الكتاب: حقوق الإنسان والقضايا الكبرى (بحث بقلم: معالي الأستاذ كامل إسماعيل الشريف، قدم في الندوة العالمية لحقوق الانسان في الاسلام المنعقدة في روما بإيطاليا بتاريخ: 19/ 11/1420هـ الموافق 25/ 2/2000م) المؤلف: كامل إسماعيل الشريف (المتوفى: 1429هـ) الناشر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- حقوق الإنسان والقضايا الكبرى كامل الشريف الكتاب: حقوق الإنسان والقضايا الكبرى (بحث بقلم: معالي الأستاذ كامل إسماعيل الشريف، قدم في الندوة العالمية لحقوق الانسان في الاسلام المنعقدة في روما بإيطاليا بتاريخ: 19/ 11/1420هـ الموافق 25/ 2/2000م) المؤلف: كامل إسماعيل الشريف (المتوفى: 1429هـ) الناشر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة : لقد احتفل العالم قبل سنتين بمرور نصف قرن على إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكان الاحتفال مناسبة للتأمل في هذا الإعلان والظروف التي أدت إلى إصداره، وكان هناك اتفاق عام على أن الإعلان, بالرغم من المبادئ الإنسانية التي اشتمل عليها، إلا أن التطبيق خلال خمسين سنة قد كشف عيوبا أساسية سوف نتعرض لها في ثنايا هذا البحث، غير أن هذه المراجعة الشاملة للإعلان تضع على المسلمين مسئولية خاصة لإعطاء هذا الإعلان البعد الروحي والإنساني الذي يقدمه الإسلام، ولا يستطيع غيره أن يقدمه. لقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة في اجتماعها بباريس في 10 ديسمبر 1948 مبادئ إنسانية رفيعة، وأكد فيما أكده أن كل فرد وكل مؤسسة اجتماعية سوف تهتدي بروح الميثاق كما سيحاولون إشاعة مبادئه وتعاليمها وتعزيز احترام هذه الحقوق والحريات، بكل الوسائل الحضارية سواء كانت الحقوق وطنية أو دولية بهدف تأكيد الاعتراف بها والالتزام بمضمونها، كما أكد البيان حقوقا كثيرة للإنسان منها حق الحياة والحرية والأمن والحصانة ضد الاعتقال أو النفي الاعتباطي، وحقه في محاكمة عادلة، وكذلك حقه في التفكير والتعبير، والاعتقاد والدين، ونص على الالتزام للطبقات العاملة بحق العمل، والتأمين الاجتماعي، والعلم، والمشاركة في الحياة الثقافية في المجتمع. وقد شجع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على توقيع اتفاقيات دولية أخرى كالاتفاقية الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كما أقرت الجمعية العامة إعلانات مماثلة تؤكد حقوق الطفل، ورفض التمييز العنصري والتمييز ضد المرأة، وهي مواثيق إنسانية لقيت وتلقى من العرب والمسلمين كل دعم وتأييد؛ لأنها تنسجم مع التقاليد العربية والتراث الإسلامي أيما انسجام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 إن هذه المبادئ, وإن كانت قد صدرت في وثيقة دولية في منتصف القرن العشرين الميلادي، إلا أنها كانت تشكل حلما جميلا وغاية نبيلة للإنسان عبر عنها المصلحون والحكماء منذ فجر التاريخ؛ فقد دعا الشاعر اليوناني هوميروس في الأوديسا قائلا: "احترم الإنسان، واحفظ حق الفقير"، وقد صدر على أثر الثورة الأمريكية "1776" والثورة الفرنسية "1879" إعلانات أكدت على أن الناس خلقوا أحرارا متساوين في الحقوق, وأن هدف الدولة -أي دولة- هو المحافظة على حقوق الإنسان في الحياة والحرية والأمن والتملك، ومنع تقييد تلك الحرية إلا بحكم القانون، وبعد ضمان المحاكمة العادلة وغير ذلك من المبادئ الإنسانية والضمانات القانونية. إن من الواضح أن الهدف الظاهري للإعلان -على الأقل- هو تسليح الإنسان ليكون عضوا فاعلا في مجتمعه، وتأكيد حقه في الحياة الكريمة الآمنة، والافتراض بأن مجتمعا إنسانيا يتشكل من هذا النوع من الأفراد، جدير بأن يحمل مسئولياته في بناء عالم جديد يقوم على العدالة، والمساواة بين الشعوب، ويتضامن لحفظ سلام عالمي أكيد يحمي الإنسانية من مخاوف الدمار الشامل، وسوف يتضح لنا مع استمرار هذا البحث أنه ما من هدف إنساني تضمنه الإعلان العالمي إلا وله سند في العقيدة الإسلامية، مع فارق أساسي هو أن هذه الحقوق هي جزء من حقوق الله على العباد، مما يكسبها قداسة خاصة، ويجعلها فرائض يثاب فاعلها ويعاقب تاركها. على أن إعادة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وخصوصا بعد فترة طويلة من التطبيق تثير ملاحظات جوهرية، أولها أن الإعلان جاء يعكس المناخ الذي صدر فيه، وهو مناخ الحرب العالمية الثانية، وجاء يصور العالم الجديد كما أراده المنتصرون في تلك الحرب، أما "الإنسان" فهو الإنسان الأوروبي الذي قاسى في الحرب وناضل حتى خرج منتصرا. ويمكن أن نقدم دليلا على ذلك: أن الأمم المتحدة التي أصدرت الإعلان، كانت هي نفس المنظمة التي أصدرت قرار تقسيم فلسطين, متحدية كل القيم الأخلاقية، والقوانين الدولية قبل عام واحد من إصدار الإعلان، وظل هذا الموقف يحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 سياسات الدول الكبرى الأعضاء, حتى تَمَّ تشريد الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه من ديار آبائه وأجداده. والحقيقة أن الإعلان -على ما فيه من مبادئ زاهية وكلمات براقة, كما أسلفنا- لم يستطع أن يغير شيئا من النظرة التقليدية للغرب إزاء الشعوب العربية والإسلامية، وهو ما ذهب إليه المفكر فيليب حتى في كتابه "تاريخ العرب" حيث قال: "من سوء الحظ فإن موقف الغرب, وخصوصا خلال العقدين الأخيرين لم يكن يتجه لخير هذه المنطقة، حيث يوجد تناقض واضح بين المبادئ الإنسانية التي عبر عنها "بعض" المستشرقين الغربيين، والأساتذة، والدعاة, وبين الإهمال للقيم الإنسانية التي وسمت تصرفات الساسة، والقادة العسكريين, الذين ركزوا اهتمامهم على الأهداف الوطنية والاقتصادية لبلادهم. إن سلوك من يسمون أنفسهم بالدول الصناعية المتقدمة، في مرحلة ما بين حربين عالميتين، انفجرتا على نطاق غير مسبوق في تاريخ الإنسان، وإن قدرة الرجل الغربي على إطلاق قوى شيطانية من عقالها، هي ثمرة لتفوقه العلمي وآلاته، وهي القدرة التي باتت تهدد العالم كله بالدمار الشامل، وإن تدخل القوى الأوروبية في الشرق الأوسط، وخصوصا سياستهم في قضية فلسطين، قد جعل إيجاد تقارب عقلي مع الغرب يفقد الأمل تماما" ومضى البرفيسور فيليب حتى للقول: "إن أعمال الغرب قد أدت لعزل المواطن العربي، وزعزعت ثقته في أخلاق الرجل الأوروبي، سواء في النطاق الخاص أو العام". إن كل هذه العوامل قد أدت لبروز تيار دولي واسع ينادي بضرورة إعادة النظر في المواثيق الدولية السابقة، بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ لضمان حرية الفرد وكرامته فعلا لا قولا، وبناء علاقات اجتماعية متوازنة، توجه التنمية نحو إسعاد الإنسان وليس خلق مناخات جديدة للاستغلال والاحتكار، وقد عكس التقرير النهائي لمؤتمر "قمة التنمية الاجتماعية" الذي نظمته الأمم المتحدة في كوبنهاجن عام 1995م، قرارات وتوصيات بهذا المعنى، كذلك تضمن تقرير اللجنة الدولية الخاصة "بالأخلاق والجوانب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الروحية للتنمية الاجتماعية" الذي نظمته نفس الجهة في "بليد" بسلوفينيا، مبادئ مهمة عن هذه الجوانب، وكمثال لهذا الاتجاه في المادة التاسعة من التقرير الختامي ما يلي: "إن التغيرات في الأفراد والمجتمعات، هي أمور ضرورية ومطلوبة؛ لأن الفرد والمجتمع بحاجة إلى آمال وتطلعات جديدة. إن مؤتمر كوبنهاجن قد عقد في لحظة حاسمة من التاريخ، حيث خلقت التطلعات "الطوبائية" شعورا باليأس المشروع، وحيث أصبح واضحا أن التمسك بنموذج وحيد للتنمية، أو التقدم الاجتماعي، قد فقد مشروعيته وحقيقته، وأخيرا حيث إن الإنسانية بحاجة لأن توجه مسيرتها على أسس جديدة". إن ذلك يوضح بما لا يدع مجالا للشك, أن الإنسانية تجتاز مرحلة جائرة تبحث فيها عن حلول لمشكلاتها، وتتحسس حجم الكارثة التي تنتظرها إن لم تصحح المسار على أسس أخلاقية، وقيم روحية. وهذه الدعوة يجب أن تفتح آذان المسلمين وعيونهم، وتثير عزائمهم لأداء واجبهم لتقديم مبادئ الإسلام وقيمه العالية لعالم يحتاجها، ولا يمكن أن ينجو بدونها؛ استجابة لأمر الله القائل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] . وقبل أن نتعرض لبعض أهم القضايا المعاصرة ونبين رأي الإسلام فيها, لا بد أن نحدد حقيقة أساسية وهي أن نظرة الإسلام لحقوق الإنسان تختلف عن غيرها في ثلاث نقاط رئيسية: 1- أنها جزء من حقوق الله على العباد؛ مما يكسبها المناعة والثبات والاستقرار. 