛ لأن المؤلف مهما اجتهد في تحري الإنصاف في الاختيار لا يمكن أن يتخلص من شخصيته وميوله، ولا يمكن بالتالي أن يقول: إن الكتاب ليس من تأليفه وتوجيهه، أو إنه لا يمثل رأيه. فالكتاب ليس كتابه من ناحية؛ لأنه مجموع مختارات: والكتاب كتابه من ناحية أخرى؛ لأن هو الذي اختار ورتب ربط المتفرقات. وهو منقود بسبب الاختيار. وهو منقود مرة أخرى بسبب الربط والتوجيه. وقَلَّ أن ألف رجل كتابا على هذا المنهج ثم سلم من النقد الشديد. والمؤلف هنا فرنسي. والفرنسي، مهما بلغ علمه، ومهما قيل عن تجرده لا يمكن أن ترضى نفسه بإنصاف العرب والمسلمين بحال! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وهو رجل معروف لنا, كان مديرا لمتحف الفن الإسلامي لسنوات طويلة. وقد كتب تاريخا عاما لمصر الإسلامية مرتين. وترجم كتاب الأيام لطه حسين، ويوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم ومجموعة قصص "بنت الشيطان" لمحمود تيمور. وكتابه الذي ألفه مع "لوي هو تكور" عن مساجد القاهرة معروف. وهو الذي نشر جزءا كبيرا من خطط المقريزي. وقبل أن يصدر كتابه الذي نعرضه اليوم نشر قطعة كبيرة من بدائع الزهور لابن إياس بعنوان لطيف: "يوميات رجل من الأوساط من أهل القاهرة". وهو إذن رجل كان من المنتظر أن يعرفنا جيدًا. وكنا نحسب أننا نعرفه جيدا. - هذا الحقد القديم المتجدد: ولكن كتابه هذا يدل على أننا كنا مخطئين في الأمرين معا: فلا نحن عرفناه؛ ولا هو عرفنا كما ينبغي أن يعرف الناس الناس ... وفي عرضه المجهد لتاريخنا فاتته أهم الحقائق التي سيرت هذا التاريخ: استحوذت على اهتمامه حوادث السياسة والوقائع والحروب، فمضى يتابع قيام الدول وسقوطها والحروب ووقائعها. وفاته أن للعرب والمسلمين تاريخا آخر غير هذه السلسلة الطويلة من وقائع السياسة والميادين. فاته تاريخ المجتمع الإسلامي: كيف تكون وكيف قام, وتاريخ اللغة العربية كيف سارت من الخليج إلى المحيط، وتاريخ الحضارة الإسلامية، وهو في الواقع كتاب تاريخ أممنا جميعا ... فليس بين فصول كتابه فصل واحد عن انتشار الإسلام وكيف كان؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وليس هناك سطر واحد عن لغة العرب وكيف أصبحت لغة الملايين؟! ولا ذكر في كتابه لنواحي حضارتنا كل ما هناك هو أنه يقف في نهاية الكتاب، فيقول: إن حضارتنا ركدت بعد القرن الخامس عشر؛ لأنها لم تقم على أساس حضارة اليونان! وهذا أعجب ما سمعناه من مؤرخ!!! وهذا أغرب ما يمكن أن يقوله عالم له هذه الخبرة بتاريخ المسلمين!!! إن صاحبنا يجري في تيار هذا الخيال الفرنسي الذي يعود إلى حضارة الإغريق بكل شيء، والمؤرخون في الدنيا كلها قد نزعوا عن ذلك الوهم الذي ساد الفكر الأوروبي إلى الحرب العالمية الأولى ... لأن حضارة أوروبا اليوم ليست استمرارا لحضارة الإغريق، ولو كانت استمرارا لها لكنا نقول اليوم بهذا الشطط الذي قاله أفلاطون في "الجمهورية" داعيا إلى جعل الحكم في أيدي طائفة مختارة من الناس يتصاهرون فيما بينهم، ويلدون أطفالهم بصورة جماعية، ثم تربيهم الدولة محافظة على سلامة الجنس الممتاز!!! وماذا أقول؟ ألا يعرف المؤلف أن أحدا من الشعوب لم يدرس أرسطو كما درسناه، وأن قوما لم يهتموا ببطليموس كما اهتممنا به؟!! ولكني أعود فأقول: إن المؤلف فرنسي، والفرنسي لا يفهم العربي أبدًا. هناك ستار من الحقد عند أصحابنا أبناء فرنسا يحول بينهم وبين أن يفهمونا! حقد قديم يرجع إلى أيام الحروب الصليبية، والفرنسيون يعتقدون أنها كانت حربا بين فرنسا والإسلام ... وحقد جديد بدأ سنة 1830 عندما اعتدى الفرنسيون على الجزائر ... حقد على عرب المغرب؛ لأنهم لم يستسلموا لفرنسا ويقدموا بلادهم هدية لها! وحقد على عرب المشرق؛ لأنهم لم يتركوا إخوانهم لها تفعل بهم ما تريد ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وحقد؛ لأن فرنسا لا تعرف كيف تخرج من المشكلة التي أوقعت نفسها فيها في المغرب ... راحت الجمهورية الرابعة وستروح الجمهورية الخامسة.. هلك الألوف وضاعت الملايين!! حقد نحن ضحيته ومنح ناره التي تتقد!! حقد يفسد كل ما يكتبه الفرنسيون عنا، فلنر إذن كيف أفسد الحقد هذا الكتاب. - التشويه يبدأ من الصفحة الأولى: يبدأ ذلك من الفصل الأول عن محمد صلوات الله عليه. وهو كغيره من المستشرقين الفرنسيين يردد نفس الأفكار التي حالت بين جمهور قرائهم وفهم صاحب الرسالة عليه السلام. من هذه الأساطير مثلا: أن بني أمية كانوا قبل الإسلام أغنى وأعز من بني هاشم. مع أنهم يعرفون أن أعلا ذروة بلغها قرشي قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت لعبد المطلب وهو ابن هاشم وجد النبي المباشر. وأن بني عبد شمس بن عبد الدار كانوا أفقر وأضعف بكثير من بني هاشم بن عبد مناف. وهو يعتمد في حوادث السيرة على كتاب البدء والتاريخ للمقدسي، والمقدسي من أهل القرن العاشر. وهو يصور لقرائه أن القرآن الكريم كتاب غير منزل. ونحن لا نطالبه بأن يعتقد ما نعتقد، فليس من الضروري ألا يكتب عن الإسلام غير المسلم، ولكن إيمان المسلمين بنبيهم وألوهية رسالته، هو الإساس الذي يقوم عليه الكيان الإسلامي كله، لا بد أن يقول المؤرخ لقرائه ذلك، ولا بد أن يعينهم على إدراك قوة هذا الإيمان، حتى يضعوا أيديهم على سر القوة في تاريخ المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 أما إلقاء الشك والسخرية فيترك القارئ، وهو لا يدري كيف حقق المسلمون ذلك كله. وعلى هذا فإن محمدا الذي يصوره أولئك المستشرقون ليس محمدا رسول الله الذي نحن على دينه: إنه رجل من صنع خيالهم وتصورهم. وإذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- هو عماد تاريخ الإسلام كله، فإن تاريخ الإسلام الذي يصوره أولئك المستشرقون ليس تاريخ الإسلام. ولكن "فييت" يختم هذا الفصل عن السيرة بعبارة للطبري في صفة الرسول -صلى الله عليه وسلم: صفته الجسمانية، أما صفاته الروحية وشمائله الخلقية فيوجزها في عبارة لا تخرج منها إلا بأنه كان سياسيا ماهرًا. شتان بين إعجاب وإعجاب: ويمر المؤلف مسرعا بأبي بكر وعمر دون أن يخطر بباله أن يتفكر لحظة في ملكات هذين العبقريين. الفتوح الإسلامية في نظره غزوات، ومعاهدات الصلح لا هدف لها إلا الجزية والخراج!! ثم ينتقل إلى بني أمية ... والفرنسيون معجبون ببني أمية ... وسر الإعجاب أن جدهم أبا سفيان كان عدو الرسول -صلى الله عليه وسلم، واقرأ إذ أردت ما كتبه عميدهم "هنري لامانس" عن معاوية ويزيد وبعد الملك وبقية بني مروان. ونحن معجبوب ببني أمية. ولكن شتان بين الإعجابين: فهم معجبون بهم عن طريق الحقد، ونحن معجبون بهم عن طريق الحب: يعجبنا حلم معاوية ورجولته وسياسته وتوحيده أمر المسلمين. وتعجبنا عروبة عبد الملك بن مروان وإيمانه بها الذي خطا بسير التعريب خطوات حاسمة إلى الأمام. ويعجبنا إيمان الوليد وسليمان وما تم على يديهما من فتوح ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وتعجبنا من بني أمية الفحولة والأصالة والشهامة والعروبة ... ولكن ماذا يعجب الفرنسي من بني أمية؟ يعجبهم أبو سفيان؛ لأنه حارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ويعجبهم معاوية؛ لأنه انتزع الخلافة من يد علي. ويعجبهم يزيد؛ لأنه قتل الحسين وأمر جنده بمهاجمة مكة. ويعجبهم تمثيل الحجاج بأهل العراق، ويعجبهم خبث المغيرة بن شعبة. وهذه هي معظم الصفحات المختارة عن بني أمية! وهذا تاريخ بني العباس: وينتقل إلى بني العباس، فماذ يختار عن بني العباس؟ بناء بغداد "عن ابن واضح اليعقوبي". وهو يختار هذه القطعة ليقول: إن الدولة الإسلامية خرجت من يد العرب، وهو يصر على هذه الفكرة إصرارا غريبا، كأنها وجدت من نفسه هوى ... ثم ينقل عن أبي يوسف القاضي نص رسالة ابن المقفع في معاملة أهل الذمة، ينقلها لكي يؤكد ما يقوله غيره من المستشرقين عن سوء حالهم في ظلال الإسلام. وهذه الرسالة مكذوبة، وقد أثبتنا في أبحاثنا أنها من مخترعات طوائف الفرس الحاقدة على العرب والإسلام. ثم ينقل عن ابن خلدون فقرة قصيرة عن نشوء مذاهب التشريع الإسلامي. وأي مؤرخ يعرف ما هو التاريخ, ينبغي أن يقف طويلا أمام عبقريات مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، تلك التي وضعت تشريعات تروع النفس، عاشت منها وفيها جماعات المسلمين جيلا بعد جيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وأين العبقرية التشريعية اليونانية من عبقريات مشرعي الإسلام!! ويخصص المؤلف ضعف هذا الحجم لوصية عبد الحميد الكاتب للكتاب ... وعندما يصل إلى هارون الرشيد لا يورد عنه إلا قطعة من يوميات "أجينار" مؤرخ شرلمان تصف سفارة الرشيد إليه ... وهذه السفارة على ما هو معروف أسطورة من الأساطير ... وما كان هارون الرشيد ليعنى بشارلمان هذا أو يرسل إليه سفارة وهدية.. ولكن المؤرخ الغربي يتمسك بها ... لأنها تقول: إن الرشيد أرسل مفاتيح بيت المقدس للملك الفرنسي. وهذا هو بيت القصيد! وليس في تقاليدنا هذا الشيء الذي يعرف بمفاتيح المدن. ولا يمكن أن نتصور سببا معقولا يجعل الرشيد يفكر في هذا ... ولكن ما حيلتنا؟ إنهم يشعرون بالسعادة إذ يرددون ذلك!! وقطعة أخرى يذكرها عن الرشيد: نكبة البرامكة برواية المسعودي. وتلي ذلك حروب الأمين والمأمون.. إنه يخصص لها 6 صفحات بينما خصص لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- 14 صفحة! - الفضل كله للفرس والترك: وفي أثناء ذلك يقف طويلا ليتحدث عن انفصال الأندلس.. ولكي يتكلم عما يسميه استقلال المغرب، وهو لا يسميه المغرب، وإنما باسم يولع به الفرنسيون، وهو "لا بربيري" أي: بلاد البربر. وهذه التسمية في ذاتها دسيسة: دسيسة تافهة؛ لأن أهل المغرب عرب، وهم يؤكدون للفرنسيين أنهم عرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ولكن المستعمر الفرنسي خلال القرن الماضي تصور أنه يستطيع أن يفصل المغرب عن الوطن العربي إذا أوهم أهله أنهم ليسوا عربا. وقد فشت الدسيسة، ولكن الوهم لا زال يعمر أذهان الفرنسيين. وهم سعداء جدا -فيما يبدو- بذلك الوهم!! وبدلا من أن يقف المؤلف طويلا عند قيام الدولة الأموية بالأندلس، ويدل قراءه على عبقرية عبد الرحمن الداخل، لا يذكره إلا في سطور, ثم يسرع للتحدث عن بني رستم الخارجين في تاهرت "برواية الخارجي أبي زكريا" وعن الأدارسة.. بل عن بني مدرار أصحاب سجلماسة، ثم يقول بكل سعادة: "وهكذا سيكون الشمال الإفريقي كتلة ترفض الطاعة للخلافة المشرقية". ثم يعود إلى المشرق ليتحدث عن المأمون: وما يقول عن المأمون؟ إن دولته دولة فارسية لا أثر للعرب فيها! وما دام قد انتهى إلى أن المأمون غير عربي، فهو لا يجد غضاضة في أن يتحدث عن نهضة العلوم أيام المأمون ... فهي نهضة غير عربية! ويتبع ذلك بفقرة ينقلها عن ميخائيل الصوري يتحدث فيها عن مدرسة حران. ثم يقف طويلا عند المعتزلة، ومن عجب أن ينقل كلامه عنهم عن المسعودي دون غيره من الأصول. وينتقل للحديث عن المعتصم والترك، ويتخير بالذات فقرات من رسالة الجاحظ في فضلهم ... ولم ترض نفسه قبل ذلك بإيراد فقرة -ولو نصف هذه- عن فضل العرب؛ لأن العرب بالنسبة له ولأمثاله سم ينبغي أن يتحاشاه. - القرامطة طلاب عدالة وإصلاح: وهو يختار من تاريخ الأعصر العباسية ما يحس في نفسه أنه يسيء إلى العرب والإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 يروي قصة مصرع الخليفة المتوكل "برواية الطبري" ... ويقص تفاصيل فتنة الزنج في جنوب العراق "برواية النويري". ويطيل الحديث عن القرامطة برواية الطبري. ويأتي بنص خطاب أحمد القرمطي إلى الخليفة المقتدر، وهو خطاب يصورهم في صورة طلاب عدالة وإصلاح: ويتلذذ إذ يورد فقرة للمسعودي تصف سرقة القرامطة للحجر الأسود.. - صورة تقبض النفس: وهكذا تتوالى الصفحات والمختارات.. كلها يرمي إلى تصويرنا كما يود أن يرانا العدو اللدود: فهو يتحدث مثلا عن قيام دولة الفاطميين في المغرب. فلا يجد ما يختاره إلا قطعة طويلة لابن الأثير. تصور ثورة أبي يزيد بن مخلد عليهم، وهي ثورة كادت تقضي على دولتهم، وأبو يزيد هذا مشعوذ محتال. وينتقل إلى الأندلس ليتحدث عن عبد الرحمن الناصر، فلا يجد من الصفحات الجميلة التي كتبها المؤرخون عن ذلك الخليفة المجيد -الذي كان أعظم حكام أوروبا في عصره- إلا وثيقة إعلان نفسه خليفة. ويعود مسرعا إلى الشرق ليتحدث عن الدول المنشقة، تلك التي انتهت بالقضاء على وحدة الدولة العباسية، الصفاريين، والسلمانيين، والطاهريين، والبويهيين، ويطيل الوقوف عندهم وينقل الصفحات بعد الصفحات. لماذا؟ لأنه يرى أنها دولة فارسية! وللفرنسيين من زمن بعيد حب للفرس، كما حاولوا في المغرب فصل المغاربة عن العرب، فكذلك في أقصى الشرق، حاولوا -ولا زالوا يحاولون- الإيقاع بين العرب وبين شعب فارس، وصاحبنا هنا يكاد يرد كل شيء في تاريخنا إلى الفرس، وهو إذ يطيل الحديث عن رجل مثل يعقوب بن الليث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الصفار، يعود بين الحين والحين ليلقي نظرات سوداء على خلافة بغداد ... المقتدر والراضي والمتقي .... إلخ. والصفحة المشرقة الوحيدة التي يأتي بها هي التي تتحدث عن التجارة، وكيف كان تجار المسلمين يقطعون الأرض بمتاجرهم، من "خرغانة إلى غانة"، كما قال الحريري على لسان صاحبه أبي زيد السروجي. وقد اعتمد فيما نقله على ابن خرداذبة وناصري خسرو والبيروني والإدريسي وابن جبير. ويعود ليتحدث عن الفاطميين. يقف طويلا عند خطاب الأمان الذي أذاعه جوهر الصقلي عند دخوله القاهرة ثم يحكي قصة اختطاط القاهرة برواية المقريزي. وهو معجب بالفاطميين؛ لأن مذهبهم لم يلق قبولا من جماعة المسلمين. إنه ينقل الصفحات بعد الصفحات عن ناصري خسرو. ويقف طويلا عند الخليفة الحاكم. وينتقل إلى السلاجقة فيمر بهم تمهيدا للحملة الصليبية الأولى. ويختم الفصل بعبارة لوليم الصوري يقول فيها: إن الصليبيين عندما دخلوا بيت المقدس قتلوا من أهله 65 ألفا ... - واجبنا اليوم: العمل حتى الموت. ويطول بنا الحديث لو مضينا نستعرض المقتطفات حتى آخر الكتاب. إنه لا يقف به إلا عند سليمان القانوني. وعنوان كتابه "مجد الإسلام" من محمد إلى فرنسوا الأول". ولا ندري ما العلاقة هنا بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا الملك الفرنسي الذي يذكره التاريخ بهزيمته المشينة عند مارينيافور سنة 1551. ولكنها بدعة جروا عليها هناك ... فالمؤرخ البلجيكي "هنري بيرين" له كتاب مشهور عنوانه محمد وشرلمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وفي العام الماضي نشر راهب كندي كتابا عنوانه محمد والقديس فرنسوا ... نحن لا يرضينا أن يذكر اسم نبينا على هذه الصورة المجرد الحصول على أسماء جذابة لمؤلفات. والمهم هنا أن "جاستون فييت" يقول في آخر كتابه: إنه يقف بالكتاب عند أسماء باهرة كأسماء "البابا ليو العاشر ومارتين لوثر وهنري الثامن وفرنسوا الأول وشارلمان وكالفين وسليمان القانوني" وهم في رأيه أعلام التاريخ العالمي في القرن السادس عشر!! وهذا القرن يعتبر في رأيه نهاية مجد المسلمين وأول مجد الأوروبيين. فكل اسم ذكره يعني في حسابه نهضة شعب من شعوب أوروبا، أو قيام حركة إصلاحية كبرى فيها، وسليمان القانوني هو في حسابه آخر العظماء من ملوك الإسلام. وأن العالم الإسلامي اتجه بعده إلى الانحدار السريع ... وهنا ينبغي أن نقف ونفكر.. لأننا كأمة ناهضة وكناس يأخذون الحياة مأخذ الجد ... لا يليق بنا إذا رأينا شيئا لا يعجبنا أن نلقيه بعيدا ونقول: كلام فارغ.. صحيح أن فيه كذبا وتضليلا, صحيح أنه صادر عن حقد عميق، ولكنه ليس كلاما فارغا، ولا يخدمنا في شيء أن نلقيه بعيدا ثم نجر اللحاف وننام.. لأن هذا "الكلام الفارغ" هو الحديد والنار اللذان يحاربنا بهما أعداؤنا. والحديد والنار لا يقابلان إلا بالحديد والنار. وفي ميدان العلم، الحديد والنار هما العمل، والعمل الطويل. إذا كان هذا الذي كتبه فييت "كلاما فارغا.. فلنشمر عن سواعدنا ولنكتب نحن الشيء المليان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 هل تذكر العبارة المضحكة التي قالها مراد بك عندما سمع أن الفرنج نزلوا بساحل الإسكندرية؟ قال: هؤلاء مثل حب الفستق، للكسر والأكل! ثم تبين بعد ذلك أنهم ليسوا فستقا ولا بندقا، وإنما هم حرب ودمار ... لقد ندم مراد بك على كلمته وهو يجمع ملابسه ليجري هاربا إلى الصعيد بعد معركة الأهرام. أما نحن فليس أمامنا وقت للندم. ليس أمامنا إلا أن نعمل.. ونعمل حتى الموت. لنتصور الجهد الذي بذله هذا الرجل الفرنسي وهو في سن السبعين: جهد في الجمع والترتيب والاختيار. وهو في الواقع جهد شاق، ولا يعرف الشوق إلى من يعانيه. لنعمل إذن.. ففي أعناقنا مسئولية عالم كبير.. إن بعضنا يلعب ويتصور أنه يعمل: ينظر في الصفحات التي كتبها الطبري أو ابن سعد مثلا عن عمر بن الخطاب ثم يكتب سلسلة كتب عن عمر بن الخطاب ... لو كان هذا هو العمل لما حمل الهم أحد ... والهموم على قدر الرجال ... ورحم الله أبا الطيب حين قال: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية بقلم: أ. ل. طيباوي1   1 دراسة للأستاذ طيباوي نشرت بعدد يوليو سنة 1963 مجلة THE MUSLIM WORLD وترجمها فتحي عثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 ليس هناك من جهود أكاديمية في عالم الدراسات الإنسانية تكاد تكون أسوأ حظا في مواردها وسوابقها من الدراسات الإسلامية والعربية في الغرب. وليس من غرض هذا المقال أن يعطي تفصيلات في هذا التاريخ المؤسف، ويكفي لذلك في هذا المقال أن نلقي نظرة مجملة على هذا التاريخ في معالمه السريعة لتكون هذه النظرة مقدمة بين يدي دراستنا في موضوعها المحدد1. ومنذ البداية تبدو جذور العداوة اليهودية المسيحية للإسلام في آيات القرآن فما كان أسرع أهل الكتاب لتكذيب محمد بل لتحديه في مهمته كحامل للرسالة الإلهية ومن هنا بدأت سلسلة المجادلات التي استمرت وإن تباينت الرايات المرفوعة في معارك الجدل حتى أيامنا، وقد امتد نطاق هذا العداء نتيجة للأعمال السياسية والعسكرية التي قامت بها الدولة الإسلامية في عهد الرسول وخلفائه، فتعدى حدود الجزيرة العربية ليضع الإمبراطورية البيزنطية ومن بعدها المسيحية الغربية. ولم يكن الإسلام المنتصر يتجاهل المجادلين البيزنطيين، أو يهمل الرد على محاولاتهم التخريبية المسمومة، ولكن ما لبث أن فاق البيزنطيين في تنمية العداء والتحامل خلفاؤهم في أوروبا الوسيطة, وذلك عن طريق بث المعلومات المشوهة أو الزائفة وهكذا كان الإسلام بالنسبة لهم من "عمل الشيطان". وكان القرآن نسيجا من السخافات "وكان محمد" دعيا "كذابا" و"محتالا" و"عدوا للمسيح"!! أما المسلمون فهم ليسوا سوى نوع من المتوحشين لا يكاد يحظى بميزة إنسانية!! ومن العسير أن نحدد إلى أي مدى أثرت هذه الدعاية في أوروبا الغربية حتى استجابت لنداء الحروب الصليبية، ولكن من أبرز مظاهر الفشل في   1 إن دراسات الاستشراق في المجالات الإسلامية والعربية هي بالطبع بناء دولي اشترك فيه المستشرقون الغربيون من إنجليز وفرنسيين وألمان وإيطاليين وغيرهم. والدراسة التي يتناولها المقال يمكن أن تطبق على معظم هؤلاء، وإنما حددت بالمستشرقين الناطقين بالإنجليزية لمراعاة مقتضيات البحث، وحتى في هذا النطاق المحدد تناولت الدراسة فحسب الباحثين الذين لهم آراء منشورة تتعلق بموضوع الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 هذا الصراع الطويل بين المسيحية والإسلام -وإن كانت أقلها وضوحا- أنه لم يستطع أن يجتذب المسيحية رغم احتكاكها الطويل بالإسلام عن قرب إلى تلطيف حدة تحاملها أو تصحيح الصورة السائدة عن عدوها على الأقل، ومضى قرنان من النزاع وقد تزايد العداء عند كلا الجانبين، ولم تتناقص حدة التحامل أو الجهل بحقيقة الأمور. ووقع القصاص عن عدوان الحروب الصليبية في عالم المسيحية، فبدلا من محاولة الاستيلاء على إقليم من مقدسات المسيحية، وبدلا من شن الحرب على العرب. بدأ اتجاه جديد ينال حظا من التأييد، وهكذا أخذ فرنسيس الأسيزي Francis of Ossisi يبحث من خلال حماسه التبشيري كيف يحول "الكفار" إلى جانب الإنجيل، وعن طريق ريموند لل Raymond lull الذي كانت تعتمل في عقله الدوافع نفسها أدخل تعليم العربية في المعاهد المسيحية في الدراسات العليا1. ولكن الهدف من وراء هذه الدراسة ما زال تخريبيا عدائيا إلى حد كبير، إنها تستهدف أن تعرف المزيد عن الإسلام لتكون أكثر تهيؤا لعرض "نقائصه"! ولقد كان صاحب القداسة بطرس Peter the Venerable راعيا لأول ترجمة لاتينية للقرآن كما كان هو نفسه صاحب حملة جدلية طائشة ضد الإسلام2، ولم يلحظ تقدم ذو قيمة نحو إدراك أفضل حتى وقت قريب نسبيا فقد اكتنف المحاولات الأولى الجادة جو النزاع من جديد، وأدت عودة المسيحيين إلى الأندلس كما أدى توغل العثمانيين في قلب أوروبا إلى استثارة نيران البغضاء والتحامل، وهكذا تقهقرت إمكانيات التصور الصحيح والتعبير المنصف، وظل العالم القديم منقسما بين "دار الإسلام" و"دار الحرب"، ولا يلتقي القسمان إلا في ساحة القتال أو صفحات الجدل البغيضة!   1 قرر مجمع فيينا سنة 1312م إدخال العربية مع لغات أخرى في جامعات باريس: بولونيا، أكسفورد، سلمنكا، Roman Curia انظر H. Rashdal: the Universities of Eueapein in the Middle ages Oxford 1895 II. PP. 1, 30 81-2, 96. وهو يقرر ص 30 "أن الغرض من هذا القرار كان تبشيريا خالصا وكنسيا لا علميا". 2 على سبيل المثال Dmile Dermenghem: La vie de Mahomet: Paris,1929, 136-R.W. Southern, Western Views of Islam in the Middle ages, Hgruord Ilsusis press. 