الكتاب: الإسلام وحقوق الإنسان في ضوء المتغيرات العالمية المؤلف: محمد كمال الدين بن محمد العزيز جعيط الناشر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الإسلام وحقوق الإنسان في ضوء المتغيرات العالمية كمال الدين جعيط الكتاب: الإسلام وحقوق الإنسان في ضوء المتغيرات العالمية المؤلف: محمد كمال الدين بن محمد العزيز جعيط الناشر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] 1 - توطئة : شرع الإسلام من المبادئ وسنَّ من القيم ما يكفل الحقوق الكاملة التي توجبها الحياة الإنسانية, وتفرضها الكرامة البشرية على هذه الأرض، ولم تحظ هذه الحقوق في أيّة شريعة من الشرائع السماوية أو من النظم الأرضية، بمثل ما حظيت به في شريعة الإسلام، فقد ارتقت بها حتى جعلتها من الواجبات الدينية المتحتمة التي يحرم الإخلال بها، قال سبحانه في محكم تنزيله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. ولأهمية موضوع الحقوق الإنسانية، التي تُعَدُّ انشغالًا رئيسيًّا اليوم في العالم، اخترت الكتابة في هذا المبحث، مع بعض الاعتبارات الأخرى، أوجزها كالتالي: 1 - العناية البالغة التي أصبح يوليها المجتمع الدولي لقضايا حقوق الإنسان في أبعادها المتعددة، على مستوى التشريعات التي تطورت في اتجاه تأصيل الثقافة الحقوقية وإحاطتها بالضمانات اللازمة، وقد تعددت حول هذه القضية وجهات النظر، وتنامى الجدل، وحَمِيَ الحوار، وكَثُرَ فيه السجال الفكري، وتزايدت أعداد الجمعيات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وبرزت الهيئات القطرية والإقليمية والدولية المنتصرة لقضايا حقوق الإنسان، وانفسخ مجال التركيز عليها في وسائل الإعلام، التي لها من التأثير الفعَّال والدعاية القوية ما هو غير خافٍ، حتى غدت قضايا حقوق الإنسان من الاهتمامات المركزية الجوهرية التي تتبناها الدول والمنظمات والنخب السياسية والفكرية، ويعتني بها جمهور الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 2 - قد يغلب على ظن الخاصِّ والعامِّ، تحت تأثير ما يذاع من هنا وهناك، أن هذه القضية إنما هي من الاهتمامات المستجدة المستحدثة، أو هي ثمرة من الثمرات التي أنتجتها حضارة العصر، أو هي من مبتدعات الثقافة الغربية الغازية المسيطرة على العالم، ولما لم يخل المجتمع العربي والإسلامي من هذه التأثيرات التي شكَّلَت نمط تفكيره، وكيَّفَتْ حياته وطرق تعامله، ووجَّهَتْ سلوكياته، شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات، مع ما تَبِعَ ذلك من موجاتٍ عارمَةٍ من التشكيك والافتراء على الإسلام والطعن فيه، سواء عن سوء قصد من أعدائه، أو جهل به من أبنائه, كان لا بُدَّ من تصحيح المفاهيم وتوضيح الحقائق, وردّ الطعون, وبيان الخطأ من الصواب، حتى تطمئن النفوس وتستنير العقول, وتبرأ الضمائر من الشكوك. 3 - تعدد المفاهيم المتناولة لقضايا الحرية والديمقراطية، بتعدد المرجعيات الفلسفية والأيديولوجية والدينية، مما يجعل قضايا حقوق الإنسان تتأرجح بين نوازع الفردية والاجتماعية، وبين دواعي الخصوصية والكونية. والثابت أن التحوّلَ الحضاري الكبير الذي يعيشه العالم اليوم في ظلِّ المد الجديد للعولمة، يتخذ من ناحيةٍ شَكْلَ صراعٍ ظاهرٍ بين وسائل وغايات متناقضة، وقيم ومعطيات متباينة، ومن ناحيةٍ أخرى شكل صراع خفيّ بين ممارسات الهيمنة ومواقف الصمود أمامها, والتشبث بمبدأ الاستقلال وحرية القرار الوطني. 4 - إن مواقف الشطط والتطرف لا تثبت أمام تيار التاريخ الجارف، سواء كانت صادرة عن أنصار العالمية والكونية, أو عن أنصار الإقليمية والمحلية, وإنما تتغذى الثقافة الإنسانية من مجموع التراكمات وثراء الخصوصيات، في تفاعلٍ مستمرٍّ مع الزمن، فتصنع بذلك مدًّا تضامنيًّا إنسانيًّا عالميًّا، لا مجال فيه لغلبة نموذج حضاري مُعَيَّنٍ على آخر، ولا حظَّ فيه لسيطرة ثقافة على أخرى, إلّا أن ميزان التفاضل بين الحضارات يبقى دومًا رَهْنَ ما تشعُّ به من قيمٍ عادلةٍ تفيض خيرًا, وتعمُّ أمنًا وسلمًا على الإنسانية جمعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 2 - مدخل تاريخي : إن ما يبدو، في العصر الحديث، أنه اهتمام واسع شامل لقضايا حقوق الإنسان، تناولته أنظار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ القرن السابع عشر الميلادي، وحبَّرَتْ في شأنه المواثيق والعهود، قد بقي في حقيقة الأمر منحصرًا في القوانين والدساتير، واكْتُفِيَ بالتعبير عنه في شكل مبادئ وقواعد مجملة، ولم تتدرج العناية به إلى المستوى الدولي، إلّا بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولم يخرج الاهتمام به إلى الآفاق الرحبة الواسعة، إلّا أثناء احتدام الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذت في تقدير البعض من حقوق الإنسان ذريعةً للإجهاز على المعسكر الشرقيّ الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، ونجحت في تفكيك منظومته, ودحر أيديولوجيته، لتتبلور بذلك الصور الجديدة في شكلها المستحدث لقضايا حقوق الإنسان، ولتتحول إلى أداة فاعلة ضاغطة تستخدمها الدول المتقدمة لممارسة الهيمنة, وفرض السيطرة, وبسط النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي على دول العالم بأسره، بينما يرى آخرون، ممن ينتصرون لثقافة العولمة، أن في التراث الإنساني ما يبرز النضالات من أجل حقوق الإنسان، وأن الاهتمام العالمي المتزايد يومًا بعد يوم، ما هو إلّا تتويجٌ لهذه النضالات, وتكريس لانتصار الإنسان في نهاية المطاف، من أجل تجذير حقوقه في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتأصيلها كقيم عالمية كونية، وحمايتها من مخاطر الانتكاس والردة من خلال المواثيق والمعاهدات والتنظميات الدولية. إن ما يُسَمَّى اليوم بالنظام العالمي الجديد، والذي ظهرت بوارقه الأولى منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، لم يحقق في نظر معارضيه الغايات المرجوّة منه، ولم يثمر في تقديرهم نتائجه المؤملة، وهم يرون أن استفراد القوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الصناعية الكبرى بحقِّ التصرف في المقدّرات العالمية، قد عمَّقَ التبعية الاقتصادية لدول العالم الثالث تجاهها, بسبب الاحتياج الماسِّ لمساعدات هذه الدول لأغراض التنمية، وتوسّع الخرق الفاصل بين الشمال الغني والجنوب الفقير, ولم تتبلور المنظومة الجديدة في صورتها الجلية الواضحة، ولم تكشف عن نفسها، إلّا بعد سقوط المعسكر الشرقي وتفكيك منظومته، لتفتتح بذلك مرحلة تاريخية جديدة فريدة من نوعها في العالم، تنتفي فيها الأضداد, وينتصر فيها النموذج الأوحد، وتولدت عن هذا الوضع الجديد تكتلاتٌ سياسية واقتصادية جديدة، مستفيدة في ذلك من التطور التكنولوجي الهائل، خاصة في مجالات الاتصال، أمكن بفضله أن تنحصر المسافات وتتقلص الحدود، ليتحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة. هذا الموقف المتوجس خطرًا مما يمكن أن تجره العولمة من آثارٍ سيئة، قد عبَّرَتْ عنه نزعات الانطواء، وترجمت عنه الأصوات الداعية إلى العودة إلى الجذور والقيم الأولى، والتمسك بالثقافة التقليدية، كرد فعلٍ ارتدادي على هذه التغيرات التي يراها البعض تهديدًا جديًّا للثقافات الوطنية والإقليمية، ونذير شؤم ينبئ باشتداد العواصف التي قد تقلع الجذور وتأتي على الأصول. في خِضَمِّ هذا الصراع بين أنصار العولمة وما تحمله في نظرهم من بشائر الانفتاح وتداخل المصالح بين الشعوب وتحسين أنماط عيشها، وبين أنصار المحافظة والتشبث بالنظام القديم، تأخذ إشكالية حقوق الإنسان منعطفًا جديدًا وخطيرًا في الوقت نفسه، وتطرح على الشعوب تساؤلات مصيرية، منها: 1 - مدى قدرة الثقافات المحلية على الصمود والثبات أمام التيار القويّ للعولمة؟ 2 - كيف السبيل إلى المحافظة على الخصوصيات، في عالمٍ يسير نحو الاندماج عبر التكتلات الاقتصادية والسياسية؟ 3 - هل يحق للإنسان اليوم أن تأمل، عبر ميلاد ثقافة عالمية جديدة، توفر ضمانات قوية من شأنها أن تحمي الحقوق الإنسانية من أيّ انتهاكٍ أو انتكاسٍ أو انحراف؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وفي مقابل هذه الاستفهامات، تطرح تساؤلات موازية تعبِّرُ في جوهرها عن عمق الحيرة وتوتر الفكرة، ومنها: 1 - كيف تتسنَّى الإجابة على هذه الإشكاليات المبنية أساسًا على معطياتٍ متناقضة وأنظار متباينة؟ 2 - كيف يمكن التوفيق بين عنصري التقابل والتضادِّ في الرؤى والتصورات المتناولة للقضايا الإنسانية عمومًا؟ 3 - كيف يمكن لقضية حقوق الإنسان أن تتحوّل من إطار الخصوصية التي تتميز بها، إلى إطار العولمة الزاحفة عليها؟ 