الكتاب: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات المؤلف: محمد بن خليفة بن علي التميمي الناشر: أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى 1419هـ/1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات محمد بن خليفة التميمي الكتاب: معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات المؤلف: محمد بن خليفة بن علي التميمي الناشر: أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى 1419هـ/1999م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات تأليف: د. محمد بن خليفة التميمي ال مقدمة إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينة على وحيه، أرسله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. أما بعد: فهذه الدراسة الأولى من سلسلة " دراسات في مباحث توحيد الأسماء والصفات " وهي بعنوان: " معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات ". وسيتبعها -بإذن الله- الدراسات التالية: الدراسة الثانية: "معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى". الدراسة الثالثة: "معتقد أهل السنة والجماعة في صفات الله العلى". الدراسة الرابعة: "قواعد أهل السنة والجماعة في نصوص الأسماء والصفات". الدراسة الخامسة: "مقالة التعطيل وموقف أهل السنة والجماعة منها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الدراسة السادسة: "مقالة التشبيه وموقف أهل السنة والجماعة منها ". ومقصودي من إصدار هذه السلسلة خدمة الجوانب التالية: ا- بيان معتقد أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته بشكل يجمع بين الشمولية والتعمق، وذلك من خلال توضيح المسائل الكلية العامة أولاً، ثم بحث القضايا التفصيلية والمباحث الجزئية للمسائل الكبرى المتعلقة بهذا الباب، فقد خصصت الدراسة الأولى لعرض المسائل العامة التي تبرز وتوضح معتقد أهل السنة والجماعة بشكل عام، ثم خصصت لكل مسألة بعد ذلك دراسة مستقلة تستوفي المواضيع والقضايا التي تتصل بها. 2- جمع شتات المسائل المتعلقة بهذا الباب، وهي مسائل متناثرة ومتفرقة في ثنايا كتب أهل السنة، وقد بذلت جهدي وطاقتي في جمعها وترتيبها وتبويبها وإخراجها في نسق تنتظم معه تلك المسائل، ليسهل بعد ذلك معرفتها والاطلاع. عليها. 3- بيان فساد مقالات أهل الزيغ والضلال الذين خرجوا عن الحق في هذا الباب، وذلك ليعلم وجه بطلان معتقداتهم ومدى انحرافهم وضلالهم، حتى يحذر المسلم من الوقوع في ذلك. هذا وقد ضمنت الدراسة الأولى الفصول التالية: الفصل الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات وعلاقته بباقي أنواع التوحيد. وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات. المبحث الثاني: العلاقة بين أنواع التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الفصل الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالسلف الصالح وبأهل السنة والجماعة. المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته. المبحث الثالث: الأسس التي قام عليها معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته. وختمت ذلك بخاتمة وذيلتها بفهارس. وإني لا أدعي أني وصلت بهذه الدراسة إلى درجة الكمال، ولكن حسبي أني اجتهدت، فإن وفقت فذلك بفضل من الله وحده، وإن حصل تقصير أو خطأ فهذا من طبيعة جهد البشر، فأرجو ممن وقف على شيء في هذه الدراسة أن يبادرني النصيحة، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل مني هذا الجهد وأن يجعله عملاً صالحًا ولوجهه خالصًا، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. محمد بن خليفة التميمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ال تمهيد : أهمية توحيد الأسماء والصفات الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الموصوف بصفات الجلال، المنعوت بنعوت الكمال. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه وحجته على عباده، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرًا. وبعد: فإن من المفيد والمهم لطالب الحق قبل أن يشرع في دراسة تفاصيل جوانب توحيد الأسماء والصفات أن يكون لديه معرفة بأهمية هذا التوحيد وما له من قيمة ومنزلة ودور في جانب الاعتقاد على وجه الخصوص، وفي سائر جوانب الدين على وجه العموم، فإيجاد هذا التصور المفيد في فكر المسلم عما لهذا التوحيد من مكانة عالية ودرجة رفيعة سيعود-بإذن الله تعالى- عليه بالنفع في إيمانه بالله عز وجل، فيولي هذا الجانب القدر الواجب له من الأهمية، كما يزيده ذلك رغبة في التفقه في مسائله ومباحثه وتفريعاته، والتي لا يستغني عنها طالب العلم الراغب في التزود من العلم النافع المفيد. وإن مما يؤسف له أن البعض ينظر إلى هذا التوحيد نظرة المقل من أهميته وشأنه، فيظن أن مباحث هذا الباب لا تتجاوز ذكر الأقوال المختلفة والمتباينة في القدر الذي يثبت أو لا يثبت من أسماء الله وصفاته، وأن الأمر لا يعدو ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ولا يخرج عنه، ومثل هذه النظرة وهذا القول لا يصدر إلا عن أحد شخصين، إما جاهل لا يدري ما في هذا الباب من مسائل مفيدة، وعلى درجة من الأهمية لا غنى للمسلم عنها وعن معرفتها. وإما عن شخص منحرف في عقيدته يظن أن حال هذا الباب لا يخرج عن الحال الذي عليه عند أهل الباطل الذين لم يستضيئوا في هذا الباب ولا في غيره بنور الكتاب والسنة، وبالتالي لم يتجاوز حديثهم في هذا الباب حدود الطعن في أسماء الله وصفاته والتشكيك فيها أو في أكثرها، فصدوا بذلك عن معرفتها فضلاً عن بيان مالها من دور ومكانة في عقيدة المسلم وإيمانه بربه تبارك وتعالى. فإرشاداً لطالب الحق، وتعليمًا للجاهل الغافل، ودعوة للمخالف المنحرف، ومذاكرة للعالم أسطر هذه الكلمات التي تشير إلى بعض ما في هذا التوحيد من فوائد ومزايا، عسى الله أن ينفع بها من يطلع عليها ويستذكرها. فأقول وبالته التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد ملخصا ما أود بيانه في النقاط التالية: أولاً: هذا التوحيد شطر باب الإيمان، بالله تعالى: لا يخفى على المسلم أهمية الإيمان بالله، فهو أول أركان الإيمان، بل هو أعظمها، فما بقية الأركان إلا تبع له وفرع عنه، وهو أهم ما خلق لها الخلق وأرسلت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وأسست عليه الملة، فالإيمان بالله هو أساس كل خير، ومصدر كل هداية، وسبب كل فلاح، ذلك لأن الإنسان لما كان مخلوقًا مربوبًا عاد في علمه وعمله إلى خالقه وباريه فبه يهتدي، وله يعمل، وإليه يصير، فلا غنى له عنه، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وفساده، والإنسان له بالله عن كل شيء عوض، وليس لكل شيء عن الله عوض، فليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربه وعبادته، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خلق من أجلها، فما سوى ذلك إما فضل نافع، أو فضول غير نافعة، أو فضول ضارة، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته، فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يعلم من تتبع دعوات الرسل في القرآن. وملاك السعادة والنجاة والفوز يكون بتحقيق التوحيدين اللذين عليهما يقوم الإيمان بالله تعالى، وبتحقيقهما بعث الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإليه دعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ممن أولهم إلى آخرهم. وأحدهما: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الكمال لله تعالى، وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل، وتنزيهه عن صفات النقص. والتوحيد الثاني: عبادته وحده لا شريك له، وتجريد محبته والإخلاص له وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه، والرضا به ربا وإلها ووليا، وأن لا يجعل له عدلاً في شيء من الأشياء. وقد جمع سبحانه وتعالى هذين النوعين في سورتي الإخلاص وهما سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1 المتضمنة للتوحيد العملي الإرادي. وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 المتضمنة للتوحيد العلمي الخبري. فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها بيان ما يجب لله تعالى من صفات   1 الآية 1 من سورة الكافرون. 2 الآية 1 من سورة الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الكمال وبيان ما يجب تنزيهه عنه من النقائص والأمثال. وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فيها إيجاب عبادته وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كل ما سواه. ولا يتم أحد التوحيدين إلا بالآخر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في سنة الفجر والمغرب والوتر اللتين هما فاتحة العمل وخاتمته، ليكون مبدأ النهار توحيدًا وخاتمته توحيدًا1. فالتوحيد المطلوب من العبد شطره هو توحيد الأسماء والصفات. ثانيا: توحيد الأسماء والصفات أشرف العلوم وأهمها على الإطلاق: إن شرف العلم تابع لشرف معلومه، لوثوق النفس بأدلة وجوده وبراهينه ولشدة الحاجة إلى معرفته وعظم النفع بها. ولا ريب أن أجل معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السموات والأرضين، الملك الحق المبين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص وعن كل تشبيه وتمثيل في كماله. فلا ريب أن العلم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأفضلها، ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات2. فإن قيل: فالعلم إنما هو وسيلة إلى العمل ومراد له، والعمل هو الغاية، ومعلوم أن الغاية أشرف من الوسيلة، فكيف تفضل الوسائل على غاياتها؟ قيل: كل من العلم والعمل ينقسم إلى قسمين، منه ما يكون وسيلة، ومنه ما يكون غاية، فليس العلم كله وسيلة مرادة لغيرها، فإن العلم بالله وأسمائه   1 اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة الجهمية ص35-36. 2 مفتاح دار السعادة 1/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وصفاته هو أشرف العلوم على الإطلاق وهو مطلوب لنفسه مراد لذاته، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 1 فقد أخبر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ونزل الأمر بينهن ليعلم عباده أنه بكل شي عليم، وعلى كل شي قدير فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 2 فالعلم بوحدانيته تعالى وأنه لا إله إلا هو مطلوب لذاته وإن كان لا يكتفى به وحده، بل لابد معه من عبادته وحده لا شريك له، فهما أمران مطلوبان لأنفسهما. الأمر الأول: أن يعرف الرب تعالى بأسمائه، وصفاته وأفعاله وأحكامه. والأمر الثاني: أن يعبد بموجبها ومقتضاها. فكما أن عبادته مطلوبة مرادة لذاتها، فكذلك العلم به ومعرفته أيضا، فإن العلم من أفضل العبادات3. ثالثا: توحيد الأسماء والصفات هو أصل، العلوم الدينية: كما أن العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأشرفها وأعظمها فهو أصلها كلها، فكل علم هو تابع للعلم به، مفتقر في تحقق ذاته إليه، فالعلم به أصل كل علم ومنشؤه، فمن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} 4 فتأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفًا عظيمًا، وهو: أن من نسي ربه أنساه ذاته   1 الآية 12 من سورة الطلاق. 2 الآية 19 من سورة محمد. 3 مفتاح دار السعادة 1/178. 4 الآية 19 من سورة الحشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، لأنه خرج عن فطرته التي خلق عليها فنسي ربه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكو به وتسعد به في معاشها ومعادها، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 1 فغفل عن ذكر ربه فانفرط عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه، وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلاً. فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد والجهل به أصل شقاوته2. رابعًا: معرفة أسماء الله وصفاته أصل عظيم في منهج السلف: معرفة أسماء الله وصفاته هي الأساس الذي ينبني عليه عمل العبد، ومن خلالها تتحدد العلاقة التي تربط العبد بربه، وعلى ضوئها يعبد المسلم ربه ويتقرب إليه. ولذلك كان أصل علم السلف وعملهم هو: ا- العلم بالله. 2- والعمل لله. فجمعوا بذلك بين التصديق العلمي والعمل الحبي. ثم إن تصديقهم عن علم، وعملهم وحبهم عن علم، فسلموا بذلك من آفات منحرفة المتكلمة والمتصوفة.   1 الآية 28 من سورة الكهف. 2 مفتاح دار السعادة 1/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فالكلاميون: غالب نظرهم وقولهم في الثبوت والانتفاء، والوجود والعدم، والقضايا التصديقية، فغايتهم مجرد التصديق والعلم والخبر. والصوفيون: غالب طلبهم وعملهم في المحبة والبغضة، والإرادة والكراهة، والحركات العملية، فغايتهم المحبة والانقياد والعمل والإرادة. فإن كلاً من المنحرفين له مفسدتان: إحداهما: القول بلا علم إن كان متكلمًا. والعمل بلا علم إن كان متصوفًا. وهو ما وقع من البدع الكلامية والعملية المخالفة للكتاب والسنة. والمفسدة الثانية: فوَّت المتكلم العمل. وفوَّت المتصوف القول والكلام. أما السلف وأتباعهم فقد حققوا كلا الأمرين. من القول التصديقي المعتمد على معرفة أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة. والعمل الإرادي وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي وفق ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان كلامهم وعملهم باطنًا وظاهرا بعلم، وكان كل واحد من قولهم وعملهم مقرونًا بالآخر وهؤلاء هم المسلمون حقًّا1. فالسلف وأتباعهم جعلوا من توحيد الأسماء والصفات إحدى الرَّكيزتين التي قام عليها منهجهم المعتمد على نصوص الكتاب والسنة، وذلك لما لهذا التوحيد من أهمية ومنزلة، وهذا ما تشهد له كثرة النصوص الشرعية الواردة في   1 مجموع الفتاوى 2/41 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 هذا الشأن. خامسًا: العلم بأسماء الله وصفاته يفتح للعبد باب معرفة الله: إن محبة الشيء فرع عن الشعور به، وأعرف الخلق بالله أشدهم حبا له، وكل من عرف الله أحبه، ولا سبيل للحصول على هذه المعرفة إلا من باب العلم بأسماء الله وصفاته، فلا تستقر للعبد قدم في معرفة الله إلا بالتعرف على أسمائه وصفاته الواردة في القرآن والسنة، فالعلم بأسماء الله وصفاته يفتح للعبد هذا الباب العظيم، فالله عز وجل لم يجعل السبيل إلى معرفته من طريق الاطلاع على ذاته، فهذا الباب موصود إلى قيام الساعة، كما أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: "تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربة عز وجل حتى يموت" 1. وكذلك فإن من المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على وجه التفصيل، فهي عاجزة عن ذلك لكونه من المغيبات التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من طريق الوحي، والله عز وجل يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 2 فهذه الآية تبين محدودية علم الإنسان. وقد اقتضت رحمة العزيز الحكيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين، وجعل معرفته سبحانه بأسمائه وصفاته، أفعاله هي مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم، فأساس دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والأصل الأول فيها: معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله. ثم يتبع هذا الأصل أصلان عظيمان هما:   1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد 8/193. 2 الآية 85 من سورة الإسراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ا- تعريف الناس الطريق الموصلة إلى الله، وهي: "شريعته المتضمنة لأمره ونهيه". 