1692, 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وأخيرا التقى الفريقان ... وإلى أن تم هذا اللقاء كان قد حدث تطوران عظيمان من تطورات التاريخ أولهما: أنه قد نمت أوروبا الغربية قوى معينة بلغت ذروتها في النهضة الأوروبية Renaissance في القرن الخامس عشر الميلادي، ودعت إلى ترجمة العلم الإغريقي نقلا عن علماء العرب في الطب والرياضيات والفلسفة ... إلخ، على أن هذا الاتصال العلمي على اتصاله وعمقه لم يبد أنه أثر في الصورة العقيدية أو الإلهية أو حتى الصورة التاريخية للإسلام في النظرة المسيحية. وتمثل التطور الثاني فيما أصاب وحدة العالم المسيحي تحت لواء الكنيسة من تمزق نتيجة للقوى الجديدة: سياسية واقتصادية ودينية، وقد تمخض عنها الإصلاح الديني وظهور الدول القومية التي اشتعلت بينها غالبا نيران المنافسة وشغفت بالمشروعات الطموحة للتوسع فيما وراء البحار. وكانت الدول القومية الحديثة في رقعتها الصغيرة نسبيا قد اتجهت إلى تحقيق مصالحها ولو على حساب مصالح دول مسيحية أخرى أو العالم المسيحي في مجموعه، وهكذا كانت البداية العملية لصلات دبلوماسية وتجارية مع البلدان الإسلامية على مدى أقرب مما تحقق من قبل. وعلى الرغم من أن الجدل الديني كان لا يزال في مرارته ونشاطه كعهده من قبل، وعلى الرغم من أن الهدف التبشيري كان يضاعف من سيطرته على مخيلة سلطات الكنيسة، فقد بدأت بواعث مدنية جديدة تأخذ حظها من الاعتبار على قدم المساواة إن لم تكن أكثر ولربما كان أوضح مثال لهذا التعبير بالنسبة لهذه الدراسة هو تقرير المراجع الأكاديمية المسئولة في جامعة كمبردج بالنسبة لإنشاء كرسي اللغة العربية فيها، فهذه المراجع تقرر في خطاب مؤرخ في 9 مايو 1936 إلى مؤسس هذا الكرسي: "ونحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بتعريض كبير من المعرفة للنور, بدلا من احتباسه في نطاق هذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكنا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة، والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات"1.   A. J. Asbesry. The Cambridge Sahooe of arabic, Cambridge. 1948, p. 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ولكن معظم ما توصلت إلى معرفته الدراسات العربية أو الإسلامية التي أنشئت لتحقيق غرض جدلي أو تبشيري أو تجاري أو دبلوماسي أو علمي أو حتى أكاديمي، قد ظلت طويلا عليها مسحة من ظلال عداء عميق الجذور وهذا أول جالس على كرسي العربية في كمبردج يعد مشروعا لم يكتمل إنفاذه قط لتفنيد القرآن! وكان ممن أعقبوه على هذا الكرسي في أول أمره خلال القرن الثامن عشر من كتب مؤلفا رائدا عن "تاريخ العرب" Hsitory of the Saracans كما حبذ أن يقرأ القرآن لمعارضته أو تفنيده! هكذا يبدو أن المعرفة المتزايدة لم تقطع سوى خطوات محدودة لتبديد ما تراكم عبر القرون من موروثات!! كذلك لم تحدث التغيرات التاريخية تحسنا على الموقف. لقد وضع التوسع الأوروبي فيما وراء البحار يده على مساحات كبيرة من ديار الإسلام على مر الزمن، وقد بلغ هذا التوسع ذروته في القرن التاسع عشر عندما صارت أوروبا سيدة لمنطقة إسلامية شاسعة يسكنها ملايين المسلمين. ولقد صحب الاستعمار السياسي أو اتبعه تعزيز ثقافي أكثر دهاء. وتدهورت ثروة العالم الإسلامي إلى هاوية سحيقة، وأصبح مصير مدنيته إلى حد كبير في أيدي القوى المسيحية1. وفي ظل الوضع الجديد بدأ التعليم المدني يعد جذوره كما أتيح للعمل التبشيري أن يكون ممكنا، وتقاسم التعليم المدني والتبشير المسيحي الاتجاه إلى تغذية نزعة التشكيك في أسلوب حياة المسلمين, مجرد التشكيك على الأقل2. وعمل كل من السيد المسيحي "الجنتلمان" "بناء الإمبراطورية" والمبشر المسيحي "سفير المسيح" على التأثير بطريق مباشر أو غير مباشر   1 على سبيل المثال: Proceedings of the church Missionary society 1882,p. 5. وفيه "أن حملة فتح مصر وما أثمرت عنه من آثار باحتلال إنجلترا لمناطق واسعة من البلاد هو مما يزيد مسئولية المسيحيين الإنجليز في تقديم إنجيل المسيح إلى مصر". 2 على سبيل المثال دكتور محمد البهي: تقديم كتاب الشيخ محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة، مطبعة الأزهر 1379هـ/ 1959م. ص 3، 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 في مجرى التعليم في البلدان الإسلامية، وأخرجت هاتان الطبقتان من العاملين عددا من المتخصصين الجدد في العربية أو الفارسية أو التركية أو الإسلام كانوا روادا بين أيدي المستشرقين والأكاديميين. وكان الطريق مفتوحا آمنا كذلك أمام الرحالة المحب للاستطلاع، من لديه فراغ الوقت ورمانسية الخيال وثراء الجيب من الساعين إلى المعرفة الذين يخطون كتابات سطحية عن الشرقي أو الآثار أو المخطوطات التي يتوصل إليها. ولكنا خلال هذا كله كنا نتبين ملامح الباحث المجرد مثل "أ. و. لين E. W. Lane" الذي لم يكن يكل أو يمل1 واقتنع التبشير من كتابات هؤلاء أنه إذا كانت قوة الإسلام السياسية قد اهتزت فإن انحلال قوته الروحية وتحول أتباعه إلى المسيحية قد بات في متناول اليد. هكذا كانت زاوية النظر حين استهلت الجماعات التبشيرية البريطانية -وغيرها- عملها في الشرق، في بلدان إفريقية وحوض البحر المتوسط. ومنذ البداية كان هناك تجاوب متبادل إن لم يكن هناك تماثل في المقصد بين المستشرق الأكاديمي والمبشر الإنجيلي، ويصدق هذا بصفة خاصة على المتجهين للدراسات العربية بجامعتي إنجلترا اللتين أدخلت فيهما دراسة العربية لتكون عونا للدراسات الإلهية والإنجيلية عن طريق باحثين هم أنفسهم ينتظمون في سلك هيئات دينية holy orders. وهكذا عمل معهد مكبريد Mcbride في أكسفورد ومعهد لي Lee في كمبردج2 لصالح جمعية الكنيسة Ghurch missionary Society التبشيرية في ترجمة "بروتستنتية" للإنجيل والمزامير إلى العربية.   1 عاون لين كثيرا في وضع معجمه شيخ أزهري هو إبراهيم الدسوقي الذي كان مصححا في مطبعة بولاق انظر: A. A. Paton history of the Egyptian Revolution: "London 1870" II, 270 quoted by Heywarth -Dunne. Printing and Translation under Mohammed Ali of Egypt - in the journal of the Royal Asiatic Society, July 1940, 315. 2 تعلم "صموئيل لي" في كلية Queen's College بمنحة دراسية من جمعية الكنيسة التبشيرية Church Missionary وذلك طبقا لما جاء في Committee Minutes II. 01, 349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وعاش التحالف بين الجانبين على وهنه خلال القرن التاسع عشر ولكنه بقي قائما بصورة من الصور إلى عهد مرجوليوث في هذا القرن, ولم ينحل تماما قط، وتعلم الفريقان أن يراجعوا أهدافهم ومناهجهم، ولكن ظل هناك على حاله تيار عميق من الفكر السائد -ربما غدا الآن كامنا في أعماق ما وراء الشعور- يذهب إلى أن الإسلام لا بد أن يعاد تشكيله في قوالب غربية Westernization أو عصرية Modernization أو إصلاحية reformation وهكذا صلى المبشرون وجادل المستشرقون، وكتب الفريقان أو واصلوا الكتابة بدرجات متفاوتة من الدهاء وبعد النظر في تناول الموضوع. ولنحصر الآن دراستنا في بريطانيا، فهي موضوع هذا البحث. على أن الدراسات الشرقية في بريطانيا -كغيرها من البلاد- كانت مرتبطة بتطور الدراسات الإنسانية في الجامعات الأوروبية نتيجة لتأثير هذا التطور في دراسة التاريخ عموما وفي الاقتراب من حقيقة الإسلام بوجه خاص. وأسهم الباحثون الإنجليز والفرنسيون والألمان وغيرهم من الباحثين من مختلف الأمم بجهود كبيرة من الدراسات العربية والإسلامية عن طريق التدريس والكتابة ونشر النصوص، استطاعت جهودهم مجتمعة أن تهيئ ظروفا ملائمة لرعاية اتجاه متميز للاقتراب من حقيقة الإسلام يكون مخلصا كما يمكن أن يصدق عليه وصف الأكاديمية1. وليس من شك أنه ثمة تقدم ملحوظ صوب هذا الهدف قد حدث. ولكن لا يشك كثيرا أيضا في أن الوصول إلى هذا الهدف لم يتحقق لعدد ذي خطر من الدارسين المعاصرين للإسلام، وسواء منهم من لقي ربه أو من لا يزال على قيد الحياة وجهودهم تنقسم بطبيعتها إلى قسمين متميزين: نشر النصوص والدراسات التحليلية، مما سيرد تفصيله فيما بعد. ولكن يمكن أن نقرر هنا على سبيل الإجمال أن النظرة العلمية للدارسين للإسلام من الناطقين بالإنجليزية -وهم الذين نقصر دراستنا عليهم في السطور التالية- كانت أقل عمقا في دراسات هؤلاء منها في نشرهم للنصوص، ولا تعوزنا الشواهد على قصور التمييز حتى بالنسبة لنشر ترجمة لبعض النصوص،   1 لأجل العرض التاريخي انظر: J. Fuck, Die Arabischer Studies in Europa bis in dee Anfang des 20 , Yahrhunderts, Leipzrig 1955. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 حيث كان الموضوع يستسلم لأهواء "الآراء الثابتة المقررة" عن الإسلام مما لا يزال قائما في عقول الباحثين الغربيين1. ولربما كان من غير المألوف في مثل هذه الدراسة أن نعنى بالمستشرقين الأحياء أكثر من عنايتنا بمن أصبحوا في ذمة التاريخ، ولكن إذا كان العرف الجاري يتقبل تقديم عرض لكتاب ما يزال مؤلفه على قيد الحياة بمجرد ظهور الكتاب. والنقل عنه في معرض التأييد أو التفنيد، فإنه يغدو من البحث المشروع بالتأكيد أن تناقش جهود أي مؤلف من مجموعها أو أجزائها، مدى نجاحها إذا ما تناولت موضوعات لها أهميتها الحيوية، والأحياء لا الموتى هم القادرون على أن يرونا في أنفسهم انعكاس النتائج التي تمخضت عن نشر آرائهم وهذا هو أحد مقاصد هذه الدراسة، أن تذكر بعض الباحثين بالصدمة التي تحدثها آراؤهم لعقل المسلم في هذا العصر العلمي. ولا بد من إرجاء تحذير ... أن التحليل التالي -وهو ثمرة لدراسة وتأمل استغرقا وقتا وجهدا، لا يحمل أي روح للجدل، ويخطئ من يظنه اعتذارا أملاه الحماس لعقيدة دينية أو قومية، وإنما هو عرض لجهد مخلص في سبيل تحقيق تفاهم أفضل لمسألة قديمة، وكاتب هذه السطور يعتقد أن ألوان التحامل القديم قد تكون تضاءلت كثيرا منذ فجر هذا القرن لكنها ما زالت تعيش قوية، وما زالت فئة من الباحثين في العربية والإسلام تعمل على نشرها في الغرب على نطاق واسع، ثم إن الكاتب يخشى أن يعزز التحامل "القومي" مؤخرا من شأن التحامل "الديني" فهناك من الشواهد ما يدل على أن الرصيد المختزن من مشاعر العداوة للإسلام يمتد الآن إلى العرب أو على وجه أخص القومية العربية، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل لا طائل تحتها، ولكن هذا الشعور قد يتفاقم على طريقة العصور الوسطى إلى حد يلحق الوبال بالدراسات الشرقية والعلاقات الإنسانية جميعا، ومن أجل الحرص الصادق على كليهما معا كانت هذه المناقشة.   