4 - هل يمكن فعلًا تجاوز الخصوصيات التاريخية والحضارية والاجتماعية لهذه القضية وهي معدودة من لوازمها وشروطها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 3 - حقوق الإنسان بين الخصوصية والكونية : إن النظر في هذه التساؤلات، يسوقنا حتمًا إلى إبداء الملاحظات التالية: - إن مثل هذه المواضيع كثيرًا ما تطرح بشكل نضالي يغلب فيه التنظير الأيديولوجي والتحزب السياسي الضيق، وهذا من شأنه أن يضفي على المواقف صبغة الانفعالات العاطفية والتواترات العصبية التي لا تجدي نفعًا في مثل هذه القضايا المصيرية، والتي يتوقف عليها مصير العالم بأسره. - إن كثيرًا ممن يرفعون شعار كونية الحقوق، يعتقدون أنها لا تخضع لأي استثناءٍ أو خصوصية معينة، مهما كانت طبيعتها، سواء أكانت ثقافية أو اقتصادية أو لغوية أو سياسية أو دينية؛ بحيث يرى هذا الفريق أن حقوق الإنسان متماثلة في كل مكان وزمان ولا مجال فيها للاختلاف، تبعًا لوحدة الجوهر الإنساني. - يتشبث الفريق المقابل بموقفه الرافض، ويرى أن الكونية المنسوبة لحقوق الإنسان، وهي محض افتراء وذريعة إلى الهيمنة والاعتداء، والتدخل في الشئون الداخلية للشعوب والحكومات، وبسط النفوذ الاقتصادي، والثقافي، ولقد كان للفلسفة السياسية التي ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، وترجمها إعلان الإنسان إثر الثورة الفرنسية "سنة 1789م"، أثرها البعيد فيما تمخَّضَ عنها من نظام عالمي جديد في السنوات الأخيرة. - نزعة ثالثة تتوسط النظرتين المتناقضتين، غرضها التوفيق بين الموقفين المتقابلين، على اعتبار أن الكونية لا تنفي الخصوصيات، وأنه يمكن الجمع بينهما, واستمدت موقفها هذا من الإعلان النهائي الصادر عن مؤتمر فيينا1   1 كان ذلك بتاريخ 14 إلى 25 جوان 1995م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 حقول حقوق الإنسان، ونصَّ على أن حقوق الإنسان كلية وشاملة وغير قابلة للتجزئة، وهذه هي صفة العالمية فيها, ولذا يجب على المجتمع الدولي أن يتعامل مع قضايا حقوق الإنسان على نحوٍ شاملٍ ومتكافئٍ وعادلٍ، مهما اختلفت الألوان والأجناس وتباينت الثقافات، إلّا أن هذه الشمولية في النظرة إلى حقوق الإنسان وإعطائها أبعادها الإنسانية الكونية، لا تلغي الخصوصيات الوطنية والإقليمية القائمة على أساس الهوية الثقافية أو الدينية أو التاريخية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 حقوق الإنسان في الإسلام الحقوق الأساسية مدخل ... 4 - حقوق الإنسان في الإسلام: 1 - الحقوق الأسياسية: إن من الحقوق الأسياسية -التي ادَّعَتْ الأمم الديمقراطية المتقدمة إنشاءها وإعلانها- حق الحرية وحق المساواة بين كل الناس دون فصلٍ أو تمييز، فالإنكليز يعتبرون أنفسهم أعرق شعوب العالم في مجال الحقوق والحريات، وزاحمهم الفرنسيون في اعتبار أن التشريعات الخاصة بحقوق الإنسان إنما انبثقت عن الثورة الفرنسية، وأنكر عليهما الاتحاد السوفيتي "سابقًا" ذلك، واعتبر أن الديمقراطية الحقيقة هي التي جَسَّمَهَا النظام الاشتراكي الماركسي عِنَدَما أسند السلطة للطبقة الكادحة "البروليتاريا". والحق الذي لا يجادل فيه منصف عادل، أن الإسلام هو أقدم التشريعات الباقية التي قررت منذ قرون خلت حقوق الإنسان في أكمل صورتها, وأوسع نطاقها ومجالها، وانتهج الإسلام في صياغة هذه الحقوق وتوظيفها نهجًا قويمًا حكيمًا يرتكز على أسس تربوية تستند إلى نصوص تشريعية من خلال الكتاب والسنة، فقد بادر صاحب الرسالة وحامل الأمانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ بدء البعثة إلى تعليم أصحابه وتربيتهم وتهيئتهم نفسيًّا وعقليًّا, وتوجيههم توجيهًا سلوكيًّا سويًّا؛ لتقبل الدعوة الجديدة, وتحمُّل أعباء القيام بها, وإعلانها بين الناس، والتربية النفسية والعقلية والسلوكية السليمة الصحيحة شرطٌ ضروريٌّ ولازمٌ لتهيئة التربة الصالحة التي نريد أن نبذر فيها بذور الحق والواجب، حتى ينشأ في الأجيال المتعاقبة الوعي الكامل بمستلزمات الحياة البشرية من حريةٍ وكرامة ومساواة وعدالة، وحتى يجنبوا خطر الانحراف بما يعنيه من أشكال التهتك والتسيب وضعف الوازع الذاتي واضمحلال الضمير الفردي والاجتماعي، واندثار القيم والمبادئ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فتنقلب الحياة البشرية إلى جحيم من المعاناة والعذاب، قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]، وقال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. فكان من حكمة الإسلام أن وضع الأسس الثابتة, وبنى القواعد المتينة, حتى يسلم البناء الاجتماعي من التصدّع بصلاح أفراده، ولقد كانت الفترة المكية زمن البعثة، والتي تواصلت زهاء ثلاث عشرة سنة، قبل هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، موجهة توجيهًا كليًّا إلى التربية العقدية والتأصيل الإيماني، والتهذيب النفسي والعقلي والأخلاقي، وفق أسلوب من التدرج يراعي الخاصيات التي تتطلبها كل مرحلة من مراحل الدعوة إلى الدين الجديد، ثم تلت هذه الفترة الهامة، مرحلة التشريع للمجتمع الجديد الناشئ وفق ضوابط أخلاقية وسلوكية، ميزتها الشمولية لكلِّ جوانب الحياة الفردية والجماعية، وقاعدتها المساواة بين كل الناس دون التفرقة بينهم لدواعٍ جنسية أو عرقية أو لغوية، وميزانها العدل في ترتيب الحقوق والواجبات على حسب ما تحتمله الطاقة البشرية من غير إسراف ولا تقصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أ- حق الحياة : وهو من أقدس الحقوق البشرية على الإطلاق، وأولاها بالإثبات والحماية, بدليل أن الشرائع السماوية أجمعت على إقرار هذا الحق الأصلي، واعتباره من أوكد الكليات الخمس الواجب حفظها ومراعاتها، والإسلام حرَّم تحريمًا مشددًا قتل النفس البشرية بغير حقٍّ، وسدَّ كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها، بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعرضيها إلى الخطر بأي شكل من الأشكال, قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقال أيضًا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. لقد كان من عادات العرب في الجاهلية الحمقاء، قتل الأبناء ووأد البنات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 خوف الفقر وخشية العار، ولم تكن للنفس البشرية عندهم وعند غيرهم من سائر الأمم والشعوب في تلك العهود المظلمة من الحرمة والقداسة ما هو كفيل بحمايتها وصيانتها، ولم تطمس آثار هذه العادات -الراجعة إلى أصول العقائد الوثنية "تقديم الأرواح البشرية قربانًا للآلهة المعبودة" التي وصفها القرآن بالسفه والجهل، بسبب الظلمة المطبقة على النفس، والغشاوة التي رانت على العقل، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]- حتى بزغت شمس الإسلام؛ لتمحو بنورها ظلام الجاهلية، وترسي مبادئ العدل والحق. إن الإقرار بالحق المقدس في الحياة، أولته التشريعات المعاصرة المتطورة بالغ اهتمامها، بما أرسته من المواثيق والعهود والالتزامات الدولية، ووضعته من القواعد والقوانين الوقائية والزجرية، من خلال المجلات القانونية المختصة, وخاصةً منها مجلات القانون الجزائي. ويستتبع الإقرار بمبدأ حق الحياة، تثبيت مجموعة من الحقوق المتفرعة اللازمة، بقصد إحاطة هذا الحق الأصلي بمجموعة من الضمانات الحمائية، اقتضتها ظروف تطور الحياة في مختلف جوانبها، وتعدّد المخاطر المحيطة بها، ومن بينها: - حق الضمان الاجتماعي في توفير الأسباب الدنيا لحياة بشرية كريمة، وتأمين وسائل العيش، ومنها حق الشغل. - حق الرعاية الصحية، بتوفير وسائل الوقاية والعلاج من الأمراض المهددة للصحة البشرية. - حق التغطية الاجتماعية، وكفالة مختلف الأصناف والشرائح المحتاجة إلى الدعم الاجتماعي، سواء بتوفير الأُطُرِ والهياكل لرعاية الأيتام والشيوخ العجّز وفاقدي السند وذوي الإعاقات الذهنية والبدنية، أو بتقديم المساعدات والمنح المادية والعينية لتخفيف وطأة الحياة عنهم. - حق توفير المرافق الدينية والثقافية والترفيهية، وسائر الأنشطة التي تستجيب لحاجيات الإنسان الروحية والنفسية والجسدية؛ كالمساجد والجوامع والمدارس والمكتبات والفضاءات الرياضية والترفيهة. ولن يطمح الإنسان قطعًا، إلى تحقيق ذاته في الحرية بمختلف أشكال التعبير عنها، أو إلى تحقيق كرامته وعزته، ما لم يستند حق الحياة إلى قواعد ثابتة تضمنها عقيدة راسخة، وتحرسها جملة القواعد والمبادئ والقوانين، وتعمل على تنفيدها وحمايتها مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ب- حق الحرية : إن الحرية هي التعبير الطبيعي عن نزوع الذات البشرية إلى الانعتاق من كل المقيدات والمكبّلات التي تحول دون تحقيق ذاته, وتنمية طاقاته العقلية والنفسية والوجدانية. والحرية حق أساسي طبيعي يتقرر منذ اللحظات الأولى لولادة الإنسان: "متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهامتهم أحرارًا"1، وهي