2- أنها حقوق تقابلها واجبات, فمن قصر في الواجب ضاع عليه الحق. 3- أن الحقوق والواجبات هي فرائض دينية يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها والمتنكر لها. وبهذا الفهم الشامل نتعرض لبعض القضايا المعاصرة المطروحة للبحث؛ لنرى رأي الإسلام فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أولا: كرمة الإنسان ... أولا: كرامة الإنسان لقد كان حق الإنسان وكرامته جزءا من التقاليد العربية حتى في عصور الجاهلية وقبل الإسلام، وكانت قيمة القبيلة تقدر بمدى النجدة للمظلوم، ونصرة الضعيف، وتأمين الغريب، وإكرام الضيف وابن السبيل. ولقد عرفت الجاهلية العربية حلفا تاريخيا يعرف بحلف "الفضول" تعاهدت فيه قبائل العرب على مواجهة الظالم، ونصرة المظلوم، وحماية اللاجئ، وقد شهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الحلف وهو صبي صغير، وكان إذا ذكره امتدحه، وقال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت" "سيرة ابن هشام"، وكان النبي يقول: "لم يصب الإسلام حلفا إلا زاده شدة" "مسند الإمام أحمد" والمقصود هو هذا النوع من الأحلاف. وجاء الإسلام -بعد ذلك- ليؤكد كرامة الإنسان، ويضمن حقه واحترامه، عبر قوانين وتشريعات كثيرة، تناولت حماية حياته، وماله, وعرضه، وحريته الفكرية، ومشاركته في الحياة العامة، ولم يفرق الإسلام بين الرجل والمرأة من حيث الكرامة، والحقوق العامة، إلا في الوظائف والمسئوليات التي تحكمها الطبائع الجسدية والنفسية لكل منهما، حتى تستقيم الأسرة والمجتمع. وقد بنيت هذه التشريعات والضمانات على أسس عقائدية ثابتة جعلت كرامة الإنسان جزءا لا يتجزأ من الإيمان نفسه، ذلك أن القرآن الكريم يشير في أكثر من موقع، أن الله -سبحانه- خلق هذا الإنسان بيده في أجمل صورة وأحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وجعله "خليفة" في الكون، وقال في حقه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] . وإذا كان الله قد ضمن التكريم للإنسان, فإن ذلك يعني -ضمنا- أن على الإنسان أن يكرم أخاه الإنسان، وألا يعتدي عليه أو ينكر حقه. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد واجب المسلم في منع الظلم، والاعتداء والحيف على الحقوق, وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] وقال تعالى محذرا من عواقب الظلم: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59] . وقد أكد نبي الإسلام على وجوب تضامن المجتمع الإنساني لمنع الظلم, وإحقاق الحق فقال: "إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم: أنت ظالم؛ فقد تودع منهم" "مسند الإمام أحمد". أما ما تضمنته الآية الكريمة السابقة من سيادة الإنسان على البر والبحر, فهي للتذكير بالقدرات الجسدية والعقلية التي ميز بها الله الإنسان حتى يمكنه من تسخير الطبيعة وحل أسرارها، واكتشاف خيراتها وكنوزها. وتفضيل الإنسان على سائر المخلوقات الحية واضح ولا يحتاج إلى بيان، لكن الآيات تحمل الإشارة إلى أمر الله لملائكته المقربين ليسجدوا لهذا المخلوق الذي اصطفاه ربه لعبادته، وإعمار أرضه، وقد جاء هذا المعنى في آيات أخرى منها قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ثانيا: العنصرية والسلالية وفي مجال المساواة بين الأجناس والألوان يحمل الإسلام -ببساطته- علاجا حاسما لمرض عضال طالما جلب حروبا طاحنة وشقاء لا يوصف لملايين البشر, ونعني به العنصرية أو السلالية التي تزعم لشعب معين حقوقا وامتيازات على سائر البشر، أو تعطي نفسها الحق في إهدار كرامة شعب آخر والنزول به إلى أدنى سلم الأجناس، كما زعمت الفلسفة النازية حين جعلت الجنس الآري في قمة السيادة والتفوق، وانحدرت بغيره إلى مهاوي التحقير والانحطاط، ولم يقف هذا التمييز العنصري عند النظريات الكلامية، ولكن أراد أن يفرض منطقه في علاقاته بالآخرين مما أدى للصدام واشتعال الحرب. ومن هذا القبيل أيضا نظرية "الشعب المختار" التي تبنتها الصهيونية مما وضعها في موقع الخصومة والعداء مع بقية الشعوب، ثم ترجمت هي الأخرى نظرياتها العدوانية في احتلال فلسطين, وطرد الشعب العربي الذي سكنها لأكثر من خمسة آلاف سنة. ومع أن أدولف هتلر وأعوانه قد نقلوا النظرية السخيفة إلى آفاق السياسة والحرب، لكنهم لم يكونوا وحدهم, فهناك مدارس فلسفية عريقة في الغرب قامت على أساس تمجيد الجنس الأبيض واحتقار السود مثلا, وفي ذلك يقول البروفيسور أساني فاساسي في كتابه عن إفريقيا: "إن الكثيرين في أوروبا يقولون صراحة أو تلميحا: إن أوروبا نجحت لأنها متفوقة بالسلالة، وإن مسئولية الانحطاط في إفريقيا تقوم على التخلف الموروث لدى السلالة السوداء في إفريقيا". وإن هذا الرأي كان يقول به مفكرو عصر النور في أوروبا مثل: فولتير، وكانت، ورابيليه، لدرجة أن الفيلسوف "بيير كابان" قد اقترح قيام "مزارع آدمية" لتهجين الجنس الأسود، وبذلك "تصحح غلطة الطبيعة"1. فماذا يقول الإسلام في هذه القضية؟ يعالج الإسلام قضية العنصرية من جذورها الأساسية, حين يقرر أن الناس جميعا ولدوا لأب واحد، وأم واحدة، كما يقول القرآن الكريم: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] ، وقد أشار القرآن -كذلك- إلى أن النفس الأولى من تراب أو طين، أو حمأ مسنون، وكلها تشير إلى البداية المتواضعة لهذا الإنسان، ونسله من بعده، وأنه لا تمايز أو تفاضل لأحد من الناس على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] . وتؤكد الأحاديث النبوية هذا المعنى في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "الناس بنو آدم, وخلق الله آدم من تراب" "الدارمي"، وتشمل التقوى مخافة الله, ومجانبة السيئات، والحرص على نفع الناس وإسعادهم، كما يقول حديث نبوي آخر: "إذا قال جيرانك: أحسنت, فقد أحسنت" "ابن ماجه" وقوله -صلى الله عليه وسلم- أيضا: "تواضعوا حتى لا يبغي أحد، ولا يفخر أحد على أحد" "مسلم". وفرائض الإسلام كلها من صلاة وزكاة وصيام وحج تدور حول تركيز هذه المعاني في نفس المسلم, تعويده عليها حتى تصبح جزءا من طبيعته.   1 assani fassassi - sursaut de l'afrique qu'on acheve. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وفي ذلك يقول السيد بوسارد صاحب كتاب "إنسانية الإسلام": إن المساواة تبدأ من السجود لله الواحد ثم تصعد مع الإنسان في كل أعماله وعلاقاته، ويقول أيضا: "إن إفراد الله بالعبودية المطلقة لا يبقي مجالا لكي يعلو واحد على الآخر، أو يستعبد إنسان إنسانا". وحين وقع أحد أصحاب الرسول فيما يقع فيه كل الناس، وعيّر أحد إخوانه بلونه الأسود, انبرى صلى الله عليه وسلم ليصده ويذكره قائلا: "إنك امرؤ فيك جاهلية" وأصبح مألوفا في مجتمع المدينة الأول أن يكون من قادة الجيوش وحكام الأمصار الطبقة التي اعتبرها الجاهليون من الموالي والعبيد؛ ولذلك لم يكن غريبا أن تئول الإمامة الكبرى لغير العرب في بعض مراحل التاريخ الإسلامي، وأن تنتقل عواصم الدولة الإسلامية خارج الإطار العربي، ولا يمكن أن نتصور أن يحدث ذلك بالنسبة للإمبراطورية البريطانية أو الفرنسية مثلا، حيث تصبح نيودلهي أو كوناكري، عاصمة بدلا من لندن أو باريس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ثالثا: حقوق المرأة وحين يؤكد الخالق في كتابه المنزل على كرامة النوع الإنساني, فهو تكريم عام لا يُستثنَى منه أحد: فـ "النساء شقائق الرجال" "الترمذي" كما يقول نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم, وكذلك القرآن يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، وحين كانت المرأة في الجاهلية العربية جزءا من متاع الرجل يرثها الأبناء فيما يرثون من المتاع، وكانت المجامع تعقد في أوروبا للبحث في روح المرأة, وهل تعتبر من البشر، جاء الإسلام يرفع من قيمتها، ويؤكد حقوقها، وفي ذلك يقول نورمان دانيال في كتابه القيم "الإسلام والغرب": "إن حقوق المرأة في الإسلام تناقش -عادة- في الغرب من زوايا السيطرة والاستعباد وحياة الحريم، ومع ذلك فإن الإسلام كفل حقوقا أكثر للمرأة مما احتوته قوانين "أملاك النساء المتزوجات" التي لم تصدر في إنجلترا إلا في عام 1860". والواقع حين يتحدث الكاتب المنصف عن نظرة الغرب الظالمة للإسلام, فإنما يعكس تراثا طويلا من العداوة يختلط فيها الجهل مع التآمر المقصود، ذلك أن دوائر معينة أدركت أن من المستحيل مواجهة الإسلام على أرضية العقل، والمنطق، والحجج العلمية، فلم يجدوا أمامهم إلا أسلوب السخرية، والتهجم العشوائي، وهو أسلوب قديم أشار إليه القرآن الكريم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] . وفي ذلك تقول السيدة عائشة ليمو: "إن جهل الغرب بالعالم الإسلامي هو جهل مطبق، ولكن إذا كان هناك قضية تظفر بقدر أكبر من الجهل والتحريف فهي قضية المرأة، ووضعها الحقيقي في المنظور الإسلامي"، ثم طرحت الكاتبة نماذج من الأسئلة الساخرة التي تطلق في الغرب عن المرأة المسلمة؛ لتنتهي للقول: "إن الافتراض الذي يكمن وراء تلك التساؤلات هو زعم, دون أي أساس من الحقيقة العلمية"1. إن مشكلة الغرب الحقيقية في قضية المرأة كما في غيرها من القضايا أنه يتذبذب بين التطرفات الجامحة، فقد كانت النظرة للمرأة نظرة دونية عبَّر عنها فلاسفة اليونان وخصوصا أفلاطون, كما يقول رابيليه: "إنه لم يقرر في أي طبقة يضع المرأة، في طبقة الحيوانات العاقلة، أو الوحوش العجماء؛ ذلك لأن الطبيعة وضعت فيهن حيوانا يختلف عن الرجل"2. وقد ورثت الحضارة الغربية هذه النظرة الدونية لفترة طويلة، وحين أرادت التخلص منها وثبت للتطرف المقابل حتى بتنا نسمع عن الحركات النسائية الأخيرة التي تبلورت في مؤتمر القمة في بكين تحت عنوان "تسليم السلطة للمرأة" "empowerment of women". وفي مقابل ذلك أخذ الإسلام الموقف المعتدل من البداية، فأكد كرامة المرأة واعترف لها بحقوقها كابنة وزوجة ووالدة، ثم فتح لها ميدان الحياة العامة بما يتفق مع خصائصها، وملكاتها دون تعسف أو ابتذال، حتى تؤدي دورها الأول في إيجاد منزل مستقر, ومجتمع صحي فاضل.   1 عائشة ليمو: دراسة في "تحديات الإسلام" المجلس الإسلامي الأوروبي. 