1 راجع مثلا ما سيذكر بعد تحت رقم 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 -2- إن بعض المستشرقين الناطقين بالإنجليزية -ونحن لا نقصد منذ الآن بهذا الاصطلاح المرتبط بالجنس والسلالة مستشرقي بريطانيا وحدها. وإنما نقصد مستشرقي أمريكا الشمالية أيضا- قد عرض لدراسة الإسلام خلال دراسات للكتاب المقدس أو اللاهوت، بل الواقع أن من هؤلاء من ينتظم في هيئات دينية holyarders والبعض الآخر من هؤلاء المستشرقين وجد نفسه في نطاق هذه الدراسة مصادفة، نتيجة للإقامة أو خدمة التبشير أو الخدمة العسكرية في بلد إسلامي، ولكن هناك من اختار دراسة الإسلام قصدا كوجهة له في حياته العلمية- وربما كان هذا يصدق بصفة خاصة بالنسبة للجيل الأحدث نشوءًا. وإذا كان لنا أن نصف في كلمة ما لاقوه من دربة في هذا المجال. فمن الصواب أن نقول إن معظمهم قد تلقى مرانا في اللغة أو الأدب, بصرف النظر عن الأساس العقيدي في بعض الحالات. ولكن قليلا منهم من درب على معالجة التاريخ، وربما خاض واحد أو اثنان أخيرا نوعا من مخاطرات التجربة في محاولات علم الاجتماع وعلم النفس. وقد يكون هذا إحدى العقبات الخطيرة، فكثير من دراسات المستشرقين الناطقين بالإنجليزية قد تتميز بالتألق، ولكن حين يغوص المرء تحت المظاهر السطحية من الحواشي المتعالمة والمراجع المنسقة، يجد المرء نفسه مضطرا لأن يواجه نذير الخطر في إلقاء القول على عواهنه والتخمين وإصدار الأحكام التي لا يشهد له إلا القليل من الشواهد. أو لا يشهد لها شاهد قوي على الإطلاق, إن المهارة في ذلك رموز النصوص العربية "أو الفارسية أو التركية" شيء له اعتباره بالطبع، ولكن المقدرة على إقامة المادة المختارة في بناء جامع، ومن ثم في عمل تاريخي بالمعنى الفني المقبول شيء آخر تماما. والتاريخ بوجه عام يتعرض لهجمات الغرباء أكثر من غيره، وغالبا ما يتناقل الناس أن كل من أمكنه استعمال القلم يستطيع أن يكتب التاريخ. وفي مجال الدراسات الإسلامية تكون المادة اللغوية أو الأدبية أو التاريخية من التشابك لدرجة تلزم الباحثين أن يتوفروا على بذل الكثير من المحاولات، وفي خلال هذه المحاولات يجدون أنفسهم يكتبون التاريخ من حيث لا يدرون في غالب الأمر، وهم لم يؤهلوا لهذا العمل إلا قليلا، ومن ثم يسهل علينا أن نعرف لماذا عولج موضوع "الإسلام" بأقلام قليل من المؤرخين المستشرقين على صورة أفضل كثيرا من معالجته بأقلام غالبية المستشرقين من اللغويين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ونحن نورد فيما يلي قليلا من العثرات في مؤلفات المستشرقين التي تشهد على نقص المستوى التاريخي العلمي. ولكي يكون نطاق البحث محدودا وميسورا سنقصر ملاحظاتنا على الباحثين في الدراسات العربية، فليس ثمة مجال لاتهام أحدهم بباعث من بواعث الجدل أو التبشير, وجميعهم يؤخذون باعتبارهم متوفرين على النشاط الأكاديمي الذي يحمل في ذاته التبرير والجزاء. والمستشرقون يعملون بالطبع خلال اضطلاعهم بواجباتهم المعتادة على تدريب دبلوماسيين ومبشرين ورجال أعمال بجانب جهودهم في العمل على استدامة بقاء نوعهم بتدريب من يخلفهم في التدريس والبحث، ومن هنا تكون أهمية ما يحملون من "أيديولوجية" بالنسبة لما يخلفونه من آثار وما ينطبع منهم على غيرهم، ومقصدنا بالضبط أن نعرض هنا لمناقشة الأيديولوجية كما تحملها كتب هؤلاء، لأجل أن نبرز المواضيع التي أغفل فيها التدقيق في اتباع القوانين المسلم بها في البحث العلمي. وربما كان أبرز الأمور التي لا تراعى فيها قواعد "اللعبة" ذلك المفهوم الذي شغف به معظم المستشرقين عن دور محمد كرسول لله وطبيعة الرسالة التي أمر بإبلاغها كما حفظها القرآن، ومحمد بالنسبة لجماعة الإسلام هو آخر رسل الله للبشرية، أرسل مصدقا لرسالات الأنبياء السابقين ومكملا لها. والقرآن بالنسبة لهذه الجماعة هو كلام الله الأزلي غير المخلوق، أوحي إلى محمد منجما على فترات عن طريق الملك جبريل، والدعوة إلى نشر هذه الرسالة هو كالرسالة نفسها من أمر الله ووحيه. وأي كاتب -وإن لم يكن مسلما مؤمنا- يتخلف عن مراعاة هذه الاعتقادات وهو يكتب عن الإسلام إنما يخاطر بتعريض نفسه للاتهام بنقص في النظرة الموضوعية الشاملة, وعند معالجة هذا الموضوع قد يكون الطريق السليم أن يقرر الكاتب وجهة نظر المسلم كاملة في تمام ووضوح لا يدعان مثارا للشكوى أو سوء التأويل، وإذا ما كان للكاتب رأي مغاير أو إذا ما رغب في الإشارة إلى آراء مغايرة، فسوف يكون موقفه مقبولا تماما حين يبدي ما يريد منفصلا متميزا بعد أن يقرر وجهة النظر المتعارف عليها بين المسلمين. غير أن هذا النهج المنطقي والطبيعي في العرض قلما يتبع من الأسف. وكثيرا ما يحدث العكس، فيتعرض القارئ نتيجة لذلك -ما لم يكن على علم- إلى شيء من الإيحاء برأي معين، أو يتعرض على الأقل إلى اختلاط في الأمور يجعله عاجزا عن التمييز بين الأصل المتوارث لدى جماعة المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وبين رأي الكاتب، وهكذا نجد كثيرا من المستشرقين الذين يحملون غيرهم أعباء معارفهم الخاصة يهملون ملاحظة مبادئ أولية للمنهج العلمي في معالجة المسائل التاريخية، فهم يؤكدون مثلا أن القرآن من إنشاء محمد1, ثم يذهبون مذهبا بعيدا في تأسيس الأحكام التاريخية والعقيدية والأدبية وغيرها على هذ التأكيد وسرعان ما ترتفع هذه بمحض الشهرة إلى مرتبة الحقائق! وربما كان هذا أحد العوامل الكبرى -إن لم يكن أكبر العوامل في خلق نزعة من التشكيك إن لم يكن العداء- لدى العلماء والمسلمين المتعلمين إزاء جهود المستشرقين ويشترك في هذا الشعور خريجو المعاهد الغربية بل وتلاميذ المستشرقين المعروفين أنفسهم!!! لقد ذهبت الأيام التي كانت يكتب فيها المستشرقون غالب كتابتهم ليقرأها مستشرقون مثلهم! ونحن قد ننحي جانبا الدراسات الفرعية المتخصصة specialized monagraphs لنجد معظم الإنتاج الحاضر يقرأه ويقدره أعداد صخمة من الباحثين والمثقفين واسعي الأفق في الغرب، ومن هؤلاء أعداد قد تكون أضخم في العالم الإسلامي، والمسلمون الآن وقد تكررت الهجمات الجدلية والتبشيرية على عقيدتهم واستطال أمد السيطرة الغربية سياسية وثقافية على ديارهم، قد غدوا عرضة لمواجهة الأذى بصورة أشد من ذي قبل. ولم تتوقف الآراء المنهجية المتجنية على أن تجد سبيلها إلى النشر على آية حال. ولا بد أن أصحاب هذه الآراء على بينة من أنه مما يؤذي مشاعر المسلمين أن تطرح جانبا عقيدتهم الأساسية في أن الإسلام من عند الله، وأن يعرض بصورة أو بأخرى أن محمدا قد اصطنع دعاوى كاذبة ليجعل من نفسه   1 انظر على أية حال: H. A. R. Gibb, Mohammedanism. Oxford, الذي يقرر في وضوح وجهة النظر المتعارفة لدى المسلمين قبل أن يعرض لتزيين القول بأن القرآن هو تعبير عن محمد صادر منه Mohammad's Utterances وهذا آربري A. J. Arbary أبرز مستشرقي الإنجليز الأحياء يعتبر القرآن نتاجا فوق الطبيعة Supernatural لكنه لا يشارك المسلمين الرأي أنه من مصدر إلهي. انظر: The Holy Koran 1953-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 حامل رسالة إلهية، وأن القرآن نفسه ليس على هذا النحو سوى تأليف محتال! أفليس يكون أدعى للتفاهم الإنساني وأولى بالبحث العلمي أن تترك أمور العقيدة على حدة. وأن توجه الجهود إلى مجالات أكثر ظهورا وأيسر إدراكا مثل: الأدب والفن والعلم، وهي مجالات على الرغم من جهود المستشرقين ما زال يعترضها الكثير من علامات الاستفهام؟ وليس من شك في أنه من الممكن لمستشرق مسيحي "أو يهودي" يعتقد غير عقيدة المسلمين أن يضع مفهوم المسلم لدينه في تعبير المسلم واصطلاحه1. وهو حين يفعل لن يكون أكثر اقترابا من المنهج العلمي فحسب، ولكنه سيجعل نفسه في مركز أفضل كي يفهم مكان دعوة الإسلام بين أحداث التاريخ. إن المسلم المؤمن والمستشرق المتشكك هما أيضا قطبان متنافران بالنسبة لأصول الإسلام، وهنا أيضا تنزع أراء الغالبية من المستشرقين الناطقين بالإنجليزية وغيرهم إلى خلق شعور الاستياء بين المسلمين. وبالتالي وضع عقبات خطيرة في طريق الحركة الفكرية بين الجانبين, فالمستشرق وقد طرح احتجاج المسلم لعقيدته في الأصل الإلهي للإسلام وقرر أن محمدا كإنسان ودون أية وساطة إلهية هو المسئول عن إنشاء القرآن قد غدا جد مشغول باستكشاف "الأصول" لليهودية المسيحية دون التوصل إلى نتائج حاسمة أخيرة، اللهم إلا الإشارة لمقابلات واضحة جلية، ثم إزجاء الحديث في معرض هذه المقابلات، وهو حديث يتخذ سمة التعالم أو التجادل حول الواضح الجلي!! إننا نستعمل كلمة "التجادل" قصدا للتعبير عن هذا النوع من الحديث specualative وذلك للسبب التالي: فلننس لحظة ما يؤمن به المسلمون, ولنعط المسألة اعتبارها كمسألة تاريخية صرفة2. ولنفترض جدلا أن   1 مثل هذ العرض أورده دانيال Islam and the West N. Daniel the Making of an Image "Edinburgh, 1960", 305. 2 أبدى قسيس إنجليزي وعالم مبرز أيضا هو: بيرنز E. W. Barnes في كتابه: The Rise of Christianity, London 1938 كيف كانت أصول المسيحية -واليهودية من قبلها- عميقة الجذور في تراث الشرق الأدنى من أساطير وخرفات ووقائع، المؤرخ الذي ينظر إلى الكتب المقدس وإلى القرآن كوثائق إنسانية قد يطالب المستشرق الذي يجادل عن دعوى الأصول اليهودية المسيحية للإسلام بأن يدقق في الملاحظة والتأمل ثم يبدي ما يتضح له من انعاكسات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 القرآن من إنشاء محمد، كيف يتسنى لدارس التاريخ أن يثبت اقتباس محمد من المصادر السابقة عليه؟ إذا كانت المسألة بالتخمين فليس ثمة كسب وراء ضياع الوقت في اختيار التفاصيل، أما إذا كان الأمر خاضعا لمنهج تاريخي صارم عنيف، فإن أي شاهد يقدم جدير بالملاحظة الدقيقة. وعلى أية حال فإن أي شاهد قائم أو مستعمل لتعزيز دعوى الأصل اليهودي المسيحي لا يثبت للمراجعة والنقاش. ولا يمكن قبول المقابلات وحدها في موضع يحتاج إلى شواهد حاسمة ذات نتائج قاطعة، وهيهات أن تكفي النتف المقتطعة والإشارات والاستدلالات المعتسفة والتخمينات الذكية في هذا المقام، فضلا عن أي مقام! ونحن نحتاج لخيال قوي جدا لمتابعة القول بأن محمدا -الذي قررت الأصول الدينية أنه لم يكن يقرأ أو يكتب كان على التخطيط الذي أنشأه المستشرقون له- قد جلس عاكفا في مكتبته يبحث كتب الأولين لينقل عنها1 لأجل تأليف الكتاب المعروف بالقرآن! قد يحمل هذا التعبير بعض المبالغة بغير شك، ولكنه يجمل ما تذهب فيه هذه الدعوى إلى التفصيل!! 2.   