تكتسب من القدسية والحرمة ما يجعلها قرينة التكليف والمسئولية في الدساتير والشرائع السماوية, قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. والحرية تتفرع إلى ضروب وأنواع متعددة، تشمل كل جوانب الحياة البشرية الروحية والعقلية والمادية ولا تستثني أيّ حقٍّ من الحقول المترتبة عليها، إلّا ما تستوجبه شروط ولوزام الحياة الجماعية في حال التعارض بين الحق الفردي وحق المجموعة عليه. - حرية التدين: وهو حق الإنسان في أن يختار دينه وعقيدته من غير إكراه ولا إجبار لاعتبار أساسي هو حاجة الإنسان الماسة إلى تلبية حاجاته النفسيبة الوجدانية؛ لأن أصل كل حرية ينطلق من داخل النفس البشرية، فإذا ما تَمَّ لها ذلك توجهت إلى العالم الخارجي في قوةٍ وتوازنٍ لتحقق ذاتها وفعلها الحضاري. ولأهمية هذا   1 مما اشتهر من أقوال الصحابي الجليل والخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 البعد المتصل بأعماق النفس البشرية، توجَّهَ الإسلام إلى رفع كل العوائق التي تتسلط على نفس الإنسان لتحوّله إلى هيكل هزيل، خاوٍ خالٍ من كل روح إيجابية وإرادة فعّالة، قال -تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقال -سبحانه وتعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. لقد فتح الإسلام أبوابه للإنسانية جمعاء، وتوجَّه بخطابه إلى الكل دون تمييز ولا إقصاء، واشترط في مقابل ذلك الإرادة الحرة في الاختيار، المبنية على دواعي الاطمئنان النفسي والاقتناع العقلي، حتى يَسْلَمَ معتنقوه من غوائل الشك والريبة واعتلال الوازع الديني فيهم، فيقل تبعًا لذلك احتمالهم لتكاليفه, وينضب صبرهم على تحمّل مسئولية القيام بأعبائه, والاضطلاع بواجباته، وما محاربة الإسلام لظواهر النفاق العقدي والفكري والسلوكي، إلّا من مستتبعات دعوته الصريحة إلى أصالة حرية التدين؛ إذ النفاق حالة نفسية مرضية، تتوزع فيها النفس البشرية بين دواعٍ مختلفة متناقضة لا تستقر فيها على حالة قارة ثابتة خالصة من كل الشوائب، وهو تعبير عن حالة من التدهور النفسي والسقوط الأخلاقي والاضطراب السلوكي، وصفها القرآن بأبلغ وصفٍ في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]. والنفاق -في حقيقته ومنطلقاته- يعكس في صورته خضوع البشرية، ولا ريب أن العلاج منه يستوجب دفقًا إيمانيًّا قويًّا, وشعورًا عميقًا بحرية اختيار العقيدة التي يطمئن إليها معتنقها باعتبارها تكليفًا ومسئولية يترتب عليها الجزاء، إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]. - حرية التعبير: وهي الحق في أن يعلن الإنسان عن جملة أفكاره وقناعاته التي يعتقد فيها الصواب والصلاح له ولغيره، وهو حقٌّ ينتج عن عضوية الإنسان داخل المجتمع الإنساني باعتباره جزءًا منه، ومسئولًا مدعوًّا إلى الإسهام فيه برأيه وفعله، إثراءً للتجربة الإنسانية, وتحصينًا لها من العثرات والنواقص، وإن ركزت المجموعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الدولية في الزمن المعاصر، على تأكيد هذا الحق وحمايته من كل أنواع الاعتداء والقهر والتهميش والإقصاء، سواء بتغليب النزعة الجماعية على حساب حق الفرد فيها، أو إطلاق مكامن الفرد إلى الحدِّ الذي يتعالى فيه قراره على قرار المجموعة، فتنعدم الغاية النبيلة من وراء تقرير هذا الحق الأصلي، فإن الإسلام لم يغفل عن توجيه عنايته إلى هذا الجانب الهامِّ في حياة الفرد والمجموعة بما شرعه للفرد من حق الإدلاء برأيه, والاجتهاد بفكره, والتعبير عن إرادته بلك حرية، ما لم تخرج عن مراعاة مصالح المجموعة المعتبرة شرعًا، أو تنقلب عليها لتفضي إلى تفتيت قواها وضياع جهودها؛ فتنحل الرابطة الجامعة بكليتها, ويضيع في خِضَمِّ ذلك نفعها وصلاح انتظامها، وفي نصوص الكتاب والسنة شواهد تدعو إلى مشاركة الفرد بتوظيف إمكاناته العقلية والمادية إلى دعم المجموعة وتوطيد أركانها. من ذلك قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"، إلى أن قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير في إن لم أسمعها"1. يقصد أن إسداء كلمة الحق والجهر بها واجب مفترض على كل مسلم.   1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير، تحقيق عبد الله التركي: 9/ 415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 حق المساواة والعدالة ... جـ- حق المساوة والعدالة: لطالما عانت الإنسانية عبر تاريخها الطويل من ويلات الغبن والحرمان من أبسط الحقوق الضامنة للحد الأدنى من الكرامة البشرية، ومن هذه المآسي استعباد الإنسان لأخيه الإنسان, وامتلاك ناصية حياته بغير حق، لم يمنعه من ذلك بريق الحضارات التي قامت منذ تاريخ بعيد؛ كحضارة اليونان وفارس وروما، والتي أضفت شرعية ظالمة على ما آلت إليه حياة البشر من التدني والانحطاط وسوء المنقلب. ولما أشرقت أنوار الإسلام على هذه الدياجير، تبدّت للإنسانية سوءاتها، وتاقت الأنفس المضطهدة إلى العيش في ظل عدالة الدين الجديد، الذي يعود إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 آدم -عليه السلام، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كلكم من آدم, وآدم من تراب" 1، وقال أيضًا: "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 2. وقد جاءت التشريعات الإسلامية معتبرة لهذا الحق الأصلي في المساواة بين جميع الناس أمام القانون، لا مجال للحظوة الخاصة ولا لدواعي القربى، ولا للعصبية العرقية أو الدينية، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، ولا ما من شأنه أن يمسَّ حقوق الناس بغير وجه حقٍّ مما يخالف مقتضيات العدالة التي تضمنتها شريعة الإسلام، قال -جل شأنه: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. إن هذه المبادئ الإنسانية العامة، تُعَدُّ قواعد أساسية، لا غنى عنها لكل تشريعٍ يتناول حقوق الأفراد والجماعات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولسنا نقصد من خلال هذا البحث الوجيز التعرُّض إلى كل هذه الجوانب التي تناولتها التشريعات والبحوث المستفيضة، وإنما سنأتي على بيان الوجه الاجتماعي لهذه الحقوق، لما لهذا الجانب من الأهمية القصوى، متناولين الحقوق الأسرية التي تنبني عليها مجموع العلاقات بين أفراد العائلة، مع الوقوف على أهم القضايا المطروحة اليوم في مجال التشريعات المتصلة بحقوق المرأة والطفل والعناية بالشيخوخة، دون التغاضي عما أصبح اليوم يعد هاجسًا قويًّا وهتمامًا أولويًّا في مخططات الدول وبرامجها, من أجل تهيئة محيط سليم وبيئة ملائمة لحياة اجتماعية طبيعية صحية.   1 رواه أحمد في مسنده: 3/ 367. 2 رواه أحمد ومسلم والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الحقوق الاجتماعية مدخل ... 2 - الحقوق الاجتماعية: أ- تمهيد: إن المكاسب الإنساية والحضارية التي أمكن إنجازها اليوم، إنما هي ثمرة نضال طويل وتضحياتٍ جسام، أسهمت فيها الشعوب والأمم, وقدَّمَت فيها الأجيال على اختلاف مشاربها، وتنوع أجناسها وأعراقها، وتوجهاتها الثقافية, واختلاف نزعاتها العقدية، عصارة نتاجها الفكريّ, وخلاصة تجربتها وفعلها الحضاري، وهذا ما يفسر ثراء التجربة الإنسانية الموضوعة في خدمة الإنسان أينما كان، باعتباره الهدف والغاية والوسيلة، انتصارًا لآدميته المقدسة التي أسجد الله لها ملائكته الكرام في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]، وتأكيدًا لقيمة التكريم فيه على سائر الموجودات بما أنه كائن حرّ مكلَّف مستخلف على الأرض، وبما خصه الله من المواهب وزوَّدَه من الملكات, ومنحه من القدرات، بها يحقق كينونته, ويصيغ وجوده بهدي الرسالات السماوية, وعلى بينة من عقله المستنير، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]. إلَّا أن التاريخ الإنسان النظالي الطوزيل، لم يسلم من الانتكاسات والسقطات، التي تبررها الطبائع والميولات الأنانية، وغلبة الأهواء والنزاعات الفردية، في غيبوبةٍ من العقل والضمير، أدت فيما أدت إليه، أن تحوّل الإنسان وقودًا لهذه النار المتأججة على مدى حِقَبٍ ممتدة في الزمن التاريخي، انعكست دلالاتها في ظهور فلسفات ومذاهب فكرية وأيديولوجية, وأنظمة سياسية متطرفة مدمرة هدامة؛ كالنازية والفاشية وغيرها من سائر الحركات الاستعمارية التي ظهرت في العالم منذ زمن غير بعيد، والتي حوّلت حياة الإنسان إلى جحيمٍ اكتوت بناره البشرية جمعاء، وكان من آثارها المزلزلة أن أخضعت رقاب شعوب بأكملها، واستنزفت طاقاتها الحيوية، وأهدرت ثرواتها الطبيعية، وعطَّلَت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 حركيتها, وكبَّلَت أياديها وأرجلها، وارتفع دوي الحرب، وانتصرت الآلة العسكرية، وتفنن صانعوها في تطوير وسائل القتل والدمار، وأتت النار على الأخضر واليابس، وكان الإنسان هو الخاسر