2 رابيليه: الكتاب الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 رابعا: حقوق الأقليات كانت الشريعة الإسلامية أول من ضمن حقوقا واضحة للأقليات الدينية والعرقية في المجتمع المسلم، لقد أكدت لهم حقوق التملك والعمل، وأصبح ولي الأمر المسلم مسئولا عن حماية أموالهم وأعراضهم أسوة ببقية المواطنين. وهذه التشريعات -أيضا- متصلة بجذور العقيدة الإسلامية، التي تعترف بكل الأديان السماوية وتحترم أنبياءها وكتبها المقدسة، فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] . وجاء أيضا في قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] ، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام: "إلا من ظلم معاهدا، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقصه حقه، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا حجته يوم القيامة". ولا يجب أن يكون الخلاف حول العقائد سببا في العداوة، أو إنكار الحقوق، وقطع الصلات, فبعد غزوة تبوك في السنة الثامنة للهجرة، استقبل وفدا من نصارى خليج العقبة وعقد مع مندوبهم يوحنا بن رؤبة أمير "العقبة" معاهدة تضمن حرية التجارة، وأمن الملاحة برا وبحرا، هذا نصها كما أوردها ابن هشام: "هذا أمان من الله ومن محمد رسول الله إلى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة وأهلها: سفنهم وسيارتهم في البر والبحر, لهم ذمة الله ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، وأنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه أو طريقا يريدونه في البر والبحر". ويذكر في هذا المقام -أيضا- المعاهدة التي أبرمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع نصارى نجران بعد أن حاورهم أياما في مسجده بالمدينة حول الدين والعقائد، فبقي كل على دينه لا يغيره، ولكن قبل النصارى سيادة الدولة الإسلامية, وقد جاء في تلك المعاهدة: "إن جوار الله، وذمة محمد رسول الله لأهل نجران، وحاشيتها على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهنته، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا، فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين". وفي ختام هذه المحاورات طلب وفد النصارى من الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يرسل معهم قاضيا من أصحابه, فأرسل معهم معاذ بن جبل -رضي الله عنه1. وقد بقي خلفاء الإسلام أمناء على هذا العهد حتى إن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أكده في خلافته، وكتب إليهم: "إنكم أتيتموني بكتاب من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فيه شرط لكم على أنفسكم وأموالكم، وإني وفيت لكم بما كتب لكم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فمن أتى عليهم من المسلمين فليوف، ولا يضاموا، ولا يظلموا، ولا ينتقص حق من حقوقهم"2، وقد أصبح ذلك تقليدا ثابتا عند المسلمين في مجال العلاقات الدولية حتى بعد أن اتسعت تخوم الدولة، وباتت تجاور شعوبا وقوميات مختلفة، فبعد استيلاء السلطان محمد الفاتح على القسطنطينية أبلغ جينماديوس سكولاريوس بطرك الطائفة المسيحية بكتاب قال فيه: "اعمل في الإسلام وليكن الله معك، وثق في صداقتنا في كل الظروف، وتمتع بكل الحقوق التي تمتع بها أسلافك". وقد كتب المبشر الإنجليزي توماس أرنولد الذي عمل في الهند في كتابه القيم: "إننا لم نسمع بمحاولات منظمة لإرغام أحد على اعتناق الإسلام، أو عن أعمال مدبرة لسحق الدين المسيحي، ولو أن الخلفاء المسلمين قد حرصوا على تبني إحدى هذه الوسائل، فقد كان بوسعهم التغطية على المسيحية بنفس السهولة التي صادفها الملك فرديناد وإيزابيلا، في حملتهما ضد الإسلام في إسبانيا، أو سياسة لويس الرابع عشر ضد البروتستانت في فرنسا. لقد كانت الكنائس الشرقية معزولة تماما عن الدولة المسيحية، وكانت تعتبر -في ذلك الحين- مذاهب منحرفة لدرجة أن أحدا لن يهب   1 تاريخ الطبري. 2 الخراج لأبي يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لنجدتها؛ ولذلك فإن مجرد بقاء المسيحية الشرقية في دار الإسلام يعتبر دليلا قويا على موقف التسامح الإسلامي1. وقد حكمت هذه النظرة العادلة قادة المسلمين -ولا تزال- في تعاملهم مع أهل الكتاب؛ فقد أعطى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عهدا إلى نصارى بيت المقدس يحمي كنائسهم وصلبانهم وحقوقهم، وتتمتع الأقليات الدينية حتى يومنا هذا بحقوق متساوية في المواطنة؛ وفاء لتلك العهود النبوية.   1 اقتباس الدكتور إسماعيل الفاروقي الإسلام والأديان الأخرى, محاضرة بلندن في المجلس الإسلامي الأوروبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 خامسا: حرية التعبير ويتصل بحق الإنسان في الاعتقاد الديني وحرية العبادة، حرية التعبير عن رأيه دون خوف أو وجل، ويبدو القرآن في هذا المجال ساحة حوار واسعة. فقد سجل محاولات مستفيضة مع أهل الأديان جميعا، بل إنه ذكر آراء المشركين ورد عليها، ودعا المؤمنين للمجادلة بالمنطق والأسلوب الحسن بعيدا عن التهجم والتجريح: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] , وقوله سبحانه: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . لقد جاء القرآن يحث الإنسان على إعمال عقله وفكره، ودعاه للبدء بالنظر فيما حوله من آيات الله الظاهرة في كتاب الطبيعة، من أرض، وسماء, وشمس، وقمر، ونجوم، ورياح، وسحاب. وكثيرا ما كانت آيات القرآن الكريم تختم بعبارة متحدية: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} أو "أفلا يعلمون" أو {أَفَلا يَعْقِلُونَ} ويبدو منسجما مع هذا الأسلوب أن يعبر الإنسان عن فكره بكل حرية, طالما كان يهدف إلى إشاعة الخير، والإصلاح بين الناس، وليس التكليف للمؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا حثا لهم على المشاركة النشطة في تقويم الانحراف، ومحاربة الفساد، ولم تقتصر المهمة على الرجال وحدهم وإنما شملت النساء أيضا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] ، وقول الرسول -صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" "الترمذي". ويلاحظ أن الأسلوب القرآني يقرن -دائما- الحقوق بالمسئوليات -كما ذكرنا- فإذا أقر حرية التفكير والتعبير للمرء فهو يضع عليه واجب الالتزام بالعفة، والصدق، وعدم التجريح أو النيل من الأعراض والكرامات. وقد عاب القرآن الكريم على بعض الناس -وهو يعلمهم- المسارعة في إشاعة أحاديث السوء, فقال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 15, 16] ذلك أن مناخ الحرية قد يغري بعض ضعاف النفوس فيستغلونه للنيل من الكرامات والأعراض؛ مما يهدم أسس المجتمع من ناحية، ويجعل المنكرات أمورا شائعة مقبولة حين يتم ترويجها بالحق والباطل، وهو ما ذهب إليه المفكر الفرنسي مونتسكيو حين قال: "إن الفضائل هي أساس الحرية"1.   1 رواح القانون لمونتسكيو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سادسا: حوار الحضارات ومن هذه القاعدة الفسيحة المستريحة يطل المسلمون على الحوار بين الأديان والحضارات دون أي موانع دينية أو نفسية؛ لأنهم يجدون في دينهم قواعد ومرتكزات تحث على التعايش، وتعين على اكتشاف مناطق كثيرة للتعاون واللقاء. والقرآن الكريم ساحة مفتوحة للحوار الشامل مع كل البشر على اختلاف سلالاتهم وعقائدهم، والنقاش يحتل مساحة واسعة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وقد حاور النبي -عليه الصلاة والسلام- اليهود في المدينة وعقد معهم عهدا أقرَّهم فيه على دينهم، وأموالهم، وقد جاء في ذلك العهد كما أورده ابن هشام ما يلي: "هذا الكتاب من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تبعهم ولحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس". ووصف القبائل اليهودية واحدة واحدة، وأسماهم بالمؤمنين، ولولا أن اليهود نقضوا بنود هذا العهد، وتآمروا مع المشركين لتغير مجرى التاريخ واستقرت العلاقات على الود والتعاون، وكذلك الأمر بالنسبة للنصارى فقد دعا الإسلام أتباعه للحوار معهم بالتي هي أحسن. ولا شك أن المخاطر التي تحيط بالعالم المعاصر, وحاجته للأمن والسلام، تحتم استمرار الحوار، وإبراز القواسم المشتركة التي تبعد شبح الحروب، وتسعى لإسعاد الإنسان، وهنا نجد مبادئ الإسلام تقدم الإطار الذي يضمن نجاح الحوار، ويوجهه نحو الغايات الإنسانية المنشودة. إننا