1 انظر مثلا: A. Guillaume, the Life of Mohammed, Oxford 1956, 86 a quatation from the Gospel, 655, "an allusion to Matt, XXL, 33 f. Montgomery Watt, Islam and integrantion of Society, London 1961, 262. quatations from the bible begin ta appear in muslim works". وكل هذه الاقتباسات قد حدثت حين لم يكن هناك ترجمة عربية للكتاب المقدس يقتبس عنها! 2 انظر مثلا: Rosinthal, the influence of Biblical Tradition on muslim historiography in B. Lewis, P. M. Holt "eds" Historians of the Middle East, Oxford 1962. وبينما يتابع روزنتال القول بأن القرآن من إنشاء محمد، وأنه استمد الأجزاء التاريخية على الأقل من مصدر يهودي مسيحي متأخر نراه أكثر دقة من الباحثين الذاهبين هذا المذهب، فهو يبدي إحساسا تاريخيا حين يستخدم كلمة "متأخر" Altimate كما يبدي حيادا عقليا بالتحذير من إلقاء القول على عواهنه Speculation والآراء المسبقة Preconceived ولكنه ينزل مستسلما لتأثير الإيحاء نفسه فيتقبل فروضا لا يقوم عليها دليل "انظر Gerpessins pp. 45-6". وربما كان ناشرو هذه المجموعة القيمة من المقالات أكثر دقة في هذا الصدد, فقد قرروا في مقدمتهم "pp. 2.11" أن الشرق الأوسط "شهد مولد ثلاث ديانات كبرى للبشرية اليهودية وخليفتيها المسيحية والإسلام" وسوف نأتي فيما بعد تحت رقم "3" مناقشة لهذه النقطة فيما أبدي من الملاحظات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 إن المقابلات والمشابهات خداعة للغاية!! إنها لا تكون بالضرورة دليلا علميا على نسبة كتابين متشابهين، إذ يعوزهما التدليل على الاقتباس الواعي من اللاحق للسابق، وقد يجوز أن يكون كلاهما ناقلا عن مصدر ثالث مشترك. والحق أن الباحث الذي نظر إلى الكتاب المقدس والقرآن على أنهما وثائق إنسانية، قد ينزع بمنطق سليم إلى تتبع بعض ما جاء فيها من آثار التراث الفعلي المبكر للشرق الأدنى، وعلى أية حال يحتاج إثبات الاقتباس السامي الفعلي بالضرورة إلى شواهد أكثر إقناعا مما جرى عرضه حتى الآن. إن فيكو Vico هو الذي قال: إن الأفكار تنتشر عن طريق استكشاف كل أمة -أو ثقافة- مستقلة عن غيرها لاحتياجاتها في أية مرحلة من مراحل تطورها1. ولقد قال أحد المستشرقين البارزين نفس القول مع تعزيز بتوضيح, إذ يؤكد أن الثقافة المستعيرة -في حالتنا التي نعالجها الآن النظام الديني- لا بد أن تحس هي نفسها حاجتها خلال تطورها الداخلي إلى غذاء من الخارج وكل ما تستعيره في هذا السبيل لن تنتفع منه إلا إذا استند إلى هذه العناصر من الثقافة القومية -أو من الدين التي تطلبت الاستعارة والثقافة الحية أو الدين- ترفض تلقائيا كل العناصر الدخيلة التي تتعارض مع قيمتها الأساسية2. وكاتب هذه السطور لا يرى فيما أريق من مداد سود صحائف المجلدات المتعددة عن "أصول" origins الإسلام دليلا مقنعا بالمعنى التاريخي,   1 R. G. Collingwood, the Idea of History Oxford 1951, 69, 71. 2 H. A. R. Gibb, "the inbluence of Islamic Culture on Medieval Europe" in the Bulletin of the John Rylands Library Manchester, XXXVIII, 1955-6. 85: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 بحيث يثبت أن مثل هذا الاقتباس قد حدث فعلا، بل على العكس نرى الشاهد المعاصر الوحيد الذي ما زال باقيا هو من آيات القرآن نفسه، وهذا يستبعد مثل هذا الاحتمال بأقطع عبارة، ومن المستغرب أن هذا الشاهد يطرح جانبا في الغالب ومن هنا تأتي ملاحظة باحث حاذق له جهوده المشكورة في الدراسات الإسلامية حيث يقول: "إن الإسلام يمزج دائما بين المقدرة على تمثيل العناصر الأجنبية والعزوف عن الإقرار بالأصول التي استمدت منها"1. وهذا ملاحظة تستحق البحث ولو بصورة عابرة، ما دامت قد أوردت بصورة عابرة! فإذا كان المقصود بكلمة الإسلام هو مدنية الإسلام أو حضارته أو ثقافته، فإن مسألة تمثل العناصر الأجنبية أو مصادر هذه العناصر لم تكن قط محل إنكار2, أما إذا كان المقصود هو العقيدة والدين، فإن كاتب هذه الكلمات لا يكاد يحتاج إلى من يذكره أن الإسلام إذا ابتغى أن ينفض عنه ما كان مثارا لنعيه عليه، فإنه لن يكون بعد هو الإسلام في خصائصه المعروفة، ولسوف يتخلى عن التعاليم الصريحة في كتابه المقدس، والإسلام كعقيدة كل لا يقبل التجزئة، إما أن يؤخذ كله وإما أن يترك كله. هناك مثال لكثير من الآراء الخطيرة التي يكاد يخفيها ما يساق من عبارات تبدو مقتبسة، ولكنها تفقد رونقها بإمعان النظر عن قرب. وحتى المستشرقين الذين توصلوا مع أنفسهم إلى التوافق على قبول صدق محمد والاعتراف بأنه دعا إلى دين جديد متميز تميزا أساسيا.. يعودون ليؤكدوا في الوقت نفسه أن رسالة محمد لم تكن كلها من مصدر إلهي! وهذا نص لباحث آخر له أبحاث قيمة عن حياة محمد، إنه يقول: "إن على الإسلام أن يقر   1 B. E von Brunebaum islam: Essays in the nature and growth of a Cultural Tradition, London 1961, 228. 2 ومن هنا يجب مناقشة مدى سلامة ملاحظة أخرى لفون جرونيبارم. انظر: "Prob-lems of Muslim Nationalism" in R. N. Frye "ed" islam and the west. The Hague 1957, 29. "إن الضغط المحافظ يضطر إلى إخفاء الاستعارة بقدر الإمكان وراء حجاب من الأساطير "orttogenetic legend" انظر مناقشات أخرى لهذا الموضوع تحت رقم 5 فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 بحقيقة أصله, ذلك التأثير التاريخي للتراث الديني اليهودي المسيحي"1. وهنا تؤخذ مسألة "الأصول" كحقيقة مقررة ويشار إليها على هذا النحو دون تمحيص أو مناقشة2. وإذا ما استعرنا أسلوب النص ربما قلنا: إن على الكاتب أن يقر بأنه لم يصب على أي وجه من الوجهين: عندما اعتبر محمد نبيا صادقا ثم عزا إليه التلاعب، ما دام وهو الذي يفترض أنه مؤلف القرآن لم يعترف بما اكتسبه من أفكار الآخرين! إن هذا الازدواج يرجع للتناقض مع النفس، وهو غير مقنع في أي من وجهتي النظر في المسألة؛ لأنه لا يؤيد إحدى الوجهتين كاملة ولا ينقض الأخرى تماما والمسلم المؤمن سيظل على موقفه، كما سيبقى هذا المجادل على موقفه, أما الكاتب الذي درب على معالجة التاريخ فهو لا يحاول أن يركب جوادين في وقت واحد. وقد تكون هذه المحاولة للتوفيق جديدة بالتقدير، ولكن نتيجة المحاولة المخيبة لآمال كل من المؤيد للعقيدة والمعارض لها على السواء، كما أنها لا تلقى ترحيبا من المؤرخ المحايد الذي يفتقد الأدوات اللازمة للتحليل. والحق أنه على الرغم من التقدم في كتابة التاريخ العلمي، فإن هؤلاء "الازدواجيين dualists" في الدراسات الإسلامية قد أسهموا بجهود قد تكون متميزة في ذاتها، ولكنها تدل على إدراك أقل مما كان لدى المتطرفين السابقين من مؤمنين ومجادلين، والذي يحاول اللاحقون جاهدين عن وعي أو غير وعي أن يشغلوا أماكنهم ويحلوا محلهم. -3- من الواضح أن الفارق بين معنى الإسلام لدى معتنقيه وصورته التي يرسمها له المستشرقون تمس أسس العقيدة الإسلامية ذاتها، وعلى الرغم من أن التقدم نحو البحث الأكاديمي ليس محل جدل، فإن من الواضح في هذا الصدد أن صورة العصور الوسطى للإسلام قد ظلت في جوهرها دون   1 W. M. Matt, Islam and the Integration of Society London 1961, 293. 2 انظر مثلا B. Lewis, the Arabs in History London 1960. وهو في هذا الكتاب الموجز غير الموثق يستعمل لغة أكثر حذرا حين يقول ص39 "وعلى وجه الاحتمال من التجار والرحالة اليهود والنصارى الذين تأثرت معارفهم بمؤثرات مدار شبه أو مشكوك في صحتها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 تغيير، وإنما نضت عنها الثياب القديمة لأجل أن تضع ثيابا أقرب إلى العصر، وتتعدد علائم الأصرار على الأفكار العتيقة سواء فيما يتعلق بالقرآن ومحمد، أو ما تعلق منطقيا بالعقيدة والشريعة والتاريخ في الإسلام، وليس الإطناب أكثر من ذلك في هذا الأمر بمرغوب أو مفيد، وإنما نعمد إلى تقدير الموضوع من زاوية أخرى. لقد كان من نتائج التوغل الغربي في ديار الإسلام، أن تعرض عقل الشباب لمجادلات مضللة عن طريق التعليم المدني أو الجهود التبشيرية إلى حد كبير، وهي مجادلات سبق أن صيغت لتوافق من تقوضت العقيدة المسيحية في صدورهم تماما في أوروبا الغربية. ولكن على العكس من أسلوب الجدل الوسيط، كان للمنهج الجديد هدف إيجابي، وخاصة بالنسبة للمبشر، هو التحويل للمسيحية، وهذه الطريقة في أبسط صورها هي طريقة "مقارنة الديانات" Comparative Religion" التي تحاول أن تقارن المسيحية بالإسلام، لغير صالح الأخير في الغالب الأعم!! وما زال هذا الأسلوب قائما في أيامنا، وإن كان لا يصرح الآن بمقاصده الإنجيلية الصريحة. وهنا يكون الأمر أيضا أكثر دلالة إذا قدمنا أمثلة صريحة، ولكن يمكن أن نقرر أولا بعض مبادئ عامة، لقد كان منشأ دراسات مقارنات الأديان في الغرب يرتبط بالجدل، ولقد سبق أن قورنت اليهودية بالمسيحية، وبدلا من أن تؤدي المقارنة إلى تنمية الفهم الصحيح، فإنها قد ولدت مزيدا من العداء. وهكذا كانت النتيجة بالنسبة لمقارنة اليهودية والمسيحية بالإسلام عن طريق اليهودية, والمسيحيين الذين اعتنقوا القول بأن الإسلام ثمرة لإحدى الديانتين السماويتين السابقتين عليه أو ثمرة لهما معا، وبينما نجد هناك علاقات اتصال عضوي organic relationship مسلم به بين اليهودية والمسيحية، فإنه ليس من المسلم به أو المدعم بالبرهان العلمي وجود أي علاقة اتصال بين أيهما وبين الإسلام، وإنما نجم العداء اليهودي أو المسيحي للإسلام من صراع سياسي وعقائدي على مدار التاريخ! وإنه لتعليق مؤسف بالنسبة للحكمة الجامعة لدى هؤلاء العلماء من أتباع هذه الديانات. أن يذكر أنهم لم ينجحوا قط في إزالة أسباب العداء والخصام المتبادلين، ولا بد أن يتقبل المستشرقون نصيبا من المسئولية عن استدامة هذه الحال المحزنة للأمور. ولذلك فإنه ما لم تحدد أهداف مقارنة الأديان في المجال الإسلامي بوضوح وما لم تقبل قواعد معينة لمنهج المقارنة من العاملين فيها، فإن هناك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 مخاطرة بأن تتمخض المقارنة عن مجادلة جوفاء! وقد يدعى هنا أن الراغبين في القيام بهذه الأبحاث لا يضمون جوانحهم على مقاصد جدلية أو تبشيرية، وأن اهتمامهم الرئيسي هو اهتمام أكاديمي، وإذا كان ذلك كذلك، فإنهم لا بد أن يتبينوا أن المقارنة تتطلب التسامح والتجاوب والتقدير ممن يضطلع بها، إذ يكون الهدف الرئيسي هو تعميق إدراك المرء لثقافته القومية -أو تراثه وتقاليده Tradition وللثقافة الأخرى- أو التراث والتقاليد التي تجري المقارنة معها. ومثل هذا الفهم من شأنه أن يربي اتجاها نقديا لا بالنسبة لثقافة الغير -أو تراثه وتقاليده، بل بالنسبة لثقافة الباحث نفسها- أو تراثه وتقاليده. وعلى ذلك فإن أي مسألة تدرس دراسة مقارنة لا بد أن تقرر بالتعبير المقبول لدى هؤلاء الذين استمدت هذه المسألة من تراثهم وتقاليدهم وديانتهم بالنسبة لموضوعنا، ولا بد أن يوصل بين سائر الظروف المحيطة بها، ويحكم عليها طبقا للقيم السائدة في النظام القومي الذي تنتمي إليه. وإذا ما