في الأول والآخر. ثم صحت الإنسانية على صوت هذه الفواجع، واستيقظ العقل والضمير بتأثير حدة الآلام البشرية وشدة المصائب وهول الكوارث، وغدا السلم حتميةً تاريخيةً حضاريةً كسبيلٍ إلى إنقاذ البشرية من الدمار والهلاك، وقيمة عالمية لا مناص من أن يتشبث بها المجتمع الإنساني كطريقٍ أوحدٍ إلى الخلاص، إيمانًا بأن الحروب لما كانت تنشأ أولًا في عقول الناس، كان لا بُدَّ -من أجل الوقاية والاحتماء منها- أن تبني في الوجدان البشري حصون السلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، وقال أيضًا: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103]. وإن ميلاد المنتظم الأممي إبَّان انتهاء الحرب الكونية الثانية، هو تعبير عميق عن وحدة الشعور الإنساني, وغلبة الوعي الإيجابي, وانتصار الإنسان في نهاية المطاف، لتسقط في مقابل ذلك الجدران السميكة والحواجز الحديدية التي طالما فرَّقَت بين الشعوب, وآثارت أسباب العدوان والفتنة بينها. إن من مشمولات الدول ومهامها الأساسية في العصر الحديث، وضع الأسس والقواعد والتشريعات الضامنة للحقوق، الكفيلة بتوفير حياة اجتماعية كريمة، تطلق فيها الكوامن, ويفسح فيها مجال التعبير والفعل الحر، لا تحدُّه إلّا ضوابط المصلحة العامة، من أجل أن يرقى الإنسان وتسعد البشرية. ولأهمية الأسرة كدعامةٍ أساسية لا محيص عنها في البناء الاجتماعي اهتم الإسلام، قرآنًا وسنةً وفقهًا وقضاءً، بهذا الصرح الاجتماعي، فوضع له عن طريق التشريع والإرشاد والتوجيه مجموعة من القوانين المحكمة والنظم الشاملة والتشريعات الدقيقة الكفيلة بتنظيم البناء الأسري والمحافظة عليه، ومما تتجلَّى به العناية الإسلامية الفائقة بالأسرة الحضّ على الزواج الذي به تتكوّن الأسرة، ليكون كلٌّ من الزوجين مسئولًا عن هذا الميثاق الغليظ، يعملان على بقائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ونمائه، ويذودان أسباب وهنه واضطرابه، قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]. وسبيل ذلك أن يعرف كل طرفٍ دوره في هذه الغاية، وأن يؤدي واجبه فيه على الصورة المطلوبة المرتضاة، فقد أوجب الله على الزوج والزوجة حقوقًا لن يرضى الله سبحانه عن أحدهما، إلّا بقدر ما يؤدي منها لشريكه، وحين يتكافل كلاهما في أداء دور الرعاية، وتكون الحقوق والواجبات مراعاة ماثلة في البيت وخارجه، يتولّد الأمل, ويعظم الرجاء في الله بأن تستقيم الأسرة على النهج الذي ارتضاه الله لها، فتثمر ثمرتها الطيبة, وتورف بظلالها على المجتمع بأسره. وللمرأة في هذا كله دورٌ مركزيٌّ على غايةٍ من الأهمية، لا سبيل لأيّ مجتمعٍ أن يستغني عنه، ولا أن يسيء تقديره، أو أن يتهاون إزاءه, ولقد مرَّتْ على المرأة ظروف وأحقاب من التاريخ، سيمت فيه الظلم والخسف، إلى أن تداركتها رحمة الإسلام الذي أقرَّ لها بالكرامة الإنسانية، مثلها في ذلك مثل الرجل، فهي ليست من طينة مغايرة للذكر, ولا أحقر ولا أذل، فتحتقر وتمتهن وتذل. ولقد ذكَّر الإسلام البشرية جمعاء بأن الزوجات خلقن من أنفس أزواجهن في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وقال -عليه الصلاة والسلام: "إنما النساء شقائق الرجال" 1. ولقد خلع الإسلام على المرأة من المكرمات والمنن، ما رفعها إلى مقام عالٍ، وأمكنها من حقوقها كاملة من غير نقصان، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] , وهيأها خير تهيئة لتتحمل دورها، فكان للنساء في الإسلام من الفضل ما استأهلت به ثناء الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليهن، ودعوته إلى الرفق بهن وإكرامهن: "خياركم خياركم لنسائهم خلقًا" 2.   1 أخرجه أحمد في مسنده: 6/ 256 - 277. 2 رواه الترمذي في سننه، كتاب الرضاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ب- حقوق المرأة في الإسلام : - حق المساواة في الحقوق: وهو حق أصلي مقدَّسٌ، تنتفي معه كل الفوارق المصطنعة وأشكال التمييز الوهمي بين الجنسين، ومنطلق الإسلام في ذلك وحدة الأصل المعبرة عن وحدة الجوهر الإنساني، ولا يكون من معنى حينئذ لتنوع الجنس بين الذكر والأنثى إلّا للضرورة الطبيعية البشرية المقتضية لتواصل النوع، قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 3 - 4]، وقال سبحانه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. وعلى هذه القاعدة المتينة، شرَّع الإسلام من الحقوق ما به تتحقق الكرامة الإنسانية للمرأة والرجل على حد السواء، وفتح لها مجال العمل وتنمية الذات وتفتيق المواهب والقدرات إلى ما لا حدَّ له، وجعل ذلك مقياس التفاضل بينهما. هذه روعة الإسلام فيما وضعه للبشرية من دواعي النماء إلى الأفضل والأرقى, ما اتسعت له القدرة البشرية في العطاء والبذل، وليس فيه من حدٍّ ولا عائقٍ إلّا ما يكون انتكاسًا أو ارتدادًا عن هذا المبدأ الرباني، الذي لا يرى الفوارق بينهما إلّا بالعمل الصالح، والجهد المبرور، والبذل الخيّر، بما يرجع بالنفع العميم على البشرية جمعاء، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]. ومن الحقوق اللازمة التي نادت بها الشرائع السماوية، وأكدتها مقتضيات التطور في زمننا المعاصر، حق التربية والتعليم, وحق العمل, وحق المشاركة السياسية والاجتماعية. - الحق في التربية والتعليم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها, وعلمها فأحسن تعليمها, وغذاها فأحسن تغذيتها, كانت له وجاء من النار" 1.   1 رواه البخاري في باب الجهاد، ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 لا شكَّ أن التربية هي أساس كل تنشئة صالحة، والوسيلة إلى تنمية الطاقات النفسية والعقلية والجسدية للمُرَبَّى، وإن اتخاذ الوسائل الممكنة التي تساعد على هذه التربية وتعينها على إدراك غايات الصلاح، لهو جزء لا يتجزأ من عملية التربية، ومن أوكد هذه الوسائل، تعليم البنت وإنارة عقلها وقلبها، حتى تنشأ على الوعي السليم الصحيح بوجودها ودورها, وما هي مؤهلة له طبيعيًّا واجتماعيًّا للقيام به داخل الأسرة والمجتمع، وبقدر ما يتنامى هذا الوعي وتتطور المهارات المكتسبة، تكبر المسئولية ويعظم الدور المنوط بعهدة المرأة كشريكٍ فاعلٍ وعضوٍ في عملية التنمية الشاملة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، ولقد برزت المرأة في مراحل التعليم المختلفة بقدرات جد محترمة، وأثبتت جدراتها بأرقى الشهادات العلمية في مختلف الاختصاصات التي كانت إلى وقتٍ غير متأخر معدودة ضمن مشمولات الرجل وقصرًا عليه. لقد تعالت أصوات المصحلين في بلادنا الإسلامية، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، مناديةً بتعليم المرأة ورفع الجهل عنها، إذا كنا نروم حقًّا إصلاحًا اجتماعيًّا شاملًا يرقى بالمجتمع ويحقق نهضته، فالمرأة إلى ما هي مؤتمنة عليه بحكم خلقتها, وما أودعه الله فيها من ميزات وخصائص تلائم دورها في التربية والرعاية، وتمكنها من المشاركة الاجتماعية الإيجابية الفاعلة، فهي المدرسة الأولى للمجتمع بأسره، والمعلمة الأولى للبشرية، في رحمها وأحضانها تنشأ الحياة الإنسانية ويتحدد مصيرها. وفي تاريخنا الإسلامي الحافل، عديد الأمثلة على نساءٍ مسلمات جليلات برزن بعلمهن واجتهادهن، وضرب بهنَّ المثل في الإجادة علمًا وأدبًا وخلقًا، ومنهن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- التي روت الحديث, وفسرت ما أغلق على أفهام الناس من آي القرآن الكريم، وأدلت باجتهادها في عديد الأحكام الفقهية، علاوةً عن درايتها بالأنساب وقولها الشعر، وفي بلادنا تونس، مثلٌ آخرٌ لامرأة صالحة خيرة، جرى ذكرها على كل لسان، جمعت بين العلم الديني والأدب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الخلقي، هي الأميرة المحسنة عزيزة عثمانة، وقد أوقفت حياتها وريعها خدمةً لأبناء بلدها من المحرومين، فكانت نموذجًا رائعًا للمرأة المثالية في عطائها الإنساني, وإحساسها التضامني التكافلي، وقدرتها الفعّالة على الإسهام في حياة المجتمع التونسي الذي تفاعلت معه أخذًا وعطاءً. - الحق في العمل: وهو مبدأ قرآني جليل، رفعه الإسلام إلى مقام العبادة، وجعله عنوانًا على الصلاح والفلاح، ومرقاة إلى الدرجات العلى من الجنة. والمرأة غير مستثناة من هذه القاعدة الحقوقية الهامة لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال أيضًا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. ولقد أثبتت المرأة، عندها فُسِحَ لها باب العمل واقتحمت مجاله بكل جرأة واقتدار، أنها لا تقلُّ قيمةً ولا جدارةً ولا إمكانيات، بل استطاعت بما أودعه البارئ سبحانه فيها من سجايا الصبر وطول الأناة والموهبة العقلية، مستعينة في ذلك بإحساسها الإنساني الفطري العميق، أن تنجح وتبرز، وتناقس وتتألق في مجالات عدة، جنبًا إلى جنبٍ مع