2- تعريفهم مآلهم في الآخرة. وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول مبنيان عليه، فأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصلة إليه، وأعرفهم بحال الناس عند القدوم عليه. سادسًا: أساس العلم الصحيح هو الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته: على أساس العلم الصحيح بالله وبأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها، فهذا التوحيد هو أساس الهداية والإيمان وهو أصل الدين الذي يقوم عليه، ولذلك فإنه لا يتصور إيمان صحيح ممن لا يعرف ربه، فهذه المعرفة لازمة لانعقاد أصل الإيمان، وهي مهمة جدا للمؤمن لشدة حاجته إليها لسلامة قلبه وصلاح معتقده واستقامة عمله، فهذه المعرفة لأسماء الله وصفاته وأفعاله توجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام. وذلك يتم بتدبر كلام الله تعالى وما تعرف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه. والجدير ذكره أن معرفة الله نوعان: النوع الأول: المعرفة الإجمالية. وهي التي تلزم العبد المؤمن لينعقد بها أصل الإيمان، وهي تتحقق بالقدر الذي يميز العبد به بين ربه وبين سائر الآلهة الباطلة، ويتحقق بها الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المجمل، وتجعله في سلامة من الكفر والشرك المخرجين من الإيمان، وتخرجه من حد الجهل بربه وما يجب له. وهذه المعرفة يتحصل عليها من قراءة سورة الإخلاص، وآية الكرسي وغيرها من الآيات ومعرفة معانيها. ولكن هذه المعرفة لا توجب قوة الإيمان والرسوخ فيه. النوع الثاني: المعرفة التفصيلية. وهذه تكون بمعرفة الأدلة التفصيلية الواردة في هذا الباب وتعلمها واعتقاد اتصاف الله بها ومعرفة معانيها والعمل بمقتضياتها وأحكامها. وهذه المعرفة هي التي يحصل بها زيادة الإيمان ورسوخه، فكلما ازداد العبد علمًا بالله زاد إيمانه وخشيته ومحبته لربه وتعلقه به، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1كما تجلب للعبد النور والبصيرة التي تحصنه من الشبهات المضللة والشهوات المحرمة. "والعلم بالله يراد به في الأصل نوعان: أحدهما: العلم به نفسه، أي بما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام وما دلت عليه أسماؤه الحسنى. وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لابد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته. والنوع الثاني: يراد بالعلم بالله العلم بالأحكام الشرعية من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام. ولهذا قال بعض السلف: العلماء ثلاثة:   1 الآية 28 من سورة فاطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ا- عالم بالله ليس عالمًا بأمر الله. 2- عالم بأمر الله ليس عالمًا بالله. 3- عالم بالله وبأمر الله. فالعالم بالله: الذي يخشى الله، والعالم بأمر الله: الذي يعرف الحلال والحرام"1. سابعًا: العلم بأسماء الله وصفاته هو حياة القلوب: فلا حياة للقلوب ولا نعيم ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها ويكون أحب إليها مما سواه، والإنسان بدون الإيمان بالله لا يمكنه أن ينال معرفة ولا هداية، وبدون اهتدائه إلى ربه لا يكون إلا شقيا معذبا كما هو حال الكافرين. فالله تبارك خلق هذا الإنسان وركبه من الجسد والروح وشاء أن يكون خلق الجسد من التراب، قال تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَاب} 2 وجعل قوام الجسد وحياته من التراب، فهو يأكل ويشرب ويكتسي من الأرض وما فيها، وجعل في هذا الجسد الروح، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 3 وشاء أن يكون قوام هذه الروح وحياتها في معرفة الله وعبادته، فلا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه ودوام ذكره والسعي في مرضاته، لذلك فإن من في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه، فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التبصر فيه، وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبر مقاصده وأعظم مطالبه وأجل غاياته، فهذا هو   1 مجموع الفتاوى 3/333 بتصرف بسير. 2 الآية 5 من سورة الحج. 3 الآية 29 من سورة الحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خلق الخلق، ولأجله نزل الوحي، وأرسلت الرسل وقامت السموات والأرض، ووجدت الجنة والنار، ولأجله شرعت الشرائع، وأسست الملة، ونصبت القبلة، وهو قطب رحى الخلق والأمر الذي مدارهما عليه. وهو بحق أفضل ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه1. ثامنًا: ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته: مما يدلل ويؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تثمره معرفة أسماء الله وصفاته في قلب المؤمن من زيادة في الإيمان ورسوخ في اليقين، وما تجلبه له من النور والبصيرة التي تحصنه من الشبهات المضللة، والشهوات المحرمة. فهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فلكل اسم من أسماء الله تأثير معين في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه. ولكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، فالأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح، فمثلاً: علم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له   1 انظر: الفتوى الحموية الكبرى ص28-29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عبودية التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا. وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها. وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها1. وبهذا يتبين أن معرفة العبد لأسماء الله وصفاته على الوجه الذي أخبر الله عز وجل به في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم توجب على العبد القيام بعبودية الله على الوجه الأكمل، فكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان الحب والإخلاص والتعبد أقوى، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، إذ كل اسم من أسمائه عز وجل له تعبد مختص به، علما ومعرفة وحالاً.   1 مفتاح دار السعادة 2/90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 علمًا ومعرفة: أي إن من علم أن الله مسمى بهذا الاسم، وعرف ما يتضمنه من الصفة ثم اعتقد ذلك فهذه عبادة. و"حالاً" أي إن لكل اسم من أسماء الله مدلولاً خاصًّا وتأثيرًا معينًا في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني وانعكست هذه المعرفة على، تفكيره وسلوكه. وهذه الطريقة مشتقة من قلب القرآن، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1. والدعاء بها يتناول: دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها2. تاسعًا: ضرورة تجنب الباطل وعدم مخالفة طر يق الحق في هذا الباب: يعتبر باب الأسماء والصفات من أكثر الأبواب خطورة ومزلة من جهة كونه محل خلافات شديدة ومعقدة دارت رحاها بين علماء السلف من جهة والفلاسفة وأهل الكلام والمشبهة من جهة أخرى. فمن واجب طالب العلم أن يتعمق في فهم الحق المبني على الكتاب والسنة، قال تعالى: {َإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 3، فالرد إلى الله يكون بالرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته يكون بالرد إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} 4، فالله أعلم بنفسه، وهو الذي أخبر   1 الآية 180 من سورة الأعراف 2 مدارج السالكين 1/420 3 الآية 59 من سورة النساء 4 الآية 140 من سورة البقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بأسمائه وصفاته في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه وأصدقهم خبرًا، وقد قال الله في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. فمن الواجب على المسلم أن يدرس هذا الباب ويتعمق في فهمه وفق ما ورد في الكتاب والسنة، وأن يحذر من التيارات الفلسفية التي أضرت أصحابها وأدخلتهم في دوامة الانحراف والضياع، فحالت بين قلوبهم وبين معرفة ربهم، فأصبحت قلوبهم مظلمة جاهلة بحقائق الإيمان، فترتب على ذلك إعراضهم عن الله وعن ذكره ومحبته والثناء عليه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، فانصرفت قوى حبهم وشوقهم وأنسهم إلى سواه. ومعلوم أنه لا يستقر للعبد قدم في المعرفة، بل ولا في الإيمان، حتى يؤمن بأسماء وصفات الرب جل جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه، فالإيمان بالأسماء والصفات وتعرفها هو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان وثمرة شجرة الإحسان، فمن جحدها فقد هدم أساس الإسلام والإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان. فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه، في معرفة الأسماء والصفات، وأن تكون معرفته سالمة من داء التعطيل وداء التمثيل اللذين ابتلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمعرفة الصحيحة هي المتلقاة من الكتاب والسنة، وما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذه هي المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة أحواله.   1 الآيتان 3، 4 من سورة النجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الفصل الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات وعلاقته بباقي أنواع التوحيد المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات ... المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات حدود الأشياء وتفسيرها الذي يوضحها، تتقدم أحكامها، فإن الحكم على الأشياء فرع عن تصورها، فمن حكم على أمر من الأمور- قبل أن يحيط علمه بتفسيره، وبتصوره تصورًا يميزه عن غيره- أخطأ خطأً فاحشًا1. توحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في القرآن والسنة، والإيمان بمعانيها وأحكامها. شرح مفردات التعريف: أولاً: "إفراد الله": هذا معنى كلمة "التوحيد"، فأصل هذه الكلمة من "وحد" فيقال: وحد يوحد توحيدًا: أي جعله واحدًا. ومادة "وحد" في اللغة مدارها على انفراد الشيء. فإذا قلت: توحيد الله بأسمائه: فالمعنى إفراد الله بأسمائه. ثانيًا: بأسمائه الحسنى بأسمائه: الاسم في اللغة: هو اللفظ الموضوع لمعنًى تعيينًا أو تمييزًا. أو الاسم: ما دل على الذات وما قام بها من الصفات. ومن أسماء الله تعالى: الله- الرحمن- الرحيم- الغفور- العزيز- القدير- السميع- البصير- الباري   1 التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص 7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الحسنى": هذا وصف لأسماء الله، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم. ا- المواضع التي ورد فيها: ورد هذا الوصف لأسماء الله عز وجل في أربعة مواضع من كتاب الله عز وجل، وهذه المواضع هي: أ- قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف 180. ب- قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الإسراء 110. ج- قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} طه 8. د- قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الحشر 24. 2- تصريفها: حُسنَى على وزن "فُعلَى" تأنيث أفعل التفضيل، فحسنى تأنيث أحسن، ككبرى تأنيث أكبر، وصغرى تأنيث أصغر، ولذلك يخطيء من يقول إنها تأنيث حسن، لأن تأنيث "حسن" "حسنة"، ومن أجل ذلك لا يصح أن نقول: إن أسماء الله حسنة، والصَّواب هو أن نقول: إن أسماء الله حسنى كما وصفها الله بذلك. 3- معناها: معنى حسنى: المفضلة على الحسنة، أي البالغة في الحسن غايته. المعنى العام للآية: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : لله أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها. 5- الحكم المستفاد: يجب الإيمان بهذا الوصف الذي أخبر الله به عن أسمائه وذلك بالاعتقاد الجازم أن أسماء الله هي أحسن الأسماء وأتمها وأكملها معنى، وفي هذا الوصف أحكام أخرى مستفاد سيأتي الكلام عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بإذن الله في المسائل التفصيلية المتعقلة بأسماء الله الحسنى. ثالثاً: "وصفاته العلى": وصفاته ": الصفة هي: ما قام بالذات مما يميزها عن غيرها من أمور ذاتية أو معنوية أو فعلية. ومن صفات الله عز وجل: الذاتية: اليدان- الوجه- العينان- الأصابع. المعنوية: العلم- القدرة- الحياة- الإرادة. الفعلية: النزول- الاستواء- الخلق- الرزق. العلى": هذا الوصف جاء ذكره في نص القرآن العظيم. ا- المواضع: قال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} النحل 60. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الروم 27. وفي القرآن العظيم آيات كثيرة تدل على كمال صفات الله، سيأتي الكلام عنها بإذن الله في المسائل التفصيلية المتعلقة بصفات الله. 2- تصريفها: "الأعلى" صيغة أفعل التَّفضيل، أي أعلى من غيره1. 3- معنى الآية: قال القرطبي: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} : أي الوصف الأعلى2. وقال ابن كثير: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} : أي الكمال المطلق من كل وجه3. وقال ابن سعدي: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وهو كل صفة كمال، وكل كمال   1 الصواعق المرسلة 3/1030 2 تفسير القرطبي 10/119 3 تفسير ابن كثير 2/573 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 في الوجود فالله أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصًا بوجه1. 4- الحكم المستفاد: يجب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه وذلك بالاعتقاد الجازم بأن كل ما أخبر الله به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات هي صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو سبحانه المستحق للكمال المطلق من جميع الوجوه. قال الإمام ابن القيم: "المثل الأعلى يتضمن ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، ووجودها العلمي، والخبر عنها، وذكرها، وعبادة الرب سبحانه بها ... "2. رابعًا: " الواردة في القرآن والسنة ": أي يجب الوقوف في أسماء الله وصفاته على ما جاءت به نصوص القرآن والسنة لا نزيد على ذلك ولا ننقص منه. فلا نسمي أو نصف الله بما لم يسم أو يصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك لأنه لا طريق إلى معرفة أسماء الله وصفاته إلا من طريق واحد هو طريق الخبر- أي الكتاب والسنة-. فلو قال شخص: لله سمع بلا أذنين. وقال آخر: لله سمع بأذنين. لحكمنا بخطأ الاثنين، لأنه لم يأت ذكر الأذنين في النصوص لا نفيًا ولا إثباتًا، والحق هو أن يقال: لله سمع يليق بجلاله كما جاءت بذلك النصوص،   1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 4/104 2 الصواعق المرسلة 3/1034 بتصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقد نهانا الله أن نتكلم بغير علم، فقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 1 وبالتالي لا يجوز الإثبات أو النفي إلا بالنص. قال الإمام أحمد (ت 241) رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة "2. وقال ابن عبد البر (ت 463) رحمه الله: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه "3. خامسًا: "والإيمان بمعانيها وأحكامها": أي الإيمان بما تضمنته من المعاني وبما ترتب عليها من مقتضيات وأحكام. وهذا ما جاء الأمر به والحث عليه في القرآن والسنة. فمن القرآن: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 4، والشاهد من الآية قوله: "فادعوه بها". ووجه الاستشهاد: أن الله يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، فالدعاء بها يتناول: دعاء المسألة5: كقولك: ربي ارزقني.   1 الآية 36 من سورة الإسراء 2 الفتوى الحموية ص61، دار فجر التراث 3 جامع بيان العلم وفضله ص96 4 الآية 180 من سورة الأعراف 5 دعاء المسألة: ما كان فيه طلب جلب نفع أو دفع مضرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ودعاء الثناء1: كقولك: سبحان الله. ودعاء التعبد2: كالركوع والسجود3. ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة" متفق عليه4. الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحصاها". ووجه الاستشهاد: أن معنى أحصاها: أي حفظها ألفاظًا، وفهم معانيها ومدلولاتها، وعمل بمقتضياتها وأحكامها. فالعلم بأسماء الله وصفاته واعتقاد تسمي الله واتصافه بها هو من العبادة وإدراك القلب لمعانيها، وما تضمنته من الأحكام والمقتضيات، واستشعاره وتجاوبه لذلك بالقدر الذي يؤدي إلى سلامة تفكيره واستقامة سلوكه، هو عبادة أيضًا. فأهل السنة يؤمنون بما دلت عليه أسماء الله وصفاته من المعاني، وبما يترتب عليها من مقتضيات وأحكام، بخلاف أهل الباطل الذين أنكروا ذلك وعطلوه. فأهل السنة يؤمنون بأن كل اسم من أسماء الله يدل على معنى الذي نسميه "الصفة" فلذلك كان لزامًا على من يؤمن بأسماء الله تعالى أن يراعي الأمور التالية:   1 دعاء الثناء: ما كان فيه التمجيد والثناء على الله، وخلا من السؤال 2 دعاء التعبد: الحركات التعبدية كالصلاة فهي الدعاء 3 مدارج السالكين 1/420 4 أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: فتح الباري 13/377، ح 7392، وأخرجه مسلم في صحيحه (8/63) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أولاً: الإيمان بثبوت ذلك الاسم لله عز وجل. ثانيًا: الإيمان بما دل عليه الاسم من المعنى أي "الصفة". ثالثاً: الإيمان بما يتعلق به من الآثار والحكم والمقتضى. مثال ذلك: "السميع". اسم من أسماء الله الحسنى، فلابد من الإيمان به من: ا- إثبات اسم "السميع" باعتباره اسمًا من أسماء الله الحسنى. 