نالت هذه المبادئ الأولية القبول فإن أي كاتب يستشعر عداوة أو نفورا، أو مجرد الإعراض عن تراث غريب عليه يجب أن يعترض صفرا, وعليه أن يعتبر نفسه في أمانة غير صالح عقليا وعاطفيا لمحاولة المقارنة التي لن تثمر نفعا ملموسا للبحث العلمي في هذه الحالة. وبينما لا نجد أحد لحسن الحظ من المستشرقين الناطقين بالإنجليزية المعاصرين يبدي مثل هذه الضغينة، وهذا الحقد بصورة معيبة, مثل ما تجد في مؤلف لامنس Lammens المعروف إلا أنه قد ندت ممن حاول المقارنة منهم هنا أو هناك تحاملات دينية أو عقائدية، من شأنها أن تنتقص من قيمة جهودهم وتهز الثقة في أبحاثهم. وإن النظرة الأولى للإسلام تكشف عن مواضع شُبه بينه وبين المسيحية، ولكن النظرة الفاحصة عن قرب تبرز خلافات أساسية، وهذه الحقيقة كانت غالبا ما تثير المبشرين في الماضي, وما زالت تستميل قليلا في المجال الأكاديمي إلى التحايل على تصيد مثل هذه الشوارد "كأصول الإسلام" وينزع المبشر والباحث الأكاديمي إلى أن يتناسى، وهو ينال من قدرة محمد بطريق مباشر أو غير مباشر، كيف يقدس المسلمون الأتقياء المسيح! وفي كتاب قريب من سلسلة بنجوين Penguin عمل مستشرق هو قسيس إنجليكاني على عقد عدة مقارنات، ليظهر أن الإسلام كان في صدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 صورة غير محكمة أو مشوهة للمسيحية1, وعلى كل حال فقد قدم المؤلف الحجة لتبرير التساؤل عن كفايته كقاض غير متحيز، وليس فقط بما أبداه من آراء مقنعة ولكن أيضا بما أقر به من مشاعر إزاء الرسالة المودعة في ثنايا القرآن؛ إنه يقر في أحد مواضع الكتاب أن للقرآن بالنسبة إليه ومن على شاكلته في التفكير -فهو يستعمل ضمير "نا" الدالة على "الفاعلين"- مضمونا رجعيا يدعو للتأخر Repellent Content2. والكتاب يتكلم في موضوع آخر عما يثير "نفورنا" من بعض الصور عن الإسلام, دون تحديد3! وفي هذا ما يكفي لإقناعه كي يبتعد عن الموضوع. ولكنه يتراجع عن محاولة ترجمة السيرة إلى الإنجليزية, واتخاذها مادة تستعمل في التعليق وغيره، كي يعطي تحامله النغمة الملائمة، وما دام قد نشر من قبل نقد منفصل لترجمته4 فليس من حاجة إلى أن يقال المزيد في هذا الصدد. وهناك دارس آخر للإسلام هو أيضا من رجال الكهنوت يستحق الذكر هنا بوجه خاص بسبب تقديمه لمزيد من الجدل السطحي Speatulation الذي يعرض للتشابه بين المسيحية والإسلام، وهو يكتب: "إن من أسباب تباعد المسلمين والمسيحيين عن بعضهم البعض أن كلا الفريقين قد أساء فهم عقيدة الآخر بمحاولته أن يضعها خلال طراز الاعتقاد الذي يؤمن به"5! وشأن كثير من التعميمات لا يبدو مثل هذا النص منصفا كما يحاول أن يكون. فإن المسيحيين وحدهم هم الذين ظلوا طوال القرون يحاولون فهم الإسلام, أو إساءة فهمه من خلال اصطلاحات المسيحية. أما النظرة الأساسية للمسلم فقد ظلت على حالها لم تتغير على الداوم؛ لأنها جزء من الوحي الإلهي   1 A Guillaume, Islam, 1654, 162 - 6 et passim. 2 Ibid, 74. 3 The Listoner. London, Ostaber, 16, 1952, 635 a. 4 A. L. Tifamy, the LiFe of Mohammed Acritique of Guill aumes English Translation Islamic Quarterly III, No. 3. pp. 196, 214. 5 W. C. Smith, Islam in Modern History, Prinaton 1957, 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 في القرآن1. ولم يحاول مسلم مؤمن أن يدخل المسيحية في إطار آخر. والمسيحي لا يواجه في كتبه المقدسة قيودا صريحة تحجزه عن تقبل وجهة نظر المسلم عن الإسلام، ومع ذلك فهو يرفض لا رأي المسلم في المسيحية فحسب, بل رأيه في الإسلام أيضا، وهو يسعى جاهدا لتغيير الرأيين! وصاحب العبارة المشار إليها في الفقرة السابقة هو رجل خبير في أبحاث الإلهيات، وقد بدأ وجهته هذه مدرسا في معهد تبشيري في لاهور. وهو يجعل من كلماته اعتذارا لمحاولته لإدراك أحد الأهداف المسيحية، وهو في هذا السبيل يناقش خطأ شائعا كما يقول بين المسيحيين والمسلمين، وهو افتراض "أن دور المسيح في المسيحية ودور محمد في الإسلام مما يمكن المقارنة بينهما", وهذا التقرير مضلل أيضا, إذ إن مثل هذه المقارنة إنما تصح في جانب المسلمين الذين يؤمنون بالمسيح رسولا من رسل الله للبشرية! أما بالنسبة لجانب المسيحيين عامة والمستشرقين خاصة، فإنهم لا يعترفون بمحمد رسولا، أو يرونه قد وقع في لبس فظن نفسه ورسولا, كما بدا من العرض السابق. وفي مثل هذه الظروف، في أي جانب تصح المقارنة؟ والصفحات السابقة تبرز إلى أي مدى تعقدت من قبل دراسة الإسلام وحياة محمد، بما   1 هذه فرصة مناسبة لتقديم عرض سميث W. C Smith الشاعر لكتاب City "A friday in Jerusalem". of Wrong الذي نشرته The Muslim World في عددها LI, april 1961, 134-7. والكتاب ترجمة لرواية كامل حسين الفلسفية العربية "قرية ظالمة" وقد بالغ عارض الترجمة أكثر من المترجم في أهداف الرواية، حتى اعتبرها "حركة كبرى" من مسلم له مكانته نحو رأي المسيحية في الجمعة الحزينة ولقد كان جب H. A. R Gibb أكثر اتزانا حين لاحظ أن الإلهيات كانت بعيدة عن مقاصد الرواية, إذ إنها تقف إلى جانب الآراء الإسلامية الأساسية كلها، ثم هي تستبعد أية إشارة إلى الرمزية المسيحية المتعلقة بالقصة. انظر: Religion in Life XXIX 1959-69 158-9 وعلى هذا النهج من الحكمة نجد عرض ألبرت حوراني Albert Houreni الذي يتبين أن الرواية تعطي "الجواب الإسلامي السلفي Orthdox" على سؤالين أساسيين: هل المسيح ابن الله؟ وهل صلب حقا انظر Frontier II summer 1961,19 وقد ذهبت هذا المذهب في عرض للترجمة ومقدمة المترجم، انظر: Die Welt des Islam, VI, Ms. 3-4 "961" 280-1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 أدخله المستشرقون من مسائل جدلية لا سبيل لحلها، وإذا ما استنقذنا أنفسنا من هذه الورطة، فإن الفروض المقارنة المعروضة إذا ما أخذت مأخذ الجد فإنها توقعنا في شرك جديد! أن هذه الفروض تذهب في إيجاز إلى أن دور محمد في الإسلام، ودور القديس بولس في المسيحية "أكثر قابلية للمقارنة" وأن القرآن يمكن مقارنته بشيخ المسيح, في حين يقارن حديث النبي بالكتاب المقدس! وقد توالى عرض المزيد من المقابلات1، ولا يعنينا هنا الصورة التي يمكن أن تستقبل بها مثل هذه "الهرطقات" في الدائرة المسيحية اللاهوتية، وإنما يهمنا الغرض الذي أعلنه الكاتب في عبارته وهو "الاتصال Communication أو "التواصل" intercomnunrcation بين المستنيرين من المسلمين والمسيحيين، ترى هل تكون هذه المماثلات Onalogies مؤدية إلى الهدف؟ إن الأمناء الصادقين غالبا ما ينسون كأفراد ما تتضمنه أفكارهم حين يواجهون عقائد الآخرين ومشاعرهم وتحاملهم، ومن الصعب في حالتنا هذه أن نتصور أن مؤلف هذه المماثلات يتوقع لها أن تجد ترحيبا لدى علماء المسلمين، ولنستبعد سوء الفهم بالنسبة لمقصد هذه الكلمات، وإن المماثلات ليست وحدها مثار التساؤل بالدرجة الأولى، وإنما يثير التساؤل قبل كل شيء هذه الرواية المصطنعة التي يعرض تحتها هذا كله، هذه الدعوى العريضة عما لهذا المسلك من معان جليلة وآثار تنوير المسلمين. والحقائق الثابتة عن رد الفعل بين المسلمين لا يبدو أنها تعني الكاتب أو تدعوه إلى الروية! وهو نفسه يقر بأنه عرض إحدى مماثلاته على مسلم متحرر يحمل درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن، فصدم بها كثيرا، ولم يتردد في رفضها، ولكن هذا لم يقنع المؤلف، ولسنا في حاجة للذهاب إلى الأزهر لنكتشف معارضة أقوى، إن الكاتب نفسه قد رجع إلى ثلاثة ممن يسمون "بالمغتربين" Mestermized من المسلمين كل على انفراد، وكانت الإجابة واحدة على اختلاف في درجة التعبير بين الحدة والرقة، فقد وصفت هذه المحاولات بأنها "سطحية" و"تافهة" و"كفر صراح"!. ترى مع من يكون إذن "الإتصال" و"التواصل" وإلى من يكون "التنوير"؟!   1 The World of Islam, Studies in Honour of Philip K. Hithi London 1960 47: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 إن الجدل السطحي الصفيق، وانتزاع المقابلات واصطناع المماثلات قد يكون جذابا لأستاذ مقارنة الأديان، يرى واجبا عليه أن يحاول واعيا كي يجد بصورة ما موضوعات للمقارنة، كما قد تكون هذه العمليات المتوهمة مما يعني المبشر الذي قد يستخدم هذه المماثلات لاستئناس المقاومة وفتح الطريق، وربما كانت هذه المحاولات نافعة أيضا لمدرس غير مسلم في جامعة غربية كطرائف تعطي لعمله شيئا من الحياة! ولكن صدوره عن عقل مسيحي متخصص في الإلهيات وغارق في الاصطلاحات المسيحية، يجعله على الأقل بغير ثمرة لمن هم على علم من المسلمين1 فإن الأمر في حقيقته حوار اجتماعي لأجل أن يكون مثمرا، فلا بد أن يتناول موضوعات تكون مقبولة ومثيرة لاهتمام كل من الجانبين. وهذا مبشر قديم يحاضر في الشريعة الإسلامية بجامعة لندن, يعمل على تضمين مقالة واحدة كل اعتراضات العصور الوسطى على محمد وعلى الإسلام، وعلى نهج أقل من نهج زميله الذي أشرنا إليه الآن تبصرا ودهاء، ولا يبدي احتراما يذكر لذكاء القارئ! ومن المدهش أن يعلن المؤلف في مقدمته أنه يقدم معلومات صحيحة لمعالجة الدراسة "موضوعيا" حتى يكون "منصفا" "مدققا" ويتوقى "المقارنة عن طريق المقابلة مع المسيحية" Adverse Comparison with Christianity2 ولكن بعد هذه الإعلانات كلها عن الموضوعية يكتب الكاتب أنه "لا يمكن أن يكون هناك شك على أية صورة" أن محمدا قد تمثل أفكارا من التلمود وبعض المصادر المحرفة، أما بالنسبة للمسيحية فإن هناك احتمالا طاغيا بأن محمدا قد استمد إيحاءه منها! وقد يثير انتقاء الكلمات وحده الشك في أمر كفاءة الكاتب، كي يكون قاضيا، ولكن معالجته الفعلية للموضوع في مجمله يكشف عن هذا بصورة أوضح. ولقد تعرض شخص محمد لكثير من الافتراء، ولكن يظل الافتراء   1 انظر مثلا للدكتور محمد البهي "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" القاهرة 1376هـ/ 1957م, ص181. 2 J.N. Anderson "ed" the Worlds' Religions' London 1950 P.P. 52-98. وليس للناشر سوى مقال عن الإسلام كما له مقدمة وخاتمة، والنصوص المذكورة سابقا في صفحات. 