شقيقها الرجل. ولسنا ندَّعي شيئًا، عندما نثني على بعض التجارب المتقدمة في بعض بلداننا العربية والإسلامية، وأخص بالذكر التجربة التونسية1 التي نجحت في مجال تنمية العنصر البشري، وإدماج المرأة كشريكٍ أساسيٍّ وفاعلٍ بجانب الرجل، في مشروع التنمية الشاملة التى تقدّمت فيه البلاد التونسية العربية المسلمة   1 يُعَدُّ صدور مجلة الأحوال الشخصية حدثًا بارزًا في تاريخ تونس الحديث "13 أوت 1956م"، خاصةً على مستوى التشريعات المتعلقة بتثبيت قواعد الاستقرار والازدهار لحياة الأسرة، وتمكين المرأة التي تمثل نصف المجتمع من حقها في التعليم والشغل والمشاركة في الحياة العامة ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أشواطًا لا بأس بها. وفي الرؤية التونسية، كما لا يخفى، مزجٌ حكيمٌ بين خصوصيات الانتماء العربي الإسلامي، كثابتٍ من الثوابت الأساسية في مجال التشريع والإنجاز، وبين دواعي التطور والانفتاح كخيارٍ حضاريٍّ تستوجبه متطلبات العصر الحديث، وهذا لا ينكره عاقل حصيف. لقد ضمنت مختلف التشريعات التي صدرت بتونس منذ العهد الأول للاستقلال للأسرة أسباب استقرارها وتوازنها، بما أرسته من الحقوق والواجبات المبنية على أسباب من المسئولية المتبادلة والتعاون المثمر بين أفراد الأسرة، كما أَوْلَتْ هذه التشريعات عنايةً بالمرأة وأمكنتها من مزاولة دورها داخل الأسرة وخارجها بكل ثقة وكفاءة، وارتقى العهد الجديد في تونس منذ 7 نوفمبر 1987م بتوجيهٍ من سيادة رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي -حفظه الله ورعاه- بهذه الحقوق إلى أعلى مستوياتها, بتطوير التشريعات والقوانين1، تدعيمًا لدور الأسرة، وضمانًا لدواعي التماسك فيها؛ لأن في قوتها وتوازنها قوة للمجتمع وتثبيتًا لاستقراره، وهي رؤية حضارية مستمدَّةٌ من جوهر ديننا الحنيف وروحه السمحة، في تفاعل إيجابي, وتناغمٍ سليمٍ مع مقتضيات العصر وضروراته. - الحق في المشاركة السياسية: لقد شاركت المؤمنات، شأنهن في ذلك شأن الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعًا، في مبايعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذ -صلى الله عليه وسلم- عليهن العهد، كما على الرجال، على السمع والطاعة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]. وفي هذا أبلغ مثال وأفصح مقال، على ما يوليه الإسلام من   1 ومن أمثلة هذه التنقيحات الجريئة، ما جاء به الفصلان "32 - 32" مكرر من مجلة الأحوال الشخصية، من ضبط إجراءات إضافية لضمان حسن التقاضي من جهة، وتهيئة المناخ لفض الخلاف بين الزوجين بالحسنى، وذلك بإحداث خطة قاضي الأسرة الذي يتولى السعي بالإصلاح وتقريب شقة الخلاف بين الطرفين, مراعاةً لجانب الأبناء، وحفاظًا على استقرار الحياة الأسرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قيمةً بالغة لدور المرأة في المشاركة في الحياة العامة، ومنها الحياة السياسية، واعتبر الإسلام المسئولية في كل أبعادها، مشتركة بين الجنسين الرجل والمرأة، كل فيما هو موكول له, ومؤهل إليه، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "الرجل راعٍ في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" 1. وقد جاءت التشريعات المعاصرة لتأكيد هذا الحق وتثبيته، وإزالة المعوقات المعنوية والمادية، التي تمنع المرأة من حقها في التعبير عن رأيها، والإصداع بموقفها، مثلها في ذلك مثل الرجل، وقد أمكنها ذلك من دخول المجالس الوزارية والنيابية والبلدية، والمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وهي في ذلك جديرة بما حظيت به بفضل من عزمها وجهدها وكفاءتها. إن المرأة المعاصرة، بما اكتسبته من مهاراتٍ مضافةٍ إلى سابق مهارتها في الرعاية والحضانة وإدارة شئون البيت، قد اكتملت أهليتها بما توفر لها من أسباب الرقي المعنوي والمادي, ويبقى على المجتمع الدولي أن يوفِّر الضمانات اللازمة التي تحمي هذه المكتسبات من أشكال التجني والتعدي، ومن مزالق الانحراف التي تحولّت من خلاله المرأة إلى منتوج إعلاني ولافتة إشهارية رخيصة, أو إلى موضوع جنسيٍّ مبتذلٍ يلغي عقلها وينفي إنسانيتها, وهي مفارقة عجيبة، في زمن ترتفع فيه أصوات المصلحين الداعية إلى إحلال الحرية والكرامة محل الاستعباد والدناءة، تسعى في المقابل معاول الهدم والتخريب إلى الارتكاس بالمرأة إلى مستوياتٍ حقيرةٍ من الدعارة وصنوف الابتزاز الجسدي.   1 رواه البخاري في كتاب النكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 جـ- حقوق الطفل في الإسلام : إن العناية التي يجب أن تصرف لها الدول والحكومات جهودها وإمكاناتها، لا بُدَّ لها من أن تتوجه فيما تتوجه، إلى الطفل باعتباره الأحوج إلى الرعاية، بحكم ضعف خلقته وعجزه عن القيام بنفسه دون الاستناد إلى غيره، وعلى وفق العناية به يتحدد مصير الشعوب قوةً وضعفًا، وترتسم ملامح إنسان الغد, وتصاغ شخصيته المستقبلية؛ فالطفل كما يقال: هو نصف الحاضر وكل المستقبل. إن استعمالات الطفل في غير ما هو مؤهل للقيام به -من أعمالٍ بدنية شاقة، واستغلاله في غايات جنسية دنيئة، دُنِّسَتْ فيه طهارته, ودمرت براءته, وقضت على مواهبه الفطرية الطبيعية، وحولته إلى كتلة سوداء من الغضب والتمرد، وجنحت به إلى ظلمات الانحراف العقلي والنفسي والشذوذ السلوكي، ونزلت به إلى دركات الانحطاط والتدني- نبهت المجتمع الإنساني إلى ضرورة تلافي هذا الوضع المزري البائس، وإيلاء الطفولة حقها في العناية والرعاية, والأخذ بيدها منذ سن مبكرة، بما يطوّر مواهبل الطفل وينمي عقله وجسده, ويصون نفسه, ويهيئه التهيئة اللازمة، ليكون عضوًا منتجًا فاعلًا, وعنصرًا صالحًا إيجابيًّا في أسرته ومجتمعه. ومن الحقوق الأساسية المسداة إلى الطفل: - الحق في الرعاية الحسنة والتنشئة الصالحة: إن الطفل، منذ لحظة تكونه جنينًا في بطن أمه، فولادته، إلى أن يشب ويشتدَّ عوده, ويغدو قادرًا على القيام بنفسه، هو أمانة بين يدي أبويه, أو من هو في كفالته. وفي كل هذه المراحل، وضع الإسلام من التشريعات والقواعد ما يحقق الرعاية الكاملة التامة, بما يضمن التنشئة الروحية والجسدية المتوازنة التي تعدّه ليكون رجلًا صالحًا لأمته ووطنه, وقد نبَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن المولود طينة طيّعة لزجة، يعركها أبواه إن خيرًا فخير, وإن شرًّا فشر, فقال: "ما من مولود إلّا يولد على الفطرة, فأبواه يهوّدانه, أو ينصِّرَانه, أو يمجِّسَانه" 1. ولقد بلغ اهتمام الإسلام بالطفل مبلغًا عظيمًا، من ذلك عنايته باختيار التسمية الحسنة التي يعدها من شروط التربية الحسنة، وفي الحديث: "أحسنوا أسماءكم" 2. وأثبت علماء النفس في   1 رواه البخاري في كتاب الجنائز. 2 رواه أبو داود والدارمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 زمناننا، ما لإطلاق الاسم على المواليد من تأثيراتٍ نفسيةٍ إيجابية أو سلبية، بحسب حسن الاختيار أو إساءته, وحظي الطفل في التشريعات الإسلامية بحظْوَةٍ لا نظير لها، تترجم عن مدي ما يوليه ديننا الحنيف من أهمية بلغت ذروتها، حينما وجّه عنايته إلى كل الجوانب المتصلة من قريب أو بعيد بحياة الطفل، سواء منها النفسية أو الروحية أو العقلية، بتحميل الأبوين مسئولية حضانته وتربيته ورعايته رعاية صحية متكاملة، وتعليمه وتنشئته على مكارم الأخلاق، دون التغاضي عن الجوانب الجسدية واحتياجات الطفل في ملبسه ومضجه وغذائه, ووقايته من الأمراض، حتى يكتمل نمو الطفل في إطار محكم متوازن، بعيدًا عن العقد والعلَّات النفسية والجسدية. ولقد أولى المجتمع الدولي في أواخر القرن المنصرم، اهتمامًا بالغًا بالتشريعات الموجهة إلى الطفل، من أجل حمايته مما يمكن أن يلحقه من أشكال الامتهان النفسي والجسمي، التي قد تدفعه إلى التشرد والضياع عند فقدان السند، وأصدرت الهيئات العالمية المختصة المواثيق والعهود التي من شأنها أن تضمن للطفل أسباب النمو الطبيعي السليم، وتحميه من كل مزالق الانحراف والزيغ. ولم يغفل المشرِّع التونسي عن إيلاء الطفولة أهمية قصوى، تشريعًا وتطبيقًا، وإحاطة وتربية وعناية، لتكون هذه السياسة المتبعة علامة مضيئة في تاريخ تونس الحديث, وتُعَدُّ تونس كذلك، من الدول التي سبقت إلى المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل, وقد أصدرت مجلة مختصة، هي مجلة حماية الطفل التونسي، لتكون مكسبًا لحقوق الطفل في بلادنا1.   