نجد المنظمات والمؤسسات الإسلامية تمارس الحوار مع نظرائهم من الكنائس والمعاهد العلمية؛ انطلاقا من التوجيه القرآني، والتقاليد النبوية الثابتة، ولا تمنعها الخلافات المعروفة في العقائد من التعاون لمكافحة الشرور التي تجتاح العالم المعاصر، ومنها: الإلحاد، وشيوع الكحولية والمخدرات، وتهديد الأسرة، وتشجيع العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وكلها تيارات منحرفة تقوم عليها مؤسسات هدامة قادرة، مما يحتم على أتباع الأديان التعاون لكبحها وصد شرورها. وقد أدى هذا الحوار والتعاون دورا مهما في التصدي للأفكار الهدامة، مما يغري بالاستمرار فيه، لا سيما وأن مبادئ الإسلام تعين على ذلك وتشجع عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 سابعا: رفض الإرهاب إن الإرهاب الفكري -في منطق الإسلام- شيء مقيت؛ لأنه يعطل العقل، وينحدر بالمواهب، ويحرم الإسلام من ذلك التفاعل المثمر بين الحضارات والثقافات؛ ولذلك نراه يحث الناس في آيات كثيرة على إعمال العقل وإثارة الفكر، وتنشيط المواهب والملكات، وإذا كان يرفض الإرهاب في مجال الضمير واللسان فمن باب أولى أن يستنكره حين تكون وسيلته هي العنف وقتل الأبرياء وإراقة الدماء. والمبدأ القرآني واضح في ذلك غاية الوضوح: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ؛ لأن الجريمة البشعة تتعدى الفرد إلى الاعتداء على النوع الإنساني كله وحرمانه حقه المقدس في الحياة، والتساهل في الاعتداء على حياة فرد واحد كفيل بأن يجعل القتل والقتال بين الناس أمرا عاديا، ويشجع على الجريمة المنظمة كما نرى في بعض المجتمعات المعاصرة. غير أننا نرى -مع بالغ الأسف- قدرة الإنسان على التردي بالمبادئ النبيلة، وتسخيرها لغاياته الخاصة بل ربما لغايات تناقض مراميها، فقضية الإرهاب يجري التسامح معها وإغماض العين عنها، حين تمارسه دولة معتد بها لسبب بسيط هو أن تلك الدول تخدم المصالح الإستراتيجية للغرب، ويمكن أن نضع إسرائيل نموذجا لهذه الحالة. وفي الوقت نفسه يتهم الغرب دولا مسالمة بالإرهاب، ويطبق عليها عقوبات كثيرة لا لشيء سوى أن تلك الدول لا تسير في الخط المرسوم، ولا تلتزم بالتعليمات، مما جعل قضية الإرهاب قضية مائعة وسلبها الجدية الجديرة بها. إن الإسلام ينظر لهذه القضية بميزان واحد، ويتعامل معها على أنها خطر يهدد سلامة الأبرياء, سواء صدرت عن دولة أو عن فرد من الأفراد، والقرآن يدعو المؤمنين لأن يكونوا عادلين منصفين في الأحوال كلها: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ثامنا: الحقوق الاقتصادية تنطلق حقوق الإنسان وواجباته -في المفهوم الإسلامي- من جذر واحد، هو الإيمان بالله وحده، وهذا الإيمان ينبغي أن يخالط حياته وأن يصاحب كل حركاته وسكناته، وكما أن له حقوقا في مال الله، وأرض الله، وله أن يكسب معيشته في حدود ما شرع الله، فإن عليه واجبات إزاء أسرته، وواجبات إزاء مجتمعه والإنسانية قاطبة، وهذه الحقوق والواجبات تمشي يدا بيد، وفي الشريعة الإسلامية أبواب وبنود تحكم كل دقائقها وتفاصيلها. لقد خلق الله الإنسان بيديه، ونفخ فيه من روحه، ودعا الملائكة المقربين للسجود بين يديه، علامات للتكريم والاستخلاف، وقال في محكم التنزيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ثم قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] . ولقد قضى الاستخلاف أن يتولى الإنسان عمارة الأرض، ويستخرج كنوزها، وخيراتها، بالقدرات العلمية التي أودعها الله فيه، وهكذا تحددت رسالة الإنسان في هدفين: الأول: عبادة الله وتوحيده، والثاني: عمارة الأرض واستغلال كنوزها وفق شريعة الله. ولما كان الإسلام يضع الإنسان في هذه المنزلة الكريمة، فإن نظرته الاقتصادية تميل إلى تأكيد حرية الإنسان في العمل والكسب، واحترام مبادراته الخاصة وإرادته في الاكتشاف والابتكار، والإسلام من هذه الناحية يختلف اختلافا بينا عن النظريات الشمولية التي تسحق إرادة الإنسان، وتجعله جزءا جامدا في آلة الدولة، مما يعطل كل مزاياه ومواهبه، وينحدر به إلى مستوى الحديد البارد. وهكذا يعطيه الإسلام الحق في اكتساب المال، وتكوين الثروة، وامتلاك المزارع والمصانع، حتى تنشط الأسواق، وتزدهر التجارة والصناعة، ومع أن الإسلام يضمن هذه الحريات الواسعة، إلا أنه يضع لها حدودا تحافظ على خيرها، وبركاتها، وتحميها من أن تكون أداة للفساد، والترف، والاستغلال، فترى الشريعة الإسلامية تحرم الإسراف، والتبذير، والاحتكار، والربا، وترسم حدود التنافس الشريف والتعامل النظيف, وتحدد حق الفقراء في المال من زكاة وصدقات، حتى تتحقق العدالة، والأمن الاجتماعي، فلا تقوم طبقة مترفة بطرة على حساب أغلبية الناس، وفي ذلك يعطي القرآن الكريم والسنة المطهرة توجيهات كثيرة تغطي كل جوانب هذه القضية، القرآن الكريم يقول عن المال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" ويقول الخليفة الثاني -رضي الله عنه: "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تاسعا: حقوق العمال يعطي الإسلام أهمية كبرى للعمل، ويعتبره الميدان الرئيسي لكي يمارس المسلم فيه إيمانه، حتى يتسم العمل بالصلاح والتقوى، ويصبح أداة لإسعاد صاحبه والناس من حوله، وكثيرا لا يذكر الإيمان إلا مقرونا بالعمل الصالح ورديفا له، ومن هذه القاعدة يأتي تكريم العامل وتقديره، باعتباره الأداة التي تمارس هذا العمل الصالح النبيل، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 35] , ويقول الرسول -عليه الصلاة والسلام: "إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده" "مسند الإمام أحمد"، ويفترض الإسلام في العامل أن يتقن عمله، ويواكب الفنون الجديدة في مهنته، وعلى الدول المسلمة أن تعينه على ذلك بتسهيل السبل أمامه للتحصيل والدراسة، وأن توفر له ولأسرته كل أسباب المعيشة الشريفة حتى تستقر نفسه ويقبل على عمله بحماس وإخلاص، وفي ذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، وليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة" "مسند الإمام أحمد". ويكفل ولي الأمر المجتمع المسلم، العامل وأسرته في حالة الشيخوخة أو العجز، وضمان أسرته بعد وفاته، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك: "من ترك مالا فلورثته، ومن ترك أيتاما "ضياعا" فليأتني, فأنا مولاه" "البخاري". وواجب الدولة المسلمة أن تهيئ مجالات العمل للعمال وتنشئ لهم المزارع والمصانع والمؤسسات المالية، ولقد اهتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه بعامل فقير، فأرشده إلى مهنة التحطيب، وصنع له الأداة التي يمارس بها تلك الحرفة الشريفة، وعلمه كيف يقتصد من دخله المتواضع حتى يصبح كريما مستغنيا عن الناس، وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن السؤال واعتبره مهانة لا تليق بالمؤمن الكريم، فقال: "ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة, وليس في وجهه مزعة لحم" "النسائي". والحقوق التي ضمنها الإسلام للعمال ليست هبة من أحد يملك أن يستردها متى شاء، ولكنها حق من حقوق الله على العباد، شأنها كسائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الحقوق يثاب من يؤديها، ويعاقب من يفتات عليها، وقد قال الرسول الكريم محذرا: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة" وقال: "إن أحدهم رجل استأجر أجيرا, فلم يوفه أجره" وقال أيضا: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه" "أبو يعلى"1.   1 اقتباس عز الدين بليق: منهاج الصالحين في أحاديث وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عاشرا: الإسلام والتعاون العالمي الإسلام دين عالمي: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 80، الحاقة: 43] ويخاطب القرآن الرسول الكريم قائلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . ومن هذا المنطلق ينظر الإسلام للناس جميعا على أنهم إخوة لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] ، وهذه النظرة العالمية تختصر الطريق في اتجاه بناء علاقات إنسانية متوازنة، لا محل فيها لسلالية بغيضة، أو قومية عنصرية تدعي لنفسها حقا أو أفضلية على سائر الناس. وترتكز العلاقات الدولية في نظر الإسلام على دعامتين أساسيتين: العدل، والحرية, ومنطق العدل أن تعطي حق الآخر، وأن تحافظ على حقك، فالحق أحق أن يتبع كما يقول القرآن الكريم، والله عز وجل لا يرضى لعباده العدوان وإنقاص الحقوق وهو القائل: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] . أما الحرية فهي تشمل حرية التنقل، وحرية التجارة، وحرية انتقال البضائع، بحيث تكون حرية متبادلة, يحكمها الحرص على السلام، وتحقيق الأمن للجميع، أو ما يسمى بمنطق الدبلوماسية الحديثة "rec-iprocity" أو التبادل والمعاملة بالمثل، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] ويقول: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] . والإسلام