58-59-60 -82 "n,1", 85 "n.1" 92, 93, 97-8" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الرئيس هو ما يمس جوهر رسالته وتقديمه للقرآن ككلام الله، في حين أنه ليس كذلك, وهكذا نهج الكاتب بالنسبة لمحمد وبالنسبة للإسلام، وعلى هذا النحو يكون الحج إلى مكة -إحدى دعائم الإسلام الخمس- مفتقدا للباعث المعنوي Moral uplift ويكون دين الإسلام كله على أحسن الأحوال "باردا شكليا" والمؤلف كسابقه, إن مستويات الإسلام الأخلاقية قد جعلته ينفر! ويتضح تماما ما إذا كان هذا المنهج يرقى إلى الموضوعية التي وعدنا بها الكاتب أم لا. إنه ينسى ماضيه كمبشر قديم، ويكتب من هذه الزاوية. وهكذا يصدر الحكم في شأن "نقائض" الإسلام من زوايا مسيحية أوروبية عصرية! ويكون الهدف إنجيليا خالصا! وبالنسبة للتطورات المحتملة داخل الإسلام في العالم المعاصر يناقش الكاتب فرص الشيوعية، ولكنه يؤمل كما يظهر في "تحول قياس لم يسبق له مثيل إلى المسيحية التي لم تعرض بعد بالصورة المناسبة للعالم الإسلامي"! وهو إذ يخوض بعض المناقشات المعروفة عند المبشرين يجد من العقبات التي تعترض الطريق نحو "تحويل المسلمين إلى الإنجيل euangelization To Islam" حكم الردة، وافتقاد النصوص التي تعين على تحويل المسلم عن دينه في القوانين العصرية التي صدرت مؤخرًا1! وهو يختتم مقاله في أسلوب شعري "إن للعالم إن يرى ماذا سوف يحدث حين يعرض إنجيل المسيح الحي بالصورة الملائمة لملايين المسلمين". وليس ثمة حاجة لفحص مؤلفات الكاتب التي تتعلق بمهنته، فهي معلومة موصوفة في مجال العمل القانوني المعاصر في عدد من الأقطار الإسلامية، فإلى جانب الحكم الأخلاقي المتكرر طبقا للنظرة المسيحية، فإن هناك فكرة رئيسية قد عرضت في السطور السابقة، والشريعة الإسلامية ليست نصوصا جامدة، وقد تعرضت خلال التطبيق لمحاولات التجديد والتنقيح، وبصورة قوية في الزمن القريب، ولكن الكاتب لا يعنى كثيرا كما يتضح من كتابته بتفهم تاريخ الشريعة الإسلامية! إن الأصول الرئيسية للشريعة هي القرآن والسنة، فللشريعة طابعها الإلهي، ولكنها تستمد من مصادر أخرى بجانب هذين المصدرين خلال تجارب الإنسان في الحكم،   1 انظر مثلا: J.N.D Anderson. Islamic Laws in the Modern World, New York, 1959 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فهناك مجال للصنعة البشرية أيضا. ومن هنا يكون القانون معرضا للمراجعة والتنقيح من الإسلام إلى أيامنا هذه1. ولنضع موضع التقدير -على سبيل المقابلة- مسلك باحث له جهده المتميز في دراسة الشريعة الإسلامية، إنه لا يدفع النتائج إلى ثنايا بحثه في تحامل تمليه عداوة متأصلة كامنة! 2 وعلى الرغم من أن بعض أهل العلم من المسلمين يجدون تحليله متشككا، وقد يناقشون مؤلفه تفصيلا، إلا أن دراسته الرئيسية على الرغم من ظاهرها ليست مما يصدم تماما مع أصول الإسلام، فسواء أكانت الشريعة الإسلامية طبقا لنظرة الدين مستمدة بالدرجة الأولى من القرآن والسنة، أم كانت ثمرة تمحيص فقهاء القانون القائم المألوف existing customary law وأصحاب الخبرة الإدارية كما يقرر البحث المشار إليه, فإن النتيجة في الحالين واحدة. وبالنسبة للجماعة الإسلامية في عهدها المبكر كان هذا النتاج نظاما قانونيا، يتفق مع القرآن والسنة والتجارب المعتمدة. ويلزم مثل هذا الحياد العلمي في دراسة التجربة القانونية المعاصرة، فلا يختلط باعتساف الأحكام الخلقية أو الدعاية، والتشريع الحديث في صورته المنسقة التي انتهى إليها، ينبغي أن يوزن بموازين الإسلام، وطبقا لهذه الموازين لا بد للتشريع الحديث كي يكون ناجحا أن يكون مزاجه التركيبي الخاص synthesis كما كان للتشريع في عصوره الأولى, ولن يعني هنا تشكيلا أليا جديدا لنصوص التراث القديم, ولا تركيبا مدنيا يستتر وراء واجهة إسلامية, إن ما يلزم في هذا الصدد هو "تقويم للحياة الاجتماعية العصرية، والفكر القانوني المعاصر من زاوية إسلامية"3.   1 انظر مثلا الملاحظات التمهيدية فيما بعد تحت رقم4. 2 I. Schacht; the Origins of Mohammaden Jurisprudence Oxford, 1950. 3 J. Sckacht. Problem of Modern Islamic Legislation in Studia Islamica, XLL, 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 -4- عندما استغرق الجدليون الأول في الإساءة إلى الإسلام والتضليل في فهمه، كان غرضهم تخريبيا هداما، وبدخول الأهداف التبشيرية أصبحت هناك حاجة إلى شيء من "الموضوعية" وأصبح منهج العمل مزيجا من تشويه الإسلام وإظهار معايبه، ولكن على أساس من وقائع أكثر ثباتا، لأجل المقارنة مع المسيحية، وقد هجرت الآن الطريقة الأولى عمليا، أما الثانية فقد هون منها شيئا ما، أو ألبست زيا جديدا، ومن صورها المعتدلة القول بأنه لا بد للإسلام من "إصلاح" reform ولا نستطيع أن نتبين أول من نادى بهذا الاقتراح، أو استعمل هذا التعبير في دلالته الغربية، ولكن من الواضح جليا أن كثيرا من الهراء قد سطر حول هذا الموضوع حتى غدا من الضروري استجلاء معانيه. إن المستشرقين -وبخاصة البروتستنتيين منهم- لم يستطيعوا أن يحرروا أنفسهم مما يمكن تسميته بحتمية "الإصلاح" في دين من الأديان! ولعله لا يكون مجرد مصادفة أن الباحثين اليهود "والروم الكاثوليك" قلما ينشطون للمشاركة في هذا الموضوع، الذي يكاد يكون حكرا للباحثين البروتستنتيين، وعلى الرغم من أن المطابع قد قذفت بكثير من المحاولات التي تتناول مسألة "الإصلاح" في الإسلام المعاصر، وعلى الرغم من أنه لا تبدو بوادر توقف أو تناقض في هذا السيل المنهمر يبدئ ويعيد القول في فكرة أو فكرتين بعبارات متباينة، إلا أننا ما زلنا نفتقد صياغة واضحة متلاحمة الأجزاء لهذه الأفكار فيما نشر، وبصرف النظر عما يخفيه هذا القناع في أعماق اللاشعور، فإن اقتراح "إصلاح" الإسلام إذا أخذناه بظاهره يمثل محاولة أخرى لتغيير وجهة نظر المسلم عن الإسلام ولجعل الإسلام أقرب بقدر الإمكان إلى المسيحية، أو إلى الصورة البروتستنتية إذا شئنا تعبيرا أفضل! وإذا تركنا جانب المدنية والحضارة والثقافة، فإن للإسلام بالضرورة مجالين: العقيدة والشريعة, والأولى بالطبع محكمة جلية لأفهام العالم كله وليست معرضة لتغيير، أما شريعة الإسلام فهي مستمدة من الوحي ومن نصوص السنة التي وردت خلال التجربة البشرية للحكم، ومن هنا كانت هذه الشريعة منذ أيام الخلافة الأولى حتى وقتنا الحاضر معرضة للتفسير واختيار ما يلائم نظم الإدارة ويوافق الفن القانوني المعروف والتجربة. وما يقابل في الأيام الأخيرة التشريع المدني، فإين يريد دعاة "الإصلاح" أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 يقحموا إصلاحهم، وما هو بالضبط الذي يريدون أن يقحموه، ولأي غرض من الأغراض؟! نحن لا نريد أن نروع إلى تفصيلات فرعية، ولكن ينبغي أن يتضح لكل ذي علم صحيح بالإسلام أن الإصلاح بمعناه المفهوم لا يمكن أن يتسرب إلى مذاهب الاعتقاد دون أن ينقص من سلامتها أو يقضي عليها تماما، ومن هنا لا يبدو محتملا أن يقبل مفكر مسلم أن يساند مثل هذه المشروعات, ولو فعل لما وجد مرجعا دينيا مسئولا يتسامح معه فيما ذهب إليه. ومن يؤيد من علماء المسلمين مثلا صورة جديدة في عرض الإسلام تذهب إلى تطعيم كيان العقيدة الإسلامية بالاعتقاد المسيحي في الخطيئة الأصلية original sin أو التجسيد incarnation! وللتمثيل على الاضطراب والتخطيط في هذا "الإصلاح" يكفي أن نتبصر حقيقة الازدواج المتناقض في منزع دعاة هذا الإصلاح من غير المسلمين؛ فهم بينما ينعنون على الإسلام الجمود حتى إنه لا يقبل من التغيير في نظامه إلا قليلا، إذا بهم حين تستحدث تغييرات بعيدة المدى لا يتركون فرصة إلا ويبرزون أن مثل هذه التغييرات فيها تقويض للشريعة، والجماعة الإسلامية تستطيع الحكم في مثل هذا الأمر بصورة أفضل قطعا، مستهدية بمبدأين في هذا السبيل: أن يكون التغيير متفقا مع المصلحة بالنسبة للجماعة, ومع مبادئ العدالة. حقيقة تثور اعتراضات على مثل هذا التغيير حتى في زمننا، والاختبار الضروري لسلامة التغيير الحادث قديما وحديثا، هو رضاء الرأي العام في الجماعة وموافقة العلماء في الإقليم الذي يجري فيه التغيير، وهناك شواهد طبية أن هذه السلطات ما زالت الآن كما كانت من قبل تبدي مرونتها وسماحتها للتوافق مع الأحكام المستحدثة. وأول مستشرق ناطق بالإنجليزية ينتج ثمارا فكرية للإسلام في العصر الحديث, وما فتئت أفكاره تعمل على تزويد من يأتون بعده بالأصول التي تحتاج إلى التوسع، يوجه عنايته كي يتوقى أن يقحم نفسه متطفلا على جماعة المسلمين أو يجعل نفسه وصيا عليهم حاميا لهم، فكل ما يفعله المسلمون، أو ما سوف يفعلون في نهجهم العقيدي أو الشرعي يرده المستشرق الرشيد إلى أهله من العلماء1، أما الباحثون الذين لا تكون   1 J. N. D. Anderson. Insamic Laws in the Modern World New York, 1959, 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 لهم مثل هذه العناية فهم يقفزون من الدراسة الوصفية إلى اقتراح العلاج وإصدار النبوءات عن المستقبل، ولا يستطيع الغريب على نظام ديني أن يتخلى عن أن يكون لطيفا, فهذه صفة أولية لا بد منها كي يتوقع من الناس أن يسمعوه أو يحترموه! إن الإدراك الديني تجربة روحية حدسية intuitive ولا يمكن التقاطها بالمناهج التحليلية والنقدية، وهؤلاء الذين يكونون خارج نظام ديني لا يمكنهم اقتناص دلالة التجربة التي يمارسها من يعيشون داخل هذا النظام1. إنه شيء لا يمكن تعلمه من الكتب، ومن هنا كان الخلط في طبيعة أهداف "الإصلاح" المزعوم بين دعاته من غير المسلمين. ومن هنا كانت الصعوبة التي يواجهها من يعيشون داخل الجماعة الدينية في تفسير دينهم لمن يطلون عليهم من الخارج ويحاولون عبثا تقدير لحنها الأساسي في أغواره العاطفية والحدسية البعيدة، مما يغفل عنه المستشرقون الذين يستمدون, معرفتهم بالإسلام أساسا من الكتب. وفي الحالات النادرة التي يناقش فيها هؤلاء معالم الإسلام مع علماء المسلمين أنفسهم فلما تكون النتيجة مرضية. فالمسلم يفترض أن المستشرق ينتهي إلى اتهامه بالجهل دون تبرير معقول! ثم إن هناك صعوبات اللغة نفسها، وقليل من المستشرقين من يستطيع إدارة مناقشة بالعربية "أو الفارسية أو التركية" أو المضي فيها. ولا يزال المسلمون الذين تمكنوا من لغة أوروبية يعانون نقصا، فإنهم قلما يستطيعون أن يبادروا المستشرق في استعارة الإشارات الثقافية اللماحة في تلك اللغة، فضلا عن النفاذ إلى تراثها الكلاسيكي والاستحواذ عليه واستعماله. هذه بعض العقبات التي تجعل اقتراحات المستشرقين إما غير مقبولة أو سيئة الأثر، وبينما كان كاتب هذه السطور يجمع المادة اللازمة لدراسته   1 انظر مثلا P. Ferris.,The Church of England London 1962 نقلا عن Observer Oct, 7 1962 "إن الذي ينظر من الخارج متسائلا عن الكنيسة يأتيه الجواب غالبا بأنه لا يستطيع أن يفهمها ما لم يكن في داخلها, حتى وإن كانت تعتبر مثل هذه المحاولة من جانبه أحيانا تطاولا غير مستساغ. impertinent" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 كانت الكتابات المنشورة التي تضمنتها قد درست من المستشرقين والباحثين المسلمين والعرب في أوروبا وأمريكا والعالم العربي، والمثال المناسب للمقام هنا هو رأي باحث يجمع بين التعليم الديني الإسلامي والتعليم في جامعة غربية أن يقول: "لقد عرفت بعض المستشرقين الذي يتعاملون مع الدارسين المسلمين في استعلاء وتعاظم، وكان هؤلاء