1 بمناسبة إصدار مجلة حماية الطفل التونسية, يوم 9نوفمبر 1995، أبرز رئيس الجمهورية التونسية قيمة هذا الحديث, مبينًا في خطابه الذي ألقاه بهذه المناسبة، ما لتكريس حقوق الطفل على أرض الواقع من حفاظ على متانة الروابط العائلية وتماسك الأسرة، وتخفيف من وقع المتغيرات السلبية الناتجة عن مظاهر التفكك العائلي، وعن الآفات الاجتماعية كالانحراف والجريمة والبطالة والإخفاق المدرسي، بمعالجة العوامل المؤدية إلى هذه الظواهر, والحدِّ من انعكاساتها السلبية على الصحة النفسية للطفولة والشباب, وعلى توازن الأسرة والمحتمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ومن أبرز المبادئ الواردة بهذه المجلة "والتي احتوت على تسعة عشر فصلًا": - اعتبار مصالح الطفل الفضلى في كل الإجراءات والقرارات التي تتخذ تطبيقًا لأحكام المجلة وفق ما يضبطه الفصل الرابع من المجلة. - إيلاء أهمية قصوى لمسئولية الوالدين, وتشريكهما بصفة فعّالة في كل مراحل التدخل التي قررتها المجلة في فصولها 7 - 8 - 9. - احترام آراء الطفل، وتشريكه وجوبًا في كل التدابير الاجتماعية والقضائية التي تُتَّخَذُ لفائدته، كما ضبط ذلك الفصل 9 - 10 من المجلة. - حق الطفل الذي تعلقت به تهمة، في معاملة ملائمة لوضعه، تضمن كرامته وشرفه, كما أوصى المشرِّع بتغليب التدابير الوقائية والتربوية على غيرها من التدابير الزجرية، تيسيرًا لإعادة إدماجه اجتماعيًّا1. - الحق في التعليم: دعا الإسلام، باعتباره دين كتاب وحضارة، إلى إيلاء العلم والعلماء الدرجة المرموقة، ورفع منزلتها إلى مقامٍ عالٍ، حتى جعلهم ورثة الأنبياء، وهداة الأنام، يرجع إليهم الحاكم والمحكوم في بيان حقيقة الشرع والاستهداء بأحكامه. وعلى هذه النظرة من التقديس والتبجيل، أورفت الحضارة الإسلامية بظلالها على العالم قرونًا من الدهر، وكانت لها المزية العظمى فيما وصلت إليه الأمم المتقدمة اليوم من إنجازات علمية وحضارية. ولا يكون العلم إلّا بالتعلم, من أجل ذلك ازدهرت الحركة العلمية في الأوطان الإسلامية في عهودها المشرقة، وانتشرت دور التعليم والمكتبات في   1 انظر الفصل "12" والفصل "13" من مجلة الطفل التونسي وما بعدهما, وهي فصول تنص في مجملها على احترام الطفل في نفسيته وجسده, ومعالجة انحرافه بالطرق الوقائية التربوية، وإعادة إدماجه، في المجتمع، دون الحاجة إلى العقوبات الزجرية الردعية التي قد تنهك الطفل وتلحقه بصنف المجرمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 كل مكان، وأقبل طلبة العلم بأعداد كبيرة ينهلون من العلم الديني والدنيوي، ويجلسون في حلقات التدريس حول مشائخهم وأساتذتهم يتلقون عنهم طارف العلم وتالده. وفي الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، ومواعظ العلماء، من النصوص التي تحثّ على العلم وتدعو إليه، ما لا يحصره عدٌّ ولا ينتهي إلى حد, وكان أول ما افتتح به القرآن من الآيات والسور قول الله -تبارك وتعالى- في أول سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]. إن طلب العلم في الإسلام فريضة على الذكر والأنثى، تأثم الأمة بتركه والتهاون في الأخذ بأسبابه, والنصوص من قرآنٍ وسنة، تتعاضد كلها في الترغيب في العلم، وترتيب الجزاء العظيم عليه، حتى سمت به إلى درجة العبادة, بل فضَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العالم على العابد، في قوله: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" 1, وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. إن التعليم يُعَدُّ من الحقوق الأساسية التي لا غنى عنها في كل عصر ومصر، والغرض منه تربية الإنسان منذ بواكير عمره في ملكاته النفسية والذهنية، وتنمية مداركه العقلية، وتهذيب مواهبه الفطرية وميولاته الطبيعية، معاضدة لدور الأسرة والمجتمع في إعداد أجيال المستقبل, وتأهيلهم نفسيًّا وعقليًّا للاضطلاع بالمسئوليات التي ستوكل إليهم. ولقد أختارت عديد الدول في العالم اليوم، أن يكون التعليم إجباريًّا, غايتها في ذلك القضاء على الأمية، التي كانت لعهد غير بعيد مستفحلة في عديد الأوساط والشرائح الاجتماعية، مما يعوق قدرة الشعوب على بلوغ أهدافها في التنمية والتقدم. وإن تخلّفت بعض الشعوب العربية والإسلامية في اللحاق بركب الأمم   1 رواه الترمذي وحسنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المتحضرة في هذا المجال وغيره، وعذرها في ذلك أنها لم تتخلص من الرواسب الاستعمارية إلّا في زمن متأخر "النصف الثاني من القرن العشرين"، فإنها لم تتوان عن استجماع قواها وقدراتها المتاحة من أجل تعميم التعليم على أبنائها، وتطوير مناهجه بإدخال العلوم الصحيحة التي لا بُدَّ منها للاستجابة للحاجيات المتنامية للمجتمعات المعاصرة. وتونس، من هاته البلدان التي لم تدَّخر جهدًا، رغم قلة ذات اليد, ومحدودية الإمكانيات، في صرف كامل طاقاتها منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى تعميم التعليم ونشره، ويحدوها في ذلك طموح لا متناهٍ إلى التعويل على الرأسمال البشري كرصيد لازم لأي تنمية مرتجاة, وتقدُّمٍ مأمول؛ فالمدرسة من منظور تونسي، هي المحضن أو الرحم الذي تزرع فيه بذور الشخصية المطلوب تشكليها، وتتخلق وتنمو به قابليات الإنسان، وتكوّن شخصيته، وتنمي مهاراته، وتصوغ ثقافته، ولقد نجحت تونس، في رفع هذا الرهان أيما نجاح، واستطاعت أن تخطو خطوات عملاقة نحو الاعتماد على الكفاءات الوطنية، وأن تفيد بذلك غيرها من الدول العربية والإسلامية الشقيقة, بما لها من الخبرات الجيدة في شتّى الاختصاصات التعليمية والخبرات الفنية والتكنولوجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 3 - حق الإنسان في محيط نظيف وبيئة طبيعية سليمة : إن الاهتمام بالبيئة أو المحيط الذي يعيش فيه الإنسان وكل الكائنات الحية، مصدره الانتباه إلى جملة التأثيرات السلبية الناجمة عن الاستخدامات المفرطة للصناعات الكيماوية والتكنولوجية والنووية، وما تفرزه من نفاياتٍ صلبة أو غازية, من شأنها أن تلوّث البيئة, وتعكّر الحياة الطبيعية لكل الكائنات الحية في البحار والمحيطات، وفي الأجواء، وعلى سطح اليابسة, ويُرْجِعُ علماء البيئة التغيّرات المناخية واختلال بعض التوازنات الإيكولوجية، إلى فساد الهواء المستنشق, والماء المستعمل, بسبب الانبعاثات الغازية السامَّة, والإشعاعات النووية، واختلاط منابع المياه بالمواد الكيماوية الخطيرة، مما يهدد كوكبنا في توازنه بأخطار جسيمة قد تؤثر على الحياة فيه. وقد نبهنا الإسلام إلى أن الله قد خلق الكون على أحسن صورة، وأوجد فيه أسباب الحياة الكاملة، ليكون مهيئًَا لِأَنْ يعيش فيه الإنسان ويعمّره، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وهو خير الوارثين. قال تعالى مخبرًا عن نزول آدم إلى الأرض: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36]. هذا، وإن واجب الاستخلاف والإعمار في الأرض كما أراده الله لآدم وذريته من بعده، يقتضي فيما يقتضي، المحافظة على وسائل الحياة فيها، وعدم السعي فيها بالإفساد؛ قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقال أيضًا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 77]، وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]. وأوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثل ما أوصى به القرآن الكريم، بضرورة الإعمار وترك وسائل الخراب والدمار فقال: "إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة, فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 استطاع أن ألّا تقوم حتى يغرسها فليفعل" 1، ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن التبوّل أو التغوّط في الماء الراكد, أو في طريق الناس, فقال: "اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان؟ قال: الذي يتخلّى في طريق الناس أو ظلّهم" 2. وهذه الأمثلة من نصوص القرآن والسنة النبوية الشريفة، تتعاضد لترسي خلقًا مثاليًّا وسلوكًا نموذجًًّا، يُقِرُّ بأن ما في الأرض وعليها هو من فيض نعم الله على الإنسان، وأن واجب الشكر يفرض عليه أن لا يضيع هذه النعم, وأن لا يسيء استعمالها بالإسراف والإفساد؛ فالإفساد هو جزء من هذا الكون المترامي الأطراف، من عناصره يتكوّن جسم الإنسان، ومن خيراته يعيش، وإليه يعود عند الموت، قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]. إن صيحات الفزع المتوالية هذه الأيام، والصادرة عن الهيئات والجمعيات المهتمة بالبيئة, والمعبر عنها بالجمعيات "الخضر"، تحوّلت إلى همٍّ سياسيٍّ وانشغال أممي، عبَّرت عنه المؤتمرات والندوات الدولية، وأشهرها الندوة الأممية حول البيئة والتنمية التي انعقدت بـ"ريودي جنيرو"3. وهذه الندوات تصب كلها في مجموعة من الاهتمامات، التي تراها كفيلة بتعديل السلوك البيئي لدى الإنسان، بما يعيد التوازنات الأيكولوجية، وذلك بعملٍ طويل المدى يستهدف التحسيس والتوعية بكل الوسائل الممكنة, وجوهر هذه الاهتمامات نلخصه في المحاور التالية: - تحويل أنماط الاستغلال، والإنتاج والاستهلاك والتصرف المفرط، إلى ترشيدها السلوك نحو الاعتدال باعتبار الحاجيات اللازمة. - تغيير نمط التنمية الصناعية بإرساء مشاريع تراعي المواصفات البيئية, وتحافظ على المحيط من كل مخاطر التلوث.   