يدعو الشعوب لأن تتكاتف على منع الظلم وردع العدوان قبل أن يستفحل ويصطلي بنيرانه القريب والبعيد، ويقول القرآن الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، ولقد تناولت الشريعة الإسلامية بكثير من التفصيل العلاقات الدولية، وبيَّنت القواعد التي تحكمها في حالتي السلم والحرب، وحقوق المواطنين المسلمين وغير المسلمين، وصور التعامل التجاري المختلفة، ومعاملة الأسرى، وغير ذلك. وقد سبق الإسلام غيره بقرون في وضع قواعد إنسانية تحكم هذه الحالات كلها، وكان الإطار الذي تدور فيه النظرة الإسلامية هو تفادي الحروب كلما أمكن ذلك، والوفاء بالعهود تحت كل الظروف؛ التزاما بالتوجيه الرباني: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] . وحين أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعرض العقيدة الجديدة على حكام الدول المجاورة كان أسلوبه هو الدعوة السلمية، وقد اختار أن أرسل لهم رسلا يحملون كتبا منه، ولولا أن بعض هؤلاء الحكام تجاهل القواعد المرعية وقتل الرسل المسالمين لما وقعت الغزوات العسكرية الأولى كمؤتة وتبوك، التي كانت أقرب للمناورات المسلحة التي ترمي لإرهاب العدو وردعه عن العدوان. ولكن الإمعان في الكيد للإسلام، وتحريض القبائل عليه أدى في النهاية لأن تشمل الحرب منطقة الشرق العربي برمته، وتتطور لتصل إلى قلب أوروبا. لقد أرسى الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقليدا لم يكن مألوفا قبله في إرسال المبعوثين، والدخول في حوار سلمي يحول دون اشتعال الحروب. فقد أرسل عمر بن عميش الضمري بكتاب إلى الحبشة في السنة الثانية للهجرة -رغم أنه لم يكن مسلما- مما وضع سابقة بجواز تعيين غير المسلم لمنصب السفارة1, وكان الرسول يستقبل مبعوثي القوى السياسية في الجزيرة أو الدول المجاورة, ويعاملهم معاملة كريمة حتى إنه خصص بيوتا في المدينة المنورة لإنزال المبعوثين "الأجانب" كان أحدها منزل رملة بنت الحارث بن   1 محمد حميد الله MUSLIM CONDUCT OF STATE. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 سعد، وقد يتصادف أن يكون المبعوث ذا تاريخ سيئ في التعامل مع المسلمين، فلم يكن ذلك يمنع من استقباله بالحفاوة والاستماع إليه، ومن ذلك أن مبعوث مسيلمة الكذاب جاء يحقر الإسلام ويتطاول على شخص النبي الكريم، فلم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- سوى أن قال: "لولا أن الرسل لا تُقْتَل لقتلتك" 1. ولعل من المفيد أن نذكر أن كل هذه الأعراف الدبلوماسية قد أكدها الإسلام قبل اتفاقية فيينا للحصانات الدبلوماسية التي لم تعقد سوى في عام 1961 للميلاد. ومن ذلك يتضح أن المسلمين مأمورون بنصوص القرآن الكريم: أَلَّا يهاجموا أي دولة أجنبية إذا لم تبادرهم بالعدوان، وألا يكون عدم إسلامها سببا لقيام حروب تسفك فيها دماء بريئة, وخير دليل على ذلك الموقف من الحبشة، فقد ورد على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "اتركوا الحبشة ما تركتكم"، وقد بقي المسلمون أمناء على هذه الوصية، فبقيت الحبشة في مأمن من الحرب التي شملت منطقة الشرق الأدنى، حين أصرت بيزنطة وفارس على أن تهاجما الدولة الوليدة في المدينة المنورة, سواء بتحريض القبائل الموالية لهما على تخوم الجزيرة، أو في الهجمات المباشرة بعد ذلك. ويمكن أن يقال: إن سياسة عدم البدء بالعدوان التي انتهجها المسلمون تتفق مع ميثاق الأمم المتحدة الراهن, ولا سيما المادة الثانية من الميثاق.   1 سيرة ابن هشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أحد عشر: قوانين الحرب وإذا أصبحت الحرب أمرا محتوما بسبب عدوان دولة أجنبية، فقد راعى المسلمون دائما قوانين الحرب الإنسانية، فقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" "الدارمي". ويتضح ذلك من وصية الخليفة الأول إلى الجيش الإسلامي قائلا: "أيها الناس, أوصيكم بعشرة فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغالوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة, ولا بعيرا إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم, وما فرغوا أنفسهم له"، وذلك يتفق مع دعوة القرآن الكريم: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] . فأين هذا السلوك الإنساني الملتزم مع ما نشاهده في عالم اليوم من انفلات كامل في القيم والمبادئ, وتعريض للمدنيين نساء وأطفالا لأسلحة الدمار الشامل, على النحو الذي شاهدناه في فلسطين وكوسوفا والشيشان، أو مقابر القتل الجماعي التي لا يزال أهل البوسنة يعثرون عليها بعد الحرب؟! وقد تقيد المسلمون بهذه المبادئ في معاملة الأسرى، ولم تمنعهم غلظة قريش وتاريخ التعذيب الطويل من أن يكونوا منصفين، وأن يلتمسوا أي سبب للإفراج عن أسرى الأعداء، فقد قبل الرسول تحرير أسرى بدر مقابل تعليمهم لأبناء المسلمين، كما أن أعدادا كبيرة من قبيلة هوازن سقطوا أسرى المسلمين في معركة حنين, ثم أخلى سبيلهم بعد توقف القتال "البخاري". وفي غزوة بني المصطلق وقع في أسر المسلمين مئات الأسرى، وقد أفرج عنهم جميعا بدون فدية1، وحين أسر الهرمزان أحد قادة الفرس بعد القادسية، ونقل إلى المدينة أفرج عنه الخليفة عمر فاعتنق الإسلام بإرادته، وعاش حرا في أرجاء المدينة على منحة مالية من بيت مال المسلمين. وللإنصاف التاريخي, فإن معاملة أسرى بدر قد وقعت بين رأيين: واحد: يميل للعفو عنهم أو قبول الفدية ويتزعمه أبو بكر، والآخر: يميل بقتلهم قصاصا منهم لما اجترحوه ضد المسلمين، والرأي الثاني العنيف كان اجتهادا لا يسانده القرآن الكريم كما يذكر الشيباني في كتاب "السير الكبير", ويعلق الأستاذ مارسيل بواسارد في كتابه "إنسانية الإسلام" على هذه الواقعة التاريخية فيقول: "إن القرآن الكريم لا يسمح إلا بأحد أسلوبين: العفو والتحرير، أو الفدية، والتاريخ الإسلامي يؤكد أنه لا الرسول، ولا الخلفاء   1 اقتباس عز الدين بليق: منهاج الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الراشدون قد سمحوا بقتل الأسرى"1. ويقول السيد أمير علي في كتابه القيم "روح الإسلام": "إن كتب السيرة النبوية قد أوضحت أن المسلمين قد عاملوا أسرى بدر معاملة رقيقة، حتى إنهم كانوا يتركون لهم الركائب ويمشون سيرا على الأقدام، ويعطونهم الخبز بينما يكتفون هم بشيء من التمر"2. وكان الميل دائما لتفادي إراقة الدماء مهما كلف الأمر؛ ولذلك رأينا الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقبل دعوة صفروينوس بطرك القدس, لكي يأتي بنفسه لاستلام مفاتيح القدس سلما، وكان بوسعه أن يأمر جيوشه المنتصرة باقتحام القدس، ولكنه آثر تحمل مشاق الرحلة تعبيرا عن احترامه للقدس مسرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأول قبلة للإسلام، وكذلك لمنع القتال وما يجره من بلاء على السكان. وقد أسفر هذا اللقاء التاريخي عن توقيع ما عرف بالعهدة العمرية, التي أرست قاعدة التفاهم الإسلامي المسيحي في الديار المقدسة، وأمّنت المسيحيين على كنائسهم وصلبانهم، ونفذت لهم ما يريدون من إبعاد اليهود عن القدس، ولا تزال العهدة العمرية حتى يومنا هذا تمثل ركيزة التعامل بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين؛ ولذلك رأينا المسيحيين العرب يقفون إلى جوار مواطنيهم المسلمين ضد الحروب الصليبية، ويشاركون مشاركة فعالة في الثورات الفلسطينية ضد الصهيونية وحليفها الاستعمار البريطاني.   1 l.htm'humanism del'islam: marcel a. boisard. 2 amer ali "the spirit of islam. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ثاني عشر: حقوق الإنسان والقضايا الإسلامية قضية فلسطين ... اثني عشر: حقوق الإنسان والقضايا الإسلامية لقد أوضحنا بالإيجاز الذي تفرضه هذه الورقة المحدودة، وموقف الإسلام من حقوق الإنسان، وموقفه من العلاقات الدولية القائمة على تلك الحقوق، وينفرد الإسلام بأنه يجعل حقوق الإنسان والعلاقات الدولية المنبعثة منها واجبات وفرائض، كما أن الشريعة الإسلامية وضعت نصوصا حاسمة تكفل الالتزام بهذه الحقوق1. فإذا قارنا هذه الحقيقة بما يسمى "القانون الدولي" أو قانون الأمم، نجد أن هذا القانون غير ملزم، بل لم يتفق بعد على تحديده، وهو متروك لكل دولة أن تفسره على هواها2. وهذه الميوعة في التفسير تسمح بأن يستخدم القانون الدولي كسلاح في يد الدول الكبرى لتبرير العدوان، واغتصاب حقوق الآخرين. ومن الناحية النظرية, فإن القانون الدولي يحظر اعتداء دولة على أخرى، أو العدوان على المدنيين زمن الحرب، وتسهيل وصول المؤن والمواد الطبية للاجئين، وحق المهجرين في العودة إلى أوطانهم، ولا نحتاج لتوضيح التناقضات الصارخة بين هذه المبادئ البراقة وبين الواقع القائم في عالم اليوم، وما اقترفته الدول الكبرى -ولا تزال تقترفه- في حق الدول الصغرى, ولا سيما دول العالم الإسلامي. 