المستشرقين إذا ما تساءلوا عن مسألة إسلامية، فكأنما يعلنون ضمنا أنهم يعلمون كل شيء عنها سلفا، في حين أنهم ياخذون بوجهة نظر أخرى مع قليل من التبصر الحقيقي والنفاذ إلى الأعماق". وفي صدد موضوع "الإصلاح" نبدي ملاحظة بنغمة أو بأخرى. وينبغي ألا يفترض على أية حال أن مثل هذا الحنق الذي انعكس على السطور السابقة إنما تسبب عن مصادمات اجتماعية أو أكاديمية سطحية، وربما يخاطر المرء بالقول بأنها لا تنجم ابتداء من بواعث دينية مباشرة, ولكن التاريخ المشئوم للدراسات الإسلامية التي خرجت إلى الوجود من سلالة الجدل والتبشير. وميراث الصراع العسكري الطويل بين عالم المسيحية والإسلام، لا يزال كلاهما يعلب دوره بصورة شعورية أو لا شعورية في تحديد اتجاهات المسلمين، هناك شعور أحدث تاريخا وأكثر مرارة أن أفكار "الإصلاح" جاءت مع النفوذ السياسي المسيحي على أجزاء كثيرة من أرض الإسلام, أو نتيجة لهذا النفوذ1. ولقد كان اللقاء المبكر بين الإسلام والفكر الإغريقي شيئا مختلفا. فقد كان الإسلام يحكم في مقام رفيع وكان هو السيد صاحب الرأي والتمييز، يقبل أو يرفض ما يشاء من العناصر الأجنبية، أما في الزمن الحديث فإن الإسلام لما يقبله أو يرفضه يمليه أو يدفع أو يحد منه أفراد أو هيئات أجنبية غير إسلامية يشك المسلمون أحيانا فيها ويرون أنها تتصرف وفقا لما تمليه المصالح الأجنبية. وقد يفسر هذا لماذا لا ينال "الإصلاحيون" من ذوي التوجيه أو التشجيع الغربي أي نجاح في استمالة تفكير المراجع الإسلامية المسئولة. وإنما هم ينالون الإعجاب أساسا من المستشرقين وأشياعهم، ومن ناحية أخرى كثيرا ما يدفع بالرجعية المصلحون الأصلاء من أبناء الأمة الذين قد   1 أحمد أمين: يوم الإسلام ص215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 يكون لديهم شيء جوهري له قيمته. وكذلك لا ينال كل الرضا من اختاروا طريقا وسطا يقترب قليلا أو كثيرا، ومن أسلافهم في العصر الذهبي، وإنما يقال عن هؤلاء أنهم لم يذهبوا المدى الكافي! ولكن هؤلاء لا يستطيعون أن يذهبوا أبعد من ذلك. فإن العلماء في كل العصور لديهم موهبة فطرية جماعية تشير لهم إلى أي مدى يذهبون, وماذا يرتضون من حلول التوفيق؟ وأين يصمدون تثبيتا لنظامهم؟ ولقد كان محمد عبده وتلاميذه أصحاب مثل هذا التوفيق، ولم يكن تزمت الوهابية Puritonism في طرف أو تحرير بعض المسلمين الهنود Liberalism في الطرف الآخر شيئا مقبولا عند هؤلاء أو عند الجماعة الإسلامية في جملتها. ومن أجل ذلك كانت الضرورة الأولى اللازمة لأي تغيير أو إصلاح ناجح أن ينبع من داخل الأمة, ويصدر منها ابتداء في استقلال عن أي سيطرة أو إيحاء من جهة أجنبية، ومنذ التجديد التمهيدي الأصيل في الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن الثامن عشر في عهد سليم الثالث، ومنذ جهود مفكري المسلمين في الهند للملاءمة بين الشريعة الدينية وبين واقعيات السيادة غير الإسلامية تحت ضغط الإجراءات القانونية البريطانية في الهند، استمر التغيير في تطبيق الشريعة الإسلامية إلى وقتنا هذا، ولربما تزايدت سرعة التغيير نتيجة لاسترجاع الأمم الإسلامية سيادتها أو نيلها الاستقلال، لكنها لم تبطئ قط، وإذا كانت المعارضة قوية للتغيير في مبدئه، فإنما كانت تمليها إلى حد بعيد الخشية من تعرض الشريعة المقدسة للخطر في أيدي الأجانب غير المسلمين، ولقد تزايد التغيير ولكن تضاءلت المعارضة، وقد يكون من أسباب ذلك الشعور بالضمان في ظل الحكم الإسلامي وغلبة الواقعية ونزعة التوفيق على المراجع الدينية المسئولة. إن من الخطأ إذن المضي في تأكيد القول بجمود الإسلام وعدم قبوله للتغيير، فإذا ما تجاوزنا دائرة العقيدة الأساسية وبعض المسلمات الدينية المحدودة، فإن الإسلام قد واجه تغييرات ثورية في هذا الجزء من نظامه الذي يوجه حياة الفرد والجماعة، ومع ذلك يكتب لاهوتي مسيحي يتميز بأنه يعد مبشرا مستنيرا أو مبشرا له دراية بالإسلام فيقول منذ قليل1   1 K. Graag, The Cal of the Minaret New York, 1956. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 "إن على الإسلام إما أن يعتمد تغييرا جذريا فيه، أو أن يتخلى عن مسايرة الحياة" ومن الصعب تبين ما يعنيه ذلك بالضبط، ولكن في ضوء ما سلف من مناقشة يكون أحد شطري هذا التقرير غير مقبول، أما شطره الثاني فيبدو وكأنه دعوة يوجهها إلى المسلمين غريب عنهم بشأن ما يفعلون في دينهم! وإلى هذا الحد يصل التخليط بدعاة "الإصلاح"1 أن القوم لا يتبصرون في المضمون والتفاصيل، فهم يتورطون في التعميمات المبهمة التي لا تثبت للامتحان.   1 انظر مثلا تعبيرا مضللا آخر "إصلاح دين الإسلام" Reform of the religion Islam الذي يستعمله G. G. Adams Islam and Modernism in Egypt, OxFord 1933, 2, 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 محتويات الكتاب : الصفحة 5 - الطبعة الثامنة. 7 - تقديم الطبعة الرابعة. 9 - تقدم الطبعة الثالثة. 11 - تقديم الطبعة الثانية. 15 - تقديم الطبعة الأولى. فاتحة "21-29" 23 الاستعمار الغربي يتسلل إلى العالم الإسلامي. 24 العالم الإسلامي في نظر الغرب المستعمر. 28 وسائل الاستعمار في إضعاف المسلمين في إسلامهم. الباب الأول: اتجاه حماية الاستعمار، أو الاتجاه الفكري الممالئ "56-31". 33 مفكرون من المسلمين مع الاستعمار. 37 حركة أحمد خان. 38 المذهب القادياني. 41 الأحمدية. 43 المستشرقون والاستعمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الصفحة 43 النزعة الأولى: إضعاف القيم الإسلامية. 54 النزعة الثانية: تمجيد القيم الغربية المسيحية. الباب الثاني: اتجاه مقاومة الاستعمار الغربي "57-151". 59 مقاومة مزدوجة. 61 محمد جمال الدين الأفغاني. 68 مقاومة جمال الدين للاستعمار الغربي والفكر الإسلامي المعاون له. 68 الرد على الدهريين في الهند. 69 الدين ضرورة للمجتمع. 70 أضرار المذهب الطبيعي المادي على المجتمع. 73 الدين الإسلامي. 74 محاربة الاستعمار البريطاني. 85 جمال الدين وابن تيمية. 87 تقدير المستشرقين لجمال الدين. 97 محمد عبده. 97 أهداف تفكيره. 98 محمد عبده في طريق جمال الدين. 100 الشيخ محمد القروي المصري الأزهري. 103 الشيخ محمد عبده المفكر. 103 الجانب القومي. 108 الجانب الاجتماعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الصفحة 108 الروح الجماعية. 110 وجوب مساهمة الأغنياء في تعليم الأمة. 111 التعليم الديني يحتاج مسلكا آخر. 114 عيوب المجتمع المصري. 117 ضرورة إعادة توزيع الثروة على الأمة. 118 جانب الاعتقاد. 118 مشكلة الجبر. 124 في صلة العقل بالوحي. 126 جانب التربية والتوجيه العام. 126 محاربة الحزبية المذهبية التقليدية. 135 محاربة سلطة الكتاب الموجه وهو كتاب المتأخرين. 137 إحياء كتب الأوائل. 138 إصلاح الأزهر. 141 تقدير المستشرقين لمحمد عبده. 143 محمد عبده والسير أحمد خان. 146 محمد عبده ومحمد بن عبد الوهاب. الباب الثالث: التجديد في الفكر الإسلامي"153-326". 155 اتجاه الفكر الإسلامي منذ بداية القرن العشرين. 164 طابع التفكير الغربي. 166 أثر الحملة الصليبية في تشويه الإسلام. 176 المجددون في مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 الصفحة 177 بشرية القرآن. 177 صورتان. 178 الصورة الأولى. 183 الصورة الثانية. 184 فكرة كتاب الشعر الجاهلي. 193 رأي القرآن في كتابي المذهب المحمدي والشعر الجاهلي. 196 الإسلام دين ... لا دولة. 196 الدين والدولة في الإسلام. 206 الإسلام وأصول الحكم. 208 الإسلام دين لا دولة. 216 ليس في الإسلام سياسة, وما فيه من سياسة لا يتصل بالدين. 219 الزعامة النبوية. 222 خصائص الزعامة النبوية موقوتة بوقتها. 225 وحدة الدين لا وحدة الحكومة. 228 الدين خرافة. 230 المذهب الاسمي. 233 المذهب التجريبي. 337 مخلص هذين المذهبين. 239 خرافة الميتافيزيقا. 249 الدين مخدر. 249 الصراع بين الدين والعقل والحس في تاريخ الفكر الأوروبي. 249 سيادة النص أو الدين. 251 سيادة العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 الصفحة 253 بلانش. 254 فيشته. 255 مبدأ النقيض. 257 الجماعة الإنسانية الخاصة والعامة. 259 هيجل. 261 الدولة والله، الغاية الأخيرة للعقل. 262 بين فيشته وهيجل. 265 سيادة الحس ومذهب الوضعية. 268 كومت. 272 فيرباخ. 274 اشتين تال. 275 ماركس. 275 الصراع بين الطبقات. 279 الدين مخدر. 282 المذهب المادي التاريخي. 283 الماركسية كنظام سياسي للجماعة. 284 قيمة الماركسية كمذهب فلسفي. 288 ملاحظات على الفلسفة الماركسية. 294 الماركسية والدعاية الشيوعية. 300 الماركسية والتجديد في الفكر الإسلامي. 303 عناصر الدعاية الشيوعية في التجديد في الفكر الإسلامي. 304 ثبات القيم المعنوية. 311 تحرير المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الصفحة 313 العمل البدني. 315 التفسير المادي الاقتصادي للتاريخ. 318 إيمان بحيوانية الجسد وكفر بإنسانية الإنسان وبخالقه. 319 هذه هي الماركسية. 320 الشيوعية إفلاس في الجماعة. 323 الماركسية تنتظر الشيوعية. 323 الإسلام. الباب الرابع: الإصلاح الديني "327-395". 329 حقيقة الإصلاح الديني في الإسلام. 333 محمد إقبال. 334 دوافع الإصلاح. 335 المسلم المعاصر. 337 الإنسان الأوروبي المعاصر. 338 طبيعة الإسلام. 340 إصلاح الفكر الديني. 342 نظرة الإسلام إلى العالم الواقعي. 345 لا انفصالية ولا اتحاد في الوجود. 346 التجربة في مجال الدين والعالم. 353 وحدة الذات الإنسانية وخلودها. 361 الذات الكلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الصفحة 368 الإسلام في توجيه الإنسان. 370 مبدأ التغير في العالم الطبيعي. 371 المجتمع الإنساني. 373 مبدأ الحركة في الإسلام. 376 ختم الرسالة المحمدية. 377 الاجتهاد. 378 محمد إقبال فيما أرى. 382 يلاحظ على تفكير إقبال. الباب الخامس: الإسلام غدا "397-413". 399 مواجهة الإسلام للصليبية والماركسية. 399 ما أصاب الإسلام من المواجهة. 400 ما أفاد الإسلام من المواجهة. 401 الإسلام فوق الزمان والمكان. 404 الفراغ في الحياة التوجيهية للعامة. 406 الأزهر. 411 الأزهر في تنظيمه الجديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 الصفحة الباب السادس: ملحقات: المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام "415-503". 434 المستشرقون المعاصرون. 447 المتطرفون من المستشرقين. 453 بعض الكتب المتطرفة. 457 كتاب "مجد الإسلام" لجاستون فييت. 473 المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ومدى اقترابهم من حقيقة الإسلام والقومية العربية "للأستاذ طباوي". 505 محتويات الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512