1 رواه أحمد في مسنده: 3/ 191. 2 رواه مسلم. 3 في شهر جوان من سنة 1992. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 - حماية صحة الإنسان في المحيط الذي يعيش فيه، وذلك بالحفاظ على التوازنات البيئية، من هواء نظيف وماء صالح للشراب وغذاء طبيعي سليم .. - معالجة المشاكل البيئية الحاصلة، والمعبّر عنها بتلوث المحيط، بتقليص تأثيراتها الخطيرة على حياة الكائنات. ولن تتحقق هذه الأهداف، إلّا بحصول تكاتف للجهود الدولية نحو مصالحة حقيقة مع البيئة، من شأنها أن توقف النزيف، وتعيد التوازنات إلى سالف عهدها, وقد أرست المنظمات والهيئات المختصة قواعد لا بُدَّ منها، حتى يحقق الجهد العالمي أغراضه وأهدافه في الحد من خطورة التلوث الحاصل, والتغيرات المناخية الخطيرة والناتجة عن أسباب كثيرة، عدَّدْنَا بعضها، ومن أخطرها ظاهرة الانحباس الحراري المسبب لخروقات بطبقة الأوزون التي تحمي الغلاف الأرضي من الإشعاعات الشمسية المؤذية. والبلدان العربية والإسلامية تبذل بدورها جهدًا لا يستهان به في هذا المجال الحيوي الهام، وخصصت هياكل وهيئات تعنى بحماية البيئة والمحيط، واقتطعت من ميزانياتها جزءًا لا بأس به للغرض, وشاركت بدورها في الندوات الإقليمية والعالمية، وانخرطت في تكريس السياسة الدولية حول البيئة والمحيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 5 - خاتمة البحث : إن مكتسبات الإنسان المعاصر في مجال الحقوق والواجبات، إنما هي ثمرة جهاد طويل, ونتاج نضال مرير للشعوب عبر تاريخها الطويل, وهي تعبير عن عصارة الثقافات والحضارات التي توالت، واستنارت بهدي الرسالات السماوية. وفضل الإسلام على الإنسانية، باعتباره الرسالة الخاتمة الخالدة عظيم؛ فقد أنقذ البشرية من مهاوي الضلال وظلمة الأهواء، وما ارتكست فيه من عفن البغضاء والعداوات المفضية إلى الحروب والنزاعات, وإهدار القيم الإنسانية النبيلة, قال -سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103]. ولا يزال نضال الإنسان متواصلًا مستمرًّا، تبعًا لطموحه اللامحدود، في مزيد تثبيت حقوقه وتوسيع مداها، انتصارًا للقضايا العادلة للشعوب والأفراد، وصونًا لها من كل مخاطر الردة والانتكاس. إن المجتمع الدولي مطالب اليوم، أكثر من أيِّ وقت مضى، لتحمّل مسئولياته الجسيمة في فض النزاعات وتحقيق السلام، ومقاومة مظاهر التمييز والعنصرية، والوقوف إلى جنب الشعوب المضطهدة لنيل حقوقها في الحرية وتقرير المصير، وفق ما نصَّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وتعد قضية الشعب الفلسطيني العادلة في استرجاع أراضيه وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، قضية إنسانية متأكدة ذات أولوية، حقنًا للدماء البشرية المهدورة، وحماية للأنفس البريئة مما يقع عليها من أبشع صور الاضطهاد والقتل والتشريد والتدمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 إن حوار الأديان والحضارات، هو الجسر الذي يمكن أن تتخطّى به الإنسانية آلامها، والبلسم الذي يتسنَّى لها به أن تداوي جراحها، بروحٍ من التسامح والاعتدال والوسطية، وبعيدًا عن أشكال التعصب الأعمى المقيت، من أجل حياة إنسانية أكثر مساواة وعدالة وسلامًا وأمنًا. وختامًا، لا يسعنا كعلماء وخبراء ومختصين، في إطار هذا المجمع العلمي الإسلامي المهيب، إلّا أن ندعم كل الجهود الخيرة، ونبارك كل العزائم الجادة، المؤمنة إيمانًا عميقًا بقضايا الإنسان, وسعيها لتثبيت حقوقه على كل المستويات التشريعية والتطبيقية، ليظل الإنسان -كما أراده الله- كائنًا مكرمًا مفضلًا في وجوده المادي والمعنوي. ولا يفوتني أن أثني على الجهود العلمية الجبارة لمجمعنا، في إيلائه لقضية حقوق الإنسان المسلم حيزًا كبيرًا من أعماله، بتشريك الدول الأعضاء من خلال ممثليهم، في إبداء وصياغة القرارات والإدلاء بالبحوث العلمية الدقيقة. وأعبّر عن أملي في أن تنتهي أشغال دورتنا هذه، إلى قرارات تستجيب لحاجات شعوبنا العربية والإسلامية، في أن يكون لها ميثاقها وإعلانها، المعتبر لخصوصياتها العقدية والثقافية والحضارية، دون أن يكون ذلك انزواء عما يشهده العالم اليوم من تطورات، ودون أن يؤدي إلى انطواء على الذات، أو اصطدام بين الحضارات الإنسانية. إن رسالة الإسلام، بتوجهها إلى الناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، أفرادًا وشعوبًا وأممًا، قد استجابت ولا زالت إلى نداء الفطرة الإنسانية، وإلى صوت السلام المختلج في أعماق الإنسان أينما كان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208] , وما مجموع الحقوق التي شرعها ديننا، إلّا ضرورات لا غنى للبشرية عنها؛ لأنها تمثل التكريم الإلهي للإنسان، الذي أسجد له الله ملائكته الكرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ودعوتنا إلى الإنسانية جمعاء، أن يجلّي الله بصيرتها، ويرفع حجب الغشاوة عنها، لتهتدي إلى سواء السبيل، وتؤدي على خير وجه رسالة الاستخلاف المستأمنة عليها، لتسعد البشرة جمعاء، وتهنأ بنعمة السلام النفسيّ والماديّ، والله الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 خلاصة البحث : 1 - تمهيد : شرع الإسلام من المبادئ، وسنَّ من القيم، ما يكفل الحقوق الكاملة التي توجبها الحياة الإنسانية وتفرضها الكرامة البشرية على هذه الأرض, ولم تحظ هذه الحقوق في أية شريعة من الشرائع السماوية أو النظم الأرضية بمثل ما حظيت به في شريعة الإسلام, فقد ارتقت بها بأن جعلتها من الواجبات الدينية المتحتمة التي يحرم الإخلال بها أو الاعتداء عليها, قال سبحانه في محكم تنزيله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. إن ما يبدو في العصر الحديث، أنه اهتمام واسع شامل لقضايا حقوق الإنسان، تناولته أنظار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ القرن السابع عشر الميلادي، وحبَّرت في شأنه المواثيق والعهود، قد بقي في حقيقة الأمر منحصرًا طيّ القوانين والدساتير, واكتفي بالتعبير عنه في شكل مبادئ عامة وقواعد مجملة. ولم تتدرج العناية به إلى المستوى الدولي، إلّا بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هذا, وإن الصراع القائم اليوم، بين أنصار العولمة وما تحمله في نظرهم من بشائر الانفتاح وتداخل المصالح بين الشعوب, وتحسين أنماط عيشها، وبين أنصار المحافظة والتشبث بالنظام القديم، يجعل إشكالية حقوق الإنسان تأخذ منعطفًا جديدًا وخطيرًا في الوقت نفسه، وتطرح على الشعوب تساؤلاتٍ مصيرية، أهمها: 1 - مدى قدرة الثقافات المحلية على الصمود والثبات أمام التيار القوي للعولمة. 2 - كيف السبيل إلى المحافظة على الخصوصيات التاريخية والثقافية لشعوب العالم، في عالمٍ يسير نحو الاندماج عَبْرَ التكتلات الاقتصادية والسياسية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 2 - حقوق الإنسان في الإسلام : 1 - الحقوق الأساسية : لا شكَّ أن التربية النفسية والعقلية والسلوكية السليمة الصحيحة، شرط ضروري ولازم لتهيئة التربة الصالحة التي نريد أن نبذر فيها بذور الحق والواجب، حتى ينشأ في الأجيال المتعاقبة الوعي الكامل بمستلزمات الحياة البشرية؛ من حرية وكرامة ومساواة وعدالة. ولقد كانت الفترة المكية زمن البعثة، والتي تواصلت زهاء ثلاث عشرة سنة، قبل هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، موجَّهَةً توجيهًا كليًّا إلى التربية العقدية, والتأصيل الإيماني, والتهذيب النفسي والعقلي والأخلاقي، وفق أسلوب من التدرج يراعي الخاصيات التي تتطلبها كل مرحلة من مراحل الدعوة إلى الدين الجديد, ثم تلت هذه الفترة الهامة، مرحلة التشريع للمجتمع الجديد الناشئ, وفق ضوابط أخلاقية وسلوكية، ميزتها الشمولية لكلِّ جوانب الحياة الفردية والجماعية، وقاعدتها المساوة بين كل الناس, دون التفرقة بينهم لدواعي جنسية أو عرقية أو لغوية، وميزانها العدل في ترتيب الحقوق والواجبات على حسب ما تحتمله الطاقة البشرية من غير إسراف ولا تقصير. ومن الحقوق الإنسانية الأساسية التي أحاطها الإسلام بسياج الحرمة والقداسة: أ- حق الحياة: وهو من أقدس الحقوق البشرية على الإطلاق، وأولاها بالإثبات والحماية، بدليل أن الشرائع السماوية أجمعت على إقرار هذا الحق الأصلي، واعتباره من أوكد الكليات الخمس الواجب حفظها ومراعاتها. والإسلام حرَّم تحريمًا مشددًا قتل النفس البشرية بغير حقٍّ، وسدَّ كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعريضها إلى الخطر بأيّ شكل من الأشكال؛ قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]. ويستتبع الإقرار بمبدأ حق الحياة، تثبيت مجموعة من الحقوق المتفرعة اللازمة، بقصد إحاطة هذا