2- إثبات "السمع" صفة له. 3- إثبات الحكم "أي الفعل" وهو أن الله يسمع السر والنجوى. وإثبات المقتضى والأثر: وهو وجوب خشية الله ومراقبته وخوفه والحياء منه عز وجل. قال ابن القيم رحمه الله: "كل اسم من أسمائه عز وجل له تعبد مختص به علمًا ومعرفةً وحالاً: علمًا ومعرفة: أي إن من علم أن الله مسمى بهذا الاسم وعرف ما يتضمنه من الصفة ثم اعتقد ذلك فهذه عبادة. وحالاً: أي إن لكل اسم من أسماء الله مدلولاً خاصًّا وتأثيرًا معينًا في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني، وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه"1. وكذلك الشأن في صفات الله عز وجل، فلابد من الإيمان بمعانيها وأحكامها، فهذه عقيدة أهل السنة، بخلاف عقيدة المعطلة الذين نفوا ما دلت عليه تلك الصفات من المعاني، وتلاعبوا بتلك المعاني فحرفوها وبدلوها.   1 مدارج السالكين 1/420 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فأهل السنة يرون أنه لزامًا على من أراد إثبات الصفات والإيمان بأنها صفات كمال تثبت لله حقيقة- أن يراعي الأمور التالية: أ- إثبات تلك الصفة فلا يعاملها بالنفي والإنكار. 2- أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة ولا يغير اسمها ويعيرها اسمًا آخر، كما تسمي المعطلة سمعه وبصره وكلامه "أعراضا". ويسمون وجهه ويديه وقدمه " جوارح وأبعاضا ". ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه "تحيزًا". 3- عدم تشبيهها بما للمخلوق، فإن الله سبحانه (ليس كمثله شيء) لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. 4- اليأس من إدراك كنهها وكيفياتها، فالعقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول أهل السنة: "بلا كيف ": أي بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك1. 5- تحقيق المقتضى والأثر لتلك الصفات، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها- أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها- فعلم العبد بتفرد الرب بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية " التوكل". وعلم العبد بجلاله الله وعظمته وعزه، يثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة.   1 مدارج السالكين 3/358-358 بتصرف يسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المبحث الثاني: العلاقة بين أنواع التوحيد بعد شرح تعريف توحيد الأسماء والصفات، لعل من المناسب هنا ذكر العلاقة بين هذا النوع من أنواع التوحيد وبقية أنواع التوحيد. ونمهد لذلك بذكر تقسيمات أهل العلم للتوحيد فنقول: أقسام التوحيد: تنوعت عبارات علماء أهل السنة في التعبير عن أنواع التوحيد، ولكنها مع ذلك التنوع متفقة في المضمون، ولعل السبب في ذلك هو أن تلك التقسيمات مأخوذ من استقراء النصوص ولم يُنص عليها باللفظ مباشرة، ولذلك فمن العلماء1 من قدم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، هي: ا- توحيد الربوبية: وهو إفراد الله بأفعاله كالخلق والرزق. 2- توحيد الأسماء والصفات: وقد تقدم ذكر تعريفه. 3- توحيد الألوهية: وهو إفراد الله بأفعال العباد التعبدية؟ كالصلاة والصوم والدعاء. ومن المتأخرين من زاد قسمًا رابعًا على الأقسام الثلاثة السابقة وسماه: 4- توحيد الاتباع أو توحيد الحاكمية (أي التحاكم إلى الكتاب والسنة) ، ولكن يلاحظ على من ذكر هذا القسم أن هذا القسم في الحقيقة داخل ضمن   1 انظر: طريق الهجرتين ص.3، وشرح الطحاوية ص 76، ولوامع الأنوار للسفاريني 1/128، وتيسير العزيز الحميد ص 17- 19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 توحيد الألوهية، لأن العبادة لا تقبل شرعًا إلا بشرطين هما: ا- الإخلاص. 2- الاتباع. كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1. ومن العلماء من قسم التوحيد إلى قسمين، وهذا هو الأغلب في كلام أهل العلم المتقدمين لأنهم يجمعون بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وذلك بالنظر إلى أنهما يشكلان بمجموعهما جانب العلم بالله ومعرفته عز وجل، فجمعوا بينهما لذلك، بينما توحيد الألوهية يشكل جانب العمل لله. وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام راجع إلى اعتبار متعلق التوحيد، وتقسيمه إلى قسمين راجع إلى اعتبار ما يجب على الموحد. فمن العلماء من يقول: التوحيد قسمان2: القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات: ويريد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسمي بتوحيد المعرفة، لأن معرفة الله عز وجل إنما تكون بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله. والإثبات: أي إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال. القسم الثاني: توحيد القصد والطلب: ويراد به الألوهية، وسمي بتوحيد القصد والطلب لأن العبد يتوجه بقلبه   1 الآية 110 من سورة الكهف 2 ممن ذكر ابن القيم في كتابه مدارج السالكين 3/449 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ولسانه وجوارحه بالعبادة لله وحده رغبة ورهبة، ويقصد بذلك وجه الله وابتغاء مرضاته. ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين هما1: القسم الأول: التوحيد العلمي الخبري: والمقصود به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات. وسمي بالتوحيد العلمي: لأنه يعتني بجانب معرفة الله، فالعلمي أي "العلم بالله". والخبري: لأنه يتوقف على الخبر أي: "الكتاب والسنة". القسم الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي: والمقصود به توحيد الألوهية، وسمي بالتوحيد الإرادي لأن العبد له في العبادات إرادة، فهو إما أن يقوم بتلك العبادة أو لا يقوم بها، وسمي بالطلبي، لأن العبد يطلب بتلك العبادات وجه الله ويقصده عز وجل بذلك. ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين فيقول2: القسم الأول: التوحيد القولي: والمراد به توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسمي بالقولي لأنه في مقابل توحيد الألوهية الذي يشكل الجانب العلمي من التوحيد، وأما هذا الجانب فهو مختص بالجانب القولي العلمي. القسم الثاني: التوحيد العملي: والمراد به توحيد الألوهية، وسمي بالعملي، لأنه يشمل كلاًّ من عمل   1 ممن ذكر ذلك ابن القيم في كتابه مدارج السالكين 3/450، وابن تيمية في الصفدية 2/228 2 ممن ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى 1/367 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح التي تشكل بمجموعها جانب العمل من التوحيد، فالتوحيد له جانبان: جانب تصديقي علمي، وجانب انقيادي عملي. ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى قسمين فيقول: القسم الأول: توحيد السيادة: ويعنى بذلك توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وسمي بذلك لأن تفرد الله بأفعاله وأسمائه وصفاته يوجب له القيادة المطلقة والتصرف التام في هذا الكون خلقا ورزقا وإحياء وإماتة وتصرفا وتدبيرًا، سبحانه وتعالى. فمن واجب الموحد أن يفرد الله بذلك. والقسم الثاني: توحيد العبادة: المراد به توحيد الألوهية، وتسميته بذلك واضحة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل. وهذا ما وقفت عليه من تقسيمات العلماء للتوحيد وهي واحدة من حيث مضمونها كما سبق إيضاح ذلك من خلال ربطها بالتقسيم الأول، ولذا فإن الاختلاف بينها منحصر في الألفاظ فقط. والله أعلم. وأما عن "العلاقة بين هذه الأقسام للتوحيد" فأقول: هذه الأقسام تشكل بمجموعها جانب الإيمان بالله الذي نسميه التوحيد" فلا يكمل لأحد توحيده إلا باجتماع أنواع التوحيد الثلاثة فهي متكافلة متلازمة يكمل بعضها بعضًا، ولا يمكن الاستغناء ببعضها عن الآخر، فلا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، وكذلك لا يصح ولا يقوم توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الله في ربوبيته وألوهيته لا يستقيم بدون توحيد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 في أسمائه وصفاته، فالخلل والانحراف في أي نوع منها هو خلل في التوحيد كله. (فمعرفة الله لا تكون بدون عبادته، والعبادة لا تكون بدون معرفة الله، فهما متلازمان) 1. وقد أوضح بعضا أهل العلم هذه العلاقة بقوله: (هي علاقة تلازم وتضمن وشمول) . فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية. وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية. وتوحيد الأسماء والصفات شامل للنوعين معًا. بيان ذلك: أن من أقر بتوحيد الربوبية وعلم أن الله سبحانه هو الرب وحده لا شريك له في ربوبيته لزمه2 من ذلك الإقرار أن يفرد الله بالعبادة وحده سبحانه وتعالى، لأنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان ربا خالقًا مالكًا مدبرًا، وما دام كله لله وحده وجب أن يكون هو المعبود وحده. ولهذا جرت سنة القرآن الكريم على سوق آيات الربوبية مقرونة بآيات الدعوة إلى توحيد الألوهية، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3.   1 تحذير أهل الإيمان 1/140 (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) 2 اللازم هنا قد يتخلف كما هو الحال في كفار قريش، فهم يقرون بتوحيد الربوبية كما دلت على ذلك النصوص، ولكنهم لم يحققوا اللازم من إقرارهم بتوحيد الربوبية 3 الآيتان 21، 22 من سورة البقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وأما توحيد الألوهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية، لأن من عبد الله ولم يشرك به شيئًا فهذا يدل ضمنًا على أنه قد اعتقد بأن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب غيره. وهذا أمر يشاهده الموحد من نفسه، فكونه قد أفرد الله بالعبادة ولم يصرف شيئًا منها لغير الله، ما هو إلا لإقراره بتوحيد الربوبية وأنه لا رب ولا مالك ولا متصرف إلا الله وحده. وأما توحيد الأسماء والصفات فهو شامل للنوعين معًا، وذلك لأنه يقوم على إفراد الله تعالى بكل ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لا تنبغي إلا له سبحانه وتعالى، والتي من جملتها: الرب- الخالق- الرازق- الملك، وهذا هو توحيد الربوبية. ومن جملتها: الله- الغفور- الرحيم- التواب، وهذا هو توحيد الألوهية1. فائدة: القرآن كله دعوة للتوحيد. قال ابن القيم رحمه الله: "كل سورة في القرآن هي متضمنة للتوحيد، بل نقول قولاً كليا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه. فإن القرآن: ا- إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري   1 انظر: الكواشف الجلية عن معاني الواسطية للشيخ عبد العزيز السلمان ص 421-422 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 2- وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. 3- وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته. 4- وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده. 5- وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم توحيده. فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم"1.   1 مدارج السالكين 3/449-450 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفصل الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته المبحث الأول: التعريف بالسلف الصالح وبأهل السنة والجماعة. ... المبحث الأول التعريف بالسلف الصالح وبأهل السنة والجماعة أولاً: التعريف بالسلف: أ- معنى السلف لغة: (السلف: جمع سالف على وزن حارس وحرس، وخادم وخدم، والسالف المتقدم، والسلف ... الجماعة المتقدمون) 1. قال ابن فارس: (السين، واللام، والفاء) أصل يدل على تقدم وسبق، من ذلك السلف الذين مضوا، والقوم السلاف: المتقدمون) 2. ب- المقصود بالسلف الصالح: (تعددت أقوال العلماء في تحديد ذلك من حيث المدى الزمني: ا- فمن العلماء من قصر ذلك على، الصحابة -رضوان الله عليهم- فقط. 2- ومن العلماء من قال بأنهم هم: الصحابة والتابعون. 3- ومن العلماء من قال بأنهم هم: الصحابة والتابعون وتابعو التابعين3. والقول الصحيح المشهور الذي عليه جمهور أهل السنة هو أن المقصود بالسلف الصالح هم القرون الثلاثة المفضلة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم   1 لسان العرب 9/158 2 معجم مقاييس اللغة 3/95 مادة "سلف" 3 وسطية أهل السنة بين الفرق د. محمد باكريم ص92-94، وكتاب لزوم الجماعة ص 276-277 تأليف جمال بادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بالخيرية، حيث قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، متفق عليه1، فالسلف الصالح هم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين. وكل من سلك سبيلهم وسار على نهجهم فهو سلفي نسبة إليهم. والسلفية: هي المنهج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة من بعده والذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه باق إلى أن يأتي أمر الله، لحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" 2. فيصح الانتساب إلى هذا المنهج متى التزم الإنسان بشروطه وقواعده، فكل من حافظ على سلامة العقيدة طبقًا لفهم القرون الثلاثة المفضلة فهو ذو نهج سلفي. ج- قواعد المنهج السلفي: يمكن حصر ركائز وقواعد المنهج السلفي على سبيل الاختصار في النقاط التالية: أولاً: ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها. ثانيًا: التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وذلك يتم بـ: أ- الاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه. ب- الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه3.   1 أخرجه البخاري 5/199، 11/460، ومسلم 7/184، 185 2 أخرجه مسلم في صحيحه 3/1523 3 بيان فضل السلف على الخلف لابن رجب ص 150-152، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/9-10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ثالثاً: العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقادًا وتفكيرًا وسلوكا وقولاً والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه. رابعًا: الدعوة إلى ذلك باللسان والبنان. فمن التزم هذه القواعد في الاعتقاد والعمل فهو على النهج السلفي بإذن الله. د- الأدلة على وجوب اتباع السلف الصالح ولزوم منهجهم: أولاً: من القرآن الكريم: قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. فرضي عز وجل عن السابقين الأولين رضاءً مطلقًا، ورضي عن التابعين لهم بإحسان. وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2. فتوعد الله من اتبع غير سبيلهم بعذاب جهنم، ووعد في الآية السابقة متبعهم بالرضوان. ثانيًا: الأدلة من السنة: ا- قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 3. فهذه "الخيرية" التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بها لهذه القرون الثلاثة تدل على تفضيلهم وسبقهم وجلالة قدرهم وسعة علمهم بشرع الله، وشدة تمسكهم   1 الآية 100 من سورة التوبة 2 الآية 115 من سورة النساء 3 أخرجه البخاري 5/199، 7/6، 11/460، وأخرجه مسلم 7/184، 185 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تؤكده الأحاديث التالية. 2- قوله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1 حديث صحيح مشهور. 