1- قضية فلسطين: لا توجد قضية في التاريخ الإنساني يظهر فيها التنكر لأبسط حقوق الإنسان، ومجافاة كل قيم العدالة والصدق، والتحدي الصارخ للقوانين والأعراف الدولية كالقضية الفلسطينية، ولعل من أسباب الاهتمام بهذه القضية يعود لحقيقة أن الصهيونية تستند -زيفا- إلى نصوص في الكتب المقدسة التي حرفتها أو أعادت صياغتها على هواها، ولما كانت هذه الكتب تشكل الأساس في الحضارة الغربية، ولدى أعداد كبيرة من سكان العالم، فقد غطت هذه القضية على الأحداث السياسية في القرن الأخير. وبالرغم من وضوح الحق والباطل في هذه القضية, فقد استطاع دعاة الصهيونية أن يدوسوا كل القيم والمبادئ، وأن يجدوا من يعينهم على ذلك من ساسة العرب، إما خضوعا لمغريات المناصب والمال، أو انصياعا للتفسير   1 كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني. 2 الموسوعة البريطانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المحرف لنبوءات الكتاب المقدس، وليس أدل على ذلك من موقف السياسي البريطاني بلفور صاحب الوعد المشئوم للصهيونية، حيث نشرت ابنة أخيه وسكرتيرته الخاصة بعد وفاته أنه لم يكن يعمل لصالح اليهود، ولكنه كان يؤمن بالنصوص التي تقول: "إن عودة المسيح الثانية إلى الأرض لا تأتي إلا في دولة يهودية"1. وقد ثبت الآن أن كثيرا من النبوءات التوراتية قد نسجها اليهود -قصدا- لخدمة أغراض سياسية، ومن الذين تبنوا هذا الرأي الكاتب والفيلسوف الفرنسي باسكال في تأملاته المعروفة. ويضاف إلى سطوة النبوءات الدينية, الكراهية الموروثة للعرب والمسلمين، وسطوة المصالح الإستراتيجية للدول الغربية وخصوصا بريطانيا التي أسلمت هذه التركة السوداء إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد غروب شمس الإمبراطوريات الأوروبية. لقد اعتمد الصهاينة على عبارات غامضة في الكتاب المقدس تحتمل كل تفسير؛ ليقولوا للناس: إن الله قد أعطى هذه الأرض لإبراهيم وسلالته من نهر مصر إلى النهر الكبير "الفرات"2. وقد اكتسبت هذه الهجمة عنفوانا مضاعفا مع التقارب المسيحي اليهودي على صعيد العقائد؛ مما وضع لمعركة تاريخية طويلة، ومكن عملاء الصهيونية من إقناع قطاعات كبيرة من المسيحيين لمناصرة إسرائيل باعتباره واجبا دينيا يؤكد صدق الكتاب المقدس، وها هو القسيس "جاكوب شونفيلد" الأمين العام لجمعية الصداقة اليهودية المسيحية يكتب في تقرير رفعه إلى المؤتمر العام للجمعية في عام 1983 يقول فيه: "إن كلمة الله الحقيقية هي التوراة، وإنها تجسدت في المسيح، فلما صلب المسيح بجسده بقيت كلمة الله في التوراة" ومضى القسيس المتآمر لأقصى غاية حين يقول: "إن عودة المسيح قد تمت فعلا بقيام إسرائيل". وهذه الحجة الواهية رسبها قادة الصهيونية في عدوان مسلح على الشعب العربي الفلسطيني, وانتزاع أرض آبائه وأجداده مع أن أكثر قادتهم الكبار أمثال: هرتزل، وبن جوريون، وجولدامائير من الملحدين الذين لا   1 BIBLE AND SWORD, HOW THE BRITISH CAME TO PALESTINE, BARBARA W. TUCHMAN. 2 سفر التكوين 21-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 يؤمنون بإله أو كتاب، وها هو كبيرهم هرتزل يسمي هذه النبوءات بـ "الأساطير المفيدة"1. وهناك أكثر من رد على تهافت هذا المنطق وزيفه من كلام التوراة نفسها حيث يقول سفر التكوين 25-9-10: "إن إبراهيم قد اشترى أرضا من عفرون الحثي ليحفر قبرا يدفن فيه زوجته "سارة", وليكون مقبرة للأسرة بعد ذلك، والزائر إلى مدينة الخليل العربية يجد حتى اليوم مغارة ماكفيلا التي تضم مدفنا للأسرة الإبراهيمية، وفي أماكن كثيرة من التوراة يبرز اسم إسماعيل بن إبراهيم أبي العرب الذين يملكون في تراث إبراهيم أكثر من غيرهم, كما يقول القرآن الكريم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 67, 68] ، فهي في نظر الإسلام وراثة نبوة ورسالة, وإيمان، وليس وراثة مادية تتمثل في أرض وعقار، وسلاحها الاغتصاب والاعتداء, وإذا كانت القضية وراثة سلالية فإن العرب هم من سلالة إبراهيم، وإن قبائلهم كاليبوسيين والعموريين قد سكنوا فلسطين قبل الغزو العبراني بآلاف السنين. لقد مر الحلم الصهيوني الخرافي بأطوار مختلفة, وترعرع في رحم المؤامرات الدولية التي يحركها التعصب الديني، والمصالح الإستراتيجية حتى أدى إلى صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 بالتقسيم في عام 1947, وقد أعطى هذا القرار الجائر كيانا ملموسا لأحلام الصهيونية، وأصبح ركيزة ثابتة تدور حولها السياسة الغربية إزاء فلسطين. وفي غمار هذا التطور لم يعد أحد يتحدث عن الحقوق الأساسية أو وجود الشعب الفلسطيني على الأرض؛ لأن المطلوب هو تعديل كل شيء وتغييره لكي يتلاءم مع المؤامرة الدولية، ولتحقيق ذلك كان لا بد من تهجير الشعب الفلسطيني، بل إبادته كما وقع في حالات كثيرة، وكان لا بد أن تقع تغييرات على الخارطة السياسية للمنطقة حتى تتفق مع التخطيط الجديد. وهكذا، أصبح الحق باطلا والباطل حقا، وتمكنت إسرائيل من فرض   1 رجاء جارودي "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 منطقها وإرادتها, وأصبح بوسعها أن تقول: إن القدس قبلة المسلمين الأولى هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وإن فلسطين كلها لأبناء صهيون، ولا تعطي منها إلا الفتات للشعب الفلسطيني صاحب الأرض، وحتى هذا القدر التافه تعطيه لأهداف إستراتيجية واقتصادية أوسع تشمل الشرق الإسلامي كله، وتظهر بوادرها بوضوح فيما نرى من تحركات واتصالات. وفي انتظار اكتمال فصول الرواية "المؤامرة" وإلى أن تتنبه الشعوب العربية والإسلامية لواجبها المفروض، وتتضامن لإحقاق الحق وإبطال الباطل، فإن شعب فلسطين سيظل يعاني عسف الاحتلال الإسرائيلي, وآلام الهجرة الطويلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 2- قضية الشيشان : شهد العالم المعاصر حملتين عسكريتين من قِبَل روسيا على الشعب الشيشاني الصغير في أقل من خمس سنوات، وفي المرتين كان العدوان تحديا فاضحا لحقوق الإنسان والقانون الدولي، واعتداء صارخا على سيادة شعب ذاق مرارة الأنظمة الروسية المختلفة خلال مائة سنة كاملة، ومنذ عدوان روسيا القيصرية في عام 1895 وفي كل مراحل العدوان لم يكن هناك أي قدر من التكافؤ بين الشيشان الذين لا يزيد عددهم عن نصف مليون، أما الإمبراطورية الروسية التي يتجاوز عددها مائتي مليون، ناهيك عن التفوق التكنولوجي والعسكري الكاسح لروسيا الذي جعل منها قوة نووية تصارع الولايات المتحدة الأمريكية, وحلف الناتو. إن شعب الشيشان لم يكن قبل العدوان القيصري الأول جزءا من الشعب الروسي، ولا يتكلم نفس اللغة، ولا ينتمي للسلالة التي ينتمي إليها شعوب روسيا، وهي أهم العناصر التي تشكل طبيعة الأمة ووحدتها الجغرافية والسياسية. وكان الوجود الروسي هو مجرد استعمار واحتلال عسكري, لا يستند إلى أي قيمة أخلاقية أو قانونية. لقد وقعت تغيرات جذرية في أنظمة الحكم في موسكو، وجاء كل تغيير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يتحدث عن حق الإنسان، ويحمل تبشيرات للشعوب المقهورة، إلا أن النتيجة كانت دائما الحفاظ على مكتسبات العدوان من فوق المبادئ، فالثورة البلشيفية في عام 1917 جاءت في أمواج من الدم على أنقاض النظام القيصري، وكان من بين مبررات قيامها أن ذلك النظام الدموي قد فرض على الشعوب المجاورة -بالقوة المسلحة- نوعا من الاستعمار الذي فرضته الدول الغربية على دول آسيا وإفريقيا. ولنستمع إلى فقرة من الإعلان الذي أصدرته الحكومة السوفيتية "الشيوعية" بعد أن استقر لها الأمر: "إذا جرى الاحتفاظ بأية أمة بالقوة كجزء من دولة ما، وإذا حرمت قسرا ضد رغبتها المعلنة ضد هذا الظلم، أو حرمت من الاختيار الحر للشكل الدستوري لوجودها القومي، فإن دمجها في تلك الدولة يعتبر نوعا من الضم القسري"1. وقد جاءت هذه التأكيدات في بيان وقعه أبو الثورة الشيوعية لينين، ونائبه في ذلك الحين جوزيف ستالين، كما كتب لينين قائلا: "إننا نريد دولة على أكبر مساحة، وتحالفا وثيقا مع أكبر عدد من الدول المجاورة لصالح الديمقراطية والاشتراكية، ولكن نريد التوحيد الحر؛ ولذلك فنحن ملزمون بالاعتراف بحرية الانفصال، وبدون ذلك لا يمكن نعت الوحدة بأنها اختيار حر". وجاء في المادة "70" من دستور الاتحاد السوفيتي الصادر عام 1977 ما يلي: "اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية هو دولة اتحادية واحدة متعددة القوميات قامت على أساس مبدأ الاتحادية الاشتراكية؛ نتيجة لتقرير مصير الأمم البحرية, وإقرار مبدأ الاتحاد الطوعي بين الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية المتكافئة في الحقوق"2. ولم يقبل الشيشان هذا التنكر الصارخ للوعود والعهود، فرفضوا الاستعمار الروسي من اليوم الأول، ولم تتوقف المقاومة حتى بعد انهيار ثورة الشيخ شامل، وبقي نهر "تيربك" خط التصادم بين الجيش الروسي ومقاتلي الشيشان، وقد ألهم هذا الصراع   1 اقتباس المهند سعيد بينو "الشيشان والاستعمار الروسي". 