الحق الأصليّ بمجموعة من الضمانات الحمائية، اقتضتها ظروف تطور الحياة في مختلف جوانبها، وتعدد المخاطر المحيطة بها, ومن بينها: - حق الضمان الاجتماعي في توفير الأسباب الدنيا لحياة بشرية كريمة، وتأمين وسائل العيش، ومنها: حق الشغل. - حق الرعاية الصحية، بتوفير وسائل الوقاية والعلاج من الأمراض المهددة للصحة البشرية. - حق التغطية الاجتماعية، وكفالة مختلف الأصناف والشرائح المحتاجة إلى الدعم الاجتماعي، سواء بتوفير الأطر والهياكل لرعاية الأيتام والشيوخ العجَّز وفاقدي السند؛ ذوي الإعاقات الذهنية والبدنية، أو بتقديم المساعدات والمنح المادية والعينية لتخفيف وطأة الحياة عنهم. - حق توفير المرافق الدينية والثقافية والترفيهية وسائر الأنشطة التي تستجيب لحاجيات الإنسان الروحية والنفسية والجسدية؛ كالمساجد والجوامع والمدارس والمكتبات والفضاءات الرياضية والترفيهية. ب- حق الحرية: إن الحرية هي التعبير الطبيعي عن نزوع الذات البشرية إلى الانعتاق من كل المقيدات والمكبلات التي تحول دون تحقيق ذاته وتنمية طاقاته العقلية والنفسية والوجدانية, وهي تكتسب من القدسية والحرمة ما يجعلها قرينة التكليف والمسئولية في الدساتير والشرائع السماوية؛ قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والحرية تتفرع إلى ضروبٍ وأنواع متعددة، تشمل كل جوانب الحياة البشرية الروحية والعقلية والمادية، ولا تستثني أيَّ حقٍّ من الحقوق المترتبة عليها، إلّا ما تستوجيه شروط ولوازم الحياة الجماعية في حال التعارض بين الحق الفرديّ وحق المجموعة عليه. - حرية التديُّن: وهو حق الإنسان في أن يختار دينه وعقيدته من غير إكراهٍ ولا إجبار، لاعتبارٍ أساسي؛ هو حاجة الإنسان الماسة إلى تلبية حاجياته النفسية الوجدانية؛ لأن أصل كل حرية ينطلق من داخل النفس البشرية، فإذا ما تَمَّ لها ذلك, توجهت إلى العالم الخارجي في قوةٍ وتوازنٍ لتحقق ذاتها وفعلها الحضاري. - حرية التعبير: وهي الحق في أن يعلن الإنسان عن جملة أفكاره وقناعاته التي يعتقد فيها الصواب والصلاح له ولغيره, وهو حقٌّ ينتج عن عضوية الإنسان داخل المجتمع الإنسانيّ باعتباره جزءًا منه، ومسئولًا مكلفًا مدعوًّا إلى الإسهام فيه برأيه وفعله، إثراءً للتجربة الإنسانية, وتحصينًا لها من العثرات والنواقص. جـ- حق المساواة: دعا إلى المساواة بين بني البشر, وإلغاء صنوف التمييز من منطلق وحدة الأصل البشري الذي يعود إلى آدم -عليه السلام، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كلكم من آدم وآدم من تراب" 1، وقال أيضًا: "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 2. وقد جاءت التشريعات الإسلامية معتبرة لهذا الحق الأصليّ في المساواة بين جميع الناس أمام القانون، لا مجال للحظوة الخاصة, ولا لدواعي القربى، ولا للعصبية العرقية أو الدينية.   1 رواه أحمد في مسنده: 3/ 367. 2 رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 2 - الحقوق الاجتماعية : أ- حقوق المرأة: - حق المساواة: وهو حق أصلي مقدَّسٌ، تنتفي معه كل الفوارق المصطنعة وأشكال الَمَيْزِ الوهميّ بين الجنسين، ومنطلق الإسلام في ذلك وحدة الأصل المعبِّرة عن وحدة الجوهر الإنساني، ولا يكون من معنًى حينئذ، لتنوع الجنس بين الذكر والأنثى إلّا لضرورة الطبيعية البشرية المقتضية لتواصل النوع؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 3، 4]، وقال سبحانه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. إن تعليم البنت وإنارة عقلها وقلبها، أمرٌ لازمٌ حتى تنشأ على الوعي السليم الصحيح بوجودها ودورها, وما هي مؤهلة له طبيعيًّا واجتماعيًّا للقيام به داخل الأسرة والمجتمع, وبقدر ما يتنامى هذا الوعي وتتطور المهارات المكتسبة، تكبر المسئولية ويعظم الدور المنوط بعهدة المرأة؛ كشريكٍ فاعلٍ وعضوٍ في عملية التنمية الشاملة على كلِّ المستويات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية, ولقد برزت المرأة في مراحل التعليم المختلفة بقدرات جد محترمة، وأثبتت جدارتها بأرقى الشهادات العلمية في مختلف الاختصاصات التي كانت إلى وقتٍ غير متأخر معدودة ضمن مشمولات الرجل وقصرًا عليه. - حق العمل: إن المرأة غير مستثناةٍ من هذه القاعدة الحقوقية الهامة لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال أيضًا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. ولقد أثبتت المرأة، عندما فُسِّحَ لها باب العمل, واقتحمت مجاله بكل جرأة واقتدار، أنها لا تقل قيمةً ولا جدارةً ولا إمكانياتٍ، بل استطاعت بما أودعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 البارئ سبحانه فيها من سجايا الصبر وطول الأناة والموهبة العقلية، مستعينةً في ذلك بإحساسها الإنساني الفطري العميق، أن تنجح وتبرز، وتنافس وتتألق في مجالات عدة، جنبًا إلى جنبٍ مع شقيقها الرجل. - حق المشاركة السياسية: اعتبر الإسلام المسئولية في كل أبعادها سواء منها الاجتماعية أو السياسية، مشتركة بين الجنسين الرجل والمرأة، كلٌّ فيما هو موكول له ومؤهل إليه، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "الرجل راعٍ في أهله بيته, وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها, وهي مسئولية عن رعيتها ... ألا كلكم راعٍ, وكلكم مسئول عن رعيته" 1. ب- حقوق الطفل: - الحق في الرعاية الحسنة والتنشئة الصالحة: إن الطفل، منذ لحظة تكوّنه جنينًا في بطن أمه، فولادته، إلى أن يشبَّ ويشتدَّ عوده, ويغدو قادرًا على القيام بنفسه، هو أمانةٌ بين يدي أبويه, أو من هو في كفالته, وفي كلِّ هذه المراحل وضع الإسلام من التشريعات والقواعد ما يحقق الرعاية الكاملة التامة بما يضمن التنشئة الروحية والجسدية المتوازنة التي تُعِدُّهُ ليكون رجلًا صالحًا لأمته ووطنه. - الحق في التعليم: إن التعليم يُعَدُّ من الحقوق الأساسية التي لا غنى عنها في كل عصر ومصر، والغرض منه تربية الإنسان منذ بواكير عمره، في ملكاته النفسية والذهنية، وتنمية مداركه العقلية، وتهذيب مواهبه الفطرية وميولاته الطبيعية، معاضدةً لدور الأسرة والمجتمع في إعداد أجيال المستقبل، وتأهيلهم نفسيًّا وعقليًّا للاضطلاع بالمسئوليات التي ستوكل إليهم.   1 رواه البخاري في كتاب النكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ولقد اختارت عديد من الدول في العالم اليوم، أن يكون التعليم إجباريًّا، غايتها في ذلك القضاء على الأمية، التي كانت لعهد غير بعيد، مستحلفة في عديد الأوساط والشرائح الاجتماعية، مما يعوق قدرة الشعوب على بلوغ أهدافها في التنمية والتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 3 - الحق في محيط نظيفٍ وبيئة طبيعية سليمة: إن واجب الاستخلاف والإعمار في الأرض، كما أراده الله لآدم وذريته من بعده، يقتضي فيما يقتضي، المحافظة على وسائل الحياة فيها، وعدم السعي فيها بالإفساد؛ قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَْ} [البقرة: 205]، وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]. إن صيحات الفزع المتوالية، التي نسمع صداها المتكرر هذه الأيام، والصادرة عن الهيئات والجميعات المهتمة بالبيئة، وتلك المعبَّر عنها بالجمعيات "الخضر", تحوّلت إلى همٍّ سياسيٍّ, وانشغال أممي، عبّرت عنه المؤتمرات والندوات الدولية، وأشهرها الندوة الأممية حول البيئة والتنمية التي انعقدت بريو دي جنيرو1. وهذه الندوات تصب كلها في مجموعة من الاهتمامات، التي تراها كفيلة بتعديل السلوك البيئي لدى الإنسان، بما يعيد التوازنات الأيكولوجية، وذلك بعمل طويل المدى, يستهدف التحسيس والتوعية بكل الوسائل الممكنة، من أجل محيطٍ نظيفٍ وبيئةٍ طبيعية سليمة لنا ولأجيالنا القادمة.   1 جوان 1992. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 4 - خاتمة : أعبِّرُ عن أملي في أن تنتهي أشغال دورتنا هذه، إلى قرارات تستجيب لحاجات شعوبنا العربية والإسلامية، في أن يكون لها ميثاقها وإعلانها، المعتبر لخصوصياتها العقدية والثقافية والحضارية، دون أن يكون ذلك انزواء عما يشهده العالم اليوم من تطورات، ودون أن يؤدي إلى انطواء على الذات، أو اصطدام بين الحضارات الإنسانية. إن رسالة الإسلام، بتوجهها إلى الناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، أفرادًا وشعوبًا وأممًا، قد استجابت ولا زالت إلى نداء الفطرة الإنسانية، وإلى صوت السلام المختلج في أعماق الإنسان أينما كان, وما مجموع الحقوق التي شرعها ديننا إلّا ضرورات لا غنى للبشرية عنها؛ لأنها تمثِّلُ التكريم الإلهي للإنسان، الذي أسجد له الله ملائكته الكرام: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]. صدق الله العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42