3- قوله صلى الله عليه وسلم: " ... فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 2. فحث صلى الله عليه وسلم بأن يتبعوا سنته وسنة من بعده من الخلفاء الراشدين، عند وقوع التفرق والاختلاف. ثالثًا: من أقوال السلف الصالح وأتباعهم: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا" 3. وعنه رضي الله عنه قال: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبًا،   1 أخرجه أبو داود 4596، 4597، والترمذي 2640، 2641، والإمام أحمد 2/332، 3/120، 145، 4/120، وابن ماجه 3991-3993 2 أخرجه الإمام أحمد 4/126، 127، وأبو داود 4607، والترمذي 2676، والدارمي 1/44، وغيرهم 3 الزهد لابن المبارك ص 281 ح 815 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"1. وعنه رضي الله عنه قال: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر"2. وعنه رضي الله عنه قال: " اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم"3. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا"4. وقال مجاهد: "العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"5. وقال الأوزاعي: "العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم"، وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله6. وقال أيضًا: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم"7. وكان الحسن البصري في مجلس فذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "إنهم   1 جامع بيان العلم وفضله 2/87 2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (ح115) 3 البدع والنهي عنها لابن وضاح ص13 4جامع بيان العلم 2/29 5 جامع بيان العلم 2/29 6 جامع بيان العلم 2/29 7 الشريعة للآجري ص 58 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفا، قومًا اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فإنهم ورب الكعبة على الهدى المستقيم1. وقيل لأبي حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ قال: "مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة، فإنها بدعة2. وقال الأوزاعي: "عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريقٍ مستقيم3. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحدة لا شريك له وطاعة رسوله، يدور على ذلك، ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقًا عامًّا إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصارًا مطلقًا عامًّا إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فإن الهدي يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجمعون على خطأ، بل كل ما قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ، فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليست مسلما إلى عالم واحد   1 جامع بيان العلم 2/97 2 صون المنطق للسيوطي 322 3 المدخل إلى السنن للبيهقي رقم 233 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم. ولابد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول، قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة، فلابد أن يكون قوله- إن كان حقا- مأخوذًا عما جاء به الرسول، موجودًا فيمن قبله، وكل قول قيل في دين الإسلام، مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون، لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه، فإنه قول باطل"1. ثانيا: التعريف بأهل السنة: يستعمل العلماء تارة مسمى "أهل السنة والجماعة" بدلاً من عبارة "السلف". وهذه العبارة وردت في استعمال العلماء لمعنيين هما: أ- المعنى الأخص: وهو بعينه مدلول لفظة السلف، فأهل السنة والجماعة هم الصحابة والتابعون وتابعوهم ومن سلك سبيلهم وسار على نهجهم من أئمة الهدى ومن اقتدى بهم من سائر الأمة أجمعين. فيخرج من هذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء. فالسنة هنا في مقابل البدعة.   1 منهاج السنة 5/262-263 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 والجماعة هنا في مقابل الفرقة. فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} 1 قالت: "تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة"2. وهذا المعنى هو المقصود في الأحاديث التي وردت في لزوم الجماعة. والنهي عن التفرق. وهذا المعنى وإن كان أخص من جهة معناه لكنه هو الأكثر ورودًا واستعمالاً في كلام العلماء. 2- المعنى الأعم: والذي يدخل فيه بعض طوائف المبتدعة في حالة موافقة قولهم لقول السلف في مسألة بعينها في مقابلة طائفة بعينها. وهذا المعنى أقل استعمالاً لتقيده بشروط معينة هي: ا- كونه في مسائل اعتقادية معينة. 2- كونه في مقابل طوائف معينة. مثاله: استعمال هذا المسمى في مقابل الرافضة في مسألتي "الخلافة" و"الصحابة". فيقال هنا: المنتسبون للإسلام قسمان: ا- أهل السنة. 2- الرافضة.   1 الآية 106 من سورة آل عمران 2 تفسير ابن كثير 1/390 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فيدخل هنا مع أهل السنة بعض طوائف المبتدعة كالأشاعرة وغيرهم، وقد أدخلوا هنا لموافقة قولهم لقول السلف في مسألتي " الخلافة" و" الصحابة" لما حصل فيهما النزاع مع الرافضة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلفظ (أهل السنة) يراد به: ا- من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة. 2- وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول: (إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة) "1. وقد عبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذين القسمين بتسمية: أهل القسم الأول: بأهل "السنة العامة" وهو كل ما ليس برافضي2. وأهل القسم الثاني: بأهل " السنة الخاصة" أي أهل الحديث.   1 منهاج السنة 2/221، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود 2 قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أنهم (أي الروافض) أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني، فإنما معناه: لست رافضيا.." مجموع الفتاوى 3/356 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المبحث الثاني: معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته ... المبحث الثاني: بيان معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته هو: أنهم يؤمنون بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتًا ونفيًا، فهم بذلك: ا- يسمون الله بما سقى به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه. 2- ويثبتون لله عز وجل ويصفونه بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. 3- وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أن الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي. فأهل السنة سلكوا في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة فكل اسم أو صفة لله سبحانه وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات فيجب بذلك إثباتها. وأما النفي فهو أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص، مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضد ذلك المنفي. قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها: أنهم يصفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهذا رد على الممثلة {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 رد على المعطلة. فقولهم في الصفات مبني على أصلين: أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك. والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات"2. ومن النصوص التي توضح ذلك ما يلي: أ- قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. ففي مقام النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وفي مقام الإثبات: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ب- قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 4. ففي مقام الإثبات: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ} . وفي مقام النفي: {الَّذِي لا يَمُوتُ} .   1 الآية 11 من سورة الشورى 2 منهاج السنة 2/523 3الآية 11 من سورة الشورى 4 الآية 58 من سورة الفرقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ج- قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 1. ففي مقام الإثبات: {اللَّهُ} ، و {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . وفي مقام النفي: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، و {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} . وأما من السنة، ففي مقام الإثبات قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا عز وجل حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا" 2، متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله عز وجل الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي" 3، متفق عليه. وفي مقام النفي قوله صلى الله عليه وسلم: "أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً" 4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى ليس بأعور" 5. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" 6. أولاً: شرح قول أهل السنة: "من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل". توحيد الأسماء والصفات له ضدان هما: ا- التعطيل. 2- التشبيه والتمثيل.   1 الآية 255 من سورة البقرة 2 البخاري 3/229، ومسلم 1/521 ح168 3 البخاري 6/287، ح194، ومسلم 4/2107 ح14 4 البخاري 13/372 ح 7386 5 متفق عليه، البخار 13/90، ومسلم 18/59 6 مسلم في صحيحه 1/111 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فمن نفى صفات الرب عز وجل وعطلها، فقد كذب تعطيله توحيده. ومن شبهه بخلقه ومثله بهم، فقد كذب تشبيهه وتمثيله توحيده1. أولاً: معنى قولهم: "من غير تحريف ولا تعطيل": هذه العبارة فيها تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة أهل التعطيل: أ- معنى التحريف وبيان أنواعه: ا- معنى التحريف: التحريف لغة: التغيير والتبديل والإمالة. فهو في الأصل مأخوذ من قولهم: حرفت الشيء عن وجهه إذا أملته وغيرتة. والتحريف شرعًا: الميل بالنصوص عما هي عليه، إما بالطعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها. أو نقول بعبارة مختصرة: هو العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره2. والتحريف في باب الأسماء والصفات: هو تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله بها. 2- أنواع التحريف: التحريف نوعان: النوع الأول: تحريف اللفظ: وتعريفه: هو العدول باللفظ عن جهته إلى غيرها، وله أربع صور: ا- الزيادة في اللفظ.   1 اجتماع الجيوش الإسلامية ص 36 2 الصواعق المرسلة 1/215 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 2- النقصان في اللفظ. 3- تغيير حركة إعرابية. 4- تغيير حركة غير إعرابية. ومن أمثلة تحريف اللفظ: المثال الأول: تحريف إعراب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 من الرفع إلى النصب، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ} أي موسى كلم الله، ولم يكلمه الله، ولما حرفها بعض الجهمية هذا التحريف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 2 فبهت المحرف. مثال آخر: إن بعض المعطلة سأل بعض أئمة العربية: هل يمكن أن يقرأ العرش بالرفع في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 وقصد بهذا التحريف أن يكون الاستواء صفة للمخلوق لا للخالق4. النوع الثاني: تحريف المعنى: وتعريفه: هو صرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ5. أو نقول: تعريفه: هو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما. وهذا النوع هو الذي جال فيه أهل الكلام من المعطلة وصالوا وتوسعوا   1 الآية 164 من سورة النساء 2 الآية 143 من سورة الأعراف 3الآية 5 من سورة طه 4 الصواعق المرسلة 1/218 5 الصواعق المنزلة 1/201 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وسموه تأويلاً، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة1. ومن أمثلة تحريف المعنى: كقول المعطلة في معنى استوى: استولى في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2. وفي معنى اليد في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} 3 النعمة والقدرة. وفي معنى المجيء في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} 4 وجاء أمر ربك. وقد ذكر الله التحريف وذمه حيث ذكره، وهو مأخوذ في الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيه، وهم شيوخ المحرفين وسلفهم، فإنهم حرفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة وما غلبوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه، ولهذا وصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأمم. وقد درج على آثارهم الرافضة، فهم أشبه بهم من القذة بالقذة، وكذلك الجهمية، فإنهم سلكوا في تحريف النصوص مسالك إخوانهم في اليهود5. وأصحاب تحريف الألفاظ شر من أصحاب تحريف المعنى من وجه. وأصحاب تحريف المعنى شر من أصحاب تحريف اللفظ من وجه. فأصحاب تحريف اللفظ عدلوا باللفظ والمعنى جميعًا عما هما عليه فأفسدوا اللفظ والمعنى، بينما أصحاب تحريف المعنى أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله فكانوا خيرًا من أولئك من هذا الوجه.   1 مختصر الصواعق 2/147 2 الآية 5 من سورة طه 3 الآية 64 من سورة المائدة 4 الآية 22 من سورة الفجر 5 الصواعق المرسلة 1/215-216 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فأصحاب تحريف اللفظ لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظًا يصلح له لئلا يتنافر اللفظ والمعنى، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف، فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه، فبدأوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم على المعنى الذي قصدوا1. وأما كون أصحاب تحريف المعنى شرا من أصحاب تحريف اللفظ من وجه، فلأن تحريف المعنى هو الأكثر استعمالا عند أصحاب التحريف، ولأنه أسهل رواجا وسوقًا عند الجهلة والعوام من الناس، فيفتتن به من ليس لديه زاد من العلم الصحيح المعتمد على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة. ب- معنى التعطيل: التعطيل لغة: مأخوذ من "العطل": الذي هو الخلو والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} 2 أي أهملها أهلها وتركوا وردها3. والتعطيل في جانب الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وهو المتمثل فيمن ينكر وجود خالق لهذا الكون، وهو قول الدهرية الملاحدة. القسم الثاني: تعطيل عبادته عز وجل، أي ما يجب له عز وجل على عباده من حقيقة التوحيد وإفراده بالعبادة، وهو المتمثل في أهل الشرك الذين صرفوا شيئا من العبادة لغير الله عز وجل. القسم الثالث: تعطيل الله سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه   1 مختصر الصواعق 2/147، 148 2 الآية 45 من سورة الحج 3 شرح الواسطية ص 20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وأوصافه وأفعاله1. وهذا القسم الثالث هو الذي نقصده هنا. فالمراد بالتعطيل في باب الأسماء والصفات هو: نفي الأسماء والصفات أو بعضها وسلبها عن الله. أو نقول: هو نفي الصفات الإلهية، وإنكار قيامها بذات الله تعالى2. وقد وقع في التحريف والتعطيل طوائف، يجمعهم أهل العلم تحت مسمى"المعطلة". وينقسم المعطلة إلى قسمين رئيسيين هما: القسم الأول: الفلاسفة. وهم صنفان: الصنف الأول: أهل الفلسفة البحتة. الصنف الثاني: أهل الفلسفة الباطنية، وهي نوعان: أ- رافضية. ب- صوفية. والقسم الثاني من المعطلة هم: أهل الكلام. وهم خمسة أصناف: ا- الجهمية. 2- المعتزلة. 3- الكلابية. 4- الأشاعرة.   1 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص153 2شرح الواسطية ص20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 5- الماتريدية. وسأفصل الحديث عنهم بإذن الله في دراسة مستقلة. ثانيا: معنى قولهم: "من غير تكييف ولاتمثيل": هذه العبارة فيها تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المشبهة. "فالتكييف"هو: جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل1. مثال ذلك: قول الهشامية عن الله: "طوله كعرضه "2. أو قولهم: " طوله طول سبعة أشبار بشبر نفسه". وعلى هذا التعريف يكون هناك فرق بين التكييف والتمثيل. فالتكييف: ليس فيه تقيد بمماثل. وأما التمثيل فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين. ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل. فكل تمثيل تكييف، لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كيف تلك الصفة أي جعل لها حقيقة معينة مشاهدة. وليس كل تكييف تمثيلاً، لأن من التكييف ما ليس فيه تمثيل بصفات المخلوقين، كقولهم: طوله كعرضه. ومعنى قول أهل السنة: "من غير تكييف" أي من غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم: "من غير تكييف" أنهم ينفون الكيف مطلقًا، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف، إذ   1 القواعد المثلى ص27 2 مقالات الإسلاميين ص 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه1. فمن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل، لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قفوًا لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به. وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" قاعدة ساروا عليها في هذا الباب. "ولا تمثيل": المثيل لغة: هو الند والنظير. والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق، أنها مثل صفات المخلوقين. وهو قول الممثل: له يد كيدي وسمع كسمعي، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. والتمثيل والتشبيه هنا بمعنى واحد، وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة2. فالمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه. والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره في أكثر الوجوه. ولكن التعبير هنا بنفي "التمثيل" أولى لموافقة لفظ القرآن. في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3. وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} 4.   1 شرح العقيدة الواسطية ص 21 2 القواعد المثلى ص 27 3 الآية 11 من سورة الشورى 4 الآية 74 من سورة النحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقد وقع في التمثيل والتكييف "المشبهة" الذين بالغوا في إثبات الصفات إلى درجة تشبيه الخالق بالمخلوق. وقد وقع في التمثيل كل من: ا- الكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني. وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة، وأصولها ستة هي: ا- العابدية 20- النونية 30- الزرينية. 4- الإسحاقية 50- الواحدية 60- الهيصمية. 2- الهشامية الرافضية الإمامية. وهم أصحاب: هشام بن الحكم الرافضي. وأحيانًا تنسب إلى: هشام بن سالم الجواليقي، وكلاهما من الإمامية المشبهة، والجدير بالذكر أن الرافضة الإمامية كان ينتشر فيهم التشبيه وهذا في أوائلهم1. وأما الرافضة الإمامية في الوقت الراهن، فعلى عقيدة المعتزلة في مسائل الصفات، وكذلك "الزيدية" من الشيعة. ثالثا: "كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل" فكل واحد من فريق التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل. ا- بيان جمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل: أما تمثيل المعطلة: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات. فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته، بالمفهوم من أسماء   1 شرح الأصفهانية ص 65 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 خلقه وصفاتهم. وتعطيل المعطلة: في نفيهم لما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات اللائقة به سبحانه. وبذلك جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولاً، وعطلوا آخرًا. وامتاز أهل التعطيل عن أهل التمثيل بنفيهم المعاني الصحيحة للصفات. مثال لجمع المعطلة بين التعطيل والتمثيل: نصوص الاستواء، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1. فإن المعطل يقول: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام. فهذا المعطل لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم الذي جاء به المعطل تابع لهذا المفهوم. وكان الواجب عليه أن يثبت لله استواء يليق بجلاله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي هي من لوازم المخلوقات، ويجب نفيها في حق الله. فأهل التعطيل وقعوا في أربعة محاذير: الأول: كونهم مثلوا ما فهموه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنوا أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني: أنهم عطلوا النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله. الثالث: أنهم بنفي تلك الصفات صاروا معطلين لما يستحقه الرب من صفات الكمال.   1الآية 5 من سورة طه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الرابع: أنهم وصفوا الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الأموات والجمادات والمعدومات1. 2- بيان جمع أهل التمثيل بين التعطيل، والتمثيل 2: أما تعطيل الممثل فمن وجوه ثلاثة: أحدها: أنه عطل نفس النص الذي أثبت الصفة، حيث صرفه عن مقتضى ما يدل عليه، فإن النص دال على إثبات صفة تليق بالله لا على مشابهة الله لخلقه. الثاني: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطله عن كماله الواجب، حيث شبه الرب الكامل بالمخلوق الناقص. الثالث: أنه إذا مثل الله بخلقه فقد عطل كل نص يدل على نفي مشابهة الله لخلقه، مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 4. أما تمثيل أهل التمثيل: فإنهم يقولون: إن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا كان مستويًا على العرش فهو كاستواء الإنسان على السرير، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فامتاز هؤلاء الممثلة بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين، كما امتاز المعطلة بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي. والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل   1 الرسالة التدمرية 79- 80 2 انظر: الفتوى الحموية ص62- 63 ط: دار فجر للتراث 3 الآية 11 من سورة الشورى 4 الآية 4 من سورة الإخلاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها. (فقد هدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى فأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، وتفوا عنه مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهديا بين ضلالتين. فقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف. بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل. ولا نقول: ليس له يدان، ولا وجه، ولا سمع، ولا بصر، ولا حياة، ولا قدرة، ولا استوى على عرشه. ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوقين، ووجه كوجوههم وسمع وبصر وحياة وقدرة واستواء، كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم. بل نقول: له ذات حقيقة ليست كذوات المخلوقين. وله صفات حقيقة ليست كصفات المخلوقين. وكذلك قولنا: في وجهه تبارك وتعالى، ويديه، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستوائه. ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك، الصفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئا من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما، فهكذا سائر الصفات المقدسة، يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يكلف العباد ذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلا) 1.   1 الصواعق المرسلة 2/425- 427 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 المبحث الثالث: الأسس التي قام عليها معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته ... المبحث الثالث: الأسس التي قام عليها معتقد أهل السنة في باب الأسماء والصفات ارتكز معتقد أهل السنة في باب أسماء الله وصفاته على ثلاثة أسس رئيسية، هي1: الأساس الأول: الإيمان بما ورددت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته إثباتًا ونفيًا. الأساس الثاني: تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين. الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الله بتلك الصفات. وهذه الأسس الثلاثة هي التي تفضل وتميز عقيدة أهل السنة في هذا الباب عن عقيدة أهل التعطيل (من الفلاسفة وأهل الكلام) من جهة. وعن عقيدة أهل التمثيل (من الكرامية والهشامية وغيرهم) من جهة أخرى. فالأساس الأول: فيه تمييز لعقيدة أهل، السنة عن عقيدة المعطلة، فأهل السنة يجعلون الأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيها عن الله تعالى هو   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزونها، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه. (وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء وباب الصفات إطلاقًا، وأما في باب الأخبار فمن السلف من يمنع ذلك، ومنهم من يجيزه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقًّا يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عر وجل وجب رده) 1. ومجمل القول إن في الأمر ثلاثة أبواب: ا- باب الأسماء: وهذا يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط. 2- باب الصفات: وهذا كذلك يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط. 3- باب الأخبار: وهذا لا يشترط فيه ورود النص الشرعي، ولكن يشترط أن يكون معنى اللفظ المستعمل ليس بسيء. أما أهل التعطيل: فقد جعلوا "العقل" وحده هو أصل علمهم، فالشبه العقلية هي الأصول الكلية الأولية عندهم، وهي التي تثبت وتنفي، ثم يعرضون الكتاب والسنة على تلك الشبه العقلية، فإن وافقتها قبلت اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن عارضتها ردت تلك النصوص الشرعية وطرحت، وفي هذا يقول قائلهم: (كل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزا له وجب التصديق به.. وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول.   1 رسالة في العقل والروح 2/46- 47 لابن تيمية (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وظواهر أحاديث التشبيه- يعني بها أحاديث الصفات- أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل) 1. فهذا النقل يبين لك مدى تقديم هؤلاء لشبههم العقلية وتعصبهم لها، وكيف أنهم يجعلونها هي الأصول والسمع معروضا عليها، فما أجازته عقولهم قبلوه، وما لم تجزه عقولهم شككوا فيه وانتقصوه، ومن ثم سعوا في تأويله وتحريفه، ومن يلقي نظرةً على كتب الأشاعرة مثلاً يجد أن القوم يقسمون أبواب العقيدة إلى إلهيات- ونبوَّات- وسمعيات، وهم في باب الإلهيات والنبوات لا يقبلون نصوص الكتاب والسنة، ولذلك لن تجد في هذين البابين إلا الشبه العقلية المركبة وفق القواعد المنطقية، ويا عجبا أنأخذ ديننا من كلام الله ورسوله، أم من ملاحدة اليونان وتلاميذهم! وأما باب السمعيات- أي البعث والحشر والجنة والنار والوعد والوعيد- فهم يقبلون فيه النصوص الشرعية، وبالتالي سموا هذا الباب بالسمعيات. في مقابل باب الإلهيات والنبوات، إذ إنهم يعتمدون فيهما على العقليات، وهؤلاء شابهوا حال من قال الله تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2.   1 الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي ص 132- 133. وقال في كتابه المستصفى 2/137- 138: "كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال، إذ الأدلة العقلية يستعجل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل، فإما أن لا يكون متواترًا فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواترًا فيكون مؤولاً ولا يكون متعارضًا" 2 الآية 85 من سورة البقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وأما الأساس الثاني: وهو تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ففيه تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المعطلة من جهة، وعن عقيدة المشبهة من جهة أخرى. فأهل السنة: يعتقدون أن ما اتصف الله به من الصفات لا يماثله فيها أحد من خلقه، فالله عز وجل قد أخبرنا بذلك بنص كتابه العزيز حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة فيجبب الإيمان به والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المصدق بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يكون معظمًا لله جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه، لتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه أخذا بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 أما أهل التعطيل: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات التي لا وجود لها إلا في أفهامهم الفاسدة، فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم   1 الآية 11 من سورة لشورى 2 انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 21- 22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال، فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه صفات الخلق، فيتلطخ القلب بأقذار التشبيه لم يقدر الله حق قدره ولم يعظم الله حق عظمته حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولاً نجس القلب بأقذار التشبيه ثم دعاه ذلك إلى أن ينفي صفة الخالق جلَّ وعلا عنه بادعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهًا، وثانيًا معطلاً ضالاًّ ابتداءً وانتهاءً متهجمًا على رب العالمين ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق1. وأما عقيدة أهل التمثيل: فهي تقوم على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة، فشبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا: له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وأمَّا العارفون به، المصدقون لرسله، المقرون بكماله فهم يثبتون لله جميع صفاته، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهدًى بين ضلالتين. وأما الأساس الثالث: ففيه تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المشبهة، فأهل السنة يفوضون علم كيفية اتصاف الباري عز وجل بتلك الصفات إلى الله عز وجل، فلا علم للبشر بكيفية ذات الله-تبارك وتعالى (ولا تفسير كنه شيء من صفات ربنا تعالى كأن يقال استوى على هيئة كذا، وكل من تجرأ على شيء من ذلك فقوله من الغلو في الدين والافتراء على الله عز وجل، واعتقاد ما لم   1 انظر: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 19- 20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 يأذن به الله ولا يليق بجلاله وعظمته ولم ينطق به كتاب ولا سنة، ولو كان ذلك مطلوبًا من العباد في الشريعة لبينه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يدع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بينه ووضحه، والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما علمهم كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 1 فليؤمن العبد بما علمه الله تعالى وليقف معه، وليمسك عما جهله وليكل معناه إلى عالمه) 2. وأما المشبهة فقد تعمقوا في شأن كيفيات صفات الله وتقولوا على الله بغير علم، فقالوا: له بصر كبصري، ويد كيدي،، وقدم كقدمي، تعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا.   1 الآية 255 من سورة البقرة 2 انظر: معارج القبول 1/326- 327 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 توضيح الأسس الثلاثة ا- الأساس الأول: الإيمان بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته إثباتا ونفيا. وهذا الأساس لابد فيه من مراعاة ما يلي: أولاً: إن طلب العلم في المطالب الإلهية إنما يكون عن طريق الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة. فالذي يجب اعتقاده هو أن معرفة هذا النوع من أنواع التوحيد تتوقف على دراسة الكتاب والسنة، لأن هذا التوحيد يتطلب، أسماء وصفات معينة، وهذه لا سبيل إلى معرفتها والحصول عليها إلا من طريق الكتاب والسنة (فنحن نؤمن بالله تعالى وبما أخبر به عن نفسه سبحانه على ألسنة رسله من أسمائه الحسنى وصفاته العلى بلا تكييف ولا تمثيل، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه مما لا يليق بجلاله وعظمته، فإنه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأبين دليلاً من غيره) 1، ولذلك كان معتقد أهل