2 الموسوعة البريطانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الطويل الكاتب الروسي تولستوي في وضع كتابه المشهور "الكوساك" حيث شارك شخصيا في بعض مراحل الصراع. إن التركة الوحيدة التي بقيت الأنظمة الروسية تحافظ عليها من القياصرة إلى الشيوعيين، إلى النظام الديمقراطي الحر، هي مكاسب الاستعمار القيصري، ليس لسبب سوى أن جمهورية الشيشان تضم مخزونا هائلا من البترول الذي يزود روسيا بحوالي ثلث مواردها من الوقود, إلى جانب اكتشاف الغاز الطبيعي وغيره من المواد الإستراتيجية1. وفي سبيل هذه الغنائم تدوس روسيا استقلال هذا الشعب الأنوف، ضاربة بعرض الحائط حقوق الإنسان والقانون الدولي، بل تمزق دستورها وتعهداتها عبر عصور متوالية. وبعد الحرب العالمية الثانية 1944 قام ستالين بجريمة غير مسبوقة؛ إذ أصدر الطاغية قرارا بتهجير شعب الشيشان والأنجوش بكامله إلى جزيرة القرم وغيرها من أقاليم الاتحاد السوفيتي، وتبع ذلك إلغاء جمهورية أنجوشيا والشيشان، وكان تبرير السلطات السوفيتية لهذا العمل اللاإنساني أن شعب الشيشان لم يظهر حماسا لمقاومة الهجوم الألماني! ولكن التاريخ يعيد نفسه الآن حين برر يلتسين هجومه على الشيشان بحجة أنه يقاوم الإرهابيين! على أنه من الضروري القول: إن الرأي العالمي -وخصوصا في الدول الغربية- يحيط مأساة شعب الشيشان بصمت مريب، ولا يكاد يتحدث عنها إلا لذر الرماد في العيون، وإذا قُورن هذا الموقف بما أبدته تلك الدول من حماس منقطع النظير إزاء قضية تيمور الشرقية مثلا، يتضح أن الغيرة المدعاة على حقوق الإنسان ليست إلا سلاحا يجرد لخدمة الأغراض السياسية، وأن العداوة للإسلام والمسلمين لا تزال تشكل محورا أساسيا في سياسة بعض الدول الغربية، كما كان الحال في زمان القيصر إيفان الرهيب، والإمبراطورة كاترين. إن قضية الشيشان تشكل تحديا للعالم الإسلامي، وامتحانا لمدى إخلاصه وولائه للأخوة الإسلامية، وواجب المسلمين حكاما وشعوبا أن يهبوا لنصرة إخوانهم بكل ما يستطيعون ليحبطوا الاستعمار الروسي الجديد، وعليهم أن يبينوا للدول الغربية أنهم يدركون الدوافع الحقيقية لتنكرهم لحقوق الإنسان.   1 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 3- مسلمو البلقان : تقع تحت هذا العنوان العريض عدة قضايا منها -باستثناء ألبانيا- البوسنة والهرسك، وكوسوفا، والسنجق, ومع وجود فوارق واختلافات بين هذه القضايا تبعا للموقع الجغرافي، والعوامل التاريخية، وتركيب السكان، إلا أنها تكاد تتشابه من حيث الموضوع الذي نتناوله في هذه الورقة, وهو حقوق الإنسان. ولسنا بصدد التوسع بالحديث عن أي من هذه القضايا وتطوراتها في السنين الأخيرة، ولكن يمكن تحديد بعض النقاط المشتركة بين هذه القضايا. هناك زيف كبير تروِّجه أبواق الدعاية الصربية وحلفاؤها لتبرير المجازر البشعة في كل هذه المقاطعات تحت تأثير الخوف والتخويف من الوجود الإسلامي في أوروبا، ويمكن أن نعتبر مجرم الحرب الصربي RADOVAN KA-RADZIC ناطقا بلسان المتعصبين الصرب في البلقان، حين قال في مؤتمر صحفي في أكتوبر 1992: "إنه لا يفعل شيئا سوى أنه يحاول عدم قيام دولة إسلامية في أوروبا"، ثم قال: "إنه يفعل ما يجب أن يفعله الأوروبيون جميعا". وهذه المزاعم تنطلق من أساس خاطئ آخر هو القول بأن المسلمين في البلقان هم بقايا الأتراك, مع أن الحقيقة أنهم مواطنون أصليون اعتنق أجدادهم الإسلام قبل الفتح العثماني، ولم يعرف عن الدولة العثمانية أنها كانت تأبه للدعوة الإسلامية المنظمة، وكانت من أكثر الدول تسامحا مع الأقليات الدينية، لكن هم كارادزش وأقرانه هو إثارة المخاوف الوهمية من الإسلام. ولا شك أن دعوته لاقت رواجا لفترة طويلة، مما يفسر الصمت الذي التزمته الدول الأوروبية إزاء حملات التطهير العرقي ضد المسلمين. وحين انهارت الشيوعية في يوغوسلافيا كان أول من أعلن الاستقلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 هي جمهورية سلوفينيا ثم أوكرانيا في عام 1991م, ورغم اعتراض الصرب إلا أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية بادرت للاعتراف بالكيانات الجديدة، لكن هذه الدول ترددت لفترة طويلة في الاعتراف بجمهورية البوسنة والهرسك حين أعلنت استقلالها؛ مما شجع الصرب وأعطاهم نوعا من الاطمئنان للبدء بجرائمهم. وإلى جانب تحريك العواطف العدائية التاريخية ضد المسلمين، فقد كانت هناك الاعتبارات الإستراتيجية، فقد كشفت الصحف البريطانية أن بريطانيا لم ترد إضعاف الصرب؛ لأن خطتها كانت إيجاد كيانات قوية حول ألمانيا لمواجهة "طفل أوروبا المرعب" حين يبدأ التحرك! وأمام هذه الخلفية من التعصب العرقي والحق الديني والانتهاز السياسي، اندفع الصرب في حملتهم للتطهير العرقي؛ فقاموا بقتل الرجال والنساء والأطفال بمئات الألوف، ودفنوا ضحاياهم في مقابر جماعية أو قذفوهم في مياة الأنهار. ولما كانوا يعرفون غيرة المسلمين، وحماسهم للعرض والشرف فقد اغتصبوا عشرات الألوف من الفتيات، ومنعوهن من الإجهاض بهدف إذلال المسلمين وكسر أنوفهم تحت وطأة العار. ولم يقف الأمر عند حد "تطهير الأرض من المسلمين, ولكن محو أثرهم الثقافي والديني؛ فقاموا بهدم المساجد والمكتبات والمراكز العلمية, وإحراق الكتب والمؤلفات النفيسة. كانت نتائج هذه الحرب غير العادلة احتلال "70%" من أراضي البوسنة في الأشهر الأولى من المجابهة، وإحراق مئات المدن, وقتل أكثر من مائتي ألف مدني، وطرد مليون إنسان، أي: ربع سكان البوسنة, ولا يمكن وصف المجابهة بأنها حرب كلاسيكية بين جنسين, فقد كانت حربا يعتدي فيها جيش مُدَجَّج بالأسلحة على المدنيين العزل"1. وما دمنا بصدد الحديث عن حقوق الإنسان المهدورة في قلب أوروبا، التي تدعي الغيرة على حقوق الإنسان، وفي أواخر القرن العشرين الذي يوصف بعصر الإنسانية والنور، فقد تضمن تقرير للسيد مازوسكي مندوب لجنة حقوق الإنسان الدولية الذي قدمه للجنته في تشرين الثاني 1992م   1 من خطاب الرئيس البوسني عزت بيجوفيتش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة "أكتوبر 1994م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 تنفيذا لقرار مجلس الأمن في آب "أغسطس" 1992، وقد جاء في التقرير وقائع مذهلة عن حجم الانتهاكات التي ارتكبها الصرب، وقد تضمن تقريره كذلك ملاحظات للدكتور كلايدسنو الذي صحب بعثة الأمم المتحدة عن مشاهداته في منطقة فوكوفار, حيث رأى في بقعة تبلغ مساحتها نحو 300 متر مربع بقايا أجسام لشباب من الذكور، وجماجم مهشمة، وقال: إنها مبعثرة من مقبرة جماعية، وأعاد التذكير بما يؤيده شهود عيان عن اختفاء 175 مريضا من مستشفى فوكوفار, وتعرض التقرير بشيء من التفصيل للمساجد ودور العبادة والمستشفيات والمكتبات التي دمرت عن عمد وسبق إصرار. وقد أيد البطرك نيكولاي رئيس الكنيسة الأرثوذكسية للصرب هذه الوقائع، وقال: إن نحو "150.000" من المسلمين قد قُتلوا بمجرد إعلان الاستقلال، وإن "50.000" من الفتيات المسلمات تعرضن للاغتصاب الجماعي, وإن مائتي مسجد على الأقل قد هدمت، ولا شك أن هذه الأرقام قد تضاعفت مع استمرار حملة التطهير1. إن أحدث قضايا مسلمي البلقان وأقربها للذاكرة الآن هي قضية مسلمي كوسوفا، غير أن هناك قضايا أخرى لا تزال تتشكل في المنطقة مثل: قضية مقدونيا، وقضية السنجق، حيث تجتمع كل عناصر الأزمات التي فجرت الصراع الدموي في البوسنة والهرسك، ولا ينقص الانفجار سوى شعلة أو حادث صغير. إن إصرار الصرب على اجترار العداوة التاريخية ضد الإسلام، واندفاعهم الأرعن للتنكر لأبسط حقوق الإنسان، ومحاولة تأكيد سيادة العنصر الصربي من خلال الإرهاب، والتطهير العرقي، والتهجير الجماعي، هو المسئول عن حالة التوتر التي تشهدها منطقة البلقان، وما لم تظهر الأسرة الدولية تضامنا حقيقيا للدفاع عن حقوق الإنسان من البداية؛ فإن ما حدث في البوسنة والهرسك، وكوسوفا سوف يتكرر حتما. لقد كتب السيد جيمس ستينبرج james b.steingerg مساعد الرئيس الأمريكي لشئون الأمن   1 دراسة أعدتها منظمة إذاعات الدول الإسلامية، ونشرتها على حلقات جريدة الدستور الأردنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 القومي في عدد ديسمبر 1999، حول التعليقات الدائرة حول تدخل حلف الأطلسي في كوسوفا, فقال: لم يكن من الممكن الانتظار أكثر لمعرفة نوايا الرئيس اليوغسلافي ميلوسيفتش أو وسائله؛ لأن حملاته الوحشية ضد كرواتيا والبوسنة قد انطلقت قبل أن تقع قنبلة واحدة على قواته. إن نفس "لوردات" الحرب الذين قاموا بالعمل الدنيء في تلك الحملات هم الذين قادوا الهجوم على كوسوفا، ومنهم سيئ الذكر "أركان" وقواته التي يطلق عليها "النمور" وكذلك الأسود البيضاء التي تتبع نائب رئيس الوزراء الصربي فوجيسلاف سيسيلج. وبديهي أن هؤلاء لم يرسلوا إلى كوسوفا ليفاوضوا قادتها وهم يحتسون القهوة! وهل يمكن أن ننسى الأعمال البشعة التي قاموا بها قبل تدخل الناتو, بما في ذلك مجزرة يناير التي وقعت في مدينة "راساك"؟ وهل يمكن أن ننسى أن الرئيس اليوغسلافي قد حشد 40.000 جندي و300 دبابة حول كوسوفا حين كان يحاول التظاهر بأنه مستعد للتفاوض، كما أنه دفع عشرات الألوف من السكان للهجرة خلال خمسة أيام، لقد كان هدف ميلوسيفتش واضحا من البداية وهو التطهير العرقي1. أما السيد جافيار سولانا javiar solana السكرتير العام السابق لحلف شمال الأطلسي, فقد كتب عن الموضوع في نفس العدد من مجلة الشئون الخارجية، مبينا عدد جرائم الصرب, وقال: إنه منذ ألغى الرئيس اليوغوسلافي الاستقلال الذاتي لكوسوفا في أواخر عام 1980، فقد وضح أن الأغلبية المسلمة لن تقبل ذلك، وفي تلك الفترة زادت المصادمات المسلحة بين الجيش اليوغوسلافي ومواطني كوسوفا، وعندها استخدم الصرب أساليب التطهير العرقي التي استخدموها قبل ذلك في البوسنة. ويلفت النظر في كل هذه القضايا الحرص على تجاهل حقوق الإنسان, ولا سيما حقوق الأغلبية الإسلامية في أن تعيش وفقا لدينها وتقاليدها كسائر شعوب الأرض، وأن يوضع المسلمون في ظروف قاسية بين مخالب الهجرة القسرية، والتطهير العرقي، حتى يضطروا في النهاية لقبول أي حل هزيل يفرض عليهم، لكنه يحقق الهدف الأساسي وهو عدم قيام كيانات إسلامية في أوروبا. وعند التأمل الدقيق في مجريات الحوادث، نجد أن المؤامرة التي عبر عنها radovan karadzic "كرادزك" فقد نفذت, ولكن بأسلوب ذكي في ظاهره رحمة وإنسانية.   1 مجلة الشئون الخارجية, عدد ديسمبر 1999م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 4- قضية جامو وكشمير : كثيرا ما تسمي الصحف الغربية الهند بأنها أكبر ديمقراطيات العالم، وتشير إلى أنها الدولة التي قامت على مبادئ المهاتما غاندي في السلام وعدم العنف. لكن هذه المبادئ الخلابة تختفي تماما حين يكون التعامل مع المسلمين، وكأنها تكرار لنظرية الاستعماري العتيق اللورد كرومر آخر مندوب سام بريطاني في مصر، حين كان يقول: "إن الديمقراطية هي لنا، وإن المصريين لا يستحقونها"، وهذا التناقض بين الشعارات الجذابة، والممارسات الواقعية، يظهر في معاملة الهندوك للشعب المسلم في الهند عموما, حيث أصبح القتل العشوائي، وهدم المساجد والمؤسسات العلمية عادة شائعة، ويتبع الهنود إستراتيجية خاصة تقوم على كسب الوقت وتخدير المسلمين، كما حدث بالنسبة لهدم المسجد "باباري" في مدينة فيوديا حين زعم المتطرفون أنه يقوم على مكان ولادة الإله الهندوكي راما، وبعد هدمه تظاهرت الحكومة الهندية بالاستنكار، ورفعت الأمر للقضاء، لكن النتيجة العملية أن القضية ماتت مع الزمن ونجحت إستراتيجية التخدير. على أن التناقضات الهندية تظهر أكثر في موقعها من حقوق أهل مقاطعة جامو وكشمير؛ فقرار الأمم المتحدة 1947 قضى بتقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين هما الهند وباكستان، وقضى صراحة على حق كل إقليم ذي أغلبية إسلامية بالانضمام لباكستان, وهو قرار ينطبق بصورة واضحة على جامو وكشمير، حيث تبلغ نسبة المسلمين "80%" من مجموع السكان البالغ عددهم عشرة ملايين، إلا أن الهند تجاهلت هذا القرار الواضح، وصمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أذنيها عن سماع الدعوات لتنفيذه، وكان من المبررات التي استندت إليها، أن حاكم المقاطعة مهراجا هندي، علما بأن وجود هذا المهراجا -في حد ذاته- وصمة عار فظيعة في تاريخ الإنسانية، ذلك أن الاستعمار البريطاني باع هذه المقاطعة في عام 1846 إلى جده المهراجا غلاب بسبعة ملايين روبية في ذلك الزمن حين كانت الشعوب تباع وتشترى على موائد الطعام! ومن الحجج الهندية أيضا أن عائلة نهرو المشهورة تنحدر من إقليم كشمير مما يجعل لها مكانة خاصة في تاريخ الهند، وهذه المبررات التافهة تذكر بدعوة الحق التاريخي الزائف التي شهرها الصرب في البوسنة وكوسوفا, واستند إليها اليهود الصهاينة في فلسطين مما سبق ذكره في هذا البحث. واستمر هذا الموقف الهندي قرابة خمسين سنة تخللتها حروب وثورات من جانب الشعب الكشميري الذي ظل يطلب حقه، كما صدرت قرارات من الأمم المتحدة تؤكد حقه في تقرير المصير في استفتاء حر نزيه، ومع أن هذه القرارات قد تضمنت تراجعا عن قرار الأمم المتحدة الأول الواضح الذي يؤكد حق المقاطعة في الانضمام الفوري لباكستان، إلا أن الشعب الكشميري وباكستان وافقوا على هذه القرارات حرصا على السلام، وتفادي سفك الدماء، لكن الهند رفضت الانصياع لهذه القرارات، ولم تقف عند هذا الحد بل أخذت تقوم بإجراءات عسكرية مختلفة، وفي كل مرة تنشب ثورة شعبية تذكر بالحق المهضوم ترد الهند بإطلاق جنودها لارتكاب أبشع أنواع الجرائم، بما فيها هدم المساجد على رءوس المصلين، وقتل النساء والأطفال، كما أثبتت التقارير المحايدة. وقد ذكر مراسل جريدة "الجارديان" البريطانية أن قرية بكاملها هي قرية "كونان" قرب خط التماس بين الهند وباكستان تعرض رجالها للقتل العشوائي, أما النساء فقد أباحتهن القيادة الهندية للضباط والجنود. إن قضية كشمير مثال واضح لتجاهل حقوق الإنسان، والاستهتار بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحددة، وخصوصا من دولة تتلفح بقناع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الديمقراطية، والغيرة على الحريات الأساسية، ومع ذلك فإن موقفها يقابل بالبرود والاستخفاف من جانب الأسرة الدولية. لقد أطلقت السيدة بناظير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة صيحة نذير في مقال نشرته في جريدة نيويورك في يونيو 1999م قالت فيه: "إن كارثة كوسوفا يجب أن تذكرنا بوجوب إطفاء النيران قبل استفحالها، وقالت: إن حقيقة امتلاك الهند وباكستان الآن القنبلة النووية لن يجعل الحرب بينهما محدودة، وسوف تصل آثارها إلى مناطق كثيرة من العالم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 خاتمة : ليس غريبا أن يؤيد العرب المسلمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حين يجدون فيه مجموعة من المبادئ الإنسانية السامية، التي تتفق مع دينهم وتقاليدهم، والتي عاشوها بالفطرة قبل أن يعرف الإنسان المعاهدات والمواثيق الدولية، نقول ذلك دون أن نغفل عن حقيقة واضحة يكابد منها عالمنا المعاصر, وهي أن نزعة الإنسان القديمة للسيطرة والظلم والتحكم كثيرا ما تطل برأسها من فوق القيم الخلقية والمبادئ الإنسانية. وفي حالات كثيرة تستخدمها المؤسسات لتنفيذ المآرب والمصالح الوطنية، ونستطيع أن نشير إلى حالات كثيرة وقع فيها الاعتداءات العسكرية على شعوب صغيرة وفرض عليها الحصار تحت أعلام الأمم المتحدة، وكذلك شاهدنا خرق استقلال دول أخرى وطمس حقوقها بدعوى الغيرة على حقوق الإنسان، مما ألقى ظلالة من الشك واليأس ودفع الكثيرين للاعتقاد بأن هذه المواثيق والمؤسسات لم تقم أصلا إلا للحفاظ على الأمر الواقع الدولي، وتحكم الدول الكبيرة في الكيانات الصغيرة، ومنع الاستقطاب الذي يفرز قوى مستقلة. ومع الاعتراف بهذه الحقائق المؤلمة التي تعود لضعف الإنسان وانسياقه وراء شهواته، إلا أننا نرى في ميثاق الأمم المتحدة، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أهدافا مثالية تلبي حاجات الإنسان للأمن والسلام، ومن الضروري المحافظة عليها وتطويرها نحو الأحسن، وإحاطتها بضمانات جماعية؛ حتى تؤدي أهدافها النبيلة بصورة أحسن تنفيذا لتوصية القرآن الكريم التي تحث على التعاون على الخير {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ولا شك أن واجبا كبيرا يقع على المسلمين حكاما وشعوبا لتبيان ما يمكن أن يقدمه الإسلام من المبادئ والقيم لإغناء هذه المسيرة الخيرة، ومن نافلة القول أن نؤكد أن تقيد المسلمين بحقوق الإنسان في بلادهم هو أهم دعوة لفهم الإسلام, والتصدي للحملات الظالمة التي يتعرض إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إن أفكارا كثيرة تطرح اليوم لتطوير عمل منظمة الأمم المتحدة لتكون أكثر فعالية في تطويق الأزمات، ومنع الحروب، وإنهاء احتكار الدول الكبرى للمنظمة الدولية، وهي أفكار تستحق العناية؛ ذلك لأن اضطراب التوازن الدولي، وإشاعة اليأس من جدوى المنظمات العالمية والمواثيق سوف يقود -حتما- لمصادمات كثيرة أو صغيرة ليست في صالح أحد، ومن العبث الاعتقاد بأن دولة واحدة أو كتلة واحدة تستطيع أن تفرض إرادتها على العالم كله بالقوة المسلحة لمدى غير محدود، والبديل عن هذه المخاوف والاحتمالات هو أن يحتل العقل الراشد مكانه في توجيه سياسة الدول, وأن تزول إلى غير رجعة أحلام السيطرة والتوسع، وأن نعمل جميعا لبناء عالم مستقر تزدهر فيه كل الحضارات والثقافات وتتلاقى على حماية الإنسان والارتقاء بمستواه المادي والروحي، كما يدعو القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فالإسلام يقر بقبول التنوع والاختلاف ويعدهما أصلا من أصول الحياة، ويجعل الهدف منهما هو التعارف والتعاون بين بني البشر جميعا، ويزيل التفاضل والتمايز بين الناس بسبب اللون أو الجنس، كما قال الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام: "الناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم" 1.   1 اقتباس عبد القادر عودة "التشريع الجنائي في الإسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39