السنة هو الإيمان بما سمى ووصف الله به نفسه إثباتًا ونفيًا، لأنه لا يسمي الله أعلم بالله من الله، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} 2، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 3، وقال تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4، وقال تعالى:   1 معارج القبول 1/330- 331 2 الآية 140 من سورة البقرة 3 الآية 122 من سورة النساء 4 الآية 14 من سورة فاطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 1، فالله عز وجل، هو الذي سمى ووصف نفسه بما جاء في نص كلامه الذي هو القرآن. ولا يسمي ويصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2، ولقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصلاً على وجه ثلجت به الصدور واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، وفصلت ذلك أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررته أكمل تقرير في أبلغ لفظ، ولذلك كان لزامًا على كل مسلم أن يؤمن بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان. ثانيًا: تقديم الشرع على العقل، فالأصل في الدين الاتباع والمعقول تبع. فمعتقد أهل السنة في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد والأحكام أن العقل المجرد ليس له إثبات شيء من العقائد والأحكام، وإنما المرجع في ذلك إلى القرآن والسنة. فالعقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات فوجب الوقوف في ذلك على النص، لأن العقل يقصر عن إدراك حقيقة المغيبات حتى وإن كانت تلك المغيبات أقرب شيء إليه، فهو قاصر عن أن يحيط علمًا بحقيقة روحه التي بين جنبيه لما أخفى الله أمرها عنه، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 3، فإذا كان الإنسان يجهل أمر روحه فكيف يحيط علمًا بذات الله وما يصلح وما لا يصلح لذاته من الأسماء والصفات، والله قد أخفى عن الخلق كيفية ذاته؟!.   1 الآية 59 من سورة الفرقان 2 الآيتان 3، 4 من سورة النجم 3 الآية 85 من سورة الإسراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 (ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله، وما تعبد الناس باعتقاده من ذكر عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والحوض، والميزان، والصراط، وصفة الجنة وصفة النار، وجدناها أمورًا لا ندرك حقائقها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئا من أمور الذين، وعقلناه، وفهمناه، فلله الحمد في ذلك، والشكر ومنه التوفيق، وما لم يمكنَّا إدراكه ولم تبلغه عقولنا آمنا به، وصدقناه، واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته، واكتفينا في ذلك بعلمه، ومشيئته، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء} 21. (واعلم أن فصل ما بيننا وبين المعطلة هو "مسألة العقل"، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعًا للمعقول) . وأما أهل السنة فقالوا: الأصل في الدين الإتباع، والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء) 3. فالتقرير بأن النقل مقدم على العقل لا ينبغي أن يفهم منه أن أهل السنة ينكرون العقل والتوصل به إلى المعارف والتفكير به في خلق السموات والأرض، وفي الآيات الكونية الكثيرة، فأهل السنة لا ينكرون استعمال العقل، ولكتهم توسطوا في شأن "العقل" بين طائفتين ضلتا في هذا الباب، هما: أهل الكلام: الذين يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه،   1 الآية 255 من سورة البقرة 2 الحجة في بيان المحجة 1/321 بتصرف 3 المصدر السابق 1/320 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن. فهؤلاء جعلوا عقولهم هي التي تثبت وتنفي والسمع معروضا عليها، فإن وافقها قيل اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن عارضها رُدَّ وطُرِحَ، وهذا من أعظم أسباب الضلال التي دخلت على هذه الأمة. وأهل التصوف: الذين يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذب صريح العقل. ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها. وكلا الطرفين مذموم. وأما أهل السنة: فيرون أن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاًّ بذلك. فالعقل غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين. فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس أو النار. وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها. وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية. فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 امتناعه1. فائدة: "مسكن العقل": سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية: أين مسكن العقل في الإنسان؟ فأجاب بقوله: "العقل قائمٌ بنفس الإنسان التي تعقل، وأمَّا البدن فهو متعلق بقلبه، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2. وقيل لابن عباس: بماذا نلت العلم؟ قال: "بلسانٍ سؤولٍ وقلبٍ عقولٍ"، لكن لفظ القلب قد يُرَادُ به: ا- المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" متفق عليه3. 2- وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة، واللوزة والجوزة، ونحو ذلك، ومنه، سمي القُليب قُليبًا، لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضًا، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: (إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ) . والتحقيق "أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من   1 مجموع الفتاوى 3/338- 339 بتصرف 2 الآية 46 من سورة الحج 3 أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/126 ح52، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 5/50- 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن: مبدأ الفكر والنظر في الدماغ. ومبدأ الإرادة في القلب. والعقل يراد به العلم، ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلابد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتديء ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء. وكلا القولين له وجه صحيح"1. ثالثًا: الإيمان بما دلت عليه نصوص الأسماء والصفات من المعاني والأحكام. فالسلف يؤمنون بأسماء الله وصفاته، وبما دلت عليه من المعاني والأحكام، أما كيفيتها فيفوضون علمها إلى الله. وهم برآء مما اتهمهم به المعطلة الذين زعموا أن السلف يؤمنون، بألفاظ نصوص الأسماء والصفات، ويفوضون معانيها. وهذا الزعم جهل على السلف، فإنهم كانوا أعظم الناس فهما وتدبرًا لآيات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى، فكانوا يدرون معاني ما يقرأون ويحملون من العلم، ولكنهم لم يكونوا يتكلفون الفهم للغيب المحجوب، فلم يكونوا يخوضون في كيفيات الصفات شأن أهل الكلام والبدع، فإنهم حين خاضوا في ذات الله وصفاته وقعوا في التأويل والتعطيل، وإنما ألجأهم إلى ذلك، الضيق الذي دخل عليهم بسبب   1 رسائل في العقل والروح 2/48- 49 (مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 التشبيه، فأرادوا الفرار منه فوقعوا في التعطيل،، ولم يقع تعطيل إلا بتشبيه، ولو أنهم نزهوا الله تعالى ابتداء عن مشابهة الخلق، وأثبتوا الصفة مع نفي المماثلة لسلموا ونجوا، ولوافقوا اعتقاد السلف ولبان لهم أن السلف لم يكونوا حملة أسفار لا يدرون ما فيها. ومن تدبر كلام أئمة السلف المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرًا، وأعلم الناس في هذا الباب، وأن الذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، ولذلك صار أولئك الذين خالفوا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} 1. ومن له اطلاع على أقوال الأسف المدونة في كتب العقيدة والتفسير والحديث عند الحديث عن نصوص الصفات يعلم أن السلف تكلموا في معاني الصفات وبينوها ولم يسكتوا عنها، وهذه الأقوال هي أكبر شاهد على فهم السلف لمعاني الصفات وإيمانهم بها. رابعًا: رفض التحريف والتعطيل لنصوص الأسماء والصفات. فالسلف يعتقدون أن الواجب في نصوص القرآن والسنة بما في ذلك نصوص الأسماء والصفات هو إجراؤها على ظاهرها، وذلك بأن تُفهتم وفق ما يقتضيه اللسان العربي، وأن لا يتعرض لها بتحريف أو تعطيل كما فعل المعطلة، الذين تلاعبوا بظواهر النصوص! لمجرد أنها خالفت باطلهم ومناهجهم الفاسدة2.   1 الآية 176 من سورة البقرة 2 درء تعارض العقل والنقل 2/301 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فنصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تحفظ لها حرمتها، وذلك بأن نفهمها وفق مراد الشارع، فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع. فمن الأصول الكلية عند السلف أن الألفاظ الشرعية لها حرمتها، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد الله ورسوله بها ليثبت ما أثبته الله ورسوله من المعاني، وينفى ما نفاه الله ورسوله من المعاني1. وبحمد الله وفضله نجد أن نصوص الصفات الواردة في القرآن والسنة هي من الوضوح والكثرة بمكان، بحيث يستحيل تأويلها والتلاعب بنصوصها، فلقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الصفات إثباتًا مفصَّلاً على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقيني، ورفع الشك والريب، فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، فلقد فصلت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسماء والصفات والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ. فالمطلع على نصوص القرآن والسنة الخبير بهما، لا يزيده تحريف المعطلة لتلك النصوص إلا احتقارًا لهم، ويقينًا بفساد معتقدهم وبطلانه. ولا تروج تحريفات المعطلة إلا على الجاهل بمعرفة تلك النصوص قليل البضاعة فيها، فهذا الصنف! أتي من جهة جهله لا من قلة النصوص الواردة في هذا الباب، والله أعلم.   1 مجموع الفتاوى 12/113- 114 بتصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وأما الأساس الثاني وهو: تنزيه الله جل وعلا أن يماثل شيء من صفاته شيئا من صفات المخلوقين. فتوضيحه يكون وفق ما يلي: أولاً: الأدلة الشرعية الواردة في تنزيه، الله عن مشابهة المخلوقين: ا- قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 2- وقال تعالى.: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} 2. 3- وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} 3. 4- وقال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} 4. 5- وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 5. 6- وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 6. 7- وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 7. وجه دلالة الآيات: ا- قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : دليل على أن الله منزه عن أن يكون له مثل في شيء مما يوصف به من صفات كماله8.   1 الآية 11 من سورة الشورى 2 الآية 74 من سورة النحل 3 لآية 60 من سورة النحل 4 الآية 27 من سورة الروم 5 الآية 65 من سورة مريم 6 الآية 1 من سورة الإخلاص 7 الآية 4 من سورة الإخلاص 8 مجموع الفتاوى 16/98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والآية في تفسيرها وجهان: الأول: أن يكون معناه: ليس هو كشيء، وأدخل "المثل "في الكلام توكيدًا للكلام. والثاني: أن يكون معناها: ليس مثله شيء، فتكون "الكاف" هي المدخلة في الكلام توكيدًا1 وهذا وجه قوي حسن وهو الأظهر2. وقد اتفق أهل السنة على أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله3. 2- وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} : قال ابن جرير الطبري في تفسيرها: "فلا تمثلوا لله الأمثال، ولا تشبهوا له الأشباه، فإنه لا مثل ولا شبه"4. وقال ابن كثير: "أي لا تجعلوا له أندادًا وأشباهًا وأمثالاً"5. 3- وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . 4- وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . (فالله تعالى وصف نفسه بأن له المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلَّما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان بها أكمل وأعلى من غيره.   1 تفسير الطبري 25/12- 13 2 شرح الطحاوية ص 146 3 شرح الطحاوية ص 99 4 تفسير الطبري 14/148 5 تفسير ابن كثير 2/578 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ولما كانت صفات الرب سبحانه وتعالى أكثر وأكمل، كان له المثل الأعلى وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان، لأنهما إن تكافآ من كل وجه، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ، فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير، وهذا برهان قاطع على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة) 1. 5- وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} : روي عن ابن عباس في تفسيرها قوله: هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً2. وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم3. 6- وأما قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} : فالأحد يقتضي أنه لا مثل له ولا نظير. 7- وكذا قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} فالوحدانية تقتضي الكمال، والشركة تقتضي النقص4. ثانيًا: دلالة العقل على بطلان. شبيه صفات الخالق بصفات المخلوقين: ا- القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شي لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات،   1 الصواعق المنزلة 3/1032، وشرح الطحاوية ص 144 2 تفسير الطبري 16/106 3تفسير الطبري 16/ 106، وتفسير ابن كثير 3/ 131 4 مجموع الفتاوى 16/99 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات1. فقد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تباينًا في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات، لأن صفة كل موصوف تليق به كما هو ظاهر من صفات المخلوقين المتباينة في الذوات، فقوة البعير مثلاً غير قوة الذرة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكهما في الإمكان والحدوث، فظهور التباين بينهما وبين الخالق أجلى وأقوى2. وبهذا نعلم أن الله لا مثل له، ولا تضرب له الأمثال، التي فيها مماثلة لخلقه، بل له المثل الأعلى. 2- أن يقال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهًا في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى من يكمله، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق، فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصًا3. 3- (إذا كان المخلوق منزهًا عن مماثلة المخلوق، مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق وإن حصلت موافقة في الاسم) 4. (فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات، من أصناف المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبنًا وعسلاً وخمرًا وماءً ولحمًا وفاكهةً وحريرًا وذهبًا وفضةً وحورًا وقصورًا. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء".   1 لرسالة التدمرية ص 43 2 القواعد المثلى ص 26 3 القواعد المثلى ص 26 4 الرسالة التدمرية ص 50 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق، وهذا بين واضح1. ثالثًا: الاتفاق في الاسم لا يلزم منه تماثل المسمى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الله سبحانه وتعالى سمى نفسه وصفاته بأسماء وسمى بها بعض المخلوقات. فسمى نفسه حيًّا عليمًا سميعًا بصيرًا عزيزًا جبارًا متكبرًا ملكًا رؤوفًا رحيمًا. وسمَّى بعض عباده عليمًا، وبعضهم حليمًا، وبعضهم رؤوفًا رحيمًا، وبعضهم سميعًا بصيرًا، وبعضهم ملكًا، وبعضهم عزيزًا، وبعضهم جبارًا متكبرًا. ومعلوم أنه ليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، وهكذا في سائر أسماء الله. قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 2. وقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} 3.   1 المصدر السابق ص 47 2 الآية 30 من سورة الإنسان 3 الآية 28 من سورة الذاريات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وقال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1، وقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} 2. وقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3. وقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4. وقال. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} 5. وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 6. وكذلك سائر ما ذكر، لكن الإنسان يعتبر بما عرفه على ما لم يعرفه، ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة، فإن الإنسان يعلم أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير، فإنه لولا تصوره لهذه المعاني من نفسه ونظره إليها لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع ما يمتنع عليها، ويكون مادتها مادتها ويستحيل استحالتها، فإنا نعلم   1 الآية 44 من سورة الإسراء 2 الآية 101 من سورة الصافات 3 الآية 143 من سورة البقرة 4 الآية 128 من سورة التوبة 5 الآية 58 من سورة النساء 6 الآية 2 من سورة الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أن ماء الجنة لا يفسد ولا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب ولا نازلاً من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا وأمثال ذلك. فإذا كان المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم وبينهما قدر مشترك وتشابه فعلم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة. فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا، فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير لم يلزم أن يكون مماثلاً لخلقه، إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق، وكل واحد من صغار الحيوان له حياة وقوة وعمل وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئًا من المخلوقين"1. رابعًا: توضيح المسألة من جهة اللغة ثم الشرع: يشكل على البعض كون الله سمى نفسه بصفات وسمى عباده بنظير ذلك، فيتردد عند ذلك هل يثبت تلك الصفات لله حقيقة أم لا؟. فمن أجل توضيح هذه المسألة أقول: اعلم وفقك الله أن الألفاظ منها: ا- ما هو مترادف: هو ما اختلف لفظه واتحد معناه. مثال ذلك: الليث- الأسد- أسامة- الغضنفر. هذه ألفاظ مختلفة والمسمى بها واحد، فتسمى الألفاظ المترادفة. 2- ما هو مشترك: وهو ما اتحد لفظه واختلف معناه. مثال ذلك: لفظ: " العين ":   1 رسالة في العقل والروح لابن تيمية 2/42- 43 (مطبوعة ضمن المجموعة المنيرية) بتصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فهي تطلق على العين الباصرة- والعين الجارية- والجاسوس- والحسد. فاللفظ واحد والمعاني مختلفة، وهذه تسمى الألفاظ المشتركة. 3- ما هو متباين: وهو ما اختلف لفظه ومعناه: مثال ذلك: السماء والأرض- والجنة والنار. فلكل لفظ من هذه الألفاظ معنى يختلف عن الآخر، فهذه تسمى الألفاظ المتباينة. 4- ما هو متواطيء: وهو ما اتفق لفظه ومعناه، وهو نوعان: الأول: التواطؤ المطلق: وذلك إذا كان المعنى متساويًا في الجميع. مثاله: لفظ "الرجل" يقال: زيد رجل وعمر رجل، فالمعنى متساو في الجميع. الثاني: التواطؤ المشكِّك: وذلك إذا كان المعنى متفاوتا متفاضلاً، وسمي بالمشكك لتشكك السامع هل هذا اللفظ من قبيل المتواطيء أم من المشترك؟. مثاله: لفظ " النور" فيقال: نور الشمس ونور السراج، فالمعنى في الاثنين واحد، ولكن هناك تفاوت وتفاضل، فشتان بين نور الشمس ونور السراج1. فالأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد هي من الألفاظ المتواطئة التواطؤ المشكك، فالحق فيها هو أن يقال إنه بالنسبة للأسماء والصفات التي تطلق على الله وعلى العباد كالحي، والسميع، والبصير، والعليم، والقدير، والحياة، والسمع، والبصر، والعلم ونحوها هي حقيقة في الرب وحقيقة في العبد.   1 التحفة المهدية 209 بتصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ولكن للرب تعالى منها ما يليق بجلاله. وللعبد منها ما يليق به. وذلك لأن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات: الاعتبار الأول: اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرب تبارك وتعالى أو العبد. الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الرب مختصًّا به. الاعتبار الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد كل مقيدًا به. فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتًا للرب والعبد، وللرب منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به. وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات. والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات. والعليم والقدير وسائر الأسماء. فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباتها للرب تعالى لا محذور فيه بوجه، بل يثبت له على وجه لايماثله فيه خلقه ولا يشابههم. فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق ألحد في أسمائه وجحد صفات كماله، ومن أثبته على وجه لا يماثل فيه خلقه به، كما يليق بجلاله وعظمته فقد بريء من فرث التشبيه ودم التعطيل، وهذا طريق أهل السنة. وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله كما يلزم حياة العبد من النوم والسنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك، وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به، وكذلك ما يلزم علوَّه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولاً به، مفتقرًا إليه، محاطا به، كل هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى. وما لزم الصفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنه لا يثبت للمخلوق بوجه، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق. فإذا أحطت بهذه القاعدة خبرًا وعقلتها كما ينبغي خلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: ا-آفة التعطيل 20- وآفة التشبيه. فإنك إذا وفيت هذا المقام حقه من التصور أثبت لله الأسماء الحسنى والصفات العلى حقيقة فخلصت من التعطيل، ونفيت عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم، فخلصت من التشبيه، فتدبر هذا الموضع واجعله جنتك التي ترجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصواب) 1. ومن كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع قوله: "سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره". وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم، توافق تلك الأسماء إذا قطعت من الإضافة والتخصيص.   1 بدائع الفوائد 1/164، 166 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده -عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص- اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص. فقد سمى الله نفسه حيًّا فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1. وسمى بعض عباده حيًّا فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} 2. وليس هذا الحي مثل هذا الحي. لأن قوله: "الحي" اسم لله مختص به. وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} اسم للحي المخلوق مختص به. وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركًا بين المسميين. وعند الاختصاص: يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق. ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته. يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق. وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى. وكذلك سمى الله نفسه: {عَلِيماً حَكِيماً} وسمى بعض عباده حليمًا {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} ، يعني إسماعيل، وسمى آخر عليمًا، فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} يعني إسحاق، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم.   1 الآية 255 من سورة البقرة 2 الآية 19 من سورة الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وسمى نفسه سميعًا بصيرًا {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} وسمى بعض عباده سميعًا بصيرًا فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإَنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير ... ". (وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك، فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 1، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 2، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 3، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} 4، وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 5، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 6، وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 7، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَة} 8، وقال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} 9، وليس العليم كالعلم ولا القوة كالقوة. ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش. ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى   1 الآية 255 من سورة البقرة 2 الآية 166 من سورة النساء 3 الآية 58 من سورة الذاريات 4 الآية 15 من سورة فصلت 5 الآية 85 ن سورة الإسراء 6 الآية 76 من سورة يوسف 7 الآية 83 من سورة غافر 8 الآية 54 من سورة الروم 9 الآية 52 من سورة هود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ظُهُورِه} 1، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 2. وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 3، وليس الاستواء كالاستواء. ووصف نفسه ببسط اليدين فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} 4. ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 5، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم، ونظائر هذا كثيرة. فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ماثلته لخلقه. فمن قال: ليس لله علم، ولا قوة، ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب، ولا يرضى، ولا نادى، ولا ناجى، ولا استوى- كان معطلاً جاحداً ممثلاً له بالمعدومات والجمادات. ومن قال: له علم كعلمي أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي- كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل) خامساً: فصل ما بين معتقد أهل السنة في هذا الأساس ومعتقد أهل التعطيل وأهل التمثيل: قال شارح الطحاوية: " اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء لا في   1 الآية 13 من سورة الزخرف 2 الآية 28 من سورة المؤمنون 3 الآية 44 من سورة هود 4 الآية 64 من سورة المائدة 5 الآية 29 من سورة الإسراء 6 الرسالة التدمرية ص 8- 12 بتصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. ولكن لفظ "التشبيه" قد صار في كلام الناس لفظًا مجملاً يراد به: ا- المعنى الصحيح: من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته، وهذا ما دل عليه القرآن، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهذا رد على الممثلة المشبهة. فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوقين فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق فهو نظير النصارى في كفرهم. 2- المعنى المردود: أن يراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات فلا يقال: له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات ولازم هذا القول إنه لا يقال له: حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك1. وأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقًا كليًّا، بل لا يوجد إلا معينًا مختصًّا. وهذه الأسماء إذا سُمي الله بها كان مسمَّاها معينا مختصا به. فإذا سُمي بها العبد كان مسماها مختصًّا به. فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق؟ وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق   1 شرح الطحاوية ص 99 بتصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفى المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه1. الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الله بصفاته: وتوضيح هذا الأساس يتم بما يلي: أولاً: إن الله لم يطلع الخلق على ذاته ولم يكلفهم معرفة ذاته. لم يشأ الله عز وجل أن يجعل للعباد من سبيل إلى معرفة كيفية وكنه صفاته، فقد سد سبحانه الطرق الموصلة إلى ذلك، فهو من جهة لم يطلع الخلق على ذاته، فهذا باب موصود إلى قيام الساعة كما جاء في الحديث: "تعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". ومن جهة ثانية لم يخبرنا الله عز وجل بكيفية وكنه صفاته في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وردت به النصوص إنما هو إثبات وجود لتلك الصفات لا إثبات كيفية. ومن جهة ثالثة فإن الله لم يكلف العباد معرفة كيفية صفاته، ولم يتعبدهم بذلك ولا أراده منهم، بل قصرهم على الإيمان بما أخبرهم به، فالواجب عليهم أن يؤمنوا الإيمان الصحيح بما كلفوا به، وأن لا يتجاوزوا حدود ذلك. وقد ورد النص في وجوب قطع الطمع عن إدراك حقيقة كيفية صفات الله، فإدراك ذلك مستحيل، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ   1 شرح الطحاوية ص 104 بتصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بِهِ عِلْماً} 1 قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "إدراك حقيقة الكيفية مستحيل، وهذا ما نص عليه في هذه الآية من سورة طه، فقوله: {يُحِيطُونَ بِهِ} فعل مضارع منفي، والفعل الصناعي الذي يسمى (بالفعل المضارع، وفعل الأمر، والفعل الماضي) ينحل عند النحويين عن مصدر وزمن، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعًا، فيحيطون في مفهومها (الإحاطة) فيتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل فيكون معه كالنكرة المبنية على الفتح، فيصير المعنى: لا إحاطة للعلم البشري برب السموات والأرض، فينفى جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها، فالإحاطة المسندة منفية (للخلق) عن رب العالمين"2. ثانيًا: قصور العقل عن معرفة كيفية صفات الله. إن على العقل أن ييأس من تعرف كنه الصفات وكيفياتها لعجزه عن معرفة ذلك، لأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله، فوجب بطلان تكييفها. وعلم الإنسان محدود كما أخبر الله بذلك، حيث قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 3، وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 4.   1 الآية 110 من سورة طه 2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 24 3 الآية 85 من سورة الإسراء 4 الآية 255 من سورة البقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وإذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه بل هي هويته، لا يعرف الإنسان كيفيتها ولا يحيط علمًا بحقيقتها، فالخالق جل جلاله أولى أن لا يعلم العبد كيفيته ولا يحيط علمًا بحقيقته1. وقد أدب الله عباده المؤمنين ووجههم بأن لا يخوضوا في أمور لا علم لهم بها، فقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 2. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل، لأنه تعالى أخبرنا عنها، ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا، في أمر الكيفية قفوًا لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به، ومخالفة لما نهانا الله وحذرنا منه، وحرمه علينا. فيجب الكف عن التكييف تقديرًا بالجنان أو تقريرًا باللسان، أو تحريرًا بالبنان، لأن أية كيفية تقدرها الأذهان فالله أعظم وأجل من ذلك، ثم هي في الوقت ذاته ستكون كذبًا، لأنه لا علم لقائلها بذلك4. ولهذا نقل أصحاب المقالات عن بعض المشبهة -الذين خاضوا في كيفية صفات الله- أنه قال في   1 رسالة في الحقل والروح لابن تيمية 2/44 "مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية" 2 الآية 36 من سورة الإسراء 3 الآية 33 من سورة الأعراف 4 القواعد المثلى ص 27- 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ربه في عام واحد خمسة أقاويل1، وصدق الله إذ قال في كتابه العزيز: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 2. فعلى المسلم أن يحذر من التكييف أو محاولته، فإن من فعل ذلك فقد وقع في مفاوز لا يستطيع الخلاص منها، فالخوض في ذلك هو مما يلقيه الشيطان في القلوب، وهو نزغة من نزغاته، فلذلك يجب على المؤمن أن يلجأ إلى ربه ويستعيذ به من نزغات الشيطان، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3. ثالثاً: معنى قول السلف: "بلا كيف". إن معنى قول السلف "بلا كيف" أي بلا كيف يعقله البشر، فليس المراد من قولهم "بلا كيف" هو نفي الكيف مطلقًا، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد هو نفي العلم بالكيف، إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه4، فهذا مما استأثر الله بعلمه فلا سبيل إلى الوصول إليه، فكما أن ذات الله لا يمكن للبشر معرفة كيفيتها، فكذلك صفاته سبحانه لا نعلم كيفيتها. ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله فقيل له: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 كيف استوى؟ قال رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم قال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء، وأمر بإخراجه من مجلسه.   1 مقالات الإسلاميين ص 33 2 الآية 82 من سورة النساء 3 الآية 200 من سورة الأعراف 4 شرح العقيدة الواسطية للهراس 5 الآية 5 من سورة طه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقد روى عن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن قوله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول" أي لا تعقله العقول ولا تحيط به. وهذا يقال في سائر الصفات، وقد مشى أهل العلم على هذا الميزان واعتبروا ذلك قاعدة من قواعد الصفات. فقول الإمام مالك (الاستواء معلوم) : أي معلوم المعنى في لغة العرب، فاستوى هنا عديت بعلى فهي هنا بمعنى علا وارتفع، وهكذا الأمر في سائر نصوص الصفات، فإن معانيها معروفة في لغة العرب، وليست مجهولة. (والكيف مجهول) : أي مع إثباتهم لمعنى الاستواء واعتقادهم بأن الله مستوٍ على عرشه ومرتفع عليه، إلا أنهم يكلون علم كيفية ذلك الاستواء إلى الله عز وجل، لأنه مما استأثر الله بعلمه. (والإيمان به واجب) : أي الإيمان باستواء الله على عرشه حقيقة واجب لوروده في النصوص الشرعية. (والسؤال عنه بدعة) : أي السؤال عن كيفية الاستواء، لأن السائل قال: كيف استوى؟ رابعًا: عدم معرفة الكيفية لا يقدح في الإيمان بالصفات ومعرفة معانيها. إن عدم العلم بكيفية صفات الله لا يقدح في الإيمان بتلك الصفات ومعرفة معانيها، لأن الكيفية وراء ذلك، فالسلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ويفهمون معاني تلك الصفات، ويفسرونها، فإذا أثبتوا لله السمع والبصر أثبتوهما حقيقية وفهموا معناهما، وهكذا سائر الصفات يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 سبحانه لم يكلف العباد ذلك ولا أراده منهم ولم يجعل لهم إليه سبيلاً. وكثير من المخلوقات لم يجعل الله للعباد سبيلاً إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فهذه أرواح الخلائق التي هي أدنى إليهم من كل دان قد حجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، وقد أخبرنا الله عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يعرفوا كيفيته وكنهه، فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمر وأنهارًا من عسل، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته كما قال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء". فكذا الأسماء والصفات لا يمنع انتفاء نظيرها في الدنيا من فهم معانيها وحقائقها والإيمان بذلك واعتقاد اتصاف الله بها1. فإيماننا صحيح بحق ما كلفنا به، وإن لم نعرف حقيقة ماهيته وكيفيته، والله أعلم. وهذه الأسس الثلاثة يجب الأخذ بها جميعًا، ولا يجوز الإخلال بشيء منها، فهذا ما كان عليه معتقد السلف من هذه الأمة ومن سار على نهجهم. وهم بهذا توسطوا في هذا الباب بين طائفتين ضلتا في هذا الباب هما: ا- المعطلة 20- المشبهة. فمعتقد السلف هو الإثبات بلا تشبيه، والتنزيه بلا تعطيل، فهم لا ينفون عن الله ما سمى أو وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسمائه وآياته كما فعل المعطلة. كما أنهم لا يشبهون صفات الله بصفات خلقه كما فعل المشبهة.   1 مدارج السالكين 3/358 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الخاتمة دين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين. فدين الإسلام وسط بين الأطراف المتجاذبة، فالمسلمون وسط بين أهل الملل. فهم وسط في التوحيد بين اليهود والنصارى: فاليهود تصف الرب تعالى بصفات النقص التي يختص بها المخلوق ويشبهون الخالق بالمخلوق، كما قالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق السموات والأرض تعب، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ولعنوا بما قالوا. وهو سبحانه الجواد الذي لا يبخل، والغني الذي لا يحتاج إلى غيره، والقادر الذي لا يمسه لغوب. والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها ويشبهون المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة. وقالوا: المسيح ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح بن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عمَّا يشركون. فالمسلمون وحدوا الله ووصفوه بصفات الكمال، ونزهوه عن جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 صفات النقص، ونزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات، فهو موصوف بصفات الكمال لا بصفات النقص، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وكذلك هم وسط في النبوَّات. فاليهود تقتل بعض الأنبياء، وتستكبر عن اتِّباعهم، وتكذبهم وتتهمهم بالكبائر. والنصارى يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيًّا ورسولاً، كما يقولون في الحواريين: إنهم رسل، بل يطيعون أحبارهم ورهبانهم كما تطاع الأنبياء. فالنصارى تصدق بالباطل واليهود تكذب بالحق. فاليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون. وأما الشرائع: فاليهود منعوا الخالق أن يبعث رسولاً بغير شريعة الرسول الأول، وقالوا: لا يجوز أن ينسخ ما شرعه. والنصارى: جوزوا لأحبارهم أن يغيروا من الشرائع ما أرسل الله به رسوله. فاليهود عجَّزوا الخالق، ومنعوه ما تقتضيه قدرته في النبوَّات والشرائع. والنصارى جوَّزوا للمخلوق أن يغير ما شرعه الخالق، فضاهوا المخلوق بالخالق. وكذلك في العبادات: فاليهود معرضون عن العبادات حتى في يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته، إنما يشتغلون فيه بالشهوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والنصارى يعبدونه ببدع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان. فاليهود مستكبرون عن عبادته، والنصارى مشركون به. والمسلمون عبدوا الله وحده بما شرع، ونم يعبدوه بالبدع. وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع النبيين، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، وهو الحنيفية دين إبراهيم، فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر. وكذلك في أمر الحلال والحرام: في الطعام واللباس وما يدخل في ذلك من النجاسات. فاليهود حرمت عليهم طيبات ما أحل لهم، فهم يحرِّمون من الطيبات ما هو منفعة للعباد، ويجتنبون الأمور الطاهرات مع النجاسات، فالمرأة الحائض لا يأكلون معها ولا يجالسونها فهم في آصار وأغلال عذبوا بها. والنصارى لا تحرِّم ما حرَّمه الله ورسوله، ويستحلُّون الخبائث المحرمة كالميتة والدم ولحم الخنزير، حتى إنهم يتعبدون بالنجاسات كالبول والغائط ولا يغتسلون من جنابة، ولا يتطهرون للصلاة، وكلَّما كان الرَّاهب عندهم أبعد عن الطهارة، وأكثر ملابسة للنجاسة، كان معظمًا عندهم1. كذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع الأمور، فإن أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل. وقد توسط أهل السنة في كثير من مسائل الاعتقاد، منها ما يلي:   ا- في أسماء الله وصفاته: فإن مذهب السلف هو إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، فتوسطوا بذلك بين المعطلة الذين نفوها 1 منهاج السنة 5/168، 172 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فأبطلوا ما أثبته الله ورسوله. والمشبهة الذين خرجوا بها إلى ضرب من التشبيه والتكييف. 2- في أفعال الله "القدر": فإن مذهب السلف هو أنهم أثبتوا لله فعلاً ومشيئة وأثبتوا للعبد فعلاً ومشيئة داخلة تحت مشيئة الله وقدرته، فتوسطوا بذلك بين الجبرية الذين أنكروا قدرة العبد ومشيئته والقدرية الذين أنكروا قدرة الله في أفعال العباد. 3- في الإيمان: فإن مذهب السلف هو أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل يزيد وينقص، فتوسطوا بذلك بين المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، والخوارج والمعتزلة الذين أنكروا زيادة الإيمان ونقصانه. 4- في وعيد الله "أي مرتكب الكبيرة": فإن مذهب السلف هو أن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه، فاسق بمعصيته، وهو مستحق للوعيد ولكنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه على قدر ذنبه ثم يخرجه من النار، وإن شاء غفر له وأدخله الجنة. فهم بذلك توسطوا بين المفرطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وبين الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) ، فالخوارج يقولون: هو كافر في الدنيا، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين منزلتين، ويتفقون على أنه في الآخرة خالد مخلد في النار. 5- في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن مذهب السلف هو الاعتراف بفضل الصحابة جميعًا رضي الله عنهم وأرضاهم، وأنهم أكمل هذه الأمة إيمانًا وإسلامًا وعلمًا وحكمة، وأنهم عدول بتعديل الله لهم، ولكنهم لم يغلوا فيهم ولم يعتقدوا عصمتهم، بل قاموا بحقوقهم وأحبوهم لعظيم سابقتهم وحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بلائهم في نصرة الإسلام وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم بذلك توسطوا بين الرافضة والخوارج. فالرافضة -قبحهم الله- يسبون الصحابة ويلعنوهم وربَّما كفروهم أو كفروا بعضهم، والغالية منهم مع سبهم لكثير من الصحابة والخلفاء يغلون في علي رضي الله عنه وأولاده ويعتقدون فيهم الإلهية. والخوارج قابلوا هؤلاء الروافض فكفروا عليًّا ومعاوية ومن معهما من الصحابة وقاتلوهم واستحلُّوا دماءهم وأموالهم. والمقصود أن أهل الستة هم أعرف الناس بالحق، ولذلك فإن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينفردون عن طائفة أهل السنة إلا بقول فاسد، ولا ينفردون بقول صحيح، وكل من كان عن السنة أبعد، كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر. فالسعيد من لزم السنة، والله الموفق وهو الهادي إلى سبيل الرشاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 مصادر ومراجع ... ثبت المراجع ا- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن قيم الجوزية، الناشر مكتبة ابن تيمية بالقاهرة. 2- الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت. 3- بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت. 4- البدع والنهي عنها، محمد بن وضاح القرطبي، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت. 5- بيان فضل علم السلف على الخلف، لابن رجب الحنبلي، بتحقيق محمد ابن ناصر العجمي، الناشر الدار السلفية. 6- تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن، إسماعيل بن إبراهيم الخطيب (ضمن الرسائل المنيرية) الناشر المكتبة المنيرية. 7- التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية، فالح بن مهدي آل مهدي، ط: الجامعة الإسلامية. 8- تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) ، محمد بن جرير الطبري، الناشر مكتبة الحلبي. ط الثالثة. 9- تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) ، الناشر دار المعرفة. 10- تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ، الناشر دار إحياء التراث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 11- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ط الجامعة الإسلامية. 12- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، الناشر مكتبة دار الأقصى. 13- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، الناشر دار الكتب العلمية. 14- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن قيم الجوزية، الناشر: دار الكتب العلمية. 15- الحجة في بيان المحجة، محمد بن إسماعيل الأصبهاني، بتحقيق د. محمد ابن ربيع مدخلي، الناشر دار الراية. 16- درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية، بتحقيق محمد رشاد سالم، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 17- الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية، بتحقيق محمد السعوي، ط: شركة العبيكان. 18- رسالة في العقل والروح لشيخ الإسلام ابن تيمية (ضمن الرسائل المنيرية) ط: المطبعة المنيرية. 19- سنن أبي داود، الناشر دار الحديث. 20- سنن الترمذي، الناشر دار إحياء التراث. 21- سنن الدارمي، الناشر دار الكتب العلمية. 22- سنن ابن ماجه، بتحقيق محمد مصطفى الأعظمي، ط: شركة الطباعة العربية بالرياض. 23- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، بتحقيق د. أحمد ابن سعد الغامدي، الناشر دار طيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 24- شرح العقيدة الطحاوية، الناشر المكتب الإسلامي. 25- شرح العقيدة الواسطية، لمحمد خليل هراس، ط: مؤسسة مكة للطباعة. 26- شرح العقيدة الواسطية، د. صالح الفوزان، الناشر مكتبة المعارف بالرياض. 27- الشريعة، محمد بن الحسين الآجري، الناشر حديث أكاديمي، بباكستان. 28- صحيح البخاري مع فتح الباري لابن حجر، الناشر دار الفكر. 29- صحيح مسلم، ط: دار المعرفة. 30- الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية، بتحقيق د. علي محمد الدخيل الله، الناشر دار العاصمة. 31- الصواعق المنزلة، لابن قيم الجوزية، بتحقيق د. علي ناصر فقيهي، د. أحمد بن عطية الغامدي، ط: الجامعة الإسلامية. 32- صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت. 33- الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط: المطبعة السلفية، ط: دار فجر للتراث. 34- القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين، الناشر مكتبة الكوثر. 35- الكواشف الجلية عن معاني الواسطية، الشيخ عبد العزيز محمد السلمان، ط: مطابع المجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 36- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد. 37- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، الناشر دار الفكر. 38- مدارج السالكين لابن قيم الجوزية، الناشر دار الفكر. 39- المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، بتحقيق د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، الناشر دار الخلفاء. 40- المستصفى لأبي حامد الغزالي، الناشر دار المعرفة. 41- مسند الإمام أحمد بن حنبل، الناشر دار صادر. 42- معارج القبول، حافظ بن حمد حكمي، الناشر المطبعة السلفية. 43- معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، بتحقيق عبد السلام هارون، الناشر مكتبة مصطفى الحلبي. 44- مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية، الناشر دار الكتب العلمية. 45- مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، الناشر دار إحياء التراث العربي. 46- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود. 47- منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ط: الجامعة الإسلامية. 48- وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق، جمال أحمد بادي، الناشر دار الوطن للنشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 49- وسطية أهل السنة بين الفرق، د. محمد باكريم، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه بقسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (مطبوعة على الآلة الكاتبة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125